رسالة التوابع والزوابع المؤلف ابن شهيد
الأندلسي
المدخل
الفصل الأول
لله أبا بكر ظنٌّ رميته فأصميتَ، وحَدسٌ أملته فما أشويت أبدَيتَ بهما وجه الجليّة، وكشفت إن غُرَّةِ الحقيقة، حين لمحت صاحبك الذي تكسّبته ورأيته قد أخذ بأطراف السّماء، فألف بين قمريها، ونظم فرقديها، فكلما رأى ثغراً سدَّه بسُهاها، أو لمَح خرقاً رمَّه بزُباناها، إلى غير ذلك. فقلت: كيف أوني الحُكم صبياً، وهز بجدعِ نخلة الكلام فاساقط عليه رُطباً؛ أما إن به شيطاناً يهديه، وشيصباناَ يأتيه وأقسم أنَّ له تابعة تُنجدُه، وزابعة تؤيدّه، ليس هذا في قدرة الإنس، ولا هذا النفس لهذه النفس. فأما وقد قُلتها، أبا بكرٍ، فأصِخ أسمعك العجب العُجاب: كنت أيّام كُتاب الهجاء، أحِنُّ إلى الأدباء، وأصبُو إلى تأليف الكلام؛ فاتبعتُ الدَّواوين، وجلستُ إلى الأساتيذ، فنبض لي عِرقُ الفهم، ودرَّ لي شريانٌ العلم، بموادَّ روحانية، وقليلُ الالتماح من النظر يزيدني، ويَسييرُ المطالعةِ من الكتب يُفيدُني، إذ صادف شنٌّ العلم طبقة. ولم أكُن كالثلجِ تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار يحملُ أسفاراً. فطعنت ثُغرة البيان دراكاً، وأعلقتُ رجل طيره أشراكاً، فانثالث لي العجائب، وانهالت عليَّ الرغائب. وكان لي أوائِل صبوتي هوى اشتدَّ به كلفي، ثم لحقني بعد مَلَلٌ في أثناء ذلك المَيل. فاتفق أن مات من كنتُ أهواه مدَّة ذلك المَلَل، فجَزِعتُ وأخذتُ في رثائه يوماً في الحائرِ، وقد أُبهمت علي أبوابُه، وانفردتُ فقلت:
تولى الحِمامُ بظبيِ الخُدُورِ،
وفازَ الرَّدى بالغزالِ الغريرِ
إلى أن انتهيتُ إلى الاعتذارِ من المَلَل الذي كان، فقلت:
وكنتُ مَلِتُكَ لا عن قِلىً،
ولا عن فسادٍ جرى في ضميري
فأُرتجَ عليَّ القولُ وأُفحمتُ،فإذا أنا بفارسٍ ببابِ المجلِس على فرسٍ أدهم كما بَقَل وجهُه، قد اتكأ على رُمحه، وصاح بي: أعجزاً يا فتى الإنس؟ قلتُ: لا وأبيك، للكلامِ أحيان، وهذا شأنُ الإنسان! قال لي: قُل بعده:
كمِثلِ مَلالِ الفتى للنعيم،
إذا دامَ فيه، وحالِ السُّرورِ
فأثبتُّ إجازته، وقلت له: بأبي أنت! من أنت؟ قال: أنا زُهيرُ ابن نُمير من أشجعِ الجنِ. فقلتُ: وما الذي حداكَ إلى التصوُّرِ لي؟ فقال: هوى فيك، ورغبةٌ في اصطفائك. قلت: أهلاً بك أيها الوجهُ الوضاح، صادفن قلباً إليك مقلوباً، وهوى نحوك مجنوباً. وتحادثنا حيناً ثم قال: متى شِئتَ استِحضاري فأنشد هذه الأبيات:
والي زُهيرَ الحُبَّ، يا عز، إنه
إذا ذكرته الذَّاكراتُ أتاها
إذا جرتِ الأفواهُ يوماً يذكرها
يُخيَّلُ لي أني أقبَّلُ فاها
فأغشى ديار الذَّاكرين، وإن نأتُ
أجارعُ مِنْ داري، هوى لهواها
وأوثب الأدهم جدار الحائط ثم غاب عني. وكنتُ، أبا بكرٍ، متى أُرتِجَ عليَّ، أو انقطع بي مسلك، أو خانني أُسلوبٌ أنشدُ الأبيات فيمثَّل لي صاحبي، فأسيرُ إلى ما أرغب، وأدركُ بقريحتي ما أطلُب. وتأكدت صًحبتنا، وجرت قصص لولا أن يطول الكتابُ لذكرتُ أكثرها، لكني ذاكرٌ بعضها.
=============
شيطان امرئ القيس
تذاكرتُ يوماً مع زُهير بن نُميرٍ أخبار الخُطباء والشعُّراء، وما كان يألفُهُم من توابع والزوابع، وقلتُ: هل حيلةٌ في لقاء من اتفق منهم؟ قال: حتى أستأذن شيخنا. وطار عني ثم انصرف كلمحٍ بالبَصَر، وقد أُذن له، فقال: حُلَّ على متن الجَوادِ. فصرنا عليه؛ وسار بنا كالطائر يجتابُ الجوَّ فالجوَّ، ويقطعُ الدَّوَّ فالدَّوَّ، حتى التمحتُ أرضاً لا كأرضنا، وشارفتُ جواً لا كجوّنا، متفرع الشجر، عطر الزَّهر؛ فقال لي: حللتَ أرض الجن أبا عامر، فبمن تُريدُ أن نبدأ؟ قلتُ: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشواق. قال: فمن تُريدُ منهم؟ قلت: صاحب امرئ القيس. فأما العنان إلى وادٍ من الأدوية ذي دَوحٍ تتكسرُ أشجارُه، وتترنمُ أطياره، فصاح: يا عُتيبةُ بن نوفل، بسقط اللّوى فحومل، ويمِ دارةِ جُلجُل، إلاَّ ما عرضتَ علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك، وسمعت من الإنسي، وعرَّفتنا كيف إجازتُك له! فظهر لنا فارسٌ على فرسٍ شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زُهير، وحيّا صاحبك أهذا فتاهُم؟ قلتُ: هو هذا، وأيُّ جمرةٍ يا عتُيبة! فقال لي: أنشد؛ فقلتُ: السيدُ أولى بالإنشاد. فتطامح طرفُه، واهتزَّ عطفه، وقبض عنانَ الشقراء وضربها بالسّوط، فسمت تُحضر طُولاً عنّا، وكرَّ فاستقبلنا بالصَّعدةِ هازاً لها، ثم ركزها وجعل يُنشد:
سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا
حتى أكمَلها ثم قال: لي: أنشِد؛ فهمتُ بالحيصة، ثم اشتدَّت قُوى نفسي وأنشدت:
شَجَتْهُ مَعانٍ من سُليمى وأدْؤرُ
حتى انتهيتُ فيها إلى قول:
ومِن قُبّةٍ لا يُدركُ الطَّرفُ رأسها
تَزِلُّ بها ريحُ الصَّبا فتحدَّرُ
تكلّفتُها والليلُ قد جاش بحرهُ،
وقد جعلت أمواجهُ تتكسرُ
ومن تحت حضني أبيضٌ ذو سفاسقٍ،
وفي الكفّ من عسّالةِ الخطّ أسمرُ
هُما صاحباي من لدُن كنتُ يافعاً
مُقِيلانِ من جدّ الفتى حين يعثُرُ
فذا جدولٌ في الغمدِ تُسقى به المنى
وذا غُصُنٌ في الكفّ يُجنى فيثُمرُ
فلما انتهيتُ تأملني عُتيبةُ ثم قال: اذهب أجزتُك. وغاب عنّا.
شيطان طرفة
فقال لي زُهير: من تُريدُ بعدُ؟ قلتُ: صاحب طرفة. فجزعنا وادي عُتيبة، وركضنا حتى انتهينا إلى غيضةٍ شجرُها شجران: سامٌ يفوحُ بهاراً، وشحرٌ يعبق هندياً وعاراً. فرأينا عيناً معينةً تسيل، ويدُورُ ماءها فلكياً ولا يحُل. فصاح به زهير: يا عنترُ بن العجلان، حلَّ بك زهيرٌ وصاحبه، فبخَولة، وما قطعت معها من ليلة، إلاَّ ما عرضت وجهك لنا! فبدا إلينا راكبٌ جميلُ الوجه، قد توشح السّيف، واشتمل عليه كساء خزّ، وبيده خطّيّ، فقال: مرحباً بكُما! واستنشدني فقلتُ: الزعيمُ أولى بالإنشاد؛ فأنشد:
لِسُعدى بِحِزَّانِ الشُّريف طُلُول
حتى أكملها، فأنشدته من قصيدة:
أمِن رسمِ دارٍ بالعقيقِ مُحِيلِ
حتى انتهيتُ إلى قولي:
ولما هبطنا الغيثَ تُذعرُ وحشُهُ
على كل خوَّار العنان أسيلِ
وثارت بناتُ الأعوجيّاتِ بالضُّحى
أبابِيلَ، من أعطافِ غير وبيلِ
مُسوَّمةً نعتدُّها من خِيارها،
لِطردِ قنيصٍ، أو لطردِ رعيلِ
إذا ما تغنّى الصَّحبُ فوق متونِها
ضُحيناً، أجابت تحتهم بصهيلِ
تدُوسُ بها أبكارَ نورٍ كأنّه
رِداءُ عرُوسٍ أوذنتُ بحليل
رَمينا بها عُرضَ الصُّوارِ فأقعصت
أغنَّ قتلناهُ بغيرِ قتيلِ
وبادَرَ أصحابي النُّزولَ، فأقبلت
كراديسُ من غض الشِّواء نشيلِ
نُمسِّحُ بالحوذانِ مِنهُ،
إذا ما اقتنصنا منه غير قليلِ
فقُلنا لسلقِيها: أدرها سُلافةً
شمولاً، ومِن عينيك صِرفَ شمولِ
فقالم بكأسيه مُكيعاً لأمرِنا،
يميلُ به الإدلالُ كلَّ مَميلِ
وشَعشَعَ راحيه، فما زال مائلاً
برأسِ كريمِ منهُمُ وتليلِ
إلى أن ثناهُم راكدينَ، لما احتسوا،
خليعينَ من بطش وفضل عُقولِ
نشاوى على الزَّهراء، صرعى كأنهم
أساكينُ قصرٍ، أو جُذُوعُ نخيلِ
فصاحَ عنترٌ: لله أنت! اذهب مُجازٌ. وغاب عنّا. ثم مِلنا عنه.
