عليك رب الجبروت والقهر يا بلوجر بظلمك لي وحذفك لصفحات تدويني يا طالم وغبي .

فوضت أمري الي الله الجبار فيك يا بلوجر هو وحده اللي حيهدَّك باضطهادك لي وحذفك لصفحات مدوناتي ينتقم منك ربنا بظلمك لي يا أرعن يا مُحدث يا ظالم أنصحك أن تعرض نفسك علي طبيب نفسي حاذق ليخضعك لعلاج علة النقص والتعقيد التي أصابتك لا أدري من كم سنة ؟

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 2 فبراير 2024

1.الرد علي الجهمية وبيان طريقتهم {الجزء الاول}لابن تيمية --ج1.

 

الرد علي الجهمية وبيان طريقتهم {الجزء الاول}لابن


 تيمية  --ج1.


بسم الله الرحمن الرحيم

 

   قال أبو عبدالله محمد بن عمر الرازي الحمد لله الواجب وجوده وبقاؤه الممتنع تغيره وفناؤه العظيم قدره واستعلاؤه العميم نعماؤه وآلاؤه الدال على وحدانيته أرضه وسماؤه المتعالي عن شوائب التشبيه والتعطيل صفاته وأسماؤه فاستواؤه قهره واستيلاؤه ونزوله بره وعطاؤه ومجيئه حكمه وقضاؤه ووجهه وجوده أو وجوده وحباؤه وعينه حفظه وعونه اجتباؤه وضحكه عفوه أو إذنه وارتضاؤه ويده وإنعامه وإكرامه واصطفاؤه ولا يجري في الدارين من أفعاله إلا ما يريد ويشاؤه العظمة إزاره والكبرياء رداؤه أحمده على جزيل نعمه وجميل كرمه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد فإني وإن كنت ساكنا في أقاصي بلاد المشرق إلا أني سمعت أهل المشرق والمغرب مطبقين متفقين على أن السلطان المعظم العالم العادل المجاهد سيف الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين أفضل سلاطين الحق واليقين أبا بكر بن أيوب لا زالت آيات راياته في تقوية الدين الحق والمذهب الصدق متصاعدة إلى عنان السماء وآثار أنوار قدرته ومكنته باقية بحسب تعاقب الصباح والمساء أفضل الملوك وأكمل السلاطين في آيات الفصل وبينات الصدق وتقوية الدين القويم ونصرة الصراط المستقيم فأردت أن أتحفه بتحفة سنية وهدية مرضية فأتحفته بهذا الكتاب الذي سميته بأساس التقديس على بعد الدار وتباين الأقطار وسألت الله الكريم أن ينفعه به في الدارين بفضله وكرمه ورتبته على أربعة أقسام القسم الأول في الدلائل على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحيز وفيه فصول الفصل الأول في تقرير المقدمات التي يجب إيرادها قبل الخوض في الدلائل وهي ثلاثة المقدمة الأولى اعلم أنا ندعي وجود موجود لا يمكن أن يشار إليه بالحس أنه ههنا أو هناك أو نقول أنا ندعي وجود موجود غير مختص بشيء من الأحياز والجهات أو نقول إنا ندعي وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات الست التي للعالم هذه العبارات متفاوتة والمقصود من الكل شيء واحد ومن المخالفين من يدعي أن فساد هذه المقدمات معلوم بالضرورة وقالوا لأن العلم الضروري حاصل بأن كل موجودين فإنه لا بد وأن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه بجهة من الجهات الست المحيطة به قالوا وإثبات موجودين على خلاف هذه الأقسام السبعة باطل في بداية العقول واعلم أنه لو ثبت كون هذه المقدمة بديهية لم كن الخوض في ذكر الدلائل جائزا لأن على تقدير أن يكون الأمر على ما قالوه كان الشروع في الاستدلال على كون الله تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه بالجهة إبطالا للضروريات والقدح في الضروريات بالنظريات يقتضي القدح في الأصل بالفرع وذلك يوجب تطرق الطعن إلى الأصل والفرع معا وهو باطل بل يجب علينا بيان أن هذه المقدمة ليست من المقدمات البديهية حتى يزول هذا الأشكال فنقول الذي يدل على أن هذه المقدمات ليست بديهية وجوه الأول أن جمهور العقلاء المعتبرين اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا مختص بشيء من الجهات وأنه تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات ولو كان فساد هذه المقدمات معلوما بالبديهة لكان إطباق أكثر العقلاء على إنكارها ممتنعا لأن الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز إطباقهم على إنكار الضروريات بل نقول الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة ولا حالة في المتحيز مثل العقول والنفوس والهيولى بل زعموا أن الشيء الذي يشير إليه كل إنسان بقوله أنا موجود ليس بجسم ولا جسماني ولم يقل أحد بأنهم في هذه الدعوى منكرون للبديهيات بل جمع عظيم من المسلمين اختاروا مذهبهم مثل معمر بن عباد السلمي من المعتزلة ومثل محمد بن النعمان من الرافضة ومثل أبي القاسم الراغب وأبي حامد الغزالي من أصحابنا وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال بأن الله تعالى ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز قول مدفوع في بداية العقول ولا خارجه لم يقل أحد من العقلاء أنه معلوم بالضرورة وكذلك سائر لوازم هذا القول مثل كونه ليس بجسم ولا متحيز ونحو ذلك لم يقل أحد من العقلاء إن هذا النفي معلوم بالضرورة بل عامة ما يدعى في ذلك أنه من العلوم النظرية والعلوم النظرية لا بد أن تنتهي إلى مقدمات ضرورية وإلا لزم الدور القبلي والتسلسل فيما له مبدأ حادث وكل هذين معلوم الفساد بالضرورة متفق على فساده بين العقلاء وقال مما يبين أن هذه القضية حق أن جميع الكتب المنزلة من السماء وجميع الأنبياء جاؤوا بما يوافقها لا بنا يخالفها وكذلك سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يوافقون مقتضاها لا يخالفونها ولم يخالف هذه القضية الضرورية من له في الأمة لسان صدق بل أكثر أهل الكلام والفلسفة يقولون بموجبها وإنما خالفها طائفة من المتفلسفة وطائفة من المتكلمين كالمعتزلة ومن اتبعهم والذين خالفوها عقلاؤهم وعلماؤهم تناقضوا في ذلك وادعوا الضرورة في قضايا من جنسها وهي أبين منها ومن أنكر منهم ذلك أدى به الأمر إلى جحد عامة الضروريات والحسيات يبين ذلك أن الذين قالوا إن الخالق سبحانه ليس هو جسم ولا متحيز تنازعوا بعد ذلك هل هو فوق العالم أم ليس فوق العالم فقال طوائف كثيرة هو فوق العالم بل هو فوق العرش وهو مع هذا ليس بجسم ولا متحيز وهذا يقوله طوائف من الكلابية والكرامية والأشعرية وطوائف من أتباع الأئمة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث والصوفية وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل الحديث والسنة وقال طوائف منهم ليس فوق العالم ولا فوق العالم شيء أصلا ولا فوق العرش شيء وهذا قول الجهمية والمعتزلة وطوائف من متأخري الأشعرية والفلاسفة النفاة والقرامطة الباطنية أو أنه في كل مكان بذاته كما يقول ذلك طوائف من عبادهم ومتكلميهم وصوفيتهم وعامتهم ومنهم من يقول ليس هو داخلا فيه ولا خارجا عنه ولا حالا فيه وليس في مكان من الأمكنة فهؤلاء ينفون عنه الوصفين المتقابلين جميعا وهذا قول طوائف من متكلميهم ونظارهم والأول هو الغالب على عامتهم وعبادهم وأهل المعرفة والتحقيق منهم والثاني هو الغالب على نظارهم ومتكلميهم وأهل البحث منهم والقياس فيهم وكثير منهم يجمع بين القولين ففي حال نظره وبحثه يقول بسلب الوصفين المتقابلين كليهما فيقول لا هو داخل العالم ولا خارجه وفي حال تعبده وتألهه يقول بأنه في كل مكان ولا يخلو منه شيء وهذه المقالات فسادها معلوم بالضرورة العقلية وإن كان قد تواطأ عليها جماعة كثيرة فإن الجماعة الذين يقلدون مذهبا تلقاه بعضهم عن بعض يجوز اتفاقهم على جحد الضروريات كما يجوز الاتفاق على الكذب مع المواطئة والاتفاق ولهذا يوجد في أهل المذاهب الباطلة كالنصارى والرافضة والفلاسفة من يصر على القول الذي يعلم فساده بالضرورة وإنما الممتنع ما يمتنع على أهل التواتر وهو اتفاق الجماعة العظيمة على الكذب من غير مواطأة ولا اتفاق فيمتنع عليهم جحد ما يعلم ثبوته بالاضطرار وإثبات ما يعلم نفيه بالاضطرار لأن هذا اتفاق على الكذب وأهل التواتر لا يتصور منهم الكذب فأما إذا لقنوا قولا بشبهة وحجج واعتقدوا صحته جاز أن يصروا على اعتقاده وإن كان مخالفا لضرورة العقل وإن كانوا جماعة عظيمة ولهذا يطبع الله على قلوب الكفار فلا يعرفون الحق قال الله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقال تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال تعالى كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وإنما تؤخذ الضروريات من القلوب السليمة والعقول المستقيمة التي لم تمرض بما تقلدته من العقائد وتعودته من المقاصد وقال الشيخ قالت المثبتة إنما أثبته هؤلاء المتفلسفة من موجودات ممكنة ليست أجساما ولا أعراضا قائمة بالأجسام كالعقل والنفس والهيولى والصورة التي يدعون أنها جواهر عقلية موجودة خارج الذهن ليست أجساما ولا أعرضا لأجسام فإن أئمة أهل النظر يقولون إن فسادها هذا معلوم بالضرورة كما ذكر ذلك أبو المعالي الجويني وأمثاله من أئمة النظر والكلام ومن لم يهتد لهذا كالشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم فهم ناظروا الفلاسفة مناظرة ضعيفة ولم يثبتوا فساد أصولهم كما بين ذلك أئمة النظر الذين هم أجل منهم وسلم هؤلاء الفلاسفة مقدمات باطلة استزلوهم بها عن أشياء من الحق بخلاف أئمة أهل النظر كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي وأبي الحسين البصري وأبي عبدالله بن الهيصم الكرامي وأبي الوفاء علي بن عقيل ومن قبل هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وأبي الحسين الأشعري والحسن بن يحيى النوبختي ومن قبل هؤلاء كأبي عبدالله محمد بن كرام وابن كلاب وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وأبي إسحاق النظام وأبي الهذيل العلاف وعمرو بن بحر الجاحظ وهشام الجواليقي وهشام بن الحكم وحسين بن محمد النجار وضرار بن عمرو الكوفي وأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث وحفص الفرد وغير هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله من أئمة أهل النظر والكلام فإن مناظرة هؤلاء للمتفلسفة خير من مناظرة أولئك وهؤلاء وغيرهم لا يسلمون للفلاسفة إمكان وجود ممكن لا هو جسم ولا قائم بجسم بل قد صرح أئمتهم بأن بطلان القسم الثالث معلوم بالضرورة بل قد بين أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب إمام الصفاتية كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي عبدالله بن مجاهد وغيرهم من انحصار الموجودات في المباين والمحايث وأن قول من أثبت موجودا غير مباين ولا محايث معلوم الفساد بالضرورة مثل ما بين أولئك انحصار الممكنات في الأجسام وأعراضها وأبلغ وطوائف من النظار قالوا ما ثم موجود إلا جسم أو قائم بجسم إذا فسر الجسم بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي كما هو مستقر في فطر العامة وهذا قول كثير من الفلاسفة أو أكثرهم وكذلك أيضا الأئمة الكبار كالإمام أحمد في رده على الجهمية وعبدالعزيز المكي في رده على الجهمية وعبد العزيز المكي في رده على الجهمية وغيرهما بينوا أن ما ادعاه النفاة من إثبات قسم ثالث ليس بمباين ولا محايث معلوم الفساد بصريح العقل وأن هذه من القضايا البينة التي يعلمها العقلاء بعقولهم وإثبات لفظ الجسم ونفيه بدعة لم يتكلم به أحد من السلف والأئمة كما لم يثبتوا لفظ التحيز ولا نفوه ولا لفظ الجهة ولا نفوه ولكن أثبتوا الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة ونفوا مماثلة المخلوقات ومن نظر في كلام الناس في هذا الباب وجد عامة المشهورين بالعقل والعلم يصرحون بأن إثبات وجود موجود لا محايث للآخر ولا مباين ونحو ذلك معلوم بصريح العقل وضرورته ومما يوضح الأمر في ذلك أن النفاة ليس لهم دليل واحد اتفقوا على مقدماته بل كان كل طائفة تقدح في دليل الأخرى فالفلاسفة تقدح في دليل المعتزلة على نفي الصفات بل على نفي الجسم والتحيز ونحو ذلك لأن دليل المعتزلة مبني على أن القديم لا يكون محلا للصفات والحركات فلا يكون جسما ولا متحيزا لأن الصفات أعراض وهم يستدلون على حدوث الجسم بحدوث الأعراض والحركات وأن الجسم لا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث بل الأشعري نفسه ذكر في رسالته إلى أهل الثغر أن هذا الدليل الذي استدلوا به على حدوث العالم وهو الاستدلال على حدوث الأجسام بحدوث أعراضها هو دليل محرم في شرائع الأنبياء لم يستدل به أحد من الرسل وأتباعهم وذكر في مصنف له آخر بيان عجز المعتزلة عن إقامة الدليل على نفي أنه جسم وأبو حامد الغزالي وغيره من أئمة النظر بينوا فساد طريق الفلاسفة التي نفوا بها الصفات وبينوا عجزهم عن إقامة دليل على نفي أنه جسم بل وعجزهم عن إقامة دليل على التوحيد وأنه لا يمكن نفي الجسم إلا بالطريق الأول الذي هو طريق المعتزلة الذي ذكر فيه الأشعري ما ذكر فإذا كان كل من أذكياء النظار وفضلائهم يقدح في مقدمات دليل الفريق الآخر الذي يزعم أنه بنى عليه النفي كان في هذا دليل على أن تلك المقدمات ليست ضرورية إذ الضروريات لا يمكن القدح فيها وإن قيل إن هؤلاء قدحوا في هذه المقدمات قيل فإذا جوزتم على أئمة النفاة أن يقدحوا بالباطل في المقدمات الضرورية فا التي يستدل بها أهل الإثبات أولى وأحرى وقد بسط في غير هذا الموضع الكلام على أدلة النفاة ومقدمات تلك الأدلة على وجه التفصيل بحيث يبين لكل ذي عقل خروج أصحابها عن سواء السبيل وأنهم قوم سفسطوا في العقليات وقرمطوا في السمعيات ما ليس معهم على نفيهم لا عقل ولا سمع ولا رأي سديد ولا شرع بل معهم شبهات يظنها من لم يتأملها بينات كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ولهذا تغلب عليهم الحيرة والارتياب والشك والاضطراب وقد صارت تلك الشبهات عندهم مقدمات مسلمة يظنونها عقليات أو برهانيات وإنما هي مسلمات لما فيها من الاشتراك والاشتباه فلا تجد لهم مقدمة إلا وفيها ألفاظ مشتبهة فيها من الإجمال والالتباس ما يضل بها من يضل من الناس وكيف تكون النتيجة المثبتة بمثل هذه المقدمات دافعة لتلك القضايا الضروريات وهذا الذي قد نبه عليه في هذا المقام كلما أمعن الناظر فيه وفيما تكلم أهل النفي فيه ازداد بصيرة ومعرفة بما فيه فإنه لا يتصور أن يبني النفي على مقدمات ضرورية تساوى في جزم العقل بها مقدمات أهل الإثبات الجازمة لفساد نتيجتهم وهو قولهم إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه جزما لا يساويه فيه جزم العقل بالمقدمات التي تبنى عليها هذه النتيجة الثابتة امتنع أن يزول ذلك الجزم العقلي الضروري بنتيجة ليست مثله في الجزم وهذا الكلام قبل النظر في تلك المقدمات المعارضة لهذا الجزم هل هي صحيحة أو فاسدة وإنما المقصود هنا أنه لا يصح للمناظرة ولا يقبل في المناظرة أن يعارض هذا الجزم المستقر في الفطرة بما يزعمه من الأدلة النظرية وهذا المقام كاف في دفعه وإن لم تحل شبهاته كما يكفي في دفع السوفسطائي أن يقال إنما تنفيه قضايا ضرورية فلا يقبل نفيها بما يذكر من الشبهة النظرية قال أبو عبدالله الرازي الثاني أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يكون حالا في العالم ولا مباينا عنه في شيء من الجهات الست وعرضنا على العقل أيضا أن الواحد نصف الاثنين وأن النفي والإثبات لا يجتمعان وجدنا العقل متوقفا في المقدمة الأولى جازما في المقدمة الثانية وهذا التفاوت معلوم بالضرورة وذلك يدل على أن العقل غير قاطع في المقدمة الأولى لا بالنفي ولا بالإثبات غاية ما في الباب أنا نجد من أنفسنا ميلا إلى القول بأن كل ما سوى العالم لا بد وأن يكون حالا فيه أو مباينا عنه بالجهة والحيز إلا أنا نقول لما رأينا أن العقل لم يجزم بهذه المقدمة مثل جزمه بأن الواحد نصف الاثنين علمنا أنه غير قاطع بأن ما سوى العالم لا بد وأن يكون حالا فيه أو مباينا عنه بالجهة بل هو مجوز لنقيضه وإذا ثبت هذا فنقول إن ذلك الظن إنما حصل بسبب أن الوهم والخيال لا يتصرفان إلا في المحسوسات فلا جرم كان من شأنهما أنهما يقضيان على كل شيء بالأحكام اللأئقة بالمحسوسات فهذا الميل إنما جاء بسبب الوهم والخيال لا بسبب العقل البتة وقال الشيخ وأما قوله إن التقسيم إلى مباين ومحايث لا يعلم فساده كما لا يعلم فساد أن الواحد نصف الاثنين فنقول إن القضايا الضرورية ليس من شرطها أن تكون مفرداتها بينة لكل أحد بل شرطها أن تكون مفرداتها إذا تصورت جزم العقل بها وتصور الواحد نصف الاثنين بين لكل أحد فلهذا كان التصديق التابع له أبين من غيره ولهذا لم يكن هذا في العقل كبيان أن خمسة وخمسين وربعا وثمنا نصف مائة وعشرة ونصف وربع وكلاهما ضروري ونظائر هذا كثيرة ومعنى المباين والمحابين ليس بينا ابتداء إذ اللفظ فيه إجمال كما تقدم ولكن إذا بين معناه لأهل العقل جزموا بانتفاء قسم ثالث كما أن معنى القديم والمحدث والواجب والممكن والجوهر والعرض ونحو ذلك لما لم يكن بينا بنفسه لعامة العقلاء لم يجزموا بانحصار الموجود في هذين القسمين فإذا بين لهم المعنى جزموا بذلك فإذا قيل للعقلاء موجودان قائمان بأنفسهما لا يكون هذا خارجا عن الآخر مباينا له ولا داخلا فيه ولا بعيدا ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه ولا يتصور أن يشير أحدهما إلى الآخر ولا يذهب إليه ولا يقرب منه ولا يبعد عنه ولا يتحرك إليه ولا عنه ولا يقبل إليه ولا يعرض عنه ولا يحتجب عنه ولا يتجلى له ولا يظهر لعينه ولا يستتر عنه وأمثال هذه المعاني التي يقولها النفاة علم العقلاء بالاضطرار امتناع وجود هذين قال أبو عبد الله الرازي الثالث أنا إذا قلنا الموجود إما أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز أولا متحيزا ولا حالا في المتحيز وجدنا العقل قاطعا بصحة هذا التقسيم ولو قلنا الموجود إما أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز واقتصرنا على هذا القدر علمنا بالضرورة أن هذا التقسيم غير تام ولا منحصر لأنه لا يتم إلا بضم القسم الثالث وهو أن يقال وإما أن لا يكون متحيدا ولا حالا في المتحيز وإذا كان الأمر كذلك علمنا بالضرورة أن احتمال هذا القسم وهو وجود موجود لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز قائم في العقول من غير مدافعة ولا منازعة وأنه لا يمكن الجزم بنفيه ولا بإثباته إلا بدليل منفصل وقوله إذا قدر موجود ليس بمتحيز ولا في جهة يصح فيه هذا التقسيم فيقال له ثبوته على هذا التقدير لا يقتضي ثبوته في نفس الأمر إلا أن يكون التقدير ثابتا في نفس الأمر وهذا التقسيم ينفي ثبوت هذا التقدير في نفس الأمر وإذا كان التقسيم معلوما بالاضطرار كان من لوازم ذلك انتفاء هذا التقدير فلا يقبل إثبات هذا التقدير بالنظر لأن ذلك يتضمن القدح في الضروري بالنظري وإذا لم يكن إلى إثبات هذا التقدير سبيل لم يضر فساد التقسيم بتقدير ثبوته لأن ذلك يتضمن فساد التقسيم بتقدير ثبوت ما لم يثبت ولا يمكن إثباته وأيضا فلو قدر أن إثبات هذا التقدير ممكن كان هذا من باب المعارضة لا من باب منع شيء من المقدمات والمعارضة تحتاج إلى إقامة الدليل ابتداء وصار هذا الاعتراض بمنزلة أن يقال إذا قدر موجد ليس بقديم ولا محدث لم يصح تقسيم الموجود إلى محدث وقديم وإذا قدر موجود ليس بواجب ولا ممكن ولا قائم بغيره لم يصح تقسيم الموجود إلى الواجب والممكن والقائم بنفسه والقائم بغيره ومعلوم أن التقسيم المعلوم بالاضطرار لا يفسد بتقدير نقيضه أو ما يستلزم نقيضه وإنما يفسد التقسيم بثبوت ما يناقضه فإذا كان المناقض لا يعلم إلا بالنظر لم يصح أن يكون مناقضا فعلم أن هذا من باب معارضة الضروري بالنظري فلا يكون مقبولا ولا يكون حقا وهذا كما قال القرمطي الباطني لا أقول هو موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز لأن ذلك من صفات الأجسام فإن الجسم ينقسم إلى حي وميت وعالم وجاهل وقادر وعاجز وموجود ومعدوم فإذا قدرنا ما ليس بجسم لم يكن عالما ولا جاهلا ولا قادرا ولا عاجزا ولا حيا ولا ميتا كان كلام القرمطي هذا بمنزلة كلام هؤلاء الجهمية أنه لا داخل العالم ولا خارجه وقول جهم والقرامطة من جنس واحد كما نقله عن الفريقين أصحاب المقالات وقالوا إنه لا يقال هو شيء ولا ليس بشيء فمن نفى عنه هذه المتقابلات التي لا بد للموجود من أحدهما لم يمكنه قطع القرامطة ولهذا كانت مناظرة هؤلاء للقرامطة مناظرة ضعيفة كما هو مبسوط في موضعه قال أبو عبدالله الرازي الرابع إنا نعلم بالضرورة أن أشخاص الناس مشتركة في مفهوم الإنسانية ومتباينة بخصوصياتها وتعيناتها وما به المشاركة غير ما به الممايزة وهذا يقتضي أن يقال الإنسانية من حيث هي إنسانية مجرد عن الشكل المعين فالإنسانية من حيث هي هي معقول مجرد فقد أخرج البحث والتفتيش عن المحسوس ما هو معقول مجرد وإذا كان كذلك فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات منزها عن لواحق الحس وعلائق الخيال قال الشيخ رحمة الله قالت المثبتة ما ذكرتموه من الحجج على إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه حجج سوفطائي أما الإنسانية المشتركة بين الأناسي ونحوها من الكليات فهذه لا يقال إنها موجودة خارج الذهن لا داخل العالم ولا خارجه فإنها أمور ثابتة في الذهن والتصور وإذا قيل إنها موجودة في الخارج فلا بد أن تكون عينا قائمة بنفسها أو صفة قائمة بالعين ولا ريب أنها لا توجد في الخارج كلية مطلقة بشرط ما هو معقول بشرط الإطلاق وإنما توجد في الخارج معينة مشخصة فقول القائل إن التفتيش يخرج من المحسوس ما هو معقول إن أراد به أنه معقول ثابت في العقل فما هو ثابت في العقل ليس هو الموجود في الخارج بعينه وإن أراد أن في المحسوس الموجود في الخارج أمرا معقولا ليس هو في الذهن فهذا باطل فليس في الإنسان المعين إلا ما هو معين وهو هذا الإنسان المعين بدنه وروحه وصفاته وهذا كله أمر معين مقيد مشخص ليس هو كليا ولا مطلقا الوجه العاشر قوله وإذا كان كذلك فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات منزها عن لواحق الحس وعلائق الخيال يقال له أنت الذي جعلته متخيلا لا حقيقة له في الخارج حيث جعلت وجوده من جنس وجود الأمور الذهنية التي لا توجد إلا في الذهن والخيال وهذا قول بأنه متخيل لا حقيقة له بمنزلة إلا فك المفترى والكذب المختلق فإن هذه الأمور كلها لها وجود في الذهن والخيال وليس لها حقيقة في الخارج وهذا هو التخيل المذموم وهو أن يتخيل العبد ما ليس له حقيقة موجودة وأما تخيل الأمور الموجودة مثلما يراه النائم في منامه من الرؤئيا المطابقة للخارج فهذا ليس بمذموم ولا معيب بل هو حق في بابه وأما تخيل الأمور الموجودة المحسوسة على ما هي عليه موجودة في الخارج فهذا حق باطنا وظاهرا وإنكار هذا سفطسة كإنكار المحسوسات الموجودة الوجه الحادي عشر قوله لواحق الحس أن عنى به أن الحس لا يلحقه أي لا يدركه ولا يحيط به فلا الحس يحيط به ولا العقل فلا اختصاص للحس بذلك وإن عنى أنه لا يحس أي لا يرى فهذا ممنوع باطل وهم لا يتظاهرون بإنكار ذلك وإن كانوا في الحقيقة موافقين لمن أنكره ولولا أن هذا ليس موضعه لذكرناه الوجه الثاني عشر أن قوله لواحق الحس وعلائق الخيال ظاهر لفظه هو ما يلحق الحس ولا يخلو أن يريد به نفي ما يلحق الحس أو المحسوس وما يتعلق بالخيال أو التخيل أو يريد به أنه لا يلحقه الحس ولا يتعلق به الخيال فإن أراد الأول وهو مقتضى اللفظ لزم في ذلك أن كلما يوصف به الحس أو المحسوس أو الخيال أو التخيل لا يوصف به ومعلوم أن ذلك يوصف بأنه موجود وثابت وحق ومعلوم ومذكور وموصوف ونحو ذلك مما لا نزاع في أن الله يوصف به وإن أراد الثاني وهو الذي أراده والله أعلم وإن كان قد قصر في دلالة اللفظ عليه كان مضمونه أنه لا يحس بحال فإن أراد به ما يستلزم أنه لا يرى ولا يسمع كلامه فهذا ممنوع وهو باطل وإن أراد به لا يكون كالمحسوسات في إدراك الحس له فيقال ولا هو كالمعلومات والمعقولات في تعلق العلم به فإن الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه كما قد بيناه في غير هذا الموضع الوجه الثالث عشر إن طوائف يفرقون بين كونه معقولا وكونه محسوسا حتى يقول النفاة منهم لا يعلم إلا بإشارة العقل وقد يقولون إنه من قسم الحقائق المعقولة دون المحسوسة ونحو ذلك فيقال هذا اللفظ فيه إجمال وإيهام فإن أرادوا أنه في الدنيا لا يعرف إلا بالقلب لا يشهد بالبصر الظاهر وغيره من الحواس فهذا حق لكن ما يعرفه القلب ويشهده القلب ويحسه القلب ونحو ذلك أعم من أن يكون معقولا محضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها ولم يتنازعوا إلا في رؤية النبي ﷺ وحده وإن نازع في غيره بعض من لم يعرف السنة ومذهب الجماعة من بعض المتكلمة وجهال المتصوفة ونحوهم وإن أراد أنه لا يرى في الدنيا والآخرة ولا يمكن رؤيته فهذا مذهب الجهمية والمعتزلة له في ذلك معروف وقد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها بل وبصرائح العقل بطلان هذا المذهب وإن أراد أنه من باب ما يعقله القلب من الأمور المعقولة التي لا يصح تكون محسوسة فيقال له المعقولات المحضة هي الأمور الكلية فإن الإنسان إذا أحس بباطنه أو بظاهره بعض الأمور كإحساسه بجوعه وعطشه ورضاه وغضبه وفرحه وحزنه ولذته وألمه وبما يراه ويسمعه بإذنه فتك الأمور أمور معينة موجودة فالعقل يأخذ منها أمرا مطلقا كليا فيعلم جوعا مطلقا وفرحا مطلقا وشما مطلقا وألما مطلقا ونحو ذلك فهذه الكليات معقولات محضة لأنه ليس في الخارج كليات حتى يمكن إحساسها والإحساس إنما يكون بالأمور الموجودة ولهذا قالوا إنه يعلم المعدومات قبل كونها عاما أما السمع والبصر فإنما يكون للموجود ومن قال إنه يرى وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضوع وإذا كان كذلك فمن أراد هذا المعنى جعله من باب الموجودات في الأذهان لا في الأعيان وهذا حقيقة قول الجهمية الذين يقولون إنه لا يمكن رؤيته وإحساسه فإن كل موجود قائ بنفسه يمكن رؤيته بل كل موجود يمكن إحساسه إما بالرؤية وإما بغيرها فما لا يعرف بشيء في المحسوس لم يكن إلا معدوما حتى إن الصور الذهنية يمكن إحساسها من حيث وجود ذاتها ولكن هي من جهة مطابقتها للمعدومات كلية والمطابقة لها إضافية فهذه معاني ينبغي أن يفطن لها قال أبو عبدالله الرازي الخامس أن كل ماهية فإنا إذا اعتبرناها بحدها وحقيقتها فإنا قد نعقلها حال غفلتنا عن الوضع والحيز فكيف والإنسان إذا كان مستغرق الفكر في تفهم أن حد العلم ما هو وحد الطبيعة ما هو فإنه في تلك الحالة يكون غافلا عن حقيقة الحيز والمقدار فضلا عن أن يحكم بأن تلك الحقيقة لا بد وأن تكون مختصة بمحل أو جهة وهذا يقتضي أنه يمكننا أن نعقل الماهيات حال ذهولنا عن الحيز والشكل والمقدار السادس وهو أن الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والروية في استخراج مسألة معضلة قد يقول في نفسه إني قد حكمت بكذا أو عقلت فحال ما يقول في نفسه إني عقلت كذا وحكمت بكذا يكون عارفا بنفسه إذ لو لم يكن عارفا بنفسه لامتنع منه أن يحكم على ذاته بأنه حكم بكذا أو عرف كذا مع أنه في تلك الحالة قد يكون غافلا عن معنى الحيز والجهة وعن معنى الشكل والمقدار فضلا عن أن يعلم كون ذاته في الحيز أو كون ذاته موصوفة بالشكل والمقدار فثبت أن العلم بالشيء قد يحصل عند عدم العلم بحيزه وشكله ومقداره وذلك يفيد القطع بأن الشيء المجرد عن الوضع والجهة يصح أن يكون معقولا السابع إنا نبصر الأشياء إلا أن القوة الباصرة لا تبصر نفسها وكذلك الخيالية تتخيل الأشياء إلا أن هذه القوة لا يمكنها أن تتخيل نفسها فوجود القوة الباصرة يدل على أنه لا يجب أن يكون كل شيء متخيلا وذلك يفتح باب الاحتمال المذكور قال شيخ الإسلام قلت قد تقدم الكلام على أصول هذا غير مرة من وجوه متعددة أحدها أن القصور عن معرفة الشيء غير العلم بانتفائه والمنازع له قال إني أعلم انتفاء موجود لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل إني قاصر أو عاجز عن معرفة وجوده الثاني أن قصور الوهم والخيال لا يستلزم قصور العلم والعقل والحس والمنازع له يقول إن ذلك لا يعلم بعقل ولا غيره فإذا كان غيره معقولا لم يجب أن يكون هذا معقولا فصل ثم قال أبو عبدالله الرازي الثامن إن خصومنا لا بد لهم من الاعتراف بوجود شيء على خلاف حكم الحس والخيال لأن خصومنا في هذا الباب إما الكرامية وإما الحنابلة أما الكرامية فإنا إذا قلنا لهم لو كان الله مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون مركبا وأنتم لا تقولون بذلك وإما أن يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ وأنتم لا تقولون بذلك فعند هذا الكلام قالوا إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف ومع هذا فإنه ليس بصغير ولا حقير فقوله خصومنا في هذا الباب إما الكرمية وإما الحنابلة ليس بسديد ولا سيما وهؤلاء الحنابلة الذين وصفهم إن كان لهم وجود فهم صنف من الحنابلة الموجودين في وقته أو قبله بأرض خراسان وغيرها ليسوا من أئمة علماء الحنابلة ولا أفاضلهم فإن هذه الألفاظ التي حكاها عن الحنابلة لا نعرفها عن أحد منهم كما سنذكره وكذلك هؤلاء الكرامية الذين حكى قولهم بعض الكرامية وإلا فكثير من الكرامية قد يخالفونه فيما حكاه عنهم بل خصومة في هذا الباب جميع الأنبياء والمرسلين وجميع أئمة الدين من الأولين جمع الأنبياء والمرسلين والتابعين والآخرين وجميع المؤمنين الباقين على الفطرة الصحيحة دع ما قد تنازع فيه من ذلك فإنهم لا يطلقون على الله هذا الإطلاق الذي ذكره وإن كان فيهم وفي سائر الطوائف من نص بالصفات التي يطلق عليها هو وأمثاله أنها أجزاء وأبعاض لكنهم لا يطلقون الألفاظ الموهمة المحتملة إلا إذا نص الشرع فأما ما لم يرد به الشرع فلا يطلقونه إلا إذا تبين معناه الصحيح الموافق للشرع ونفي المعنى الباطل كالفظ الأجزاء والأبعاض كما سنذكره إنشاء الله وما علمت أحدا من الحنابلة من يطلقه من غير بيان بل كتبهم مصرحة بنفي ذلك المعنى الباطل ومنهم من لا يتكلم في ذلك بنفي ولا إثبات فلا ريب أن الكتب الموجودة بأيدي الناس تشهد بأن جميع السلف من القرون الثلاثة كانوا على خلاف ما ذكره وأن الأئمة المتبوعين عند الناس والمشايخ المقتدى بهم كانوا على خلاف ما ذكره وهذه أئمة المالكية والشافعية والحنفية وأهل الحديث والصوفية على ذلك بل أئمة الصفاتية من الكلابية والكرامية واأشعرية على خلاف ما قاله فهذه كتب ابن كلاب إمام طائفته ثم الحارث المحاسبي ونحوه ثم أبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابه مثل عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الطبري وأبي العباس القلانسي وغيره كما سيأتي إن شاء الله حكاية قوله وقول غيره والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي علي بن شاذان وغيرهم كلهم يقولون بإثبات العلو لله على العرش واستوائه عليه دون ما سواه ويضللون من يفسر ذلك بالاستيلاء والقهر ونحوه كما قد حكينا بعض أقوالهم في جواب الاستفتاء وفي جواب هذه المسائل الموردة عليه وذكرنا أن أبا الحسن الأشعري ذكر أن هذا قول جميع أهل السنة والحديث وبه يقول الرازي وهو قد حكى أيضا في كتبه ذلك عن بعض أئمة أصحابه وذكر للأشعري نفسه قولين وقد تكلمنا على ذلك فكيف يزعم أن خصومه إنما هم الكرامية والحنابلة بل لم يوافقه إلا فريق قليل من أهل القبلة حتى حذاق الفلاسفة فإنهم من خصومه في هذا الباب كما ذكر القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد الفيلسوف مع فرط اعتنائه بالفلسفة وتعظيمه لها ومعرفته بها حتى يأخذها من أصولها فيقرأ كتب أرسطو وذويه ويشرحها ويتكلم عليها ويبين خطأ من خالفهم مثل ابن سينا وذويه وصنف كتبا متعددة مثل كتاب تهافت التهافت في الرد على أبي حامد فيما رده على الفلاسفة في كتاب تهافت الفاسفة وكتاب تقرير المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة في الاتصال وغير ذلك قال في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة على الأصولية وقد ضمن هذا الكتاب بيان الاعتقاد الذي جاءت به الشريعة ووجوب إلقائه إلى الجمهور كما جاءت به الشريعة وبيان ما يقوم عليه من ذلك البرهان للعلماء كما يقوم به ما يوجب التصديق للجمهور وذكر فيه ما يوجب على طريقته أن لا يصرح به للجمهور وذكر فيه ما يوجب من الأمور التي قام عليها البرهان على طريقة ذويه كما ذكر أنه لا يصلح في الشريعة أن يقال إن الله جسم أو ليس بجسم مع أنه يقول في الباطن أن الله ليس بجسم ومع هذا فأثبت الجهة باطنا وظاهرا وذكر أنه قول الفلاسفة فقال فإن قيل فما تقول في صفة الجسمية هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق أو هي من الصفات المسكوت عنها فنقول إنه من البين من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غير ما آية من الكتاب العزيز وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذاك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق إلا أنها في الخالق أتم وجودا ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم والواجب عندي في هذه الصفة أن يجري فيها على منهاج الشرع فلا يصرح فيها بنفي ولا إثبات ويجاب من سأل عن ذلك من الجمهور بقوله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وينهى عن هذا السؤال وذلك لثلاثة معان أحدها أن إدراك هذا المعنى ليس هو قريبا من المعروف بنفسه برتبة واحدة ولا برتبتين ولا ثلاثة وأنت تتبين ذلك من الطريق التي سلكها المتكلمون في ذلك فإنهم قالوا إن الدليل على أنه ليس بجسم أنه قد تبين أن كل جسم محدث وإذا سئلوا عن الطريق التي بها يوقف على أن كل جسم محدث سلكوا في ذلك الطريق التي ذكرناها في حدوث الأعراض وأن مالا يتعرى من الحوادث حادث وقد تبين لك من قولنا أن هذه الطريقة ليست برهانية ولو كانت برهانية لما كان في طباع الغالب من الجمهور أن يصلوا إليها وأيضا فإن ما يصفه هؤلاء القوم من أنه سبحانه له ذات وصفات زائدة على الذات يوجبون بذلك أنه جسم أكثر مما ينفون عنه الجسمية بدليل انتفاء الحدوث عنه فهذا هو السبب الأول في أنه لم يصرح الشرع بأنه ليس بجسم وأما السبب الثاني فهو أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم فإذا قيل لهم إن ها هنا موجودا ليس بجسم ارتفع عنهم التخيل فصار عندهم من قبيل المعدوم ولا سيما إذا قيل إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا أسفل ولهذا اعتقدت الطائفة الذين أثبتوا الجسمية في الطائفة التي تنفيها عنه سبحانه أنها مثبتة واعتقدت الذين نفوها في المثبتة أنها مكثرة وأما السبب الثالث فهو أنه إذا صرح بنفي الجسمية عرضت في الشرع شكوك كثيرة مما يقال في المعاد وفي غير ذلك فمنها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة وذلك أن الذين صرحوا بنفيها أي بنفي الجسمية فرقتان المعتزلة والأشعرية فأما المعتزلة فدعاهم 2 هذا الاعتقاد إلى أن نفوا الرؤية وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين فعسر ذلك عليهم ولجئوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية سنرشد إلى الوهم الذي فيها عند الكلام في الرؤية ومنها أنه يوجب انتفاء الجهة من بادي الرأي عن الخالق سبحانه كونه ليس بجسم فترجع الشريعة متشابهة وذلك أن بعث الأنبياء ابتنى على أن الوحي نازل عليهم من السماء وعلى ذلك انبنت شريعتنا هذه أعني أن الكتاب العزيز نزل من السماء كما قال تعالى إنا أنزلناه في ليلة مباركة وابنبنى نزول الوحي من السماء على أن الله في السماء وكذلك كون الملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها كما قال إليه يصعد الكلم الطيب وقال تعرج الملائكة والروح إليه وبالجملة جميع الأشياء التي تلزم القائلين بنفي الجهة على ما سنذكره بعد عند التكلم في الجهة ومنها أنه إذا صرح بنفي الجسمية وجب التصريح بنفي الحركة فإذا صرح بنفي هذا عسر ما جاء في صفة الحشر من أن الباري يطلع على أهل المحشر وأنه الذي يلي حسابهم كما قال تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا وكذلك يصعب تأويل حديث النزول المشهور وإن كان التأويل إليه أقرب منه إلى أمر الحشر مع أن ما جاء في الحشر متواتر في الشرع فيجب أن لا يصرح للجمهور بما يؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها وأما إذا أولت فإنما يؤول الأمر فيها إلى أحد أمرين إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه من الشريعة فتتمزق الشريعة كلها وتبطل الحكمة المقصودة منها وإما أن يقال في هذه كلها إنها من المتشابهات وهذا كله إبطال للشريعة ومحو لها من النفوس من غير أن يشعر الفاعل لذلك بعظم ما جناه على الشريعة مع أنك إذا اعتبرت الدلائل التي احتج بها المتأولون لهذه الأشياء تجدها كلها غير برهانية بل الظواهر الشرعية أقنع منها أعني أن التصديق بها أكثر وأنت تتبين ذلك من قولنا في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجسمية وكذلك في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجهة على ما سنقوله بعد وقد يدلك على أن الشرع لم يقصد التصريح بنفي هذه الصفة للجمهور أن لمكان انتفاء هذه الصفة عن النفس أعني الجسمية لم يصرح الشرع للجمهور بما هي النفس فقال في الكتاب العزيز ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وذلك أنه يعسر البرهان عند الجمهور على وجود موجود قائم بذاته ليس بجسم ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور لاكتفى بذلك الخليل في محاجة الكافر حين قال ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت الآية لأنه كان يكتفي بأن يقول له أنت جسم والله ليس بجسم لأن كل جسم محدث كما يقول الأشعري وكذلك كان يكتفي بذلك موسى ﷺ عند محاجته لفرعون في دعواه الألوهية وكذلك كان يكتفي ﷺ في أمر الدجال في إرشاد المؤمنين إلى كذب ما يدعيه في الربوبية في أنه جسم والله ليس بجسم بل قال عليه السلام إن ربكم ليس بأعور فاكتفى بالدلالة على كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة التي ينتفي عند كل أحد وجودها ببديهة العقل في الباري سبحانه فهذه كلها كما ترى بدع حادثة في الإسلام هي السبب فيما عرض فيه من الفرق التي أنبأنا المصطفى ﷺ أنها ستفترق أمته إليها فإن قال قائل فإذا لم يصرح الشرع للجمهور لا بأنه جسم ولا بأنه غير جسم فما عسى أن يحاجوا به في جواب ما هو فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان وليس يقدر أن ينفك عنه وكذلك ليس يقنع الجمهور أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به أنه لا ماهية له لأن مالا ماهية له لا ذات له قلنا الواجب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع فيقال لهم إنه نور فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه العزيز على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته فقال الله نور السموات والأرض وبهذا الوصف وصفه النبي ﷺ في الحديث الثابت فإنه لما قيل له هل رأيت ربك قال نور أني أراه وفي حديث الإسراء أنه لما قرب ﷺ من سدرة المنتهى غشي السدرة من النور ما حجب بصره عن النظر إليها أو إليه سبحانه ففي مسلم أن لله حجابا من نور لو كشف لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره وفي بعض روايات هذا الحديث سبعين حجابا من نور وينبغي أن يعلم أن هذا المثال هو شديد المناسبة للخالق سبحانه لأنه يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه وكذلك الأوهام مع أنه ليس بجسم والموجود عند الجمهور إنما هو المحسوس والمعدوم عندهم غير المحسوس والنور لما كان أشرف المحسوسات وجب أن يمثل به أشرف الموجودات وهنا أيضا سبب آخر موجب أن يسمى به نور وذلك أن حال وجوده في عقول العلماء الراسخين في العلم عند النظر إليه بالعقل هي حال الأبصار عند النظر إلى الشمس بل حال عيون الخفافيش وكان هذا الوصف لائقا عند الصنفين من الناس وأيضا فإن الله تبارك وتعالى لما كان سبب الموجودات وسبب إدراكنا لها وكان النور مع الألوان هذه صفته أعني أنه سبب وجود الألوان بالفعل وسبب رؤيتنا له فالحق ما سمى الله تبارك وتعالى نفسه نورا وإذا قيل إنه نور لم يعرض شك في الرؤية التي جاءت في المعاد فقد تبين لك في هذا القول موجودا الاعتقاد الأول الذي في هذه الشريعة في هذه الصفة وما حدث في ذلك من البدعة وإنما سكت الشرع عن هذه الصفة لأنه لا يعترف بموجود في الغائب ليس بجسم إلا من أدرك ببرهان أن في المشاهد بهذه الصفة وهي النفس ولما كان الوقوف على معرفة هذا المعنى من النفس مما لا يمكن الجمهور فيهم أن يعقلوا وجود موجود ليس بجسم فلما حجبوا عن معرفة النفس علمنا أنهم حجبوا عن معرفة هذا المعنى من الباري سبحانه وتعالى قلت وقد تبين في هذا الكلام أنه في الباطن يرى رأي الفلاسفة في النفس أنها ليست بجسم وكذلك في الباري غير أنه يمنع أن يخاطب الجمهور بهذه لأنه ممتنع في عقولهم فضرب لهم أحسن الأمثال وأقربها كما ذكره في اسم النور وهذا قول أئمة الفلاسفة في أمثال هذا من الإيمان بالله واليوم الآخر وقد بين بالحجج الواضحة أن ما يذكره المتكلمون في النفي مخالف للشريعة وهو مصيب في هذا باطنا وظاهرا وقد بين أن ما يذكره المتكلمون في نفي الجسم على الله بحجج ضعيفة وبين فسادها وذكر أن ذلك إنما يعلم إذا علم أن النفس ليست جسما ومعلوم أن هذا الذي يشير إليه هو وأمثاله من المتفلسفة أضعف مما عابه على المتكلمين فإن المتكلمين أفسدوا حججهم هذه أعظم مما أفسدوا به حجج المتكلمين فيؤخذ من تحقيق الطائفتين بطلان حجج الفريقين على نفي الجسم مع أن دعوى الفلاسفة أن النفس ليست بجسم ولا توصف بحركة ولا سكون ولا دخول ولا خروج وأنه لا يحس إلا بالتصور لا غير يظهر بطلانه وكذلك قولهم في الملائكة وظهور بطلان قول هؤلاء أعظم من ظهور بطلان قول المتكلمين بنحو ذلك في الرب ثم قال القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعها على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى الرحمن على العرش استوى ومثل قوله تعالى وسع كرسيه السموات والأرض ومثل قوله تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ومثل قوله تعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ومثل قوله تعالى تعرج الملائكة والروح إليه الآية ومثل قوله تعالى أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي ﷺ حتى قرب من سدرة المنتهى وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية ونحن نقول إن هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة وبهذا نقول إن هذا كله غير لازم قال الرازي أما الكرامية فإذا قلنا لهم لو كان الله تعالى مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون مركبا وأنتم لا تقولون بذلك وإما أن يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ وأنتم لا تقولون بذلك فعند هذا الكلام قالوا إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف ومع هذا فإنه ليس بصغير ولا حقير ومعلوم أن هذا الذي التزموه مما لا يقبله الحس والخيال بل لا يقبله العقل أيضا لأن المشار إليه بحسب الحس أن حصل له امتداد في الجهات والأحياز كان أحد جانبيه مغايرا للجانب الثاني وذلك يوجب الانقسام في بديهة العقل وإن لم يحصل له امتداد في شيء من الجهات لا في اليمين ولا في اليسار ولا في الفوق ولا في التحت كان نقطة غير منقسمة وكان في غاية الصغر والحقارة فإذا لم يبعد عندهم التزام كونه غير قابل القسمة مع كونه عظيما غير متناه في الامتداد كان هذا جمعا بين النفي والإثبات ومدفوعا في بداية العقول قال الشيخ رحمه الله والجواب من وجوه أحدهما أن يقال لفظ المنقسم لفظ مجمل بحسب الاصطلاحات والمنقسم في اللغة العربية التي نزل بها القرآن هو ما فصل بعضه عن بعض كقسمة الماء وغيره بين المشتركين إلى أن قال فيختار المنازع منه جانب النفي فإن الله ليس بمنقسم وليس هو شيئين أو أشياء كل واحد منها في حيز منفصل عن حيز الآخر إلى أن قال وقد يريد الناس بلفظ المنقسم ما يمكن الناس فصل بعضه عن بعض وإن كان في ذلك فساد نهتنا عنه الشرعة كالحيوان الحي والأبنية فإن أراد بلفظ المنقسم ذلك فلا ريب أن كثيرا من الأجسام ليس منقسما بهذا الاعتبار فإن بني آدم يعجزون عن قسمته فضلا عن أن يقال إن رب العالمين يقدر العباد على قسمته وتفريقه وتمزيقه وهذا واضح وقد يراد بلفظ المنقسم ما يمكن في قدرة الله قسمته كالجبال وغيرها ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يقال إن الله يمكن قسمته وأنه قادر على ذلك وإن كان غير منقسم لا بالمعنى الأول ولا بالمعنى الثاني فقوله وإن لم يكن غير منقسم كان في الصغر بمنزلة الجوهر الفرد ليس بلازم حينئذ فإنما يوصف بأنه واحد في الأجسام كقوله وإن كانت واحدة فلها النصف ونحو ذلك جسم واحد وهو في جهة ومع ذلك ليس هو منقسما بالمعنى الأول وإن كان هذا فيما يقبل القسمة كالأشياء التي يقدر الناس على قسمتها وأن ما لا يقبل القسمة أولى بذلك وهذا ظاهر محسوس فإن أحدا لم ينازع في أن الجسم العظيم الذي لم يفصل بعضه عن بعض فيحصل في حيزين منفصلين أو لا يمكن ذلك فيه إذا وصف بأنه غير منقسم لم يلزم من ذلك أن يكون بقدر الجوهر الفرد بل قد يكون في غاية العظمة والكبر وهذا الذي قررناه من فصل بعضه عن بعض بحيث يكون كل بعض في حيزين منفصلين أو إمكان ذلك فيه فإن أحدا لم يقل إن الله منقسم بهذا الاعتبار وإن قال أريد بالمنقسم إن ما في هذه الجهة غير ما في هذه الجهة كما يقول إن الشمس منقسمة بمعنى إن حاجبها الأيمن غير حاجبها الأيسر والفلك منقسم بمعنى أن ناحية القطب الشمالي غير ناحية القطب الجنوبي وهذا هو الذي أراده فهذا مما تنازع الناس فيه فيقال له قولك إن كان منقسما كان مركبا وتقدم إبطاله تقدم الجواب عن هذا الذي سميته مركبا وتبين أنه لا حجة أصلا على امتناع ذلك بل بين أن إحالة ذلك تقتضي إبطال كل موجود ولولا أنه أحال على ما تقدم لما أحلنا عليه وتقدم بيان ما في لفظ التركيب والتحيز والغير والافتقار من الاحتمال وإن المعنى الذي يقصد منه بذلك يجب أن يتصف به كل موجود سواء كان واجبا أو ممكنا وإن القول بامتناع ذلك يستلزم السفسطة المحضة ويبين أن كل واحد يلزمه أن يقول بمثل هذا المعنى الذي سماه تركيبا حتى الفلاسفة وأن هذا المنازع يقول مثل ذلك في تعدد الصفات وإن ألزم الفلاسفة مثل ذلك وقول من يقول من هؤلاء ما يكون منقسما أو مركبا بهذا الاعتبار فإنه ل يكون واحدا أو لا يكون أحدا فإن الأحد الذي لا ينقسم خلاف لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ولغة العرب من تسمية الإنسان واحدا كقوله وإن كانت واحدة وقوله نحو من هذا فهو الذي يقطع الشغب والتنازع فإن هذه الشبهة هي أكبر وأكثر أصول المعطلة لصفات الرب بل المعطلة لذاته وهي عند التحقيق من أفسد الخيالات فصل قال الرازي وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض فيقال إن أردت بهذا الكلام أنهم وصفوه بلفظ الأجزاء والأبعاض وأطلقوا ذلك عليه من غير نفي للمعنى الباطل وقالوا إنه يتجزأ أو يتبعض وينفصل بعضه عن بعض فهذا ما يعلم أحد من الحنابلة يقوله هم مصرحون وإن أردت إطلاق لفظ البعض على صفاته في الجملة فهذا ليس مشهورا عنهم لا سيما والحنابلة أكثر اتباعا لألفاظ القرآن والحديث من الكرامية ومن الأشعرية بإثبات لفظ الجسم فهذا مأثور عن الصحابة والتابعين والحنبلية وغيرهم متنازعون في إطلاق هذا اللفظ كما سنذكره إن شاء الله وليس للحنبلية في هذا اختصاص ليس لهم قول في النفي والإثبات إلا وهو وما أبلغ منه موجود في عامة الطوائف وغيرهم إذ هم لكثرة الاعتناء بالسنة والحديث والاءتمام بمن كان بالسنة أعلم وأبعد عن الأقوال المتطرفة في النفي والإثبات وإن كان في أقوال بعضهم غلط في النفي والإثبات فهو أقرب من الغلط الموجود في الطرفين في سائر الطوائف الذين هم دونهم في العلم بالسنة والاتباع وإن أردت أنهم وصفوه بالصفات الخبرية مثل الوجه واليد وذلك يقتضي التجزئة والتبعيض أو أنهم وصوفه بما يقتضي أن يكون جسما والجسم متبعض ومتجزئ وإن لم يقولوا هو جسم فيقال له لا اختصاص للحنابلة بذلك بل هذا مذهب جماهير أهل الإسلام بل وسائر أهل الملل وسلف الأمة وأئمتها وفي الجملة فإثبات هذه الصفات هو مذهب الصفاتية من جميع طوائف الأمة مثل الكلابية وأئمة الأشعرية وهو مذهب الكرامية ومن المعلوم أن بين إثبات الأشعرية ونحوهم له وبين إثبات الكرامية ونحوهم له فرقا وكثير منهم ينفي ذلك ومنهم من لا ينفيه ولا يثبته ومنهم من أثبت ما جاء وهذا إمام طائفته أبي الحسن الأشعري وهو من أعلم الناس بمقالات أهل الكلام قد ذكر في غير موضع من كتبه أن هذا مذهب أهل السنة والحديث وقال إنه به يقول كما قد ذكرنا لفظه في غير هذا الموضع وهذه الكتب التي صنفها مصنفوهم كأبي الحسن التميمي وأهل بيته والقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الحسن ابن الزاغوني وذكروا فيها ما جرت عادة المتكلمة الصفاتية بذكره كأبي سعيد ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأمثالهما من إثبات الصفات ونفي التجسيم قد بينوا فيها ذلك كما بين هؤلاء ونحوهم هذه الصفات العينية الخبرية كالوجه واليدين وغيرهما ومن أشهر مصنفيهم في ذلك أبو الحسن ابن الزاغوني قال في كتابه الإيضاح في أصول الدين فصل وقد وصف الباري نفسه في القرآن بقوله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله 2115 - وقوله ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام 5527 وأمثال ذلك في الكتاب والسنة ويراد بذلك إثبات صفة تختص باسم يزيد على قولنا ذات وذهبت المعتزلة إلى أن المراد بالوجه الذات فأما صفة زائدة على ذلك فلا ولم يذكر خلافا مع الأشعرية لأن المشهور عنهم إثبات هذه الصفة قال والدلالة على ذلك أنه قد ثبت في عرف الناس وعاداتهم في الخطاب العربي الذي أجمع عليه أهل اللغة أن تسمية الوجه في أي محل وقع في الحقيقة والمجاز يزيد على قولنا ذات وأما في الحيوان فذلك مشهور حقيقة لا يمكن دفعه ولا يسوغ فيه غير ذلك وأما في مقامات المجاز فكذلك أيضا لأنه يقال فلان وجه القوم لا يراد به ذات القوم إذ ذوات القوم غيره قطعا ويقينا ويقال هذا وجه الثوب لما هو أجوده ويقال هذا وجه الرأي أي أصحه وأقومه وأتيت بالخبر على وجهه أي على حقيقته إلى أمثال ذلك مما يقال فيه الوجه فإذا كان هذا هو المستقر في اللغة وجب حمل هذه الصفة في حق الباري تعالى على ظاهر ما وضعت له وهو الصفة الزائدة على تسمية قولنا ذات وهذا جلي واضح قال وتمهيد هذا الكلام وتقريره أنه لا يجوز أن يقال وجه الله على ما قيل في وجه القوم أنه سيدهم والمعرب عنهم والمشار إليه دونهم لأن ذلك يقتضي بمثله في حق الله أن يقال سيد الله والمشار إليه وهذا في حقه محال ولا يجوز أن يراد به ما أريد من قولهم هذا وجه الثوب أي أحسنه وأجوده لما ذكرنا أيضا لأنه لا يجوز أن يضاف إلى ذاته ولا إلى غيره لأنه تعالى ليس موصوفا بالحسن والجودة ولا يجوز أن يراد به ما أريد بأنه وجه الرأي أنه صوابه لأنه لا يعبر بذات الله عن الصدق في الخبر والصحة في الرأي فإذا بطلت هذه الأقسام وجب أن تحمل على إثبات صفة هي الوجه التي يستحقها الحي قالوا إذا حملتم الأمر على هذا الظاهر وبطل أن يراد بها إلا الوجه الذي هو صفة يستحقها الحي فالوجه الذي يستحقه الحي وجه هو عضو وجارحة يشتمل على كمية تدل على الجزئية وصورة تثبت الكيفية فإن كان ظاهر الأوصاف عندكم إثبات صفة تفارق في الماهية وتقارب فيما يستحق بمثله الاشتراك في الوصف فهذا هو التشبيه بعينه وقد ثبت بالدليل الجلي إبطال قول المجسمة والمشبهة وما يؤدي إلى مثل قولهم فهو باطل قلنا الظاهر ما كان متلقى في اللفظ على طريق المقتضى وذلك مما يتداوله أهل الخطاب بينهم حتى ينصرف مطلقه عند الخطاب إلى ذلك عند من له أدنى ذوق ومعرفة بالخطاب العربي واللغة العربية وهذا كما نقول في ألفاظ الجموع وأمثالهم إن ظاهر اللفظ يقتضي العموم والاستغراق وكما نقوله في الأمر إن ظاهره الاستدعاء من الأعلى للأدنى يقتضي الوجوب إلى أمثال ذلك مما يرجع فيه إلى الظاهر في المتعارف فإذا ثبت هذا فلا شك ولا مرية على ما بينا أن الظاهر في إثبات صفة هو إذا أضيف إلى مكان أريد به الحقيقة أو أريد بها المجاز فإنه لا ينصرف إلى وهم السامع أن المراد بها جميع الذات التي هي مقولة عليها وهذا مما لا نزاع فيه والمقصود بهذا إبطال التأويل الذي يدعيه الخصم فإذا ثبت هذا وجب أن يكون صفة خاصة بمعنى لا يجوز أن يعبر بها عن الذات ولا وضعت لها إلا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز فأما قولهم إذا ثبت أنها صفة إذا نسبت إلى الحي ولم يعبر بها عن الذات وجب أن تكون عضوا وجارحة ذات كمية وكيفية فهذا لا يلزم من جهة أن ما ذكروه ثبت بالإضافة إلى الذات في حق الحيوان المحدث لا من خصيصة صفة الوجه ولكن من جهة نسبة الوجوه إلى جملة الذات فيما يثبت للذات من الماهية المركبة بكمياتها وكيفياتها وصورها وذلك أمر أدركناه بالحس من جملة الذات فكانت الصفة مساوية للذات في موضعها بطريق أنها منها ومنتسبة إليها نسبة الجزء إلى الكل فأما الوجه المضاف إلى الباري تعالى فإنا ننسبه إليه في نفسه نسبة الذات إليه وقد ثبت أن الذات في حق الباري لا توصف بأنها جسم مركب من جملة الكمية وتتسلط عليه الكيفية ولا يعلم له ماهية فالظاهر في صفته التي هي الوجه أنها كذلك لا يوصل لها إلى ماهية ولا يوقف لها على كيفية ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجساما والله يتنزه عن ذلك ولو جاز لقائل أن يقول ذلك في السمع والوجه والبصر وأمثال ذلك في صفات الذات لينتقل بذلك عن ظاهر الصفة منها إلى ما سواها بمثل هذه الأحوال الثابتة في المشاهدات لكان في الحياة والعلم والقدرة أيضا كذلك فإن العلم في الشاهد عرض قائم يقدر نفيه بطريق ضرورة أو اكتساب وذلك غير لازم مثله في حق الباري لأنه مخالف للشاهد في الذاتية غير مشارك في إثبات ماهية ولا مشارك لها في كمية ولا كيفية وهذا الكلام واضح جلي وأما قولهم إن أردتم إثبات صفة تقارب الشاهد فيما يستحق مثله الاشتراك في الوصف فهذا هو التشبيه بعينه فنقول لهم المقاربة تقع على وجهين أحدهما مقاربة في الاستحقاق لسبب موجبه التمام والكمال وتنفي النقص الثاني مقاربة في الاستحقاق لسبب تقتضيه الحاجة ويوجبه الحس ومحال أن يراد به الثاني لأن الله تعالى قد ثبت أنه غني غير محتاج ولا يوصف بأنه يحتاج إلى الإحساس لما في ذلك من النقص فيبقى الأول وصار هذا كإثبات الصفات الموجبة للكمال ودفع النقص وأما قولهم إن ذلك يوجب إثبات الجوارح والأعضاء فليس بصحيح من جهة أنه يكتسب بها ما لو لا ثبوتها له لعدم الاكتساب مع كونه محتاجا إليه ولهذا سميت الحيوانات المصيودة كسباع الطير والبهائم جوارح لأنها تكتسب الصيود والباري مستغن عن الاكتساب فلا يتصور استحقاقه لتسميته جارحة مع عدم السبب الموجب للتسمية فأما تسمية الأعضاء فإنها تثبت في حق الحيوان المحدث لما تعينت له من الصفات الزائدة على تسمية الذات لأن العضو عبارة عن الجزء ولهذا نقول عضيته أي جزيته وقسمته ومنه قوله تعالى الذين جعلوا القرآن عضين أي قسموه فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه فإذا كان العضو إنما هو مأخوذ من هذا فالباري تعالى ليس بذي أجزاء يدخلها الجمع وتقبل التفرقة والتجزئة فامتنع أن يستحق ما يسمى عضوا فإذا ارتفع هذا بقي أنه تعالى ذاته لا تشبه الذوات مستحقة للصفات المناسبة لها في جميع ما تستحقه فإذا ورد القرآن وصحيح السنة في حقه بوصف تلقي في التسمية بالقبول ووجب إثباته له مثل ما يستحقه ولا يعدل به عن حقيقة الوصف إذ ذاته تعالى قابلة للصفات وهذا واضح بين لمن تأمله فهذا لفظه ولفظ أمثاله من المصنفين على هذا الوجه وقال أيضا بعد ذلك فصل وقد وصف الباري نفسه في القرآن باليدين بقوله تعالى لما خلقت بيدي 3876 وقال تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء قال وهذه الآية تقتضي إثبات صفتين ذاتيتين سميان يدين قال وذهب المعتزلة وطائفة من الأشعرية إلى أن المراد باليدين النعتين وذهبت طائفة إلى أن المراد باليدين ها هنا القدرة قال والدلالة على كونهما ذاتيتين تزيدان على النعمة وعلى القدرة أنا نقول القرآن نزل بلغة العرب واليد المطلقة في لغة العرب وفي معارفهم وعاداتهم المراد بها إثبات صفة ذاتية للموصوف لها خصائص فيما يقصد به وهي حقيقة في ذلك كما ثبت في معارفهم الصفة التي هي القدرة والصفة التي هي العلم كذلك سائر الصفات من الوجه والسمع والبصر والحياة وغير ذلك وهذا هو الأصل في هذه الصفة وأنهم لا ينتقلون عن هذه الحقيقة إلى غيرها مما يقال على سبيل المجاز إلا بقرينة تدل على ذلك فأما مع الإطلاق فلا ولهذا يقولون لفلان عندي يد فيراد بذلك ما يصل من الإحسان بواسطة اليد وإنما فهم ذلك بإضافة اليد إلى قوله عندي ويقول ذلك