شيطان قيس بن الخطيم
فقال لي زهير: إلى من تتُوقُ نفسُك بعدُ من الجاهليّين؟ قلت: كفاني من رأيتُ؛ اصرِف وجه قصدنا أبي تمام. فركضنا ذات اليمين حيناً، ويشتدُّ في إثرِنا فارسٌ كأنه الأسد، على فرسٍ كأنها العُقاب، وهو في عدوه ذلك يُنشد:
طعنتُ ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ،.......لها نفذٌ، لولا الشعاعُ، أضاءهـا
فاستربتُ منه، فقال لي زهير: لا عليك، هذا أبو الخطّارِ صاحبُ قيسِ ابن الخطيم. فاستبى لُبيّ من إنشاده البيت، وازددتُ خوفاً لُجرأته، وأنّنا لم نُعرَّج عليه.
فصرف إليه زهيرٌ وجه الأدم، وقال: حيّاك اللهُ أبا الخطّار! فقال: أهكذا يُحادُ عن أبي الخطار، ولا يُخطرُ عليه؟ قال: علمناك صاحب قنص، وخفنا أن نشغلك.
فقال لي: أنشدنا يا أشجعي، وأُقسم أنك إن لم تُجد ليكوننَّ يوم شر. فأنشدتُه قولي من قصيدة: منازلهم تبكي إليكَ عَفاءها ومنها:
خليليَّ عُوجا، باركَ الله فيكُما،
بدارتِها الأولى نُحيِّ فناءها!
فلم أرَ أسراباً كأسرابها الدُّمى،
ولا ذئب مثل قد رعى، ثمَّ شاءها
ولا كضلالٍ كان أهدى لصبوتي،
ليالي يهديني الغرامُ خِباءها
وما هاجَ هذا الشوقَ إلاَّ حمائِمٌ،
بكيتُ لها لمّا سمعتُ بُكاءها
عجِبتُ لنفسي كيف مُلكها الهوى،
وكيف استَفَزَّ الغانِياتُ إباءها؟
ولو أنني أنحتْ عليَّ أكارمٌ؛
ترضَّيتُ بالعرضِ الكريمِ جزاءها
ولكنَّ جُرذان الثُّغورِ رمينني،
فأكرمتُ نفسي أن تُريق دماءها
إليك أبا مروان ألقيتُ رابياً
بحاجة نفسِ ما حُربتُ خزاءها
هززتُكَ في نَصري ضُحىً فكأنّني
هززتُ، وقد جئتُ الجبال، حراءها
نقضتُ عُرى عزم الزَّمانِ، وإن عَتا،
بعزمةِ نفسٍ لا أريدُ بقاءها
فلما انتهيتُ تبسمَّ وقال: لنعمَ ما تخلّصتَ! اذهب فقد أجزتُك.
ناصرالبدرى
ثمَّ انصرفنا، وركضنا حتى انتهينا إلى شجرةٍ غيناء يتفجرُ من أصلِها عينٌ كمقلةٍ حَواء. فصاح زُهير: يا عتابُ بن حبناء، حلَّ بك زُهير وصاحبهُ، فبعمروٍ والقمر الكّالِع، وبالرُّقعةِ المفكوكةِ الطّابع، إلاَّ ما أريتنا وجهك! فانفلق ماء العين عن وجهِ فتىً كفِلقةِ القمر، ثم اشتقَّ الهواء صاعداً إلينا من قعرها حتى استوى معنا فقال: حيّاك الله يا زهير، وحيّا صاحبك! فقلتُ: وما الذي أسكنك قعر هذه العين يا عتاب؟ قال: حيائي من التّحسُّنِ باسمِ الشِّعرِ وأنا لا أُحسنُه. فصحتُ: ويلي منه؛ كلامُ مُحدثٍ ورب الكعبة! واستنشدني فلم أُنشده إجلالاً له، ثم أنشدتُه:
أبكيتَ، إذ طَعَنَ الفريقُ، فِراقَها
حتى انتهيتُ فيها إلى قولي:
إنّ امرُؤٌ لعب الزَّمانُ بهمّتي،
وسُقيتُ من كأس الخُطوبِ دهاقها
وكبوتُ طِرفاً في العُلى، فاستضكتْ
حُمُرُ الأنامِ، فما تريمُ نُهاقها
وإذا ارتمت نحوي المُنى لأنالها،
وقف الزَّمانُ لها هُناك فعاقها
وإذا أبو يحيى تأخَّرُ نفسهُ،
فمتى أُؤمّلُ في الزَّمان لحاقها؟
فلما انتهيتُ قال: أنشدني من رثائك. فأنشدتُه:
أعينَا امرأَ نَزَحَتْ عينُهُ،
ولا تَعجَبا مِن جُفُونٍ جمادىِ
إذا القلبُ أحرقهُ بثُّهُ،
فإنَّ المدامِعَ تِلوُ الفُؤادِ
يودُّ الفتى مَنهلاً خالياً،
وسعدُ المَنيةِ في كل وادِ
ويصرفُ للكونِ ما في يديهِ،
وما الكونُ إلاَّ نذيرُ الفسادِ
لقد عثرَ الدَّهرُ بالسابقينَ،
ولم يُعجِزِ الموت ركضُ الجَوادِ
لعمرُكَ ما ردَّ ريبَ الرّدى
أرِيبٌ، ولا جاهدٌ باجتِهادِ
سِهامُ المَنايا تُصِيبُ الفتى،
ولَوْ ضَرَبُوا دُونه بالسِّدادِ
أصَبنَ، على بطشِهِم، جُرهُماً،
وأصمينَ، في دارهم، قومَ عادِ
وأقصعنَ كلباً على عِزِّهِ،
فما اعتزَّ بالصَّافِناتِ الجِيادِ
إلى أن انتهيتُ فيها إلى قولي:
ولكنّني خانَني مَعشري،
ورُدتُ يَفاعاَ وبيلَ المَرادِ
وهل ضرب السيفُ من غيرِ كفٍ؟
وهل ثبتَ الرَّأسُ في غيرِ هادِ؟
فقال: زِدني من رثائك وتحريضك، فأنشدتُه:
أفي كلّ عامٍ مصـرعٌ لـعـظـيمِ؟
أصابَ المَنايا حـادثـي وقـديمـي
هوى قمراً قيس بن عـيلانَ آنـفـاً،
وأوحشَ مِن كلبٍ مـكـانُ زعِـيم
فكيف لِقائي الحادِثاتِ إذا سـطـتْ،
وقد فُلَّ سيفي منهُـمُ وعَـزيمـي؟
وكيف اهتدائي في الخطُوب إذا دجت
وقد فقدت عيناي ضـوءَ نُـجُـومِ؟
مضى السَّلفُ الوضَّـاحُ إلا بـقـيةً،
ومنها:
رَمَيتُ بها الآفاقَ عنّـي غـريبةً،
نتيجةَ خفاقِ الضُّـلـوعِ كـظـيمِ
لأُبدي إلى أهل الحجى مِن بواطني،
وأُدلي بعُدرٍ في ظـواهـر لُـومِ
أنا السّيفُ لم تتعبْ به كفُّ ضاربٍ،
صرومٌ إذا صادفتُ كفَّ صـرُومِ
سعيتُ بأحرارِ الرّجالِ، فخانـنـي
رجالٌ، ولم أُنجَدْ بِـجِـدِّ عـظـيمِ
وضيعني الأملاكُ بـدءاً وعـودةً،
فضعتُ بدارٍ مـنـهُـمُ وحَـريمِ
فقال: إن كنتَ ولا بُدَّ قائلاً، فإذا دعتك نفسكُ إلى القولِ فلا تكُدَّ قريحتك، فإذا أكملتَ فجمامُ ثلاثة لا أقلَّ. ونقّحْ بعدَ ذلك، وتذكّرْ قوله:
وجَشَّمَني خوفُ ابنِ عَفّانَ رَدَّها،
فثقفتُها حولاً كريتاً ومربَـعـا
وقد كان في نفسي عليها زيادةٌ،
فلم أرَ إلاَّ أن أُطيعَ وأسمَـعـا
وما أنتَ إلاَّ مُحسِنٌ على إساءةِ زمانكَ. فقبلتُ على رأسه، وغاصَ في العَين.
صاحب البحتري
ثم قال لي زُهير: من تُريد بعده؟ قلتُ: صاحب أبي نُواس؛ قال: هو بدَيرِ حنّة منذُ أشهر، قد علبت عليه الخمر، ودّيرُ حنّة في ذلك الجَبل. وعرضه عليَّ، فإذا بيننا وبينه فراسخ. فركضنا ساعةً وجُزنا في ركضِنا بقصرٍ عظيمٍ قُدَّامه ناوردٌ يتطاردُ فيه فُرسان، فقُلتُ: لمَن هذا القصرُ يا زُهير؟ قال: لطوقِ بن مالك؛ وأبُو الطَّبعِ صاحبُ البُحتُريّ في ذلك النَّاورد، فهل لكَ في أن تراه؟ قلتُ: ألفُ أجلْ، إنه لمن أساتيذي،، وقد كُنتُ أُنسِيتُه. فصاح: يا أبا الطَّبعِ! فخرج فتىً على فرسٍ أشعل، وبيده قناة، فقال له زُهير: إنك مؤتمُّنا؛ فقال: لا، صاحُبك أشمخُ مارِناً من ذلك، لولا أنه ينقصُه. قلتُ: أبا الطَّبعِ على رِسلِك، إنَّ الرّجالَ لا تُكالُ بالقُفزان. أنشدنا من شعرك. فأنشد:
ما على الرَّكبِ من وُقوفِ الرَّكابِ
حتى أكملها، ثم قال: هاتِ إن كنتَ قُلتَ شيئاً. فأنشدتُه:
هذِهِ دارُ زينَبٍ والرَّبابِ
حتى انتهيتُ فيها إلى قولي:
وارتكَضنا حتى مضى الليلُ يَسعى،
وأتى الصبحُ قاطـعَ الأسـبـابِ
فكأنّ النجوم فـي الـلـيل جـيشٌ
دخلوا للكُمُون في جـوف غـابِ
وكأن الصبـاح قـانـصُ طـير
قبضتْ كفّـه بـرجْـلِ غُـرابِ
وفُتوٍّ سَرَوا وقد عـكـف الـلـي
ل وأرخى مُغْـدَودِن الأطـنـابِ
وكأنّ النجـومَ لـمّـا هـدَتـهُـم
أشرقَت لـلـعـيون مـن آدابِ
يتَـقَـرَّوْن جَـوزَ كـلّ فَــلاةٍ،
جُنْح ليلٍ، جَوزاؤه من ركـابـي
عَنَّ ذِكري لمُدلِحيهم، فـتـاهـوا
من حديثي في عُرض أمرٍ عُجابِ
همّةٌ في السماء تـسـحـب ذيلاً،
من ذيول العُلـى، وَجَـدٌّ كـابِ
ولو أن الـدنـيا كـرينةُ نَـجـرٍ،
لم تكن طُعمةً لفَرْس الـكِـلابِ
جيفةٌ أنتـنـتْ فـطـار إلـيهـا،
ومنها:
من شُهيدٍ في سرّها، ثم من أش
جَعَ في السرّ من لُباب اللبابِ
خُطباءُ الأنام، إن عَنَّ خَطْـبٌ،
وأعاريبُ في مُتـون عِـرابِ
حتى أكملتُها. فكأنما غشّى وجهَ أبي الطبع قطعةٌ من الليل. وكرّ راجعاً إلى ناوَرْدِه دون أن يُسلّم. فصاح به زهير: أأجَزْتَه؟ قال: أجَزْتُه، لا بورِك فيك من زائر، ولا في صاحبك أبي عامر!
صاحب أبي نواس
فضربَ زهير الأدهم بالسوط، فسار بنا في قَنَنه، وسِرنا حتى انتهينا إلى أصل جَبل دير حَنّة، فشقّ سَمعي قرْع النواقيس، فصِحْتُ: من منازل أبي نواس، وربِّ الكعبة العَلياء! وسِرنا نجتاب أدياراً وكنائس وحانات، حتى انتهينا إلى ديرٍ عظيمٍ تَعبق روائحه، وتَصوكُ نوافِحه. فوقف زهير ببابه وصاح: سلامٌ على أهل دير حَنّة! فقلتُ لزهير: أوَهل صِرنا بذات الأُكَيراج؟ قال: نعم. وأقبلتْ نحونا الرَّهابين، مُشدّدة بالزنانير، قد قبضتْ على العَكاكيز، بِيضَ الحواجب واللحى، إذا نظروا إلى المرء استحيا، مُكثِرين للتسبيح، عليهم هَدْيُ المسيح. فقالوا: أهلاً بكَ يا زهير من زائر، وبصاحبك أبي عامر! ما بُغيتُك؟ قال: حسين الدِّنان.
قالوا: إنه لفي شُرب الخمرة، منذ أيام عشرة، وما نُراكما منتفعين به. فقال: وعلى ذلك. ونزلنا وجاؤوا بنا إلى بيتٍ قد اصطفّت دِنانه، وعكفتْ غِزلانُه، وفي فُرجته شيخٌ طويل الوجه والسَّبَلة، قد افترش أضغاث زَهر، واتّكأ على زِقّ خمر، وبيده طَرْجهارة، وحواليه صِبيةٌ كأظْبٍ تَعطو إلى عَرارة. فصاح به زهير: حيّاك الله أبا اٌلإحسان! فجاوب بجوابٍ لا يُعقل لغَلبة الخمر عليه. فقال لي زهير: اقرعْ أُذُن نشوته بإحدى خَمريّاتك، فإنه ربما تنبّه لبعض ذلك. فصِحْتُ أُنشد من كلمةٍ لي طويلة:
ولـرُبَّ حـانٍ قـد أدرتُ بـديره
خَمْر الصِّبا مُزجَتْ بصَفْو خُمورهِ
في فِتيةٍ جعلوا الزِّقاق تِكـاءَهـم،
مُتصاغِرين تخشُّعـاً لـكـبـيرهِ
والى عليَّ بطَرْفـه وبـكـفّـه،
فأمال مِنْ رأسي لِعَبِّ كـبـيرهِ
وترنَّم الناقوس عند صَـلاتـهـم،
ففتحْتُ من عيني لرجع هَـديرهِ
يُهدي إلينا الراحَ كلُّ مُعصفَـري،
كالخِشف خَفَّره التِماحُ خَـفـيرهِ
فصاح من حبائل نشوته: أأشجعيّ؟ قلتُ: أنا ذاك! فاستدعى ماء قرّاحاً، فشرب منه وغسل وجهه، فأفاق واعتذر إليَّ من حال. فأدركتْني مَهابته، وأخذتُ في إجلاله لمكانه من العِلم والشعر. فقال لي: أنشِد، أو حتى أُنشدَك؟ فقلت: إنّ ذلك لأشدّ لتأنيسي، على أنه ما بعدك لمُحسنٍ إحسانٌ. فأنشد:
يا دير حَـنّة مـن ذات الأكَـيراح،
من يَصحُ عنكَ فأني لستُ بالصاحي
يَعتادُهُ كلُّ مَحـفـوفٍ مَـفـارقُـهُ
من الدهان، عليه سَحْقُ أمـسـاحِ
لا يدلِـفـون إلـى مـاءٍ بـآنـيةٍ،
إلاّ اغتِرافاً من الغُدران بـالـراحِ
فكدتُ والله أخرج من جِلدي طَرباً، ثم أنشد:
وأنشد أيضاً:
لمَنْ دِمنٌ تـزداد طـيبَ نـسـيمِ،
على طول ما أقْوَتْ، وحُسنَ رُسومِ
تجافى البِلى عنهمّ حتى كـأنـمـا
لبِسنَ، من الإقواء، ثـوبَ نـعـيمِ
واستمرّ فيها حتى أكملها. ثم قال لي: أنشِد. فقلتُ: وهل أبقيتَ للإنشاد موضعاً؟ قال: لا بُدّ لكَ، وأوعِثْ بي ولا تُنجِدْ. فأنشدته:
أصباحٌ شِـيمَ أمْ بـرقٌ بَـدا،
أم سَنا المحبوبِ أوْرى أزْنُدا
هَبَّ منْ مرقده منـكَـسِـراً،
مسبِلاً للكُمّ، مُـرْخٍ لـلـرِّدا
يمسح النَّعسةَ من عيني رشاً،
صائدٍ فـي كـل يومٍ أسـدا
قلتُ: هَبْ لي يا حبيبي قُبـلةً،
تَشْفِ من عمّك تَبريح الصَّدى
فانْثنى يهتزُّ من مـنـكـبـه،
قائلاً: لا! ثمّ أعطانـي الـيَدا
كلّما كلّمـنـي قـبّـلْـتُـهُ،
فهْوَ إمـا قـال قـولاً ردّدا
كان أن يرجع، من لثْمي لـه
وارتِشافي الثغرَ منـه، أدردا
قال لي يلعب: خُذْ لي طائراً،
فتَراني الدهرَ أجري بالكُدى
وإذا استنجزْتُ يوماً وعْـده،
قال لي يَمطُلُ: ذكّرني غَـدا
شربَت أعطافُه خمر الصِّبـا،
وسَقاه الحُسن حتى عَرْبَـدا
وإذا بِتُّ بـه، فـي روضةٍ،
أغيداً يَعرو نَـبـاتـاً أغـيَدا
قام في الليل بجـيدٍ أتْـلـعٍ،
ينقُضُ اللمّة مِنْ دَمْع النـدى
رَشَأٌ، بل غادةٌ مـمـكـورةٌ،
عمّمتْ صُبحاً بلـيلٍ أسـودا
أحَحَتْ مِن عَضَّتي في نهْدها،
ثمّ عضّت حُرّ وجهي عَمَـدا
فأنا المجروحُ مِنْ عضّتهـا،
لا شَفاني الله منـهـا أبَـدا!
فلمّا انتهيتُ قال: لله أنت! وإنْ كان طبُعك مخترَعاً منك؟ ثم قال لي: أنشِدني من رِثائك شيئاً؟ فأنشدتُه من قولي في بُنيّةٍ صغيرة:
أيها المعتَدُّ في أهل النُّهى،
ولا تَذُبْ، إثر فقيدٍ، ولها
حتى انتهيتُ إلى قولي:
وإذا الأُسْدُ حَمَتْ أغـيالـهـا،
لم يَضُرَّ الخيس صرعاتُ المَها
وغريبٌ يا ابنَ أقمار الـعُـلا،
أن يُراع البدرُ من فقدِ السُّهـا
فلما انتهيتُ قال لي: أنشِدني من رثائك أشدّ من هذا وأفصَح. فأنشدتُهُ من رثائي في ابن ذَكْوان. ثم قال: أنشِدني جَحْدريّتَك من السجن؛ فأنشدته: قريبٌ بمُحْتَبلّ الهَوان بعيدِ حتى انتهيتُ فيها إلى قولي:
فإنْ طال ذكْري بالمُجون فإنـنـي
شقيٌّ بمنظوم الـكـلام سَـعـيدُ
وهل كنتُ في العشّاق أوّل عاشقٍ،
هَوَتْ بحِجـاه أعـينٌ وخـدود؟
فمّن مبلغُ الفتيان أني بـعـدهـم
مقيمٌ بدار الظـالـمـين طَـريدُ
ولستُ بـذي قـيدٍ يرقُّ، وإنـمـا
على اللحظ من سُخط الإمام قيودُ
فبكى لها طويلاً. ثم قال: أنشدْني قطعةً من مجونك، فقد بعُد عهدي بمثلك.
فأنشدته:
وناظرةٍ تحت طـيّ الـقـنـاع،
دعاها إلى الـلـه والـخـير داعِ
سَعَت بابنها تـبـغـي مـنـزلاً،
لوصل التَّبَـتُّـل، والانـقـطـاع
فجاءتْ تهادى كمـثـل الـرَّؤوم،
تُراعي غزالاً بـأعـلـى يَفـاعِ
أتتنا تبخْـتَـرُ فـي مـشـيهـا،
فحلّت بوادٍ كـثـيرِ الـسِّـبـاعِ
وريعَتْ حِذاراً على طـفـلـهـا،
فنـاديتُ: يا هـذه لا تُـراعـي!
فولّت وللمِـسـك مـن ذيلـهـا،
على الأرض، خطٌّ كطهر الشُّجاعِ
فلما سمع هذا البيت قام يرقُص به ويردّده، ثم أفاق، ثم قال: هذا والله شيء لن نُلهمه نحن، ثم استدناني فدنوتُ منه فقبّل بين عينيَّ، وقال: اذهب فإنك مُجاز. فانصرفنا عنه وانحدرنا من الجبل.