وبينهما من البعد والحوائل ما لو أراد اليد الحقيقية لكان كاذبا ولهذا لو كان بحيث أن يكون عنده يده الحقيقية وهو أن يكونا متماسين في الاجتماع ويحيط بها ثوب أو على صفة يمكن إدخال يده إلى باطن ثوبه فقال حينئذ لفلان عندي يد لا يصرف القول فيه إلى يد الحقيقة لأن شاهد الحال قد قطع عمل القرينة والإطلاق في التعارف أكثر من شاهد الحال في القرب من جهة أنه يجوز أن يتجوز به للقرينة لكن على من شاهد الحال لاغية بما لا طلاقه ذلك أحق وأولى وكذلك القول في التعبير باليد عن القدرة إنما يثبت ذلك بقرينة وهو أن يقول لفلان علي يد فقوله علي قرينة تدل على أن المراد باليد القدرة وهي أيضا مع شاهد الحال لاغية على ما قدمنا في النعمة وهذا جلي واضح ودليل آخر وهو إنا إذا تأملنا المراد بقوله تعالى ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي 3876 امتنع فيه أن يكون المراد به النعمة والقدرة وذلك أن الله تعالى أراد تفضيل آدم على إبليس حيث افتخر عليه إبليس بجنسه الذي هو النار وأنه بذلك أعلى من التراب والطين فرد الله عليه افتخاره وأثبت لآدم من المزية والاختصاص ما لم يثبت مثله لإبليس بقوله تعالى لما خلقت بيدي وفي ذلك ما يدل على أن المراد فيها الصفة التي ذكرنا من وجهين أحدهما أن إبليس عند الخصم بما خلق به آدم من القدرة والنعمة فلولا أن آدم خالف إبليس في ذلك لما كان فيه إثبات فضيلة وهذا كلام صدر على سبيل الحاجة في إثبات الفضل فلو تساويا في السبب لما ثبتت الحجة لله تعالى على إبليس في ذلك وذلك مما لا يخفى عليه فكان يسعه أن يقول وأنا فقد خلقتني بما خلقت به آدم فأي فضيلة له علي بما ذكرته وما يؤدى إلى تعجيز الله عن حجته وإزالة المميز بين الشيئين فيما قصد التمييز به بالمخالفة بينهما قول باطل ومحال والثاني أنه أضاف الخلق وهو فعل يده سبحانه والفعل متى أضيف إلى اليد فإنه لا يقتضي إضافة إلا إلى ما يختص بالفعل وليس إلا اليد التي ذكرنا وهذا جلي واضح ودليل آخر نقول لا شك أن الرجوع في الكلام الوارد عن الحقيقة والظاهر المعهود إلى المجاز إنما يكون بأحد ثلاثة أشياء أحدها أن يعترض على الحقيقة مانع يمنع من إجرائها على ظاهر الخطاب الثاني أن تكون القرينة لها تصلح لنقلها عن حقيقتها إلى مجازها والثالث أن يكون المحل الذي أضيفت إليه الحقيقة أو المعنى الذي أضيفت إليه الحقيقة لا يصلح لها فينتقل عنها إلى مجازها فإن قالوا إن إثبات اليد الحقيقة التي هي صفة لله تعالى ممتنع لعارض يمنع فليس بصحيح من جهة أن الباري تعالى ذات قابلة للصفات المساوية لها في الإثبات فإن الباري تعالى في نفسه ذات ليست بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا ماهية له تعرف وتدرك وتثبت في شاهد العقل ولا ورد ذكرها في نقل وإذا ارتفع عنه إثبات الماهية وإذا كان الكل مرتفعا والمثل بذلك ممتنعا فالنفار من قولنا يد مع هذه الحال كالنفار من قولنا ذات ومهما دفعوا به إثبات ذات مما وصفنا فهو سبيل إلى دفع يد لأنه لا فرق عندنا بينهما في الإثبات وإن عجزوا عن ذلك لثبوت الدليل القاطع للإقرار بالذات على ما هي عليه مما ذكرنا فذاك هو الطريق إلى تعجيزهم عن نفي يد هي صفة تناسب الذات فيما ثبت لها من ذلك وهذا ظاهر لازم لا محيد عنه وإن قالوا من جهة أنه اقترن بها قرينة تدل على صلاحية نقلها عن حقيقتها إلى مجازها فذلك محال من جهات أحدها أنا قد بينا أن إضافة الفعل إلى اليد على الإطلاق لا يكون إلا والمراد به يد الصفة وهذا توكيد لإثبات الصفة الحقيقية ومحال أن يجتمع مؤكد للحقيقة مع قرينة ناقلة عن الحقيقة والثانية أن القرائن قد ذكرناها وهو أنه أريد باليد النعمة قال لفلان عندي يد فعندي قرينة تدل على النعمة وإذا أريد بها القدرة قال لفلان علي يد فعلي هي القرينة الدالة على القدرة وكلاهما معدومان ها هنا والثالث أن الخصم يدعي أن الداعي إلى ذلك ما يقتضيه الشاهد من إثبات العضو والجارحة والجسمية والبعضية والكمية والكيفية الداخل على جميع ذلك فحصل مثل وشبيه وقد بينا أن ذلك محال في حقه لأن نسبة اليد إليه تعالى كنسبة الذات إليه على ما تقرر فإذا ارتفع هذا بطل السبب المعارض للحقيقة النافي لإثباتها والموجب لإبدالها بالمجاز وإن قالوا إن المحل الذي أضيفت إليه اليد وهو ذات الباري لا يصلح لإثبات اليد الحقيقة فهذا محال من جهة أنا قد اتفقنا على أن ذات الباري تقبل إضافة الصفات الذاتية على سبيل الحقيقة كالوجود والذات والعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من صفات الإثبات على ما قدمناه وإن قالوا إن المعنى الذي أضيف إلى الصفة لا يصلح إضافة اليد الحقيقية إليه من جهة أن آدم كان جسما وإضافة الفعل باليد إليه يقتضي إثبات المماسة باليد الفاعلة وذلك محال من جهة أن يد الباري وذاته لا تقبل المماسة للأجسام وهذا قول باطل من جهة أنا إذا أثبتنا اليد التي هي صفة لله تعالى على مثل ما وصفنا انتفت المماسة والفعل مضاف إليها نطقا ونصا ثابتا بطريق مقطوع عليه فنفينا ما نفاه الإجماع وأثبتنا ما أثبته النص والنطق وجرى ذلك مجرى الذات قولا واحدا في الحكم والثاني أن هذا إنما يلزم إذا كان الفعل وكل الأحوال لا بد له من المماسة وقد وجدنا فعلا يؤثر وجوده في محل من محل آخر ولا مماسة بينهما مع تساويهما في الجسمية وذلك كما تراه من حجر المغناطيس فإنه يؤثر في حركة الحديد وانتقاله عن محله من غير مماسة تقع بين الفاعل والمفعول والعلة في ذلك قد تكون بين الفاعل والمفعول وتستغني بذلك عن المماسة ومثل هذا ظاهر لاخفاء به فلما ثبت أنه لا سبيل إلى إثبات المماسة أثبتنا الفعل للنص عليه واستغنينا عن المماسة بواسطة قالوا الأصل في اليد الفاعلة أن تكون جارحة عند التعارف والإطلاق فانتقلنا عن ذلك إلى تأويلها في حق آدمي بما يصلح وهو النعمة واليد في اللغة تقال ويراد بها النعمة والمنة ولهذا يقال له عندي يد وله عندي أيادي والله تعالى له في خلق آدم عليه السلام نعمتان دين ودنيا فاقتضى ذلك تأويلها على ما ذكرناه قلنا قد أبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل أو الوجه الموجب اعتراض سبب مانع من إثبات الكلام على أصله وحقيقته وما يبدر إليه الفهم والتعارف في عادات أهل الخطاب ولم يوجد ذلك ها هنا ولأنه لو أراد باليد النعمة لقال لما خلقت يدي لما خلقته بنعمة فإن نعمة الدين والدنيا خلق لها ومما يحقق هذا أن الخلق بنعم الدين لا يصلح لأن نعم الدين الإيمان والتعبد والطاعة وكل ذلك عندهم مخلوق والمخلوق لا يخلق به وكذلك نعم الدنيا هي اللذات من الشهوات وهذه كلها مخلوقة وبعضها أعراض وهذا بطريق القطع لا يجوز أن يخلق به فكان هذا التأويل من هذا الوجه الباطل قالوا إنما أضاف ذلك إلى آدم ليوجب له تشريفا وتعظيما على إبليس ومجرد النسبة في ذلك كاف في التشريف ولهذا قال في ناقة صالح ناقة الله ويقال في مكة بيت الله فجعل هذا التخصيص تشريفا وإن كان ذلك لا يمنع من تساوي أنها كلها لله وكذلك البيوت ومثله ها هنا قلنا التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة اقتضى مجرد التشريف فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة أوجب ذلك إثبات الصفة التي لولاها ما تمت النسبة فإن قولنا خلق الله الخلق بقدرته لما نسب الفعل إلى تعلقه بصفة الله اقتضى ذلك إثبات إحاطة بصفة هي القدرة ولا يكون مجرد النسبة واجب منها الصفة فكذلك ها هنا لما كان ذكر التخصيص مضافا إلى صفة وجب إثبات تلك الصفة وهذا لا شك فيه ولا مرية وبهذا يبعد عما ذكروه قال وأما قوله بيدي قدرتي لأن اليد في اللغة عبارة عن القدرة ولهذا أنشد في ذلك فسلمت ومالي بالأمور يدان ويحقق هذا ويوضحه أن الخلق من جهة الله إنما هو مضاف إلى قدرته لا إلى يده ولهذا يستقل في إيجاد الخلق بقدرته ويستغني عن يد وآلة يفعل بها مع قدرته قلنا قد بينا هذا فيما مضى وأبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل به إذ الحاجة مرتفعة ولأن قدرة الله واحدة لا تدخلها التثنية والجمع وإذا امتنعت التثنية منها وضعا امتنع عنها ذلك لفظا قالوا قد يرد لفظ التثنية والجمع والمراد به الواحد ولهذا العالم اسم توحيد والمراد به الجمع وقال تعالى ألقيا في جهنم كل كفار عنيد 50 24 والمراد به ألق ومثله ها هنا قلنا إثبات القدرة واحد لله أصل ثبت بالأخبار والنقل وهو مما يعتري القصر والتخصيص فيه وحمل اليد عليه يقتضي إدخال الشك في أصل عظيم يكفر مخالف الحق فيه فكان مراعات هذا الأصل بحراسته عن مقام شك أولى من إدخال التأويل ها هنا وهذا يكفي في الإعراض عن مثل هذا التأويل وأما قولهم العالم اسم جمع توحيد فليس كذلك بل العالم اسم لا واحد له من لفظه يقع على الواحد قال وأما قوله ألقيا في جهنم فإن ما احتجنا فيه إلى الانتقال عن لفظه لما ثبت أن المأمور واحد فصار قوله ألقيا بمعنى ألق ألق وقد بيناها هنا امتناع التأويل وإبطال سببه إن القائلين بهذه التأويلات يجوزون أن يكون المراد بالانتقال وإنما دخلوا فيها على سبيل الظن ومحال نفي صفة لله تعالى بطريق هو على هذه الصفة ولا ريب أن المثبتين لهذه الصفات أربعة أصناف صنف يثبتونها وينفون التجسيم والتركيب والتبعيض مطلقا كما هي طريق الكلابية والأشعرية وطائفة من الكرامية كابن الهيصم وغيره وهو قول طوائف من الحنبلية والمالكية والشافعية والحنفية كأبي الحسن التميمي وابنه أبي الفضل ورزق الله التميمي والشريف أبي علي ابن أبي موسى والقاضي أبي يعلى والشريف أبي جعفر وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الجسن ابن الزاغوني لا حصى كثرة يصرحون بإثبات هذه الصفات وينفي التجسيم والتركيب والتبعيض والتجزئ والانقسام ونحو ذلك وأول من عرف أنه قال هذا القول هو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب ثم اتبعه على ذلك خلائق لا يحصيهم إلا الله وصنف يثبتون هذه الصفات ولا يتعرضون للتركيب والتجسيم والتبعيض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة لا بنفي ولا إثبات لكن ينزهون الله عما تزه عنه نفسه ويقولون إنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ويقول من يقول منهم مأثور عن ابن عباس وغيره أنه لا يتبعض فينفصل بعضه عن بعض وهم متفقون على أنه لا يمكن تفريقه ولا تجزيه بمعنى انفصال شيء منه عن شيء وهذا القول هو الذي يؤثر عن سلف الأمة وأئمتها وعليه أئمة الفقهاء وأئمة أهل الحديث وأئمة الصوفية وأهل الاتباع المحض من الحنبلية على هذا القول يحافظون على الألفاظ المأثورة ولا يطلقون على الله نفيا وإثباتا إلا ما جاء به الأثر وما كان في معناه وصنف ثالث يثبتون هذه الصفات ويثبتون ما ينفيه النفاة لها ويقولون هو جسم لا كالأجسام ويثبتون المعاني التي ينفيها أولئك بلفظ الجسم وهذا قول طوائف من أهل الكلام المتقدمين والمتأخرين وصنف رابع يصفونه مع كونه جسما بما يوصف به غيره من الأجسام فهذا قول المشبهة الممثلة وهم الذين ثبت عن الأمة تبديعهم وتضليلهم فلفظ الجسم لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف في حق الله لا نفيا ولا إثباتا ولا ذموا أحدا ولا مدحوه بهذا الاسم ولا ذموا مذهبا ولا مدحوه بهذا الاسم وإنما تواتر عنهم ذم الجهمية الذين ينفون هذه الصفات وذم طوائف منهم كالمشبهة وبينوا مرادهم بالمشبهة وأما لفظ الجزء فما علمت أنه روي عن أحد من السلف نفيا ولا إثباتا ولا أنه أطلقه على الله أحد من الحنبلية ونحوهم في الإثبات كما لا أعلم أن أحدا منهم أطلق عليه لفظ الجسم في الإثبات وإن كان أهل الإثبات لهذه الصفات منهم ومن غيرهم من يثبت المعاني التي يسميها منازعوهم تجسيما وتجزئة وتبعيضا وتركيبا وتأليفا ويذكرون عنهم أنهم مجسمة بهذا الاعتبار لإثباتهم الصفات التي هي أجسام في اصطلاح المنازع وأما لفظ البعض فقد روي فيه أثر يطلقه بعض الحنبلية وينكره بعضهم ومع هذا ففي الحنبلية طوائف تنكر ثبوت هذه الصفات الخبرية في الباطن كما ينكرها غيرهم ثم منهم من يتأولها إما إيجابا لتأويلها وإما تجويزا لتأويلها كما يفعل ذلك متأولو النفاة من مستأخري الأشعرية ونحوهم ومن ينفي مدلولها ويفوض معناها كما يفعل ذلك طوائف من هؤلاء وغيرهم ويسموا ذلك طريقة السلف كما فعل ذلك المؤسس وغيره وفيهم وفي غيرهم طوائف لا تحكم فيها بنفي ولا إثبات بل تطلق ألفاظ النصوص الواردة بها وتقف عن إثبات هذه المعاني ونفيها إما شكا وإما إعراضا عن الفكر في ذلك وقد بينا مقالات الناس منهم ومن غيرهم في هذا الموضع والمقصود بهذا الكتاب الكلام على ما ذكره من حجج فريقي النفاة والمثبتة وقد رووا بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين في الصمد الذي لا جوف له ولفظ بعضهم لا يخرج منه شيء كما روى ابن أبي عاصم والطبراني عن عكرمة من وجوه أنه قال الصمد الذي لا جوف له ومن رواية ابن أبي شيبة عن غندر عن شعبة عطاء عن ميسرة قال الصمت وقال مجاهد هو المصمت الذي لا جوف له وعكرمة قال الذي لا يخرج منه شيء ورواه الطبراني أيضا من حديث عبدالله بن إدريس عن شعبة وروى الطبراني قال حدثنا زكريا حدثنا القاضي حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا أحمد الدينوري حدثنا الحكم بن ظهير عن معمر عن أبي بن كعب قال الصمد الذي لم يخرج منه شيء ولم يخرج من شيء الذي لم يلد ولم يولد وذكر عن عطاء وعن الحسن وقتادة قالا بعد فناء خلقه وفي رواية أنه قال الحسن الدائم مع أن الحسن قال أيضا كما قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطية والضحاك والسدي وغير هؤلاء ورووه عن ليس بأجوف وقال الشعبي هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب وقال أبو صالح الذي ليس له أمعاء وروى الطبراني عن أبي مسعود قال الصمد الذي ليس له أحشاء وعنه أيضا أنه السيد الذي انتهى سؤدده وهذا قول أبي وائل وهو من تفسير الوالبي عن ابن عباس وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع وهذه الصفة تستلزم امتناع التفرق عليه وأن يخرج منه شيء إذ ذلك ينافي الصمدية وهو ما احتج به في أنه جسم مصمت وقد ذكره المؤسس في حجج منازعيه وأجاب عنه وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله وقد قال أبو القاسم لما روى عبارات الصمد قال وهذه الصفات كلها صفات ربنا جل جلاله ليس يخال شيء منها يعني في هو المصمت الذي لا جوف له وهو الذي لا يأكل الطعام وهو الباقي بعد فناء خلقه الوجه الثامن عشر إن قولك عن الحنابلة وغيرهم أنهم التزموا الأجزاء والأبعاض أو ما هو في معناه اصطلاح المتكلمين أو بعضهم أما الأول فإن لفظ الأجزاء والأبعاض إذا أريد به أنه يتجزأ أو يتبعض التبعيض والتجزئ المعروف بمعنى وقوع ذلك كما تتجزى أو تتبعض الثياب واللحم وغيرها كأبدان الحيوان وكما يتجزأ أو يتبعض الحيوان والثمار والخشب والورق ونحو ذلك وكما يتجزئ ويتبعض الحيوان بخروج المني وغيره من العضلات منه ومن ذلك يولد شبهه منه بانفصال جزء منه كمني الرجل ومني المرأة ودمها فهذا يمتنع باتفاق المسلمين ولم يقل أحد من الحنابلة بل ولا حد من المسلمين فيما علمناه أنه يتجزئ ويتبعض بهذا المعنى وكذلك لم يقولوا إنه يمكن تجزئه وتبعضه كما يمكن تبعيض الجبال ونسفها وكما يمكن انشقاق السماء وانفطارها عند المسلمين وغيرهم ممن يؤمن بالقيامة الكبرى وإن كان ذلك غير ممكن عند من أنكر ذلك من المشركين والصابئين من الفلاسفة وغيرهم فالأجسام المخلوقة يقدر الله على أن يجزيها ويبعضها فيفرقها ويمزقها وهي في العادة ثلاثة أقسام أحدها الأجسام اللينة الرطبة التي تقبل التجزئة بسهولة والثاني الأجسام اليابسة الصلبة التي تقبل التجزئ بقوة والثالث ما لم تجر العادة بتجزيه ولكن يعلم قبوله للتجزي ولم يقل أحد من المسلمين أن الخالق سبحانه يمكن أن يتفرق وينفصل بعضه من بعض بل هو أحد صمد والذين قالوا إنه جسم نوعان أحدهما وهو قول علمائهم أنه جسم لا كالأجسام كما يقال ذات لا كالذوات وموصوف لا كالموصوفات وقائم بنفسه لا كالقائمات وشيء لا كالأشياء فهؤلاء يقولون هو في حقيقته ليس مماثلا بوجه من الوجوه لكن هذا إثبات أن له قدرا يتميز به كما إذا قلنا موصوف فهو إثبات حقيقة يتميز بها وهذا من لوازم كل موجود ولهذا يقولون نعني بأنه جسم أنه قائم بنفسه ونحو ذلك مع قولهم إنه ذو الأبعاد الثلاثة لأنهم يقولون لا يعقل موجود إلا هكذا ويقولون إن المشركين وأهل الكتاب لما سألوا النبي ﷺ فقالوا ربك الذي تعبد هو من ذهب هو من فضة هو من كذا فأنزل الله هذه السورة تنزيها إنه ليس من جنس شيء من الأجسام ولا من جنس شيء من الذوات ولا من جنس شيء من الموصوفات والأجسام هي الذوات وهي الموصوفات وهؤلاء يقولون إن حقيقته مخالفة سائر الحقائق فيمتنع عليه أن يجوز عليه ما يجوز عليها من عدم أو فناء أو تفرق أو تبعيض ونحو ذلك وأما النوع الثاني وهم الغالية الذين يحكى عنهم أنهم قالوا هو لحم وعظم ونحو ذلك فهؤلاء وإن كان قولهم فاسدا ظاهر الفساد إذ لو كان لحما وعظما كما يعقل لجاز عليه ما يجوز على اللحوم والعظام وهذا من تحصيل التمثيل الذي نفاه الله عن نفسه فإنه سبحانه وتعالى إذ قال لم يكن له كفوا أحد 1124 وقال إنه أحد وقال إنه ليس كمثله شيء 4511 فإنه قد دخل في ذلك ما هو أيضا معلوم بالعقل وهو أنه لا يكون من جنس شيء أو بما يقتضي أنه يجوز الإشارة إلى شيء دون شيء من الأشياء وإن كان هو أكبر مقدارا من ذلك الشيء فإن القدر الصغير من ذهب أو فضة أو نحاس هو من جنس المقدار الكبير وهذا بعينه هو الذي نزه الله نفسه عنه في هذه السورة وهو الذي سأل عنه من سأل من المشركين لما قالوا هو من ذهب هو من فضة ونحو ذلك فمن قال بالتشبيه المتضمن هذا التجسيم فإنه يجعله من جنس غيره من الأجسام لكنه أكبر مقدارا وهذا باطل ظاهر البطلان شرعا وعقلا وهؤلاء هم المشبهة الذين ذمهم السلف وقالوا المشبه الذي يقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فإن هذا التشبيه هو في الجنس وإن كان المشبه أكبر مقدارا من المشبه به إذ لا يقول أحد إلا أنه أكبر ومع ظهور بطلان قول هؤلاء لم ينقل عنهم أنهم جوزوا عليه التبعيض والتفرق لكن هذا لازم قولهم فإنهم متى جعلوه من جنس غيره جاز عليه ما يجوز على ذلك الغير إذ هذا حكم المتجانسين المتماسكين فهم إن أجازوا عليه من التبعي والتفرق ما يجوز على مثله لزمهم القول بجواز تبعيضه وتفرقه بل بجواز فنائه وعدمه وإن لم يجوزوا ذلك كانوا متناقضين وقائلين مالا حقيقة له فإنهم يقولون هو من جنسه وما هو من جنسه وأما إن أراد بلفظ الأجزاء الأجزاء والأبعاض ما يريده المتكلمون بلفظ الجسم والتركيب وهو الذي أراده فإن الجسم كل جسم عندهم له أبعاض وأجزاء إما بالفعل على قول من يثبت الجوهر الفرد وإما بالإمكان على قول من ينفيه فيقال له هذا المعنى هو كما يريده الفلاسفة والمعتزلة بلفظ الأجزاء الصفات القائمة به ويقولون ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاءكم وعندهم أن الأنواع مركبة من الجنس وهو جزؤها العام والفصل وهو جزؤها الخاص فإن أردت هذا المعنى فلا ريب أن الحنابلة هم من مثبتة الصفات وهم متفقون على أن له علما قدرة وحياة فهذا النزاع الموجود فيهم هو موجود في سائر الصفاتية وأما وصفه بالحد والنهاية الذي تقول أنت أنه معنى الجسم فهم فيه كسائر أهل الإثبات على ثلاثة أقوال منهم من يثبت ذلك كما هو المنقول عن السلف والأئمة ومنهم من نفى ذلك ومنهم من لا يتعرض له بنفي ولا إثبات ونفاة ذلك منهم يثبتون له مع ذلك الصفات الخبرية لكن لا اختصاص للحنابلة بذلك كما تقدم بعضه وكما سيأتي حكاية مذاهب الأئمة والأمة في ذلك ومنهم طائفة لا تثبت الصفات الخبرية الوجه التاسع عشر أن هذا القول الذي حكيته عن الحنابلة مع أنك لم تؤد الأمانة في نقله بل نقلته بلفظ لا يطلقونه بحيث يفهم المستمع معان لم يقصدوها ويوجب أن يعتقد في مذهب القوم ما لا يعتقدونه لم تذكر عنهم تناقضا فيه كما ذكرته عن الكرامية ولا ذكرت أنهم خالفوا لا المحسوس ولا المعقول كما ذكرته عن الكرامية ولا ذكرت أنهم أثبتوا شيئا يعلم بالحس أو بالعقل بطلانه كما ذكرته عن الكرامية ولا وصفت به قولك من مخالفة البديهة العقلية وهذا الذي ذكرته هو الواقع فإن أحدا من العقلاء لم نعلمه ادعى أن فساد هذا القول معلوم بالضرورة العقلية كما يقولونه في قولك والقول الذي ذكرته عن الكرامية بل غايتهم أن يدعوا أنه معلوم الفساد بدقيق النظر ثم كل طائفة يثبتون فساد الطريق التي نفت بها الأخرى ذلك وهذا يبين أنه ليس عند العقلاء في ذلك دليل يبقى عليه بل ذكرت أنهم مع هذا الإثبات يقولون بأن ذات الباري لا تماثل الذوات وهذا حق لا ريب فيه فما ذكرته هو تقرير لهذا لاقول ومدح له وليس فيه ما يكون إلزاما لك عليهم ولا ما يقتضي تناقضا فيه فإن إثبات موجود ليس مماثلا لغيره من الموجودات لا يخالف حسا ولا عقلا وهذا هو الذي تقدم ذكرنا له أن قوله لا بد من الاعتراف بوجود موجود على خلاف الحس والخيال أنه إذا أراد بذلك أنه لا يماثل المحسوسات فلا فرق في ذلك بين المحسوسات والمعقولات وغيرها فإنه لا يماثل شيئا من الأشياء المخلوقة بوجه من الوجوه سواء سميت حسيات أو متخيلات أو عقليات أو سميت جسمانيات أو روحانيات فإذن ما تثبته من نفي المماثلة لا يدل على ما قصدته من إثبات شيء على خلاف حكم الحس والخيال دون حكم العقل أو نفي التماثل لا فرق بين المدركات بجميع أنواع الإدراكات وقد ذكرنا فيما تقدم أن نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق مما علم بالشرع والعقل وذلك لا يقتضي إثبات ما يعلم بالبديهة انتفاؤه أو إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه فهو أيضا يقتضي انتفاء مماثلة الخالق للمخلوق كما بيناه فيما تقدم إذ التماثل يقتضي أن يجوز ويجب ويمتنع لكل منهما ما يجوز ويجب ويمتنع للآخر فيلزم أن يكون الشيء الواحد خالقا مخلوقا قديما محدثا موجودا معدوما واجبا ممكنا قادرا عاجزا عالما جاهلا غنيا فقيرا حيا ميتا ولهذا كان مذهب السلف قاطبة يثبتون هذه الصفات الخبرية وينفون التمثيل وكانوا ينكرون على المشبهة الذين يمثلون الله بخلقه وهم على الجهمية الذين ينكرون أعظم نكيرا وأشد تضليلا وتكفيرا وكلامهم في ذلك أكثر وأكبر وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والمركب والمنقسم فلا يوجد له ذكر في كلام أحد من السلف كما لا يوجد له ذكر في الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات إلا بالإنكار على الخائضين في ذلك من النفاة الذين نفوا ما جاءت به النصوص والمشبهة الذين ردوا ما نفته النصوص كما ذكرنا أن أول من تكلم بالجسم نفيا وإثباتا هم طوائف من الشيعة والمعتزلة وهم من أهل الكلام الذين كان السلف يطعنون عليهم وهم في مثل هذا على المعتزلة أعظم إنكارا إذ المتشيعة لم يشتهر عن السلف الإنكار عليهم إلا فيما هو من توابع التشيع مثل مسائل الإمامة التي انفردوا بها عن الأمة وتوابعها بخلاف مسائل الصفات والقدر فإن طعنهم فيه على المعتزلة معروف مشهور ظاهر عند الخاص والعام وقدماء الشيعة كانوا مخالفين للمعتزلة في ذلك فأما متأخروهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم والمعتزلة شيوخ هؤلاء إلى ما يوجد في كلام ابن النعمان المفيد وصاحبه أبي جعفر الطوسي والملقب بالمرتضى ونحوهم هو من كلام المعتزلة وصار حينئذ في المعتزلة من يميل إلى نوع من التشيع إما تسوية علي بالخليفتين وإما تفضيله عليهما وإما بالطعن في عثمان وإن كانت المعتزلة لم تختلف في إمامة أبي بكر وعمر وقدماء المعتزلة كعمرو بن عبيد وذويه كانوا منحرفين عن علي حتى كانوا يقولون لو شهد هو وواحد من مقاتليه شهادة لم تقبلها لأنه قد فسق أحدهما لا بعينه فهذا الذي عليه متأخرو الشيعة والمعتزلة خلاف ما عليه أئمة الطائفتين وقدماؤهم الوجه العشرون أنك ذكرت عن الحنابلة أنهم معترفون بأن ذاته تعالى مخالفة لذوات هذه المحسوسات وهذا حق لكن تخصيصك هذه المحسوسات يشعر أن في الوجود أو في العلم ما لا تكون ذات الله مخالفة له وليس كذلك هو سبحانه ليس كمثله شيء فإن كان لفظ المحسوسات يعم سائر الموجودات فلا فرق بين قولك مخالفة لذوات هذه المحسوسات وقولك مخالفة لذوات هذه الموجودات والمعلومات وإن لم يكن عاما كانت هذه عبارة ردية وكان الواجب أن يقال مخالفة لذوات المحسوسات وكما قيل إنه ليس من المحسوسات كما يقوله الفلاسفة في العقول والنفوس الناطقة وكذلك لو قيل المخالف للجسمانيات والروحانيات على لغة العامة الذين يفرقون بين مسمى الجسم والروح إذ الجسم عندهم أخص مما هو عند المتكلمين ولهذا يفرقون بين الأجسام والأرواح وأما اصطلاح المتكلمين فلفظ الجسم عندهم يعم هذا كله وكذلك قولك لا يساوي هذه الذوات في قبول الاجتماع والافتراق والتغير والفناء والصحة والمرض والحياة والموت كلام صحيح بل لا يساويها في شيء من الأشياء في صفات كمالها وأما صفات النقص فلا يوصف بها بحال فهو سبحانه حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم حي لا يموت لا يجوز عليه ضد العلم والقدرة والغنى وعير ذلك من صفات كماله بل هو القدوس السلام وصفات الكمال العلم والقدرة والرحمة لا يساوي فيها شيء من صفاته شيء من صفات مخلوقاته وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في كتابه إبطال التأويلات لأخبار الصفات مع جمعه فيه للأخبار الواردة في الصفات وإبطاله التأويلات التي ذكرها ابن فورك وغيره مثل ما ذكره الرازي في تأسيس تقديسه قال القاضي أبو يعلى لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات لله لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق ولا يعتقد التشبيه فيها لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة وذكر كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري ووكيع والأوزاعي والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة والفضيل ابن عياض وعبدالرحمن بن مهدي وأسود بن سالم وإسحاق ابن راهويه وأبي عبيد وقال في كلامه يدل على إبطال التأويل أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها ولو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة الوجه الحادي والعشرون أن يقال ما ذكره أنه لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات لزم افتقاره إلى خالق آخر ولزم التسلسل أو لزم القول بأن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق وذلك يلزم منه نفي الصانع فهذه الحجة إن كانت في نفسها صحيحة تدل على نفي هذه النقائص فليست حجة على نفي التمثيل والتشبيه فإن هذه النقائص يجب نفيها مطلقا وأما صفات الكمال فيجب نفي التشبيه والتمثيل فيها فإن قوله لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات فرض في الدليل من غير حاجة إليه وتخصيص موهم في هذه الصفات لاستلزام ذلك وليس ناف فرض المساواة في غير هذه الصفات ولا يستلزم ذلك وليس الأمر كذلك بل المساواة في أي صفة تستلزم المحال والجمع بين النقيضين وأما هذه الصفات المذكورة فلا يحتاج تنزيهه عنها إلى أن ينفي مساواته لسائر الذوات في ذلك بل هذه منتفية عنه مع قطع النظر عن التشبيه والتمثيل فإن انتفاء الموت والمرض وغير ذلك عنه لم ينف لمجرد لزومه التشبيه والتمثيل ولهذا لو قيل لو جازت عليه هذه الصفات للزم افتقاره إلى خالق آخر لأن هذه مستلزمة للعدم وجواز العدم كان دليلا صحيحا من غير أن يقال لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات وهذه الحجة مثل أن يقال لو كانت ذاته مساوية للذوات الجاهلة والعاجزة في العجز والجهل امتنع خلق العالم منه ونحو ذلك فذكر المساواة والمماثلة في مثل هذا الدليل غلط فاحش لأن هذه النقائص إذا ضم إليها المقدمة التي يقف الدليل عليها يجب تنزهه عن قليلها وكثيرها لوجوب اتصافه بأضدادها لما في ذلك من المماثلة لتلك الذوات بل تنزيهه عن مساواة تلك الذوات يوهم أنه لا ينزه إلا عن المساواة فيها فقط وليس الأمر كذلك الوجه الثاني والعشرون أن يقال قولك فإنه تعالى لا يساوي هذه الذوات في قبول الاجتماع والافتراق والتغير والفناء والصحة والمرض والحياة والموت يقال لك هو لا يجوز عليه من هذه النقائص ولا ما يساوي فيه هذه الذوات ولا ما يخالفها فيه بل هو منزه عن قليل ذلك وكثيره وعن كل ما يمكن للعقل أن يقدره من هذه الأجناس وإن لم يكن مساويا للذوات في ذلك إذ مساواة الذوات لا يكون إلا فيما يوجد فيها ولفظ مساواة الشيء للشيء يشعر بمماثلته فيه بحيث يكونان سواء في ذلك فكل من هذين المعنيين لا يجوز تخصيص النفي به من غير موجب وهو قد يريد بلفظ المساواة في ذلك مطلق الاشتراك في ذلك لكن العبارة ملبسة وهو باستعمال مثل هذه العبارة في ذلك وقع خطأ كثير في المعاني كما سنذكره في باقي مسألة تماثل الأجسام أو غيرها وأيضا فهذه الأمور ممتنعة عليه بدون وجود هذه المحسوسات ومع قطع النظر عن وجودها وإنما نفي ذلك معلوم من العلم بكونه قديما واجب الوجود بنفسه حيا قيوما فإن ما كان قيوما واجب الوجود بنفسه لم تكن ذاته قابلة للعدم إذ الذات القابلة للعدم تقبل العدم والوجود فإن كانت ممكنة لا تقبل الوجود إن كانت ممتنعة والممكن لذاته والممتنع لذاته لا يكون واجبا لذاته وكذلك أيضا لو قبل التفرق والمرض ونحو ذلك من التغيرات والاستحالات التي هي مقدمات للعدم والفناء وأسبابه لم يكن حيا قيوما صمدا واجب الوجود بنفسه لأن هذه الأمور توجب زوال ما هو داخل في مسمى ذاته وعدم ذلك مما هو صفة له أو جزء ولو زال ذلك لم تكن ذاته واجبة الوجود بل كان من ذاته ما ليس بواجب الوجود ثم ذلك يقتضي أن لا يكون شيء منها واجب الوجود إذ لا فرق بين شيء وشيء ولهذا كان تجويز هذا عليه يستلزم تجويز العدم عليه لأن ما جاز عليه الاستحالات جاز عليه عدم صورته وفسادتها كما هو المعروف في الأجسام التي يجوز عليها التفرق والاستحالة فهذا وأمثاله مما يعلم به تقديسه وتنزهه عن هذه الأمور التي هي عدم ذاته أو عدم ما هو من ذاته ولهذا كان تنزهه عن ذلك بينا في الفطرة معروفا في العقول للعلم بأنه حق واجب الوجود بنفسه يستحيل عليه ما يناقض ذلك فتبين أن ما ذكره من المساواة وإن كان حقا فلم يذكره على الوجه المحقق ولا ذكر دليله المقرر له بل ذكر شيئا يحتاج إليه مع ما فيه من الإيهام الوجه الثالث والعشرون أنه لو قال لو جازت عليه هذه الصفات لزم افتقاره إلى خالق آخر أو لزم أن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق لكان قد نبه على دليل نفي هذه الأمور وإن كان لم يبينه ويقرره إذ تجويز هذه الأمور إنما يستلزم الافتقار إلى الخالق وكون الإمكان أو الحدوث ليس محوج إلى الخالق إذا تبين أن بهذه الأمور يجب أن يكون محدثا وممكنا وهو لم يبين ذلك فكيف وهو لم يقل ذلك بل علق هذا الانتفاء بمماثلته للممكنات فيه الوجه الرابع والعشرون أنه لو بين أن هذه الأمور تستلزم الحدوث والإمكان كان هذا وحده كافيا في تنزيه الرب عنها للعلم بأنه قديم واجب الوجود وأما كون الممكن المحدث لا بد له من خالق وأن الحدوث والإمكان محوج إلى الخالق فذاك يذكر لبيان ثبوت الخالق القديم واجب الوجود ولا يذكر لبيان تنزيهه عما يستلزم عدمه فإن الكلام في تنزيهه عن ذلك إنما هو بعد أن يقرر العلم الخالق القديم الواجب الوجود فإذا تقرر ذلك بين أنه لا يجوز عليه ما ينافي ذلك لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين لا لأن تجويز ذلك يقتضي ابتداء أنه يفتقر إلى خالق إذ الكلام إنما هو في الخالق فيقال لو جاز هذا عليه امتنع أن يكون هو الخالق القديم وكان هذا أبين في الدلالة على المقصود مما ذكره في أصل إثبات واجب الوجود الوجه الخامس والعشرون أن نفي المماثلة واجب في صفات الكمال كالعلم والقدرة والحياة بل والوجود فيقال لو كان مماثلا لغيره في هذه الصفات فيوصف غيره بمثل ما يوصف به من الوجود وصفات كمال الوجود لزم تماثلهما وإذا تماثلا جاز على أحدهما ما يجوز على الآخر فيلزم أن يكون القديم محدثا والمحدث قديما والواجب ممكنا والممكن واجبا وأمثال ذلك فهذا ونحوه يدل على أنه ليس مثله شيء في وجوده ونفسه وصفات الكمال الثابتة لوجوده ونفسه وإذا انتفى عنه مماثلة شيء له في الوجود وصفات كمال الوجود كان هذا إثباتا لأنه ليس كمثله شيء وأنه لم يكن له كفوا أحدا وأنه لا سمي له أما أن يترك هذا كله ولا يذكر إلا تنزيهه عن صفات النقص ولا ينزه عنها إلا عن مماثلته للمخلوقات فيها ولا يذكر دليل لزوم حدوثه وإمكانه أو لزوم اجتماع النقيضين مما هو بين معروف فهذا كما ترى فلو قيل له لكان هذا كلاما متوجها الوجه السادس والعشرون لا نسلم أنه لو ساوى غيره في هذه الأمور لزم افتقاره إلى خالق آخر ولزم أن يكون الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق فإنك لم تبين هذه الملازمة والقول الذي تنفيه لم يحتج إلى هذا الدليل وإن لم يكن بينا بنفسه لم يكن في إثبات واجب الوجود نفيه إذ الكلام في أن واجب الوجود هل هو متصف به أم لا لا في إثبات واجب الوجود ثد قد تبين بهذه الوجوه أن هذا المقام لما قال فيه ما هو حق لم يحققه لا تصويرا ولا تصديقا والكلام إذا تبين ما هو باطل وبين ما فيه حق ثم تبين ولم يقرر كان فيه ما فيه الوجه السابع والعشرون قوله فيثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف بأن خصوصية ذاته التي بها امتازت عن سائر الذوات مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال يقال لا يخلو إما أن تكون ناقلا عنهم ما تقوله أو ملزما لهم أن يقولوا ما لم يقولوه فإن كنت ناقلا عنهم لم يحسن قولك إنه لا بد لهم من الاعتراف بذلك فإن هذا إقامة للحجة بأن عليهم الاعتراف لا نقل عنهم للاعتراف مع أن القوم في نفي هذه الآفات والنقايض ونفي التمثيل والتشبيه من أعظم الأمة قولا بذلك كما دل عليه الكتاب والسنة والحجج العقلية لا يحتجون في نفي التمثيل بهذه الحجة الفاسدة التي لا تدل على نفي التمثيل مطلقا وإنما تدل إذا كملت على تنزهه عن بعض الآفات والنقايض المستلزمة عدمه أو لجواز عدمه فلا نقلت عنهم ما يقولونه من التنزيه ولا احتججت على التنزيه بحجة موجبة مطلقا بل ولا تدل بنفسها على شيء منه وإن كنت ملزما لهم بمقتضى هذه الحجة فالإلزام إنما يكون لمن لا يقر بمضمون الحجة والقوم من أعظم الناس قولا بموجب هذه الحجة ووجوب تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن هذه الأمور وغيرها كما علم ذلك بالشرع والعقل ومعلوم أن المطلوب إذا كان اعتراف المنازع به من أظهر الأمور كان إثبات اعترافه بإثبات وجوب اعترافه به وإثبات الوجوب بمثل هذه الحجة فيه ما فيه مع نفي دخول اعتراف الناس لا يقتضى وجوب اعترافهم لكونهم قد ينازعون في ثبوت الوجوب الوجه الثامن والعشرون أن هذه الحجة إنما توجب أنه لا تجوز عليه هذه الصفات المقتضية للعدم وهذا ولله الحمد متفق عليه بين المسلمين بل بين المقرين بالصانع حتى أن عليه المشبهة والمجسمة الذين يقولون إنه لحم ودم وإنه ندم حتى عض يده وجرى الدم ونحو ذلك لكن يذكر عن بعض اليهود أنه مرض حتى عادته الملائكة وهذه الحجة لا تنفي شيئا من التشبيه والتمثيل فذكرها ضائع فما توجبه هذه الحجة يكتفى به في هذا المقام وما يثبته القوم وسائر المؤمنين من التنزيه والتقديس لا يعتمد فيه على مثل هذه الحجة فلم يذكر ما يصلح لهذا المقام لا من المذهب ولا من الدليل الوجه التاسع والعشرون إن الذي هو أبلغ من مقتضى هذه الحجة من نفي التمثيل والتشبيه يقولون به كما يقول به سلف الأمة وسائر الأئمة وليس فيه حجة لما ادعيته فكيف في مضمون هذه الحجة وذلك أن نفي التمثيل والتشبيه لا يقتضي تجويز كونه لا داخل العالم ولا خارجه ولا إثبات ما يعلم ببديهة العقل امتناعه كما تقدم بيانه الوجه الثلاثون أنك قلت هم أيضا معترفون بأن ذاته مخالفة لذوات هذه المحسوسات وهذا نقل صحيح ثم قررت هذا النقل بأن بحثت بالحجة التي ذكرتها أن خصوص ذاته لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها وهذا ليس هو ذلك المنقول ولا أقمت عليه دليلا فكان هذا من الأغاليط وبه يحصل المقصود من اعترافهم بأنه لا مثل له الوجه الحادي والثلاثون قولك فثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف بأن خصوص ذاته التي بها امتازت عن سائر الذوات مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال أمر لم تنقله عنهم ولا دلت الحجة عليه حتى يقال يجب اعترافهم به كما أنها إنما دلت على امتناع العدم والآفات التي هي ملازمة العدم عليه كالمرض ونحوه وهذا حق لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن خصوص الذات مما لايصل إليه الوهم والخيال وإن كان هذا حقا إذا فسر بمعنى صحيح فإن العلم بكونه موجودا واجب الوجود يمتنع عليه العدم وما يستلزم العدم لا يتعرض لكونه يعلم بالعقل والخيال أو الوهم والحس أو غير ذلك لا بنفي ولا إثبات أصلا فضلا عن أن يكون كنهها معلوما أو غير معلوم فأي ملازمة بين الحجة والدعوى بل لو أقمت الحجج الصحيحة الدالة على نفي التمثيل كما قررنا نحن لم يكن في ذلك تعرض لنفي معرفة كنهه ولا نفي لمعرفته بحس أو خيال أو غير ذلك فضلا عن كونك لم تذكر إلا ما يقتضي وجوب وجوده الوجه الثاني والثلاثون أن القوم مع سائر أهل السنة يقولون إن حقيقة الباري غير معلومة للبشر ولهذا اتفقوا على ما اتفق عليه السلف من نفي المعرفة بماهيته وكيفية صفاته ثم جمهورهم يقول ما يقوله السلف من نفي المعرفة بالكيفية ويقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته بمثال ومنهم من يقول كما يقوله طوائف من النفاة المعتزلة وغيرهم إنه لا ماهية له فتجري في مقال ولا كيفية له فتخطر ببال فلا يحيط أحد من المخلوقين على حقيقة ذاته ولا يبلغ قدره غيره كما في الدعاء المأثور يا من لا يعلم ما هو إلا هو بل قد قال في الجنة أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعكم عليه وتصديق ذلك في كتابه حيث قال فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين 3217 فهم لا يحيطون علما بكنه عامة المخلوقات فكيف يحيطون علما بكنه الخالق تعالى وقد قال تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا 1715 وفي الصحيح عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ إن الخضر الذي قال الله عنه فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلناه من لدنا علما 1865 قال لموسى الذي كلمه الله تكليما ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر لما ركب في السفينة وقد وقف عليها عصفور فنقر في البحر نقرة وفي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي ﷺ أنه كان يقول في سجوده وروى أنه كان يقوله في قنوته أيضا اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فإذا كان أعلم الخلق بربه لا يحصي ثناء عليه فكيف بمن هو دونه بدرجات لا يحصيها إلا الله وإن كان هذا الذي يقولنه ويثبتونه بالأدلة الشرعية لم تذكر أنت عليها حجة ولا نقلت فيها مذهبا فقولك لا بد من الاعتراف بأن خصوصية ذاته التي بها امتازت عن سائر الذوات مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها تقصير وتفريط فإنه لا يصل إلى كنهها لا علم ولا عقل ولا معرفة ولا حس ولا وهم ولا خيال ولا نوع من أنواع الإدراكات فتخصيص الوهم والخيال بذلك يشعر بأن غير الوهم والخيال يصل إلى كنهها وأنهم يفرقون بين هذا وهذا وأنه يجب التفريق بين وصول الوهم والخيال إلى كنهها وبين وصول العلم والعقل وكل هذا غلط الوجه الثالث والثلاثون أنه إذا لم يكن فرق في نفس إدراك كنهه بين الوهم والخيال وبين الحس وبين العلم والعقل لم يحصل شيء من مطلوبك فإن المطلوب أنه لا بد من الاعتراف بثبوت أمر على خلاف حكم الحس والخيال والذي ذكر لا فرق فيه بين الحس والخيال وبين العقل فإن هذه الأمور لا تكيف ذاته ولا يلزم من نفي اكتناه ذاته نفي معرفته بها كما لم يلزم نفي معرفته بالعلم والعقل فإن قوله لا بد لهم من الاعتراف بأن خصوص ذاته الذي امتازت به عن سائر الذوات مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال مع أنه لم يذكر حجة عليه لا فرق فيه بين الوهم والخيال وبين الحس والعقل والعلم فإن شيئا من ذلك لا يصل إلى كنهه وإذا كان مقصوده الفرق بين الوهم والخيال وبين العقل والعلم بهذا مع أنه لا فرق بينها من هذا الوجه ومع أن ذلك لا ينفي معرفته بذلك وإن لم يوصل ذلك إلى كنهه ظهر أن ما قاله ليس فيه تحصيل لغرضه مع ما فيه من التفريق بين الأشياء فيما اتفقت فيه فتدبر هذا كله فإنه كلام حق يعرف كيف أضل هؤلاء لعباد الله بمتشابه الكلام كما قال الإمام أحمد في وصفهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يتكلمون به من المتشابه 2. الوجه الرابع والثلاثون أنه لو عارضه معارض وقال قد ثبت أنه لا فرق فيما ذكرته من نفي الوصول إلى كنهه بالعقل والوهم والخيال ثم ثبت بذلك أنه لا يجب أن لا يكون معلوما بالعقل فقد ثبت أيضا أنه لا يجب أن لا يكون معلوما بالوهم والخيال لكان هذا متوجها أكثر من كلامه الوجه الخامس والثلاثون أن يقال الذين اتفقوا من أهل السنة وغيرهم على أن العباد لم يعرفوا كنهه في الدنيا تنازعوا في إمكان ذلك وفي حصول ذلك عند رؤيته في الأخرى وهذا يبين أن معرفة حقيقته وكنهه بالحس أولى منها بالعقل ثم الخيال والوهم يتبع الحس فهذا قد يستدل به على إمكان معرفة كنهه وحقيقته بالحس والخيال والوهم الوجه السادس والثلاثون قوله وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال كما أنه لا يلزم من عدم وصول العلم والعقل إلى كنه الذات أن يكون على خلاف ما يقضي به العلم والعقل ويحكم به الحس كما تقدم مع أن هذه العبارة هنا ليست ظاهرة في المعنى الوجه السابع والثلاثون أن لفظ الوهم والخيال في هذه المواضع التي ذكرتها تحتل شيئين فإن هذه الألفاظ كثيرا ما تستعمل فيما يتوهمه الإنسان ويتخيله مما لا يكون له حقيقة في الخارج مثل ما يتخيل جبل ياقوت وبحر زئبق ونحو ذلك ومثل ما يتوهم شخصا أنه عدوه ويكون وليه أو أنه وليه ويكون عدوه وأمثال هذه الاعتقادات التي لا تكون مطابقة ترتسم في نفس الإنسان فيتخيلها ويتوهمها وتكون باطلة من جنس الكذب ولهذا إذا دفع نوع من هذه الأقوال يقال هذا خيال وهذا وهم وقد أوهم فلان كذا ومنه سميت الخيلاء والمختال مختالا لأن المختال يتخيل في نفسه من عظمته وقدره ما لا حقيقة له والله لا يحب كل مختال فخور 436 وكان النبي ﷺ يقرأ في الاستعاذة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه فهمزه الوسوسة ونفخه الكبر ونفثه الشعر فإن الكبر ينفخه حتى يصير مغطى في الخيال مع أنه حقيقة كالظرف المنفوخ من غير أن يكون فيه شيء ولكن استعمال لفظ التخيل والتوهم في هذا من جنس استعمال لفظ الاعتقاد الفاسد والظن والجهل فيما لا يكون مطابقا وإن كان جنس الاعتقاد قد يكون حقا وعلما وكثيرا ما يستعمل فيما يتخيله ويتوهمه مما يكون له حقيقة في الخارج فيكون التخيل والتوهم ولفظ التخيل والتوهم صادقا مطابقا مثل ما يتخيل الإنسان في نفسه ما أدركه بصره وغيره من الحواس يتوهم في نفسه ما علمه من الصفات إذ قد يصطلح بعض أهل الطب والفلسفة على أن التخيل للصور والتوهم للمعاني التي فيها ولفظ التخيل والتوهم يعم القسمين المطابق وغير المطابق كما يعم لفظ الخبر للخبر الصادق والكاذب ولفظ الكلام للحق والباطل ولفظ الإرادة للمحمود والمذموم ولفظ الظن والحسبان للمصيب والمخطي ولفظ الاعتقاد للحق والباطل فما يتخيله الإنسان ويتوهمه قد يكون حقا أو باطلا مثل ما يعتقده ويظنه ومنه سمي السحاب مخيلة لأنه يخال فيه المطر وفي حديث عائشة رضي الله عنها كان رسول الله ﷺ إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر فإذا رأى المطر جلس ومنه قول الشاعر... إذا رأيت مخيلة لمعت... وتلألأت كمواقع القطر فهذا في التخيل وأما في التوهم بلفظ التهمة وأصله وهمة يقال إذا توهم في الإنسان شيء من الريب ثم قد يكون ما اتهم به حقا وقد يكون باطلا ولها في الشريعة حكم معروف حيث يحبس فيها المجهول الحال كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ حبس في التهمة ولهذا صنف الحارث المحاسبي كتابا سماه كتاب التوهم مضمونه أن يتصور الإنسان في نفسه ما أخبر الله به من أمور الآخرة وغيرها ليتذكر ذلك ويحققه في نفسه واسم الجنس إذا كان يعم نوعين أحدهما أشرف من الآخر فقد يخصون في العرف النوع الأشرف باسمه الخاص ويبقون الاسم العام مختصا بالنوع المفضول كما في لفظ الحيوان والدابة وذوي الأرحام والجائز والممكن والمباح وغير ذلك فلهذا كثيرا ما يخص بلفظ الوهم والخيال والنوع الناقص وهو الباطل الذي لا حقيقة له وأما ما كان حقا مما يتخيل فيسمونه باسمه الخاص من أنه حق وصدق ونحو ذلك ومن أنه معلوم ومعقول فإنه إذا كان حقا عقله القلب فصار معقولا كما يعقل أمثاله ويقال إنه متصور ومتذكر ونحو ذلك وهذا بخلاف لفظ العلم والعقل والإحساس فإن هذا إنما يقال على نفس الإدراك الذي هو الإدراك الصحيح ولفظ التخيل والتوهم لا يدل على نفس الإدراك وإنما يدل على نحو الاعتقاد الذي يكون مطابقا للإدراك تارة ويكون فيما تصور في النفس وتألف فيها وتنشأ فيها كما تنشأ فيها العلوم بالنظر والاستدلال وهذا الثاني يكون حقا تارة وباطلا أخرى كما أن ما يثبته الإنسان في نفسه من الاعتقادات بالنظر والاستدلال قد يكون حقا وقد يكون باطلا ومن هذا التخيل والتوهم ما يراه الإنسان في منامه فإنه ينشأ في نفسه في النوم إن لم يكن رآه بعينه في النظر وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجمع بين لفظ الحس وبين لفظ الوهم والخيال ويجعلهما في قرن واحد حتى يقول لا بد من الاعتراف بوجود شيء على خلاف حكم الحس والخيال فإن الإحساس هو موجب العلم الصحيح وأصله الإبصار كما قال تعالى وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا وقال يعقوب يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه وقال تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله وقال النبي ﷺ كما تنتج البهيمة بهمية جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء وأما الخيال والوهم فهو من نحو الاعتقاد الذي يكون حقا تارة وباطلا أخرى وقد يخص باسم الباطل فأين هذا من هذا وإن أراد أنه لا يحس أي لا يرى فهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه الوجه الثامن والثلاثون أن يقال له ما تريد بلفظ الوهم والخيال أتريد به ما قد يخص هذا اللفظ به في العرف من تخيل الباطل وتوهمه فلا ريب أن كل حق في الوجود ينزه عن هذا التوهم والتخيل وكل حق فإنه على خلاف ما يقضي به هذا الوهم والخيال وكل حق فهو على خلاف هذا الوهم والخيال وما أكثر ما يسمع وصف شيء بألفاظ فيتخيلونه على صورة فإذا رأوه وجدوه بخلاف ما تخيلوه وما أكثر ما يتوهم الإنسان في إنسان شيئا فإذا رآه وجد بخلاف ما توهمه ولا ريب أن الله على خلاف ما يتخيله ويتوهمه المبطلون من الجهمية وغيرهم كما قال تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين 37180 182 وقال سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا وقال ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين 2240 23 وقال وتظنو 6 ن بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا 1133 وقال ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء إلى قوله بل ظننتم أن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا 4812 وقال فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين 2187 وقال إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور 1414 وقال إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا 5838 وإن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى 5323 وقال أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون 4380 ولا ريب أن الاعتقادات الفاسدة مثل اعتقاد الكفار في ربهم وما يتبعها من الإرادات هي خيالات باطلة وأوهام باطلة كما قال تعالى والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور 2440 هذا بعد قوله الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة إلى قوله نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم 2425 وقال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها 6122 ولا ريب أن كثيرا من الناس يتخيل ويتوهم في نفسه صورا باطلة ويعتقد أن ربه كذلك كما يعتقد في ربه اعتقادات باطلة ويعتقد أن ربه كذلك فالاعتقاد والتوهم والتخيل الباطل موجود في جانبي النفي والإثبات والباطل في جانب النفي أكثر منه في جانب الإثبات ولهذا يوجد من الجهمية النفاة من يعتقد أن الله هو الوجود المطلق وأنه وجود الموجودات أنفسها وأنه بنفسه في كل مكان وأن وجود الموجودات كلها وجود واحد ويقولون بوحدة الوجود في الخارج وأنه عين ذلك الوجود ونحو ذلك من الاعتقادات التي يقولون إنها حصلت لهم بالكشف والمشاهدة وهي خيالات وأوهام باطلة إما أن لا يكون لها حقيقة في الخارج أو يكون لها حقيقة لكن تكون هي أمر مخلوق لا تكون هي الخالق سبحانه وكما يتخيلون ويتوهمون أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ولا كذا ولا كذا مما هو عند أهل العقول السليمة خيالات باطلة وأوهام فاسدة لا تنطبق إلا على المعدوم بل على الممتنع ولهذا يوجد في هؤلاء من يعبد المخلوقات ومن يعتقد في كثير من المخلوقات أن الله أضعاف أضعاف ما يوجد في أهل الإثبات كما قد رأينا وسمعنا من ذلك ما لا يسع هذا المكان ذكر عشره فلهذا هم أعظم الناس اختيالا وكيدا حيث يختال أحدهم في نفسه أنه الله ويعظمون فرعون في قوله أنا ربكم الأعلى 7914 مالكم من إله غيري 2828 ونحو ذلك من الاختيال الباطل الذي هو أفسد اختيال وأعظم فرية على الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وأما إن أراد أنه على خلاف ما يصدق به ويعتقده ويظنه ويتوهمه ويتخيله ويقوله ويصفه وينعته الأنبياء والمؤمنون به فهذا باطل فإن اعتقاد هؤلاء فيه اعتقاد مطابق حي وإن سمي ظنا ونحوه كما قال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وقال تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال يقول الله أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى فمن ظن وتوهم في به أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير كان هذا الظن والتوهم حقا وإن كان الواجب تيقن ذلك بخلاف من ظن وحسب أنه لا يسمع سره ونجواه كما قال تعالى أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون 4380 وقال وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا 186140 بل لفظ الرؤية وإن كان في الأصل مطابقا فقد لا يكون مطابقا كما في قوله أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا 358 وقال يرونهم مثليهم رأي العين 313 وقد يكون التوهم والتخيل مطابقا من وجه دون وجه فهو حق في مرتبته وإن لم يكن مماثلا للحقيقة الخارجة مثل ما يراه الناس في منامهم وقد يرى في اليقظة من جنس ما يراه في منامه فإنه يرى صورا وأفعالا ويسمع أقوالا وتلك أمثال مضروبة لحقائق خارجية كما رأى يوسف سجود الكواكب والشمس والقمر له فلا ريب أن هذا تمثله وتصوره في نفسه وكانت حقيقته سجود أبويه وأخوته كما قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا 12100 وكذلك رؤيا الملك التي عبرها يوسف حيث رأى السنبل بل والبقر فتلك رآها متخيلة متمثلة في نفسه وكانت حقيقتها وتأويلها من الخصب والجدب فهذا التمثل والتخيل حق وصدق في مرتبته بمعنى أن له تأويلا صحيحا يكون مناسبا له ومشابها له من بعض الوجوه فإن تأويل الرؤيا مبناها على القياس والاعتبار والمشابهة والمناسبة ولكن من اعتقد أن ما تمثل في نفسه وتخيل من الرؤيا هو مماثل لنفس الموجود في الخارج وأن تلك الأمور هي بعينها رآها فهو مبطل مثل من يعتقد أن نفس الشمس التي في السماء والقمر والكواكب انفصلت عن أماكنها وسجدت ليوسف وأن بقرا موجودة في الخارج سبعا سمانا أكلت سبعا عجافا فهذا باطل وإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه فهذا حق في الرؤيا ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك وإلا كان بالعكس قال بعض المشايخ إذا رأى العبد ربه في صورة كانت تلك الصورة حجابا بينه وبين الله وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم وما أظن عاقلا ينكر ذلك فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره وهذه مسألة معروفة وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام ولكن لعلهم قالوا لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام فهذا مما يقوله المتجهمة وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه وقول من يقول ما خطر بالبال أو دار في الخيال فالله بخلافه ونحو ذلك إذا حمل على مثل هذا كان محملا صحيحا فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره في منامه ويقظته وإن كان ما رآه مناسبا مشابها لها فالله تعالى أجل وأعظم وهؤلاء النفاة من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم يزعمون أن الرسل فيما أخبروا به من صفات الرب خيلوا ومثلوا حتى أخرجوا المعقول في مثال المحسوس وكذلك يقول هؤلاء المفلسفة إن ما أخبرت به الرسل من أمر المعاد أمثال مضروبة لتفهيم المعاد العقلي واللذة والألم العقليين ويقول الفارابي وأمثاله إن خاصة الأنبياء جودة التخيل والتخييل والكلام على هؤلاء وبيان خطئهم وضلالهم في هذا التخيل والتوهم الذي هو غير مطابق له موضع غير هذا ومن أكثر أسباب غلطهم بناؤهم على أن المعقول الموجود يكون له وجوده في الخارج وهم إذا تدبروا ذلك علموا أن المعقولات التي هي أمور كلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان وإن الخارج لا يكون فيه شيء مما هو معقول مجرد وهو الأمور الكلية إلا أن يراد بالمعقول في قولهم مثلوا المعقول في صورة المحسوس ما يحسه الإنسان بنفسه دون جسده فهذا في الحقيقة محسوس موجود لكن بالحس الباطن والوجد الباطن ليس معقولا محضا ولا في تمثل أن الإنسان يحس جوعه وشبعه ولذته وألمه أنه ينتقل حكمه من الباطن إلى الظاهر كما ينتقل حكم الحس بالظاهر إلى الباطن وإذا قدر وجود النفس بغير بدن فهو يحس بما يجده من لذة وألم وذلك أمر محسوس لها وبجنس أسباب ذلك لا يكون لها معقولا مجردا كليا فإن ذاك إنما ثبوته في مجرد العلم والاعتقاد ولا بد له من أفراد موجودة في الخارج وإلا لم يكن حقا ومن المعلوم أن هذا الظان أن النفس تلذذ بهذه الأمور دون إدراك الحقائق الخارجية من أفسد الظن وهو كقول من يقول إن النفس تتلذذ بتمثل المحسوس والمشتهى دون المباشرة لحقيقته الخارجة فقولهم يمثل المعقول في صورة المحسوس كلام لا حقيقة له لكن لو قال يمثل الغائب في صورة الشاهد ويمثل الغيب في صورة الشهادة كان هذا حقا فإن الإنسان إنما يعلم ما يشهده ويحس به بالقياس والتمثيل لما شاهده لكن هذا لا يقتضي أن تكون الأمور الغائبة المتمثلة ليست في أنفسها مما يحس بل يعقل عقلا مجردا فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقوله قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه في كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية الوجه الثالث والستون أن يقال إن الصحابة والتابعين وسائر سلف الأمة وأئمتها وأئمة أهل الحديث والفقهاء والصوفية والمتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم من طوائف المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم في إثبات هذه الصفات الخبرية وبقية الصفاتية النفاة لها في الصفات التي يسمونها الصفات العقلية كالحياة والعلم والقدرة لكن من هؤلاء الصفاتية من يجعل تلك الصفات الخبرية صفات معنوية أيضا قائمة بالموصوف مثل هذه وإنما يفرق بينهما لافتراق الطريق التي به علمت فتلك علمت مع الخبر الصادق بالعقل وهذه لم تعرف إلا بالخبر وأما السلف والأئمة وأهل الحديث وأئمة الفقهاء والصوفية وطوائف من أهل الكلام فلا يقولون إن هذه من جنس تلك لا يسمونها أيضا صفات خبرية لأن من الصفات المعنوية ما لا يعلم إلا بالخبر أيضا فليس هذا مميزا لها عندهم ومنهم من يقول هذه معلومة بالعقل أيضا وعلى القولين سواء كانت صفات عينية ومعنوية فيقال من المعلوم أن الموجودات في حقنا إما أجسام كالوجه واليد وإما أعراض كالعلم والقدرة فإذا كان أهل الإثبات متفقين على أن العلم والقدرة ثابت لله على خلاف ما هو ثبات للمخلوق وإن لم يكن في ذلك نفيا لحقيقته ولا تمثيلا له بالمخلوق فكذلك إذا قالوا في هذه الصفات إنا نثبتها على خلاف ما هو ثابت للخلق أو لا فرق بين ثبوت ما هو عرض فينا مع كونه غير مماثل للأعراض وبين ما هو جسم فينا مع كونه غير مماثل للأجسام بل يقال من المعلوم المتفق عليه بين المسلمين أن الله حي عالم قادر مع كونه ليس مثل الأحياء العالمين القادرين بل لا خلاف بين أهل الأثبات أنه موجود مع كونه ليس مثل سائر الموجودات بل العقل الصريح يقتضي وجود موجود واجب قديم ويقتضي بأنه ليس مماثلا للموجود المحدث الممكن وإلا للزم أن يجوز على الواجب ما يجوز على المحدث فبأوائل العقل يعلم أن من الموجود وجودا واجبا وأنه ليس مثل الموجود الممكن فالذي يثبتونه في جميع الصفات المعلومة هو من جنس ما يثبتونه في الذات وذلك أمر بين بأدنى تأمل معلوم بالعقل الصريح فليس المحكي عنهم في ذلك إلا ما اتفق العقلاء على نظيره وما هو ثابت معلوم بصريح العقل وإن كان بقية الطوائف بينهم نزاع في ذلك قيل له والحنابلة أيضا بينهم نزاع فمنهم من ينفي هذه الصفات ويوجب تأويل النصوص ومنهم من يجوز التأويل ولا يوجبه ومنهم من يفوض معنى النصوص مع نفي ومنهم من لا يحكم فيها بنفي ولا إثبات وهذه المقالات هي الممكنة الموجودة في غيرهم وأما قوله إنهم يصرحون بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق فلا ريب إنما يثبتونه وإلا لزم التمثيل والتشبيه المنفي بالعقل والشرع لكنهم لا يقولون نثبت معنى الجوارح والأعضاء ولكن نثبت المعاني التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع قوله فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق وبدا بخلاف أيدي الخلق ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال فإذا عقل إثبات ذلك على خلاف الوهم والخيال فأي استبعاد في القول بأنه تعالى موجود وليس بداخل العالم ولا خارج العالم وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الموجود يقال له أكثر ما في هذا أنهم أثبتوا ما لا يعلمون حقيقته لقيام الأدلة الشرعية عليه وهذا لا محذور فيه كما أثبتوا ما أخبر به من الجنة والنار وما فيهما والملائكة وصفاتها وهم لم يعلموا حقيقة ذلك فهم عن معرفة حقيقة الخالق أبعد وأما إثبات ما ليس بداخل العالم ولا خارجه فإنه ممتنع في الفطرة البديهية والفرق واضح بين عدم العلم وبين العلم بالعدم فأين إثبات شيء يعلم على سبيل الجملة ولا تعلم حقيقته على التفصيل من إثبات شيء يعلم بالبديهية انتفاؤه بل لو علم انتفاؤه بالنظر لم يجز إثباته فكيف إذا علم بالبديهة ولم يرد بثبوته خبر ولا نقل ثبوته عن أحد من السلف والأئمة وأما ما أثبتوه فلم يعلم انتفاؤه لا ببديهة ولا بنظر باتفاق عقلاء الطوائف والرازي من أقول الناس بذلك صرح في غير موضع من كتبه كالمحصل والتفسير وغيرهما بأنه لا يجوز نفي ما لا يعلم ثبوته من الصفات وأن الظاهريين من أصحابه ينفون ما لم يقم دليل على ثبوته ورد ذلك بأن ما لم يقم دليل بثبوته وعدمه لا يجوز نفيه ولا إثباته وصرح بأن هذه الصفات الخبرية كالوجه واليد الذي أثبتها الأشعري وغيره من أصحابه إنما لم يثبتها لعدم دليل ثبوتها لا لدليل عدمها وزعم أن أدلة الشرع لا تثبتها فلا يجوز إثباتها وأما ثبوت صفات في نفس الأمر لم نعلمها فإنه لا ينفي ذلك ويخطئ من ينفيه وهؤلاء يدعون ثبوت صفاته في نفس الأمر ثم إذا قال أحدهم إنا لا نعلم كيفيتها أو لا نعلم كنهها وحقيقتها كان هذا كقوله في الذات ولو قال أقلهم علما إنا لا نعلم معناها لم يكن عدمه علمه بالمعنى مانعا من ثبوته في نفس الأمر فأين عدم العلم بالشيء إلى العلم بعدمه وهذا الذي ذكره عن ظاهريي أصحابه وإن كان قول أبي المعالي الجويني وغيره وقد نقل الإجماع فيه وهو مما يقوله أبو الوفاء ابن عقيل ونحوه فالصواب هو الذي ذكر أبو عبدالله الرازي وهو الذي عليه المحققون وهو أحد قولي ابن عقيل بل هو آخر قوليه كما هو في الكفاية فصل عجيب يخفى على كثير من الأصوليين وذلك أنه لا يجوز الإغراق في الإثبات مجاوزة لما أثبته الشرع ودل عليه كذلك لا يجوز الإغراق في النفي ولا الإقدام على نفي شيء عن الله إلا بدليل لأن النفي أيضا لا يؤمن معه إزالة ما وجب له سبحانه فالنفي يحتاج إلى دليل كما أن الإثبات يحتاج إلى دليل كما أن إثبات ما لا يجب له كفر فنفي ما جوز عليه خطأ وفسق ومثال ذلك أن يغرق هؤلاء الخطباء والقصاص في نفي النقائص ثم يدرجون فيها ما وردت به السنن ويقولون ليس بفوق ولا تحت ولا يدرك ولا يعلم ولا يعرف ولا ولا فربما ساقوا في نفيهم نفي صفة وردت بها السنن قلت وهذا هو الصواب عند السلف والأئمة وجماهير المسلمين أنه لا يجوز النفي إلا بدليل كالإثبات فكيف ينفى بلا دليل ما دل عليه دليل إما قطعي وإما ظاهري بل كيف يقال ما لم يقم دليل قطعي على ثبوته من الصفات يجب نفيه أو يجب القطع بنفيه ثم يقال في القطعي إنه ليس بقطعي فهذه المقدمات الفاسدة هي وسائل الجهل والتعطيل وتكذيب المرسلين وإنما اعتمد على ذلك أبو المعالي لما خالف أئمته في إثبات صفة اليد وغيرها فقال في الإرشاد فصل ذهب أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب والسبيل إلى إثباتها السمع دون قضية العقل والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة وحمل العينين على البصر وحمل الوجه على الوجود قال صاحبه أبو القاسم النيسابوري الأنصاري شارح الإرشاد شيخ أبي عبدالله الشهرستاني صاحب الملل والنحل ونهاية الإقدام وغيرهما هذا ما قاله الإمام واعلم أن مذهب شيخنا أبي الحسن أن اليدين صفتان ثابتتان زائدتان على وجود الإله سبحانه ونحوه قال عبدالله بن سعيد ومال القاضي أبو بكر في الهداية إلى هذا المذهب قلت هو قول القاضي في جميع كتبه كالتمهيد والإبانة وغيرهما قال أبو القاسم النيسابوري وفي كلام الأستاذ أبي إسحاق ما يدل على أن التثنية في اليدين ترجع إلى اللفظ لا إلى الصفة وهو مذهب أبي العباس القلانسي قال الأستاذ أما العينان فعبارة عن البصر وكان في العقل ما يدل عليه وأما اليد والوجه فقد اختلف أصحابنا في الطريق إليهما قال قائلون قد كان في العقل ما يدل على ثبوت صفتين يقع بإحداهما الاصطفاء بالخلق وبالأخرى الاختيار بالتقريب في التكليم والإفهام لكن لم يكن في العقل دليل على تسميته فورد الشرع ببيانها يسمى الصفة التي يقع بها الاصطفاء بالخلق يدا والصفة التي يقع التقريب في التكليم وجها وقالوا لما صح في العقل التفضيل في الخلق والفعل بالمباشرة والإكرام والتقريب بالإقبال وجب إثبات صفة له سبحانه يصح بها ما قلناه من غير مباشرة ولا محاذاة فورد الشرع بتسمية إحداهما يدا والأخرى وجها ومن سلك هذه الطريقة قال لم يكن في العقل جواز ورود السمع بأكثر منه وما زاد عليه من جهة الإخبار فطريقة الآحاد التي لا توجب العلم ولا يجوز بمثلها إثبات صفة القديم وإن ثبت منها شيء بطريق يوجب العلم كان متأولا على الفعل قال وقال آخرون طريق إثباتها السمع المحض ولم يكن للعقول فيه تأثير فإذا قيل لهم لو جاز ورود السمع بإثبات صفات لا يدل العقل عليها لم يأمن أن يكون لله صفات لم يرد الشرع بها ولا صارت معلومة ووجب على القائل بذلك جواز ورود السمع بصفات الإنسان أجمع لله تعالى إذا لم تكن واحدة منها شبيهة بصفته كان جوابهم أن يقولوا لما أخبر الله المؤمنين بصفاته الكاملة له حكم لهم بالإيمان بكماله عند المعرفة بها لم يجز أن يكون له صفة أخرى لا طريق إلى معرفتها لاستحالة أن يكون المؤمن مؤمنا يستحق المدح إذا لم يكن عارفا بالله معنى وبصفاته أجمع فلما وصفهم بالإيمان عند معرفتهم لما ورد من الشرع ثبت أن لا صفة أكثر مما بين العقل إليه بالعقل والشرع قال الأستاذ أبو إسحاق والتعويل على الجواب الأول فإن فيه الكشف عن المعنى قال أبو المعالي فمن أثبت هذه الصفات السمعية وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول استدل بقوله تعالى ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي وذكر أنهم قرروا ذلك بتخصيص آدم بالخلق وبأنه ثنى اللفظ وكلاهما يمنع من حمله على القدرة وتكلم على ذلك إلى أن قال والذي يحقق ما قلناه أن الذي ذكره شيخنا أبو الحسن الأشعري القاضي ليس يوصل إلى القطع بإثبات صفتين زائدتين على ما عداهما من الصفات ونحن وإن لم ننكر في قضية العقل صفة سمعية لا يدل مقتضى العقل عليها وإنما يتوصل إليها سمعا فبشرط أن يكون السمع مقطوعا به وليس فيما استدل به الأصحاب قطع والظواهر المحتملة لا توجب العلم وأجمع المسلمون على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع وليس في اليدين على ما قاله شيخنا نص لا يحتمل التأويل ولا إجماع عليه(؟) فيجب تنزيل ذلك على ما قلناه يعني القدرة والظاهر من لفظ يدين حملهما على جارحتين فإن استحال حملهما على ذلك ومنع من حملهما على القدرة أو النعمة أو الملك فالقول بأنها محمولة على صفتين قديمتين لله زائدتين على ما عداهما من الصفات تحكم محض قال أبو المعالي وأما العينان والوجه فقد اختلف جواب شيخنا أبي الحسن في ذلك فقال مرة هما صفتان على نحو ما قال في اليدين وقال مرة العينان محمولتان على البصر وهذا أظهر قوليه وعليه حمل الأعين في قوله تجري بأعيننا 1454 أي تجري السفينة بمرأى منا وقيل بحفظنا وحمل الوجه على وجود الباري واستدل على ذلك بقوله تعالى ويبقى وجه ربك 2754 والباقي بعد فناء الحق هو الله قال أبو المعالي وهذا هو الصحيح من جوابيه عندنا وإنما اختلف جوابه من حيث كان التعليق بالظاهر في اليدين أظهر قال أبو القاسم النيسابوري وقول أبي الحسن في أن الوجه صفة زائدة على الوجود أظهر وقوله في العينين أن المراد بذلك البصر أظهر قال أبو المعالي ومن سوغ من أصحابنا إثبات الصفات بظواهر هذه الآيات ألزمه بثبوت كلامه أن يجعل الاستواء والنزور والجنب من الصفات تمسكا بالظاهر وإن لم يبعد تأويلها فيما يتفق عليه لم يبعد أيضا طريق التأويل فيما ذكرناه قال أبو القاسم هذا ما قاله الإمام وقد رأيت في بعض كتب الأستاذ أبي إسحاق قال ومما ثبت من الصفات بالشرع الاستواء على العرش والمجيء يوم القيامة بقوله الرحمن على العرش استوى وقوله وجاء ربك والملك صفا صفا 2289 ومما ثبت بالأخبار الصحيحة النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة وقوله أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا الحديث قال وأجمع أهل النقل على قبول هذين الخبرين وما هذا وصفه كان موجبا للعمل ومقبولا في مسائل القطع هذا ما ذكره الأستاذ في هذا الكتاب قال أبو القاسم لا يظن بالأستاذ أبي إسحاق أنه اعتقد أن النزول والمجيء والإتيان من صفات ذات الإله سبحانه فإنه سبحانه لا يوصف بهذه الأوصاف في أزله ويستحيل قيام حادث بذاته فما حكيناه عنه أنه قال ومما يثبت في الصفات بالسمع كذا وكذا فيحتمل أنه أراد بذلك صفات الأفعال ويحتمل أنه أراد به الصفات الخبرية التي لا بيان لها أكثر مما ورد به الخبر قال وقال الأستاذ أبو بكر يعني ابن فورك من أصحابنا من قال الاستواء وصف خبري لا مجال للعقل فيه وكذلك الفوقية والواجب أن يتوقف في ذلك أن يرد بمعناه خبر قال وهذا مذهب أئمة أهل السلف وقد روي عن أم سلمة أنها قالت الاستواء ثابت بلا كيف وهذا قول مالك بن أنس والأوزاعي وغيرهما من الأئمة وحكى شيخنا أبو الحسن قولين لأصحابنا في الاستواء أحدهما من صفات الذات والثاني أنه من صفات الأفعال فمن صار إلى أنه من صفات الذات اختلفوا فيه فصار الأكثرون منهم إلى أن الاستواء على العرش هو العلو عليه من جهة القهر والغلبة والانفراد بنعوت الجلال وهذا المعنى وإن كان مدركا بالعقل ولكن تسميته بالاستواء مستقاة من الخبر قال أبو الحسن من قال الاستواء صفة للذات فإنه سمى الله به حين خلق العرش لأجل أن الاستواء يقتضي إليه يستوي عليه ولم يكن في الأزل غير الله فلم تكن تسميته به قال وقال بعض المتأخرين من أصحابنا ويمكن أن يقال لم يزل كانت له صفة الاستواء مطلقا بمعنى أنه على صفة يصح بها الاستواء على العرش إذا خلق كما يقول لم يزل الله قادرا وإن كان تعلق القدرة بالأحداث يختص بحال الحدوث وصار آخرون إلى أن الاستواء صفة خبرية يتوقف في معناها إلى أن يرد خبر ببيانها قلت ما نقله من لفظ الأشعري فمعروف وما فسره قال وقال الإمام يعني أبا المعالي وكنا على الإضراب عن الكلام وعلى الظواهر فإذا عرض فنشير إلى جمل منها في الكتاب والسنة وقد صرح بالاسترواح إليها المجسمة وأصحاب الظواهر قال وأجمع المسلمون على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل لا يتوصل فيها إلى قطع بعقل أو سمع قال وأجمع المحققون على أن الظواهر يصح تخصيصها أو تركها بما لا يقطع به من أخبار الآحاد والأقيسة وما يترك مما لا يقطع به كيف يقطع به قلت هذا الإجماع الذي ذكره أبو المعالي مرتين هو الذي ذكره أبو عبدالله الرازي وغيره عن الظاهريين من أصحابه وبين أنه فاسد والذي قاله الرازي هو الذي عليه جماهير الناس من المتقدمين والمتأخرين قد صرح أئمة السلف بذلك وأن ما لم يعلم ثبوته ولا انتفاؤه من الصفات لا ننفيه ولا نثبته والإجماع الذي ذكره أبو المعالي لا أصل له بل لم يقل ما ادعى فيه الإجماع أحد من أئمة المسلمين لا من الفقهاء ولا أهل الحديث ولا السلف وإنما قال هذا ابتداء من قاله من المعتزلة واتبعهم على ذلك طائفة ممن احتذى حذوهم في الكلام من الأشعرية وغيرهم وذلك لأن من أصلهم أنهم يقولون إنهم عرفوا الله حق معرفته وعرفوا حقيقة ذاته فعلموا ما يوصف به نفيا وإثباتا فلو جوزوا أن يكون له صفة لا يعلمون نفيها ولا إثباتها بطل هذا الأصل وهذا الأصل قد خالفهم فيه أبو المعالي كما خالفهم فيه أئمته وضرار بن عمر وهم مخالفون فيه لسلف الأمة وأئمتها وسائر أئمة العلم والدين وقد حكينا ذلك في غير هذا الموضع وأن أبا المعالي قال لا شك في ثبوت وجوده سبحانه فأما الموجود من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال قال ولكن ليس تتطرق إليها العقول ولا هي علم هجمي ولا علم مبحوث عنه غير أنا لا نقول إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها فإنه سبحانه يعلم حقيقة نفسه وليس للمقدور الممكن من مزايا العقول عندنا موقف ينتهى إليه ولا يمتنع في قضية العقل مزية لو وجدت لاقتضت العلم بحقيقة الإله وقد تقدم أن هذا قول أئمة أصحابه كالقاضي وغيره وهذا تصريح منه بأن لله صفة تميزه عن غيره لا تعلم بالعقول لا بضرورة ولا نظر وصرح بإمكان علمنا بها إذا أعطينا مزية نعلمها بها وقد حكى هو عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال حقيقة الإله صفة مائية اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان وذكر عن القاضي أبي بكر أنه ذكر مذهب ضرار أن لله مائة لا يعلمها في وقتنا إلا هو وأن القاضي قال لا بعد عندي فيما قاله ضرار فإن الرب يخالف خلقه بأخص صفاته فيعلم على الجملة اختصاص الرب سبحانه بصفة يخالف بها خلقه ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والقدم ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات الحقيقية وأن القاضي تردد في أن الذين يرون الله سبحانه في الدار الآخرة هل يعلمون تلك الصفة التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية وذكر عن طائفة من الكرامية أنهم أثبتوا لله مائية وكيفية فقد يقال إذا كان أبو المعالي قد أوجب ثبوت صفة لله يمتنع علمنا بها الآن كيف يصح أن يقال علمنا جميع ما يثبت له وينفي عنه من الصفات وإذا كان قول طوائف يثبوت صفات له لا تعلم وتجويز ذلك كيف يحكى إجماع المسلمين على خلاف ذلك هذا تناقض منه في كتبه وقد يقال لم يتناقض لأن الذي نفاه بالإجماع تقدير صفة مجتهد فيها لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع وهو هنا قاطع بما أثبته لا مجوز له فلا تناقض وقد يقال بل إذا وجب إثبات حقيقة لا تعرف لم يمتنع أن يكون لتلك الحقيقة صفة لا تعرف فالجزم بنفي ذلك مع الجزم بثبوت تلك الحقيقة تناقض وسواء كان تناقضا أو لم يكن ولو لم يتناقض فبطلان هذا الإجماع الذي ادعاه ظاهر لكل من له من العلم أدنى نظر وإنما هو كثير الاستغراق في كلام المعتزلة وأتباعهم قليل المعرفة والعناية بكلام السلف والأئمة وسائر طوائف الإسلام من أهل الفقه والحديث والتصوف وفرق المتكلمين أيضا فحكى الإجماع كما يحكى أمثال هذه الإجماعات الباطلة أمثال هؤلاء المتكلمين ولو كان الأمر كما ادعاه فدعواه أن دلالة القرآن والأخبار على ذلك ليست قطعية يخالفه في هذه الدعوى أئمة السلف وأهل الحديث والفقه والتصوف وطوائف من أهل الكلام من أصحابه وغيرهم فإن عندهم دلالة النصوص على ذلك قطعية وأما الأخبار فمذهب أكثر أصحابه أنها إذا تلقيت بالقبول أفادت العلم كما تقدم ذكرهم لذلك عن الأستاذ أبي إسحاق وهذا الذي ذكره أبو بكر ابن فورك هو معنى ما ذكره الأشعري في كتبه عن أهل السنة والحديث وذكر أنه قوله وأن الإيمان بموجب هذه الأخبار واجب وإذا كان يمكن أن يكون له صفات لا تعلم بمجرد العقل وكان كثير من المثبتين لهذه الصفات الخبرية من أئمته ومن الحنبلية وغيرهم يثبتون ما لا يعلمون معناها ومالا يعلمون حقيقته ولم يثبتوا ما يعلمون انتفاء ظهر ما تقدم من الجواب من الفرق بين ما يعلم امتناعه وهو وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وبين ما لا تعلم حقيقته كهذه الصفات عند هؤلاء الرابع والستون أن ما أثبتوه من الصفات جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وقد يقول طوائف أن العقل أيضا يوجب ثبوت أصل هذه الصفات وإن لم يثبتها مفصلة كما أنه في العلو يعلم علوه لكن لا يعلم وما نفوه من كون الخالق ليس داخل العالم ولاخارجه جاء فيه الأثبات الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأئمة وأئمتها مع حكم العقل الصريح به فهم في كلا الموضعين آمنوا بالله وكتبه ورسله وأقروا ما شهدت به الفطرة وما علمه العقل الصريح وأقروا بموجب السمع والعقل ولم يكونوا من أصحاب النار الذين يقولون لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير 1067 فأين هذا ممن خالف صريح العقل بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه وخالف مع ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ونفى مع ذلك الصفات التي أثبتتها النصوص المتواترة والإجماع السلفي وعلم فساد نقيضها بالعقل الصريح أيضا بأن الله لا مثل له وأن حقيقته مخالفة لحقيقة العالم كما أنه قد يحصل العلم بأنه ليس مماثلا للخلق بل مخالف له قبل العلم بأنه مباين للعالم محتاز عنه منفرد فإن باب الكيف غير باب الكم وباب الصفة غير باب القدر وإذا كانت المباينة بالقدر والجهة تعلم بدون هذه علم أنها أيضا ثابتة وإن كانت تلك أيضا ثابتة وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعا بل المباينة بالجهة والقدر أكمل فإنها تكون لما يقوم بنفسه كما تكون لما يقوم بغيره لأن عدم قيامه بنفسه يمنع أن يكون له قدر وحيز وجهة على سبيل الاستقلال ومن هنا تبينا الوجه الثالث والثلاثون وهو أن من المعلوم أن مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة بعض الخلق بعضا سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض والأعراض بعضها لبعض ومباينة الأجسام والأعراض ثم الأجسام والأعراض تتباين مع تماثلها بأحيازها وجهاتها المستلزمة لتباين أعيانها وتباين مع اختلافها أيضا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها كالجسمين المختلفين والعرضين المختلفين في محلين وأدنى ما تتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز كالعرضين المختلفين في محل واحد فلو لم يباين الباري لخلقه إلا بمجرد الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الجهة والحيز والقدر لكانت مباينته لخلقه من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله وهذا يقتضي أن مباينته للعالم من جنس تباين الشيئين اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد بل إذا كان العالم قائما بنفسه وكانت مباينته له من هذا الجنس كانت مباينته للعالم مباينة للجسم الذي قام به ويكون العالم كالجسم وهو معه كالعرض وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله لا سيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر فإن الله تعالى غني عن العالمين كما تقدم ومن هنا جعله كثير من الجهمية حالا في كل مكان وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات نفس أو جعلوه الموجود المطلق أو نفس الموجودات وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل وهو تعطيل للصانع ففيه من إثبات فقره وحاجته إلى العالم ما يجب تنزيه الله عنه وهؤلاء زعموا أنهم نزهوه عن الحيز والجهة لئلا يكون مفتقرا إلى غيره فأحوجه بهذا التنزيه إلى كل شيء وصرحوا بهذه الحاجة كما ذكرناه في غير هذا الموضع فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرص وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا 1988 95 ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة التي أدناها مباينة العرض للجسم أو للعرض بحقيقته فإن ذاك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر أو يكونان كلاهما في محل واحد وإذا كان هؤلاء النفاة لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدوما كما اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية الذين يقولون إنه ليس فوق العرش أنهم جعلوه معدوما ووصفوه بصفة المعدوم يدل على ذلك أن هذا الرازي جعل مباينته لخلقه من جنس مباينته للحيز ولا يجب أن يكون موجودا كما تقدم فعلم أنهم أثبتوا للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم ومن جنس مباينة المعدوم للمعدوم والعالم موجود لا ريب فيه فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم وهذا حقيقة قولهم وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك فإن هذا حال الضالين الوجه الرابع والثلاثون أن يقال هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل لبعض الموجودات فالواجب أن تكون مباينته للخلق أعظم من مباينة كل لكل فيجب أن يثبت له من المباينة أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله ومباينة الجوهر للجوهر وكذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة التي تسمى المباينة بالحقيقة أو بالكيفية أو المباينة بالقدر التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية فإن تكون مباينته بهذين أعظم مما يعلم مباينة المخلوق المخلوق إذ ليس كمثله شيء مما يوصف به وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها فهذا يقتضي مماثلة المخلوق وإنما يكون شبهه ببعض المخلوقات أعظم من شبه بعضها ببعض وذلك ممتنع يوضح ذلك الوجه الخامس والثلاثون وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة وهو ضد المماثلة وحيث كانت المباينة فإنها تستلزم فصل قول المؤسس وأمثاله معلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال إن عنى بذلك ما يعرفه من مسمى ذلك لم ينازع فيما يدعيه وإن ادعى ذلك يبين هذا الوجه الثامن والستون وهو أن يقال له لا نسلم إن ذلك مما لا يقبله الوهم والخيال والدليل على ذلك أن القرآن والحديث سمعه الصحابة والتابعون وتابعوهم من القرون الثلاثة وفي غيرها من الأعصار في جميع أمصار المسلمين وهو يتلى ليلا ونهارا والمؤمن يسلم أن ظاهر ذلك هي هذه الصفات ومن المعلوم أن أحدا من السلف والأئمة لم يتقدموا إلى من يستمع القرآن والحديث بأن يصرف قلبه وفكره عن تدبر ذلك وفهمه وتصوره ولا أمره أن يعتقد أن هذا المعنى منه ليس بمراد وإنما المراد بعض المعاني التي يعينها المتأولون أو المراد معنى آخر لا يعرف جملة ولا تفصيلا ولا يميز بينه وبين غيره ولا يقال اكتفوا في ذلك بسماع قوله ليس كمثله شيء وقوله هل تعلم له سميا وقوله لم يكن له كفوا أحدا لأنه يقال الذي دلت عليه هذه النصوص هو الذي حكى عن أهل الأثبات التصريح بأن الثابت لله هو على خلاف ما يثبت للمخلوق فإن هذه المخالفة هي عدم المماثلة والنصوص تدل على ذلك فإذا كان ما دل عليه النصوص هو الذي حكاه عن أهل الإثبات فلو كان ذلك مردودا أو غير ممكن القبول في التوهم والتخيل مع أن ذلك غالب أو لازم لبني آدم لوجب أن يظهر إنكار ذلك ودفعه من عموم الخلق وجهورهم الوجه التاسع والستون وهو قوله معلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لايقبله الوهم والخيال أما أن يريد به المعنى الذي يذكره المتكلمة الصفاتية الذين يقولون هذه صفات معنوية كما هو قول الأشعري والقلانسي وطوائف من الكرامية وغيرهم وهو قول طوائف من الحنبلية وغيرهم وأما أن يريد بمعنى أنها أعيان قائمة بأنفسها فإن أراد به المعنى الأول فليس هو الذي حكاه عن الحنبلية فإنه قال وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض فهم أيضا معترفون بأن ذاته مخالفة لسائر الذوات إلى أن قال وأيضا فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئا من الأعضاء والجوارح صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق ويدا بخلاف أيدي الخلق ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه عما لا يقبله الوهم والخيال فإذا كان هذا قوله فمعلوم أن هذا القول الذي حكاه هو قول من يثبت هذه بالمعنى الذي سماه هو أجزاء وأبعاضا فتكون هذه صفات قائمة بنفسها كما هي قائمة بفسها في الشاهد كما أن العلم والقدرة قائم بغيره في الغائب والشاهد لكن لا تقبل التفريق والانفصال كما أن علمه وقدرته لا تقبل الزوال عن ذاته وإن كان المخلوق يمكن مفارقة ما هو قائم به وما هو منه يمكن مفارقة بعض ذلك بعضا فجوزا ذلك على المخلوق لا يقتضي جوازه على الخالق وقد علم أن الخالق ليس مماثلا للمخلوق وأن هذه الصفات وإن كانت أعيانا فليست لحما ولا عصبا ولا دما ولا نحو ذلك ولا هي من جنس شيء من المخلوقات فإذا كان هذا القول الذي ذكر تنفي الحنابلة وإن هذا هو الظاهر فلو كان هذا مما لا يقبله الوهم والخيال لوجب نفرة من سمع القرآن والحديث عن ذلك من الكفار والمؤمنين ولوجب أن يكون المشركون يقدحون فيه بأنه جاء بما تنكره الفطرة ولوجب أن المؤمنين عوامهم وخواصهم يكون عندهم يفي ذلك شبهة وإشكالا حتى يسألوا عن ذلك كما وقعت الشبهة عند من سمع ذلك واعتقد نفي هذا المعنى إذ يرى ذلك متناقضا ولوجب أن علماء السلف وأئمة الأمة يتكلمون بما ينفي هذا المرض ويزيل هذه الشبهة ويكون ذلك من أعظم الطاعات بل من أكبر الواجبات فلما لم يمكن شيء من ذلك علم أن هذا الذي ذكرته عنهم ليس هو مما ينكره الوهم والخيال ألا ترى أن ما نقوله من أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه متى صرحت به لجمهور الناس تلقوه بالرد والإنكار ولهذا كان الحذاق من أهل هذا القول يتواصون بكتمانه وإخفائه وكان السلف والأئمة في ذلك يفصحون به في المجالس العامة والخاصة وهكذا الأمر فيما قبل شريعتنا فإن التوراة فيها من هذا الباب نحو ما في القرآن وكان موسى عليه السلام يبلغ ذلك لبني إسرائيل تبليغا عاما والأنبياء بعده ولم يكن بنو إسرائيل ينكرون ذلك ولا كان الأنبياء يأمروهم بترك ما فهموه من ذلك فلو كان الوهم والخيال يرد ذلك للعامة لكان يجب أن يكثر في العامة من يرد ذلك وهمه وخياله وإن كان في الخاصة فكذلك فلما لم يوجد في العامة ولا الخاصة من رد ذلك لكونه لا يمكنه أن يتصور خياله ووهمه علم بطلان ما ذكره إذ الذين ينفون ذلك يزعمون أن القياس دل على نفيه الوجه السبعون أن جميع الناس من المثبتة والنفاة متفقون على أن هذه المعاني التي حكيناها عن خصمك هي التي تظهر للجمهور ويفهمونها من هذه النصوص من غير إنكار منهم لها ولا قصور في خيالهم ووهمهم عنها والنفاة المعتقدون انتفاء هذه الصفاة العينية لم يعتقدوا انتفاءها لكونها مردودة في التخيل والتوهم ولكن اعتقدوا أن العين التي تكون كذلك هو جسم واعتقدوا أن الباري ليس بجسم فنفوا ذلك ومعلوم أن كون الباري ليس جسما ليس هو مما تعرفه الفطرة بالبديهة ولا بمقدمات قريبة من الفطرة ولا بمقدمات بينة في الفطرة بل مقدمات فيها خفاء وطول وليست مقدمات بينة ولا متفقا على قبولها بين العقلاء بل كل طائفة من العقلاء تبين أن من المقدمات التي نفت بها خصومها ذلك ما هو فاسد معلوم الفساد بالضرورة عند التأمل وترك التقليد وطوائف كثيرون من أهل الكلام يقدحون في ذلك كله ويقولون بل قامت القواطع العقلية على نقيض هذا المطلوب وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا جسما وما لا يكون جسما لا يكون معدوما ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول وإن قال النفاة إن هذا حكم الخيال والوهم فقد اتفقوا على أن الوهم والخيال يثبت الصانع على قول مثبتة الجسم لا على قول نفاته فإذا كان الوهم والخيال يثبته كذلك بإقرار النفاة فكيف تكون هذه الصفات منفية عنه في حكم الوهم والخيال هذا خلاف ما اتفق عليه النفاة والمثبتة بل على هذا التقدير يكون الوهم والخيال مقرا بما قاله أهل الإثبات في الذات والصفات دون ما قاله النفاة وهذا أمر بين لا يتنازع فيه عاقلان الوجه الحادي والسبعون أن هذا الذي حكيته عن هؤلاء الذين قلت إنهم التزموا الأجزاء والأبعاض غايته أنهم يثبتون ما هو الموصوف الذي تسميه جسما وأنهم لا يجوزون عليه ما يجوز على الأجسام من الفناء والآفات ومضمو ذلك أنه جسم يمتنع عليه أن يوصف بما توصف به سائر الأجسام بل هو مختلف عنها في الحقيقة وكذلك ما ذكرته من أنهم يصرحون متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئا من الأعضاء والجوارح بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق ويدا بخلاف أيدي الخلق فهذا الذي ذكرته غايته أنهم يثبتون وجها ويدان مخالفا لوجوه الخلق وأيديهم كما يقال جسم لا كالأجسام ومن أوضح المعلومات أن إثبات هذا ليس مما لا يقبله الوهم والخيال بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء قبولا لمثل هذا كما تقدم تقريره غير مرة فإن الوهم والخيال يتصور أنواعا من الأجسام كل جسم موصوف بضد صفات الآخر وكل جسم يجوز عليه أو يمتنع ما لا يجوز على الآخر أو لا يمتنع فيتصور الأجسام الموجودة ويقدر ما ليس بموجود وما يستحيل وجوده فكيف يقال إنه لا يقبل هذا يوضح هذا الوجه الثاني والسبعون وهو أنه إذا وصف له الملائكة وغيرهم بالوجه واليد ونحو ذلك مع أنه قد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ رآه على صورته التي خلق عليها مرتين رآه مرة وله ست مائة جناح منها جناحان قد سد بهما الأفق وروي أنه حمل قرى قوم لوط على ريشة من جناحه ونحو ذلك من الصفات العظيمة التي توصف بها الملائكة فإن الوهم والخيال يقبل ذلك مع علمه بأن حقيقتهم ليست مثل حقيقة بني آدم وأنهم ليسوا لحما ودما وعصبا ونحو ذلك من الأجسام الكائنة الفاسدة نعم قد يكون الضعيف الخيال منهم يكل خياله عن مثل ذلك كما يكل حسه عن رؤية الشعاع وعن سماع الصوت القوي ونحو ذلك ولهذا قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ولهذا سأل بعضهم زر بن حبيش عن حديث ابن مسعود في صفة جبريل وأن له ست مائة جناح فلم يحدثه به خوفا أن لا يحتمله عقله فيكذب به فهذا وأمثاله كثير موجود في بني آدم تضعف قوى إدراكهم عن إدراك الشيء العظيم الجليل لا كون الوهم والخيال لا يقبل جنس ذلك ولكن لأجل ما فيه من العظمة التي لم يعتد تصور مثلها ومن هذا الباب عجز الخلق عن رؤية الرب في الدنيا لامتناع رؤيه لعجزهم في هذه الحياة فأما أن يكون بنو آدم ينكرون بوهمهم وخيالهم في جسم مخلوق أن يكون مخالفا لغيره وأنه يمتنع تماثلهما فليس الأمر كذلك فكيف ينكرون بوهمهم وخيالهم أن يكون الخالق غير مماثل للمخلوق مع كون الوهم والخيال لا يتصور موجودا إلا جسما أو قائما بجسم الوجه الثالث والسبعون أن الأجسام بينها قدر مشترك وهو جنس المقدار كما يقولون ما يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه وبينها قدر مميز وهو حقيقة كل واحد وخصوص ذاته التي امتاز بها عن غيره كما يعلم أن الجبل والبحر مشتركان في أصل القدر مع العلم بأن حقيقة الحجر ليست حقيقة الماء وإذا كان كذلك فالحس لم يدرك مقدارا مجردا ولا صورة مجردة ولم يحس قط إلا جسما مهيئا له قدر يخصه وصفة تخصه والخيال إذا تخيل المحسوسات وهو مع هذا يمكنه تجريد المقدار عن الصفة فيشكل في نفسه قدرا معينا أو مطلقا غير مختص بصفة من الصفات وهو تقدير الأبعاد في النفس وإذا وصف له الملك فإنه يتخيل صورة مطلقة وأن لها وجها ويدا تناسبها في غير أن يتخيل حقيقتها فإن تخيل نسبة الصفة المخصوصة إلى الموصوف المخصوص أقرب إلى ما أحسه من تخيل قدر مطلق والتخيل يتبع الحس فكلما كان أقرب إلى الحس كان تخيله أيسر عليه وهذا ونحوه ما يبين أن تصوير الخيال لما حكاه عن منازعيه من أيسر الأمور بل لو قال إن التخيل لا يتصور إلا ما يكون هكذا لا يتصور وصفه بنقيض ذلك لكان هذا القول أقرب بل هذا القول الذي اتفق عليه العقلاء من أهل الإثبات والنفي اتفقوا على أن الوهم والخيال لا يتصور موجودا إلا متحيزا أو قائما وهو الجسم وصفاته ثم المثبتة قالوا وهذا حق معلوم أيضا بالأدلة العقلية والشرعية بل بالضرورة وقالت النفاة إنه قد يعلم بنوع من دقيق النظر أن هذا باطل فالفريقان اتفقوا على أن الوهم والخيال يقبل قول المثبتة الذين ذكرت أنهم يصفونه بالأجزاء والأبعاض وتسميهم المجسمة فهو يقبل مذهبهم لا نقيضه في الذات فصل التخيل والوهم الصحيح لا يتصور الموجود معدوما فعلم أن إنكاره الفطرة لذلك ورد التخيل والوهم له لما فيه من الأمور العدمية كالتناقض الذي فيه لا لعظمته في الوجود والذي يوضح هذا أن كثيرا من الخطباء والقصاص إذا أخذوا يصفون الرب ويعظمونه بهذه الصفات السلبية أخذت العامة الذين لا يفهمون حقيقة ما يقولون وإنما يستشعرون من حيث الجملة أن هذا تعظيم للرب يسبحونه ويمجدونه فلولا أنهم تخيلوا وتوهموا أن هذا السلب متضمن لوجود عظيم كبير وإلا لم يكونوا كذلك فعلم أنهم لم ينكروه لما فيه من الأمور الوجودية بل هم يتخيلون الموجود العظيم في الجملة ولكن إذا فهموا حقيقة هذه الألفاظ وما تشتمل عليه من الأمور العدمية أنكروه حينئذ وردته فطرتهم وذلك لأن السلب والعدم ليس فيه مدح أصلا ولا تعظيم فعلم أنه تعظيم فيها عند من توهمها ولهذا لم يكن النبي ﷺ والصحابة والتابعون يعظمون الرب بشيء من ذلك ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في آثار الأنبياء وسلف الأمة وأئمتها شيء من ذلك بل أعظم ما نقل عن النبي ﷺ في تعظيم الرب وتمجيده يوم قرأ على المنبر وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه 6739 كما روى ذلك أبو هريرة وعبدالله بن عمر والحديث في الصحيحين والآية دلت على عظم قدر الرب الذي يقبض الأرض ويطوي السموات بيمينه وهذا وصف لأمور وجودية تقتضي عظمة القدرة بخلاف السلوب المحضة ففي حديث ابن عمر الذي في الصحيح قال سمعت رسول الله ﷺ قال يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيديه وقبض كفيه أو قال يديه فجعل يقبضهما ويبسطهما ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ويميل رسول الله ﷺ عن يمينه وشماله حتى نظرت إلى المنبر من أسفل شيء حتى إني لا أقول أساقط هو برسول الله ﷺ ومن حديث عمر بن حمزة قال قال سالم أخبرني عبدالله بن عمر قال قال رسول الله ﷺ يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن وفي الصحيحين عن سعيد عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم قال أنا الملك أين ملوك الأرض وروى أبو الشيخ وغيره عن ابن عباس قال ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم وفي لفظ إنها لتغيب في يده حتى لا يرى طرفاها الوجه السادس والسبعون قوله فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق وبدأ بخلاف أيدي الخلق ومعلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال يقال له لا نسلم أن هذا غير مقبول كما يقبل أشباهه وتوابعه بل قبول وجوه وأيد لا تكون من جنس وجوه المخلوقين وأيديهم من جنس قبول ذات لا تكون من جنس ذوات المخلوقين وسمع وبصر وعلم وصفة لا تكون من جنس سمعهم وأبصارهم وعلومهم وإراداتهم شيئا فإن الذات عين قائمة بنفسها وهذه صفات لها ومنها وكل في ذلك ليس من جنس الأعيان المخلوقة وصفاتها التي هي لها ومنها وإن كان اللفظ متواطئا فيهما وقول القائل إن الوهم والخيال لا يقبل ذلك في الوجه كقول غيره إن الوهم لا يقبل ذلك في العلم وهو قول نفاة الصفات وهو كقول القائل إن الوهم والخيال لا يقبل ذلك في الذوات مطلقا عند كل من أثبت الذوات وليس له أن يقول فمقصودي أننا متفقون على الإقرار بما لا يقبله الوهم والخيال فإن هذا باطل من وجوه أحدها أنه لا فرق بين العقل والاعتقاد والعلم والوهم والخيال والظن من هذا الباب الثاني إن مورد النزاع قد قيل إنه معلوم بالفطرة انتفاؤه عقلا وموقع الإجماع ليس كذلك الثالث إن موقع النزاع معلوم الانتفاء بالوهم والخيال وموقع الإجماع إنما يقال فيه إن الوهم عاجز عنه كما بين ذلك الرابع أن إثبات صفات لا تعلم كيفيتها لذات لا تعلم كيفيتها ليس ممتنعا في العقل ولا في الوهم والخيال إنما الممتنع ثبوت ذات قائمة بنفسها لا داخل العالم ولا خارجه الخامس أنه إذا عرض على الفطرة وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه نفت ذلك وأنكرته وقضت بعدمه وإذا عرض عليها يد ليست جسما كأيدي المخلوقين وعلم ليس عرضا كعلم المخلوقين لم يقض بعدم فهمه ومعرفته أو بعلمه من وجه دون وجه ولهذا تنفر الفطرة عن الأول مالا تنفر عن الثاني وتحرير الأمر أن يقال الوجه السابع والسبعون أن لفظ الجسم والعرض والمتحيز ونحو ذلك ألفاظ اصطلاحية وقد قدمنا غير مرة أن السلف والأئمة لم يتكلموا في ذلك حق الله لا بنفي ولا بإثبات بل بدعوا أهل الكلام بذلك وذموهم غاية الذم والمتكلمون بذلك من النفاة أشهر ولم يذم أحد من السلف أحدا بأنه مجسم ولا ذم المجسمة وإنما ذموا الجهمية النفاة لذلك وغيره وذموا أيضا المشبهة الذين يقولون صفاته كصفات المخلوقين ومن أسباب ذمهم للفظ الجسم والعرض ونحو ذلك ما في هذه الألفاظ من الاشتباه ولبس الحق كما قال الإمام أحمد يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم وإنما النزاع المحقق أن السلف والأئمة آمنوا بأن الله موصوف بما وصف به نفسه وصفه به رسوله من أن له علما وقدرة وسمعا وبصرا ويدين ووجها وغير ذلك والجهمية أنكرت ذلك من المعتزلة وغيرهم ثم المتكلمون من أهل الإثبات لما ناظروا المعتزلة تنازعوا في الألفاظ الاصطلاحية فقال قوم العلم والقدرة ونحوهما لا تكون إلا عرضا وصفة حيث كان فعلم الله وقدرته عرض وقالوا أيضا إن اليد والوجه لا تكون إلا جسما فيد الله ووجهه كذلك والموصوف بهذه الصفاة لا يكون إلا جسما فالله تعالى جسم لا كالأجسام قالوا وهذا مما لا يمكن النزاع فيه إذا فهم المعنى المراد بذلك لكن أي محذور في ذلك وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه ليس بجسم وأن صفاته ليست أجساما وأعراضا فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال قالوا وكذلك فالعقل ينفي ذلك بما دل على حدوث الجسم والعرض القائم به قالوا لأنه لم يدل العقل على حدوث كل موصوف قائم بنفسه وهو الجسم وكل صفة قائمة به وهو العرض والدليل المذكور على ذلك دليل فاسد وهو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وبطلانه وسيأتي الكلام على هذا الدليل في موضعه قالوا فلا معنى لإنكار ما هو الحق الثابت بالشرع والعقل لاستلزام ذلك بطلان حجة مبتدعة أنكرها السلف والأئمة لأجل دعوى من ادعى من أهلها أنها أصل الدين الذي لا يعلم الدين إلا به فإنما هو أصل الدين الذي ابتدعوه كما قال تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله 4142 ليست أصلا لدين الله ورسوله بل أصل هذا الدين هو ما بينه الله ورسوله من الأدلة كما هو مبين في موضعه إذ من الممتنع أن يبعث الله رسولا يدعو الخلق إليه ولا يبين لهم الرسول أصل الدين الذي أمرهم به وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وعلى هذا التقدير فلا يكون فيما أثبته هؤلاء ما يخالف الوهم والخيال فتنقطع مادة التزامه بالكلية وقال قوم بل نقول ما وصف الله به من العلم والقدرة تسمى صفة ومعنى ولا نسميه عرضا لأن العرض هو ما يعرض ويزول وصفات الله لازمة بخلاف صفة المخلوق فإنها عارضة والتزموا لذلك وغيره أن صفة المخلوقات وهي الأعراض لا يبقى شيء منها زمانين ثم أئمة هؤلاء قالوا وكذلك ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد نقول إنه من جنس العلم والقدرة والإكرام بل ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد هو مما يوصف من الله ويوصف الله به ولا نسميه جسما لأنها تسمية مبتدعة وموهمة معنى باطلا ولا نقول ذلك من جنس العلم والقدرة ونحوهما بل نقول كما يعلم الفرق في صفاتنا بين العلم والقدرة وبين الوجه واليد ونحوهما فإن الحقائق لا تختلف شاهدا ولا غائبا كما يفرق في حقنا بين العلم والقدرة والسمع والبصر فلكل صفة من هذه خاصة ليست للأخرى كذلك هذه العقيدة في حق الله وإن قيل إن ذلك يقتضي التكثر والتعدد وكذلك نفرق بين الوجه واليد والعين وبين العلم والقدرة ونحو ذلك وإن قيل هذا يقتضي التجسيم والتركيب والتأليف ونحو ذلك فسيأتي الكلام المفصل في هذا في موضعه إن شاء الله لكن علمنا أن ذاته ليست مثل ذوات المخلوقين وعلمنا أن هذه الصفات جميعها ما يفهم أنه عين يقوم بغيره وما يفهم منه أنه معنى قائم بغيره نعلم أن جميع صفات الرب ليست كصفات المخلوقين فإن الشرع والعقل قد نفى المماثلة والشرع والعقل يثبتان أصل الصفات كما يثبتان الذات فإن إثبات ذات لا تقوم بنفسها ممتنع في العقل وإثبات قائم بنفسه يمتنع وصفة بهذه الصفات ممتنع في العقل بل العقل يوجب أن الذات القائمة بنفسها لا تكون إلا بمثل هذه الصفات وعلى قول هؤلاء فلم يثبت شيء على خلاف حكم الوهم والخيال فصل قال أبو عبدالله الرازي التاسع أن أهل التشبيه قالوا إن العالم والباري موجودان وكل موجودين فأما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه قالوا والقول بوجوب هذا الحصر معلوم بالضرورة قالوا والقول بالحلول محال فتعين كونه مباينا للعالم بالجهة فبهذا الطريق احتجوا بكونه تعالى مختصا بالحيز والجهة وأهل الدهر قالوا العالم والباري موجودان وكل موجودين فأما أن يكون وجودهما معا أو يكون أحدهما قبل الآخر ومحال أن يكون العالم والباري معا وإلا لزم إما قدم العالم أو حدوث الباري وهما محالان فثبت أن الباري قبل العالم ثم قالوا والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة وإذا ثبت هذا فتقدم الباري على العالم إن كان بمدة متناهية لزم حدوث الباري وإن كان بمدة لا أول لها لزوم كون المدة قديمة فأنتجوا بهذا الطريق قدم المدة والزمان فنقول حاصل هذا الكلام أن المشبهة زعمت أن مباينة الباري تعالى عن العالم لا يعقل حصولها إلا بالجهة وأنتجوا منه كون الإله في جهة وزعمت الدهرية أن تقدم الباري على العالم لا يعقل حصوله إلا بالزمان وأنتجوا منه قدم المدة وإذا ثبت هذا فنقول حكم الخيال إما أن يكون مقبولا في حق الله تعالى أو غير مقبول فإن كان مقبولا فالمشبهة يلزم عليهم مذهب الدهرية وهو أن يكون الباري متقدما على العالم بمدة غير متناهية ويلزمهم القول بكون الزمان أزليا والمشبهة لا يقولون بذلك والدهرية يلزم عليهم مذهب المشبهة وهو مباينة الباري عن العالم بالجهة والمكان فيلزمهم القول بكون الباري مكانيا وهم لا يقولون به فصار هذا التناقض وارد على الفريقين وأما إن قلنا إن حكم الوهم والخيال غير مقبول البتة في ذات الله تعالى وفي صفاته فحينئذ نقول قول المشبهة إن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه بالجهة قول خيالي باطل وقول الدهري إن تقدم الباري على العالم لا بد وأن يكون بالمدة والزمان قول خيالي باطل وذلك هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته وذلك هو المنهج القويم والصراط المستقيم قلت والكلام على هذا من وجوه أحدها أن تسمية هؤلاء أهل التشبيه مما ينازعونه فيه وذلك أن القوم متفقون على إنكار التشبيه وذم المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه ويجعلون الخالق من جنس شيء من المخلوقات وهذا منتف عندهم كما أقر به هذا الرجل ومعلوم أن كل من نفى شيئا من الصفات سمى المثبت لها مشبها فمن نفى الأسماء من املاحدة الفلاسفة والقرامطة وغيرهم يجعل من سمى الله تعالى عليما وقديرا وحيا ونحو ذلك مشبها وكذلك من نفى الأحكام يسمى من يقول إن الله يعلم ويقدر ويسمع ويبصر مشبها ومن نفى الصفات من الجهمية والمعتزلة وغيرهم يسمون من يقول إن لله علما وقدرة وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله تعالى يرى في الآخرة مشبها وهم من أكثر الطوائف لهجا بهذا الاسم وذم أصحابه ولهذا كان السلف إذا رأوا الرجل يكثر من ذم المشبهة عرفوا أنه جهمي معطل لعلمهم بأن هذا الاسم قد أدخلت الجهمية فيه كل من آمن بأسماء الله تعالى وصفاته ومن نفى علو الله على عرشه يسمى المثبت لذلك مشبها ومن نفى الصفات الخبرية والعينية يجعل من أثبتها مشبها وإذا كان هذا اللفظ فيه عموم وخصوص بحسب اعتقاد المتكلمين به واصطلاحهم وقد علم أن الرازي وأشباهه تسميهم المعتزلة وغيرهم مشبهة فإن كان ينفي عن نفسه هذا الاسم بما يقوله من التنزيه فكذلك حال غيره سواء مع أن هذا الاسم ليس له ذم بلفظه في الكتاب والسنة وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى المازني مصنفا سماه تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة ذكر فيه من كلام السلف والأئمة في هذا الباب كلاما كثيرا لا يحضرني الساعة قال أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة حكى إسماعيل بن زرارة قال سمعت أبا زرعة الرازي يقول المعطلة النافية الذين ينكرون صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه ﷺ ويكذبون بالأخبار الصحيحة التي جاءت عن رسول الله ﷺ في الصفات ويتأولونها بآرائهم المنكوسة على موافقة ما اعتقدوا من الضلالة وينسبون رواتها إلى لتشبيه فمن نسب الواصفين ربهم تبارك وتعالى بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه ﷺ من غير تمثيل ولا تشبيه فهو معطل ناف ويستدل عليهم بنسبتهم إياهم إلى التشبيه أنهم معطلة نافية كذلك كان أهل العلم يقولون منهم عبدالله بن المبارك ووكيع بن الجراح وذكره أيضا أبو القاسم التيمي في كتابة الحجة في بيان المحجة وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبدالرحمن الصابوني في اعتقاده المشهور وعلامة أهل البدع شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي ﷺ واحتقارهم لهم وتسميتهم إياهم حشوية وجهلة وظاهرية ومشبهة اعتقادا منهم في أخبار رسول الله ﷺ أنها بمعزل من العلم وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة ووساوس صدورهم المظلمة وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة وحججهم بل شبههم الداحضة الباطلة بل أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء 1822 فلو قال الرازي بدل المشبهة مثبتة الصفات الخبرية والعينية الذاتية أو مثبتة العلو أو جهة العلو لكان في ذلك من العدل ما ليس في هذا الاسم وأيضا فإنه قد صرح في أجل كتبه وهو نهاية العقول أن المجسمة القائلين بالجهة وغيرها ليسوا مشبهة وكذلك رد على من كفرهم لكونهم مشبهة فتبين ن التشبيه إن كان المراد به إثبات مثل لله عز وجل فهم لا يقولون بذلك وإن كان المراد إثبات وصف مشترك فهذا لازم لجميع الناس وهذا قول أئمته في المجسمة قال أبو المعالي باب نفي المثل والتشبيه عن الله من صفات نفس القديم تعالى مخالفة للحوادث فالرب سبحانه وتعالى لا يشبه شيئا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين فقد غلت طائفة في النفي فعطلت وغلت طائفة بالإثبات فشبهت وألحدت فأما الغلاة في النفي فقالوا الإشراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه وقالوا على هذا القديم سبحانه لا يوصف بالوجود بل يقال ليس بمعدوم فكذلك لا يوصف بأنه حي عالم بل يقال ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم سبحانه الحوادث فإنهم أثبتوا له الصورة والجوارح والاختصاص بالجهات والتركيب والأقدار والنهايات ومن غلاتهم من يثبت للقديم تعالى عن قولهم اللحم والدم والهيئة ويقولون بقدم الأرواح وصاروا إلى أنها من ذات القديم سبحانه وإنها تحل الأشخاص فإن قال قائل ما معنى التشبيه قلنا قد يطلق التشبيه والمراد منه اعتقاد المشابهة ويطلق والمراد منه الإخبار عن تشابه المتشابهين ويطلق ويراد به إثبات فعل على مثال فعل فإن قيل فهل تسمون غلاة المجسمة مشبهة قلنا: قال أبو الحسن في بعض كتبه نسميهم مشبهة وإن لم يصرحوا بلفظ التشبيه بل أبَوه وامتنعوا منه فإن الأمة مجمعة على أن من أثبت لله الجوارح والأعضاء والصورة واللحم والدم والتأليف فقد شبه ربه بخلقه فلا ينفعه بعد ذلك نفي سمة التشبيه عن نفسه بالقول بأنه جسم وشخص بلا كيف أو أنه على صورة الإنسان بلا كيف وقال في بعض كتبه المشبهة من يعترف بالتشبيه ويلتزمه وأما من ينكره فلا نسميه مشبها إذ حقيقة المثلين المشتبهان في جميع صفات النفس وليس كلما يلزم صاحب مذهب نظرا يجوز وصفه ابتداءا فإن قيل هل تكفرون الغلاة منهم قلنا القول في التكفير سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وبالجملة كل من شبهه فيما يطلقه من القول أو يعتقده بظاهر من الكتاب والسنة ولم يرد على ما ورد التعبد به ولا يفسره بما يوهم السامع تشبيها مع اعتقاد التقديس والتنزيه عن سمات الحدث فالأمر فيه قريب هذا كله كلام أبي المعالي وأصحابه فقد ذكر في تسمية غلاة المجسمة مشبهة قولين لأبي الحسن والمنصور عندهم هو القول الثاني وإن لازم المذهب ليس بمذهب فأما المجسمة غير الغلاة فلا يسمون مشبهة على القولين ومعلوم أن القائلين بالعلو على العرش بل بالجهة ليسوا بذلك من الغلاة بلا نزاع سواء صرحوا بأنه جسم غير مركب أو قالوا بالتركيب أو نفوهما جميعا إذ القول بأن الله تعالى نفسه فوق العالم هو قول الصفاتية من الكلابية والكرامية وأئمة الأشعرية مع جميع طوائف المسلمين فيمتنع إطلاق اسم المشبهة على هؤلاء وإنما يطلقه عليهم الجهمية من المعتزلة ونحوهم وغلاة المجسمة عنده الذين ذكر فيهم قولين هم الذين يثبتون مع التجسيم صورة الإنسان أو يثبتون له اللحم والدم كما ذكره ومع هذا كله فالأسماء التي تعلق بها الشريعة المدح والذم والحب والبغض والموالات والمعادات والطاعة والمعصية والبر والفجور والعدالة والفسق والإيمان والكفر هي الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة فأما سوى ذلك من الأسماء فإنما تذكر للتعريف كأسماء الشعوب والقبائل فلا يجوز تعليق الأحكام الشرعية بها بل ذلك كله من فعل أهل الأهواء والتفرق والاختلاف الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كحال من يعلق الموالات والمعاداة بأسماء القبائل أو البلدان أو المذاهب المتبوعة في الإسلام كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والمشايخ ونحوهم وإذا كان كذلك فاسم المشبهة ليس له ذكر يذم في الكتاب والسنة ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين ولكن تكلم طائفة من السلف مثل عبدالرحمن بن مهدي ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونعيم بن حماد وغيرهم بذم المشبهة وبينوا المشبهة الذين ذموهم أنهم الذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه فكان ذمهم لما في قولهم من مخالفة الكتاب والسنة إذ دخلوا في التمثيل إذ لفظ التشبيه فيه إجمال واشتراك وإيهام بخلاف لفظ التمثيل الذي ذل عليه القرآن ونفى موجبه عن الله عز وجل الوجه الثاني أن هذه الحجة يحتج بها طوائف من متكلميهم من الكرامية وغيرهم وإلا فجمهورهم لا يحتاجون إلى قياس شمولي في هذا الباب بل عندهم أن علو الله على العرش معلوم بالفطرة الضرورية وقد تواطأت عليه الآثار النبوية واتفق عليه خير البرية ويقولون نفي ذلك تعطيل للصانع معلوم بالضرورة العقلية فلو فرض أن هذا القياس عارضه ما أبطله لم يبطل ما علموه بالفطرة الضرورية من أن الله فوق خلقه وأنه يمتنع كونه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يلزم من كون العبد مضطرا إلى العلم بحكم الشيء المعين أن يجعل نقيض ذلك قضية عامة كلية فإن العلم بالمعين الموجود يلزمه نفي النقيض وذلك شيء غير العلم بنفي المطلق الكلي وطوائف من أهل الفطرة الصحيحة والأثبات للشريعة يعلمون أن الله تعالى فوق العالم ولا يخطر بقلوبهم تقدير وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه حتى ينفوه إذ الأقوال المنافية للإيمان لا يجب أن تخطر لكل مؤمن لكن لما حدث من ابتدع هذا النفي تكلم المسلمون في رده تارة ببيان أن الله تعالى فوق خلقه من غير تعرض لغيره وتارة ببيان استحالة نقيض ذلك وتارة ببيان استحالة وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ومن علم أن الله عز وجل فوق العالم نفى أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه وأما هل يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فقد يخطر بقلبه وقد لا يخطر الوجه الثالث أن هذه الحجة المذكورة ليست نظير ما ذكره من حجة الدهرية وذلك أن هؤلاء قالوا الخالق والمخلوق موجودان فكل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو بائنا عنه وكذلك إذا قيل إما أن يكون أحدهما داخلا في الآخر أو خارجا منه وكذلك إذا قيل إما أن يكون أحدهما متصلا بالآخر مقارنا له أو منفصلا عنه بائنا منه ثم قالوا وليس هو فيه فوجب أن يكون خارجا منه وهذا مقصودهم فنظيره أن يقال الباري والعالم موجودان وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معا وهما متقارنان وإما أن يكون أحدهما قبل الآخر وليس مع العالم مقارنا له فوجب أن يكون متقدما عليه وهذا حق فهذا تمام الموازنة والمعادلة بين الحجتين فالأولى دلت أن الباري تعالى خارج عن العالم ليس فيه وهذه دلت على أن الباري سابق للعالم لم يقارنه العالم وكذلك قال سبحانه هو الأول والآخر والظاهر والباطن 6057 وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء والباري سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة كما أن التقدم على الشيء قد يقال إنه بمجرد الرتبة كما يكون بالمكان مثل تقدم العالم على الجاهل وتقدم الإمام على المأموم فتقدم الله على العالم ليس بمجرد ذلك بل هو قبله حقيقة فكذلك العلو على العالم قد يقال إنه يكون بمجرد الرتبة كما يقال العالم فوق الجاهل وعلو الله على العالم ليس بمجرد ذلك بل هو عال عليه علوا حقيقيا وهو العلو المعروف والتقدم المعروف فهذا هو الذي يدل عليه ما ذكره من الموازنة والمقابلة وكلاهما حق يقولون به فعلم أن الحجة عليه لا له الوجه الرابع أن هذه المعارضة قد أخذها الرازي ممن احتج بها قبله كأبي المعالي وذويه فإنهم ذكروها في مسألة حدوث العالم وذكروها في مسألة الجهة لما أورد عليهم كل واحدة من الطائفتين ما عارضهم به من القضيتين الفطريتين فظنوا أنهم بهذا الإلزام يخلصون من معارضة الطائفتين ويجعلون ذلك دليلا على أنها من حكم الوهم ومع هذا لم يخلصوا بذلك من معارضة الطائفتين بل ادعوا ما يخالف العقل الصريح وكان ذلك مما سلط عليهم الفلاسفة الدهرية رأوا احتجاجهم بهذه الحجة الضعيفة وكان ذلك مما سلط عليهم المسلمون المثبتون وهذا كما ذكره الإمام أحمد في مناظرة جهم للسمنية فهكذا أجاب أهل الكلام الذين تكلموا في مناظرة الكفار وأهل الأهواء في المذاهب والحجج بما ليس موافقا للشريعة وما ينكره العقل الصريح فصاروا كمن جاهد الكفار جهادا ظلمهم به وخرج فيه عن الشريعة وظلم فيه المؤمنين جميعا حتى كان مضرة ذلك الجهاد على المسلمين وعلى أنفسهم وعلى عدوهم أكثر من منفعته وقد بسطنا الكلام في أمثال هذا في غير هذا الموضع ثم غاية ذلك أنه جواب إلزامي لا علمي وهو لا ينفع لا للناظر ولا للمناظر وذلك أن المثبت إذا قال لهم كل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو بائنا عنه كان من المعروف بنفسه أن هذا حكم الفطرة الإنسانية الموجودة لبني آدم وهذه الفطرة الضرورية لا تندفع بمعارضة ولا جدل فإذا قالوا هذا من حكم الوهم الباطل وبمنزلة قول الدهرية من الفلاسفة وغيرهم كل موجودين فإما أن كون أحدهما متقدما على الآخر أو مقارنا قيل له هب أن الأمر كذلك فهذا الذي مثلت به هو حق أيضا تقبله الفطرة وتحكم به فإذا قال