صاحب أبي الطيب
فقال لي زهير: ومنْ تريد بعد؟ قلت له: خاتمة القوم صاحب أبي الطيّب؛ فقال: اشدُد له حَيازيمك، وعطّر له تسمك، وانثُر عليه نجومك. وأمال عنان الأدهم إلى طريقٍ، فجعل يركض بنا، وزهيرٌ يتأمّل آثار فرسٍ لمحناها هناك؟ فقلت له: ما تتبَّعك لهذه الآثار؟ قال: هي آثار فرس حارثة بن المغلَّس صاحب أبي الطيب، وقصدي هو صاحب قَنص. فلم يزل يتقرّاها حتى دفعنا إلى فارسٍ على فرسٍ بيضاء كأنه قضيبٌ على كثيب، وبيده قناةٌ قد أسندها إلى عنقه، وعلى رأسه عمامةٌ حمراء قد أرخى لها عَذَبَةً صفراء. فحيّاه زهير، فأحسن الردّ ناظراً من مقلةٍ شَوساء، قد مُلئت تيهاً وعُجباً. فعرّفه زهيرٌ قصدي، وألقى إليه رغبتي. فقال: بلغني أنه يتناول؛ قلت: للضرورة الدافعة، وإلا فالقريحة غير صادعة، والشفْرة غير قاطعة. قال: فأنشدني؛ وأكبرتُه أن أستنشده، فأنشدته قصيدتي التي أوّلها: أبرقٌ بدا أمْ لمع أبيضَ قاصِلِ حتى انتهيت إلى قولي:
ترددَ فيها البرقُ حتى حسبـتُـهُ
يشير إلى نجمٍ الرُّبى بالأنـامـلِ
ربىً نسجت أيدي الغَمام للُبسهـا
غلائلَ صُفراً، فوق بيضِ غلائلِ
سهرتُ بها أرعى النجوم وأنجماً
طوالع للراعين، غـير أوافـلِ
وقد فغرتْ فاها بها كلّ زهـرةٍ،
إلى كل ضَرعٍ للغَمامة حافـلِ
ومرّت جيوش المُزن رَهواً، كأنهـا
عساكر زَنْجٍ مذهَباتُ المنـاصِـلِ
وحلّقتِ الخضراء في غُرّ شُهبهـا،
كلُجّة بحرٍ كُلّلـتْ بـالـيعـالـلِ
تخال بها زُهر الكواكب نرجِـسـاً،
على شطّ وادٍ للـمـجَـرّة سـائلِ
وتلمحُ من جَوزائها في غُروبـهـا
نساقُطَ عرشٍ واهنِ الدعـم مـائلِ
وتحسب صقراً واقعاً دَبَـرانـهـا،
بعُشّ الثريا فوق حمر الحواصـلِ
وبَدرَ الدجى فيها غديراً، وحـولـه
نجومٌ كطلعات الحمام الـنـواهـلِ
كأن الدجى همّي، ودمعي نجومـه،
تحدّر إشفـاقـاً لـدهـر الأراذلِ
هوتْ أنجم العلـياء إلاّ أقـلّـهـا،
وغِبنَ بما يحظى به كـل عـاقـلِ
وأصبحتُ في خلفٍ إذا ما لمحتُهـم
تبيّنتُ أن الجهل إحدى الفـضـائلِ
وما طاب في هذي البـريّة أخـرٌ،
إذا هو لم يُنجـدْ بـطِـيب الأوائلِ
أرى حُمُراً فوق الصواهـلِ جـمّةً،
فأبكي بعَيْني ذُبلّ تلك الصـواهـلِ
ورُبّتَ كُتّـابٍ إذا قـيبـل: زوِّروا،
بكتْ من تأنّيهم صُدورُ الـرسـائلِ
وناقل فِقْهٍ لم يرَ الـلـه قـلـبـه،
يظنّ بأن الدين حِفظُ الـمـسـائلِ
وحاملِ رمحٍ راحَ، فوق مَـضـائه،
به كاعباً في الحيّ ذات مـغـازلِ
حُبُّوا بالمُنى دوني، وغودِرتُ دونهم
أرودُ الأماني في رياض الأباطـلِ
وما هـي إلا هـمةٌ أشـجـعـيّةٌ،
ونفْسٌ أبتْ لي من طِلاب الـرذائلِ
وفهمٍ لو البِرجيسُ جـئتُ بـجـدّه،
إذاً لتلقّاني بنحْـسِ الـمـقـاتِـلِ
ولمّا طَما بحر البَيان بفـطـرتـي،
وأغرقَ قرْن الشمس بعض جداولي
رحلتُ إلى خير الورى كـلّ حـرّةٍ
من المدح، لم تَخمُلْ بِرَعي الخمائلِ
وكدتُ لفضلِ القول أبلُغُ ساكـتـاً،
وإنْ ساء حُسّادي مدى كـلّ قـائلِ
فلما انتهيتُ قال: أنشدني أشدّ من هذا. فأنشدتُه قصيدتي: هاتيكَ دارُهُمُ فقِفْ بمَعانِها
فلما انتهيتُ، قال لزهير: إن امتدّ به طلق العُمُر، فلا بدّ أن بنفث بدُرر، وما أُراه إلا سيُحتضَر، بين قريحةٍ كالجمر، وهمّةٍ تضع أخمصه على مفرِقِ البدر.
فقلت:
أهلاَّ وضعتُه على صَلعة النسر? فاستضحك إليّ وقال: اذهب فقد أجزتُك بهذه النُّكتة. فقبّلتُ على رأسه وانصرفنا.
==============
فقال لي زهير: من تريد بعده؟ فقلت: ملْ بي إلى الخُطباء، فقد قضيتُ وَطَراً من الشعراء. فركضنا حيناً طاعنين في مطلع الشمس، ولقينا فارساً أسرّ إلى زهير، وانجزع عنا، فقال لي زهير: جُمعتْ لك خُطباء الجنّ بمَرْج دُهمان، وبيننا وبينهم فرسخان، فقد كُفيتُ العناء إليهم على انفرادهم. قلت: لم ذاك؟ قال: للفَرْق بين كلامين اختلف فيه فتيان الجن.
وانتهينا إلى المَرْج فإذا بنادٍ عظيم، قد جمع كل زعيم، فصاح زهير: السلام على فُرسان الكلام. فردّوا وأشاروا بالنزول. فأفرجوا حتى صرنا مركز هالةِ مجلسهم، والكل منهم ناظرٌ إلى شيخٍ أصلع، جاحظ العين اليُمنى، على رأسه قلَنسوةٌ بيضاء طويلة. فقلت سرّاً لزهير: من ذلك؟ قال: عُتْبةُ بن أرقم صاحب الجاحظ، وكُنيتُه أبو عُيينة. قلت: بأبي هو! ليس رغبتي سواه، وغير صاحب عبد الحميد. فقال لي: إنه ذلك الشيخ الذي إلى جنبه. وعرّفه صَغوي إليه وقولي فيه. فاستدناني وأخذ في الكلام معي، فصمت أهل المجلس، فقال: إنك لخطيب، وحائكٌ للكلام مُجيد، لولا أنك مُغْزىً بالسجع، فكلامك نظمٌ لا نثر.
فقلتُ في نفسي: قرعَكَ، بالله، بقارعته، وجاءك بمُماثَلته. ثم قلت له: ليس هذا، أعزّك الله، منّي جَهلاً بأمر السجع، وما في المماثَلة والمقابلة من فضْل، ولكني عدمتُ فرسان الكلام، ودُهيتُ بغباوة أهل الزمان، وبالحَرا أن أحرِّكهم بالازدواج. ولو فرشتُ للكلام فيهم طَولقاً، وتحركت لهم حركة مَشُوْلم، لكان أرفع لي عندهم، وأولج في نفوسهم.
فقال: أهذا على تلك المناظر، وكبَر تلك المحابر، وكمال تلك الطيالس؟ قلت: نعم، إنها لِحاء الشجر، وليش ثمّ ثمرٌ ولا عَبَق. قال لي: صدقتَ، إني أراك قد ماثلْتَ معي. قلت: كما سمعت. قال: فكيف كلامهم بينهم؟ قلت: ليس لسيبويه فيه عمل، ولا للفَراهيدي إليه طريق، ولا للبَيان عليه سمة. إنما هي لُكنةٌ أعجميةٌ يُؤدّون بها المعاني تأدية المَجوس والنَّبَط. فصاح: إنا لله، ذهبت العربُ وكلامُها! ارمهم يا هذا بسَجع الكُهّان، فعسى أن ينفعك عندهم، ويُطير لك ذِكراً فيهم. وما أُراك، مع ذلك، إلا ثقيل الوطأة عليهم، كَريهَ المجيء إليهم. |فقال الشيخ الذي إلى جانبه، وقد علمتُ أنه صاحب عبد الحميد، ونفسي مرتقِبةٌ إلى ما يكون منه: لا يَغُرَّنْك منه، أبا عُيينة، ما تكلّف لك من المماثلة، إن السجع لطبعه، وإن ما أسمّعك كُلْفة. ولو امتدّ به طَلَقُ الكلام، وجرت أفراسه في مَيْدان البَيان، لصلى كَودَنُه وكل بُرثُنُه. وما أُراه إلاّ من اللُّكْن الذين ذّكَر، وإلاّ فما للفصاحة لا تهدِر، ولا للأعْرابية لا تومِض؟ فقلتُ في نفسي: طبع عبد الحميد ومساقُه، وربِّ الكعبة! فقلت له: لقد عجِلْتَ، أبا هُبيرة، - وقد كان زهيرٌ عرّفني بكُنيته - إنّ قوسَكَ لنبع، وإن سهمك لسُمّ، أحِماراً رميتَ أن إنساناً، وقعقعةً طلبْتَ أم بَياناً؟ وأبيك، إن البَيان لصعْب، وإنك منه لفي عباءةٍ تتكشّف عنها أسْتاه معانيك، تكشُّف اسْتِ العَنْز عم ذنبها. الزمان دفءٌ لا قُرّ، والكلام، عراقي لا شامي. إني لأرى من دم اليَربوع بكفّيك، وألمح من كُشى الضبّ على ماضِغيك. فتبسّم إليّ وقال: أهكذا أنت يا أُطَيلِسْ، تركَب لكلٍّ نهجه، وتعجّ إليه عجّه؟ فقلت: الذئب أطلس، وإنّ التيْس ما علمْت! فصاح به أبو عُيينة: لا تعرِض له، وبالحَرا أن تخْلُص منه. فقلت: الحمد لله خالق الأنام في بطون الأنعام! فقال: إنها كافيةٌ لو كان له جِحْر. فبَسَطاني وسألاني أن أقرأ عليهما من رسائلي، فقرأتُ رسالتي في صفة البَرْد والنار والحطب فاستحسناها.
رسالة الحلواء
ومن رسالتي في الحَلواء حيث أقول: خرجتُ في لمّةٍ من الأصحاب، وثُبَةٍ من الأتراب، فيهم فقيهٌ ذو لَقْم، ولم أعرَّفْ به، وغَريم بطنٍ، ولم أشعر له، رأى الحَلواء فاستخفّه الشره، واضطرب به الولَه، فدار قس ثيابه، وأسال من لُعابه، حتى وقف بالأكداس وخالط غَمار الناس، ونظر إلى الفالوذَج فقال: بأبي هذا اللمْص، انظروه كأنه الفصّ؛ مُجاجةُ الزنابير، أُجريَتْ على شوابير، وخالطها لُباب الحبّة، فجاءت أعذبَ من ريق الأحبّة.