هذا من حجة الدهرية القائلين بقدم العالم فإذا صححناه لزمنا القول بقدم العالم وهو باطل وما استلزم الباطل فهو باطل قيل له هذه القضية معلومة بينة بنفسها فطرية ضرورية وأما كونها مستلزمة للقبول بقدم العالم فهذا ليس بين ولا معلوم بل أنت تقوله وقد يكون هذا من ضعف جوابك عن دعوى التلازم فلما عجزت عن الجواب سلمت التلازم الوجه الخامس أن يقول هب أنا نفرض تلازمهما فالعلم بهذه القضية التي ألزمتموني نفيها لأنفي معها الأولى التي إثباتها أبين في العقول من كون العالم الذي هو عندكم جميع الأجسام وصفاتها محدث ليس شيء منها بقديم فالاحتجاج على بطلان هذه المقدمة ببطلان هذا اللازم الذي هو أخفى منها عكس الواجب بل إن صح هذا التلازم كان بعض قول الفلاسفة أصح من قولكم يا معشر المناظرين لهم والله تعالى لم يأمرنا أن ندفع الأقوال الباطلة من أقوال الكفار وغيرها بالأقوال الباطلة بل أمرنا أن نكون قوامين بالقسط شهداء لله وأن لا نقول على الله إلا الحق ولا نقفوا ما ليس لنا به علم قال الله تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وقال تعالى وإذا قلتم فاعدلوا وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وقال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقال تعالى ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق وقال تعالى ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم وقال تعالى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وقال تعالى وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وقال تعالى وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وقال تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وليس من الأحسن أن يدفع الباطل بالباطل أو أن نرد ما علمناه بالفطرة والضرورة لظننا أن المبطل يدفع به الحق وقال تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم فذم الله من جادل في الحق بعد ما تبين ومن حاج فيما ليس له به علم ومن أبين الحق ما كان معلوما بالفطرة فكيف يجوز أن يجادل أحد فيه فيدفعه وإن كان هذا مشتبها على أحد كان ما ليس له به علم وليس لأحد أن يحاج فيما ليس له به علم وهذا أصل عظيم ومن أعظم ما ذم به السلف والأئمة أهل الكلام والجدل وإن جادلوا الكفار وأهل البدع أنهم يجادلون بالباطل في الحجج وفي الأحكام فتدبر هذا واحترس منه فإنه من توقاه الله تخلصت له السنة من البدعة والحق من الباطل والحجج الصحيحة من الفاسدة ونجا من ضلال المتفلسفين وحيرة المتكلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الوجه السادس إن كل واحدة من الطائفتين تقول لهم إذا عارضهم بمذهب الآخرين ما يبطل هذه المعارضة فيقول المثبت للعلو من المسلمين وسائر أهل الملل والفلاسفة الصابئين والمشركين وغيرهم أنا أعلم بفطرتي أن الموجود إما أن يكون محايثا لغيره أو مباينا له وقولك إن هذا مثل قول الفيلسوف الدهري الموجودان إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله هو أيضا معلوم لي وقولك إن هذا يستلزم تقدم العالم أنا لا أجزم بهذه الملازمة نفيا ولا إثباتا وقد يقول أيضا أنا لا أنظر في هذه المعارضة وسواء جزمت بثبوت الملازمة أو انتفائها أو لم أجزم بشيء فأقول لا يخلو إما أن يكون ما ذكرته مستلزما للقول بقدم جسم من الأجسام أو لا يكون فإن لم يكن مستلزما بطلت المعارضة وإن كان مستلزما لقدم جسم من الأجسام فليس علمي بحدوث الأجسام الذي تسميه حدوث العالم أبين عندي من العلم بهذه القضية إذ هذه المقدمة ضرورية فطرية وتلك تحتاج إلى مقدمات طويلة خفية وفيها نزاع كثير. ولا أيضا دلالة الكتاب والسنة على حدوث جميع الأجسام بأظهر من دلالة الكتاب والسنة على أن الله تعالى فوق العالم بل القرآن مملوء بما يدل على أن الله تعالى فوق العالم وهو دال على أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولكن هو يذكر مع ذلك أنه استوى على العرش والذي نطق به القرآن في جميع الآيات لا يمكن أن يستدل به على أن جميع الأجسام محدثة إلا بتوسط مقدمات مستنبطة بأن يبين أن هذا المذكور في القرآن هو الأجسام وأن لا جسم إلا ما أخبر بخلقه وأما دلالة القرآن على العلو فلا تحتاج إلى مقدمات مستنبطة فإذا كان العلم بأن الله تعالى فوق العالم أبين في الفطرة والشرعة من كون الأجسام كلها محدثة لم يجب علي أن أترك ذلك المعلوم البين في الفطرة خوفا أن يلزمني إنكار هذا الذي ليس هو مثله في ذلك وهذا الجواب بين ظاهر وملخصه أن هذه الملازمة التي ذكرها وهو أن هذا يستلزم أن يقال هذا مثل حجة الفلاسفة المستلزمة قدم الزمان إما أن تكون حقا في نفس الأمر أو باطلا فإن كانت باطلا بطلت المعارضة وإن كانت حقا لزم إما ثبوت اللازم وإما انتفاء الملزوم لا يلزم انتفاء الملزوم عينا وإذا كان كذلك فليس العلم بانتفاء اللازم بأظهر من العلم بثبوت الملزوم بل ثبوت الملزوم أبين في الشرع والعقل فلا يجوز على هذا التقدير انتفاء اللازم فلا تصح المعارضة وهكذا يقول الفيلسوف وذلك يظهر بالوجه السابع وهو أن الفيلسوف يقول وعلمي بأن الموجودين إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله علم بديهي فطري وأما قولك إن هذا مثل قول المجسم: الموجودان إما أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو بائنا عنه. أقول لا يخلو إما أن تكون هذه المماثلة حقا أو باطلا فإن كانت باطلا لم يرد علي وإن كانت حقا وجب علي التزام المماثلة وذلك يقتضي أن أقول بثبوت النقيضين جميعا أو انتفائهما جميعا لا يقتضي أن أثبت الزمانية وأنفي المكانية فإذا كنت قد فرقت بينهما بإثبات هذه ونفي الأخرى أكون مخطئا في هذا التفريق لم يتعين خطأي في المكانية حتى أنفيها وأسوي الأخرى بها في النفي بل إذا سويت بينهما في الإثبات يلزمني أن أقول إن واجب الوجود مباين للعالم وإذا سويت بينهما في النفي وسلم أن ذلك يبطل دلالة هذه الحجة على قدم العالم كان غاية ما يلزمني إما بطلان القول بقدم العالم وإما بطلان دليل معين يدل على قدمه ولا ريب أن قدم العالم أو صحة هذه الحجة أخفى وأبعد عن المعلوم من كون واجب الوجود تعالى فوق العالم فإن الإقرار بهذا ثابت في الفطرة وقد تواتر عن الأنبياء والرسل القول به فإذا كان على أحد التقديرين أخالف المعلوم بفطرتي من العلوم الضرورية فأنفي كل واحد من القضيتين وأخالف الأنبياء والمرسلين وعلى الآخر إنما أخالف الحجج الدالة على قدم العالم وأبطل هذه الحجة المعينة كانت مخالفة هذه أولى في عقل كل عاقل وهذا لكلام في غاية الإنصاف والبيان فعلم أن ما ذكروه من المعارضة لم يندفع به واحدة من الطائفتين لا في المناظرة ولا في نظر الإنسان بينه وبين ربه تعالى ولكن أوهموا هؤلاء بهؤلاء وهؤلاء بهؤلاء والتزموا مخالفة الفطرة الضرورية العقلية التي اتفق عليها العقلاء في كل من الإيهامين مع ما في ذلك من مخالفة الكتب والرسل ببعض ما قالوه في كل واحدة من المسألتين مسألة حدوث الأجسام ومسألة علو الله تعالى على خلقه هذا كله إذا لم يكن في الفلاسفة من يقول بالجهة ولا في المسلمين من يقول بقدم بعض الأجسام فكيف والمثبت للجهة يقول ما يقال في الوجه الثامن وهو أن يقول غاية ما ألزمتني به من حجة الدهرية أن يقال بقدم بعض الأجسام إذ القول بقدم الأجسام جميعها لم يقل به عاقل والقول بخلق السموات والأرض لم تدل هذه الحجة على نفيه وإنما دلت إن دلت على قدم ما هو جسم أو مستلزم لجسم وهذا مما يمكنني التزامه فإنه من المعلوم أن طوائف كثيرة من المسلمين وسائر أهل الملل لا يقولون بحدوث كل جسم إذ الجسم عندهم هو القائم بنفسه أو الموجود أو الموصوف فالقول بحدوث ذلك يستلزم القول بحدوث كل موجود وموصوف وقائم بنفسه وذلك يستلزم بأن الله تعالى محدث وهؤلاء يقولون لمناظريهم نحن نبين أن القول بحدوث كل ما يدخل في المعنى الذي تسمونه جسما يستلزم حدث الباري تعالى ونبين أن قولكم أن الله تعالى ليس بجسم يستلزم حدوث الباري أكثر مما تبينون أن القول بثبوته يستلزم حدوث الباري كما سنبين أن نفي الجهة يستلزم القول بعدم الباري وهذا أمر قد بين في غير هذا الموضع وبين أنما ذكره النفاة من حدوث كل جسم حجة باطلة مبتدعة حتى ذكر أبو الحسن الأشعري أن هذه الحجة مخالفة لحجج الأنبياء والرسل وأتباعهم وأنها محرمة عندهم وإذا كان كذلك فتقول لهم مثبتة الجهة إذا كان تصحيح هاتين المقدمتين الفطريتين يستلزم مع كون الباري تعالى فوق العالم مباينا له أن يكون من الأجسام ما هو قديم أمكنني التزام ذلك على قول طوائف من أهل الكلام بل على قول كثير منهم ولم أكن في ذلك موافقا للدهرية الذين يقولون إن الأفلاك قديمة أزلية حتى يقال هذا مخالف للكتاب والسنة أو هذا كفر بل الذي نطق به الكتاب والسنة واتفق عليه المسلمون من خلق المخلوقات وحدوث المحدثات أقول به وأما كون الباري جسما أو ليس بجسم حتى يقال الأجسام كلها محدثة فمن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع لم تنطق بأن الأجسام كلها محدثة وأن الله ليس بجسم ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين فليس في تركي لهذا القول خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة بخلاف قولي بأن الله تعالى ليس فوق العالم وأنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن فيه من مخالفة الفطرة والشرعة ما هو بين لكل أحد وهو قول لم يقله إمام من أئمة المسلمين بل قالوا نقيضه فكيف التزم خلاف المعقول الفطري وخلاف الكتاب والسنة والإجماع القديم خوفا أن أقول قولا لم أخالف فيه كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا معقولا فطريا بل يقول في الوجه التاسع هذه المعارضة تؤكد مذهبي وتقوية وتكون حجة ثانية لي على صحة قولي فإن احتججت علي بأن الله تعالى مباين للعالم بأن الموجودين إما أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له فقلتم هذا معارض بقول الفيلسوف إن الموجودين إما أن يكون أحدهما متقدما على العالم أو مقارنا له وذلك يستلزم القول بقدم الزمان المستلزم للقول بقدم بعض الأجسام فأقول إذا كانت هذه الحجة التي عارضتموني بها مستلزمة لكون بعض الأجسام قديمة من غير أن تعين جسما أمكن أن يكون ذلك الذي يعنونه بأنه الجسم القديم هو الله سبحانه وتعالى كما يقوله المثبتون وأن ذلك هو ملازم لقولنا إنه موصوف وقائم بنفسه ونحو ذلك فتكون هذه الحجة التي عارضتم بها دليلا على أن الله تعالى جسم بالمعنى الذي ذكرتموه الذي تقول إنه ملازم لكونه موصوفا وقائما بنفسه وإن نازعتم في الملازمة وذلك يدل على صحة الحجة الأولى بالاتفاق فإن الجسم وما يقوم به إما أن يكون مباينا لغيره وإما أن يكون محايثا له أو حالا فيه وهذا متفق عليه فإنكم لا تنازعون في أن الجسم أو ما يقوم به إما مباينا لغيره أو محايثا له وإذا كان موجب الحجة التي ألزمتموني إياها يلزمني أن أقول هو جسم وذلك يستلزم أن يكون مباينا للعالم كان هذا الذي ألزمتموني به حجة ثانية على أنه مباين للعالم فأردتم معارضة كل حجة بالأخرى ليكون ما قلتموه من تناقض الحجتين نافيا لكونه مباينا للعالم ولكون كل جسم محدثا فتبين أن الحجتين متعاونتان متصادقتان وأن كل واحدة منهما تدل على أنه تعالى مباين للعالم ويقول في الوجه العاشر إذا كانت إحدى هاتين المقدمتين الضرورتين تستلزم أنه مباين للعالم والأخرى تستلزم أنه جسم فقد ثبت بموجب هاتين المقدمتين صحة قول القائلين بالجهة وقول القائلين بأنه جسم وكونه جسما يستلزم القول بالجهة كما توافقون عليه وقول القائلين بالجهة يستلزم أيضا القول بالجسم كما تقولون أنتم وأكثر العقلاء خلاف ما يقوله قدماء أصحابكم إن نفي الجسم مستلزم لنفي الجهة والعلو على العرش وأن ثبوت العلو على العرش يستلزم ثبوت الجسم فإذا تكون كل واحدة من هاتين المقدمتين الفطريتين دليل على كل واحد من هذين المطلوبين وكل من المطلوبين دليلا على الآخر فصار على كل واحد من هذين المطلوبين أربع حجج وهي مبنية على مقدمات فطرية فقد بين هذا أن ما ذكرتموه معارضة للنفاة لتبطلوا به حجتهم هو من أعظم الحجج على صحة قولهم وكذلك أيضا قول الفيلسوف في الوجه الحادي عشر وهو أن يقول هذا الذي عارضتموني به في مسألة الزمان أكثر ما يوجب علي أن أقول بالجهة والقول بالجهة هو قول أئمة الفلاسفة كما ذكرناه فيما مضى عن القاضي أبي الوليد ابن رشد الفيلسوف الذي هو من أتبع الناس لأقوال آرسطو وذويه وأنه قال القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله قال وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة مثل قوله الرحمن على العرش استوى ومثل قوله وسع كرسيه السموات والأرض ومثل قوله ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ومثل قوله يدبر الأمر من السماء إلى لأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة ومثل قوله تعرج الملائكة والروح إليه ومثل قوله أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله تعالى في السماء وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي ﷺ حتى قرب من سدرة المنتهى قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية وقد تقدم ذكرنا لبقية كلامه بألفاظه وأنه قرر أن ما فوق العالم وهو الجهة ليس مكانا على اصطلاح الفلاسفة إذ المكان عند آرسطو هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي إلى أن قال وقد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين يريدون الله والملائكة إلى أن قال فقد ظهر من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وابتنى عليه فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع فقد حكى اتفاق الحكماء على إثبات الجهة قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء وأن مما قيل في الآراء السالفة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع يعني ما فوق العالم هو مسكن الروحانيين يريدون الله تعالى والملائكة وتصريحهم في هذا بلفظ المسكن يشبه ما ذكره الأشعري أن المسلمين جميعا إذا نابتهم نائبة يقولون يا ساكن العرش فقد ظهر بهذا أنما ذكره من التناقض على المجسمة والفلاسفة لا يرد على واحدة منهما بل يمكنهم نفي هذا التناقض فصل لفظ الظرف فيه اشتراك غلط بسببه أقوام فإن الظرف في اللغة قد يعنى به الجسم الذي يوعى فيه غيره فيظن إذا استعملت هذه الأدوات في حق الله تعالى أنه محل المخلوقات تكون في جوفه وأنها محل له يكون في جوفها وهذا مما يعلم قطعا أن هذه الأدوات لم تدل على ذلك في حق الله تعالى البتة بل النحاة سموا الألفاظ التي يعبر بها العرب عن المعاني التي هي أعم من ذلك بالظروف حتى يدخل في ذلك ما لا يحيط بالمظروف وأنواع متعددة وقد قال تعالى ولو ترى إذ وقفوا على ربهم وقال تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم وقال تعالى إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون وقال تعالى فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون وقال تعالى في مقعد صدق عند مليك مقتدر وقال تعالى وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم وقال تعالى وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم وقال تعالى ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير وقال تعالى وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو وقال تعالى إن الله عنده علم الساعة ولفظ مع من الظروف وقد أضيف اسم الله إليه فيما شاء الله من المواضع وإضافته إلى الظرف أبلغ من إضافة الظرف إليه قال تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقال إليه يصعد الكلم الطيب وقال تعرج الملائكة والروح إليه وحق لمن يكون هذا وأمثاله كلامه إذا أراد الله رحمته أن يتوب منه كما قال أبو المعالي عند الموت لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا أموت على عقيدة أمي وروي على عقيدة عجائز نيسابور ولهذا يقول مثل هؤلاء عليكم بدين العجائز فإن تلك العقيدة الفطرية التي للعجائز خير من هذه الأباطيل التي هي من شعب الكفر والنفاق وهم يجعلونها من باب التحقيق والتدقيق فصل أبو عبدالله الرازي فيه تجهم قوي ولهذا يوحد ميله إلى الدهرية أكثر من ميله إلى السلفية الذين يقولون إنه فوق العرش وربما كان يوالي أولئك أكثر من هؤلاء ويعادي هؤلاء أكثر من أولئك مع اتفاق المسلمين على أن الدهرية كفار وأن المثبتة للعلو فيهم من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله تعالى وقد صنف على مذهب الدهرية المشركين والصابئين كتبا حتى قد صنف في السحر وعبادة الأصنام وهو الجبت والطاغوت وإن كان قد أسلم من هذا الشرك وتاب من هذه الأمور فهذه الموالاة والمعادات لعلها في تلك الأوقات ومن كان بتلك الأحوال فهو قبل الإسلام والتوبة ومن فعل هذا كان له نصيب من قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا إلى قوله ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا إلى آخر الآيات يقرر ذلك أنه احتج في مقدمة هذا العلم الشريف بكلام آرسطو معلم المشائين من الدهرية ولم يكن عنده من أثارة الأنبياء والمرسلين ما يقدمه على كلام الدهرية واحتج أيضا بما نقله عن أبي معشر البلخي والمنجم وهو من أتباع الصابئين بل كان تارة من المشركين عباد الشمس والقمر وعبد القمر مدة كما أخبر بذلك عن نفسه وصنفها صنف في ذلك وجواب الدهرية أنه قبل العالم وما فيه من الزمان وقولهم والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة فصل تنازع المسلمون في تسمية الله بالدهر ففي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول قال الله عز وجل يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار وفي رواية أخرى يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما هذه ألفاظ مسلم قال القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات اعلم أن أبا بكر الخلال قال أخبرني بشر بن موسى الأسدي قال سألت أبا عبدالله أحمد بن حنبل عن الدهر فلم يجبني فيه بشيء قال القاضي وظاهر هذا أن أحمد توقف عن الأخذ بظاهر الحديث وقال حنبل سمعت هارون الحمال يقول لأبي عبدالله كنا عند سفيان بن عيينة بمكة فحدثنا أن النبي ﷺ قال لا تسبوا الدهر فقام فتح بن سهل فقال يا أبا محمد نقول يا دهر ارزقنا فسمعت سفيان يقول خذوه فإنه جهمي وهرب فقال أبو عبدالله القوم يردون الآثار عن رسول الله ﷺ ونحن نؤمن بها ولا نرد على رسول الله ﷺ قوله قال القاضي وظاهر هذا أنه أخذ بظاهر الحديث ويحتمل أن يكون قوله ونحن نؤمن بها راجع إلى أخبار الصفات في الجملة ولم يرجع إلى هذا الحديث خاصة قال وقد ذكر شيخنا أبو عبدالله رحمه الله يعني ابن حامد هذا الحديث في كتابه وقال لا يجوز أن يسمى الله دهرا والأمر على ما قاله لأنه قد روي في بعض ألفاظ الحديث ما يمنع من حمله على ظاهره هذا ولم يرد في غيره من أخبار الصفات ما دل على صرفه عن ظاهره فلهذا أوجب حملها على ظاهرها وذلك أنه روي فيه أنه يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار وفي لفظ آخر لي الليل والنهار أجدده وأبليه وأذهب بملوك وآتي بملوك فتبين أن الدهر هو الليل والنهار خلق له وبيده وأنه يجدده ويبليه فامتنع أن يكون إلا له وأصل هذا الخبر أنه ورد على سبب وهو أن الجاهلية كانت تقول أصابني الدهر في مالي بكذا ونالتني قوارع الدهر ومصائبه فيضيفون كل حادث يحدث بما هو جار بقضاء الله وقدره وخلقه وتقديره من مرض أو صحة أو غنى أو فقد أو حياة أو موت إلى الدهر ويقولون لعن الله هذا الدهر والزمان ولذلك قال قائلهم أمن المنون وريبه تتوجع... والدهر ليس بمعتب من يجزع وقال تعالى نتربص به ريب المنون أي ريب الدهر وحوادثه وقال سبحانه وتعالى وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر فأخبر عنهم بما كانوا عليه من نسبة أقدار الله وأفعاله إلى الدهر فقال النبي ﷺ: لا تسبوا الدهر أي إذا أصابتكم المصائب لا تنسبوها إليه فإن الله هو الذي أصابكم بها لا الدهر وأنكم إذا سببتم الدهر وفاعل ذلك ليس هو الدهر وقال أبو بكر الخلال سألت إبراهيم الحربي عن قول النبي ﷺ لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر وعن لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر قال كانت الجاهلية تقول الدهر هو الليل والنهار يقولون الليل والنهار فعل بنا كذا فقال الله تعالى أنا أفعل ليس الدهر قال القاضي فقد بين إبراهيم الحربي أن الخبر ليس على ظاهره وأنه ورد على سبب وذكر أبو عبيد نحو ما ذكرنا فقال لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه وذلك أن أهل التعطيل يحتجون به على المسلمين واحتج به بعضهم فقال ألا تراه يقول فإن الله هو الدهر قال وتأويله أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر وأتى عليهم الدهر فيجعلونه الذي يفعل ذلك فيذمونه عليه فقال النبي ﷺ لا تسبوا الذي فعل بكم هذه الأشياء أو يصيبكم بهذه المصائب فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله تعالى وهو الفاعل لها لا الدهر 3. فصل القول بأن الله تعالى ليس فوق العرش أول من ابتدعه في الإسلام الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وشيعتهما وهم عند الأمة من شرار أهل الأهواء وقد أطلق السلف من القول بتكفيرهم ما لم طلقوه بتكفير أحد وقالوا نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نحكي كلام الجهمية وقالوا اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أن الله تعالى فوق العرش وقالت الجهمية ليس فوق العرش وليس هذا قول أئمة متكلمة الصفاتية لا أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب ولا أبي العباس القلانسي ونحوهما ولا قول أبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر الباقلاني وغيرهم من أئمة الأشعرية الذين تزعم أنهم أصحابك وإن قيل هؤلاء متناقضون في أقوالهم لم يكن نفي قول الأثبات الذين صرحوا به عنهم لقولهم بما يناقضه بأولى من نفي القول النافي عنهم لقولهم ما يناقضه لا سيما إذا كان المعروف عنهم أن الأثبات آخر القولين وإذا كان أبو المعالي والشهرستاني وطوائف غيرهما قد خالفوه من أئمة أصحابهم وقدمائهم في الأثبات لم يجز أن يجعل قولهم هو قول أولئك بل نقل لمذهب إمامه أنا قد ذكرنا بنقل العدول الأئمة أن أبا المعالي تحير في هذه المسألة في حياته ورجع إلى دين أهل الفطرة كالعجائز عند مماته وكذلك الرازي أيضا حيرته وتوبته معروفة وكذلك أئمة هؤلاء ثم يقال هب أنه قول هؤلاء أفهؤلاء ومن وافقوه من المعتزلة هم أهل التوحيد والتنزيه دون سائر النبيين والمرسلين والصحابة والتابعين وسائر أئمة الفقهاء والصوفية والمحدثين وأصناف المتكلمين الذين لم يوافقوا هؤلاء في هذا السلب بل يصرحون بنقيضه أو بما يستلزم وكلامهم في ذلك ملء العالم مع موافقتهم للكتب المنزلة من السماء وللفطرة الضرورية التي عليها عموم الدهماء والمقاييس العقلية السليمة عن المراء وقد ذكر هذا الإمام لأتباعه أبو عبدالله الرازي في كتابه أقسام اللذات لما ذكر اللذة العقلية وأنها العلم وأن أعرف العلوم العلم بالله لكنه العلم بالذات والصفات والأفعال وعلى كل واحدة من ذلك عقدة هل الوجود هو الماهية أم قدر زائد وهل الصفات زائدة على الذات أم لا وهل الفعل مقارن أو محدث ثم قال ومن الذي وصل إلى هذا الباب أو ذاق من هذا الشراب نهاية إقدام العقول عقال... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفى عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن إقرأ في الاثبات الرحمن على العرش استوى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ثم قال ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ومثل هذا كثير عن هؤلاء أئمة هذه المقالة النافية يعترفون بعدم العلم بها ويرجعون إلى ما عليه أهل الفطرة وما عليه أهل الظاهر الحشوية عندهم فكيف يكونون هم أهل التوحيد والتنزيه مع هذا الريب والشك والحيرة والتمويه الوجه السادس والثلاثون أن يقال له دعواكم الرد على الدهرية بمثل جحد هذه المقدمة وأمثالها مما تبين فيها أنكم جحدتم العلوم الفطرية أوقعكم في أمورا أربعة أحدها اتفاق سلف الأمة وأئمتها على ذمكم وذم كلامكم الثاني نفور أهل الإيمان عن طريقكم وما قذف الله تعالى في قلوبهم من البغض لذلك وهم شهداء الله تعالى في الأرض الثالث طمع الفلاسفة الدهرية فيكم أهل جدل وكلام لا أهل علم وبرهان حتى ارتد خلق كثير منكم إليهم بل أن ابن الراوندي الذي يقال إنه من شيوخ الأشعري صنف كتابه المسمى بكتاب التاج في قدم العالم موافقة للدهرية وهؤلاء المدعون للتحقيق منكم كصاحب الفصوص وابن سبعين وأمثالهما يؤول بهم الأمر إلى أن يقتصروا على قول الدهرية الذين يثبتون واجب الوجود ويفرقون بين الواجب والممكن بل يجعلون وجوده وجود الممكنات ولا يجعلون له وجودا خارجا عن وجود الأرض والسموات ويصرح من يصرح من فضلائهم بأن قولهم هو قول فرعون وأنهم على قول فرعون فيأتون بقول الدهرية المتضمن لإنكار الصانع وهو شر المقالات ويدعون أن هذا هو التحقيق والعرفان وسببه أنكم سلكتم بهم في طريقة النفي والتعطيل التي لا تثبت للصانع وجودا مباينا للمخلوق وهذه يضطر سالكها إلى أن لا يقول بموجود وراء العالم وهو محض قول الدهرية فكيف تتبرؤون منهم وقولكم يؤول إليهم تصريحا أو لزوما الرابع أن يقال له أنت معترف بعجزك عن مقاومة الدهرية وأنت في أكبر كتبك المطالب العالمية ذكرت أدلة الفريقين القائلين بحدوث العالم وقدمه وضربت هذه بهذه ولم ترجح شيئا بل ذكرت أن الكتب الإلهية والأدلة السمعية لم تبين هذه المسألة وفي أجل كتبك الكلامية لم تحتج على حدوثه بحجة ظنية فضلا عن علمية وادعيت أن ذلك لا يتم إلا بمقدمة تذكر في سائر كتبك أنها معلومة الفساد بالضرورة وهو ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح فمن تكون هذه حاله كيف يدعي أنه وأصحابه أهل التوحيد والتنزيه دون المثبتين والفلاسفة وسبب ذلك أنهم أدخلوا في مسألة حدوث العالم حقا وباطلا وطلبوا إثباتهما معا فلم ينهض دليل صحيح بإثبات باطل مع حق وطمع فيهم خصمهم لما رآه من ذلك وإن كان كلام خصومهم فيها أيضا فاسدا متناقضا فالطائفتان فيها ضالتان وذلك أن هذا وأصحابه سلكوا طريق المعتزلة التي التزموا حدوث الموصوفات بحدوث صفاتها والتزموا على ذلك امتناع اتصاف الرب بصفة ولزمهم على ذلك وإن لم يلتزموه حدوث كل قائم بنفسه بل حدوث كل موجود فكان ما ذكروه من الحجة متضمنا حدوث الموجودات كلها ومعلوم أن الدليل على ذلك لا يكون حقا وقابلوا بها من زعم أن من المخلوقات ما هو قديم كالعناصر والسموات وقابلوا باطلا بباطل ثم إنهم اضطربوا في العلم بحدوث الصفات وحدوث موصوفاتها اضطرابا ذكرناه في غير هذا الموضع ثم جاء هؤلاء فوافقوهم في المعنى دون العبارة وزعموا أن الموصوف الذي سموا صفته عرضا يستدل على حدوثه بحدوث صفته وزعموا أن شيئا من صفات المخلوقات لا يبقى زمانين وأن القابل لصفة لا يخلو منها ومن ضدها وقود مقالتهم يوجب مثل تلك المقالة مع ما التزموه في مواضع من المكابرات وإن كانوا في مواضع اعترفوا بالحق الذي أنكره أولئك ومن تدبر عامة بدع الجهمية ونحوهم وجدها ناشئة عن مباحث هذه الدعوى والحجة ولهذا كان السلف والأئمة يذمون كلامهم في الجواهر والأعراض وبناءهم علم الدين على ما ذكروه من هذه المقدمات وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع قال الإمام أبو المظفر السمعاني والأصل الذي يؤسسه المتكلمون والأصل الذي يجعلونه قاعدة علومهم مسألة العرض والجوهر وإثباتهما وأنهم قالوا إن الأشياء لا تخلو من ثلاثة أوجه إما أن تكون جسما أو عرضا أو جوهرا فالجسم ما اجتمع من الافتراق والجوهر ما احتمل الأعراض والعرض مالا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره وجعلوا الروح من الأعراض وردوا أخبار النبي ﷺ التي لا توافق نظرهم وعقولهم ولهذا قال بعض السلف إن أهل الكلام أعداء الدين لأن اعتمادهم على حدسهم وظنونهم وما يؤدي إليه نظرهم وفكرهم ثم يعرضون عليه الأحاديث فما وافقه قبلوه وما خالفه ردوه وأما أهل السنة سلمهم الله تعالى فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب ووردت به السنة ويحتجون له بالحجج الواضحة على حسب ما أذن فيه الشرع وورد به السمع وذكر تمام الكلام والمقصود أن هذا وأمثاله وإن كان في هذا المقام يتجوه بمخالفة الدهرية وليس الرد على الدهرية معلوما من طريقهم بل طريقهم هم والدهرية فيها متقابلون يقولون هؤلاء الحق تارة والباطل أخرى وكذلك أولئك وليس أذكياؤهم على بصيرة فيها وسبب ذلك ما يجحدونه من الحق المعلوم وما يدعونه من الدعاوى الباطلة والمشتملة على حق وباطل وإلا فلو كانت الحجج حقا محضا لم ينكرها أحد من السلف والأئمة ولا كان للمخالفين طريق صحيح إلى هدمها الوجه السابع والثلاثون إن تسميتك أصحابك أهل التوحد والتنزيه هو مما اتبعتم فيه المعتزلة نفاة الصفات فإنهم فسروا التوحيد بتفسير لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى وادعوا أن من أثبت الصفات لم يكن موحدا لأن الواحد عندهم الذي لا يعقل فيه ما تميز منه شيء عن شيء أصلا وثبوت الصفات يقتضي الكثرة والذي جعلوه واحدا لا ينطبق إلا على معدوم ممتنع كما سيأتي بيان ومن المعلوم أن التوحيد الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه هو ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع مثل عبادة الله وحده لا شريك له فمن عب غيره كان مشركا ولم يكن موحدا وإن أقر أنه خالق كل شيء كما قال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وقال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون وقال تعالى وإلهكم إله واحد وقال تعالى وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد وأمثال هذه الآيات وأما تفسير التوحيد بما يستلزم نفي الصفات أو نفي علوه على العرش بل بما يستلزم نفي ما هو أعم من ذلك فهو شيء ابتدعته الجهمية لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا إمام وكذلك جعل التشبيه ضد التوحيد وتفسير التشبيه بما فيه إثبات الصفات هو أيضا باطل فإن التوحيد نقيضه الإشراك بالله تعالى والتمثيل له بخلقه وإن كان ينافي التوحيد فليس المراد بذلك ما يسمونه هم تشبيها فإنهم يسمون المعاني بأسماء سموها هم وآباؤها ما أنزل الله بها من سلطان فمن بنى على ذلك الحمد والذم ومن علق الحمد والذم بأسماء ليست مما أنزل الله بها سلطانا بين فيه ما يحمده وما يذمه فقد ابتدع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وليس هذا موضع بسط هذا وتبيينه إذ كل من كان إلى التعطيل أقرب وعن القرآن والإسلام أبعد كان أحق بهذا المعنى الذي تسميه التوحيد والتنزيه فإن المعتزلة أحق منهم بهذا لأنهم أحق بنفي الصفات والكثرة وأحق بنفي الأمور التي يجعلون إثباتها تشبيها والفلاسفة أحق من المعتزلة بهذا وأهل وحدة الوجود أحق بهذا من الفلاسفة ولهذا يدعون من التوحيد والتحقيق والعرفان بحسب هذا الوضع والاصطلاح الذي ابتدعوه مالا يمكن هؤلاء رده إلا بنقض الأصول المبتدعة التي وافقوهم عليها ومن المعلوم أن الوجود المطلق ليس شيئا له وجود في الخارج مطلقا حتى يوصف بوحدة ولا كثرة وإنما حقيقة قولهم قول أهل التعطيل الذين هم شرار الدهرية فظهر أن توحيدهم هذا وتنزيههم هذا دهليز التعطيل والزندقة وأن من كان أعظم تعطيلا وإلحادا كان أحق بتوحيدهم وتنزيههم هذا وهذا بخلاف ما كان من أهل الإثبات المقرين بالتوحيد والتنزيه الذي جاءت به الرسل عليهم السلام ونزلت به الكتب التوحيد العلمي القولي كالتوحيد الذي دلت عليه السورة التي هي صفة الرحمن وهي تعدل ثلث القرآن والتوحيد العملي الإرادي الذي دلت عليه السورة التي هي براءة من الشرك وهما سورتا الإخلاص فإن هؤلاء الموحدين كلما حققوا هذا التوحيد بعدوا عن أهل الشرك والتعطيل وتبرؤوا منهم كما قال إمامهم إبراهيم لقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين وقال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وقال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده الوجه الثامن والثلاثون قوله أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته يقال له قد تقدم الكلام على هذا اللفظ المجمل غير مرة ثم يقال له لا ريب أن الله تعالى أنزل كتابه بيانا للناس وهدى وشفاءا وقال تعالى فيه وأنزلنا إليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقال ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وقال إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وقال فمن ابتع هداي فلا يضل ولا يشقى وقال اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء وقال تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وقال وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وقال فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل عه أولئك هم المفلحون وقال قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام وقالت الجن إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به وقص الله تعالى ذلك عنهم على سبيل التصديق لهم في ذلك والثناء عليهم بهذا القول وكذلك قولهم يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم وأمثال هذا كثير وقد بين الله تعالى ما يتقي من القول فيه والظن فقال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وقال عن الشيطان إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وقال تعالى لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق وقال ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وقال يجادلونك في الحق بعدما تبين فذم من يقول مالا يعلم ومن يقو غير الحق ومن يجادل فيما لا يعلم ومن يجادل في غير الحق كما قال النبي ﷺ القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار وقال تعالى في موضع آخر ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقال ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وقال تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ومن المعلوم أن العلم له طرق ومدارك وقوى باطنة وظاهرة في الإنسان فإنه يحس الأشياء ويشهدها ثم يتخيلها ويتوهمها ويضبطها بعقله ويقيس ما غاب على ما شهد والذي يناله الإنسان بهذه الأسباب قد يكون علما وقد يكون ظنا لا يعلمه وما يقوله ويعتقده ويحسه ويتخيله قد يكون حقا وقد يكون باطلا فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين إدراك وإدراك ولا بين سبب وسبب ولا بين القوى الباطنة والظاهرة فجعل بعض ذلك مقبولا وبعضه مردودا بل جعل المردود هو قول غير الحق والقول بلا علم مطلقا فلو كان بعض جناس الإدراك وطرقه باطلا مطلقا في حق الله تعالى أو كان حكمه غير مقبول كان رد ذلك مطلقا واجبا والمنع من قبوله مطلقا متعينا إن لم يعلم بجهة أخرى كما قال في الخبر إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وقال في الاعتبار والقياس الصحيح إن الله يأمر بالعدل وإذا قلتم فاعدلوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ليقوم الناس بالقسط فلما كان من المخبرين من لا يقبل خبره إذا انفرد أمر بالتثبت في خبره ولما كان القياس والاعتبار يحصل فيه الظلم والبغي بتسوية الشيء بما ليس مثله في الشرع والعقل أمر بالعدل والقسط وقال تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فبين تعالى أن سبب الاختلاف هو البغي الذي هو خلاف العدل فالشبهة الفاسدة من هذا النمط وهي من أسباب الاختلاف بعد بيان الكتاب والسنة للحق المعلوم كما قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق فلو كان في الإحساس الباطن والظاهر ما يرد حكمه مطلقا حتى يوافقه إحساس آخر لكان ذلك أيضا مردودا وليبين ذلك كما بين نظيره فإن الحاجة إلى ذلك في أصل الأيمان أعظم من الحاجة إلى ما هو دون ذلك بدرجات كثيرة فلما كان المحرم هو اتباع الظن وما تهوى الأنفس والقول في الدين بلا علم أو قول غير الحق نهى عن ذلك ولم يفرق بين إحساس ظاهر أو باطن ولا بين حس وعقل فلم يكن لأحد أن يفرق بين ما جمع الله تعالى بينه ويجمع بين ما فرق الله تعالى بينه بل يتبع كتاب الله تعالى على وجهه والله أعلم والذي دل عليه الكتاب أن طرق الحس والخيال والعقل وغير ذلك متى لم يكن عالما بموجبها لم يكن له أن يقول على الله وليس له أن يقول عليه إلا الحق وليس له أن يقفو ما ليس له به علم لا في حق الله ولا في حق غيره فإما تخصيص الإحساس بالباطن بمنعه عن تصور الأمور الإلهية بحسه فهو خلاف ما دل عليه القرآن من تسوية هذا بسائر أنواع الإحساس في المنع وأن القول بموجبها جميعها إذا كان باطلا حرم في حق الله تعالى وحق باده وإن كان حقا لم ينه عنه في شيء من ذلك يؤكد ذلك أن حكم الوهم والخيال غالب على الآدميين في الأمور الإلهية بل وغيرها فلو كان ذلك كله باطلا لكان نفي ذلك من أعظم الواجبات في الشريعة ولكان أدنى الأحوال أن يقول الشارع من جنس ما يقوله بعض النفاة ما تخيلته فالله بخلافه لا سيما مع كثرة ما ذكره لهم من الصفات الوجه التاسع والثلاثون قولك الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته يقال له ليس الأمر كذلك بل هم يستدلون على منازعيهم في إثبات الصفات لله وما يتبع ذلك بما هو من جنس هذه الحجج وأضعف منها سواء سميت ذلك من حكم العقل أو من حكم الوهم والخيال فإن الاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ لا سيما وقد جرت عادة هؤلاء المتكلمين أنهم يسمون بدعواهم منازعيهم بالأسماء المذمومة ويسمون أنفسهم بالأسماء المحمودة فإن كانوا مشتركين في جهة الحمد والذم ويقول أحدهم قال أهل الحق وقال أهل التوحيد ونحو ذلك حتى قد يدعون الإيمان أو ولاية الله تعالى لأنفسهم خاصة كما يفعل ذلك الرافضة والمعتزلة وطوائف من غلاة الصوفية وهؤلاء فيهم شبه من أهل الكتاب الذين قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا إن الدار الآخرة خالصة لهم عند الله يوم القيامة والذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ويسمى أحدهم من أثبت لله صفة مشبها ومجسما مع كونه قد أثبت نظيرها أو أبلغ منها ويسمى النافي معطلا ويكون قد نفى نظير ما نفاه ذلك الوجه السابع والثلاثون أن يقال أصل الجهل والضلال والزندقة والنفاق والإلحاد والكفر والتعطيل في هذا الباب هو ما اشتركت فيه الدهرية والجهمية من التكذيب والنفي والجحود لصفات الله تعالى بلا برهان أصلا بل البراهين إذا أعطوها حقها أوجبت ثبوت الصفات وهم مع اشتراكهم في هذا الأصل الفاسد افترقوا حينئذ في المناظرة والمخاصمة كل قوم معهم من الباطل نصيب وذلك أن مبدأ حدوث هذا في الإسلام هو مناظرة الجهمية للدهرية كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مناظرة جهم للسمنية وهم من الدهرية حيث أنكروا الصانع وإن كان غيرهم من فلاسفة الهند كالبراهمة لا ينكره بل يقول العالم محدث فعله فاعل مختار كما يحكي عنهم المتكلمون وكذلك مناظرة المعتزلة وغيرهم لغير هؤلاء من فلاسفة الروم والفرس وغيرهم من أنواع الدهرية وكذلك مناظرة بعضهم بعضا في تقرير الإسلام عليهم وإحداثهم في الحجج التي سموها أصول الدين ما ظنوا أن دين الإسلام ينبني عليها وذلك هو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وذم أصحابه وتجهيلهم فإن كلام السلف والأئمة في ذم الجهمية والمتكلمين لا يحصيه إلا الله تعالى وأصل ذلك أنهم طلبوا أن يقرروا ما لا ريب فيه عند المسلمين من أن الله تعالى خلق السموات والأرض وأن العالم له صانع خالق خلقه ويردوا على من يزعم أن ذلك قديم إما واجب بنفسه وإما معلول علة واجبة بنفسها فإن الدهرية لهم قولان في ذلك ولعل أكثر المتكلمين إذا ذكروا قول الدهرية لا يذكرون أن الدهرية إلا من ينكر الصانع فيقولون الدهرية وهم الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الصانع وعندهم كل من آمن بالصانع فإنه يقول بحدوث العالم وهذا كما قاله طوائف من المتكلمين كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني قال في مسائل التكفير وجملة الخلاف على ضربين خلاف مع الخارجين عن الملة المنكرين لكلمة التوحيد وإثبات النبوة أعني نبوة محمد ﷺ وخلاف مع أهل القبلة المنتسبين إلى الملة فأما الخلاف مع الخارجين عن الملة فعلى ثلاثة أضرب خلاف مع المنكرين للصانع والقائلين بقدم العالم وخلاف مع القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع المنكرين للنبوات أصلا كالبراهمة وخلاف مع القائلين ببعض النبوات المنكرين لنبوة محمد ﷺ فجعل ثبوت الصانع وحدوث العالم قولا وإنكار الصانع وقدم العالم قولا ولم يذكر قولا ثالثا بإثبات الصانع وقدم العالم لأن ذلك كالمتنافي عند جمهور المتكلمين فلا يجعل قولا قائما بنفسه وأما الرازي وأمثاله فيذكروا الدهرية أعم من هذا بحيث أدخلوا فيهم هذا القسم الذي هو قول المشائين أر سطو وذويه وقول غيرهم فقال في كتاب نهاية العقول المسألة الرابعة في تفصيل الكفار قال الكافر إما أن يكون معترفا بنبوة محمد ﷺ اولا يكون فإن لم يكن فإما أن يكونوا معترفين بشيء من النبوات وهم اليهود والنصارى وغيرهم وإما أن لا يعترفوا بذلك وهم إما أن يكونوا مثبتين للفاعل المختار وهم البراهمة وأما أن لا يثبتوه وهم الدهرية على اختلاف أصنافهم وكذلك قال غير هذا مثل ابن الهيصم وأمثاله قالوا قالت الدهرية من منكري الصانع ومثبتيه أن العالم على هيئة ما تراه عليه قد كان لم يزل إلا أن من أثبت الصانع منهم زعم أنه مصنوع لم يتأخر في الوجود عن صانعه وإليه ذهب أرسطو طاليس ومن قال بقوله وقال أهل التوحيد بل هو مصنوع محدث لم يكن ثم كان ولا ريب إنكار الصانع بالكلية قول السمنية الذين ناظرهم الجهم بن صفوان وغيرهم من الدهرية وكطوائف غير هؤلاء من الأمم المتقدمة وأما الدهرية اليونان أتباع أرسطو وذويه ونحوهم فهم مع كونهم دهرية يقرون بأن العالم معلول علة واجبة بنفسها ولهذا نفق قول هؤلاء على طوائف كثيرة وصاروا في ه زنادقة منافقين وادعوا علم الباطن الذي اختصوا بمعرفته وزعموا أن ما أظهرته الشرائع لمنفعة الجمهور ونحو ذلك مما ليس هذا موضعه والمقصود هنا أن أولئك المتكلمين لما راموا إثبات وجود الصانع وخلق العالم سلكوا الطريقة التي ابتدعوها من الاستدلال على حدوث الموصوفات بحدوث صفاتها أو بحدوث صفاتها وأفعالها وسموا ذلك أجساما أو جواهر وسموا صفاتها وأفعالها أعراضا وبنوا الحجة على مقدمتين إحداهما أن الموصوفات لا تخلو عن أعراض حادثة من صفات وأفعال تعتقب عليها والثانية أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فاحتاجوا في تقرير المقدمة الأولى إلى ثبوت الأعراض أو بعضها وحدوثها أو حدوث بعضها وأن الأجسام لا تخلو منها أو من بعضها فتارة يستدلون بما شهدوه من الاجتماع والافتراق وتارة يقولون إنه لازم لها من الحركة والسكون وهذه الأقسام الأربعة هي الأكوان عندهم وهذه حجة الصفاتية يحتجون بالأكوان ويقولون إن الله تعالى لا يوصف بها وآخرون فيهم لا يحتجون إلا بجواز الاجتماع والافتراق دون الحركة والسكون حتى يستقيم له أن يصف الرب بذلك ويقول إن هذا هو الذي لا تخلو الجواهر منه وهو مبني على الجوهر الفرد وتارة يدعى بعضهم حدوث جميع الأعراض زعما منه أن العرض لا يبقى زمانين ويدعون مع ذلك بأن كل جسم فلن يخلو عما يمكن قبوله من الأعراض أو عن ضد ونشأ بينهم في هذا من المقالات والنزاع ما يطول ذكره وأما المقدمة الثانية فكانت في بادئ الرأي أظهر ولهذا كثير منهم يأخذها مسلمة فإن ما لا يخلو عن الحادث فهو مقارنه ومجامعه لا يتقدم عليه وإذا قدر شيئان متقارنان لا يتقدم أحدهما الآخر وأحدهما حادث كان الآخر حادثا لكن في اللفظ إجمال فإن هذا القائل ما لا يخلو عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث أو ما تعتقب عليه الحوادث فهو حادث ونحو ذلك له معنيان أحدهما ما لا يخلو عن حوادث معينة لها ابتداء فلا ريب أن ما تقدم على ماله ابتداء فله ابتداء والثاني أن ما لا يخلو عن جنس الحوادث بحيث لم يزل قائما به ما يكون فعلا له كالحركة التي تحدث شيئا بعد شيء فهذا لا يعلم أنه حادث إن لم يعلم أن ذلك الجنس لا يكون قديما بل يمنع حوادث لا أول لها وهذه مقدمة مشكلة بل كلام المتكلمين والفلاسفة فيما يتناهى وفيما لا يتناهى فيه من الاضطراب ما ليس هذا موضعه فاحتاجوا أن يستدلوا على هذه بأدلة التزموا طردها فنشأ عن ذلك مذاهب أخر كنفي التناهي في المستقبل حتى قال طوائف منهم الجهم بوجوب فناء العالم لوجوب تناهيه أولا وآخرا فقال بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بوجوب فناء الحركات إلى مقالات وإن كان طوائف من المصنفين في الكلام لا يتعرضون لهذه المقدمة بل يرون أن قولهم مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث يكفي في العلم بحدوث ما التزمته الحوادث وهؤلاء يقولون إن قولنا حوادث وقولنا لا أول لها مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى وإن لفظ كونها حوادث يوجب أن يكون لها أول وهذه طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما وقولهم هذا يشبه قولهم إن نفي حدوث العالم هو قول نفاة الصانع ولأجل ما في هذه القضية من الاشتباه خفي عليهم هذا الموضع الذي لا بد من معرفته وبهذه الطريقة نفوا يقوم به فعل من الأفعال فنفوا أن الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا كما نطق به القرآن في قوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وكان عرشه على الماء فخص الاستواء بكونه بعد خلق السموات والأرض كما خصه بأنه على العرش وهذا التخصيص المكاني والزماني كتخصيص النزول وغيره إذ أبطلوا بهذه الطريقة أن يكون على العرش مطلقا وإن كان كثير ممن يسلك هذه الطريقة يجوز عليه الأفعال الحادثة فلا يمنع حدوث الاستواء كما كان كثير ممن ينفي ذلك يقول باستوائه على العرش مع نفي قيام الفعل به كما سيأتي مأخذ الناس في هذا وإنما الغرض هنا التنبيه على هذه الطريقة فقال نفاة الصفاة من المعتزلة ونحوهم والصفاتية المنكرون للأفعال كالكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي إسحاق الأسفرائيني وأبي بكر ابن فورك وغيرهم قالوا الجسم محدث والدلالة على حدوثه أنا وجدنا هذه الأجسام تتغير عليها الأحوال والصفات فتكون تارة متحركة وتارة ساكنة وتارة حية وتارة ميتة وكذلك سائر الصفات التي تتجدد عليها فلا يخلو الجسم من أن يكون انتقل من حال قدم إلى حال قدم أو من حال حدث إلى حال حدث أو من حال قدم إلى حال حدث أو من حال حدث إلى حال قدم فيستحيل أن يكون متنقلا من حال قدم إلى حال قدم لأنه لو كان كذلك استحال خروجه عن تلك الحال لأن كل حكم حصل عليه الجسم فيما لم يزل وجب وجوده دائما كوجوب وجوده فلما لم يصح خروج القديم عن وجوده الأزلي لأن وجوده ثابت فيما لم يزل كذلك لا يصح خروجه عن كل حكم كان عليه فيما لم يزل وفي العلم بأنه ينتقل من المكان الذي فيه ويخرج عنه دليل على أنه لم يكن في ذلك المكان فيما لم يزل لأن كل مكان يشار إليه وكل حال يشار إليه يصح خروجه عنهما وإذا جاز خروجه عنهما ثبت أنه لم يكن حاصلا في ذلك المكان ولا على تلك الصفة فيما لم يزل وإن كانت الحالة الأولى لم تكن حالة قدم فالحالة التي تجددت بعد أن لم تكن أولى وأحرى أن لا تكون حالة قدم فثبت بذلك أن الجسم لم يكن موجودا فيما لم يزل إذ لو كان موجودا فيما لم يزل لكان لا بد أن يكون في مكان أو ما يقدر تقدير المكان ولو كان كذلك لاستحال خروجه عن تلك المحاذاة لما ذكرناه وإلا نودي إلى حدثه وصح بذلك ما قلناه فهذا نظم حجة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما وهي حجة مبنية على وجوب الكون للجسم ووجوب حدوثه وامتناع حوادث لا أول لها وهذه حجة أكثرهم ومضمونها أن الجسم القديم لا بد له من مكان فإن كان قديما امتنع خروجه عنه وإن كان حادثا لزم قيام الحادث به وتعاقب الحوادث عليه وهي حجة الرازي وغيره في حدوث العالم فصل النصوص قد أخبرت والعقول قد دلت على ثبوت صفات الله متنوعات له من العلم والقدرة والحب والبغض والسمع والبصر فإذا كان مع ذلك قد لزم القول بأفعال تقوم بذاته كما تقوله طوائف من أهل الفلسفة والكلام مع جماهير أهل الحديث والفقه والتصوف وسلف الأمة وأن الأفعال متعلقة بمشيئته وقدرته وقد علم ما دلت عليه النصوص مع أن في العقول تنبيه عليه من قوله وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه فإنه إذا كان جملة السموات مقبوضة بيمينه وقد قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهما وما بينهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم وقد علم بالعقل أنه يجب أن يكون أعظم بكل وجه من مخلوقاته ومبتدعاته إذ كل ما فيها من وجود وكمال فهو من أثر قدرته ومشيئته فهو أعظم وأكبر وإذا كان كذلك كانت أفعاله التي يفعلها بذاته تناسب ذاته وكانت أعظم وأجل من أن يدرك عقول البشر قدرها وإذا كان من المعلوم أن حدوث هذه المتكونات من استحالة العناصر والمولدات أعظم نسبة إلى الفلك من الخردلة إلى الإنسان العظيم إذ في الإنسان من قدر الخردل أكثر مما في الفلك من قدر العناصر والمولدات فنسبة الأفلاك وما فيها إلى الرب تعالى دون نسبة حوادثها المتكونة إلى الفلك فإذا جاز أن تكون هذه محدثة بحركة مشهودة حادثة في الفلك فحدوث الفلك وما فيه لفعل يفعله الرب أولى بالجواز وأبعد عن الامتناع وله المثل الأعلى هذا مع أن هذه المحدثات إنما هي منسوبة عندهم إلى فيض العقل الفعال مع إعداد حركات جميع الأفلاك للقوابل وحينئذ فتكون نسبة المحدثات إلى ذلك نسبة كثرة أعظم من نسبة الخردلة إلى الإنسان بكثير ولهذا يظهر ذلك للعباد في المعاد إذا قبض الجبار الأرض بيده وطوى السموات بيمينه ثم هزهن وقال أنا الملك أين ملوك الأرض أين الجبارون أين المتكبرون وإنما يعظم على الجهال من المتفلسفة وأمثالهم وأشباههم تقدير حدوث العالم وتغيره لأنهم لم يقدروا الله حق قدره وكان ينبغي كلما شهدوه على عظم العالم وقدره يدلهم على قدر مبدعه لكن لما ضل من ضل منهم لم يثبت لخالقه ومبدعه إلا وجودا مطلقا لا ينطبق إلا على العدم وإن أثبت له نوعا من الخصائص الكلية فهي أيضا لا تمنع أنه إنما يطابق العدم ولهذا كان هؤلاء من الدهرية المعطلة نظيرا للصفاتية الذين لا يثبتون حقيقة الذات المباينة للعالم فإن حقيقة قولهم يعود إلى قول معطلة الصفات أيضا وإذا كان الأمر كذلك فيقال لمن يلتزم منهم نفي الصانع ويقول أنا أقول إنه قديم واجب بنفسه لئلا يلزمني هذا المحذور الذي ذكرتموه في صدوره عن فاعل قديم كما قد يقول بعض الصفاتية إذا ضاقت عليهم الحجج في مسألة العرش والقرآن والرؤية وغيرها نحن نلتزم قول المعتزلة بنفي الصفات مطلقا فإنه يقال لهذا الدهري إذا كنت تجوز في عقلك وجود هذه الأفلاك قديمة أزلية واجبة الوجود أو حادثة بذاتها فإنها إذا لم تكن مفعولة لغيرها فإما أن تكون قديمة بنفسها أو حادثة بنفسها فإذا جوزت ذلك بلا زمان ولا مكان ولا من مادة ولا عن خالق لأن في إثبات الخالق صدور عن فاعل قديم أو حدوثها عنه بلا زمان ولا مكان ولا من مادة وهذا خلاف ما يشهد من صدور الأجسام عن غيرها أو حدوثها فإن تجويز وجوبها بنفسها وقدمها أو حدوثها بنفسها بلا فاعل أبعد عن المشهود والمحسوس والمعقول من صدورها عن فاعل بلا مادة ولا مكان ولا زمان فإن المشهودات صادرة في مكان وزمان ومن مادة وعن فاعل في الجملة وإن سميتموه طبيعة أو قوى فلكية أو غير ذلك فإنكم لا يمكنكم إنكار الأسباب الحادثة المحسوسة فإذا جوزتم وجود ذلك في غير زمان ولا مكان ولا من مادة ولا بفاعل كان ذلك أبعد عن المحسوس والمعقول مما فررتم منه وإذا قلتم ذلك قديم واجب الوجود بنفسه كان ما يلزمكم في هذا من المحذورات أعظم بكثير مما يلزمكم من الاعتراف بصانع لها قديم واجب الوجود فإنكم مهما أوردتموه في ثبوته حينئذ من كونه يستلزم أن يكون محلا للصفات والأفعال ونحو ذلك فإن ذلك يلزمكم أعظم منه إذا قلتم بأن الأفلاك قديمة واجبة الوجود بنفسها وإن قدر أن قائلا يقول إنها حدثت بأنفسها فهذا أعظم إحالة وهذا مما نبغي التفطن له فكل ما يقوله الدهرية من نفاة الصانع ومن مثبتيه من الشبهة النافية لوجوده أو لفعله فإنه يلزمهم أعظم منه على قولهم بأن القديم واجب الوجود بنفسه مستغن عن صانع وقولهم بأنه معلول عن علة موجبة فتدبر هذا وأصل ذلك أن الله ليس كمثله شيء لا في نفسه ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا مفعولاته فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئا مما يستحقه لعدم نظيره في الشاهد كان ما يثبته بدون الذي نفاه أبعد عن المشهود مثل أن يثبت الصفات بلا حقيقة الذات أو الذات بلا صفات أو يثبتهما بدون فعل يقوم بنفسه أو يثبت ذلك لازما لذاته أو يقول إن هذا المحسوس هو القديم الواجب الوجود بنفسه أو يقول حدث بنفسه فكل هذه المقالات النافية يلزم كل قول منها من المعارضات أعظم مما أورده هو على أقوال المثبتين فلا خلاص عنها بحال إذ الوجود مشهود محسوس ولا يخلو إما أن يكون قديما واجبا بنفسه أو محدثا بإحداث غيره وممكنا ومفتقرا إلى واجب بنفسه وإذا كان لا بد من الاعتراف بالوجود القديم الواجب وكان من نفي الرب الصانع الخالق السموات والأرض لشبهة يذكرها يلزمه مع هذا هي وما هو أعظم منها علم أن كل ما يذكره النفاة من الشبهة النافية للرب أو صفاته أو أفعاله حجج باطلة متناقضة إذ كان يلزم من صحتها نفي الوجود بالكلية وما استلزم نفي الوجود بالكلية علم أنه باطل وهذا المقصود هنا وهو أن كل ما يحتج به في إثبات قدم العالم بل وفي نفي الصفات يلزم صاحبه أعظم مما فر منه حتى يؤول به الأمر إلى أن ينكر الوجود بالكلية أو يعترف ببطلان قوله وببطلان كل ما يدل على قوله وهذا موجود في عامة الدين مما أمر الله به من اعتقاد أو قول أو قصد وعمل ومن ترك شيئا من ذلك إلى غيره خوفا ترك كان في الذي فر إليه أعظم من ذلك المخوف وإن كان رغبة فيما فر إليه كان ما فاته أعظم مما حصل له بل يعاقبون بأعظم من ذلك وقد قال تعالى ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا فأخبر أن المشركين لا يأتون بقياس وأقيستهم من الباطل إلا أتى الله بما هو الحق بكلام وقياس أحسن تفسيرا بحيث يكون بيانه ودلالته للمطلوب أبين وأوضح وأجلى وأقرب إلى الأمور البديهية الجليلة فهذا في جانب الحق وأما في عقوبة المبطل فإن المبطلين رئيسهم من الجن إبليس وأعظم رؤسائهم في الإنس فرعون وإبليس ترك طاعة الله تعالى وعبادته في السجود لآدم حذرا من نقص مرتبته بفضل آدم عليه فأداه ذلك إلى أن رضي بأن صار بأخس المراتب وباع آخرته بدنيا غيره كأخس القوادين فإنه يهلك نفسه في إغواء بني آدم بتحسين شهوات الغي لهم يتلذذون بالشهوات التي لا يلتذ هو بها ثم إنهم قد يتوبون فيغفر لهم وهو قد خسر وهلك من غير فائدة مع أنه ليس بين كونه تابعا لهؤلاء في إرادتهم الخسيسة وكونه تابعا لربه فيما أراد به من السجود لآدم نسبة في الشرف والرفعة كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال قال الشيطان وعزتك لأغوين بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأغفرن لهم ما استغفروني وهكذا فرعون استكبر أن يعبد رب السموات والأرض خوفا من سقوط رياسته ثم رضي لنفسه أن يعبد آلهة له قد صنعها هو وهكذا تجد كل أهل المقالات الباطلة وأهل الأعمال الفاسدة وإبليس إمام هؤلاء كلهم فإنه اتبع قياسه الفاسد المخالف للنص واتبع هواه في استكباره عن طاعة ربه تعالى فكل من اتبع الظن وما تهوى الأنفس وترك اتباع الهدى ودين الحق الذي بينه الله تعالى وأمر به في كتبه وعلى ألسن رسله وفطر عليه عباده وضرب له الأمثال المشهودة والمسموعة فهو متبع لإبليس في هذا له نصيب من قوله لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين كما قال محمد بن سيرين أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقايس ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي عن النبي ﷺ في نعت القرآن من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله وق قال تعالى لما أهبط آدم فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى فأخبر أن من اتبع هداه الذي جاء من عنده فإنه لا يضل ولا يشقى كما قال ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون إلى قوله أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون فإنه الهدى ضد الضلالة والفلاح ضد الشقاء وقد قال من قال من السلف المفلحون الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من ما منه هربوا ولهذا أمرنا أن نقول في كل صلاة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فإن المغضوب عليهم هم أهل الشقاء والضالون أهل الضلال وهم الذين اتبعوا هداه فلم يضلوا ولم يشقوا بل أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقال أيضا إن المجرمين في ضلال وسعر والسعر من أعظم الشقاء وهذا باب واسع وإنما القصود هنا التنبيه على هذا الأصل وهو أن من أعرض عن هدى الله علما وعملا فإنه لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب بل يلحقه من المرهوب أعظم مما فر منه ويفوته من المطلوب أعظم مما رغب فيه وأما المتبعون لهداه فإنهم على هدى من ربهم وهم المفلحون الذين أدركوا المطلوب ونجوا من المرهوب وهذا الذي شهد الله تعالى به في كتابه وكفى به شهيدا قد يري العباد آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق فتتفق عليه الأدلة المسموعة والمشهودة هي أصل العلوم الضرورية والنظرية والقياسية التي ينتحلها أهل النظر وأهل الذوق فتكون الأدلة الحسية والضرورية والقياسية موافقة للأدلة السمعية من الكتاب والسنة وإجماع المؤمنين والمخالفون لهذا مخالفون لهذا وإن ادعوا في الأول من الأقيسة العقلية وفي الثاني من التأويلات السمعية ما إذا تأمله اللبيب وجد مآلهم في تلك الأقيسة العقلية إلى السفسطة التي هي جحود الحقائق الموجودة بالتمويه والتلبيس ومآلهم في تلك التأويلات إلى القرمطة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه وإفساد الشرع واللغة والعقل بالتمويه والتلبيس وهذا أيضا سفسطة في الشرعيات وسمي قرمطة لأن القرامطة هم أشهر الناس بادعاء علم الباطن المخالف للظاهر ودعوى التأويلات الباطنة المخالفة للظاهر المعلوم المعقول من الكتاب والسنة والله يهدينا وسائر أخواننا المؤمنين لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ولما كان مآل هؤلاء إلى السفسطة التي هي جحود الحقائق وجحود الخالق وكان لا بد لهم من النفاق كان لتنبيه من نبه من الأئمة كمالك وأحمد وأبي يوسف وغيرهم على أن كلام هؤلاء جهل وأن مآله إلى الزندقة كقول أحمد علماء الكلام زنادقة وقول أبي يوسف ويروى عن مالك من طلب العلم بالكلام تزندق ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ومن طلب غريب الحديث كذب وقول الشافعي ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح ولما كان الرد إلى ما جاءت به الرسل يؤول بأصحابه إلى الهدى والصلاح قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ثم قال هذا الفيلسوف وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين أعني غير منقطع وذلك أن قوله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء يقتضي بظاهره أن وجودا قبل هذا الوجود وهو العرش والماء وزمانا قبل هذا الزمان أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك وقوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض يقتضي أيضا بظاهره أن وجودا ثانيا بعد هذا الوجود وقوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان يقتضي بظاهره أن السموات خلقت من شيء فالمتكلمون ليسوا في قولهم أيضا في العالم على ظاهر الشرع بل يتأولوه بأنه ليس في الشرع أن الله كان موجودا مع العدم المحض ولا يوجد هذا فيه أيضا أبدا فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه والظاهر الذي قلناه في الشرع في وجود العالم قد قال فيه فرقة من الحكماء قلت لم يقل أحد من سلف الأمة ولا أئمتها إن هذه السموات والأرض خلقنا وحدثنا من غير أن يتقدمها مخلوق وهذا وإن كان يظنه طائفة من أهل الكلام أو يستدلون عليه فهذا قول باطل فإن الله قد أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن أهل اليمن سألوا النبي ﷺ عن أول هذا الأمر فقال كان الله ولم يكن شيء غيره وفي رواية في البخاري ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض وفي رواية ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء وقد بسطنا هذا فيما سيأتي لما احتج المؤسس بحديث عمران هذا وذكر المخلوقات التي أخبر بابتدائها القرآن وإعادتها وما يتعلق بذلك وكذلك لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن السموات والأرض لم تخلقا من مادة بل المتواتر عنهم أنهما خلقتا من مادة وفي مدة كما دل عليه القرآن قال الله تعالى أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وقال تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكلام الجهمة ونحوهم في الابتداء نظير ما يذكرونه في الانتهاء من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار أو الحركات أو ينكرون وجود النفس وأن لها نعيما وعذابا ويقولون إن ذلك إنما هو للبدن بلا نفس ويزعمون أن الروح عرض من أعراض البدن ونحو ذلك من المقالات التي خالفوا فيها الكتاب والسنة إذ كانوا فيها هم والفلاسفة على طرفي نقيض وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها لكن يقال لهؤلاء الفلاسفة لا ريب أنكم أنتم وهؤلاء كلاكما مخالفون لما نطقت به الكتب الإلهية كما أنكم مخالفون لصرائح المعقولات ومن وافق ظالما في ظلمه كان جزاؤه أن يقال له ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشركون وأنت قد اعترفت أن الأخبار الإلهية ناطقة بأن صورة العالم أي صورة السموات والأرض محدثة وأما قولك إن ظاهر الشرع أن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين فليس في القرآن ما يدل ظاهره على أن وجودا غير وجود الله أو زمانا موجودا خارجا عنه هو مقارن لوجوده وما ذكرته إنما يدل على أن العرش كان قبل السموات وهذا حق لكن ليس فيه أن وجود العرش أزلي وقد جاء ذكر خلقه في الأحاديث كحديث أبي رزين الآتي ذكره مع ما في القرآن من أنه رب العرش وأمثال ذلك وكذلك ما فيه من ذكر زمان قبل هذا الزمن المتعلق بحركة الفلك لا يدل على أن ذلك قديم أزلي مقارن لوجود الله تعالى وكذلك ما فيه من ذكر مادة لخلق السموات والأرض لا يقتضي أن تلك المادة قديمة أزلية هذا مع ما في القرآن من أنه خالق كل شيء في غير موضع ورب كل شيء ولفظ الخلق ينافي ما يذكرونه من لزوم العالم له كلزوم الصفة للموصوف وحديث أبي رزين رواه أحمد والترمذي وغيره قال الترمذي في كتاب التفسير في تفسير سورة هود لأجل قوله تعالى هو الذي خلق السموات الأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ثنا أحمد بن منيع قال ثنا يزيد بن هرون أنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال كان في عماء ما تحته هو وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء قال أحمد بن منيع قال يزيد بن هارون العماء أي ليس معه شيء فهذا الحديث فيه بيان أنه خلق العرش المخلوق قبل السموات والأرض وأما قوله في عماء فعلى ما ذكره يزيد بن هارون ورواه عنه أحمد بن منيع وقرره الترمذي في أن معناه ليس معه شيء فيكون فيه دلالة على أن الله تعالى كان وليس معه شيء وسيأتي الكلام على ذلك إنشاء الله تعالى ثم لو دل على وجود موجود على قول من يفسر العماء بالسحاب الرقيق لم يكن في ذلك دليل على قول الدهرية بقدم ما ادعوا قدمه ولا بأن مادة السموات والأرض ليستا مبتدعتين وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده كما قال وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة وأخبر أيضا أنه يغير هذه المخلوقات في مثل قوله يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وقوله تعالى وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ومن المعلوم أنه لم يتعقب الإعادة عدمه كما لم يتقدم ابتداء خلق السموات والأرض العدم المطلق وفي قوله تعالى إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وقوله إذا السماء انفطرت وقوله إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع وقوله يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا وقال فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان وقال تعالى يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن وقال تعالى ويم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا وقال تعالى فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية فأخبر في هذه الآيات أن الخلق الذي ابتدأه وخلقه في ستة أيام يعيده ويقيم القيامة وقد أخبر أنه خلقه من مادة وفي مدة وأنه إذا أعاده لم يعدمه بل يحيله إلى مادة أخرى وفي مدة وأما العرش فلم يكن داخلا فيما خلقه في الأيام الستة ولا فيما يشقه ويفطره بل الأحاديث المشهورة دلت على ما دل عليه القرآن من بقاء العرش وقد ثبت في الصحيح أن جنة عدن سقفها عرش الرحمن قال النبي ﷺ إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلا الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن وقال تعالى لما أخبر بالقيامة وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر واللفظ لمسلم قال قال رسول الله ﷺ يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون وفي الصحيحين أيضا عن عبدالله بن مسعود قال جاء جبر إلى النبي ﷺ فقال يا محمد أو يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن ويقول أنا الملك أنا الملك فضحك رسول الله ﷺ تعجبا مما قال وتصديقا له ثم قرأ رسول الله ﷺ: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة قال فأتى رجل من اليهود فقال بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة قال بلى قال تكون الأرض خبزة واحدة كما قال رسول الله ﷺ فنظر رسول الله ﷺ إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه فقال ألا أخبرك بإدامهم قال بلى قال إدامهم باللام ونون قالوا ما هذا قال ثور ونون يأكل من زائدة كبدها سبعون ألفا وفي الصحيحين عن سهل بن سعد قال قال رسول الله ﷺ يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس بها علم لأحد وفي الصحيحين عن عائشة قالت سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله فقال على الصراط ثم إنه سبحانه وتعالى لما أخبر بقبضة الأرض وطيه للسموات بيمينه ذكر نفخ الصور وصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله ثم ذكر النفخة الثانية التي يقومون بها وذكر أنه تشرق الأرض بنور ربها وأنه يوضع الكتاب ويجاء بالنبيين والشهداء وأنه توفى كل نفس ما عملت وذكر سوق الكفار إلى النار وذكر سوق المؤمنين إلى الجنة إلى قوله تعالى وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوؤ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ولم يكن العرش داخلا فيما يقبض ويطوى ويبدل ويغير كما قال في الآية وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءا مطلقا ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك بل إنما وقع التفصيل إلى قيام القيامة واستقرار الفريقين في الجنة والنار وذكر ما فيهما من الثواب والعقاب وقد أجمل من ذلك مالا نعلمه على التفصيل كقوله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون وقوله ﷺ يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فكان الذي أخبرنا به مفصلا مالنا حاجة ومنفعة بمعرفته مفصلا وما سوى ذلك فوقع الخبر به مجملا إذ يمتنع أن نعلم كلما كان وسيكون مفصلا وهذا كما أنه أمرنا أن نؤمن بالملائكة والأنبياء والكتب عموما وقد فصل لنا من أخبار الأنبياء وأمر كتبهم وقصصهم وأمر الملائكة ما فصله والثاني أجمله كما قال منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وقال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا وأمثال هذا فلما وقع التفصيل في خلق السموات والأرض وما بينهما وفي القيامة التي تستحيل فيها السموات والأرض وما بينهما لم يكن العرش داخلا في ذلك بل أخبر ببقائه بعد تغيير السموات والأرض كما أخبر بكونه قبل خلق السموات والأرض خبرا مطلقا وأخبر في غير موضع أنه ربه وصاحبه تمييزا له من السموات والأرض كقوله قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم وقال عن أهل سبأ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم وذكر نفسه بأنه ذو العرش في غير موضع كقوله تعالى وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد وقوله تعالى قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا وقوله رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فهذا كله يبين أن العرش له شأن آخر كما أن الروح خصه من بين الملائكة في مثل قوله تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وفي قوله يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا وفي قوله تعالى تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام مع العلم أن ذلك جميعه مخلوق لله مملوك له وأنه رب ذلك كله وهم عباده وليس فيما سكت عن الأخبار بتفصيله ما ينافي ما علم مجملا وما أخبر به مفصلا كما ذكر البخاري عن سليمان التيمي أنه قال لو قيل لي أين الله لقلت في السماء فلو قيل لي أين كان قبل أن يخلق السماء لقلت على عرشه على الماء فلو قيل لي أين كان قبل ذلك لقلت لا أدري قال البخاري وذلك لقوله تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء يعني بما بين فأما قول الدهرية بأن السموات لم تزل على ما هي عليه ولا تزال فهذا تكذيب صريح وكفر بين بما في القرآن وما اتفق عليه أهل الإيمان وعلموه بالاضطرار أن الرسل أخبروا به وكذلك قول الجهمية أو من يقول منهم إن السموات والأرض خلقتا من غير مادة ولا في مدة وأنهما يفنيان أو يعدمان أو أن الجنة تفنى أيضا كل ذلك مخالف لنصوص القرآن ولهذا كفر السلف هؤلاء وإن كان كفر الأولين أظهر وأبين لكن لم تكن الدهرية تتظاهر بقوله في زمن السلف كما تظاهرت الجهمية بذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك عند احتجاج المؤسس على نفي العلو بقوله هو الأول والآخر كما احتج بها الجهمية قبله والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف ألفاظه الصحيحة وما فسرها به الذين تلقوا عنه اللفظ والمعنى ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات ولفظ العالم ليس في لقرآن ولا يوجد في كلام النبي ﷺ ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين وإنما الموجود لفظ العالمين وفيه عموم كقوله رب العالمين وقد يقال فيه خصوص كقوله وفضلناهم على العالمين وقوله واصطفاك على نساء العالمين وقوله تعالى ما سبقكم بها من أحد من العالمين عند من يجعل ذلك المراد به الآدميون أو أهل عصرهم وكذلك لفظ الخلق هو معرف باللام ففيه عموم وقد ينصرف إلى المعهود الذي هو أخص من جملة المخلوقات كقوله في حديث خلق آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن وفي الحديث المتقدم ذلك وكذلك قوله في حديث الخلق وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل والله سبحانه وتعالى أعلم والمقصود هنا التنبيه على فساد حجج الدهرية المعطلة للصانع تعالى وتناقضها ومشاركة الجهمية لهم في بعض أصولهم الفاسدة مع حجج الدهرية المثبتة له أيضا وقد تقدم ما ذكره أبو المعالي من أن شبه الدهرية لحصرها أربعة أقسام أحدها تعرضهم للقدح في الدليل الذي ذكره أبو المعالي دليل المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمين الذي استدلوا له على حدوث الأجسام دليل الأعراض ونحن قد ذكرنا في غير هذا الموضع كلام أئمة المسلمين في هذه الطريقة تحريما وكراهة وإبطالا قال والقسم الثاني يتعلق بالتعرض لنفي الصانع ولهم في ذلك طريقان أحدهما أن إثبات قائم بنفسه يتقدس عن الجهات المحاذيات غير معقول والثاني يتعلق بالتعديل والتجويز والحكم بأن الحكم لا يفعل الفعل إلا لغرض والغرض ماله الضر والنفع وذلك يستحيل على القديم قلت هاتان أيضا كلامهم فيهما مع المعتزلة في الأصل فإنهم جهمية أثبتوه بالصفات السلبية وهم أيضا قدرية ثم انتقلت هذه الحجة إلى المرجئة فجاوبوهم في المقدمة الثانية ببعض جواب المعتزلة وأجابوهم في الصفات بجواب يقال إنه متناقض قال أبو المعالي والقسم الثالث على الاستشهادات بالشاهد على الغائب من غير رعاية وجه في الجمع بينهما قال والقسم الرابع من كلامهم يشتمل على ضروب من التمويهات قلت قد نبهنا على القسم الثالث والمقصود هنا القسم الثاني فإنه الذي ذكروا فيه نفي الصانع وهو أعظم كلامهم والحجة العظمى التي عول عليها ابن الراوندي المصنف كتاب التاج في قدم العالم ومحمد بن زكريا المتطبب فيما صنفه في ذلك حيث قال بالقدماء الخمسة والاحتجاج بها على قدم العالم تارة مع الإقرار بالعلة الموجبة وتارة مع عدم ذلك فأما الأول فقالوا لو كان العالم محدثا لكان محدثه فاعلا مختارا وهو محال لوجهين أحدهما أن ذلك الاختيار إما أن كون لغرض أو لا يكون فإن كان لغرض فهو باطل لأمرين أحدهما أنه يجب أن يكون ذلك الغرض أولى به من عدمه وإلا لم يكن غرضا وإذا كان وجوده أولى به كان مستكملا بخلق العالم وهو محال فإن قيل هو فعله لا لغرض يعود إليه بل لغرض يعود إلى غيره وهو الإحسان إلى الغير وهذا يدفع المحذور قيل الإحسان إلى الغير إما أن يكون بالنسبة إلى ذاته أولى من تركه وإما أن لا يكون فإن كان مساويا لم يكن غرضا وإن لم يكن مساويا عاد المحذور الثاني إن من فعل لغرض غيره كان الفاعل دون المفعول كالخادم والمخدوم ومن الممتنع أن يكون غير الله أشرف منه فيمتنع أن يفعل لغرض غيره وإن قيل إنه فعل العالم لا لغرض كان عابثا والعبث على الحكيم محال ولأنه يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح وهو محال الوجه الثاني أنه لو فعله بالاختيار فإما أن يجوز منه فعل القبيح أو لا يجوز وإن شئت قلت فإما أن يجوز عليه فعل كل شيء وإما أن يكون متنزها عن بعض الأفعال فإن قيل إنه يجوز أن يصدر منه فعل القبيح لم يؤمن منه تصديق المتنبئين الكذابين بالمعجزات ولم يؤمن أيضا الخبر المخالف لمخبره فإن الكذب وتصديق الكاذب قبيح وتجويز ذلك يبطل النبوات وأخبار المعاد وهذا تبطل بهما الملل وإن قيل إنه لا يفعل القبيح وهذا قبيح الثاني أن العالم مملوء طافح بالشرور والآفات وأنواع الألم والعقوبات والقول بالغرض باطل وإذا بطل القسمان بطل القول بالفاعل المختار وأما الاحتجاج بها على نفي الصانع مطلقا فأن يقال إن كان موجبا بذاته لزم قدم المفعولات وهو خلاف المحسوس لأن الموجب لفعل المحدث الذي هو علة تامة إن كان موجودا في الأزل لزم قدم المحدثات وإن لم يكن موجودا فصدوره بعد أن لم يكن يحتاج إلى سبب حادث والقول فيه كالقول في غيره من الحوادث فيمتنع حدوث محدث عن موجب بذاته وإن كان فاعلا باختياره عادت الحجة المتقدمة وهذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة ولم فعل ما فعل وهي مسألة القدر ظهر بها ما كان السلف يقولونه إن الكلام في القدر هو أبو جاد الزندقة وعلم بذلك حكمة نهيه ﷺ لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم قال لهم بهذا هلكت الأمم قبلكم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض وعن هذا نشأ مذهب المجوس والقدرية مجوس هذه الأمة حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة كما أن التجهم فروع تلك الحجة ثم إن الدهرية ظنوا أنهم بالقول بقدم العالم ينجون من هذه الشبهات وكان الذي وقعوا فيه شرا مما وقعت فيه المجوس والقدرية ولهذا كان المشركون والصابئون القائلون بقدم العالم ومن معهم من الفلاسفة شرا من المجوس ومن معهم من القدرية المعتزلة وغيرهم والمقصود بيان هذا يقال لهم لا ريب في هذا الوجود المشهود المستلزم لوجود الموجود القديم الواجب فإن نفس الوجود يستلزم موجودا قديما واجبا بنفسه إذ كل موجود فإما أن يكون واجبا قديما أو يكون محدثا أو ممكنا والمحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من واجب وهذا مما لا ينازع فيه أحد من بني آدم وإنما الدهرية تقول هذا العالم قديم واجب بنفسه أو يقولون هو معلول علة قديمة واجبة بنفسها فيقال لهؤلاء إن قلتم إن هذا العالم واجب الوجود بنفسه قديم لزمكم هذه المحالات وأضعافها فإنه يقال لكم لأي سبب تحرك الفلك الأعلا وغيره من الأفلاك ولم حصلت هذه الاستحالات فإن هذه أمور حادثة بعد أن لم تكن وهي ممكنة قطعا فالمحدث لها سواء كان الفلك أو غيره الذي قد قدر أنه قديم واجب الوجود بنفسه إن أحدثها لغرض لزم أن يكون مستكملا بها والتقدير أنه قديم واجب الوجود بنفسه فقد لزمكم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه مستكملا بغيره وهذا هو المحال الذي فررتم منه فقد وقعتم فيه مع ما في ذلك من المحالات اللازمة على هذا التقدير مثل امتناع كون الفلك الأعلا هو المحدث لجميع الحركات وغير ذلك حتى لو قدر في كل فلك متحرك أنه قديم واجب الوجود بنفسه كان هذا السؤال قائما فيه وفي حركاته الحادثة بعد أن لم تكن وكذلك إن قالوا تحرك لأجل العناية بالسافلات أن يكون الأعلا خادما للأدنى وأن تكون هذه الغاية أعلا من الفاعل الذي هو أشرف منها وهو متناقض وإن فرض أن قائلا يقول أو يخطر له إن الفلك ليس بقديم واجب بنفسه ولا معلول علة قديمة بل يقول حدث بنفسه بعد أن لم يكن وهذا لا نعلم به قائلا وقد ذكر أرباب المقالات أنهم لم يعلموا به قائلا لكن هو مما يخطر بالقلب ويوسوس به الشيطان فيقال هذا الوجود المشهود إما أن يكون موجودا بنفسه وإما أن لا يكون وإذا كان موجودا بنفسه فإما أن يكون قديما وهو القسم الذي تقدم بيان تناقض أصحابه وإما أن يكون محدثا بنفسه فيقال هذا القول أظهر فسادا وتناقضا فإنه من المعلوم ابالفطرة البديهية أن المحدث بد أن لم يكن لا يتصور أن يحدث عن غير محدث ولا ن يحدث نفسه فلا يكون الشيء صانعا لنفسه ولا مصنوعا لنفسه ولا يكون أيضا على غائية لنفسه كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع قال تعالى أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون قالوا من غير خالق خلقهم قال جبير بن مطعم لما سمعت النبي ﷺ يقرأ هذه الآية في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع بين سبحانه باستفهام الإنكار الذي يتضمن أن الأمر المنكر من العلوم المستقرة الملازمة للمخاطب التي ينكر على من جحدها لأنه سفسط بجحد العلوم البديهية الفطرية الضرورية فإنه من المعلوم أن ما حدث لا يكون من غير محدث أحدثه ولا يكون هو حدث بنفسه فقال أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون وهذا يستلزم الجمع بين النقيضين وغيره من المحالات وإن كانت إحالته في العقل من أظهر العلوم الضروريات فإن كونه فاعلا لنفسه يقتضي أن يكون وجوده قبلها وكونها مفعولة يقتضي أن يكون وجوده بعد نفسه فيجب أن تكون نفسه موجودة معدومة في آن واحد والمقصود هنا بيان تناقض حججهم وأن الذي يقولونه فيه من المحذور أعظم مما فروا منه فيقال إذا قدر أنه حدث بنفسه بلا محدث بل عن العدم المحض فمعلوم أن هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة من أبعد الأشياء عن الأمور الموجودة المحسوسة وعن القياس العقلي فمن جوز أن يكون هذا الوجود صدر عن عدم محض فصدروه عن علة موجبة لا تستلزم وجود المعلول أقرب إلى العقل وأبعد عن المحذور وهو الذي فروا منه لأن أكثر ما في هذا أنه تكون العلة التامة قد تخلف عنها معلولها أو وجد المعلول عن علة ليست تامة ومن المعلوم أن صدوره لا عن شيء أعظم امتناعا وفسادا من صدوره عن علة ليست تامة ومن المعلوم أن وجود العلة التامة بلا معلول أقل فسادا وامتناعا من وجود المحدث لا من علة أصلا فإن المعلول إما محدث وإما قديم ومعلوم بالعقل أن حاجة المعلول المحدث إلى العلة أظهر من حاجة المعلول القديم ووجود المعلول بلا علة أبعد في العقل من وجود العلة بلا معلول فإذا جوزتم صدور المحدث بلا علة ولا محدث كان تجويز وجود العلة التامة مع تأخر معلولها أقرب في العقل وأبعد عن المحال وكذلك أيضا إذا جوزتم صدوره عن العدم فصدوره عن فاعل مستكمل بفعله أو فاعل يفعل لا لغرض أقرب في العقل وأبعد عن المحال مما جوزتموه فإن هذا غايته أن يكون أحدثه فاعل ناقص أو عابث وبكل حال فهذا أقل امتناعا من أن يكون حدث لا عن شيء وبالجملة فافتقار المحدث إلى المحدث من أبده العلوم وأوضح المعارف وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء وأي قول قيل كان أقرب إلى العقل وأبعد عن المحال من هذا فإذا قرر هذا القول ظهر أن المحال الذي فيه أعظم من المحال الذي يلزم غيره ولهذا لم نكثر تقرير هذا القول وإنما تكلمنا على ما قال به قائلون وهم الدهرية القائلون بقدم العالم إما واجبا بنفسه وإما واجبا بعلته فهؤلاء إذا ظهر تناقض قولهم كان تناقض ذلك القول أظهر وقد ذكرنا بعض تناقضهم ويقال لهم أيضا هذه الكمالات الحاصلة للفلك بإحداث ما يحدثه من الحركات إن كانت مقدورة له في الأزل فلم أخرها وإن كانت غير مقدورة له فقد أثبتموه عاجزا عن غير ما فعل من الأحداث فإذا أقررتم بخلق الفلك لم يلزمكم في إثباته أكثر من هذا وهو أن يكون مستكملا بما يحدثه من الأفعال وأن لا يكون وجود تلك الأفعال في الأزل ممكنا وغاية ما يلتزمونه من قيام أفعال حادثة بذاته أو من كونه جسما أو غير ذلك فإن هذا كله لازم لكم إذا قلتم بأن الفلك قديم واجب الوجود فإذا كان كل محذور يلزمكم على تقدير إثبات الصانع يلزمكم أيضا على تقدير نفي الصانع كان القول بنفيه باطلا قطعا وكانت هذه الحجة فاسدة وهذا هو المقصود هنا وأما بيان أن هذه الحوادث الموجودة في العالم يمتنع أن يكون الفلك مستقلا بهذا فذاك له مقام آخر إذ الغرض هنا بيان تناقضهم مع أن ذلك ظاهر بين والعقلاء المعروفون متفقون على أن الحوادث التي تحدث لا يستقل بها الفلك ويمتنع أن يكون في المخلوقات ما يستقل بأحداث محدث منفصل عنه فهذا له مقام آخر وهو دليل مستقل عظيم القدر على ثبوت الصانع تعالى وهكذا الإلزام على التقدير الثاني وهو أن يقال هذه الحركات لغير غرض فيقال فيلزمكم بموجب كلامكم أن يكون الموجود القديم الواجب الوجود يفعل أفعالا دائمة مستمرة لغير غرض وقد قلتم إنه عبث والعبث على الحكيم محال فمهما كان جوابكم عن ذلك في هذا أمكن أن تجيبوا أنفسكم به إذا كان القديم الواجب الوجود هو صانع الفلك مع كون المحذور حينئذ أقل عندكم فلم عدلتم عن القول الأخف إلى القول الأقبح ولله المثل الأعلى فنزهتموه إذا كان موجودا قديما صانعا عن أن يستكمل بفعله أو يكون عابثا فيه فجعلتموه معدوما وأي موجود فرض كان خيرا من المعدوم فعدلتم عن أن تصفوه بنوع نقص فوصفتموه بما يجمع كل نقص ثم وصفتم غيره بصفات الكمال التي هي وجوب الوجود والقدم مع وصفكم له بتلك النقائص فاجتماع هذه النقائص مع هذه الكمالات لازم لكم ولم تستفيدوا إلا كمال التعطيل والجحود بلا حجة أصلا وقد ظهر فساد حجتهم وتناقضهم فيها من وجوه أحدها أن الذي نفوه به يلزمهم مثله فيما أثبتوه من موجود قديم واجب وهو الفلك المشهود الثاني أنهم قصدوا تنزيهه عن تجدد كمال له بفعله أو عن عبث فجعلوه أعظم نقصا من المستكمل العابث ومن المعلوم أنه إذا قدر فاعل يستكمل بفعله كان خيرا من المعدوم فإن الفلك أو غير الفلك إذا قدر ذلك فيه لم يشك عاقل أنه خير من المعدوم فكان نفيهم له الذي فروا إليه شرا من نفي بعض الأمور التي ظنوها كمالا فتدبر هذا أيضا وكذلك إذا قدر موجود كامل يفعل فعلا لغير غرض له وقيل إنه عابث فهو أكمل من العدم الذي ليس بشيء أصلا فإن الفاعل لغير غرض بمنزلة الساكن الذي لا يفعل وهذا يقال فيه إنه جامد ويقال في ذلك إنه عابث والجامد والعابث خير من العدم المحض لا سيما إذا كان متصفا بسائر صفات الكمال الثالث ما تركب من هذين الوجهين وهو أنهم مع التزام المحالات التي زعموا أنهم فروا منها ومع التزام ما هو شر مما فروا منه لم يستفيدوا بذلك إلا جحود الصانع تعالى وتقدس رب العالمين الذي هو أصل كل باطل وكفر وكذب وتناقض وشر في الوجود كما أن الإيمان به أصل كل حق وهدى وصدق واستقامة وخير في الوجود وهكذا يقال لهم في فعل القبائح وعدم فعلها من وجوه أحدها أن هذا لازم لكم فيما تصفونه بأنه واجب لذاته قديم وهذا لا بد منه على كل تقدير ولا مندوحة عنه الثاني أن يقال تجويز تصديق الكاذب أو الكذب أكثر ما يقال فيه إنه يستلزم بطلان الرسالة والخبر عن الثواب والعقاب وهذا المحذور أخف بكثير من محذور نفي الصانع فهل يسوغ في العقل أن نجحد الصانع وخلقه للعالم لأن ثبوت ذلك يستلزم بطلان النبوة والوعد والوعيد فإنه يقال لذلك وأنت إذا نفيته بطلت النبوة والوعد والوعيد أيضا وبطل أضعاف هذا من أمور الديانات فبتقدير أن يكون هذا لازما على التقديرين لا يجوز أن يحتج به على نفي أحدهما مع كثرة المحاذير على هذا التقدير بل غاية ما يقال إذا قدر أنه لازم فليس بمحذور ومعلوم أن الإقرار بالصانع تعالى مع الكفر بالرسل والمعاد أقل كفرا من جحود الصانع كما أن الإقرار مستكمل أو عابث أقل كفرا من جحوده فالتزام زيادة الحجة والتعطيل بلا حجة من أبطل الباطل وهكذا ما احتجوا به على جحود فعل القبيح كتكليف المحال ووجود الشرور فإنه يقال فيه هذان الوجهان أحدهما لزوم ذلك أيضا مع ما يصفونه بالقدم ووجوب الوجود الثاني أن ذلك إنما يستلزم نقصا وذلك أهون من العدم فإذا كانت الحجة إنما تستلزم في الوجود لم جز أن يلتزم عدمه بلا حجة بل إذا كان إثبات الوجود الناقص لا بد منه على كل تقدير ومثل من احتج على بطلان الخالق بأن ذلك يستلزم بطلان النبوة والمعاد مثل من بلغه أن الله تعالى بعث رسولا وأن قوما كذبوه فتأذى بذلك فجاء إليه فقتله وقال إنما قتلته لئلا يتأذى بالتكذيب وهؤلاء أعدموا الخالق لئلا تكذب رسله على زعمهم وكذلك مثل من أراد أن ينصر ملكا له مملكة عظيمة ولكن بعض رعيته عصوه فعمد إلى ذلك الملك فقتله أو عزله عن الملك بالكلية وقال إنما فعلت ذلك إجلالا لقدره لئلا يعصيه بعض رعيته ويحكى عن بعض الحمقاء أنه رأى ذبابا وقع على وجه مخدومه فأخذ المداس فضرب به وجه مخدومه ليطير عنه الذباب ومثل من كان له ميراث من أبيه غصب بعض الناس شيئا منه فقصد بعض الحكام أو بعض الشهود دفع الشر عن ذلك الوارث ودفع تضرره بالغصب فأثبت أنه ليس ابنه وأنه لا يستحق شيئا من الميراث وقال إنه بهذا الطريق امتنع أن يكون مغصوبا وزال تضرره بالغصب أو رجل كان له عقار عظيم من مساكن وبساتين وغيرها وله منافع عظيمة وحقوق كثيرة قد غصبه بعض الناس بعضها وهو متألم لذلك فقام قوم من الحكام والشهود والأعوان ليزيلوا عنه فسعوا في أخذ ذلك العقار منه بالكلية وإخراجه من ملكه ويده بلا فائدة حصلت له أصلا وقالوا هذا العقار إذا كان له فلا بد له من أن يؤخذ منه هذا الجزء اليسير فيتألم فأعدموه إياه كله بلا فائدة حصلت له ومثل من قال أنا لا أصلي لأني إذا صليت أقصر في ذكر الله وعبادته وطاعته التي ينبغي أن أفعلها في الصلاة فأنا أترك الصلاة بالكلية خوفا من ترك بعض واجباتها وكذلك من قال لا أزكي أصلا لأني إذا زكيت فقد يأخذ زكاة بعض مالي من لا يستحقها فيحرم المستحقين لها فأنا أحرم المستحقين جميع الزكاة لئلا يحرموا بعضها بالمزاحمة ومثل من ارتكب الفواحش المحرمة وترك النكاح الحلال قال لأني إذا نكحت المرأة فقد أطؤها وهي حائض أو في الدبر فأستحل الفواحش من التلوط وغيره حذرا من هذا الذنب أو من أخذ يسرق أموال الناس خوفا من تجارة أو صناعة يكون ظلمه فيها أقل من ظلم السرقة أو من أقام ببلاد الحرب معاونا لهم على قتال المسلمين خوفا من أن يهاجر إلى بلاد المسلمين فيقصر بجهاد أهل الحرب والأمثال في هذا كثيرة جدا ومن العجب أن المتكلمين المناظرين لهؤلاء وأمثالهم من أهل الكفر إذا أوردوا سؤالا من جنس هذا السؤال أن يدخلوا معهم في جوابه وحله وقد لا يكون المجيب متمكنا من ذلك علما وبيانا ولا ينقطع بذلك الخصم ولا يهتدي لنقص قوي إدراكه أو سوء قصده أو لا حتياج تحقيق ذلك إلى مقدمات متعددة وزمان طويل وتقرير لتلك المقدمات بجواب ما ترد بها من ممانعة ومعارضة فيتركوا أن يبدؤوهم من أول الأمر ببيان فساد هذه الحجة وبيان تناقضهم وأن قائلها يلزمه إذا قال بها أعظم مما أنكره فإذا تبين له فسادها وللمتكلمين معه حصل دفع هذا الشر وبطلان هذا القول وهذه الحجة وهو المقصود في هذا المقام ثم بيان الحق وتكميله مقام آخر ومثل ذلك مثال من قدم العدو بلاده فأخذ يبني ويغرس ويعمر ما ينتفع به لنفسه ويدفع به عدوه قبل دفع العدو عن بلاده فجعل كلما عمر شيئا خربه العدو وهو غير متمكن من العمارة الثانية فإذا كان قادرا من أول الأمر على دفع العدو كان ذلك أولى وإن حصل له في ذلك نوع مشقة فهي أخف من كل مشقة يلتزمها مع بقاء العدو ببلاده والحجج الباطلة هي عدو الحق فهي عدو في قلب الناظر بنفسه لطلب الحق وقلبه كبلاده وهي أيضا عدو له مع المناظر الذي يناظره وسواء كان معاونا أو مغالبا ولهذا ناظر إبراهيم الخليل بمثل هذه المناظرة المتضمنة قياس الأولى وإلزام الخصم على قوله أعظم مما ألزمه هو على قول خصمه كما قال وكيف أخاف ما أرشكتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون قال تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء قال زيد بن أسلم وغيره بالعلم فالعلم بحسن المحاجة مما يرفع الله تعالى به الدرجات وكذلك قال تعالى فيما أمر أن يخاطب به أهل الكتاب قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل فصل يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع جميع الموجودات وأما دلالة الاختراع فيدخل فيها وجود الحيوان كله ووجود النبات ووجود السموات وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس أحدهما أن هذه الموجودات مخترعة وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات كما قال تعالى إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الآية فإنا نرى أجساما جمادية ثم تحدث فيها الحياة فنعلم قطعا أن ها هنا موجدا للحياة ومنعما بها وهو الله تبارك وتعالى وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما ها هنا ومسخرة لنا والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع فيتضح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلا مخترعا ل وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات وكذلك كان واجبا على من أراد معرفة الله تعالى حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وكذلك أيضا من يتتبع معنى الحكمة في موجود موجود عن معرفة السبب الذي من أجله خلق الغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم فهذان الدليلان هما دليلا الشرع وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز هي مختصرة في هذين الجنسين من الدلالة فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز إذا تصفحت وجدت على ثلاث أنواع إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط فمثل قوله تعالى ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا إلى قوله وجنات ألفافا ومثل قوله تعالى تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا إلى قوله تعالى أو أراد شكورا ومثل قوله تعالى فلينظر الإنسان إلى طعامه ومثل هذا في القرآن كثير وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق ومثل قوله تعالى أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت الآية ومثل قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ومن هذا قوله حكاية عن إبراهيم ﷺ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضا بل هي الأكثر مثل قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون إلى قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون فإن قوله الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون تنبيه على دلالة الاختراع وقوله الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء تنبيه على دلالة العناية ومثل قوله تعالى وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وقوله ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الدلالة فهذه الدلالة هي الصراط المستقيم الذي دعا الله تعالى الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم إلى قوله تعالى بلى شهدنا ولهذا قد يجب على من كان وكده طاعة الله في الإيمان به وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية مع شهادته لنفسه وشهادة ملائكته له كما قال تبارك وتعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين دلالة العناية ودلالة الاختراع وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص وأعني بالخواص العلماء وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس وأما العلماء فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان أعني من العناية والاختراع حتى لقد قال بعض العلماء إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط وأن لها صانعا موجودا ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها ولا شك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته قلت ذكره لهذين النوعين كلام صحيح حسن في الجملة وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها مثلما ذكره في دلالة حركة الفلك وتفسير الآية وتسبيح المخلوقات واستدلال إبراهيم ودليل الأحداث والاختراع يدل على ربوبية الله تعالى ودليل الحكمة والعناية والرحمة يدل على رحمته وقد فتح الله كتابه العزيز بقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم وهذا أجود من طريق المتكلمين طريقة الأعراض وإن كان لم يستقص الكلام في دلالة ثبوت الصانع تعالى ولم يفصل إحداث الجواهر وغير ذلك مع أن طرق معرفة الصانع بالفطرة والضرورة وبالنظر والاستدلال بنفس الذوات وبصفاته باب واسع ليس هذا موضعه وكثير من يرغب عن طريقة الأعراض يذكر ما في خلق الإنسان أو ما في خلق ما يشهد حدوثه من هذين النوعين من الحدوث الدال على المحدث والحكمة الدالة على قصد الصانع ورحمته ونعمته بما يدل عليه وقد ذكرنا ما ذكره الخطابي من كراهة طريقة الأعراض وأنها بدعة محظورة وقد قال في أوائل كتابه شعار الدين القول فيما يجب من معرفة الله سبحانه وتعالى أول ما يجب على من يلزمه الخطاب أن يعلم أن للعالم بأسره صانعا وأنه هو الواحد لا شريك له وقد جرى كثير من عوام المسلمين في هذا على عادة النشوء وحكم الولادة فكان إيمانهم إيمان تلقين وتربية وذلك أنهم يولدون في دار الإسلام ويتربون في حجور المسلمين وينشأون في بلادهم فيتلقنون كلمة التوحيد من الآباء والأمهات ويسمعون الأذان من المؤذنين ويتلون القرآن من الأئمة في الصلوات ومن المعلمين في المكاتب فيستحكم حب الدين في قلوبهم ويعتقدون حسنه وصحته تقليدا فينتفعون به ويقتصرون عليه ودين الإسلام إذا كان موثوقا بصحته مشهودا له بالفضل على كل دين سواه فقد يجب على كل متدين به أن يكون مصلدا اعتقاده إياه عن نظر واستدلال ليكون العلم به أصح والوثيقة به أشد وقد نصب الله تعالى الأدلة وأزاح بها العلة ووسع من وجوهها وكثر من عددها فهي على اختلاف مراتبها في الوضوح والغموض معروضة للاستدلال بها والاستشهاد بمواضعها فلا أحد يعقل من آحاد الناس إلا وله في جليها مستدل وفي واضحها مستشهد وإن كان نزل فهمه عن دقيقها ولطيفها فالواجب على كل من الناس أن يبذل وسعه فيه ويبلغ جهده في دركه فإن الله تعالى يقول والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين فمن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى على أن للخلق صانعا ومدبرا أن الإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ولحما فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال لأنه لا يقدر أن يحدث في الحال الأفضل التي هي حال كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر فإن قيل إن النطفة قديمة وفيها قوة قابلة للاغتذاء فإذا وقعت في الرحم والطبائع معتدلة قبلت بالقوة التي فيها الاغتذاء والتربية حتى تستوي جارحة ويتم بها خلقه قيل لو كانت النطفة قديمة كما زعمتم لم يجز عليها الانقلاب والتغيير لأن التغيير والانقلاب من سمات الحدث فبطل أن يكون المنقلب المتصرف قديما فأما ما ادعوه من قبول النطفة بما فيها من القوة الاغتذاء والتربية فإن ذلك لا ينكر إذا صح العلم به في طريق العادات ولكن الذي ننكره من ذلك أن يكون هذا الفعل للنطفة بذاتها من غير مدبر دبرها لذلك ولو كان هذا جائزا من غير مدبر حكيم عالم قدير يعلم كيف يدبر النطفة ويقلبها أطوارا ويسوي منها السمع لما يصلح له ويضعه في موضعه والبصر في مكانه الذي يليق به في البدن وكذلك تعليق اليدين العاملتين في موضعهما والرجلين الحاملتين في أخص المواضع بهما ووضع كل شيء من القلب والكبد والطحال وسائر الأجسام في الموضع الذي هو أملك به وأشكل لما أعد له من الفعل لجاز أن يرتفع الماء من إليه ويختلط بالطين ويقع الطين في قالب اللبن وينطبع به ثم يزحف إلى موضع البناء فيرتفع بعضه على بعض فينتضد حتى يكون بناء رفيعا محكما مشيدا من غير بان ولا رافع ساق على ساق بل ينطبع الماء والتراب بنفسهما لا بشيء سواهما فإن لم يكن هذا جائزا لأنه ليس من طبع الماء أن يكون منهما ما وصفت فكذلك غير جائز تركيب الإنسان وتصويره وتخطيطه على ما عليه الإنسان من جنس الصورة وعجيب التركيب بنفس النطفة وطبعها ويجاز على هذا بطبع الخشب وجودة سفينة اجتمعت أجزاؤها واعتدلت وتماسكت وداخل بعضها بعضا وقربت من الساحل معها دقلها وآلاتها يعبر من يريد العبور من سوال سق ثم تعود بنفسها إلى مركزها ومرساها كذلك ويجاز بطبع الماء والنار والتربة أن يوجد حمام في أسفله نار وفي بيوته ماء على غاية الاعتدال في الحرارة والرطوبة من غير بان بناه ومسخن سخنه ومدبر دبره فإن لم يجز شيء مما ذكرناه فليكن مثل ذلك ما ادعوه من النطفة واجتماع خلق الإنسان منها من غير مدبر حكيم دبره وأحكمه فهذا الدليل يتضمن أن المحدث لا بد له من محدث وأن ما فيه من الحكمة لا بد له من قاصد حكيم ثم ذكر دليلين في العالم أحدهما حدوث ما يحدث لاختلاف الحركات الطبيعية الدالة على أنه بإرادة كما قد نبهنا أن الإرادة هي أصل جميع الحركات الثاني ما في العالم من الحكمة فقال دليل ثان أنا رأينا أشياء متضادة من شأنها التباين والتنافر والتفاسد مجموعة في بدن الإنسان وأبدان سائر الحيوان وهي الحرارة والبرودة فعلمنا أن جامعا جمعها وقهرها على اجتماع وأقامها بلطفه ولولا ذلك لتنافرت وتفاسدت ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتنافرات وتتقاوم من غير جامع يجمعها لجاز أن يجتمع الماء والنار ويتقاوما من ذاتهما من غير جامع يجمعهما ومقيم يقيمهما وهذا محال لا يتوهم فتعين إنما كان اجتماعهما بجامع قهرهما على الاجتماع والالتئام دليل ثالث أنك إذا تأملت هيئة العالم يبصرك واعتبرتها بفكرك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منضودة كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر وضروب النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب مستعملة في المرافق والإنسان كالمملك البيت المخول ما فيه وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام وأن له صانعا حكيما تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبه كتاب الله عز وجل على هذا النوع من الاستدلال فقال تعالى وفي أنفسكم أفلا تبصرون إشارة إلى أثارة الصنعة الموجودة في الإنسان من يدين يبطش بهما ورجلين يمشي بهما وعين مبصرة وأذن يسمع ولسان يتكلم به وأضراس تحدث له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ومعدة أعدت لطبخ الغذاء وكبد يسلك إليها صفوه وعروق ومعابر ينفذ منها إلى الأطراف وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز عن أسفل البدن وقال عز وجل أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت الآية هذا من قريب ما يستدركه العاقل من وجوه الأدله من غير كثير استقصاء في فعل ومعاناة بدقيق فكر وذلك أنه خطاب للعرب ومن سنة العربي أن يركب راحلته فيسير عليها فيما قرب من الأرض باغيا حاجته وفيما يعد عنها ضاغنا في السفر في الحال يكثر في بلادهم فإذا خلا بالمكان لم ير إلا سماءا فوقه وأرضا تحته وجبلا عن يمينه وجبلا عن شماله ومطية هو راكبها فإذا تأمل هذه الأشياء استبان فيها أثر الصنعة ولطف الحكمة مما جمع الله من المرافق فيها أن صانعها لطيف خبير عالم قدير حكيم عليم وقد قيل إن الإبل خصت بالذكر من بين سائر الحيوان وذلك أن الأنعام ضروبها أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال كلها وقال سبحانه وتعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون فذكر خلق السموات بما فيها من الشمس والقمر والنجوم وسيرها في أفلاكها الذي يختلف الليل والنهار به ويتبين زيادتهما ونقصانهما ودخول أحدهما على الآخر وأخذ بعضها من بعض فيكون بها انقسام فصول السنة وتعاقب الحر والبرد الذين بأحدهما لقاح الشجر وبالآخر نضج الثمار وذكر الله الأرض التي هي مسكن الحيوان والدواب وفيها قرار البحار التي تجمع المياه التي تحمل السفن والفلك وذكر الريح التي تنشئ السحاب وتجريها إلى حيث أذن لها أن تمطر فيحيي بها البلاد والزرع والأنعام وبها يجري الفلك والسفن في البحار فتصلح بهذه الأمور معايش الناس وتكثر بها منافعهم وباجتماع هذه الأمور ومعاونة بعضها بعضا يتم صلاح أمر العالم وينتظم وفي ذلك دليل على أن صانع العالم قادر حكيم عالم خبير ووقع ذكر هذه الأمور عقب قوله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ليدل بها على صدق الخبر عما قد يدلنا به من وحدانيته سبحانه وذكر رحمته ورأفته بخلقه وطرق الاستدلال كثيرة لكنا أخبرنا منها في الكتاب ما هو أقرب إلى الأفهام وذكر تمام الكلام الذي كتبناه في موضعه واستدلال الناس من جميع الطوائف بما يشهدونه في العالم من الحكمة والنعمة والبرهنة على حكمة ارب ورحمته وإرادته النعمة والإحسان إلى عباده وعنايته كثيرة جدا وإنما المقصود هنا أن الفلاسفة يصرحون بذلك وهم من أكثر الناس نظرا في حكم الموجودات وقد اعترفوا بما تقدم من أن هذه الموافقة تعلم ضرورة أنها من قبل فاعل قاصد لذلك مريد إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق فعلم أن نفيهم بعد ذلك كونه فاعلا مختارا تناقض منهم وأيضا فلو لم يتناقضوا لكانت هذه الدلالة مع دلالة الاختصاص كلاهما يدل على الإرادة الاختصاص يدل على إرادة في نفس المفعول وهذا يدل على الإرادة للمفعول ولحكمته فهذه ثلاث طرق وقد اعتذر ابن سينا ونحوه من المتفلسفة عن هذا فقال في الإشارات بعد أن ذكر حججه على نفي الفعل بالقصد والاختيار إشارة لا تجد إن طلبت مخلصا إلا أن تقول إن تمثل النظام الكلي في العلم السابق مع ترتيبه الواجب اللائق يفيض منه ذلك النظام على ترتيبه وتفاصيله معقولا فيضانه وهذا هو العناية وهذه جملة تهتدى سبيل تفاصيلها وهذا الكلام أبعد ممن يقول بتخصيص العالم بوقت دون وقت وصفة دون صفة إنما كان لأن العلم القديم تعلق به ذلك الوجه كما قال ذلك طوائف من المتكلمين من الأشعرية وغيرهم كما سيأتي بيانه مثل أن هؤلاء جعلوا العلم مخصصا لما أريد وهؤلاء المتفلسفة جعلوا العلم مخصصا لما لم يرد عندهم والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال لا نسلم أن هذا مخلصا ولا أنه واقع ولا ممكن كيف نعلم أنه لا مخلص غيره وهم لم يذكروا حجة على ذلك ولا يمكنهم أن يقيموا عليه حجة أصلا الوجه الثاني أن يقال العلم أبدا تابع للمعلوم مطابق له ثم قد يكون سببا في وجود المعلوم كالعلم بما يفعله العالم مثلما ذكره من علم الرب تعالى بالنظام الكلي وقد لا يكون سببا كالعلم بالأمور التي لا تكون بفعل الإنسان ولا بقصده ثم من الناس من المتفلسفة ونحوهم من يجعل العلم مطلقا صفة فعليةأو يجعله هو وحده الموجب المعلوم وهو غلط كما سنبينه ومنهم من المتكلمين وغيرهم من يجعله أبدا صفة انفعالية للمعلوم لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة ويقول فيه وفي القول ليس لمتعلقهما منها صفة ثبوتية وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب من القول الأول ففيه تقصير بل الصواب أنه يجتمع في جنسه الأمران إذ الأولون يسلمون أنه عالم بنفسه وهذا ليس مؤثرا في المعلوم والآخرون يقولون الإرادة مشروطة بالعلم وهذا اعتراف بتوقف المفعول عليه لكن المقصود الكلام في العلم الذي له تأثير في المعلوم وهو العلم العملي فنقول من الأمور المعلومة بالفطرة البديهية الضرورية أن الإنسان إذا عمل عملا بإرادته يجد من نفسه أنه يكون شاعرا بما يريد أن يفعله وأنه مع الشعور لا بد أن يكون مريدا ولا بد مع هذين أن يكون قادرا عليه ويجد من نفسه أن إحساسه وشعوره يقتضي إرادة الفعل ومحبته وأن له شعورا بما يفعله لأجله وشعورا بالحب والإرادة التي في نفسه لذلك المطلوب وشعورا بالفعل الذي يتوصل به إليه فهذه أربع حقائق مراد مطلوب بالفعل وإرادة في النفس له وفعل موصل إليه وإرادة لذلك الفعل كالطعام مثلا والشعور يتعلق بهذه الأربعة فإنه إذا أخبر بالطعام وهو جائع أحس من نفسه بشهوته ومحبته فأراد أكله ومقصوده بذلك وجود لذة الأكل ودفع ألم الجوع وهو يفرق بين نفس الأعيان واللذة بها وبين إرادة ذلك ثم يريد الأكل الموصل إلى المطلوب ويفعل هذا الفعل وهكذا في شهوة النكاح وهكذا في جميع الأفعال من العبادات وغيرها والعلم سابق للإرادة والعمل في ذلك كله فإنه مثلا يعرف الله تعالى وثوابه وعقابه فيصير في قلبه محبة له أو لثوابه الملائم له فالله تعالى هو مقصوده ومعبوده وهو يريد التنعم بما يحصل له من النعيم المتعلق بذاته تعالى كالنظر إليه ومن مخلوقاته مثل موجودات الجنة فكلاهما مقصود له وقصد هذا مستلزم هذا كتلازم قصد الأعيان المطعومة وقصد لذة الأكل ثم يريد الأعمال الموصلة إلى ذلك ويعملها ومن المعلوم أن نفس العلم بالمعلومات لا يغني عن إرادة ذلك والقدرة عليه فمن ادعى أن مجرد العلم كاف في حصول المعلومات كان مكابرا مباهتا فإنه في المشاهد منتف قطعا وأما في الغائب فغايته أن يعلمه بنوع شيء قياس الشمول أو التمثيل فصل ذكر ابن سينا فقال تنبيه أتعلم ما الملك الملك الحق هو الغني الحق مطلقا ولا يستغني عنه شيء ومن شيء وله ذات كل شيء لأنه منه أو ما منه ذاته فكل شيء غيره فهو مملوك وليس له إلى شيء فقر قال الرازي الغرض منه ذكر ماهية الملك ويعتبر فيها أمران أحدهما سلبي وهو أن يكون غنيا مطلقا عن كل ما عداه وثانيهما إضافي وهو أن يفتقر إليه كل ما عداه بواسطة أو بغير واسطة قلت هذه الجملة متفق عليها بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل المشركون من العرب وغيرهم يقرون بها كما قال تعالى وتقدس قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله قل فأنى تسحرون والأكثرون يقرأون الآخرتين سيقولون لله كما اتفقوا على أن جواب الأول سيقولون لله وهو جواب مطابق لمعنى اللفظ لأن معنى قوله قل من رب السموات السبع ومن بيده ملكوت كل شيء أي لمن ذلك فكان الجواب بقوله سيقولون لله هذا بيان لأن المشركين يقرون بأن ملكوت كل شيء لله وذلك مبالغة في الملك فإن الملكوت أبلغ من لفظ الملك وما ذكروه من ذلك يتضمن غناه عن كل شيء وفقر كل شيء إليه فهو حق لكنه يتضمن أكمل من ذلك من العلم والقدرة والتدبير على وفق المشيئة والإرادة وغير ذلك من المعاني التي تبين أن هؤلاء الفلاسفة لا يجعلونه ملكا حقا وكيف يكون ملكا عندهم من لا يقدر على إحداث شيء ولا دفع شيء ولا له تصرف لا بنفسه ولا في غيره بوجه من الوجوه بل هو بمنزلة المقيد بحبل معلق به من لا يقدر على دفعه عن نفسه وما يثبتونه من غناه وافتقاره ما سواه إليه يتناقضون فيها فإنهم يصفونه بما يمتنع معه أن يكون غنيا وأن يكون إليه شيء ما فقير لكن ليس المقصود هنا كشف أسرار أقاويلهم وإنما المقصود التنبيه على فساد حججهم التي خالفوا بها أهل الملل في هذا ونحوه وأنهم يتكلمون بجهل بسيط أو مركب فيقال إن كان المقصود إن الله يستحق أن يسمى ملكا حقا لثبوت هذا المعنى فلا ريب أنه قد سمى نفسه ملكا حقا ولا ريب أن هذه المعاني داخلة في ضمن هذا الاسم وأكثر منها في صفات الكمال الثبوتية وتنزيهه عن النقائص لكن في هذا ما يدل على أنه ليس له إرادة وقصد إلا أن يحتج على ذلك بأن لفظ الغني ينفي ذلك أو أن ذلك يقتضي فقرا إلى الغير وقد تقدم الكلام على ذلك وتبين أن ذلك مع أنه لا فقر فيه إلى غيره فالذي يذكرونه يستلزم من المحاذير أعظم مما فروا منه من وجوه بل سلب ذلك هو الذي يقتضي أن يكون فقيرا بل معدوما بل ممتنعا لذاته كما هو مقرر في موضعه 4. فصل ثم قال ابن سينا في تقرير نفي الإرادة والحكمة المقصودة تنبيه أتعرف ما الجود الجود هو إفادة ما ينبغي لا لغرض فلعل من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد ولعل من يهب ليستعيض معامل فليس بجواد وليس العوض كله عينا بل وغيره حتى الثناء والمدح والتخلص من المذمة والتوصل إلى أن يكون على الأحسن أو على ما ينبغي فمن جاد للشرف أو ليحمد أو ليحسن به ما يفعل فهو مستعيض غير جواد فالجواد الحق هو الذي يفيض منه الفوائد لا لشوق منه وطلب قصدي لشيء يعود إليه واعلم أن الذي يفعل شيئا لو لم يفعله لقبح به أو لم يحسن منه فهو بما يفيده من فعله متخلص وقال أبو عبدالله الرازي في تفسير ذلك الغرض منه بيان ماهية الجود وحده أنه إفادة ما ينبغي لا لغرض وهذا فيه قيود ثلاثة أحدها الإفادة فإن من لا يفيد شيئا لا يكون جوادا وثانيها أن يكون المفاد مما ينبغي إفادته فإن من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد قال واعلم أن لفظة ينبغي لفظة مجملة فإنه يراد بها تارة الحسن العقلي كما يقال العلم مما ينبغي والجهل مما لا ينبغي لكن الحكماء لا يقولون بالحسن والقبح العقليين وقد يراد بهما الإذن الشرعي كما يقال النكاح مما ينبغي والسفاح مما لا ينبغي أي النكاح مأذون فيه شرعا والسفاح ممنوع منه شرعا وهذا التفسير أيضا لا يليق بالحكماء وليس لهذه اللفظة معنى ملخص سوى هذين المعنيين فظهر الإجمال من هذه اللفظة وثالثها أن لا تكون الإفادة لعوض فإن من يهب ليستعيض معامل سواء كان العوض عينا أو ثناءا أو مدحا أو تخلصا عن الذم أو أن يكون فاعلا للأليق والأحسن ثم أنه لما مهد هذه القاعدة قال فالجواد الحق إلى آخره ومعناه ظاهر قال ولقائل أن يقول القصد إلى إيصال الفائدة إلى الغير لو لم يكن معتبرا في الجواد لوجب أن يقال الحجارة إذا سقطت من السقف ووقعت على رأس عدو إنسان ومات ذلك العدو أن تكون تلك الحجارة جوادا مطلقا لأنه حصل منها ما ينفي العوض فإن التزم كون الحجر جوادا مطلقا وقال هذا هو الجود وإن كان شنيعا في المشهور فنقول له الذي عولت عليه أيضا ليس حجة برهانية بل كلاما إقناعيا خطابيا فإن غاية كلامك أن كل ما غرضه في الإفادة أن كون فاعلا للأولى كان غرضه من الإفادة تخليص نفسه من الذم فهذا ضعيف لأنه يقال إن عنيت بقولك إنه يخلص نفسه من الذم لأن غرضه من فعله أن لا يصير مستحقا للذم مع علمه أنه لو لم يفعله لا يستحق الذم فلم قلت إن ذلك محال وهل هذا الا الزام للشيء على نفسه وإن عنيت به معنى آخر فبينه لنتكلم عليه فصح أن الحجة التي ذكروها لا تصير على السبك والنظر والحق لكنها حجة إقناعية وإذا كان كذلك كانت الحجة التي ذكرناها تصلح معارضة لها قلت هذه الحجة من جنس التي قبلها في اسم الغني وأفسد منها ويظهر ذلك بوجوه أحدها أن يقال هذه الحجة مبنية على مقدمتين إحداهما أن الحق مسمى بأنه جواد والثانية أن تفسير الجواد هو ما ذكرته ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة أصلا لا بينة ولا شبهة فكان ما ذكرته مجرد دعوى لبست بها على الناس كما لبست بقولك انه غني وإن الغني هو من يكون كذا ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة لكن هناك ادعيت أن ثبوت الإرادة مستلزم للفقر إلى غيره وقد ثبت أنه واجب الوجود فلا يكون مفتقرا إلى غيره وهذه الحجة وإن كان قد تبين فسادها فلم تذكر في اسم الجواد حجة نظيرها بل كان هذا دعوى مجردة إذ لا يمكن أن يقول واجب الوجود يجب أن يكون جوادا كمال قال يجب أن يكون غنيا الثاني أن يقال لا ريب أن الله عند أهل الملل كريم جواد ماجد محسن عظيم المن قديم المعروف وأن له الأسماء الحسنى التي يثنى عليه فيها بإحسانه إلى خلقه لكن وإن كانت هذه الحجة مبنية على تسليمهم ذلك فليست حجة عقلية بل جدلية وهذا ليس بفلسفة الثالث أن يقال