ورأى الخبيص فقال: بأبي هذا الغالي الرَّخيص، هذا جليدُ سماء الرَّحمة، تمخضت به فأبرزت منه زُبدَ النَّعمة، يُجرحُ باللّحظ، ويذوبُ من اللّفظ. ثم ابيضَّ، قالوا بماء البيض البضّ، قال غضٌّ من غَضّ، ما أطيب خلوة الحبيب، لولا حضرةُ الرَّقيب! ولمح القُبيطاء، فصاح: بأبي نُقرةُ الفضّة البيضاء، لا تَرُدُّ عن العَضَّة. أبنارٍ طُبخت أم بِنُور؟ فإني أراها كقطع البدُّور؛ وبلوزٍ عُجنت أم بِجَوز؟ فإني أراها عين عجينٍ الموز. وموشى إليها وقد عدَّل صاحبُها بدرهمين، وانتهشها بالنّابين، فصاح: القارعة ما القارعة؟! هِية! ويلٌ للمرء من فيه! ورأى الزَّلابِية، فقال: ويلٌ لأمها الزانية، أبأحشائي نُسِجَتْ، أم من صِفاقِ قلبي أُلفت؟ فإني أجدُ مكانها من نفسي مكيناً، وحبل هواها على كبدي متيناً، فمن أين وصلت كفُّ طابخها إلى باطني، فاقتطعتها من دواجني؟ والعزيز الغفار، لأطلُبنها بالثأر! ومشى إليها، فتلمظ له لسانُ الميزان، فأجفل يصيحُ: الثُّعبان الثُّعبان! ورُفع له تمرُ النَّشا، غير مهضوم الحشا، فقال: مهيم! من أين لكم جنى نخلة مريم؟ ما أنتم إلاّ السُّحار، وما جزاؤكم إلاَّ السيفُ والنار. وهم أن يأخذ منها. فأثبت في صدره العصا، فجلس القُرفُصا، يُذري الدُّموع، ويُبدي الخُشُوع. وما منّا أحد إلاّ عن الضَّحك قد تجلّد. فرقت له ضُلوعي، وعلمتُ أنَّ فيه غيرُ مُضيعي. وقد تجمل الصَّدقةُ على ذوي وفر، وفي كل ذي كبدٍ رطبةٍ أجر. فأمرتُ الغلام بابتِياع أرطالٍ منها تجمعُ أنواعها التي أنطقته وتحتوي على ضُروبها التي أضرعته، وجاء بها وسِرنا إلى مكانٍ خالٍ طيّب، كوصف المُهلَّبي:
خانٌ تطيبُ لِباغِي النُّسكِ خلوتُهُ
وفيه سترٌ على الفُتّاكِ إن فتكوا
فصَّبها رطبة الوُقوع، كراديس كقطعِ الجُذوع؛ فجعل يقطعُ ويبلغُ، ويدحُوا فاه ويَدفع، وعيناه تبصَّان كأنهما جمرتان، وقد برزتا على وجهه كأنهما خُصيتان، وأنا أقولُ له: على رسلك أبا فلان! البطنةُ تُذهبُ الفطنة! فلما التقم جُملة جماهيرها، وأتى على مآخيرها، ووصل خورنقها بسديرها، تجشأ فهبت منه ريحٌ عقيم، أيقنا لها بالعذاب الأليم. فنثرتنا شذر مذَر، وفرَّقتنا شغر بغر، فالتحمنا منه الظَّريان، وصدَّق الخبر فيه العيانُ: نفح ذلك فشرَّد الأنعام، ونفخ هذا فبدَّد الأنام، فلم نجتمع بعدها، والسّلام. فاستحسناها، وضحكا عليها، وقالا: إنَّ لسجعك موضعاً من القلب، ومكاناً من النفس، وقد أعرته من طبعك، وحلاوة لفظك، وملاحةِ سوقك، ما أزال أفنه، ورفع غينه، وقد بلغنا أنك لا تُجازى في أبناء جنسك، ولا يُملُّ من الطعن عليك، والاعتراض لك. فمن أشدُّهم عليك؟ |قلت: جارانِ دارُهما صَقَب، وثالثٌ نابته نُوَب، فامتطى ظهر النَّوى، وألقت به في سرقُسطة العصا. فقالا: إلى أبي محمد تُشير، وأبي القاسم وأبي بكر؟ |قلت: أجل قالا: فأين بلغتَ فيهم؟ قلت: أما أبو محمدٍ فانتضى عليَّ لسانه عند المستعين، وساعدته زراقةٌ استهواها من الحاسدين، وبلغني ذلك فأنشدتُه شعراً، منه:
وبُلِّـغـتُ تـجـيشُ صُـدورُهـم
عليَّ؛ وإني منهم فارغُ الـصَّـدرِ
أصاخُوا إلى قولي فأسمعت مُعجزاً،
وغاصوا على سري فأعياهم أمري
فقال فريقٌ: ليس ذا الشعرُ شعـره؛
وقال فريقٌ: أيمُنُ اللهِ، مـا نـدري
أما علمُوا أني إلى العلم طـامـحٌ،
وأني الذي سبقاً على عرقه يجري؟
وما كلُّ من قاد الجياد يسُوسُـهـا؛
ولا كلُّ من أجرى يُقال له: مُجري
فمن شاء فليخبر فإنـي حـاضـرٌ،
ولا شيء أجلى للشُّكُوكِ من الخُبرِ
وأما أبو بكر فأقصر، واقتصر على قوله: له تابعةٌ تؤيدُه. وأما أبو القاسم الإفليلي فمكانُه من نفسي مكين، وحُبه بفؤادي دخيل؛ على أنه حاملٌ عليَّ، ومنتسب إليَّ.
صاحب الإفليلي
فصاحا: يا أنفَ النّاقة بن معمر، مِن سُكانِ خيبر! فقام إليهما جنيٌّ أشمط ربعةٌ وارمُ الأنف، يتظالعُ في مشيته، كاسراً لطرفِه، وزاوياً لأنفه، وهو ينشد:
قومٌ همُ الأنف والأذنابُ غيرُهُم،
ومن يُسوي بأنفِ الناقة الذَّنبا؟
فقالا لي: هذا صاحبُ أبي القاسم، ما قولك فيه يا أنف الناقة؟ قال: فتًى لم أعرف على من قرأ. فقلت لنفسي: العصا من العُصية! إن لم تُعربي عن ذاتك، وتُظهري بعض أدواتك، وأنت بين فرسانِ الكلامِ، لم يطر لك بعدها طائر، وكنت غرضاً لكل حجرٍ عابر.
وأخذتُ للكلام أهبته، ولبستُ للبيان بزتهُ، فقلتُ: وأنا أيضاً لا أعرف على من قرأت. قال: ألمثلي يُقال هذا؟ فقلت: فكان ماذا؟ قال: فطارحني كتاب الخليل.
قلتُ: هو عندي في زنبيل. قال: فناظرني على كتاب سيبويه. قلتُ: خريت الهرَّةُ عندي عليه، وعلى شرح ابن درستويه. فقال لي: دع عنك، أبا أبو البيان.
قلت: لاه اللهُ! إنّما كمُغن وسط، لا يُحسنُ فيُطرب، ولا يُسيء فيلهي. قال: لقد علّمنيه المؤدِّبُون. قلتُ: ليس هو من شأنهم، إنما هو من تعليم الله تعالى حيث قال: "الرَّحمنُ عَلَّمَ القُرآنَ خلقَ الإنسانَ عَلّمَهُ البَيان". ليس من شعرٍ يُفسَّر، ولا أرضٍ تُكسَّر. هيهات، حتى يكون المسكُ من أنفاسك، والعنبرُ من أنفاسك، وحتى يكون مساقُكَ عذباً، وكلامُك رطباً، ونفسُك من نَفسك، وقليبُك من قلبِك، وحتى تتناول الوضيع فترفعه، والرفيعَ فتضعه، والقبيح فتحسنه! قال: أسمعني مثالاً. قلتُ: حتى تصف بُرغُوثاً فتقول:
صفة برغوث
أسودُ زنجي، وأهيٌّ وحشي؛ ليس بوانٍ ولا زُميل، وكأنه جُزء لا يتجزأ من ليل؛ أو شُونيزة، أوثقتها غريزة؛ أو نقطةُ مِداد، أو سويداءُ قلبِ قُراد؛ شُربه عب، ومشيه وثب؛ يكمنُ نهاره، ويسري ليله؛ يدارك بطعنٍ مؤلم، ويستحلُّ دم كل كافرٍ ومُسلم؛ مُساورٌ للأساورة، يجُرُّ ذيله على الجبابر يتكفر بأرفع الثياب، ويهتكُ ستر كل حِجاب، ولا يحفل ببوَّاب؛ مناهل العيش العذبة، ويصلُ إلى الأحراج الرَّطبة، لا يمنعُ منه أمير، ولا ينفعُ فيه غيرةُ غيور، وهو أحقر كل حقير؛ شرُّه مبثوث، وعهده منكوث، وكذلك كلُّ بُرغُوث، كفى نقصاً للإنسان، ودلالةً على قُدرةِ الرَّحمَن.
صفة ثعلب
وحتى تصف ثعلباً فتقول: أدهى من عمرو، وأفتكُ من قاتل حُذيفة ابن بدر؛ كثيرُ الوقائع في المسلمين، مُغرى بإراقة دماء المؤذنين؛ إذا رأى الفُرصة انتهزها، وإذا طلبته الكُماةُ أعجزها؛ وهو مع ذلك يُقراطُ في إدامه، وجالينوسُ في اعتدال طعامه، غداؤه حمامٌ أو دجاج، عشاؤه تدرُج أو دُرَّاج.
صاحب بديع الزمان
وكان فيما يقابلُني من ناديهم متًى قد رماني بطرفه، واتّكأ لي على كفّه، فقال: تحيُّلٌ على الكلام لطيفٌ، وأبيك! فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أوما علمت أنَّ الواصف إذا وصف لم يتقدَّم إلى صفته، ولا سُلط الكلامُ على نعته، اكتفى بقليل الإحسان، واحجتزى بيسير البيان؟ لأنه لم يتقدم وصفٌ بُقرنُ بوصفه، ولا جرى مساقٌ يُضاف إلى مساقه. وهذه نسكتةٌ بغذاذية، أنى لك بها يا فتى المغرب؟ فقلتُ لزُهير: من هذا؟ قال: زبدةُ الحقب، صاحب بديع الزمان. فقلتُ: يا زبدة الحقب، اقترح لي قال: صف جاريةً. فوصفتُها. قال: أحسنت ما شئت أن تُحسن! قلتُ: أسمعني وصفك للماء. قال: ذلك من العُقم. قلت: بحياتي هاته.
قال: أزرق كعين السنّور، صافٍ كقضيب البلور؛ انتُخب من الفُرات واستعمل بعد البيات، فجاء كلسان الشمعة، في صفاء الدمعة.
فقلتُ: انظره، يا سيدي، كأنه عصيرُ صباح، أو ذوبُ قمرٍ لياح؛ ينضبُّ من إنائه، انصباب الكوكب من سمائه؛ العين حانُوته، والفمُ عفريتُه، كأنه خيطٌ من غزلٍ فُلق، أو مخصرٌ يُضربُ به من ورق يُرفعُ عنك فتردى، ويُصدع به قلبك فتحيا.
فلمّا انتهيت في الصفة، ضرب زُبدةُ الحقب الأرض برجله، فانفرجت له عن مثل برهُوت، وتد هدى إليها، واجتمعت عليه، وغابت عينه، وانقطع أثره. فاستضحك الأستاذان من فعله، واشتدَّ غيظُ أنفٍ النّاقةِ عليَّ.
رجع إلى أنف الناقة
فقال: وقعت لك أوصافٌ في شعرك تظنُّ أني لا أستطيعُها؟ فقلتُ له: وحتى تصف عارضاً فتقول:
ومُرتجزٍ ألقى بذي الأثـل كـلـكـلاً
وحطَّ بجرعاء الأبـارقِ مـا حـطـا
وسعى في قيادِ الرِّيحِ يُسمحُ للصَّـبـا،
فألقت على غيرٍ التِّلاعِ بـه مِـرطـا
وما زال يُروي حتى كسـا الـرُّبـى
درانك، والغيطان من نسجه بُسـطـا
وعنت له ريحٌ تُـسـاقـطُ قـطـرهُ
كما نثرت حسناءُ من جيدها سمـطـا
ولـم أر دُراً بـدَّدتـه بـدُ الـصَّـبـا
سواهُ، فبات النَّورُ يلقُطُـه لـقـطـا
وبتنا نُراعي الليل لـم نـطـوِ بُـرده،
ولم يجر شيبُ الصُّبح في فرعه وخطا
تراه كملك الزَّنجِ في فـرط كـبـرهِ،
إذا رام مشياً في تبـخـتُـره أبـطـا
مُطلاً على الآفاقِ والـبـدرُ تـاجُـهُ،
وقد علق الجوزاء من أذنه قُـرطـا
وحتى تصف ذئباً فتقول:
إذا اجتاز عُلويُّ الرّياحِ بأُفـقـه
أجدَّ، لعرفانِ الصَّبا، يتنـفـس
تذكرَ روضاً من شوي وباقـرٍ،
تولته أحراسٌ من الذُّعر تُحرس
إذا انتابها من أذؤُبِ القفرِ طارقٌ
حثيث، إذا استشعر اللحظ يهمسُ
أزلُّ كسا جُثمانه مُـتـسـتـراً
طيالس سوُداً للدُّجى وهو أطلسُ
فدلَّ عليهِ لحظُ خبٍ مُـخـادعٍ،
فصاح فتيانُ الجن عند هذا البيت الأخير: زاه! وعلت أنف الناقة كآبةٌ، وظهرت عليه مَهابةٌ، واختلط كلامه، وبدا منه ساعتئذٍ بوادٍ في خطابه، رحمهُ لها من حضر، وأشفق عليه من أجلها من نظر.
صاحب أبي إسحاق بن حمام
وشمَّر لي فتًى، كان إلى جانبه، عن ساعدٍ، وقال لي: وهل يضُرُّ قريحتك، أو ينقُص من بديهتك لو تجافيت لأنف الناقة، وصبرت له؟ فإنه على علاَّته زيرُ علم، وزنبيلُ فهم، وكنفُ رواية. فقلت لزهير: من هذا؟ فقال: هو أبو الآداب صاحب أبي إسحاق بن حُمامٍ جارل. فقلت: يا أبا الآداب، وزهرة ريحانةِ الكُتاب، رفقاً على أخيك بغرب لسانك، وهل كان يُضُرُّ أنف الناقة، أو ينقص من علمه، أو يُفلُّ شفرة فهمه، أن يصبر لي على زلةٍ تمرُّ في شعرٍ أو خُطبة، فلا يهتفُ بها بين تلاميذه، ويجعلها طرمذةً من طراميذه؟ فقال: إنَّ الشيُوخَ قد تهفو أحلامهم في النَّدرة. فقلت: إنها المرَّةُ بعد المرَّة.
ثم قال لي الأستاذان عُتبةُ بن أرقم، وأبو هُبيرة صاحب عبد الحميد: إنا لنخبطُ منك ببيداء حيرة، وتُفتقُ أسماعنا منك بعبرة، وما ندري أنقولُ: شاعرٌ أم خطيب؟ فقلتُ: الإنصاف أولى، والصَّدعُ بالحق أحجى ولا بُدَّ من قضاء. فقالا: اذهب فإنك شاعرٌ خطيب. وانفضَّ الجمع والأبصارُ إليَّ ناظرة، والأعناق نحوي مائلة.
====================
مجلس أدب
وحضرتُ أنا أيضاً وزهيرٌ مجلساً من مجالسِ الجن، فتذاكرنا ما تعاورته الشعراْ من المعاني، ومن زاد فأحسن الأخذ، ومن قصر. فأنشد قول الأفوه بعضُ من حضر:
وترى الطّيرَ على آثارنا
رأي عينٍ ثقةً أن ستُمار
وأنشد آخر قول النابغة:
إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهـم
عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصـائب
تراهنَّ خلف القوم خُزراً عُيونها
جُلوسَ الشيوخِ في ثيابِ المرانبِ
جوانِحَ، قد أيقـنَّ أنَّ قـبـيلـهُ،
إذا ما التقى الجيشانِ، أوَّلُ غالبِ
وأنشد آخرُ قول أبي نُواس:
تتأيَا الطّيرُ غـدوتـهُ
ثِقةً بالشِّبعِ من جزره
وأنشد آخرُ قول صريع الغواني:
قد عوَّد الطّير عاداتٍ وثقنَ بها
فهُنَّ يتبعنهُ في كل مُرتـحـلِ
وأنشد آخرُ قول أبي تمام:
وقد ظُلّلَتْ عِقبانُ أعلامهِ ضُحًى
بِعِقبانِ طيرٍ في الدِّماء نواهـلِ
أقامت مع الرَّاياتِ حتى كأنّهـا
من الجيشِ، إلاَّ أنها لم تقابـلِ
فقال شمردلُ السَّحابي: كلهم قصر عن النابغة، لأنه زاد في المعنى ودلَّ على أنَّ الطير إنما أكلت أعداء الممدوح، وكلامهم كلهم مشترك يحتمل أن يكون ضدَّ ما نواه الشاعر، وإن كان أبو تمام قد زاد في المعنى. وإنما المحسنُ المتخلّص المتنبي حيثُ يقول:
لهُ عسكـراً خـيلٍ إذا رمـي
بها عسكراً لم تبق إلاَّ جماجمه
وكان بالحضرةِ فتىً حسنُ البزَّة، فاحتدَّ لقول شمردل، فقال: الأمرُ على ما ذكرت يا شمردل، ولكن ما تسأل الطيرُ إذا شبعت أيُّ القبيلين الغالب؟ وأما الطيرُ الآخر فلا أدري لأي معنًى عافت الطيرُ الجماجم دونَ عظام السُّوق والأذرُع والفقارات والعصاعص؟ ولكنَّ الذي خلّص هذا المعنى كلّه، وزاد فيه، وأحس التركيب، ودلَّ بلفظةٍ واحدةٍ على ما دلَّ عليه شعرُ النابغة وبيتُ المتنبي، من أن القتلى التي أكلتها الطيرُ أعداءُ الممدوح، فاتكُ بنُ الصَّقعب في قوله:
وتدري سباعُ الطيرِ أنَّ كُماتـهُ،
إذا لقيت صيدَ الكُماةِ، سـبـاعُ
لهُنَّ لُعابٌ في الهواء وهـزَّةٌ،
إذا جدَّ بين الدَّرعـين قـراعُ
تطيرُ جياعاً فوقـهُ وتـردُّهـا
ظُباهُ إلى الأوكار وهي شبـاعُ
تملك بالإحسانِ ربقةَ رِقـهـا،
فهُنَّ رقيقٌ يُشـتـرى ويُبـاعُ
وألحمَ من أفراجها فهي طوعهُ،
لدى كل حربٍ، والمُلوكُ تُطاعُ
تُماصعُ جرحاها فيُجهزُ نقرها
عليهم، وللطّير العتاقِ مِصـاعُ
فاهتزَّ المجلسُ لقوله، وعلموا صدقه. فقلتُ لزهير: من فاتك بن الصَّقعب؟ قال: يعني نفسه. قلت له: فهلاَّ عرَّفتني شأنه منذ حين؟ إني لأرى نزعاتٍ كريمة؟ وقمتُ فجلست إليه جِلسة المعظِّم له. فاستدار نحوي، مُكرماً لمكاني، فقلت: جُد أرضنا، أعزَّك الله، بسحابك، وأمطرنا بعيونِ آدابك. قال: سل عما شئت. قلتُ: أيُّ معنى سبقك إلى الإحسان فيه غيرُك، فوجدته حين رُمته صعباً إلا عليك أنك نفذت فيه؟ قال: معنى قول الكندي:
سموتُ إليها بعدما نام أهلها،
سموَّ حباب حالاً على حالِ
قلتُ: أعزَّكَ الله، هو من العُقم. ألا ترى عُمر بن أبي ربيعة، وهو من أطبع الناس، حين رام الدُّنُوَّ منه والإلمام به، كيف افتضح في قوله:
ونفضتُ عني النّوم أقبلتُ مشيةَ ال
حُبابِ، ورُكني خيفةَ القومِ أزورُ
قال: صدقت، إنه أساء قسمة البيت، وأراد أن يُلطف التَّوصُّل، فجاء مُقبلاً بُركت كركنه أزور. فأعجبني ذلك منه، وما زلتُ مقدِّماً لهذا المعنى رجلاً، ومؤخرِّاً عنه أُخرى، حتى مررتُ بشيخٍ يُعلمُ بنياً له صناعة الشّعر وهو يقول له: إذا اعتمدت معنًى قد سبقك إليه غيرُك فأحسن تركيبه، وأرقَّ حاشيته فاضرب عنه جُملة. وإن لم يكن بُدّ ففي غير العروض التي تقدَّم إليها ذلك المحسنُ، لتنشط طبيعتُك طبيعتُك، وتقوى مُنَّتُك.