هم إذا سموه بهذه الأسماء الحسنى سموه بها بالمعنى الذي يفسرونه به بالذي لا ينافي إرادته ورحمته بل عندهم نفس الرحمة التي نفيتها أنت لنفيك الإرادة أو إرادة الإحسان إلى عباده هي عندهم تدل على الإحسان والجود بلا نزاع بينهم لكن طائفة من نفاة الصفات يجعلون الرحمة هي نفس الإحسان وإن وافقهم على ذلك بعض الصفاتية حتى بعض أصحاب أحمد رحمه الله وطائفة كبيرة من الصفاتية يقولون الرحمة تعود إلى إرادة الإحسان وهذا قد يقوله بعض أصحاب أحمد والذي عليه أئمة الصفاتية وجمهورهم أن الرحمة صفة لله ليست هي الإرادة كما قال إن السمع والبصر ليس نفس العلم والمقصود أنك احتججت بموافقتهم لك على إطلاق الاسم فإن كنت تحتج بالموافقة على معناه لم يكن لك حجة لأنهم متفقون على أن معنى هذا الاسم عندهم لا ينفي ما تنفيه أنت في إرادته وغير ذلك وإن كنت تحتج بمجرد الموافقة على اللفظ مع التنازع في معناه فهذه حجة فاسدة جدا لأنهم أطلقوا الاسم بمعان فادعيت أنت أنه كان ينبغي أن يريدوا بهذا الاسم معان أخر وهذا من جنس أن يقال كان ينبغي أن يعنوا بلفظ الإحسان كذا وبلفظ الحركة وبلفظ الفعل كذاونحوذلك من المعاني التي لم يريدوها بذلك اللفظ وحاصله أنه اعتراض على اللغة بأنه كان يجب أن يعنى بألفاظها من المعاني أمورا أخر ولا ريب أن هذا اعتراض فاسد على اللغة فضلا أن يكون حجة في المعاني العقلية الإلهية الرابع أن يقال هب أنه سلم لك أن اللفظ كان ينبغي أن يستعمل في المعاني التي ذكرتها لكن هم إذا لم يستعملوها إلا في المعاني التي قصدوها لم يكونوا موافقين لك على ما ادعيته من المعنى وإن قصروا في العبارة فيكون ما أثبته من المعنى أثبته بلا حجة علمية ولا جدلية بل مجرد الدعوى وهذا بين واضح ولله تعالى الحمد الخامس أنه لو احتج على هذا بدليل سمعي مثل أن يثبت بالنص أنه جواد لم يفسره بهذا المعنى لم يصح ذلك أيضا لهذين الوجهين أحدهما أن الأدلة التي يذكرها ليست سمعية شرعية وهو يعترف بذلك فلا يقبل منه أن يذكر دليلا سمعيا ويدعي أنه عقلي مع أن هذا الاسم ليس في القرآن وإن جاء في بعض الأحاديث الثاني أن المرجع في ثبوت هذه الأسماء عن الشارع وفي بيان معناها إلى من نقل عنه القرآن والحديث لفظه ومعناه وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين تلقوا الإيمان والقرآن والحديث بعضهم عن بعض حتى يصل إليه أو أخذ ذلك هو بلغته التي كان يخاطب بها ولا ريب أن الفلاسفة من أبعد الناس عن ذلك ولو ادعوا نقلا عن المرسلين اللفظ ولمعناه من غير رجوع في ذلك إلى أهل العلم بأثارة المرسلين لم يكن ذلك مقبولا باتفاق العقلاء ثم كيف يصح أن يحتج محتج بمثل هذه الدلالة الضعيفة على نفي إرادة الله تعالى والقرآن مملوء من إثبات إرادته ومشيئته ورحمته وحكمته ولو قدر أنه يتناول ذلك كان من المعلوم بالاضطرار لكل أحد أن ما ذكره ليس فيه ظهور يحتاج إلى تأويل بل هو أبعد من ذلك فكيف يتأول النصوص والظواهر لأجل ذلك وإنما غاية المتأول أن يدعي معارضة المعقولات للسمعيات ونحن قد بينا أن هذه الحجة ليست من المعقول قبل بل هي مع كونها سمعية لفظية فهي دعوى مجردة بل كاذبة كما سنبينه الوجه السادس أن يقال له هذا الحد الذي ذكرته في الجود حين قلت إن من جاد ليشرف وليحمد وليحسن به ما يفعل فهو مستعيض غير جواد فهذا التفسير عمن نقلته ومن ذكره من أهل التفسير للنصوص أو من أهل اللغة العربية بل من سائر لغات الأمم وإن كان ذلك لا ينفعه إن لم يبين معنى هذا اللفظ العربي في لغة العرب ومن المعلوم أن هذا لم يقله أحد من أهل العلم بالنصوص الشرعية واللغة العربية فصار ذلك افتراءا على النصوص واللغة الوجه السابع أن يقال اسم الجواد يقال على كثير من المخلوقين مع انتفاء هذه المعاني عنهم فلو كان هذا المعنى داخلا في هذه الاسم لم يصح إطلاقه على مخلوق إلا مجازا أو بطريق الاشتراك وكلاهما مع كونه خلاف الأصل إنما يكون إذا ثبت استعمال اللفظ في المعنى مجردا فكيف وأصل الاستعمال منتف الوجه الثامن أن يقال المعروف في الشرع واللغة والعقل أن الذي يفعل أو يفيد ما ينبغي لا لمقصود أصلا عابث وإن كان لا لمقصود يعود إلى نفسه فهو سفيه أو جاهل وكلاهما مذموم في الشرع والعقل بل يستحق في الشرع أن يحجر عليه وهو من أسو المبذرين حالا فإن من المبذرين من يبذل المال لأغراض محرمة وإن كان فيها ما هو مقصود له فأما من يبذل ما ينبغي لا لمقصود أصلا فهذا إن كان موجودا فهو مذموم واسم الجود في الشرع واللغة والعقل اسم مدح فيستحيل أن يفسر بما لا يكون عند الناس إلا مذموما بل يقال في الوجه التاسع هذا المسمى لا يعرف وجوده أصلا فليس في الموجودات ما يفيد وينفع لا لمقصود أصلا حتى الحركات الطبيعية لحركتها منتهى ومستقر هو منتهى ميلها ويسمى ميلها إرادة وقد جعلوهم عشقا لذاك الكمال وإذا كان هذا المسمى معدوما والاسم معروفا في الشرع واللغة لأعيان موجودة امتنع أن يكون مسماه ما ذكره بل يقال في الوجه العاشر إن ما ذكره ممتنع لذاته ولهذا هم يسلمون أنه ليس في الموجودات ما هو كذلك إلا ما يذكرونه في واجب الوجود وهم متناقضون في ذلك فيصرحون تارة أنه يفعل لقصد منه للغاية ورحمة منه وتارة يقولون ليس له إرادة ولا قصد وإن كانوا متناقضين في ذلك تبين أن أحدا من العقلاء لم يستقر قوله على إثبات موجود بهذه الصفة التي سموها جودا الوجه الحادي عشر أن يقال الجود إفادة ما ينبغي لا لغرض هو كلام مجمل يحتمل الحق والباطل بل الظاهر منه للناس هو الحق الذي لم يرده فإنه يقال لك العوض المعروف في الشرع واللغة والعرف والعقل هو ما يبذله أحد المتعاوضين للآخر في مقابلة ما بذله الآخر له كثمن المبيع وأجرة الأجير وثواب الهدية ومكافأة النعمة ونحو ذلك فلا ريب أن من أعطى غيره ليعطيه ذلك الغير عوضها فهذا مستعيض وليس بجواد ولهذا يفرق الفقهاء بين عقود المعاوضات والتبرعات بنحو هذا الفرق ولهذا قال المخلصون إنما نطعمكم لوج الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا فأخبروا أنهم لا يريدون من المنعم عليهم لا جزاء ولا شكورا ولم يقولوا لا نريد ذلك من أحد لا من الله ولا من غيره فإن هذا إما ممتنع وإما سفاهة ولهذا كان المحققون للإخلاص لا يطلبون من المحسن إليه لا دعاءا ولا ثناءا ولا غير ذلك فإنه إرادة جزاء منه فإن الدعاء نوع من الجزاء على الإحسان والإساءة كما جاء في الحديث من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه وقال الشاعر ارفع صغيرك لا يجزيك ضعفه... يوما فتدركه العواقب قد نمى يجزيك أو يثني عليك وإن من... ثنى عليك بما فعلت فقد جزى وأيضا كانوا إذا كافأهم المعطي بدعاء وغيره قابلوه بمثل ذلك ليبقى أجرهم على الله تعالى ولا يكونوا قد اعتاضوا عنه كما كانت عائشة رضي الله عنها إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسل اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم مثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله تعالى فهذا أو نحوه غاية ما يقدر من الجود المعروف فأما جود أهل الجاهلية ونحوهم ممن يقصد به الثناء عليه ولو بعد موته فذاك دون هذا وأيضا فإن الإنسان قد يحب بنفسه فعل الخير والإحسان ويتلذذ بذلك لا لغرض بل يتلذذ بالإحسان إلى الغير كما يتلذذ الإنسان بلذاته المعروفة وأشد وإن لم يصل إليه نفع لذته بالإحسان كما أن النفوس الخبيثة قد تلتذ بالإساءة والعدوان وإن لم يحصل لها بذلك منفعة ولا دفع مضرة فهذا أيضا موجود وصاحبه من أهل الإحسان والجود فأما أن يكون في الوجود من يفعل فيه ولا لمعنى في غيره فهذا لا حقيقة له أصلا وقد علم أن أهل الشرع واللغة وسائر العقلاء الذين يقولون الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض أصلا إنما يريدون به عوضا يكون في مقابلة العطية إما من المعطي أو ممن يقوم مقامه كمن يبذل لغيره مالا ليعتق عبده أو يخلع امرأته أو يفك أسيره وبالجملة فالعوض الذي ينافي الجود يشترط فيه أمران أحدهما أن يقصده المعطى والثاني أن يقصده من المعطى وممن يقوم مقامه فأما من طلب العوض من الله تعالى أو أحسن للتذاذه هو بالإحسان فهذا لا ينافي الجود باتفاق العقلاء بل لو طلب الثناء من عباده ونحوهم لم يمتنع أن يسميه الناس جوادا كما سموا حاتما جوادا وغيره من أهل الجاهلية بالجود وإن كانوا قد يقصدون البسمعة والثناء في الخلق الوجه الثاني عشر قوله ولعل من وهب ليستعيض معامل وليس بجواد وهذا فيه من الإجمال ما تقدم فإن معنى العوض الذي يمنع الجود في الشرع واللغة والعرف وعقول جميع الآدميين أخص من العوض الذي ادعاه بقوله وليس العوض كله عينا بل وغيره من الثناء والمدح والتخلص من الذم والتوصل إلى أن يكون علىالأحسن وعلى ما ينبغي فيقال له لا نسلم أن من أعطى لينال حمد الله وثناءه عليه أو التخلص من ذم الله تعالى لا يكون جوادا بل هذا جواد باتفاق الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله المؤمنين وسائر أهل السموات وأهل الأرضين وكذلك من وهب ليكون ذلك أقرب إلى الله تعالى وأحسن له عنده وأعلا لدرجته أو ليكون عند الله على ما يبنغي فلا نسلم أن هذا ليس بجواد وكذلك أهل كل لغة سواء كانوا مسلمين أو كفارا بل من وهب لينال ما هو عندهم أحسن وأعلى ولينال الحمد والثناء من الجناب الأعلى لشيء يليق به عندهم أن يطلب منه الحمد والثناء فهو جواد عندهم فقوله من جاد ليشرف أو ليحمد أو ليحسن ما يفعل فهو مستعيض غير جواد ليس بمسلم ولا دليل عليه بل يقال في الوجه الثالث عشر هذا جواد باتفاق العقلاء من جميع الأمم وهذا هو الجود قال تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها وقال وما يفعلوا من خير فلن يكفروه وقال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها وقال ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل وقال مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء وقال وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ويروى عن علي أو غيره أنه قال ما أحسنت إلى أحد وما أسأت إلى أحد إنما أحسنت إلى نفسي وأسأت إلى نفسي وعمل ذلك لأجل الله تعالى نهاية المطلوب قال كل من الرسل ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين وقال وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى الوجه الرابع عشر أن هذا الاسم بعينه لم يجئ في أسماء الله تعالى التي في القرآن ولا في الأحاديث المشهورة في الصحيحين وإن كان قد جاء بمعناه أسماء أخر كالكريم والاكرم والوهاب وما يستلزم هذا المعنى كالرحمن الرحيم والرب وغير ذلك لكن هذا الاسم جاء ذكره في الحديث حديث أبي ذر عن النبي ﷺ عن الله وقد رواه مسلم لكن هذا الاسم جاء في رواية الترمذي وابن ماجة فيه يقول الله تعالى يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر غمسة واحدة وذلك أني جواد ماجد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون وروى هناد بن السري عن أبي معاوية عن حجاج عن سليمان ابن سحيم عن طلحة بن عبدالله بن كريز قال قال رسول الله ﷺ إن الله جواد يحب الجود وقال أهل العلم الجواد في كلام العرب معناه الكثير العطاء يقال منه جاد الرجل يجود جودا فهو جواد قال أبو عمرو بن العلاء الجواد الكريم تقول العرب فرس جواد إذا كان غزير الجري ومطر جواد إذا كان غزيرا قال عنترة جادت عليها كل عين ثرة... فتركن كل حديقة كالدرهم وجاء في الحديث في وصفه المطر الذي استسقاه الرسول ﷺ فما جاء أحد من جميع النواحي إلا أخبر بجود وفي حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم في الثلاثة الذين يقضى الله عليهم يوم القيامة أولا ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن أنفق فيها إلا أنفقت فيها قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه في النار فهذا الحديث الصحيح يدل على أن قولهم جواد مثل قولهم كريم كما قال أبو عمرو فقد ثبت فيه بالنص وقول أهل اللغة إن المخلوق يسمى جوادا وإن كان إنما يفعل لمصلحة له وإنما يفعل بإرادته الوجه الخامس عشر أن تسمية الرب سبحانه وتعالى جوادا وإن كان قد قيل هو بمعنى كونه كريما فالاسم الكريم يتناول معاني الجود فإن فيه معنى الشرف والسؤدد ومعنى الحلم وفيه معنى الإحسان ومن تأمل مقالات أهل الفلسفة والكلام ومن يضاهيهم في هذا الأصل وجدهم عامتهم مضطربين فيه كل منهم وإن أثبت نوعا من الحق واعتصم به فقد كذب بنوع آخر من الحق فتناقض وأكثر عقول الناس تبحث دون تأمل هذا إذ أحدهم يرى نفسه إما أن يقول حقا ويقول ما ينقضه أو يقول حقا ويكذب بحق آخر وتناقض القولين باطل والتكذيب بالحق باطل والحق الصريح لا يرى قلبه يستطيع معرفته كما لا يستطيع أن يحدق بصر عينه في نور الشمس بل كما لا يستطيع الخفاش أن يرى ضوء الشمس وقد قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والمقصود هنا بيان تناقض الدهرية وفساد حجتهم فصل المشهور بين أهل السنة والجماعة أنه لا يقال في صفات الله عز وجل كيف ولا في أفعاله لم وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته كقول مالك رحمه الله الاستواء معلوم والكيف مجهول لم ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو وتكلمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة أو غير ذلك لكن كثيرا من الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون له ماهية وحقيقة وراء ما علموه وكذلك إذا قلنا لا يقال في أفعاله لم فإنما نفينا السؤال بلم وذلك ينفي علم السؤال بالحكمة الغائية المقصودة بالفعل التي تصلح أن تكون جواب لم وهي المقرونة باللام في قول المجيب لكذا وهي التي تنصب على المفعول له إذا حذفت اللام بأن تكون العلة مصدرا فعلا لفاعل الفعل المعلل ومقارنة له في الزمان كما تقول فعلت هذا ابتغاء وجه الله ونحو ذلك لكن اللام تقرن بها نفس الحكمة المقصودة قصدها فيقال فعلت هذا لله ولابتغاء وجه الله وأما مع حذف اللام فلا يكون المنصوب إلا ما يقوم بالفاعل من الباعث له كالإرادة والكراهة وما يستلزم ذلك كما يقال قعد عن الحرب جبنا لأن الجبن يتضمن البغض والكراهة وكما يقال واغفر عوراء الكريم ادخاره... واعرض عن ذم اللئيم تكرما فإن ادخاره يتضمن قصد الانتفاع به والتكرم يتضمن صون النفس عن التأذي بشتمه لكن قولهم لا يقال في أفعاله لم لا ينفي ثبوت الحكمة التي تكون مقصودة له في نفس الأمر ولا كونه مريدا لها قاصدا وإن كان ذلك ينفيه من ينفيه من نفاة التعليل ومثبتيه ولهذا قال بعض علماء السلف إن الله علم علما علمه العباد وعلم علما لم يعلمه العباد وإن القدر من العلم الذي لم يعلمه العباد ورووا في قصة سؤال موسى العرش وعيسى للرب أو تعظيم أنه لو أراد أن يطاع لأطيع وقد أمر أن يطاع وهو مع ذلك يعصى ومضمون السؤال لو أردت هذا لكان واقعا لأنك قادر عليه فما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ثم قد أمرت به والأمر يستلزم محبته وطلبه فهلا كان المحبوب المطلوب قد أريد وقوعه فأوحى الله تعالى إليهم أن هذا سري فلا تسألوني عن سري وأن المسيح قال للحواريين القدر سر الله فلا تكلفوه والمقصود التنبيه على أن العقول تعجز عن إدراك كنه الغاية المقصودة بالأفعال كما تعجز عن إدراك حقيقة الفاعل ولكن نفي الشيء غير نفي العلم به ونفي هذه الحكمة المقصودة لظن أن ثبوتها يستلزم قيام الحوادث المستلزمة حدوثه به واستكماله بغيره المقتضي حاجته ونحو ذلك هو نظير صفاته الثابتة بالفطرة والشرع والعقل لظن أن ثبوتها يستلزم حدوثه أو يستلزم افتقاره إلى غيره فما توهمه النفاة المكذبون من المتفلسفة والمتكلمين من أن ثبوت الأفعال أو حكمها يستلزم حدوا وحاجة هو من جنس واحد وكل منهم يلزمه فيما أثبته أعظم مما فر منه هو لم يثبت إلا هذا الموجود المحسوس بلا صانع أصلا بل كلما كان أقل إثباتا كانت المحذورات فيما يثبته أعظم وأعظم لأن الإثبات إذا قل قلت صفات الكمال وكان ما يلزمه من النقائص وما يتوهم أنه مستلزم للحوادث والفقر أعظم وأعظم فيلزمه اجتماع هذه الأمور مع نقيضها من القدم والوجوب فليتدبر المؤمن العلم بهذا الأصل الجامع العظيم فإنه من أعظم ما يهدي به الله تعالى إلى الصراط المستقيم ثم قالوا في جواب ما ذكروه من إبطال الغرض قوله في الوجه الثاني في إبطال هذا القسم إن كل من فعل فعلا لغرض فهو أحسن من ذلك الغرض قلنا القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا غير علمية بل خطابية فلا يمكن بناء القواعد العلمية عليها على أننا ننقض هذه القضية بالراعي فإنه ليس أخس من الغنم وبالنبي فلأن أمته ليسوا بأشرف منه فهكذا هنا وهذا جواب ضعيف وقد تعلمه من ابن سينا فإنه هو القائل في الشفاء إن القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا خطابية وليس الأمر كذلك فإنه من المعلوم ببديهة العقول أن الشيء إذا لم يقصد به إلا أن يكون وسيلة وطريقا إلى غيره فالذي هو المقصود بذاته يجب أن يكون أكمل في الوجود من الذي ليس يراد منه إلا أن يكون وسيلة إلى غيره والمعني بالشرف كمال الوجود وبالخسة نقص الوجود وهذا أمر معقول بل على مثل ذلك تبنى عامة البراهين الصحيحة بل معرفة الفطرة بمثل هذه القضية أبين عندها من كثير من القضايا البديهية لأنه يجتمع فيها العلم والحب فتبقى معلومة بالعقل موجودة مذوقة بوجد القلب وذوقه وإحساسه فتكون من القضايا العقلية المحسوسة بالحس الباطن وإلا فهل يقول عاقل إن الموجود الذي يكون وجوده أكمل من غيره لا يقصد به إلا أن يكون وسيلة إلى الموجود الذي هو دونه وأنقص منه وأما ما ذكره من التمثيل بالنبي والراعي فيقال منشأ الغلط في مثل هذا هو اشتباه المقصود بالقصد الأول بالمقصود بالقصد الثاني وذلك أن الراعي ليس مقصوده الأول برعاية الغنم مجرد نفعها بدون غرض يحصل له هو من ذلك بل إنما يقصد أولا ما كان مصلحة له ونفعا وكمالا إما تحصيل الأجرة وهو المال الذي ينتفع به ويقضي به حاجاته أو يتشرف وإما رحمة للغنم وإحسانا إليها ليدفع عن نفسه الألم الحاصل لنفسه إذا كان الحيوان محتاجا متألما وهو لا يزيل ألمه أو لتحصل له العافية والرحمة من هذا الألم ويحصل له تنعم وفرح وسرور بالإحسان إليها أو أن تكون به أو لصديقه أو لقريبه فيقصد برعايته ما يحصل له له من المنفعة والفرح والسرور وزوال الضرر بمثل ذلك وكذلك النبي ﷺ فإنه بالإحسان إلى الأمة إنما يقصد ما يناله من التقرب إلى الله تعالى وعبادته والإحسان إلى عباده من أنواع المطالب والمقاصد التي هي أشرف وأعظم من فعله بهم فمطلوبه ومقصوده أعظم من العباد الذين ينفعهم فأما أن تكون الغاية المقصودة له بذاتها هي مجرد نفعهم من غير مقصود آخر يكون أشرف من هذا فهذا إنما يقوله جاهل شديد الجهل بالمقاصد والنيات وقد أجاب طائفة ثالثة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم كابن الهيصم في كتابه المسمى بجمل الكلام وكالقاضي أبي يعلى الصغير في كتابه المصنف في أصول الدين عن سؤال الحكمة بجواب خير من جواب هذين كما أن هؤلاء أيضا قالوا في سبب الحوادث خيرا من قول هذين وإن كان الجميع مقصرين في الأمرين جميعا وقالوا العلة فيه استدعاء الحمد والتعظيم من عبيده وذلك أن الحكمة تستحسن استدعاء الحمد من مستحقه واستدعاء التعظيم ممن هو أهله كما أنه يسحسن طلب المحامد من عدمها ألا ترى أنه من عدم المعاني التي يستحق عليها الحمد والتعظيم كيف يحسن في الحكمة أن يبذل الوسع في طلبها ولذلك حسن منا طلب العلوم ومكارم الأخلاق فأما الله تعالى فقد كان كامل العلم والقدرة والجود والكرم فخلق العالم وأسكنه أهل التمييز يستدعي بذلك حمدهم له وتعظيمهم إياهه وعلى ذلك يخلد من يخلده منهم في الجنة أبد الآبدين قال الله تعالى له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قالوا والدليل على أن وجه حكمة الله في خلق هذا العالم أن يدل على صفاته التي توجب تعظيمه وأن يستدعي الحمد له أن هذا الوجه من القصد حسن مقبول عند كل عاقل وليست المنافع كذلك من قبل أن المتقدمين والمتأخرين قد اختلفوا في المنافع هل هي حاصلة في أنفسها أم لا وذلك يدل على أن المنفعة ليست صريح الحكمة والحسن لاشتباه ذلك على من عرفها وثبت أن صريح الحكمة والحسن استدعاء الحمد والتعظيم من مستحقها إذ كان هذا الوجه في تشبيه على ذي عقل قالوا وقد قال الله تعالى جل جلاله فيما وصف أهل الجنة وله الحمد في الأولى والآخرة وقال وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وإذ قد جعل حمدهم إياه آخر ما يحشرهم إليه بكلية هذا التدبير ثبت أنه الغرض من خلق الكل وقال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون يعني ليعبده منهم البعض فتكون عبادتهم وتعظيمهم إياه عوضا عن جملة ما خلق ممن عبده وممن لم يعبده وذلك أن من لم يعبد صار سببا لعبادة من عبد ولذلك صح أن تكون عبادة من عبد غرضا من كلية هذا التدبير قالوا وفي تكليف من علم أنه لا يطيع لم يكن غرضه من تكليفه إياه أن يتأدى إلى حسن حال يخصه في عاقبة أمره بل أخر تكليفه ذلك إلى غرض صحيح وليس يجب أن يكون غرضه في تكليف كل واحد من المكلفين ما يعود إلى حسن حال يخصه وما ينتفع به فيعاقبة أمره بل الذي يجب أن يكون غرضه من ذلك أمر هو صحيح في الحكمة كما أنه خلق الجماد ولم يكن غرضه من خلقه أن يتأدى به خلقه إلى منفعة تخصه في نفسه وإنما خلقه لغرض آخر وذلك أنه أظهر بتكليف من هلك ضربا من تدبيره واستدعى بذلك محامد من علم أنهم يعتبرون به ونفع بتكليفه غيره ممن علم أنهم ينتفعون بذلك وهو إنما هلك بسوء اختياره فكان تكليفه حسن إلا أن أمره له بالإيمان والطاعة والشيء الذي كلف فعله حسن لأنه كلفه أن يؤمن ويطيع والذي عرض له أيضا حسن لأنه عرض لنعيم الجنة فأما الغرض من تكليفه فلم يكن حسن حال يخصه في عاقبته إذ قد علم أنه يهلك بسوء اختياره وإنما كان الغرض منه صلاح ضرب من التدبير علمه فيه ولولا ذلك لم يكن ليكلفه قلت وليس المقصود هنا بيان ما يجب أن يقال في حكمة الله تعالى ومشيئته ورحمته وما يستحقه من الصفات والأفعال إذ لكل مقام مقال ولكن الغرض بيان ممانعة الجهمية والدهرية وعجز كل طائفة عن تصحيح قولها لاشتراك الطائفتين في جحد أصول فطرية ضرورية جاءت الرسل بكمالها وتمامها وشهدت بها الأقيسة الصحيحة وأن الجهمية عاجزون عن الجواب عن شبه الدهرية على أصولهم وأن الدهرية عن الجواب عن حجج الجهمية على أصول أنفسهم أعجز وأن حجة كل واحدة من الطائفتين باطلة على أصل نفسه كما هي باطلة على أصل خصمه فإذا كانت حججهم باطلة على الأصلين وجوابهم عن حجج خصومهم باطل على الأصلين كما أن ذلك أيضا باطل على الأصول الصحيحة ظهر مع بطلان أصولهم عظم تناقضهم من كل وجه وقد تقدم أن هذه الحجة حجة الحكمة والغرض للفعل احتج بها الدهرية وذكرنا أنهم يعارضون بها على كل قول يقولونه فتبين أن الذي يلزمهم أعظم مما فروا منه ونقول قد تبين أنهم معترفون بما هو مشهود معلوم من ظهور الحكمة التي في العالم التي يسمونها العناية والفلاسفة من أعلم الناس بهذا وأكثر الناس كلاما فيما يوجد في المخلوقات من المنافع والمقاصد والحكم الموافقة للإنسان وغيره وما يوجد من هذه الحكمة في بدن الإنسان وغيره سواء كانوا ناظرين في العلم الطبيعي وفروعه أو علم الهيئة ونحوه من الرياضي أو العلم الإلهي وأجل القوم الإلهيون وقد تقدم ما ذكر في اعترافهم بأن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد ولا ريب أن الاعتراف بهذا ضروري كالاعتراف بأن المحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من مرجح فكما أن هناك مقدمتين إحداهما أن هنا حوادث مشهودة والحادث لا بد له من محدث والأولى حسية والثانية عقلية بديهية ضرورية وكذلك أن ها هنا ممكنات والممكن لا بد له من مرجح واجب فكذلك ها هنا مقدمتان إحداهما أن هنا حكما أو منافع مطلوبة والثانية أنه لا بد لذلك من فاعل قاصد مريد وهما مقدمتان ضروريتان الأولى حسية والثانية عقلية فإن الإحساس بالانتفاع كالإحساس بالحدوث وإن كان في تفاصيل ذلك ما يعلم بالقياس أو الخبر ثم هذه الحكم قد يعلم حدوثها وقد يعلم إمكانها كالأسباب وأيضا فإنه يقال هذا الموجود المحسوس يستلزم الواجب القديم فإن كل موجود إما قديم واجب بنفسه وإما ممكن أو محدث والممكن والمحدث يستلزم القديم الواجب فثبت الموجود الواجب القديم فكذلك يقال هذه المقاصد المحسوسة تستلزم وجود موجود مقصود لنفسه لأن هذه المقصودات إما أن تكون مقصودة لنفسها أو لغيرها والمقصود لغيره يستلزم وجود المقصود لنفسه فثبت أنه لا بدمن مقصود لنفسه علىالتقديرين كما ثبت أنه لا بد من موجود لنفسه على التقديرين ثم هذا يدل على وجود المريد الفاعل لهذه الموجودات لغيرها ولنفسها وإذا تقرر هذا تبين تناقض الفلاسفة وفساد مذهبهم في حجة الحكمة والغرض وحجة السبب الحادث وهما جماع الكلام وذلك أنهم لما قالوا في حجة الفرض إذا أحدثه كان فاعلا بالاختيار وذلك محال لما تقدم من الوجهين أحدهما أن ذلك يستلزم إما استكماله بغيره وإما العبث ولما في ذلك من المحذور على تقدير جواز القبائح عليه وعدم جوازها فيقال لهم أنتم معترفون بالاختيار كما تقدم التصريح عنكم بأن هذه الحكم ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد له وهذا موجود في عامة كتب الفلاسفة وأعظمهم قدرا هم الإلهيون المشاؤون وهم أعظم الناس تصريحا بذلك وكذلك الطبائعيون حتى محمد بن زكريا الرازي وأمثاله ثم يقال ثبوت القصد والاختيار كثبوت الواجب القديم كما تقدم بيانه فقد ثبت بالعلوم الضرورية وبالمقاييس البرهانية وبالاتفاق وجود الفاعل القاصد لهذه الحكم المريد لها كما يثبت ذلك وجود الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فالقدح في ثبوت الفاعل المختار كالقدح في ثبوت الموجود القديم الواجب بنفسه وهذا إنما يمكن بإنكار وجود هذه الموجودات المحسوسة وهذا في غاية البيان والإحكام والإتقان ويقال لهم حينئذ فهذا القصد والإرادة يستلزم ما ذكرتموه سواء بسواء فما كان جوابكم عن ذلك فهو جواب لمن قال بحدوث العالم سواء وأما في مسألة السبب الحادث إذاثبت أنه فاعل بالقصد والإرادة وأن له عناية بالمفعولات لزمكم كلما ألزمتموه لغيركم فإن ابن رشد الحفيد قال في إلزامه للمتكلمين وأيضا فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص لا بد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم علىالايجاد لم يكن قبل ذلك الوقت لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل حالة زائدة على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل لم يكن وجود ذلك الفعل في ذلك الوقت أولى من عدمه فيما تقدم فيقال لهم حينئذ يجب أن يتجدد له عزم في وقت حدوث هذه الحوادث وحكمها وحينئذ فالقول في حدوث ذلك العزم كالقول فيما طلبتموه من السبب الحادث للعالم وأيضا فقد قلتم إذا كانت الإرادة قديمة لزم قدم المراد فلو كانت له إرادة قديمة لزم قدم الحوادث وفي الجملة فأنتم بين أمرين إما أن تنكروا القصد والإرادة وقد تبين أن ذلك كإنكار الموجود الواجب نقلا عنكم وإلزاما لكم وإما أن تقروا بالقصد والإرادة فيبطل جميع ما بنيتموه على إنكار ذلك وجميع ما يخالفون به أهل الملل إنما هو مبني على إنكار ذلك وإلا فمتى وقع الاعتراف بأن صانع العالم فاعل مختار انهارت هذه الفلسفة كما ينهار ما أسس على شفا جرف هار فلا ريب أن هذه الآية إشارة واعتبار لمثل حالهم فإنهم بنوا مذاهب تتخذها القلوب عقائد ومقاصد مقابلة لما جاء به المرسلون كالذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ومما يوضح ذلك أن القاضي أبا الوليد الفيلسوف ابن رشد قال في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وأما الإرادة فظاهر اتصافه بها إذ كان من شرط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريدا له وكذلك من شرطه أن يكون قادرا فأما أن يقال إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فبدعة وشيء لا يعلمه العلماء ولا يقنع الجمهور أعني الذين بلغوا رتبة الجدل بل ينبغي أن يقال إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه كما قال تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فإنه ليس عند الجمهور كما قلنا شيء يضطرهم إلى أن يقولوا هو مريد للمحدثات بإرادة قديمة إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث قلت وهذا الكلام كالصريح في تجويز قيام الحوادث بالرب وبالجملة فهو لازم لهم وهو يبطل القول بقدم الأفلاك ويبين فساد كثير مما اعترض به هذا الفيلسوف على حجج المتكلمين فإنه إنما أطمعه فيمن رد عليهم نفيهم لهذا الأصل وقد تقدم أنه ما من طائفة من الطوائف وإن نفت هذا الأصل إلا وهي تلتزم به في مواضع أخر وإن القول به لازم لجميع الطوائف وذلك أن الفيلسوف قال بعد أن اعترض على حجة الأعراض الي للمتكلمين بما بعضه حق وبعضه باطل والحق منه لا يمنع من القول بحدوث هذه المخلوقات ثم قال وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعروفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل وما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو أو بشكل آخر غير الشكل الذي عليه أو عدد أجسامه غير العدد الذي هو عليه أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية وفي الغربية أن تكون شرقية والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر فأما المقدمة الأولى فهي خطابية في بادئ الرأي وهي إما في بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسه مثل كون الإنسان موجودا على خلقة غير هذه الخلقة التي هو عليها وفي بعض الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية إذ كان ذلك ليس معروفا بنفسه إذ كان يمكن أن يكون لذلك علة غير بينة الوجود بنفسها أن تكون من العلل الخفية على الإنسان ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيها بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع وذلك أن الذي هذا شأنه قد يسبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات أو جلها ممكن أن يكون بخلاف ما هو عليه ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة وأما الصانع والذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وأنه ليس في المصنوع إلا شيء واجب ضروري أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريا فيه وهذا هو معنى الصناعة والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العظيم فهذه المقدمة من جهة أنها خطابية قد تصلح لإقناع الجميع ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فليست تصلح لهم وإنما صارت مبطلة للحكمة لأن الحكمة ليست شيئا أكبر من معرفة أسباب الشيء وإذ لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجود فليس ههنا معرفة يختص بها الحكيم الخالق دون غيره كما أنه لو لم يكن هنا أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلا ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق أو بغير عضو حتى يكون الإبصار مثلا يتأتى بالأذن كما يتأتى بالعين والشم يتأتى بالعين كما يتأتى بالأنف وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك الوجه الثالث أن يقال له ما ذكرته من الأمور الضرورية في الأسباب إنما يجيء في حق من لم يخلقها دون من خلقها ومن هنا وقع الغلط حيث قسمتم أفعال الله بأفعالنا حتى عجزتموه عن غير ما خلقه وذلك أن الواحد منا إذا أراد أمرا من أكل وشرب ولباس وسفر وغير ذلك فإن لم يحصل الأسباب التي بها جعل الله وجود المطلوب لم يحصل والأسباب خارجة عن قدرته وإنما يمكنه تأليف ما يؤلفه أو نقله من موضع إلى موضع وأمثال ذلك من الأفعال دون إبداع الأعيان وأما الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل بعض الاشياء سببا كما جعل الأكل مثلا سببا للشبع وخلق الطعام يغذي الإنسان فهو الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسنا ومما لا نعلم وإذا كان هو الخالق للجميع فيمتنع أن يكون مضطرا إلى شيء من دون ذلك فإنه إذا قيل البصر لا يمكن إلا بالعين والسمع لا يمكن إلا بالأذن ونحو ذلك من الأسباب فيقال هو الذي جعل هذه الماهيات وأبدعها وجعل لها هذه الصفات التي يتوصل بها إلى هذه المقاصد وقد كان من الممكن أنه إذا غير هذا التخليق أن يحصل إما فوق تلك الحكمة وإما ما هو دونها وإما ما يشاركها في الجنس دون النوع وإن كان نفس الحكمةالحاصلة فهذا لا يحصل إلا بمثله ألا ترى أن أهل الجنة يكونون في أبدانهم وقواهم أعظم مما هم في الدنيا مع كون هذه الحكم هناك أكمل وأبلغ وهب أن المنازع لا يصدق مثل ذلك فمن المشهود أن أبصار الناس وأسماعهم وسائر قواهم تختلف في القوة والضعف فتكون المنافع الحاصلة لهم متفاوتة مع العلم الضروري بأن الذي له لو جعل لهذا والذي لهذا لو جعل لهذا لكان يفوت التعيين وذلك لا يبطل أصل الحكمة وهكذا البلاد تختلف فيما خلق فيها من الاقوات والأنهار والمساكن فيختلف لذلك وجه الانتفاع مع أن أصل المقصود حاصل في الجميع وقد يحول الله ما ببض البلاد إلى بعض مع أن نظام العالم قائم والتحويل من حال إلى حال موجود في العالم فلو كان ما يوجد من الصفات والمقادير لغاية بمعنى أن وجود تلك الغاية ضروري أي لا يمكن عدمه إلا لزم منه فساد عام لم يكن الأمر كذلك الوجه الرابع أن يقال قولك هذا ضروري الوجود في الأسباب والحكم ماذا تعني به أتعني به أنه واجب بنفسه بمعنى أنه يمتنع عدمه أم تعني به أنه إذا عدم عدمت الحكمة التي وجد لأجلها أما الأول فباطل قطعا وهو لم يرده وأما الثاني فيقال لك هب أنه يلزم من عدمه تلك الحكمة المعينة فتلك الحكمة المعينة ليست واجبة بنفسها بل هي أيضا جائزة فالقول بكونها مخصوصة بالإرادة دون غيرها من الحكم لا بد له من تخصيص وهو الإرادة بل تلك الحكمة لا تكون حكمة إلا أن تكون مقصودة وأنت تقول ذلك وتحتج به فصار ما جعلته ضروريا يدل على الإرادة المخصصة بطريق الأولى الوجه الخامس أن يقال هذه الامور المستحيلة من حال إلى حال فحركاتها واستحالاتها إما أن تكون واجبة لذاتها وإما أن لا تكون واجبة لذاتها بل إنما صارت كذلك بفاعل غيرها فإن قدر الأولى قيل فإن جاز فيما هو واجب بنفسه أن يتحرك حركة استحالة فيكون تارة عالما وتارة جاهلا وتارة شبعان وتارة جائعا وتارة صحيحا وتارة مريضا كما يقول نحو ذلك القائلون بوحدة الوجود كصاحب الفصوص وأمثاله ويدعون أن الكمال المطلق أن يكون واجب الوجود منعوتا بكل نعت سواء كان محمودا شرعا وعرفا وعقلا أو مذموما شرعا وعرفا وعقلا وأنه هو المتلذذ بكل ما في الوجود من الألم وأنه هو الذي يتجدد له العلم بعد أن لم يكن عالما وينشدون وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه وينشدون وما أنت غي الكون بل أنت عينه... ويفهم هذا السر من هو ذائق وأمثال ذلك من كلامهم المعروف نثرا ونظما ويدعون أن هذا هو التحقيق الذي آمن إليه هرامس الدهور الأولية والمعرفة التي رامت إفادتها الهداية النبوية وإن كان لهم في تفصيل هذا المذهب اضطراب قد بيناه في غير هذا الموضع فيقال إذا قدرنا هذه الموجودات المشهودة واجبة الوجود بنفسها أو هي الموجود الواجب بنفسه أو وجودها عين وجود واجب الوجود لم يمكن حينئذ أن يقال في واجب الوجود إنه لا يفعل بعد أن لم يكن فعل لأن ذلك يقتضي تجدد أمر ما وحدوث أمر منه ممتنع ولا أن يقال ذلك يقتضي ثبوت الصفات له أو تجزيه أو حلول الحوادث به نحو ذلك وذلك ممتنع فإنه من يجوز أن يكون واجب الوجود هو الموجود المستحيل من حال إلى حال وأنه تارة يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة وتارة حبا ثم شجرا ثم تمرا وتارة حيا ثم ميتا لم يبق عنده شيء يمتنع على واجب الوجود إذ هو واصف له بكل صفات واقعة في الموجودات التي هي عند الناس مخلوقة ممكنة ومن جوز أن يوصف بكل ما يوصف به كل مخلوق وممكن بطل حينئذ أن يكون علة قديمة لا يجوز عليها التغير والاستحالة ونحو ذلك مما يصف به المشاؤون واجب الوجود وهذا القول وإن كان فاسدا من وجوه كثيرة فالمقصود هنا أن ندرجه في ضمن التقسيم وذلك أن الموجود الواجب بذاته أدنى خصائصه امتناع العدم عليه وهؤلاء يجعلون ما وجد وعدم من واجب الوجود لذاته وأصل كلامهم ظنهم أن الوجود المطلق له وجود في الخارج فقالوا بوحدة الوجود أي الوجود الواحد ولم يعلموا أن الوجود المطلق لا وجود له في الخارج وإنما الموجود في الخارج موجودات أو موجودان كل منهما متعين متميز عن الآخر وليس أحدهما هو الآخر بعينه ولا نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بل الذهن يأخذ وجودا مطلقا مشتركا فيه فإذا قال بوحدة هذا الوجود فإنما قال بوحدة هذا الوجود الذهني المطلق ومن قال الوجود زائد على الماهية قد يقول بأن وجود الماهيات من جنس واحد وهو قول فاسد لكنه لا يقول نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بعينه فإن هذا مخالف للحس ولصريح العقل ولهذا يقول كبير هؤلاء الاتحادية في وقته التلمساني ثبت عندنا بالكشف ما يناقض صريح العقل وذلك أن الذي ينكشف لهم أنهم متوجهون بقلوبهم توجها لا يعرفون به الرب البائن عن خلقه حتى يقصدوه فيشهدون الوجود المطلق المشترك بين الموجودات وإن لم يوجد في الخارج لكن القلوب تجده وتأخذه مطلقا وفي كل معين منه حصة وهذا الوجود المطلق الساري في الكائنات وإن كان موجودا فيها على وجه التعيين والتخصيص وهو الذي يقال له الكلي الطبيعي فذاك من أثر وجود الله تعالى ومن مخلوقاته ومصنوعاته فيظنون الوجود المخلوق هو الوجود الخالق وهم يشبهون من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس الذي على الأرض والحيطان والجبال فظنه نفس الشمس التي في السماء مع أن هذا الشعاع منفصل عن الشمس ومع أنه قائم بأجسام غيرها والمخلوقات وإن كان لها وجود وتحقق فهو مخلوق لله بائن منه وغايته إذا قدر أن الوجود زائد على الماهيات أن يكون الوجود في الموجودات كالشعاع في الأجسام المقابلة للشمس فصار هذا الضلال ناشئا من نقص العلم والإيمان بالرب المباين للمخلوقات ومن شهود القلب لما وجد عنه من الوجود الساري في الكائنات فظن هذا هذا وقوى ضلالهم ما سمعوه من كلام المتفلسفة ومن وافقهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك من مقالات الجهمية فلم يشهدوا ما يكون كذلك إلا وجود الكائنات بعينه ولهذا يقولون بقول الباطنية القرامطة وغالية الفلاسفة فيقولون هو من حيث ذاته لا اسم له ولا صفة ولا يتميز ويقولون شهود الذات ما فيه خطاب ولا لذة فيه ونحو ذلك لأنهم إنما يتكلمون على ما شهدوه من الموجود المطلق الذي لا يوجد في الخارج مطلقا وليس له حقيقة تميزه حتى يكون لها اسم أو صفة أو خطاب والمقصود هنا أنه لا بد من الاعتراف بوجود قديم واجب فمن جعل ذلك هذه الموجودات المحسوسة لم يكن عنده وصف يجب تنزيه الرب عنه أصلا من الأمور الممكنة في الوجود وحينئذ فلا يمكن هذا أن ينكر مذهبا من المذاهب فلا يقول حدوث العالم عن واجب الوجود ممتنع لأنه يستلزم تغيره ويفتقر إلى سبب حادث فإن قوله فيه من الإحالة أعظم من هذا وأما إذا قيل بأن هنا موجودا قديما واجبا غير هذه الأمور الحادثة المستحيلة في الجملة فمن المعلوم أن ما سوى الوجود الواجب بنفسه ليس هو موجود واجب الوجود بنفسه فثبت بهذا أن في الوجود شيئين أحدهما موجود واجب الوجود بنفسه والثاني موجود لا يجب وجوده بل يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى فهذا الموجود إذا وجد لم يكن أن يقال إنه واجب الوجود بنفسه بل هو واجب الوجود بغيره وهب أن الشاك يشك في بعض الأمور التي لم يعلم عدمها واستحالتها هل هي واجبة بنفسها أم لا أما التي لم يعلم أنها تعدم وتستحيل فلا يشكفي أنها ليس بواجبة بنفسها بل بغيرها ما دامت موجودة وهي واجبة العدم إذا عدمت أيضا وليس لها من ذاتها لا وجوب الوجود ولا وجوب العدم لكن ليس لها من ذاتها إلا العدم وفرق بين أن تكون معدومة وعدنها من ذاتها وبين أن تكون واجبة العدم بذاتها فإن هذه صفة الممتنع إذ العدم ليس بشيء وإذا ثبت أن في الموجودات ما هو ممكن وجائز حصل المقصود فإن تخصيص هذا بالوجود دون العدم لا بد له من موجب فاعل ثم إذا كانت ذاته قابلة للعدم فصفاته ومقاديره بطريق الأولى فتخصيصه بصفة وقدر وزمان ومكان لا بد له من مخصص بإرادته ومشيئته وهذا هو مطلوب أبي المعالي وغيره من أهل النظر واعلم في هذا المقام وأما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لا يقولون برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني ونحوهم ممن يوافقهم على هذا وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين نطلقا مع أن أكثر الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من مسائل الخلق والأمر وجمهور الفقهاء يقولون بذلك ويصرح بالتحسين والتقبيح العقليين طوائف من الفقهاء كأكثر أصحاب أبي حنيفة وقد ينقلونه عنه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميم وأبي الخطاب وكأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام والمقصود هنا أن أبا المعالي وهؤلاء يقولون إن القديم خلق العالم بعد أن لم يكن خالقا لا لعلة وغرض ولا لداعوباعث وخاطر يعتريه لأن ذلك زعموا مقصور على اجتلاب المنافع ودفع المضار وذلك مستحيل في صفته ومناظرتهم في هذا الباب مع الدهرية الطبيعية ومع القدرية الإرادية وقول كلا الفريقين فيه من الباطل أكثر مما يلزم هؤلاء نفاة الحكمة وإن الذي في قول الدهرية الطبيعية أكثر وقال أبو المعالي وهؤلاء نفاة التعليل معنى قولنا إنه حكيم في أفعاله أنه مصيب في ذلك ومحكم لها لأنه مالك الأعيان فيتصرف تصرف مالك الأعيان في ملكه من غير اعتراض وقد يراد بالحكمة العلم في المعنى بكونه حكيما في فعله أنه خلقه على الوجه الذي أراده وعلمه وحكم به ثم لم يكن علمه وإرادته علة لفعله ولا موجبا له لقدم هذه الصفات وحدوث متعلقها ففسروا حكمته بمعنى أنه يفعل ما يشاء بلا ذمأو بمعنى أنه عالم ولا ريب أن هذا خلاف ما عليه الناس في معنى الحكمة والحكيم فإنهم لا يجعلون الحكمة كون الحكيم له أن يفعل ما يشاء وإن كان الله تعالى له أن يفعل ما يشاء لكن الحكمة فعله بعض الأشياء دون بعض لاشتمال المفعول على ما يصلح أن يكون مرادا للحكيم وتفسيرها بمعنى العلم بالمفعولات أبعد ومع هذا فقول أبي المعالي وأمثاله في الفقه وأصوله يخالف هذا الأصل بخلاف غيره من المتكلمين الذين لم يبرعوا في الفقه كبراعة أبي المعالي فإنه يقول بالعلل المناسبة للأحكام التي تفسر بالباعث والداعي وإثباتها ينافي هذا الأصل ثم قال أبو المعالي ونحن لا ننكر أن يكون الله تعالى خلق من نفعه بخلقه ومن ضره بخلقه والذي ننكره من الغرض وننفيه عن القديم سبحانه قيام حادث بذاته كالإرادة والداعية والحاجة والمعتزلة يوافقونا على استحالة قيام الحوادث بذاته غير أنهم أثبتوا للقديم سبحانه أوصافا متجددة وأحوالا من الإرادات التي يحدثها لا في محل والمحذور من قيام الحوادث بذات الباري تعالى تجدد الأوصاف عليه وقد التزموه قال أبو المعالي فإن قال قائل القديم إنما خلق العالم إظهارا لقدرته وإظهارا لحجج وآيات يستدل بها على الهيتة ويعرف سبحانه وتعالى بنعوته وجلاله وصفاته ويعبد ويعظم ويستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل ويستوجب المعرض عنها العذاب الأليم وهذا منصوص عليه في الكتاب العزيز في آي كثيرة لا تحصى من ذلك قوله تعالى وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وقال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقوله تعالى عن المؤمنين القائلين ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار وقال تعالى الله الذي خلق سبع السموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما قال وهذا نص صريح في أنه إنما خلق هذه الأشياء ليعرف بها ويعبد فقال في الجواب اللام في قوله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا ليست اللام لام علة وإنما هي لام صيرورة وتكون غاية أي ليعلم من في المعلوم أنه يعلم وليجزى على ذلك ويعرض ويعاند من في المعلوم أنه يعاند وليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى قلت لام الصيرورة إما أن تكون لمن لا يريد الغاية وذلك إنما يكون لجهل الفاعل بالغاية كقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وإما لعجزه عن دفعها وإن كان كارها لها كقول القائل لدوا للموت وابنوا للخراب وللموت ما تلد الوالدة فأما العالم بالعاقبة القادر على وجودها ومنعها فلا يتصور أن تكون العاقبة إلا وهو عالم بها قادر عليها والموجود الذي يحدثه الله وهو عالم به قادر عليه لا يكون إلا وهو مريد له بل أبو المعالي وسائر المسلمين يسلمون أنه لا يكون شيء إلا بمشيئته فيكون مريدا للغاية ومريد الغاية التي للفعل لا يكون اللام في حقه لام صيرورة إذ لام الصيرورة إنما يكون في حق من لا يريد فلو قال إرادته لهذه الغايات كإرادته للأفعال التي هي سببها لكان أمثل مع أن هذا الكلام لا يدفع الحجة من الآية فإن القرآن يشهد بأن الله خلق المخلوقات لحكمة لكن ليس هذا موضع تحقيق ذلك وإزالة الشبهة العارضة فيه قال الحفيد وأما القضية الثانية وهي قول القائل إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائزا أزليا ومنعه أرسطا طاليس وهو مطلب عويص ولن تتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان وهم العلماء الذين خصهم الله تعالى بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته قلت قد قدم فيما مضى أن أفلاطون وشيعته يقولون إن الزمان متناه وأنهم يقولون العالم محدث أزلي لكون الزمان متناهيا عندهم في الماضي وأن أرسطو وفرقته يقولون الزمان غير متناه في الماضي كما لا يتناهى في المستقبل ولا يسمون العالم محدثا وهذا يقتضي أن الأزلي في هذا الكلام المراد به الأبدي الذي لا آخر له وإلا تناقض الكلام وأفلاطون شيعته يقولون هو محدث جائز لكنه يكون مع ذلك أبديا والجائز يمكن أن يكون أبديا وأما آرسطو فيقول ما كان محدثا عن عدم فلا بد له من آخر فالجائز لا يكون أبديا وهذا الذي قاله آرسطو هو الذي تقدم قول الحفيد له إن كل محدث فهو فاسد ضرورة فهذا قول معلم طائفته آرسطو وهو أيضا قول طائفة ممن يقول بحدوث العالم كالجهم بن صفوان ومن يقول بوجوب فناء الحوادث وأما الذي حكاه عن أفلاطون فهو قول أهل الملل إن الله يخلق شيئا للبقاء ويخلق شيئا للفناء كما يشاء وهو ومع هذا فالذي ينقلونه عن آرسطو أن النفوس الناطقة عنده محدثة فتكون جائزة وهي مع هذا أبدية باقية فهذا يناقض ما أصله فهذا القدر الذي تبين يدل على أن ما حكاه عن هذين الفيلسوفين أو أصحابهما اتفاق منهم على أن ما كان جائزا فهو محدث فإذا كان قد ثبت أن العالم جائز ثبت أنه محدث ولهذا منع هو كونه جائزا وغلط ابن سينا في قوله إنه جائز بنفسه مع موافقته له على قدمه فأما الذي فهمه من كلامهم في هذا المقام واعترض به وهو أن يقول عن أفلاطون إن الجائز يكون أزليا وأن آرسطو يقول الجائز لا يكون أزليا فهذا لا يناسب ما تقدم فإنه إذا كان قول أفلاطون إن العالم لم يتقدمه زمان وعنده أن الزمان متناه في الماضي ثبت أنه ليس بأزلي فأي حقيقة لقوله الجائز لا يكون أزليا وكذلك آرسطو لو كان يقول إن الجائز لا يكون أزليا أي قديما لامتنع أن يكون عنده شيء من الممكن بذاته عنده أزليا وهو خلاف قوله فهذا النقل وقع فيه غلط إما لفظ الجائز وإما لفظ الأزلي ثم يقال له يا سبحان الله من الذي جعل هذه الطائفة من اليونان وأتباعهم هم العلماء دون سائر الأمم وأتباع الأنبياء الذي لا يختلف من له عقل ودين أنهم أعلم منهم وأي برهان عندهم يتبين بها هذه الحقيقة وقد ذكرت أن نفس أهل صناعة البرهان تنازعوا فيها فلو كان ذلك منكشفا بصناعتهم لم يتنازع أئمة الصناعة فيها ثم يقال ومن الذي خص هؤلاء بكونهم أهل البرهان مع أن غاية ما يقولونه في العلم الإلهي لا يصلح أن يكون من الأقيسة الخطابية والجدلية فضلا عن البرهانية ثم يقال وكيف يستحسن عاقل أن يجعل المتكلمين على عجزهم وبجرهم أهل جدل وهؤلاء أهل برهان مع أن بين تحقيق المتكلمين للعلم الإلهي بالأقيسة العقلية وبين تحقيقهم تفاوت يعرفه كل عاقل منصف والقوم لم يتميزوا بالعلم الإلهي ولا نبل أحد باتباعهم فيه بل الأمم متفقة على ضلالهم فيه إلا من قلدهم ولكن يؤثر عنهم من الكلام في الأمور الطبيعية والرياضية ما شاع ذكرهم بسببه ولولا ذلك لما كان لهم ذكر عند الأمم كيف يستجيز مسلم أن يقول إن العلماء الذين أثنى الله عليهم في كتابه هم أهل المنطق مع علمه بأن أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم كانوا مرادين من هذا الخطاب قطعا بل هم أفضل من أريد به بعد الأنبياء وقد ماتوا قبل أن تعرب كتب اليونان بالكلية وإن أراد بذلك البرهان العقلي الذي لا يختص بإصلاح اليونان فلا اختصاص لهؤلاء بل الصحابة والتابعون أحذق منهم في المعقولات التي ينتفع بها في الإلهية بما لا نسبة بينهما ثم العلماء الذين أثنى الله عليهم هم الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو ومن المعلوم لكل من عرف أحوال الأمم أن أهل الملل أحق بهذا التوحيد من الصابئة الذين هم أجل من الفلاسفة ومن المشركين الذين منهم فلاسفة كثيرون بل كانت اليونان منهم والمسلمون وعلماؤهم بهذه الشهادة من الأولين والآخرين بل يقال لك نحن لا نعلم أن هؤلاء القوم كانوا يشهدون بهذه الوحدانية فإن الذي في الكتب المنقولة عنهم من التوحيد إنما مضمونه نفي الصفات كما تقوله الجهمية ومعلوم أن هذا ليس الشهادة بأنه لا إله إلا الله بل قد علم النبي ﷺ أمته هذا التوحيد والقرآن مملوء منه ولم يقل لهم كلمة واحدة تتضمن نفي الصفات ولا قال ذلك أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين مع العلم الضروري بأنهم كانوا أعلم بمعاني القرآن منا وإن ادعى مدع تقدمه في الفلسفة عليهم فلا يمكنه أن يدعى تقدمه في معرفة ما أريد به القرآن عليهم وهم الذين تعلموا من الرسول لفظه ومعناه وهم الذين أدوا ذلك إلى من يعدهم قال أبو عبدالرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن عثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من رسول الله ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل وليس معه ما يعتمد عليه أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله بل لو قيل كانوا مشركين لكان أقرب فإنه من المشهور في أخبار اليونان أهل مقدونية وغيرها أنهم كانوا مشركين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب وهؤلاء الفلاسفة يسمون الكواكب الآلهة الصغرى والأرباب وفي كتاب سقراط والنواميس لأفلاطون وغيرهما من ذلك أمور كثيرة وقد ذكر هذا الرجل عنهم أن أكثرهم انتهى نظرهم إلى الفلك فلم يثبتوا وراءه موجودا ومعلوم أن الذي أثبتوه من واجب الوجود هو أدعى شيء إلى عبادة الكواكب والأصنام فكيف يكون هؤلاء هم أهل العلم بشهادة أن لا إله إلا الله بل إذا قيل إن هؤلاء وأمثالهم أصل كل شرك وأنهم سوس الملل وأعداء الرسل لكان هذا الكلام أقرب إلى الحق من شهادته لهم بما ذكره قلت ومقتضى ما ذكره هو وذكره عن هؤلاء الفلاسفة أن ما ثبت فيه أنه ممكن جائز وجب أن يكون محدثا وأن القديم لا يكون إلا واجبا فمتى ثبت أنه جائز ثبت أنه محدث وقد تقدم التنبيه على ذلك قال الحفيد وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة بمقدمات أحدها أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى منه بالثاني والثاني أن هذا المخصص لا يكون إلا مريدا والثالث أن الموجود عن الإرادة هو حادث قلت وكذلك قررها الرازي أيضا فهذه المقدمات الثلاث مع أن نزاع الحفيد والفلاسف في تينك المقدمتين لا يضر فإنا قد بينا أنهم موافقون على أن الخالق مريد قاصد كما تبين في إثباتهم العناية وإن تناقضوا بنفي الإرادة هنا لم يفدهم لإقرارهم بذلك ولأنا قد بيننا أن الأدلة الدالة على ذلك يقينية ضرورية وأن نفي ذلك كنفي واجب الوجود ولكن أبو المعالي والرازي ونحوهما إنما احتاجوا إلى هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون الحكمة الغائية وإنما يثبتون الإرادة المخصصة وقد قدمنا أن كونه مختارا يبين بما دل على الإرادة المخصصة لمفعول دون مفعول وبما دل على ما في المفعولات من الحكمة المقصودة وبالأمرين جميعا لكن هؤلاء الفلاسفة سلكوا إحدى الطريقتين وتناقضوا في منازعتهم في الأخرى والأشعرية سلكوا إحدى الطريقتين ونازعوا في الأخرى والتناقض لازم لهم أيضا والمقصود من الطريقتين واحد وهو كونه قاصدا مريدا مختارا وهذه الطريقة التي سلكها أبو المعالي والرازي وغيرهما صحيحة أيضا توجب العلم اليقني بكونه مريدا مختارا قال الحفيد ثم بين يعني أبو المعالي أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن كون عن الطبيعة وإما عن الإرادة والطبيعة ليس يكون عنها أحد هذين الجائزين المتماثلين أعني لا تفعل المماثل دون مماثله بل تفعلهما مثال ذلك السقمونيا ليست تجذب الصفراء التي في الجانب الأيمن في البدن دون التي في الأيسر فأما الإرادة فهي التي تختص بالشيء دون مماثله ثم أضاف هذه إلى أن العالم مماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه في الجو الذي خلق فيه يريد الخلاء لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء فأنتج عن ذلك أن العالم خلق عن الإرادة والمقدمة القائلة إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة والقائلة إن العالم في خلاء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ويلزم أيضا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما لأنه إذا كان محدثا احتاج إلى خلاء قلت قد سلم المقصود بهذه المقدمة وهو أن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة وأما اعتراضه على العالم فذاك متعلق بالمقدمة الأولى وينبغي أن يعلم أن الذي سلط هؤلاء الدهرية على الجهمية شيئان أحدهما ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة ويخالفون بها المعقولات الصحيحة التي ينسر بها خصومهم أو غيرهم والثاني مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه فإنهم لما شاركوهم فيه بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها كما احتج به هذا الفيلسوف وكما يذكره أبو عبدالله الرازي ومن قبله حتى أن الدهرية قالوا لهم القول في آيات المعاد كالقول في آيات الصفات فكان من حجتهم عليهم وضموا ذلك إلى ما قد يطلقونه من أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فقالوا له أنت تقول الظواهر لا تفيد القطع أيضا والآيات المتشابهات في القرآن الدالة على المشيئة والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد الجسماني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لا تجوزون تأويل الآيات الواردة ها هنا فقال نحن لم نتمسك بآية معينة ولا بحديث معين ولكن نعلم باضطرار إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات المعاد البدني ولم يقل أحد إنه علم من دينهم بالضرورة التشبيه والقدر فظهر الفرق فالينظر العاقل في هذا الجواب حيث قال لهم هؤلاء المتكلمون نحن نعلم الأخبار بمعاد الأبدان أن الرسل أخبرت به بالضرورة فلم يجعلوا مستند العلم بذلك دلالة القرآن والحديث والإجماع عليه لأنهم عارضوهم بمثل ذلك وبأبلغ منه في أمر الصفات والقدر فعدلوا إلى ما ذكروه من أنا نعلم بالاضطرار أخبارهم بالمعاد الجسماني فإن هذا الذي قالوه صحيح وحجة صحيحة على إثبات المعاد البدني لكن قصروا في عدم الاحتجاج على ذلك في القرآن وبالأخبار وإجماع السلف وأيضا فأهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها يقولون للطائفتين نحن نعلم أيضا إخبارهم بما أخبروا به من الصفات والقدر بالضرورة وقول بعضهم إنه لم يقل أحد أن هذا معلوم بالضرورة في دينهم ليس كذلك بل أهل الحديث وغيرهم يعلمون ذلك من دينهم ضرورة وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية فإن قال المتكلمون من الجهمية وغيرهم فمن خالف ما علم بالضرورة من الدين فهو كافر قيل لهم لهذا السلف والأئمة مطبقون على تكفير الجهمية حين كان ظهور مخالفتهم للرسول مشهورا معلوما بالاضطرار لعموم المسلمين حتى قيل العلم بالإيمان فيما بعد وصار يشتبه بعض ذلك على كثير ممن ليس بزنديق ويقال لهم قول أهل الأثبات لكم هو لكم أنتم للدهرية في معاد الأبدان ودعواكم تعارض الأدلة في ذلك أو خفاء ذلك كدعوى الدهرية ذلك فإن أبا عبدالله الرازي قال في كتابه الكبير نهاية العقول في مسألة التكفير لما حد الكفر بحد أبي حامد