فتذكرتُ قول الشاعر وقد كنتُ أنسيته:
لما تسامى النّجمُ في أفقهِ
ولاحت الجوزاءُ والمِرزمُ
أقبلتُ والوطء خفيفٌ كما
ينسابُ من مكمنه الأرقمُ
فعلمتُ أنه صدق؛ وابن أبي ربيعة لو ركب غير عروضه لخلص. فقلتُ أنا في ذلك:
ولما تمَّلأ مـن سًـكـرهِ
فنام، ونامت عيونُ العسس
دوتُ إليه، على بُـعـده،
دُنُوَّ رفيقٍ ما الـتـمـس
أدبٌّ إليه دبيب الـكـرى،
وأسمو إليه سموَّ النفـس
وبتُّ به ليلتي نـاعـمـاً،
إلى أن تبسمَّ ثغرُ الغلـس
أقبلُ منه بياض الـطُّـلا،
وأرشيفُ منه سواد اللَّعس
فقمتُ وقبلتُ على رأسه، وقلت: لله درُّ أبيك! فقال لي فاتكُ بن الصَّقعب: فهل جاذبتَ أنتَ أحداً من الفحول؟ قلتُ: نعم قول أبي الطّيب:
أأخلعُ عن كتفـي وأطـلـبـهُ،
وأتركُ الغيث في غمدي وأنتجعُ؟
قال لي: بماذا قلتُ: بقولي:
ومن قُبةٍ لا يدركُ الطَّرفُ رأسهـا،
تزلُّ بها ريحُ الصَّـبـا فـتـحـدَّرُ
إذا زاخمت منها المخارم صـوَّبـت
هُوياً، على بُعد المدى، وهي تجـأرُ
تكلفتُها، والليلُ قد جـاش بـحـرُه،
وقد جعلت أمواجهُ تـتـكـسـرُ،
ومن تحت حضني أبيضٌ ذو سفاقس،
وفي الكف من عسالة الخط أسمـرُ
هما صاحباي من لدّن كُنتُ يافـعـاً،
مُقيلانِ من جدّ الفتى حين يعـثـرُ
فذا جدولٌ في الغمد تُسقى به المُنى،
فقال: والله لئن كان الغيثُ أبلغ، فلقد زدت زيادة مليحة طريفة، واخترعت معاني لطيفة. هل غيرُ هذا؟ فقلتُ: وقوله أيضاً:
وأظمأ فلا أُبدي إلى الماء حاجةٌ
وللشمسِ فوق اليعملاتِ لُعابُ
قال: بماذا؟ قلتُ: بقولي:
ولـــم أنـــس بـــالـــنّـــاوُوس الأُلــــــى
بهـا أينُـنـا مـحـبُـوبـهــا وحـــبـــابُـــهـــا
وفـتـية ضـربٍ مـــن زنـــاتة، مـــمـــطـــرٍ
بوبـل الـمـنـايا طـعـنـهـــا وضـــرابُـــهـــا
وقـفـنـا عـلـى جـمـرٍ مـن الــمـــوت وقـــفةً،
صلـيُّ لــظـــاه دابُ قـــومـــي ودابُـــهـــا
فصاح صيحةً منكرةً من صياح الجنِّ كاد ينخب لها فؤادي فزعاً، والله، منه! وكان بنجوةٍ منا جنيٌّ كأنه هضبة لركتنته وتقبضه، يحدِّق في دُونهم، يرميني بسهمين نافذين، وأنا ألوذُ بطرفي عنه، وأستعيذُ بالله منه، لأنه ملأ عيني ونفسي. فقال لي لما انتهيتُ، وقد استخفهُ الحسد: على من أخذت الزَّمير؟ قلتُ: وإنما أنا نفاخٌ عندك منذ اليوم؟ قال: أجل! أعطنا كلاماً يرعى تلاعَ الفصحاحة، ويستحمُّ بماء العُذوبة والبراعة، شديد الأسر جيد النّظام، وضعه على أي معنًى شئت. قلت: كأي كلام؟ قال: ككلام أبي الطّيب:
نزلنا على الأكوارِ نمشي كرامةً
لمن بان عنه، أن نُلمَّ به ركبا
نذمُّ السحاب الغُرَّ في فعلها به،
ونُعرضُ عنها، كلما طلعت، عتبا
وكقوله:
أرأيتَ أكبر همةً من ناقتي،
حملت يداً سُرحاً وخفقاً مُجمرا
تركت دُخان الرِّمث في أوطانها،
طلما لقوم يوقدون العنبرا
وتكرَّمن رُكباتُها عن مبركٍ
تقعان فيه، وليس مسكاً أذفرا
فأتتك دامية الأظل كأنما
حُذيت قوائمها العقيق الأحمرا
وكقوله:
على كل طاوٍ تحت طاوٍ كأنما
من الدَّمِ يُسقى أو من اللّحمِ يُطعمُ
لها تحتهُم ريُّ الفوارسِ فوقها،
فكلُّ حصانٍ دارعٌ مُتلثَّمُ
وما ذاك بُخلاً بالنُّفوسِ على القنا،
ولكنَّ صدم الشرّ بالشرّ أحزمُ
فأدَّني والله بما قرع به سمعي، وقلت له: أيُّ ماء لو كان من جمامك واستهلت به عينُ غمامك! ثم استقدمتُ فأنشدته:
ولرُبَّ ليلٍ للهمومِ تهدَّلت
أستارُه فحما الصُّوى بستُورهِ
كالبحر يضربُ وجههُ في وجههِ،
صعبٌ على العُبار وجهُ عُبورهِ
طاولته من عزمي بُمضبَّرٍ،
أثبتُّ همي في قرارةِ كورهِ
وعلىَّ للصَّبر الجميل مُفاضةٌ،
تلقى الرَّدى، فتكلُّ دون صبوره
وبرتحتي من فكرتي ذو ذُكرةٍ،
عُهدت تُذاكرُني بطبعِ ذكيرهِ
فزاداً، إذا بعثت دياجي جنحهِ
هولاً عليَّ، خبطتُ في ديجُورهِ
حتى بدا عبدُ العزيزِ لناظري
أملي، فمزَّقت التُّجى عن نُورهِ
وأنشدته:
الله في أرضِ غذيتَ هواءها،
وعصابةٍ لم تتهم إشفاقها
نكزتهُمُ أفعى الخُطُوبِ، وعُوجلُوا
بُمثَّلٍ منها، فكن درياقها
وافتح مغالقها بعزمةِ فيصلٍ،
لو حاولت سوق الثُّريا ساقها
ولو أنها منه، إذا ما استلها،
تتعرضُ الجوزاءُ، حلَّ نطاقها
وأنشدتُه:
لا تبكينَّ من اللّيالي أنها
حرمتك نغبة شاربٍ من مشربِ
فأقلُّ ما لك عندها سيفُ الرَّدى،
يُستلُّ من شعرِ القذالِ الأشيبِ
ورحيلُ عيشك كلَّ رحلةِ سلعة،
وفناءُ طيبكَ في الزَّمان الأطيبِ
فإذا بكيت فبكِّ عُمرك، إنهُ
زجلُ الجناحِ يًمرُّ مرَّ الكوكبِ
وأنشدته:
ولم أر مثلي ما له من مُعاصرِ،
ولا كمضائي ما لهُ من مُضافرِ
ولو كان لي في الجو كسرٌ أؤمُّهُ،
ركبتُ إليه ظهر فتخاءَ كاسرِ
وهمت بإجهاشٍ علَّ، وقد رأت
بي في آثار إحدى الكبائر
فقلتُ لها: إن تجزعي من مُخاطرٍ،
نك لن تحظي بغيرِ المخاطرِ
شت ثمار الوفر مني، وإنها
لدى كل مُبيضّ العنانيز وافرِ
له في بياضِ اليومِ يقظةُ فاجر،
وتحت سواد الليل هجعةُ كافرِ
رويدك، حتى تنظري عمَّ تنجلي
غيابةُ هذا العارضِ المُتناثرِ
ودون اعتزامي هضبةٌ كسرويةٌ،
من الحزمِ، سلمانيةٌ في المكاسر
إذا نحنُ أسندنا إليها، تبلجت
مواردُنا عن نيِّراتِ المصادرِ
وأنت، ابن حزمٍ، منعشٌ من عثارها
إذا ما شرقنا بالجدودِ العوائر
وما جرَّ أذيال الغنى نحو بيته
كأروع معرورٍ ظهور الجرائرِ
إذا ما تبغي نضرة العيش كرَّها،
لدى مشرعٍ للموت، لمحة ناظرِ
فسلَّ من التأويلٍ فيها مهنداً
أخو شافعياتٍ كريمُ العناصرِ
لِمُعتزليّ الرَّأي، ناءِ عن الهُدى،
بعيد المرامي، مُستمينِ البصائرِ
يُطالبُ بالهنديّ في كل فتكةٍ
ظُهُور المذاكي عن ظُهورِ المنابرِ
وأنشدته:
وقالت النفسُ لما أن خلوتُ بها،
أشكو إليها الهوى خلواً من النِّعمِ:
تامَ أنت على الضرَّاء مُضطجعٌ،
مُعرِّسٌ في ديار الظُّلمِ والظُّلمِ؟
وفي السُّرى لك، لو أزمعت مرتحلاً،
برءٌ من الشوق، أو برءٌ من العدم
ثم استمرَّت بفضل القولِ تُنهضي،
فقلتُ: إني لأستحيي بني الحكم
المُلحفين رداء الشمس مجدهمُ،
والمنعلين الثُّريا أخمص القدمِ
ألمتُ بالحُبّ، حتى لو دنا أجلى،
لما وجدتُ لطعم الموت من ألم
وزادني كرمي عمن ولهتُ به،
ويلي من الحبّ، أو ويلي من الكرمِ
تخوَّنتني رجالٌ طالما شكرت
عهدي، وأثنت بما راعيتُ من ذممِ
لئن وردتُ سُهيلاً غبَّ ثالثةٍ،
لتقرعنَّ عليَّ من ندم
هناك لا تبتغي غير السَّناءِ يدي،
ولا تخفُّ إلى غير العُلى قدمي
حتى راني في أدني مواكبهم،
على النَّعمامة شلاَّلاً من النَّعمِ
ريان من زفراتِ الخيلِ أوردُها
أمواه نيظة تهوي فيه باللُّجُمِ
قُدَّام من قوم وجدتُهمُ
أرعى لحقِّ العُلى من سالفِ الأمم
{{قصيدة1 ففتح عليَّ عينين كالماويتين ثم قال لي: من القائل:
طلعَ البدرُ علينا،
فحسبناهُ لبيبا
والتقينا، فرأينا
هُ بعيداً وقريبا
فيا من إذا رام معنى كلامي،
رأى نفسهُ نُصبَ تلك المعاني
شكوتُ إليك صروف الزَّمانِ،
فلم تعدُ أن كنت عون الزَّمان
وتقصرُ عن همتي قُدرتي
فيا ليتني لسوى من نماني
ولا غرو للحُرّ، عند المَضِيُ
قِِ، أن يتمنى وضيع الأماني
قلت: أخي قال: فمن القائل؟
صدودٌ، وإن كـان الـحـبـيبُ مُـســاعـــفـــاً،
وبـعـدٌ، وإن كـان الـــمـــزارُ قـــريبـــاً
ومـا فـتـئت تـلـك الــديارُ حـــبـــائبـــاً
لنـا، قـبـل أن نـلـقـى بـهـنَّ حــبـــيبـــا
ولو أسعفتنا بالمودَّةِ في الهوى، لأدنين إلفاً، أو شغلن رقيبا
وما كان يجفو ممرضي، غير أنه
|قلت: عمي. قال: فمن القائل؟
أتيناك، لا عن حاجةٍ عرضت لنا
إليك، ولا قلبِ إليك مـشـوقِ
ولكننا زُرنا بفضل حلـومـنـا
حماراً، تلقى برَّنا بـعُـقُـوقِ
قلت: جدي. قال: فمن القائل؟
ويلي علـى أحـور تـياه،
أحسن ما يلهُوه به الللاهي
أقبل في غيدٍ حكين الظِّبـا،
بيضِ تـراقِ أفـــواهِ
يأمرُ فيهنَّ وينـهـى، ولا
يعصينهُ من آمرٍ نـاهـي
حتى إذا أمكننـي أمـرهُ،
قلت: جدُّ أبي. قال: فمن القائل؟
ويح الكتابة من شيخٍ هبنَّـقةٍ،
يلقى العيون برأسٍ مخُّهُ رار
ومنتنِ الريحِ إن ناحيته أبـداً
كأنما مات في خيشُومه فارُ
قلتُ: أنا قال: والذي نفس فرعون بيده، لا عرضتُ لك أبداً، إني أراك عريقاً في الكلام. ثم قلَّ واضمحلَّ حتى إنَّ الخنفساء لتدوسُه، فلا يشغل رجليها. فعجبتُ منه، وقلت لزهير: من هذا الجني؟ فقال لي: استعذ بالله منه، إنه ضرط في عين رجلٍ فبدرت من قفاه، هذا فرعونُ ابن الجون. فقلتُ: أعوذُ بالله العظيم، من النار ومن الشيطان الرَّجيم! فتبسَّم زهيرٌ وقال لي: هو تابعةُ رجُل كبير منكم، ففهمتها عنه.
===========
لغة الحمير
ومشيتُ يوماً وزهير بأرض الجن أيضاً نتقرَّى الفوائد ونعتمدُ أندية أهل الآداب منهم، إذ أشرفنا على قرارةٍ غناء، تفنرُّ عن بركة ماء، وفيها عانةٌ من حُمُر الجن وبغالهم، قد أصابها أولق فهي تصطكُّ بالحوافر، وتنفُخ من المناخر، وقد اشتدَّ ضُراطُها، وعلا شحيجها وهاقها. فلما بصرت بنا أجفلت إلينا وهي تقول: جاءكم على رجليه! فارتعتُ لذلك، فتبسَّم زهيرٌ وقد عرف القصد، وقال لي: تهيأ للحكم. فلما لحقت بنا بد أني بالتفدية، وحيتني بالتكنية. فقلت: ما الخطبُ، حُمي حماك أيتها العانة، وأخصب مرعاك؟ قالت: شعران لحمارٍ وبغل من عشَّاقنا اختلفنا فيها، وقد رضيناك حكماً قلت: حتى أسمع. فقدَّمت إليَّ بغةٌ شهباء، عليها جلُّها وبرقُعها، لم تدخل فيما دخلت فيه العانةُ من سوء العجلة وسُخفِ الحركة، فقالت: أحدُ الشِّعرين لبغلٍ من بغالنا وهو:
علــى كـــل صـــب مـــن هـــواهُ دلـــيلُ:
سقـامٌ عـلـى حـر الـــجـــوى، ونُـــحُـــولُ
وما زال هذا الحبُّ داءً مُبرحاً، إذا ما اعترى بغلاً فليس يزولُ
بنفسي التي أما ملاحظُ طرفها
فسـحـــرٌ، وأمـــا خـــدُّهـــا فـــأســـيلُ
تعـبـتُ بـمـا حُـمـلـتُ مـن ثـقـل حُـبـــهـــا،
وإنـي لـبـغـلٌ لـلـــثـــقـــالِ حـــمُـــولُ
ومـا نـلـتُ مـنـهـا نـــائلاً غـــير أنـــنـــي
إذا هـي بـالـت بُــلـــتُ حـــيثُ تـــبُـــولُ
والشِّعر الآخرُ لدُكينٍ الحمار:
دُهيتُ بهذا الحب منـذُ هـويثُ،
وراثت إراداتي فلـسـتُ أريثُ
كّلفتُ بإلفي منذ عشرين حـجةً،
يجُولُ هواها في الحشا ويعـيثُ
ومالي من برحِ الصَّبابة مخلصٌ،
ولا لي من فيضِ السّقامِ مُغيثُ
وغير منها قلبها لـي نـمـيمةٌ،
نماها أحمُّ الخُصيتـينِ خـبـيثُ
وما نلتُ منها نائلاً، غير أنّـنـي
إذا هي راثـتُ حـيثُ تـروثُ
ففضحك زهيرٌ، وتماسكتُ، وقلتُ للمنشدة: ما هويتُ؟ قالت: هو هويبُ، بلغة الحمير. فقلت: والله، إن للرَّوثِ رائحة كريهةً، وقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعر! فقالت: فهمت عنك وأشارت إلى العانة أنَّ دُكيناً مغلوباً؛ ثم انصرفت قانعة راضية.
وقالت لي البغلة: أما تعرفني أبا عامر؟ قلت: لو كانت ثمَّ علامة! فأماطت لثامها، فإذا هي بغلةُ أبي عيسى، والخالُ على خدها، فتباكينا طويلاً، وأخذنا في ذكر أيامنا، فقالت: ما أبقيت منك؟ قلت: ما ترين. قالت: شبَّ عمرٌو عن الطوق! فما فعل الأحبة بعدي، أهم على العهد؟ قلتُ: شبَّ الغِلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرتِ الخلاَّن؛ ومن إخوانك من بلغ الإمارة، وانتهى إلى الوزارة. فتنفستِ الصُّعداء، وقالت: سقاهم الله سبل العهد، وإن حالوا عن العهد، ونسُوا أيام الود. بحرمة الأدب، إلاَّ ما أقرأتهم مني السلام؛ قلت: كما تأمرين وأكثر.
الإوزة الأدبية
وكانت في البركة بقُربنا إوزَّةٌ بيضاء شهلاء، في مثل جُثمانِ النّعامة، كأنما ذُرَّ عليها الكافور، أو لبست غلالةً من دمقس الحرير، لم أر أخفَّ من رأسها حركة، ولا أحسن للماء في ظهرها صباً، تثني سالفتها، وتكسر حدقتها، وتُلولبُ قمحدوتها، فترى الحُسن مستعاراً منها، والشكل مأخوذاً عنها، فصاحت بالبغلة: لقد حكمتُهم بالهور، ورضيتم من حاكمكم بغير الرّضا.
فقلتُ لزهير: ما شأنها؟ قال: هي تابعةُ شيخٍ من مشيختكم، تسمى العاقلة، وتُكنى أمَّ خفيف، وهي ذات حظٍ من الأدب، فاستعدَّ لها. فقلتُ: أيتها الإوزةُ الجميلة، العريضةُ الطويلة، أيحسنُ بجمال حدفتيك، واعتدال منكبيك، واستقامة جناحيك، وطول جيدك، وصغر رأسك، مقابلةُ الضَّيف بمثل هذا الكلام، وتلقي الطارئ الغريب بشبه هذا المقال؟ وأنا الذي همت بالإوزة صبابةً، واحتملت في الكلف بها عضَّ كل مقالة؛ وأنا الذي استرجعتها إلى الوطن المألوف، وحببتُها إلى كل غطريف، فاتخذتها السادة بأرضنا واستهلك عليها الظُّرفاء منا، ورضيت بدلاً من العصافير، ومُتكلمّات الزرازير، ونُسيت لذَّةُ الحمام، ونقارُ الدُّيوك، ونطاحُ الكباش.
فدخلها العُجبُ من كلامي، ثم رفعت وقد اعترتها خفةٌ شديدةٌ في مائها، فمرَّةً سابحة، ومرةً طائرة، تتغمسُ هنا وتخرجُ هناك، قد تقبب جناحاها، وانتصبت ذُناباها، وهي تُطرب تطريب السرور؛ وهذا الفعل معروفٌ من الإوز عند الفرح والمرح. ثم سكنت وأقامت عُنقها، وعرَّضت صدرها، وعلمت بمجدافيها، واستقبلتنا جائيةً كصدر المركب، فقالت: أيها الغارُّ المغرور، كيف تحكم في الفروع وأنت لا تُحكمُ الأصول؟ ما الذي تُحسن؟ فقلت: ارتجال شعر، واقتضابٌ خُطبة، على حُكم المقترح والنُّصبة. قالت: ليس عن هذا أسالُك. قلت: ولا بغير هذا أجاوبك. قالت حكم الجواب أن يقع على أصل السؤال، وأنا إنما أردتُ بذلك إحسان النّحو والغريبِ اللذين هما أصلُ الكلام، ومادَّةُ البيان. قلت: لا جوابَ عندي غير ما سمعت. قالت: أُقسم أنَّ هذا منك غير داخلٍ في باب الجدل. فقلت: وبالجدل تطلُبيننا وقد عقدنا سلمه، وكُفينا حربه، وإنَّ ما رميتكِ به منه لأنفذُ سهامه، وأحدُّ حرابه، وهو من تعاليم الله. عزَّ وجلَّ، عندنا في الجدل في مُحكم تنزيله. قالت: أُقسم أنَّ الله ما علمك الجدل في كتابة قلت: محمول عنك أمَّ خفيف، لا يلزمُ الإوزةَّ حفظُ أدب القرآن، قال الله، عزَّ وجلَّ، في مُحكم كتابه حاكياً عن نبيه إبراهيم، عليه السلام: "ربي الذي يُحيي ويُميتُ، قال: أنا أُحيي وأميت". فكان لهذا الكلام من الكافر جواب، وعلى وجوبه مقال؛ ولكنَّ النبيَّ، ﷺ، لما لاحت له الواضحةُ القاطعةُ، رماهُ بها، وأضرب عن الكلام الأول، قال: "فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فلهت الذي كفر" وأنا لا أُحسنُ غير ارتجال شعر، واقتضاب خُطبة، على حُكم المُقترح والنُّصبة، فاهتزَّت من جانبيها، وحال الماء من عينيها، وهمّت بالطيران. ثم اعتراها ما يعتري الإوزَّ من الألفة وحسن الرَّجعة، فقدَّمت عنُقها ورأسها إلينا نمشي نحونا رويداً، وتنطق نطقاً مُتداركاً خفياً، وهو فعل الإوز إذا أنست واستراضت وتذلَّلت؛ على أني أحبُّ الإوزَّ وأستظرفُ حركاتِها وما يعرِضُ من سخافاتها.
ثم تكلمتُ بها مبسبساً، ولها مؤنساً، حتى خالتتنا وقد عقدنا سلمها وكُفينا حربها، فقلت: يا أم خفيف، بالذي جعل غذاءك ماء، وحشا رأسك هواء، ألا أيما أفضل: الأدبُ أم العقل؟ قالت: بل العقل. قلتُ: فهل تعرفين في الخلائق أحمق من إوزَّة، ودعيني من مثلهم في الحُبارى؟ قالت: لا قلت: فتطلبي عقل التَّجربة، إذ لا سبيل لك إلى عقل الطبيعة، فإذا أحرزت منه نصيباً، وبؤتِ منه بحظ، فحينئذٍ ناظري في الأدب. فانصرفت وانصرفنا.
تمت الرسالة بحمد لله.