الغزالي وهو تكذيب الرسول في شيء مما جاء به قال ونعني بالتكذيب إما نفس التكذيب أو ما علم من الدين ضرورة دلالته على التكذيب فلو ورد على هذا أن صاحب التأويل إما أن لا يجعل من المكذبين بل يجعل المكذوب من يرد قوله ﷺ من غير تأويل وأما أن يجعل من المكذبين فإن كان الأول لزمنا أن لا يكون الفلاسفة في قولهم بقدم العالم وإنكارهم علمه تعالى بالجزئيات وإنكار الحشر والنشر كفارا لأنهم يجعلون للنصوص الواردة في هذه المسألة تأويلات ليست بأبعد من تأويلاتكم للنصوص في التشبيه لأنهم يحملون النصوص الواردة في خلقه تعالى العالم على تأثيره في العالم واحتياج العالم في وجوده إليه ويحملون النصوص الواردة في علمه بالجزئيات على أنه تعالى يعلم كل الكليات على وجه كلي ويحملون النصوص الواردة في الحشر والنشر على أحوال النفس الناطقة في سعادتها وشقاوتها بعد المفارقة قالوا إذا جاز لكم حمل الآيات والأخبار المحتملة للتشبيه فلم لا يجوز مثلها في الحشر والنشر على أمور روحانية بصرفها عن ظواهرها 2 التي هي أمور حسمانية فثبت أن لو أردنا بالتكذيب رد النصوص لا على وجه التأويل لزمنا أن لا نجعل الفلاسفة من المكذبين وإن لم يكونوا من المكذبين وجب أن لا يكونوا كفرة لأن العكس واجب في الحد فإما أن جعلنا كصاحب التأويل من المكذبين فمعلوم أنه ليس كل متأول مكذب وإلا لزم إجراء كل الأخبار والآيات على ظواهرها وذلك يوجب التشبيه والقدر والمذاهب المتناقضة وكل ذلك باطل بل يجب أن تجعل التأويلات غير موجبة للتكذيب وبعضها موجب وعند ذلك لا نعلم حقيقة التكذيب إلا عند الضابط الذي به يصير التأويل تكذيبا وما لم يذكروا ذلك كان التأويل غير مقيد وقال في الجواب عن هذا إنا نعلم بالضرورة إجماع الأمة على أن دينه عليه السلام هو القول بحدوث العالم وإثبات العلم بالجزئيات وإثبات الحشر والنشر وإن إنكار هذه الأشياء مخالف لدينه ثم علمنا بالضرورة أنه عليه السلام كان يحكم أن كل ما خالف دينه فهو كفر فعلمنا بهاتين المقدمتين حكمه عليه السلام بكون هذه الأشياء كفرا فمن اعتقدها كان مكذبا له عليه السلام فكان كافرا ومثل هذه الطريقة لم توجد في التشبيه والقدر لأن الأمة غير مجمعة على أن القول بهما مخالف لدينه عليه السلام فالحاصل أنا لا نكفرهم لأجل مخالفتهم للظواهر بل للإجماع على الوجه المذكور ومثله غير حاصل في الاختلاف الحاصل بين الأمة فلا يلزمنا تكفير الداخلين في الأمة هذا كلام أبي عبدالله الرازي وقد ادعى طائفة من الفلاسفة في مسألة المبدأ والمعاد نظير ما ادعاه هو في مسائل الصفات والقدر كما ذكر ذلك هذا الحفيد الذي تقدم نقل كلامه لما ذكر هذا أيضا في كتابه الذي زعم أنه جمع فيه بين الشريعة والفلسفة لما ذكر ما سيأتي حكايته عنه حيث بين تقارب الطائفتين ومخالفتهما جميعا لظاهر الشرع إلى قوله قلت يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء قال ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيون مأجورون وإما مخطئون معذورون فإن التصديق بالشيء من قبيل التوليد القائم بالنفس هو شيء اضطراري لا اختياري أعني أنه ليس لنا أن نقوم أو لا نقوم وإذا كان من شرط التكليف الاختيار فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت إذا كان من أهل العلم معذور ولذلك قال عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وأي حاكم أعظم من الذي حكم على الوجود أنه كذا وليس بكذا وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله تعالى بالتأويل وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع إنما هو الخطأ الذي يقع من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة الذي كلفهم الشرع النظر فيها وأما الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف في الناس فهو آثم مخطئ وسواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العملية فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورا كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم فليس بمعذور بل هو إما آثم وإما كافر وإذا كان يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن يجتمع له أسباب الاجتهاد وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس بالحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات أعني أن يعرف الأوائل العقلية ووجه استنباطه منها وبالجملة فالخطأ في الشرع على ضربين إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في الحكم ولا يعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس بل إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر وإن وقع في ما بعد المبادئ فهو بدعة وهذا الخطأ يكون في الأشياء التي يفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع وهذا هو مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات والسعادة الأخروية والشقاء الأخروي وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الأدلة الثلاثة التي لا يعرى أحد من الناس من وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته أعني الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية فالجاحد لأمثال هذه الأشياء إذا كانت أصلا من أصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها لأنه إن كان من أهل البرهان فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان وإن كان من أهل الجدل فبالجدل وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة ولهذا قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي يريد بأي طريق اتفق لهم الإيمان من الطرق قلت وهذا الكلام فيه أشياء جيدة وفيه تفاصيل غير صحيحة لكن هذا ليس موضع الكلام عليه ثم قال وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم عندهم إلا بالبرهان فقد يعف الله فيها لعباده والذين لا سبيل لهم إلى البرهان إما من قبل فطرهم وإما قبل عادتهم وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم فإنه ضرب لهم أمثالها وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذا كانت تلك الأمثال ممكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع أعني الجدلية والخطابية وهذا هو السبب في أن يقسم الشرع إلى ظاهر وباطن فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني والباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان وهذه هي أصناف تلك الموجودات الأربعة والخمسة التي ذكرها أبو حامد في كتاب الثغرية قلت هذا الكلام من أصول النفاق نفاق الدهرية ويظهر بطلانه من وجوه أحدها قوله وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان إلى آخره يقال له قولك لا تعلم إلا بالبرهان أي لا يمكن تصورها إلا بالبرهان أو لا يمكن التصديق بها عقلا إلا بالبرهان أما الأول فباطل فإن التصور سابق على التصديق فلو كان لا يمكن تصورها إلا بعد قيام البرهان على ثبوتها والبرهان لا يمكن أن يقوم على التصديق إلا بعد التصور لزم الدور وهو قد ذكر في غير هذا الموضع أن تصور الشيء يكون إما بنفسه وإما بمثاله وليس هذا من البرهان وإذا كان تصورها ممكن بدون البرهان فالرسول خبره يوجب التصديق وليس هو ملزم لأن يقوم برهان خاص على كل ما يخبر به فإذا كان تصورها ممكن بلا برهان وخبره وحده كاف في التصديق لم يحتج إلى ما سماه برهانا الثاني أن يقال له إذا قدر أن التصديق بها لا يمكن إلا بالبرهان فإما أن يكون الرسول أخبر بها للخاصة مقرونا بالبرهان أو بلا برهان أو لم يخبر بها ومعلوم أن هذه البراهين التي تثبت بها الفلاسفة تجرد النفس ونعيمها وعذابها والعقول والنفوس لم تأت بها الرسل فإما أن كونوا تركوا الإخبار بها أو أخبروا بها بدون ما ادعاه من البرهان وعلى التقديرين يظهر أن الرسول لم يسلك ما ادعاه فإنه يزعم أن الرسول علمها الخاصة دون العامة الثالث أن يقال ليس فيما يذكره الفلاسفة ما يبعد فهمه على عامة الناس بأكثر من فهم ما دل عليه ظاهر الشرع وإن كانوا مقصرين عن فهم الأدلة ألا ترى أن المتكلمين يصرحون بما يقولونه للعامة وإن كانت أدلتهم كثيرة أما أن تكون أغمض من أدلة الفلاسفة وإنما هي مسائل معدودة مسألة واجب الوجود وفعله والنفس وسعادتها وشقاوتها والعقول والنفوس وما يتبع ذلك فأي شيء في هذا مما لا يمكن التصريح منه به للعامة لو كان حقا فعلم أن ترك التصريح به إنما هو لما اشتمل عليه من الباطل المخالف للفطرة والشرعة والحق الذي صرحت به الشريعة الرابع أن يقال إن الله قد أجمل في كتابه وعلى لسان رسوله ما لا يمكن النفوس معرفة تفصيله مثل قوله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ومثله قوله ﷺ يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الخامس أن يقال النقص الذي ذكرته هو إما من قبل نقص الفطرة وأما من قبل سوء العادة وإما من قبل عدم أسباب التعلم فيقال لك أما النقص فنقص بني آدم ليس له حد فمن الناس من ينقص عن فهم ما يفهمه جمهور الناس ومن المعلوم أن نهاية ما عند الفلاسفة يفهمه أوسط المتفقهة في مدة قريبة والشريعة قد جاءت بما هو أبعد عن الفطر الناقصة من هذا وأما العادة والتعليم فالرسول هو المعلم الأعظم الذي علمهم الكتاب والحكمة وقد نقلهم عن كل عادة سيئة إلى أحسن العادات والسير والشرائع فإن كان التصريح بهذه الأمور مشروطا بالعلم التام والعادة الصالحة فلا أكمل من هذا المعلم ولا في السير التي عودها فهل لاعلمها وبينها إذا كان الأمر كذلك السادس أن يقال هب أن العامة لا يمكنهم فهمها فهل لا بينها للخاصة ومن المعلوم بالاضطرار أن الشريعة ليس فيها دلالة على ما يقوله الدهرية والجهمية من الأمور السلبية في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب السابع أن يقال فإذا صرح فيها بنقيض ما هو الحق وإن قلت إنه أمثال والحق المطلوب لم يبينه لا للعامة ولا للخاصة ألا يكون هذا تلبيسا وإضلالا الثامن أن يقال قولكم الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان وأن الباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان كلام من أبطل القول وذلك أن هذه الأمور قد فسرتها بما تتأول من صفات الله وصفات المعاد حتى ذكرت آية الاستواء والنزول ونعيم الجنة والنار وغيرهما من ذلك فيقال لهم التأويلات التي يدعون أنها باطن هذه الألفاظ معان ظاهرة معلومة للخاص والعام مثل تأويلات الاستواء بالقدرة أو بالرتبة فكل أحد من الناس يتصور أن الله قادر على المخلوقات قاهر لها أعظم مما يتصور استواءه عليها فلأي ضرورة يعبر عن المعنى الظاهر الواضح بلفظ يكون تصور ظاهره أخفى من تصور ذلك المعنى وهذا بين قاطع لمن تدبره وإن كانت الوجوه كلها كذلك ثم قال الحفيد وإذا اتفق كما قلنا أن يعلم الشيء بنفسه بالطرق الثلاث لم يحتج أن يضرب له مثال وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر مثل من يعتقد ألا سعادة أخروية ها هنا ولا شقاء وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم وأنها خيلة وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط وإذا تقرر لك هذا فقد ظهر لك في قولنا إن ها هنا ظاهرا من الشرع لا يجوز تأويله فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة وها هنا أيضا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول ولذلك قال عليه السلام في السوداء إذ أخبرته أن الله تعالى في السماء أعتقها فإنها مؤمنة إذ كانت ليست من أهل البرهان والسبب في ذلك أن هذا الصنف من الناس الذين لا يقع لهم التصديق إلا من قبل التخيل أعني أنهم لا يصدقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيلونه يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبا إلى شيء متخيل ويدخل أيضا على من لا يفهم من هذه النسبة إلا المكان وهم الذين شذوا عن رتبة الصنف الأول قليلا في النظر اعتقاد الجسمية ولذلك كان الجواب لهؤلاء في أمثال هذه أنها من المتشابهات وأن الوقف في قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فإنهم يختلفون في تأويله قلت الذين سماهم أهل البرهان هنا هم من عناه من الجهمية والدهرية وقد تناقض في هذا الكلام فإنه قد تقدم ما ذكره في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية ولفظه وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك وما ذكره من أن ذلك من الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن العلو مسكن للروحانيين يريدون الله والملائكة وقوله قد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وقد تقدم حكاية قوله فإذا كان هذا هكذا فكيف يكون أهل البرهان متفقين على تأويل ذلك وأن يكون قول الجارية أنه في السماء مما يجب على أهل البرهان تأويله ثم يقال له هل كان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من أهل البرهان الحق أم لا فإن قلت لم يكونوا من أهله ولكن المتأخرين وفي الصابئين قبلنا من كان من أهله فهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السابقين الأولين كانوا أعظم علما وإيمانا من هؤلاء وإن قلت كانوا من أهل البرهان فمن المعلوم بالاضطرار أنهم لم يئولوه كما تأوله هؤلاء المتأخرون بل هم متفقون على أن الله تعالى فوق العرش كما ذكرت أنت إجماع الأنبياء والحكماء على ذلك وكلهم في تحريم تأويل ذلك أعظم من أن يذكر هنا فكيف يكون واجبا وأيضا فالمتأولون لهذا ليس فيهم من تحمده أنت فإن تأويل ذلك أما أن يكون عن معتزلي أو أشعري أخذ عنه أو من يجري مجراهم وهؤلاء عندك أهل جدل لا أهل برهان وأنت دائما تصفهم بمخالفة الشرع والعقل وإن قلت نحن أهل برهان وهم المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام فهذا أكذب الدعاوي وذلك أنه لا ريب عند من عرف المقالات وأربابها أن الذي صار به المتكلمون مذمومين هو ما شاركوا به هؤلاء المتفلسفة من القياس الفاسد والتأويل الحائد وأن أحسن حال المتفلسف أن يكون مثل هؤلاء فإذا كان هؤلاء قد اتفقت الأئمة والأمة وعقلاؤهم متفقون أيضا على أنهم فيما قالوه من خلاف مذهب السلف ليسوا أهل برهان بل أهل هذيان كيف بأصحابك الذين اعترف أساطينهم بأنه ليس لهم في العلم الإلهي يقين والمتكلمون لا يقرون على أنفسهم بمثل هذا بل يقولون إن مطالبهم تأولوها بالأدلة العقلية وبسط هذا الكلام له موضع آخر ليس هذا موضعه وليس يلزم من كون الرجل ذا برهان في الهندسة والحساب أن يكون ذا برهان في الطب مع أن كلاهما صناعة حسية وكثيرا ما يحذق الرجل فيهما ومن المعلوم أن العلم بهذه الأمور أبعد عن الطب والحساب من بعد أحدهما عن الآخر ثم يقال له هب أن تلك الجارية ليست من أهل البرهان فما الموجب لأن يخاطبها الرسول بخطاب الظاهر من غير حاجة إليه فقد كان يمكنه تعرف إيمانها بأن يقول من ربك ومن إلهك ومن تعبدين فتقول الله تعالى فلما يعدل عن لفظ ظاهره وباطنه حق إلى لفظ ظاهره باطل ثم يكلفها مع ذلك تصديق الباطل ويحرم عليها وعلى غيرها اعتقاد نقيض الباطل فهل فهذا فعل عاقل فضلا عن أن يكون هذا فعل الرسل أم من فعل الكاذبين في خبرهم الموجبين للتصديق بالكذب ثم الله ورسوله يخاطب الخلق بخطاب واحد يخبر به عن نفسه وقد فرض على طوائف أن يعتقدوا ظاهره وإن لم يعتقدوه كفروا وعلى آخرين أن يعتقدوا نقيض ما اعتقده هؤلاء وإن اعتقدوه كفروا ثم مع هذا كله لا يبين من هؤلاء ولا من هؤلاء ولا يبين ما هو مرده به الذي خالف ظاهره بل يدع الناس في الاختلاف والاضطراب وهذا الفيلسوف ادعى أن الاختلاف نما نشأ من جهة كون العلماء فتحوا التأويلات للعامة فأضلوا العامة بذلك حيث فرقوهم ثم هو قد جعل الرسول نفسه أضل الخاصة وأوقع بينهم التفرق والاختلاف حيث عنى بهذا الخطاب باطنا فرضه عليهم ولم يبينه لهم فإن الذنب الذي شنعه على أهل الكلام نسب الأنبياء إلى أعظم منه وقد قال تعالى للرسل أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وقال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إلى قوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وقال وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وعلى ما زعمه هؤلاء يكونون قد تفرقوا واختلفوا من قبل أن يأتيهم العلم أو تأتيهم البينة لأنهم زعموا أن في الكتاب ظاهرا يجب على أهل البرهان تأويله وأن الذي يعلمونه هو التأويل الذي قال الله تعالى فيه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ثم يقول وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فقد يختلفون في تأويله وذلك بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان فإذا لم يبين لهم الرسول مراده فما جاءهم العلم ولا البينة فيكونون معذورين في التفرق والاختلاف كما زعم هؤلاء المنافقون ثم يقال له البرهان يفضي إلى إحالة الظاهر مثلا أم إلى تعيين المراد أما الأول فهم متفقون عليه وأما تعيين المراد فليس مستفادا من مجرد القياس الذي تسميه البرهان إنما يعرف من حيث مراد المتكلم فكيف يكون اختلافهم في التأويل بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان والبرهان إنما ينفي الظاهر فقط لا يبين ما هو المراد والرد على هؤلاء يطول فليس هذا موضع استقصائه وإنما الغرض التنبيه على أن هؤلاء الدهرية سلطوا على الجهمية بمثل هذا حتى آل الأمر إلى الكفر بحقيقة الإيمان بالله وباليوم الآخر وجعلوا ذلك هو البرهان والتحقيق الذي يكون للخاصة الراسخين في العلم حتى حرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته وجعلوا أئمة الكفر والنفاق هم أئمة الهدى ورؤوس العلماء وورثة الأنبياء مع أنهم في القياس الذي سموه البرهان إنما أتوا فيه بمقاييس سوفسطائية من شر المقاييس السوفسطائية فآل أمرهم إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في الشرعيات وهذه حال القرامطة الباطنية الذين عظمهم وسلك سبيلهم هذا الفيلسوف ولهذا كان ابن سينا وأمثاله منهم وكان أبوه من دعاة القرامطة المصريين ولذلك اشتغلت بالفلسفة ثم قال وها هنا صنف ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوز تأويله ويلحقه آخرون بالباطن الذي لا يجوز حمله على الظاهر للعلماء لغرابة هذا الصنف واشتباهه والمخطئ في هذ معذور أعني من العلماء فإن قيل فإذا تردد أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب فمن أي هذه الثلاث مراتب هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله فنقول إن هذه المسألة الأمر فيها أنها من الصنف المختلف فيه وذلك أننا نرى قوما ممن ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون إن الواجب حملها على ظاهرها إذ كان ليس فيها برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها وهذه طريقة الأشعرية وقوم آخرون أيضا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافا كثيرا وفي هذا الصنف أبو حامد معدود وكثير من المتصوفة ومنهم من يجمع فيها تأويلين كما يفعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذور والمصيب مشكور أو مأجور وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيها نحوا من أنحاء التأويل أعني في صفة المعاد لا في وجوده إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود وإنما كان جحد الوجود في هذه كفرا لأنه في أصل من أصول الشريعة وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود وأما من كان من غير أهل العلم فالواجب عليه حملها على الظاهر وتأويلها في حقه كفر لأنه يؤدي إلى الكفر وكذلك ما نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر لأنه يؤدي للكفر والداعي إلى الكفر كافر ولهذا يجب أن لا تثبت هذه التأويلات إلا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان أما إذا أثبت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطبية والجدلية كما يصنعه أبو حامد فخطأ على الشرع وعلى الحكمة وإن كان الرجل إنما قصد خيرا وذلك أنه رأى أن يكثر أهل العلم بذلك ولكن كثر بذلك أهل الفساد ليس بدون كثرة أهل العلم وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما ويشبه أن يكون هذا هو أحد مقاصده بكتبه والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفكر أنه لم يلتزم مذهبا من المذاهب في كتبه هو مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف كما قيل... يوم يمان إذا لاقيت ذا يمن... وإن لقيت معديا فعدناني والذي يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن كتبه التي تتضمن العلم إلا لمن كان من أهل العلم كما يجب عليهم أن ينهوا عن كتب البرهان من كان ليس أهلا لها قلت أما عده أبو حامد ممن لا يقر بمعاد الأبدان فهو وإن كان قد قال في بعض كتبه ما نسبه لأجله إلى ذلك فالذي لا ريب فيه أنه لم يستمر على ذلك بل رجع عنه قطعا وجزم بما عليه المسلمون في القيامة العامة كما أخبر به الكتاب وأما ذكره أن هذا قول كثير من المتصوفة فلا ريب أن في المتصوفة والمتفقهة وغيرهما من هو صديق ومن هو زنديق فإن انتحال الخيلة والقول ظاهرا ليس بأعظم من انتحال الإسلام وإن كان في نفس ادعاء الإسلام على عهد النبي وفي سائر الأعصار منافقون كثيرون فهؤلاء موجودون في جميع الأصناف من المنتسبين إلى العلم وإلى العبادة وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال النبي ﷺ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها فأما شيوخ الصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم في الأمة لسان صدق مثل أبي القاسم الجنيد وسهل بن عبدالله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبي العباس ابن عطاء بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبدالرحمن السلمي وأمثال هؤلاء فحاشا لله أن يكونوا من أهل هذا المذهب بل هم من أبعد الطوائف عن مذهب الجهمية في سلب الصفات فكيف يكونون في مذهب الدهرية المنكرين لانفطار السموات والأرض وانشقاقهما نعم يوجد مثل ذلك في المتكلمين بكلام الفقهاء من أهل الفلسفة والكلام وغيرهم وهذا الرجل قد ذكر أصناف الأمة في الأمور الهية الذين سماهم حشوية والأشعرية والمعتزلة والباطنية وذكر الصنف الرابع الباطنية ولم يتعقبهم بكلام إلا ما ذكره من مذهب الصوفية أنهم يلتمسون العلم بطريقة إماتة الشهوات فإن كان قد جعل هؤلاء هم الباطنية فهذا خطأ عظيم وإن كان يوجد فيهم من يقول بقول الباطنية كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين والفقهاء ولعل شبههم في ذلك مع ما حكاه عنهم في أمر المعاد أنهم يقولون علم الباطن وينتسبون إلى علم الباطن ولكن هذا اللفظ فيه إجمال وإيهام فالصوفية العارفون الذين لهم في الأمة لسان صدق إذا قالوا علم الباطن وعلوم الباطن ونحو ذلك فهم لا يريدون بذلك ما يناقض الظاهر بل هم متفقون على أن من ادعا باطنا من الحقيقة يناقض ظاهر الشريعة فهو زنديق وإنما يقصدون بذلك عمل باطن الإنسان الذي هو قلبه بالأعمال الباطنة كالمعرفة والمحبة والصبر والشكر والتوكل والرضا ونحو ذلك ما هو كله تحقيق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ومما يبين تناقض الفريقين لاشتراكهما في النفي والتعطيل أن كل حجة يحتج بها أحدهما على الآخر تنقض مذهبه أيضا كما تنقض مذهب خصمه ولهذا عمدة كلامهم بيان كل طائفة تناقض الأخرى وإن كانت هي أيضا متناقضة كما نبهنا عليه غير مرة ويوضح ذلك ما ذكره هذا القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على لأصولية هذا بعد أن قال في خطبته أما بعد فإن كنا قد بينا في أول هذا الكتاب مطابقة الحكمة للشرع وأمر الشريعة بها وقلنا هناك إن الشريعة ظاهر ومئول وأن الظاهر فيها هو فرض الجمهور وأن المئول هو فرض العلماء وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله قلت قد جعل فرض الجمهور اعتقاد الباطل الذي هو خلاف الحق إذا كان الحق خلاف ظاهره وقد فرض عليهم حمله على ظاهره قال وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور كما قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله قلت حرف لفظ حديث علي ومعناه فإن عليا قال كما ذكره البخاري في صحيحه من رواية معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وهذا يدل على نقيض مطلوبه لأنه قال أتحبون أن يكذب الله ورسوله فعلم أن الأحاديث التي قالها الله ورسوله أحاديث لا يطيق كل أحد حملها فإذا سمعها من لا يطيق ذلك كذب الله ورسوله وهذا إنما يكون في ما قاله الرسول ﷺ وتكلم به لا في خلاف ما قاله ولا في تأويل ما قال خلاف ظاهره فإن ذكر ذلك لا يوجب أن المستمع يكذب الله ورسوله بل يكذب المتأول المخالف لما قال الله ورسوله نعم نفس ذلك التأويل المخالف لقوله يكون تكذيبا لله ورسوله إما في الظاهر وإما في الباطن والظاهر فلو أريد ذلك لكان يقول أتريدون أن تكذبوا الله ورسوله أو أن تظهروا تكذيب الله ورسوله فإن المكذب من قال ما يخالف قول الله ورسوله إما ظاهرا واما ظاهرا وباطنا وعلي إنما خاف تكذيب المستمع لله ورسوله وهذا لا يكون لمجرد تأويل المتأولين فإن المؤمن لا يكذب الله ورسوله لقول مخالف لتأويل يخالف ذلك بل يرد ذلك عليه فإن قال هذه التأويلات الباطنة قد ذكرها النبي ﷺ للخاصة قيل هذا من الإفك المفترى الذي اتفق أهل العلم بالإسلام على أنه كذب وقد ثبت عن علي رضي الله عنه في الصحيح من غير وجه لما سأله من ظن أن عنده من الرسول علما اختص به فبين لهم علي رضي الله عنه أنه لم يخصه بشيء قال الحفيد فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع ﷺ بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة الطائفة التي تسمى الأشعرية وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة والتي تسمى المعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وحرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات وزعموا أنها الشريعة الأولى الذي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤمل جميعها وتؤمل مقصد الشارع ظهر أنها كلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع التي لا يتم الإيمان إلا بها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع ﷺ دون ما جعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد في الشرع أن يعتقد الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز ونبتدي من ذلك معرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن نذكر إذا تلك الفرق المشهورة في ذلك فنقول أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا إن طريق معرفة وجود الله تعالى هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجود الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه السمع أن يتلقى من صاحب الشرع كما يتلقى منه أحوال العبادة وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه وهذه الفرقة الظاهر من أمرها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى وتقدس ودعاهم من قبلها إلى الإقرار به وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري سبحانه وتعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيها مثل قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية ومثل قوله تعالى أفي الله شك فاطر السموات والأرض إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى وليس لقائل أن يقول إنه لو كان ذلك واجبا على كل من آمن بالله تعالى أعني أن لا يصح إيمانه من قبل وقوعه عن هذه الأدلة لكان النبي ﷺ لا يدعو أحدا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة فإن العرب كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى وذلك قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ به فدامة الطبع وبلادة القريحة ألا يفهم شيئا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع ﷺ للجمهور وهذا فهو أقل الوجود وإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع ثم قال وأما الأشعرية فرأوا أن التصديق بوجود الله تعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية وساق الكلام كما ذكرنا عنه أولا قلت مسمى الحشوية في لغة الناطقين به ليس اسما لطائفة معينة لها رئيس قال مقالة فاتبعته كالجهمية والكلابية والأشعرية ولا اسما لقول معين من قاله كان كذلك والطائفة إنما تتميز بذكر قولها أو بذكر رئيسها ولهذا كان المؤمنون متميزون بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ فالقول الذي يدعون إليه هو كتاب الله والإمام الذي يوجبون اتباعه هو رسول الله ﷺ وعلى هذا بني الإيمان وبذلك وجب الموالاة والمعاداة كما قال تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا إلى قوله فإن حزب الله هم الغالبون وقال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وأمثال ذلك وقال تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون وكذلك ذكر ذلك في البقرة والمائدة ولقمان فذكر أن الكفار لا يستجيبون لذلك وكذلك ذكر عن المنافقين فقال ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فأخبر عن الكافرين والمنافقين أنهم يعرضون عن الاستجابة للكتاب والرسول فعلم أن المؤمنين ليسوا كذلك بل هم كما قال الله تعالى إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وقال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وبذلك أمرهم حيث قال يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإذا تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وبذلك حكم بين أهل الأرض كما قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وشواهد هذا الأصل كثيرة والناس منذ بعث الله تعالى محمدا ﷺ ثلاثة أصناف إما كافر معلن وإما منافق مستتر وإما مؤمن موافق ظاهرا وباطنا كما ذكر الله تعالى هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة وحينئذ فالواجب أن يكون الرجل مع المؤمنين باطنا وظاهرا وكل قول أو عمل تنازع الناس فيه رده إلى الكتاب والسنة ولا يجوز وضع طائفة بعينها يوالي من والته ويعادي من عادته لا أخص من المؤمنين لو كانت أسماؤهم للتعريف المحض كالمالكية والشافعية والحنبلية أو غير ذلك ولا أعم من ذلك مما يدخل فيه المسلم والكافر كجنس النظر والعقل أو العبادة المطلقة ونحو ذلك ولا يجوز تعليق الحب والبغض والموالاة والمعاداة إلا بالأسماء الشرعية وأما أسماء التعريف كالأنساب والقبائل فيجوز أن يعرف بها ما دلت عليه ثم ينظر في موافقته للشرع ومخالفته له وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو ابن عبيد رئيس المعتزلة فقيههم وعابدهم فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله فقال كان ابن عمر حشويا نسبه إلى الحشو وهم العامة والجمهور وكذلك تسميهم الفلاسفة كما سماهم بذلك صاحب هذا الكتاب والمعتزلة ونحوهم يسمونهم الحشوية والمعتزلة تعني بذلك كل من قال بالصفات وأثبت القدر وأخذ ذلك عنها متأخروا الرافضة فسموهم الجمهور بهذا الاسم وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسموا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة فمن قال عندهم بوجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصوم رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والمظالم والشرك ونحو ذلك سموه حشويا كما رأينا ذلك مذكورا في مصنفاتهم والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الجسمي والنعيم الحسي حشويا وأخذوا ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعرية فسموا من أقر بما ينكرونه من الصفات ومن يذم ما دخلوا فيه من بدع أهل الكلام والجهمية والإرجاء حشويا ومنهم أخذ ذلك هذا المصنف ومما يبين ذلك أن القول الذي حكاه عنهم لا يعرف في الإسلام عالم معروف قال به ولا طائفة معروفة قالت به ولكن قد يقول بعض العوام قولا لا يفصح بمعناه وحجته يظن به مستمعه أنه يعتقد ذلك والتحقيق أن هذا النقل إنما نقلته المعتزلة ومن وافقهم عليه كهذا الرجل بطريق اللزوم لا أنهم سمعوه منهم أو وجدوه مأثورا عنهم وذلك أنهم يسمعون أهل الإيمان من أهل الحديث والسنة والجماعة والفقهاء والصوفية يقولون الكتاب والسنة وإذا تنازعوا في مسألة من موارد النزاع بين الأمة في مسائل الصفات أو القدر أو نحو ذلك قالوا بيننا وبينكم الكتاب والسنة فإذا قال لهم ذلك المنازع بيننا وبينكم العقل قالوا نحن ما نحكم إلا الكتاب والسنة ونحو هذا الكلام الذي هو حقيقة أهل الإيمان وشعار أهل السنة والجماعة وحلية أهل الحديث والفقه والتصوف الشرعي قالوا بموجب رأيهم يلزم من هذا أن تكون معرفة الله تعالى لا تحصل إلا بخبر الشارع إذا لم يكن للعقل مجال في إثبات المعرفة وهذا جهل منهم وقول بلا علم فإن أحدا من هؤلاء لم يقل إن الله تعالى لا يعرف إلا بمجرد خبر الشارع الخبر المجرد فإن هذا لا يقوله عاقل فإن تصديق المخبر قبل المعرفة بصدقه في قوله إنه رسول الله بدون المعرفة بأنه رسول ممتنع ومعرفة أنه رسول الله ممن لا يعرف أن الله موجود ممتنع فنقل مثل هذا القول عن طائفة توجد في الأمة أو عن عالم معروف في الأمة من الكذب البين وهو من جنس وضع الملاحدة للأحاديث المتناقضة على المحدثين ليشنوهم بذلك عند الجهال لكن من عموم المؤمنين أهل الحديث وغيرهم من لا يحسن أن يجيب عما يورد عليه من الشبه ومن لا يحسن البيان عما انعقد في نفسه من البرهان واستقر عنده من الإيمان ولكن هذا لا يبيح أن ينقل عنه البهتان كيف وشعارهم الدعاء إلى الكتاب والسنة والقرآن مملوء من طريق تعريف الله تعالى لعباده بالأدلة الواضحة المعقول والأمثال المضروبة التي هي القياسات العقلية ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن القرآن بين فيه أصول الدين في المسائل والدلائل على غاية الأحكام ونهاية التمام وأن خلاصة ما يذكره أهل الكلام والفلسفة إنما هو بعض ما بينه القرآن والحديث مع سلامة ذلك عما في كلامهم من التناقض والاختلاف واشتماله على ما تقصر عنه نهاية عقولهم ومالا يطمعون أن يكون من مدلولهم وبينا أن تعريف الشارع ودلالة الشرع ليس بمجرد الإخبار كما يظنه من يظن ذلك من أهل الكلام والفلسفة فإن مثل هذا الظن بالشارع هو الذي أوجب أن يلمزوا المؤمنين بما هم به أولى وأحرى والذين يلمزون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا وهذا حال الكفار والمنافقين الذين قال الله تعالى فيهم وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن وقال إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين فإن الله سبحانه وتعالى ضمن كتابه العزيز فيما أخبر به عن نفسه وأسمائه وصفاته من الأدلة والآيات والأقيسة التي هي الأمثال المضروبات ما بين ثبوت المخبر بالعقل الصريح كما يخاطب أولي الألباب والنهى والحجر ومن يعقل ويسمع بل قد ضمن كتابه من الأدلة العقلية في أمر المعاد ما هو بين لعامة العباد بل ضمن كتابه العزيز من الأدلة العقلية على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد ما نبه عليه في غير هذا الموضع كقوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط فكيف يكون أهل الكتاب والسنة والإيمان يقولون إن الله تعالى إنما يعرف وجوده بمجرد خبر الشارع المجرد 5. وأما ما قد يقولونه من أن العقل لا مجال له في ذلك أو ينهون عن الكلام أو عن ما سمي معقولات ونظرا ونحو ذلك فهذا له وجوه صحيحة ثابتة بالكتاب والسنة بل وبالعقل أيضا وبعضهم قد لا يفرق بين ما يدخل في ذلك من حق وباطل وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة كما ذكره هذا الرجل ولا ريب أن التقصير ظاهر على أكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك فيقال من الوجوه الصحيحة إنما نطق به الكتاب وبينه أو ثبت بالسنة الصحيحة أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه معقولا ونظرا أو كلاما وبرهانا وقياسا عقليا أصلا بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علما كليا عاما وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب على كل أحد بل يعلمه بعض الناس دون بعض وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ما عارض النص والإجماع من هذه وأن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون فأعداء النبيين دائما يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وكذلك من الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لا تفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة وأن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله وذلك أن قوى العقول متفاوتة مختلفة وكثيرا ما يشتبه المجهول بالمعقول فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك وأهل الرحمة هم أهل الإيمان والقرآن ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام إما بخبره واما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية ولهذا يقولون لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ قال الله تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثم ذكر ابن رشد الكلام على الطريق التي عزاها إلى الأشعرية وأبو الحسن الأشعري قد بين في رسالته إلى أهل الثغر بيان الأبواب أن هذه الطريق مبتدعة وأنها ليست هي طريقة الأنبياء وأتباعهم بل هي محرمة عندهم كما سنذكر ذلك عنه وكذلك ذكر غير واحد عن متقدمي أصحابه ومتأخريهم حتى أبو عبدالله الرازي بين أن معرفة الله تعالى ليست منحصرة في هذه الطريق التي حكاها عن الأشعرية وبين غلط أبي المعالي في قوله اعلم أن أول ما يجب على البالغ العاقل القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم وبين أن العلم بحدوث العالم يمكن أن يعلم بالسمع فضلا عن أن لا يكون طريقا إلى إثبات الصانع إلا العلم بحدوثه بالطريق الذي ذكره وأن يكون القصد إلى النظر في هذه الطريق وكذلك الغزالي قبله بين حصول المعرفة بدون هذه الطريق وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة فكثير من أئمة الأشعرية أو أكثرهم يخالفونه في ذلك ولا يوجبونها بل إما أن يحرموها أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لا تتوقف على هذه الطريقة ولا يجب سلوكها ثم هم قسمان قسم يوسقها ويسوق غيرها ويعدها طريقا من الطرق فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها ويعيبون سلوكها وينهون عنها إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم كما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته كما سنذكره عنه كما ذكر ذلك طوائف ممن لا يبطل تلك الطريقة كأبي سليمان الخطابي ونحوه قال الشيخ أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين أما بعد فإن أخا من إخواني سألني بيان ما يجب على المسلمين علمه ولا يسعهم جهله من أمر الدين وشرح أصوله في التوحيد وصفات الباري تعالى والكلام في القضاء والقدر والمشيئة والدلالة على نبوة محمد ﷺ وبيان إعجاز القرآن والقول في ترتيب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وما يتصل به من الكلام وطلب إلي أن أورد في كل شيء منها أوضح ما أعرفه من الدلالة وأقربها من الفهم ينتفع به من لا يرضى بالتقليد في ما يعتقده من أصول الدين وكان مع ذلك ممن لا يحب النظر في الكلام ولا يجرد القول على مذهب المتكلمين وذكر تمام الكلام وذكر عدة أصول من الاستدلال بخلق الإنسان والاستدلال بتركيب المتضادات وتأليفها والاستدلال بما في الوجود من الحكمة الغائية الذي يسميه ابن رشد دليل العناية الدال على الإرادة والرحمة والعناية الدالة على الصانع إلى أن قال وطرق الاستدلال كثيرة إلا أنا أخترنا منها في الكتاب ما هو أقرب إلى الأفهام وأشبه بمذاهب السلف والعلماء وقد أنزل الله تعالى كتابه على رسوله ﷺ وحاج به قومه وهم عرب ليسوا بفلاسفة ولا متكلمين وإنما خاصمهم بما يفهمه ألوا العقول الصحيحة ويستدركه ذووا الطباع السليمة وتشهد له المعارف وتجري به العادات القائمة فما قامت الحجة عليهم كان من الاستدلال على إثبات الصانع وحدوث العالم قال وقد أبى متكلمو زماننا هذا إلا الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها وزعموا أنه لا دلالة أقوى من ذلك ولا أصح منه ونحن إن كنا لا ننكر الاستدلال بهذا النوع من الدلالة فإن الذي أختاره ونؤثره هو ما قدمنا ذكره لأنه أدلة اعتبار وطريق السلف من علماء أمتنا وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم وفي الأعراض اختلاف كثير فمن الناس من ينكرها ولا يثبتها رأسا ومنهم من لا يفرق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر والاستدلال لا يصح بها إلا بعد استبراء هذه الشبهة وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب قال ولقد سلك بعض مشائخنا في هذا طريقة الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه ﷺ وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لا يتسع فهمه لاستدراك وجوه سائر الأدلة ولم يتبين تعلق الأدلة بمدلولاتها ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها قلت هذه الطريق يستدل صاحبها بالنبوة على حدوث العالم لأن معرفة الصانع تعلم بدون ذلك إما بالأدلة الأخر وإما بالفطرة وصدق الرسول مبني على مقدمات ضرورية أو نظرية قريبة من الضرورية ثم يستدل بقوله على حدوث العالم فالخطابي في هذه الطريق ذكرأن طريقة الأعراض غير منكرة عنده ولكنه كرهها ورغب عنها إلى ما ذكر أنه طريق السلف لأنها بدعة ولأن فيها آفات وقد قال في رسالته في الغنية عن الكلام وأهله كلاما أسد من هذا وبين أنها محرمة كما ذكره الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر فقال الخطابي في هذه الرسالة عصمنا الله تعالى وإياك من الأهواء المضلة والآراء المغوية والفتن المحيرة ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف وانتهجها بعدهم صالح الخلف وجنبنا وإياك مداحض البدع وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسوى الواضحة وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل وتعاطي الباطل والقول بما ليس لنا به علم والدخول فيما لا يعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه ونفعنا وإياك بما علمنا وجعله سببا لنجاتنا ولا جعله وبالا علينا برحمته وقفت على مقالتك وما وصفته من أمر ناحيتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في ذلك بأن للكلام وقاية السنة وجنة لها يذب به عنها ويذاد بسلاحه عن حريمها وفهمت ما ذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن توقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطلبونك بأدلة العقول ويأخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة أولئك من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم ردها ولا يسوغ لهم من جهة المعقول إنكارها فرأيت إسعافك به لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين وأنا أسأل الله تعالى أن يوفق لما ضمنت لك وأن يعصم من الزلل فيه. اعلم يا أخي أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت فشاعت في البلاد واستفاضت ولا يكاد يسلم من وهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق لقول الرسول ﷺ إن الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين أهله فلا تنكر ما تشاهده منه وسل الله العافية من البلاء واحمده على ما وهبه لك من السلامة. ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته سول لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن بوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان فيها كان أسوة العامة وعد واحدا من الجمهور والكافة فجرهم بذلك إلى التنطع في النظر والتبدع في مخالفة السنة والأثر ليبينوا عن طريق الدهماء ويتميزوا في الرتبة عن من هو دونهم في الفهم والذكاء واختدعهم بهذه المقدمة حتى أزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا في حقائقها ولم يخلصوا فيها إلى شفاء نفس ولا قبلوها بيقين ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض فتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله ﷺ ولغته المأثورة عنه وردوها على وجوهها وأساؤا في نقلها القالة فوجهوا إليهم الظنون ورموهم بالفرية ونسبوهم إلى ضعف السنة وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين وروح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصباح النور والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوا عقول وافرة وأفهام ثاقبة وكان في زمانهم هذه الشبهة والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله به من توفيقهم وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم والمتحذلقون بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ويدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة في الرأي وعيبا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان فإن قال هؤلاء فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها قلنا إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكن لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم واتباع الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وابين برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعوجة التي لا يؤمن الغيب على راكبها والابتداع والانقطاع على سالكها وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم أجمعين والاستدلال على معرفة الصانع سبحانه وتعالى وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام أنه لا يتوصل إليه إلا من الوجه الذي يزعمونه هو أن الله سبحانه وتعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمدا ﷺ بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وقال له يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وقال ﷺ في خطبته في حجة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ألا هل بلغت فكان ما أنزل الله تعالى وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله اليوم أكملت لكم دينكم فلم يترك ﷺ شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال فمعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تبرح فيهما الحاجة داعية أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر فيها البيان لكان قد كلفهم مالا سبيل لهم إليه وإذا كان على ما قلت وقد علمنا أن النبي ﷺ لم يدعهم من هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها إذ لا يمكن أحدا من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة من هذا النمط حرف واحد فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذاهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم قلت وهذا الكلام يشبه ما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته ومضمون ذلك أن هذه الطريقة محدثة مبتدعة مستغنى عنها منهي عن سلوكها لذلك وليس فيه بيان أنها باطلة ولكون أمثال هؤلاء لا يعتقدون بطلانها في الباطن وإن نهوا عن سلوكها وقع منهم أقوال مبنية على بعض مقدماتها وإن خالفت النصوص والمعقول والذي عليه حذاق الأئمة والعلماء أنها طريقة باطلة كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفلاسفة وهذا الحفيد وإن بين بطلانها لكن طريقته في الباطن أبطل من هذه وإن سماها طريقة البرهان ولهذا لما فرغ من الرد على الأشعرية في هذه الطريقة وذكر طريقة ثانية لأبي المعالي وهي أن العالم جائز والجائز لا بد له من مخصص تكلم عليها بما ليس هذا موضعه إلى أن قال: فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة وجود الباري ليست طرقا نظرية يقينية ولا طرقا شرعية يقينية وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على هذا المعنى أعني معرفة وجود الصانع وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين أحدهما أن تكون يقينية والثانية أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول قال وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقا نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة مثل قوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله ومثل قوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ومثل قوله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا إلى أشباه ذلك كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى ونحن نقول إن هذه الطريقة وان سلمنا وجودها ليست عامة للناس بما هم ناس ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها بالناس عبثا والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر نعم لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطا في صحة النظر مثل ما تكون الصحة شرطا في ذلك لاأن إماتة الشهوات هي التي تفيد بذاتها وإن كانت شرطا فيها كما أن الصحة شرط في التعلم وإن كانت ليست مفيدة له ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملتها حثا أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل أن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه قال وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية قال فإن قيل فإذا قد تبين أن هذه الطرق كلها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري سبحانه وتعلى فما هي الطريقة الشرعية التي نبه الكتاب العزيز عليها واعتمدتها الصحابة رضوان الله عليهم قلنا الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرىء الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين أحدهما طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها ولنسم هذا دليل العناية والطريقة الثانية ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل والنسم هذا دليل الاختراع ثم تكلم على شرح كل واحد من الطريقين قلت أما المعتزلة فطريقتهم هي طريقة الأعراض هم أهل هذه الطريقة وأشهر الطوائف بها وعنهم تلقاها من المعتزلة وبمثل هذه الطريقة ولوازمها كثر ذم السلف والأئمة في ما ذموه من الكلام ومن الجهمية فإنهم من أشهر الطوائف بهذا الكلام المبني على هذه الطريقة طريقة الأعراض والجواهر ومذهب الجهمية الذي هو نفي الصفات إذ البدع المضافة إلى الأشعرية هي تعلما من أصولهم وبذلك نعتهم من نعتهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة أيضا كما ذكره أبو نصر في رسالته إلى أهل زبيد قال ولقد حكى لي محمد بن عبدالله المالكي المغربي وكان فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البيرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه خلف المعلم وكان من فقهاء المالكية أنه قال الأشعري أقام أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول قال أبو نصر وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وعودته قلت وسبب هذا مقدمات هذه الحجة ونحوها حيث لم يبطلها وأبو الحسن الأشعري يذكر أن المعتزلة مع الفلاسفة كذلك كما ذكره في كتاب المقالات فقال الحمد لله الذي نظرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة الحائرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وأنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له عزة له ولا جلالة له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا عين لم تزل ولم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أن الباري ليس بعالم قادر سميع بصير حليم خليل في حقيقة القياس وكذلك ذكره في الإبانة وأما الفرقة الرابعة وهي الباطنية فلم يذكر لهم مقالة بعضها يرد وذلك لأنه منهم فإنه يرى أن ظواهر الشريعة في وصف الله تعالى واليوم الآخر له باطن يخالف ظاهره وأن فرض الجمهور اعتقاد ظاهره ومن تأوله فقد كفر وفرض الذين سماهم أهل البرهان اعتقاد باطنه ووجوب تأويله ومن لم يتأوله فقد كفر لكن قد ذكر عن الصوفية أنهم يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها عن العوارض الشهوانية ولم يرض هذه الطريقة بل ذكر أن إماتة الشهوات شرط في صحة النظر لا أنها تفيد المعرفة بذاتها وقد ذكر مثل هذا عن طائفة من الصوفية أنهم يرون في المعاد رأي الفلاسفة المشائين فتكون الصوفية معدودين عنده من الباطنية وإن كان اسم الباطنية يتناولهم عنده ويتناول الفلاسفة المشائين وحقيقة الأمر أن اسم الباطنية قد يقال في كلام الناس على صنفين أحدهما من يقول إن للكتاب والسنة باطنا يخالف ظاهرها فهؤلاء هم المشهورون عند الناس باسم الباطنية من القرامطة وسائر أنواع الملاحدة وهم الذين عناهم هذا الفيلسوف وهؤلاء في الأصل قسمان قسم يرون ذلك في الأعمال الظاهرة حتى في الصلاة والصوم والحج والزكاة وتحريم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك ونحو ذلك فيرون أن الخطاب المبين لوجوب هذه الواجبات وتحريم المحرمات ليس هو على ظاهره المعروف عند الجمهور ولكن لذلك أسرار وبواطن يعرفونها كما يقولون الصلاة معرفة أسرارنا والصوم كتمان أسرارنا والحج الزيارة إلى شيوخنا المقدسين فهؤلاء زنادقة منافقون باتفاق سلف أئمة الإسلام ولا يخفى نفاقهم على من له بالإسلام أدنى معرفة ثم خواصهم لا يقولون برفع هذه الظواهر عن الجمهور بل يقولون برفعها عن الخاصة كما يقولون في الأمور العملية فإن من دفع أن يكون الخطاب العلمي مرادا به هذه الأعمال فهو للخطاب العملي أعظم دفعا وهذا الصنف يقع في القرامطة المظهرين للرفض ويقع في زنادقة الصوفية من الاتحادية الحلولية ويقع في غالية المتكلمة لكن هؤلاء قد يدعون تخصيص الخطاب العام الموجب للصلاة والزكاة والصيام والحج وإن كان ذلك كذبا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام أنه باطل لا يدعون رفع حكم الخطاب مطلقا وأما عقلاء هذه الطائفة الباطنية مثل ابن رشد هذا وأمثاله فإنهم يقولون بالباطن المخالف للظاهر في العلميات وأما العمليات فيقرونها على ظاهرها وهذا قول عقلاء الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام مع أنهم في التزام الأعمال الشرعية مضطربون لما في قلوبهم من المرض والنفاق وتارة يرون سقوطها عنهم أو عن بعضهم دون العامة وابن سينا كان مضطربا في ذلك لكن له عهد قد التزم فيه موافقة الشريعة وهم في الجملة يرون موافقة الشريعة العملية أولى من مخالفتها وليس هذا موضع تفصيل مقالات الناس ولا يكاد تفصيل الباطل ينضبط وأما القسم الثاني فالذين يتكلمون في الأمور الباطنة من الأعمال والعلوم لكن مع قولهم إنها توافق الظاهر ومع اتفاقهم على أن من ادعى باطنا يخالف الظاهر فهو منافق زنديق فهؤلاء هم المشهورون بالتصوف عند الأمة وهم في ما يتكلمون فيه من الأعمال الباطنة وعلم الباطن يستدلون على ذلك بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة كما يستدل بذلك على الأعمال الظاهرة وذلك في علم الدين والإسلام كما للإنسان بدن وقلب وهؤلاء من أعظم الناس إنكارا على من يخالف الظاهر ممن فيه نوع تجهم دع الباطنية الدهرية وهم أشد إيمانا بما أخبر به الرسول ﷺ باطنا وظاهرا من غيرهم وأشد تعظيما للأعمال الظاهرة مع الباطنة من غيرهم ولكن يوجد فيهم من جنس ما يوجد في بقية الطوائف من البدعة والنفاق مثل من قد يرى الاستغناء بالعمل الباطن عن الظاهر ومن يدعي أن للقرآن باطنا يخالف ظاهره ونحو ذلك من صنوف المنافقين والزنادقة فهؤلاء بالنسبة إلى الصوفية الذين هم مشائخ الطريقة الذين لهم في الأمة لسان صدق بالنسبة إلى المنافقين الزنلدقة ومن متكلمي الفلسفة ونحوهم موجودين في الفقهاء بالنسبة إلى الفقهاء الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق فكما أن أولئك الأئمة الفقهاء برءاء من بدع أهل الكلام فضلا عن بدع الفلاسفة من الباطنية ونحوهم فكذلك المشائخ الصوفية برآء من بدع أهل التصوف فضلا عن من دخل فيهم من المتفلسفة وغيرهم فهذا أصل عظيم ينبغي معرفته واعتبر ذلك بما ثبت مقبولا من أئمة المشائخ كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرحي والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل ابن عبدالله التستري وعمرة وبن عثمان المكي وخلائق قبل هؤلاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الذين ذكرهم أبو نعيم الأصبهاني في كتاب حلية الأولياء وذكرهم أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه صفوة الصفوة من المتقدمين والمتأخرين فإن المصنفات في أخبار الزهاد ثلاثة أقسام قسم جرد النقل لأخبار القرون المفضلة من الصحابة والتابعين ونحوهم كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المشهور في الزهد فإنه صنفه على الأسماء وذكر فيه زهد الأنبياء والصحابة والتابعين وإن كان آخرون من المصنفين في الزهد كعبدالله بن المبارك وهناد بن السري صنفوا ذلك على الأبواب وقسم ذكروا أخبار الزهاد المتأخرين من حين حدث اسم التصوف كما فعل أبو عبدالرحمن السلمي في كتابه في طبقات الصوفية وكما فعل أبو القاسم القشيري في رسالته وابن خميس في مناقب الأبرار ونحو هؤلاء وقسم ذكروا المتقدمين والمتأخرين كما فعل الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما وهؤلاء المشائخ الموجودون في هذه الكتب ليس فيهم من هو معروف بإعتقاد مذهب الباطنية المخالف للظاهر بل لهم من الكلام في نقيض ذلك بل في رد البدع الصغار وحفظ الشريعة باطنا وظاهرا من الكلام والقوة في ذلك والموالاة عليه والمعاداة عليه مالا يوجد كثير منه للكثير من أئمة الفقهاء وحذاق الشيوخ أكثر عناية بالرد على الجهمية من كثير من حذاق الفقهاء لا سيما الكاملين في التصوف منهم وهم أهل الحديث كما كانوا يوصون الإنسان أن يكتب الحديث وإن تصوف فإن هؤلاء من أعظم الناس رعاية لما جاءت به الشريعة من الأقوال والأعمال ومحافظة على ما دل عليه ظاهرها مع تحقيق باطنها فيجمعون بين الظاهر والباطن وأما ما حكاه عنهم حيث قال وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طريقة نظرية أعني من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون المعرفة بالله وبغيره من الموجودات بشيء يلقي في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب فيقال هذه الأشياء إنما أخذها هذا من كلام أبي حامد فإنه كثيرا ما يذكر في كتبه أن الطريق إلى المعرفة هي هذا وهو يذكر ذلك في الكتب التي يذكر فيها المشائخ الصوفية كالإحياء وغيره ويذكر بعض ما في النصوص والآثار وكلام المشائخ الصوفية من الدلالة على تأثير العمل الصالح في حصول العلم فظن هذا وأمثاله أن هذا مذهب الصوفية كما حكاه وليس الأمر على ما قالوه بل مشائخ الصوفية الذين لهم في الأمة لسان صدق متفقون على وجوب تعلم العلم الشرعي وتدبر كتاب الله والنظر فيما ذكره فيه من الآيات والأمثال المضروبة ومتفقون أيضا على النظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات بل هم أعظم تجردا لكثير من النظر والاعتبار في الآيات المسموعة والآيات المشهودة من كثير من أهل الكلام والفقه وحالهم في ذلك أشهر عند من يعرفه من أن يحتاج إلى بسط وأما أنهم يقولون إن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة ما جاءت به الرسل من غير نظر في ذلك وتدبر فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا نعم فيهم ممن قد تجرد لبعض العبادات كالذكر ويوصون بذلك في الابتداء ليصفى به القلب ويثبت على الإسمان وينقطع عن الالتفاف إلى غير الله فليس ذلك مجرد ترك الشهوات بل نفس الذكر لله تعالى والاستحضار هو الذي يرقي النفس ويصلح القلب وينوره ويقويه ويثبته وإنما ترك الشهوات معين على ذلك أو شرط فيه لا أنها هي كل الطريق إذ الأمور العدمية لا تحصل بنفسها أمورا وجودية ولكن قد تكون شرطا في الأمور الوجودية وأيضا فهم وغيرهم من أهل الكلام والفقه والحديث يقولون إن المعارف التي يزعم النظار أنها لا تحصل إلا بالقياس قد تحصل بالفطرة البديهية الضرورية عند ترك النفس هواها وتوجهها إلى طلب الحق وهذا والله أعلم هو أصل المعنى الذي قال عنهم لأجله ما قال ولكن هذا ليس كلام الصوفية وحدهم بل حذاق المتكلمين يوافقونهم على هذا حتى أبو عبدالله الرازي ونحوه فإنه قال في مسألة وجوب النظر لما ذكر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر فطالب المعارض بالدليل فقال من جهة نفسه الطريق إلى تحصيل العلم بالأشياء إما الحس أو الخبر أو النظر والأولان لا يكونان طريقين فتعين النظر وقال من جهة المعترض لا نسلم أن طريق تحصيل هذه المعارف هذه الطرق الثلاث فما الدليل عليه ثم إنا نبين ها هنا طريقا آخر وهو تصفية النفس عن العلائق الجسدانية والهيئات البدنية فإنها متى خلت عن هذه الأمور حصلت لها عقائد يقينية وهذا هو طريق الصوفية وأصحاب الرياضة فإنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية وأما أصحاب النظر فقل ما يحصل لهم مثل هذا الجزم وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى معرفة الله تعالى فلا أقل من أن تكون من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله فإذا كان كذلك بطل ما ذكرتموه من الحجة وقال في جواب هذا قوله لم لا يجوز أن تكون التصفية طريقا إلى اكتساب المعارف قلنا العقائد الحاصلة عن التصفية إما أن تكون ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها شيء من العلوم النظرية أو لا يلزم فان لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية ولا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد تحصل لأصحاب الرياضة من المبطلين نحو اليهود والنصارى والدهرية قلت وقد رأيت بخط القاضي أبي البيان أحمد بن محمد بن خلف المقدسي حكاية مضمونها أن الشيخ أحمد الخيوقي المعروف بالكبدي أخبره أنه دخل عليه إمامان من أئمة الكلام أحدهما أبو عبدالله الرازي والآخر من شيوخ المعتزلة الذين بتلك البلاد بلاد خراسان وخوارزم فقالا لي قال يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت لهم نعم فقالا كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى كذا كلما أقام دليلا أظنه قال على صحة الإسلام أفسدته وكلما أقمت دليلا أفسده وقمنا ولم يقدر واحد منا يقيم دليلا على الآخر فقال فقلت ما أدري ما تقولان أنا أعلم علم اليقين فقالا فصف لنا علم اليقين قال فقلت هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها وهذا الجواب مناسب لما يعلمانه من حد العلم الضروري فإن العلم الضروري هو الذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه فبين أن اليقين الذي يحصل لنا أمر نضطر إليه يرد على قلوبنا لا نقدر على دفعه قال فقالا له كيف الطريق إلى هذه الواردات فدلهما على طريقة وهي الإعراض عن الشواغل الدنيوية والإقبال على ما يؤمر به من العبادات والزهد قال فقال الرازي أنا لا يمكنني هذا فإن لي تعلقات كثيرة وأما المعتزلي فقال أنا محتاج إلى هذه الواردات فقد أحرقت الشبهات قلبي فأخبره الشيخ بما يعمله من الذكر والخلوة فتعبد مدة فلما خرج من الخلوة قال يا سيدي والله ما الحق إلا ما يقوله هؤلاء المشبهة هذا معنى الحكاية أو نحو ذلك وذلك أن المعتزلة يسمون من أثبت الصفات مشبها وكان يعتقد النفي لا يرى أن الخالق يتوجه إليه القلب إلى جهة فوق ولا نحو ذلك فلما خلا قلبه من تلك العقائد والأهواء التي هي الظن وما تهوى الأنفس حصل له بالفطرة علوم ضرورية توافق قول المثبتة ومع هذا فالمشائخ الصوفية العارفون متفقون على أن ما يحصل بالزهد والعبادة والرياضة والتصفية والخلوة وغير ذلك من المعارف متى خالف الكتاب والسنة أو خالف العقل الصريح فهو باطل ومن زعم من المنتسبين إليهم أنهم يجدون في الكشف ما يناقض صريح العقل أو أن أحدهم يرد عليه أمر يخالف الكتاب والسنة بحيث يكون خارجا عن طاعة الرسول ﷺ وأمره أو أنه يحصل له علم مفصل بجميع ما أخبر به الرسول ﷺ وأمر به فهو عندهم ضال مبطل بل زنديق منافق لا يجوزون قط طريقا يستغنى به عن اتباع الرسول ﷺ فيما يخبر به الرسول ويأمر به فضلا عن أن يسوغ له مخالفة الرسول ﷺ في أمره وخبره وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولو جاز ذلك لأحد لكان مثل الرسول ﷺ ولم يكن محتاجا إلى متابعته في خبره وأمره وهذه حال الذين إذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله وقال تعالى أيطمع كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ولكن هؤلاء الضالون المنافقون منهم المسوغون للاستغناء عن الرسول بكشفهم أو مشاهدتهم أو لمخالفته بخاصة انفردوا بها عن جميع المؤمنين هم في ذلك بمنزلة كثير من أهل الكلام الظانين أنهم يصلون بالأدلة العقلية إلى ما يستغنون به عن الرسول وأنهم يدركون بمقاييسهم العقلية نقيض ما أخبر به الرسول وهذه الزندقة والنفاق في الطائفتين هي من حال المتفلسفة والباطنية ونحو هذه الأصناف المعروفين بالنفاق وأما قوله ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا فيقال الشارع لم يأمر بالأعمال لمجرد كونها معينة للنظر على حصول العلم بل هذا إنما يظنه هؤلاء المتفلسفة ونحوهم من المبطلين الذين يظنون أن غاية الكمال الإنساني المطلوب هو أن يكون الإنسان عالما وهذا في الجهل كما قد بسطناه في غير هذا الموضع بل مقدمهم الجهم بن صفوان لما ادعى أن المعرفة في القلوب تنفع وإن لم يكن معها عمل أطلق غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وغيره تكفير من يقول ذلك فكيف بمن يقول إنها المقصودة فقط وما سواها وسيلة هذا لعمري لو كان مقصودهم المعرفة التي دلت عليها الرسل فكيف وهم يعنون بالمعرفة عقائد أكثرها باطلة مناقضة للشرع والعقل بل كل واحد من علم القلب وعمله الذي أصله محبة القلب هو أمر مأمور به مقصود للشارع فالعلم بمنزلة السبب والأصل يوجب المحبة والإرادة وطلب المحبوب المعبود ثم كلما ازداد العبد معرفة ازداد محبة وكلما ازداد محبة ازداد عبادة والمطلوب المقصود الذي هو الغاية هو الله سبحانه وأن يكون العبد عابدا له قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وليست عبادته مجرد الأعمال البدنية بل أصل العبادة معرفته وكمال محبته وكمال تعظيمه وهذه الأمور تصحبه في الدار الآخرة فكل من النظر والعمل مأمور به مقصود للشارع وكل منهما معين للآخر وشرط في حصول المقصود بالآخر فإن الناظر مع سوء قصده وهواه لا يحصل له المطلوب لا من العلم ولا من العمل والعابد مع فساد نظره لا يحصل له المقصود لا من العلم ولا من العمل بل كلاهما واجب لنفسه وشرط للآخر فلا بد من سلوك الطريقين معا ليس ذلك في وقت واحد ولا بد أن يكون ذلك جميعه موافقا لما أخبر به الرسول ولما أمر به فإذا حصل هذا وهذا كان العبد من الذين هم على هدى من ربهم الذين هم المفلحون وإلا كان من المغضوب عليهم أو الضالين مثل من اقتصر على النظر دون العمل أو على العمل دون النظر أو جمعهما وأعرض عن كون نظره وعمله على الوجه المشروع المأمور به فكيف بمن كان له نظر مجرد غير شرعي كحال كثير من المتفلسفة والمتصوفة فهذا هذا والله أعلم ولا ريب أن من أشهر مشائخ الصوفية وأعظمهم عندهم وعند العامة في عصر أبي المعالي الجويني هو شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري وأحوالهم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما فالينظر ما ذكر هؤلاء في مصنفاتهم ولهذا كانت هذه الحجة التي جعلها المتكلمون الجهمية الدين وهي حجة الأعراض مستلزمة في الحقيقة لحدوث الرب وتعطيله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وكان في المعتزلة أخذها من أخذها من الأشعرية وكان بينها وبين مذهب الدهرية من الملازمة ما تؤل إليه كما نبهنا عليه تكلم الناس بذلك حتى قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري في كتابه المشهور في ذم الكلام وأهله ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما ادعته من أمور الفلاسفة ولم يقف فيها إلا على التعطيل البحت وإن قطب مذهبهم ومنتهى عقدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم إن الفلك دوار والسماء خالية وأن قولهم إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فرارا من الإثبات وذهابا عن التحقيق فإن قولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ثم قالوا لا صورة له ثم قالوا لا شيء فإنه لو كان شيئا لا أشبه الأشياء حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا الباري لا صفة ولا لا صفة خفوا على قلوب ضعفى المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم إذ كان ظاهر تعلقهم القرآن وإن كان اعتصاما به من السيف واجتنابا به منهم وإذ هم يوردون التوحيد ويخادعون المسلمين ويحملون الطيالسة فافتضحوا بمعايبهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكتهم فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسن العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية من مقالات علماء المسلمين فيهم ودأب الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة فعلت عليهم الوحشة وطالت عليهم الذلة وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صبغا تكون ألوح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أوليهم تحدوا بذلك المساغ ليتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخاريق ترائا للعين بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يكسى لحاء السنة وعقد الجهمية تنحل ألقاب الحكمة يردون على اليهود قولهم يد الله مغلولة فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونون أسوء حالا من اليهود لأن الله تعالى أثبت الصفة ونفى النعت واليهود أثبتت الصفة والنعت وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا النعت ويردون على النصارى في مقالهم في عيسى وأمه فيقولون لا يكون في المخلوق إلا المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السبحانة فاسمعوا الآن يا ذوي الألباب وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك قالوا قبح الله مقالتهم أن الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية ابن الحكم رضي الله عنه أين الله وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا يدرى أين هو ولا يوصف بمكان وليس هو في السماء وليس هو في الأرض وأنكروا الجهة والحيز وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلاما وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان ثم قالوا ليس له صوت ولا حرف وقالوا هذا ثاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد به النفس وأريد به النفس وهذا صوت القاري أما ترى منه حسا وغير حس وهذا لفظه أو ما نراه مجازا به حتى قال رأس رؤوسهم أو يكون قرانا من لبد وقال آخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تعالى تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم القرآن غير موجود لفظية الجهمية الذكور بمرة والأشعرية الإناث بعشرة مرات وأولئك قالوا لا صفة وهؤلاء يقولون وجه يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين لعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جداراهما يتراءيان ويد ليد المنة والعطية والأصابع كما يقال خراسان هي أصبعي الأمير والقدمين كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي أنا مالك أمره وقال الكرسي القلم والعرش الملك والضحك الرضا والاستواء الاستيلاء والنزول القرب والهرولة مثله فشبهوا من وجه وأنكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر وردوا الأصل ولم يثبتوا شيئا ولم يبقوا موجودا ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة فقالوا لا نفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد عيابا عنها وأعيا ذهابا منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمش عند سماعها وكذبوا بل التفسير أن يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله وقالت اليهود يد الله مغلولة وإنما قالوها بالعبرانية وكان يكتب رسول الله ﷺ كتبا بالعربية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب إليه بالسريانية فيعبره له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يدعي بكل لسان باسمه فيجيب ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف ثم قالوا ليس ذات الرسول بحجة وقالوا ما هو بعد ما مات بمبلغ فلا تلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم على ثلاثة أشياء أنه ليس في السماء رب ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار رحمه الله يحكم به عليهم وإن كانوا موهوها ووروا عنها أو استوحشوا من تصريحها فإن حقائقها لازمة لهم وأبطلوا التقليد فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفروا السلف وسموا الأثبات تشبيها فعابوا القرآن وضللوا الرسول ﷺ فلا تكاد ترى منهم رجلا ورعا ولا للشريعة معظما ولا للقرآن محترما ولا للحديث موقرا سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول بالنظر فلا هو طالب ثاره ولا متتبع أخباره ولا متأصل عن سنته ولا هو راغب في أسوته يتقلد مرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلا من العلم لا تنفذلهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا رابتك لبسوا ظلة الهوى وسلبوا هيبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب وقد ذكر قبل ذلك باب تعظيم من سن سنة سيئة أو دعا إليها وذكر الأحاديث في هذا الباب ثم ذكر حديثا رواه من حديث عثمان بن سعيد حدثنا يحيى بن الحماني حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح حدثني أبو صخر حميد بن زياد أن نافعا أخبره عن ابن عمر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول سيكون في أمتى مسخ وذلك في قدرية وزندقية قال فلم يكن بد أن يكون ما قال هو كائن كائنا فلم يظهر شيء من ذلك حتى قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلما وهي إحدى مصيبتي هذه الأمة اللتين لا ثالث لهما توازنهما التي ثانيتها فتنة الدجال بعد موت النبي ﷺ وقد روي في الحديث أنه من نجا من ثلاث موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال فلما قتل ذو النورين كرم الله وجهه ورضي عنه بين ظهراني المسلمين في الشهر الحرام وفي حرم الرسول عليه السلام بأعين المسلمين وانشقت العصا وتفرقت الجماعة تشامست الأعين وتجادلت الأنفس واختلفت الآراء وتباعدت القلوب وساءت الظنون واشتعلت الريب واستقرت التهم وجدت كل فتنة فرصتها فلفضت غصتها واشتغل الرعآء وأسلم النشا وتزاحف أئمة الهدى رغبة في زهرة الدنيا فأخذت الغواة أزمة الضلالة فتهوشت لها قلوب أهل الغفلة ممن أظهر في المسلمين من زيغ الدين الكلام في التوحيد تكلفا وهي الزندقة الأولى وهي ثلاث قواعد نجم بعضها على إثر بعض الأولى منها القول بالقدر وهي فتنة البصرة ثم نصب السلف وهي فتنة الكوفة ثم إنكار الكلام لله وهي فتنة المشرق وأما فتنة القدر فأول من تكلم بها معبد الجهني رجل من البصرة وكان عنده حظ من العلم يقال له معبد بن خالد ويقال معبد بن عبدالله ابن عويمر مات بعد الهزيمة وكان يومئذ مع الأشعث وأصابته جراحة وهو أول من تكلم بالقدر وهو الذي تبرأ منه عبدالله بن عمر بن الخطاب فتكلم عليه عمرو بن عبيد وجادل به غيلان وغيلان هو ابن أبي غيلان أبو مروان من موالي عثمان بن عفان وكان عنده حظ من العلم تكلم به أمام عبدالملك بن مروان واستتابه عمر بن عبدالعزيز ثم ظهر منه تكذيب التوبة وصلب على باب الشام بأخزى حالة لقيها بشر قصته قد تقصيتها في كتاب تكفير الجهمية وأما عمرو بن عبيد وهو عمرو بن عبيد بن كيسان بن ثابت مولى بني تيم البصري مات سنة ثلاث وأربعين ومائة ومات في طريق مكة فإنه أول من بسط لسانه وأصبح رأسه ونظم له كلاما ونصبه إماما ودعا إليه ودل عليه فصار مذهبا يسلك وهو امام الكلام وداعية الزندقة الأول ورأس المعتزلة سمي به لاعتزال حلقة الحسن البصري وهو الذي لعنه إمام أهل الأثر مالك بن أنس الأصبحي وإمام أهل الرأي النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة وحذر منه إمام أهل المشرق عبدالله بن المبارك الحنظلي وقد قدمنا أسانيد تلك الأقوال فسلط الله عليه وعلى من استتبع واخترع سيفا من سيوف الإسلام وهو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني واسم أبيه كيسان من أهل البصرة فهتك أستاره وأظهر عواره ووسمه باللعنة وألحق به بلاء تلك الفتنة وهو الذي يقول قتيبة بن سعيد إذا رأيت الرجل من أهل البصرة يحب أيوب فاعلم أنه على الطريق وقال رجل لأحمد بن حنبل من السني قال من أين أنت قال من أهل البصرة قال أتحب أيوب السختياني قال نعم قال سني قلت هذه قصة أهل البصرة وأما قصة غيلان فظهرت بليته بالشام وافتتن بها ثور بن يزيد ومكحول الفقيه وجماعة من أهل العلم بتلك الناحية فسلط الله عز وجل عليهم ريحانة أهل الشام أبا عمرو عبدالرحمن بن عمر بن محمد الأوزاعي فلحظهم بالصغار ووضعهم من المقدار وبسط عليهم لسانا أعطي بيانا وظن عليهم ببشارة الوجه وطلاقة اللقاء حتى ذل به الأعزة في سبيل الضلالة وعز به الأذلة في سبيل السنة بحمد الله رب العالمين ومنه وأما فتنة نصب السلف فإن الكوفة دارها التي خرجتها ثم طار في الآفاق شررها واستطار فيها ضررها وإنما هاجتها أحلام فيها ضيق وأشربتها قلوب فيها حمق ولها عروق خفية السلامة للقلوب في ترك إظهار بعضها وأربابها أحمق خلق الله تعالى عرضت تساوي بين علي بن أبي طالب وبين أبي بكر وعمر ثم أخذت تفضله عليهما ثم جعلت توليه عليهما وتخاصمهما له وتظلمهما وتوليه حقهما بالقياس العقلي ترفعه ببنت الرسول ﷺ وسبت الكهول رضي الله عنهما ثم جاءت تعذله بالمصطفى ﷺ وتشركه في وحي السماء ثم خطاب جبريل في نزوله فخلت الأمة من النبوة وأحوجتها إلى علي رضي الله عنه ثم ادعت الألوهية ثم ادعتها لولده قال الإمام الشعبي لو كانوا دوابا لكانوا حمرا ولو كانوا طيرا لكانوا رخما فاستظهرت بهؤلاء الغالية أرباب القلوب المريضة فتظاهرت على نصب السلف الصالح الذين هم الناقلون وفيهم قانون الدين وديوان الملة فترى أمثلهم طريقة وأصوبهم وثيقة من يتستر بفضائل علي رضي الله عنه ويربأ به عن منزله الذي أنزله الله تعالى من الشرف ثم روى من طريق أبي العباس بن عقدة حدثني عبدالله بن أحمد بن حنبل قال قرأت على أبي حدثنا أبو الحباب عن عبدالأعلى هو ابن عامر الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا تصلح الصلاة إلا على النبي ﷺ فلما تعاون أولئك الغواة بتك الضلالة وتعاونت عليها قيض الله لها إماما جعله حساما وهو أبو محمد عبدالله بن إدريس الأودي فصرح بقدحهم ودفع في نحرهم فنادى على خباياهم وأودى عن خفاياهم فلم تكابد الأمة من شؤم شيء ما كابدت من شؤم تلك الفتنة لم يكد قلب مسلم يسلم شوب منها إلا من رحم ربك فعصم وأما فتنة إنكار الكلام لله عز وجل فأول من بدعها جعد بن درهم فلما ظهر جعد قال الزهري وهو أستاذ أئمة الإسلام حينئذ ليس الجعدي من أمة محمد ﷺ ورواه بإسناده من طريق ابن أبي حاتم فأخذ منه جهم بن صفوان هذا الكلام فبسطه وطراه ودعا إليه فصار به مذهبا لم يزل هو يدعو إليه الرجال وامرأته زهرة تدعو إليه النساء حتى استهويا خلقا من خلق الله كثيرا فأما الجعد فكان جذري الأصل فيما أخبرنا وأسنده عن قتيبة بن سعيد ولكن جهم بسط ذلك المذهب وتكلم فيه وهو صاحب ذلك المذهب الخبيث وكانوا حذروه فيما أخبرناه وأسند ذلك من طريق ابن أبي حاتم إلى مقاتل بن حيان قال دخلت على عمر بن عبدالعزيز فقال من أين أنت قلت من أهل بلخ قال كم بينك وبين النهر قلت كذا فرسخا قال هل ظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم قلت لا قال سيظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم يهلك خلقا من هذه الأمة يدخله الله وإياهم النار مع الداخلين فأما الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبدالله القسري على رؤوس الخلائق وماله يومئذ نكير وذلك سنة نيف وعشرين ومائة وأما الجهم وكان بمرو فكتب هشام بن عبدالملك إلى واليه على خراسان نصر بن سيار يأمره بقتله فكتب إلى سلم بن أحوز وكان على مرو فضرب عنقه بين نظارة أهل العلم وهم يحمدون ذلك فهذه قصة فتنة أهل المشرق بها بسطت ومهدت ثم سارت في البلاد فقام لها ابن أبي داود وبشر بن غياث فملآ الدنيا محنة والقلوب فتنة دهرا طويلا فسلط الله تعالى عليهم علما من أعلام الدين أوتي صبرا في قوة اليقين أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني فشد المئزر وأبى الفتنة وجاد بالدنيا وظن بالدين وأعرض عن الغضاضة على طيب العيش ولم يبال في الله حقه الأقران ونسي قلة الأعوان حتى هد ما شدوا وقد ما مدوا فأما قول الطائفة التي قالت بالقدر فأرادت منازعته في الربوبية أو وقعت فيها فضاهت المجوس الأولى فهم الزنادقة التي كانت تشوش على الأولين دينهم ولعنهم الله تعالى على لسان سبعين نبيا قال رسول الله ﷺ أنا آخرهم وأما الذين قالوا في السلف الصالح بالقول السيء فأرادت القدح في الناقل لأن القدح في الناقل إبطال للمنقول فأرادوا إبطال الشرع الذي نقلوا وإنما تعلقوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تسلحا وروى عن أبي ربيع الزهراني قال كان من هؤلاء الجهمية عندنا رجل كان يظهر من ذاته الترفض وانتحال حب علي رضي الله عنه فقال له رجل ممن يخالطه ويعرف مذهبه قد علمت أنكم لا ترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه فما الذي حدا بكم على الترفض وحب علي قال إذا أصدقك إن أظهرنا الذي نعتقده رمينا بالكفر والزندقة وقد وجدنا أقواما ينتحلون حب علي ويظهرونه ويقعون بمن شاوا فنسبوا بذلك إلى الرفض والتشيع ويقعون ما شاوا ويقولون ما شاوا وقد حبس الخليفة رجلا في الزندقة فدخل عليه رجل فقال له قد كنا نعرفك بسبب الصحابة والرفض فما خرج بك إلى الزندقة فقال ما بلغماي أو ما جنى علي أبو بكر وعمر لولا بغض صاحبهما قال وقد صدق ما رأيت من رجل يزن بشيء من الرفض إلا كانت تخرج من فيه أشياء لا تشبه كلام المسلمين وأما الذين قالوا بإنكار كلام الله عز وجل فأرادوا إبطال الكل لأن الله تعالى إذا لم يكن على زعمهم الكاذب متكلما بطل الوحي وارتفع مر والنهي وذهبت الملة عن أن تكون سمعت فلا يكون جبريل عليه السلام سمع ما بلغ ولا الرسول ﷺ أخذها بعد فيبطل التكلم والسمع والتقليد وتبقى العقول الذي به قاموا وهذا قول عثمان بن سعيد أن جهما إنما بنى زندقته على نفي الكلام لله عز وجل فهذه القواعد الثلاث أبنية الزندقة الأولى وهم الزنادقة الذكور كما سمعت يحيى بن عمار يقوله وروى بإسناده عن زر بن صالح السدوسي قال قلت لجهم بن صفوان هل نطق الرب قال لا قلت فينطق قال لا قلت فمن يقول لمن الملك اليوم ومن يرد عليه لله الواحد القهار فقال لا أدري زادوا في القرآن ونقصوا ثم قال باب في كلام الأشعري وذكر ما قدمناه عنه وذكر قبل هذا قال سمعت عدنان بن عبدة النميري يقول سمعت أبا عمر البسطامي كان أبو الحسن الأشعري أولا ينتحل الاعتزال ثم رجع فتكلم عليهم وإنما مذهبه التعطيل إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه وقال سمعت أحمد بن أبي نصر يقول رأينا محمد بن الحسين السلمي يلعن الكلابية قال وسمعت عبدالرحمن بن محمد بن الحسن يقول وجدت أبا حامد الإسفرائيني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله قال وسمعت عبدالواحد بن ياسين المؤدب أبا جعفر يقول رأيت بابين قلعا من مدرسة أبي الطيب بأمره في شيء شائن حضر أبا بكر بن فورك فصل وأصل هؤلاء المتكلمين من الجهمية المعتزلة ومن وافقهم الذي بنوا عليه هذا هو مسألة الجوهر الفرد فإنهم ظنوا أن القول بإثبات الصانع وبأنه خلق السموات والأرض وبأنه يقيم القيامة ويبعث الناس من القبور لا يتم إلا بإثبات الجوهر الفرد فجعلوه أصلا للإيمان بالله واليوم الآخر أما جمهور المعتزلة ومن وافقهم كأبي المعالي وذويه فيجعلون الإيمان بالله تعالى لا يحصل إلا بذلك وكذلك الإيمان باليوم الآخر إذ كانوا يقولون لا يعرف ذلك إلا بمعرفة حدوث العالم ولا يعرف حدوثه إلا بطريقة الأعراض وطريقة الأعراض مبنية على أن الأجسام لا تخلو منها وهذا لم يمكنهم أن يثبتوه إلا بالأكوان التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فعلى هذه الطريقة اعتمد أولوهم وآخروهم حتى القائلين بأن الجواهر لا تخلو عن كل جنس من أجناس الأعراض وعن جميع أضداده إن كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين وإن قدر عرض لا جنس له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه إذا لم يمنع مانع من قبوله فإن هذا أبلغ الأقوال وهو قول الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم فإنه لم يمكنهم أن يثبتوا أن الجسم لا يخلو من الأعراض إلا بالأكوان ثم عند التحقيق لم يمكنهم أن يثبتوا ذلك إلا بالاجتماع والافتراق فإن منهم من يقول السكون أمر عدمي ومنهم من يقول الكون الذي هو الحركة والسكون إنما يلزم إذا كان الجسم في مكان فأما إذا لم يكن في مكان فيجوز خلوه عن الحركة والسكون كما يقوله طوائف كالذين قالوا ذلك من الكرامية فآل الأمر بهذه الطريقة إلى الاجتماع والافتراق وعلى ذلك اعتمد أبو المعالي ومعلوم أن قبول الاجتماع والافتراق لم يمكنهم حتى يثبتوا أن الجسم يقبل الاجتماع والافتراق وذلك مبني على أنه مركب من الأجزاء التي هي الجواهر المنفردة فصار الإقرار بالصانع مبنيا عند هؤلاء المتكلمين على إثبات الجوهر الفرد ثم الذين ذكروا أن لهم طريقا إلى إثبات الصانع غير هذه كأبي عبدالله الرازي وغيره وهو الذي عليه أبو الحسن الأشعري وغيره من الحذاق قال من قال من هؤلاء إن إثبات المعاد موقوف على ثبوت الجوهر الفرد وهذا قول أبي عبدالله الرازي وغيره وهو مخلص من جعله الأصل في الإيمان بالله فجعله هو الأصل في الإيمان بالمعاد مع كونه يجعله أصلا في نفي الصفات التي ينكرها كما سيأتي بيانه قال في أكبر كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في الأصل السابع عشر اعلم أن معظم الكلام في المعاد إنما يكون مع الفلاسفة ولهم أصول يفرعون شبههم عليها فيجب علينا إيراد تلك الأصول أولا ثم الخوض بعدها في المقصود فلا جرم رتبنا الكلام في هذا الأصل على أقسام ثلاثة القسم الأول في المقدمات وفيه ثمان مسائل المسألة الأولى في الجزء الذي لا يتجزأ لا شك في أن الأجسام التي شاهدناها قابلة للانقسامات والانقسامات التي يمكن حصولها فيها إما أن تكون متناهية أولا تكون فيخرج من هذا القسم أقسام أربعة أولها أن تكون الانقسامات حاصلة وتكون متناهية وثانيها أن تكون حاصلة وتكون غير متناهية وثالثها ألا تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها تكون متناهية ورابعها أن تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها تكون غير متناهية والأول مذهب جمهور المتكلمين والثاني هو مذهب النظام والثالث هو مذهب بعض المتأخرين والرابع هو مذهب الفلاسفة فتخلص من هذا أن الخلاف بيننا وبين الفلاسفة في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن الجسم مع كونه قابلا للانقسام هل يعقل أن يكون واحدا ثانيهما أنه بتقدير أن يكون واحدا هل يعقل أن يكون قابلا للانقسامات غير المتناهية وأعجب من هذا أنهم يجعلون إثبات الجوهر الفرد دين المسلمين حتى يعد منكره خارجا عن الدين كما قال أبو المعالي وذووه اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزيها وانقسامها حتى تصير أفرادا وكل جزء لا يتجزأ ولا ينقسم وليس له طرف واحد وجزء شائع ولا يتميز وإلى هذا صار المتعمقون في الهندسة وعبروا عن الجزء النقطة فقالوا النقطة شيء لا ينقسم وصار الأكثرون من الفلاسفة إلى أن الأجسام لا تتناهى في تجزيها وانقسامها وإلى هذا صار النظام من أهل الملة ثم اعترفوا بأنه تنتهي قسمتها بالفعل ولا تنتهي قسمتها بالقوة ويعنون بالقوة صلاحية الجزء للانقسام والعجب أنهم اتفقوا على أن الأجرام متناهية الحدود والأقطار منقطعة الأطراف والأكتاف وكذلك على كل جملة ذات مساحة فإن لها غايات ومنقطعات بالجهات ثم قضوا بأنها تنقسم أجزاء بلا نهاية والجملة المحدودة كيف تنقسم أجزاءا لا تتناهى ولا يحاط بها قلت والكلام في ذلك من وجهين أحدهما أنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يبنوا شيئا من أمر الدين على ثبوت الجوهر الفرد ولا انتفائه وليس المراد بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ فإنه قد تجدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية يعبر بها عما دل عليه كلامهم في الجملة وذلك بمنزلة تنوع اللغات وتركيب الألفاظ المفردات وإنما المقصود أن المعنى الذي يقصده المثبتة والنفاة بلفظ الجوهر الفرد لم يبن عليها أحد من سلف الأمة وأئمتها مسألة واحدة من مسائل الدين ولا ربطوا بذلك حكما علميا ولا عمليا فدعوى المدعى انبناء أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ذلك يضاهي دعوى المدعي أنما بينوه من الإيمان بالله واليوم الآخر ليس هو على ما بينوه بل إما أنهم ما كانوا يعلمون الحق أو يجوزوا الكذب في هذا الباب لمصلحة الجمهور كما يقول نحو ذلك من يقوله من المنافقين من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم من الباطنية فإنهم إذا أثبتوا من أصول الدين ما يعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول الدين لزم قطعا تغيير الدين وتبديله وبهذا زاد أهل هذا الفن في الدين ونقصوا منه علما وعملا وإذا كان كذلك لم يكن الخوض في هذه المسألة مما يبنى الدين عليه بل مسألة من مسائل الأمور الطبيعية كالقول في غيرها من أحكام الأجسام الكلية وأيضا فإنه أطبق أئمة الإسلام على ذم من بنى دينه على الكلام في الجواهر والأعراض ثم هؤلاء الذين ادعوا توقف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر على ثبوته قد شكوا فيه وقد نفوه في آخر عمرهم كإمام المتأخرين من المعتزلة أبي الحسين البصري وإمام المتأخرين من الأشعرية أبي المعالي الجويني وإمام المتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين أبي عبدالله الرازي فإنه في كتابه بعد أن بين توقف المعاد على ثبوته وذكر ذلك غير مرة في أثناء مناظرته للفلاسفة قال في المسألة لما أورد حجج نفاة الجوهر الفرد فقال وأما المعارضات التي ذكروها واعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري هو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن أيضا نختار التوقف فأي ضلال في الدين وخذلان له أعظم من مثل هذا الوجه الثاني دعواهم أن هذا قول المسلمين أو قول جمهور متكلمي المسلمين ومن المعلوم أن هذا إنما قاله أبو الهذيل العلاف ومن اتبعه من متكلمي المعتزلة والذين أخذوا ذلك عنهم وقد نفى الجوهر الفرد من أئمة المتكلمين من ليسوا دون من أثبته بل الأئمة فيهم أكثر من الأئمة في أولئك فنفاه حسين النجار وأصحابه كأبي عيسى برغوث ونحوه وضرار بن عمرو وأصحابه كحفص الفرد ونحوه ونفاه أيضا هشام بن الحكم وأتباعه وهو المقابل لأبي الهذيل فإنهما متقابلان في النفي والإثبات ونفته الكلابية أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب وذووه ونفاه أيضا طائفة من الكرامية كمحمد بن صابر ونفاه ابن الراوندي وليس نفي هؤلاء موافقة منهم لا للفلاسفة ولا للنظام بل قول النظام ظاهر الفساد وكذلك قول الفلاسفة أيضا وأكثر هؤلاء الذين ذكرناهم من النجارية والضرارية والكلابية والكرامية وغيرهم لا يقولون في ذلك بقول النظام والفلاسفة ولا يقولون بإثباته وذلك أن دعوى الفلاسفة قبول الأجسام والحركات والأزمنة للانقسام إلى غير نهاية باطل كما ذكره المثبتون وكذلك قول مثبتيه باطل بما ذكره نفاته من أنه لا بد من انقسامه حتى إن أبا المعالي وغيره اعترفوا بأنه غير محسوس ومن تدبر أدلة الفلاسفة القائلين بما لا يتناهى من الانقسام القائلين بوجود الجزء الذي لا يقبل الانقسام وجد أدلة كل واحدة من الطائفتين تبطل الأخرى والتحقيق أن كلا المذهبين باطل والصواب ما قاله من قاله من الطائفة الثالثة المخالفة للطائفتين أن الأجسام إذا تصغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغر فإنه يستحيل هواء أو ترابا فلا يبقى موجود ممتنع عن القسمة كما يقوله المثبتون له فإن هذا باطل بما ذكره النفاة من أنه لا بد أن يتميز جانب له عن جانب ولا يكون قابلا للقسمة إلى غير نهاية فإن هذا أبطل من الأول بل يقبل القسمة إلى حد ثم يستحيل إذا كان صغيرا وليس استحالة الأجسام في صغرها محدودا بحد واحد بل قد يستحيل الصغير وله قدر يقبل نوعا من القسمة وغيره لا يستحيل حتى يكون أصغر منه وبالجملة فليس في شيء منها قبول القسمة إلى غير نهاية بل هذا إنما يكون في لمقدرات الذهنية فأما وجود مالا يتناهى بين حدين متناهيين فمكابرة وسواء كان بالفعل أو بالقوة ووجود موجود لا يتميز جانب له عن جانب مكابرة بل الأجسام تستحيل مع قبول الانقسام فلا يقبل شيء منها انقساما لا يتناهى كما أنها إذا كثرت وعظمت تنتهي إلى حد تقف عنده ولا تذهب إلى أبعاد لا تتناهى ولكن بنى هذه الطائفة المشهورة من المتكلمين على مسمى هذا الاسم الهائل الذي هو الجوهر الفرد عندهم وهو عند التحقيق مالا يمكن أحد أن يحضر بجنسه باتفاقهم وعند المحققين لامس له وما أشبهه بالمعصوم المعلوم الذي ابتدعته القرامطة والمنتظر المعصوم الذي ابتدعته الرافضة والغوث الذي ابتدعته جهال الصوفية هو نظير ما يعظم هنا بل هؤلاء الفلاسفة المشائين وأتباعهم في الجوهر المجرد وهو ما يدعونه في النفوس والعقول من أنها شيء لا داخل العالم ولا خارجه ولا متحرك ولا ساكن ولا متصل بغيره ولا منفصل عنه وأمثال هذه الترهات فقول هؤلاء في إثبات هذا الجوهر المجرد كقول أولئك في الجوهر الفرد ثم إن هؤلاء وهؤلاء يدعون أن هذا هو حقيقة الإنسان هؤلاء يدعون أنه هذا الجوهر المجرد وهؤلاء يقولون إنه جوهر واحد منفرد أو جواهر كل منها يقوم به حياة وعلم وقدرة أو تقوم الأعراض المشروطة بالحياة ببعضها وثبت الحكم للجملة وعلى هذه المقالات يثبتون المعاد فصل ثم قال الرازي العاشر أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته أقرب إلى العقول من معرفة ذات الله تعالى ثم المشبهة وافقونا على أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف حكم الحس والخيال يقال له إن أردت أن أفعال الله تعالى وصفاته تثبت بلا مثال فهذا حق فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله كما قال تعالى ليس كمثله شيء وقال تعالى فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون وذلك أنا لا نعلم الشيء إلا أن ندركه نفسه أو ندرك ما قد يكون مماثلا له أو مشابها له من بعض الوجوه والله يعلم الأشياء كلها ونحن لا نعلم فليس لنا أن نضرب له الأمثال بلا علم وإن أراد به أن يثبت ما يعلم بالحس أو العقل عدمه فهذا باطل وقد تقدم هذا في أول هذه المقدمة وبينا الفرق بينما يعلم عدمه وبين ما يعلم عدم مثاله كما بينا الفرق بينما يعلم عدمه وبينما لا يعلم وجوده أو كيفيته وهذا الأصل ينبغي استبصاره واستذكاره فإنه بسبب الاشتباه فيه يقع من لبس الحق بالباطل ما الله به عليم وأيضا فإنه لا اختصاص للحس والخيال بكونهما يثبت على خلاف حكمهما فإنه إن أراد أنها تنافي ما علم بالحس والخيال تنافي معرفة أفعاله لأن الحس والخيال يدرك عدم ذلك فهذا باطل ولو أراد أنه يثبت من أفعاله مالا يعلم نظيره أو مالا يحيط العلم بحقيقته بحس ولا خيال فيقال وماله لا يعلم نظيره بعقل ولا علم ولا قياس فلا فرق بين ثبوتها بهذا الاعتبار على خلاف حكم الحس والخيال أو على خلاف حكم العلم والعقل وهذا الكلام أيضا كلام نافع في هذه المواضع وليس لأحد أن يفرق بينهما بأن العلم والعقل يدرك من أفعاله مالا يدركه الحس والخيال لوجهين أحدهما أنه لا فرق في هذا بين أفعال الله تعالى وصفاته وبين سائر الأشياء فإن الإنسان إذا أحس أمرا أو تخيله حصل له من العلم والعقل بسبب ذلك ما لم يدركه الحس والخيال كما يعقل الأمور العامة الكلية عند إحساس بعض أفرادها بالقياس والاعتبار ولا يجوز أن يقال في جميع المعقولات إنها ثبت على خلاف حكم الحس والخيال وإن أراد أحد بهذا اللفظ هذا المعنى لم يضر ذلك إذ يكون التقدير أن الإنسان ينال بعقله من العلم مالا يناله بحسه وهذا لا نزاع فيه لكن لا يقتضي ذلك تنافي المحسوس والمعقول بل ذلك يوجب تصادقهما وموافقتهما الوجه الثاني إن الحس يمكنه إدراك كل موجود فما من شيء من الإدراك إلا ويمكن معرفته بالإحساس الباطن أو الظاهر كما قد نبهنا على ذلك فيما تقدم من هذه الأجوبة بل هذا المنازع وأصحابه قالوا من ذلك ما هو من أبلغ الأمور في مسألة الرؤية وغيرها حيث يجوزون رؤية كل موجود بل يجوزون تعلق الحواس الخمس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس بكل موجود فلم يبق عندهم في الموجودات ما يمتنع أن يكون محسوسا فلا يصح أن يقال إنه يدرك بالعقل والعلم ما يمتنع إدراكه بالحس إلا إذا قيد الامتناع بأن يقال مالا يمكننا إحساسه في هذه الحال أو ما تعجز قدرتنا عن إحساسه ونحو ذلك وإلا فإحساسه ممكن والله تعالى قادر عليه ويفعل من ذلك ما يشاء كما يشاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال أبو عبدالله الرازي أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذاك من وجوه أحدها أن الذي شاهدناه هو تغير الصفات مثل انقلاب الماء والتراب نباتا وانقلاب النبات جزء بدن حيوان فأما حدوث الذوات ابتداء من غير سبق مادة وطينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة ولا يقضي بجوازه وهمنا وخيالنا مع أنا سلمنا أنه هو المحدث للذوات ابتداء من غير سبق مادة وطنية قلت الكلام على هذا من وجوه أحدها قوله لم نشاهد إلا تغير الصفات ليس هذا مخاطبة باللغة المعروفة والاصطلاح المشهور بل هذا يفهم قصدا فاسدا لا يقوله أحد وذلك أن الصفة في الاصطلاح المشهور هي عرض يقوم بجوهر قائم بنفسه كقيام اللون والطعم والريح بالجسم فإذا قال القائل لم نشاهد إلا تغير الصفات كان مقتضاه أن الجواهر والأجسام لا تتبدل ولا تستحيل ولا تنقلب وإنما تتغير أعراضها القائمة بها مثل تغير الشمس والقمر والنجوم بحركاتها ومعلوم أن هذا باطل بل نفس الجواهر التي هي أعيان قائمة بنفسها تنقلب وتتبدل وتستحيل كما ذكره من انقلاب الماء والتراب نباتا فلم يكن التغير في مجرد أعراض الماء والتراب وإنما ذلك مثل أن ينقل من موضع إلى موضع أو يجمع ويفرق أو يسخن ويبرد ونحو ذلك فأما إذا صار الماء والتراب نباتا فقد انقلبت الحقيقة وتبدلت وكذلك إذا صار المني حيوانا والبيضة طيرا وكذلك إذا صار النبات المأكول دما ثم عظما ولحما وعروقا ونحو ذلك فلا يقال في مثل هذا لم نشهد إلا تغير الصفة بل شهدنا تبدل الحقيقة وتغير الأعيان القائمة بنفسها التي هي جواهر بمعنى استحالتها وانتقالها من حقيقة في ذاتها وقدرها ووضعها وسائر الأمور لكن لم نشهد تكون شيء إلا من شيء فهذا حق كما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز كما قال خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار وقال ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين وقال تعالى وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وقال وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون وقال والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا وقال تعالى هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها وقال تعالى والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها وقال تعالى والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج وهذا في كتاب الله تعالى كثير يبين خلق الأشياء بعضها من بعض وببعض وفي بعض ويقررنا أنا نرى ذلك ونشهده كقوله تعالى أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون إلى قوله تعالى أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وقال تعالى يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من إلى قوله تعالى مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم وقال تعالى أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت الآيات وقال إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك الآية الوجه الثاني قوله فأما حدوث الذوات ابتداءا من غير سبق مادة ولا طينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة ليست هذه المخلوقات من الماء والطين مثل الصور التي يصورها بنو آدم من المواد مع أن الذات باقية كتصوير الخاتم والدرهم ونحو ذلك من الفضة وتصوير السرير والباب ونحو ذلك من الخشب وتصوير الثوب من الغزل فإن هذه المواضع لم تحدث فيها الذوات وإنما تغيرت صفة الذات وأما الحيوانات والنباتات المشهودة فنفس هذه الذوات شهدنا حدوثها وخلقها لكن خلقت من شيء آخر ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وهذا من أبدع الأمور وأعظمها فلم يكن ما منه خلقت هذه الأمور وإن سماها بعض الناس مادة مثل المواد المعروفة تكون بعينها باقية في الصور وتكون من جنس الصور وإذا كان كذلك فقد شهدنا إبداع هذه الحقائق الموجودة وصفاتها بعد أن لم تكن موجودة كما قال تعالى أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا غاية ما في هذا الباب أنا شهدنا خلقها من شيء ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وشهدنا أنها تخلق من أوضع الأشياء وأحقرها وأبعدها عن صفات الكمال كخلق الإنسان من تراب كما قال الشاعر الذي حارت البرية فيه... حيوان مستحكم من جماد وهذا الذي شهدنا من أبلغ الإبداع أنه يخلق من الشيء مالا يكون مجانسا له ولا يكون الأصل مشتملا على ما في الفرع من الصفات فهذه الأمور المخلوقة التي لم تكن موجودة في أصلها ولا كامنة فيه هي مبدعة بعد العدم لا منقولة من وصف إلى وصف ولو كانت منقولة فنفس الصفات القائمة بها مبدعة بعد العدم فقد شهدنا إبداع الجواهر والأعراض بعد عدمها وهذا كاف في ذلك إذ لا يجب أن نشهد إبداع كل جوهر وعرض بعد العدم بل إذا شهدنا إبداع ما شاء الله من الجواهر والأعراض بعد عدمها كان ذلك محسوسا لنا ثم عقلنا بطريق الاعتبار والقياس ما لم نشهده وهكذا علمنا بجميع الأشياء نحس بعض أفرادها ونقيس ما غاب على ما شهدناه وإلا فلا يمكن أن يعلم الشخص بإحساسه كل شيء فظهر بذلك أن طريق علمنا بأفعال الله حسا وعقلا مثل طريق علمنا بجميع الأمور وظهر أنما غاب عنا من أفعال الله وعلمناه بعقلنا ليس على خلاف ما أحسسناه وتخيلناه بل هو من جنسه ومشابه له فضلا عن أن يكون مباينا له ونحن قد بينا فيما تقدم الفرق بينما يعلم عدمه وامتناعه بحس أو عقل وبين مالا يعلم له نظير بحس أو عقل فالأول لا يجوز أن يكون موجودا بخلاف الثاني فإنه يجوز أن يكون موجودا وهذا ينفعنا في ذات الله فإنه ليس كمثله شيء وأما أفعاله ومخلوقاته ففي الذي أشهدناه عبرة لما لم نشهده والغائب من جنس الشاهد وذلك لأن المماثلة ثابتة في المفعولات كما قال تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون فلو لم يكن الغائب من أفعاله تعالى نظيرا للشاهد لم يجز رده ولا يقال إنه على خلاف حكم العقل فالحس والخيال كما في ذاته تعالى فكيف إذا كان الغائب نظير الشاهد حيث أشهدنا إبداع الجواهر وصفاتها بعد عدمها يا سبحان الله أيما أبلغ في عقل الإنسان إبداع الإنسان بعد عدمه أم إبداع طينته التي خلق منها بعد عدمها فإذا كان قد شهد هذا الجوهر العظيم الموصوف بصفات الكمال بعد عدمه أفليس ذلك أعظم من إبداع تراب أو ماء بعد عدمه والله سبحانه وتعالى لما خلق السموات والأرض خلق آدم آخر المخلوقات كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ومن خلق آخر المخلوقات لم يمكنه أن يشهد خلق نفسه ولا ما خلق قبله كما قال تعالى ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وله فيما شهده في المخلوقات عبرة فيما لم يشهده الوجه الثالث قوله أما حدوث الذوات ابتداءا فهذا شيء ما شاهدناه البتة ولا يقضي بجوازه وهمنا ولا خيالنا فيقال له قولك لا يقضي بجوازه وهمنا ولا خيالنا أتريد أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه أو تريد أنه لا يعلم جوازه وأيما أردت فعنه جوابان أحدهما أن لا نسلم أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه لوجهين أحدهما أن الوهم والخيال لا يمنع كل ما لم يعلم نظيره وإن قيل إنه لا يدركه إلا أن يريد الوهم والخيال الفاسد فهذا لا نزاع فيه الثاني إن الوهم والخيال قد أدرك نظير هذا كما قدمناه من تخيل ما أحسه من إبداع الجواهر وأعراضها بعد عدمها الجواب الثاني عن التقدير الأول أنا لو سلمنا أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك فليس محذورا إذا علمنا جوازه بعقلنا أو حسنا فإن أحدا لم يقل إن كل ما أحاله مجرد التوهم والتخيل يكون ممتنعا وإنما قيل ما أحالته الفطرة الإنسانية والبديهة والفرق بينهما ما تقدم وأما الجوابان على التقدير الثاني وهو أن الوهم والخيال لا يعلمان جواز ذلك فأحدهما أن لا نسلم أن الوهم والخيال لا يعلم جواز ذلك فإن الإنسان قد يتخيل ما أحسه بحواسه من الموجودات بعد عدمها وهو يؤلف بتخيل من ذلك ما لم يتخيله كما هو عادة التخيل فيتخيل نظير ذلك وما يركبه من ذلك مما ليس له نظير كما يتخيل جبل ياقوت وبحر زئبق فيتخيل من المخلوقات ما ليس له نظير ويتخيل الإبداع الذي ليس نظير فكيف بما له نظير الثاني أنا لو سلمنا أن الوهم والخيال لا يعلم جواز ذلك لم يضر ولو لم يعلم جواز نظيره أو وجوده بحس أو عقل فكيف إذا علم ذلك فإن المدفوع ما علم بالفطرة امتناعه لا ما عجز مجرد الوهم عن معرفته الوجه الرابع قوله مع أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للذوات ابتداءا من غير سبق مادة وطنية يقال له هذا الذي تذكره إنما ينفعك أن لو كان ما علمناه بالفطرة يدفع ما سلمناه فكيف إذا لم يدفعه ما علمناه لا بضرورة بل لا يدفعه ضرورة ولا نظر بل كيف إذا كان ما شهدناه نظيرا له ومشابها بل كيف إذا كان الذي شهدناه أبلغ من الذي سلمناه فإن الذوات التي ابتدعت ابتداءا إنما هي ذوات بسيطة كالماء ونحوه ومن المعلوم أن إبداع هذا الإنسان المركب بما فيه من الأعضاء المختلفة ومنافعها وقواها والأخلاط المختلفة ومقاديرها وصفاتها من أشياء بسيطة أعظم في الاقتدار وأبلغ في الحكمة من إبداع شيء بسيط لا من شيء لأن هذه المركبات كلها كائنة بعد عدم وتأليفها وتركيبها كذلك وما فيها من الجواهر والتأليف والصفات الكائن بعد العدم أبلغ مما في تلك البسائط وهذا كما أن ما شهدنا من الخلق الأول أبلغ مما أخبرنا به من الخلق الثاني في المعاد كما قال تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وقال ضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ونظائره في القرآن فإذا كان مستقرا في الفطرة العقلية أن ابتداء الخلق أعظم من إعادته فمستقر فيها أن إبداع المركبات وتركيبها وصفاتها بعد العدم أبلغ من إبداع البسائط المفردات لكن المركب لا بد أن يكون مسبوقا قال الرازي وثانيها أنا لا نعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان البتة فيقال لو قال لم نتوهم أو لم نتخيل أ لم نحس لكان مناسبا للفظ دعواه حيث ادعى أن معرفة أفعال الله على خلاف الحس والخيال ولم يدع أنها على خلاف المعقول فإن ذلك سد عليه طريق الإقرار بها ويوجب جحودها حيث لا يثبت ما يخالف المعقول إلا أن يفسر المخالف للمعقول بعدم النظير وحينئذ فلا فرق بين مخالفة المعقول والمحسوس في أن ذلك لا يكون مانعا في وجود ما يخالف المحسوس والمعقول وهو لا يتم غرضه إلا أن يبين الفرق بينهما بثبوت ما يحيله الحس دون العقل كما قدمناه وتلخيص النكتة أن يقال إذا لم تعقل حدوث شيء إلا في زمان وأثبتت ما لم تعقله فهل هذا حجة لك في إثبات ما تعلم بعقلك امتناعه أم لا فإن كان هذا حجة لك في إثبات ما يعلم العقل امتناعه لم يكن له بعد هذا أن يحيل وجود شيء بعقله بل يجوز الممتنعات المعلوم امتناعها بالعقل ضرورة ونظرا وهذا لا يقوله عاقل وإن قال ليس هذا حجة في إثبات ما يعلم بالعقل امتناعه لم يكن ذلك نافعا لك في محل النزاع لأن المنازع يدعي أنه يعلم امتناع ما أثبتته بفطرته وهذا لم يدل على إحالة ما عيلم امتناعه بالعقل كما سلمته ولا بالحس لأنك لم تذكره ثم يقال كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في زمان بمنزلة كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في مكان ثم كما أن هذا يقتضي افتقار كل مكان إلى مكان فكذلك ذاك يقتضي افتقار كل زمان إلى زمان وأكثر ما في ذلك عدم النظير فيما شهدناه ومجرد عدم النظير لا يكون حجة على نفي الشيء المعلوم بحس أو عقل فلم يقل أحد من العقلاء إن الشيء الذي يعلم ثبوته لا يجوز الإقرار به حتى يكون له مثل ونظير مطابق له وهذا كما أنا لم نشهد شيئا إلا له خالق ثم لا يجب أن يكون للخالق خالق كما قال النبي ﷺ لا يزال الناس يسألونكم حتى يقولوا هذا وقد أخرجاه في الصحيحين عن عروة عن أبي هريرة ورواه أبو داود في الرد على الجهمية من سننه ورواه النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله وهو أيضا فيها عن عروة عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ يأتي أحدكم الشيطان فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ورواه مسلم من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله قال وهو آخذ بيد رجل يعني قد سأله فقال صدق الله ورسوله قد سألني اثنان وهذا الثالث أو قال سألني واحد وهذا الثاني وراه أيضا أبو داود والنسائي من طريق آخر وفيه فإذا قالوا ذلك فقولوا الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ثم يتفل عن يساره ثلاثا ويقال له الزمان الذي رأينا الأشياء تحدث فيه هو مقدار حركة الشمس والقمر أو ما يشبه ذلك إذ لم نشهد زمانا غير مقدار الحركة أو ما يقرب من ذلك لتنوع عبارات الناس في تفسير الزمان وإذا كان الزمان من جملة الأعراض مفتقرا إلى الحركة والمتحرك إذا كان له وجود في الخارج فمعلوم أنا شهدنا حدوث سبب الزمان الموجب له المتقدم عليه بالذات وهو الحركات والحركة والزمان متقاربان في الوجود والحركة متقدمة على الزمان بالذات وإذا كان كل منهما مقارن للآخر لا ينفك عنه فليس القول باحتياج الحركة التي هي الحدوث والانتقال إلى الزمان بأولى من القول باحتياج الزمان إلى الحركة والحدوث بل هذا الثاني أقرب لأن افتقار المعلول إلى العلة والمشروط إلى الشرط والمسبب إلى السبب أظهر من الأول يوضح ذلك أن الزمان قد يراد به الليل والنهار كما يراد بالمكان السموات والأرض وهذا هو الذي يعنيه طوائف منهم الرازي في كتابه هذا كما ذكر ذلك حيث قال الحجة الحادية عشرة قوله قل لمن ما في السموات والأرض قل لله قال وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى وقوله تعالى وله ما سكن في الليل والنهار وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان قال وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره واعلم أن في تقديم ذكر المكان على ذكر الزمان سرا لطيفا وحكمة عالية يشير إلى أنه سببه ما تقدم قلت وإذا كان المراد بالمكان والمكانيات السموات والأرض وما فيهما وبالزمان والزمانيات الليل والنهار وما سكن فيهما فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وقد قال تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ونحو ذلك في القرآن ومعلوم أن النهار تابع للشمس وأما الليل فسواء كان عدم النور أو كان وجودا عرضيا كما يقوله قوم أو أجسام سود كما يقوله بعضهم فالله جاعل ذلك كله وهو سبحانه وتعالى كما قال عبدالله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وقد جاء في قوله تعالى ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا إن أهل الجنة يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر من جهة العرش فيكون بعض الأوقات عندهم أعظم نورا من بعض إذ ليس عندهم ظلمة وهذه الأنوار المخلوقة كلها خلقها الله تعالى فقول القائل بعد هذا لم نعقل حدوث شيء إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان مثل أن يقال أنا لم أعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في ليل أو نهار ثم حكمنا بأن الليل والنهار حدثا لا في ليل ولا نهار ولم نعقل شيئا إلا في السموات والأرض ثم عقلنا حدوث السموات والأرض لا في سموات وأرض ومعلوم أن هذا الكلام من أفسد الكلام في الحس والعقل فإن الإنسان كما يشهد حدوث الأشياء لا في ليل ونهار فهو يشهد أيضا حدوث الليل والنهار في غير ليل ولا نهار وقد يراد بالزمان مجرد التقدير بالحوادث كما يقال هذا قبل هذا بكذا وكذا وهذا بعد هذا بكذا وكذا فيكون المراد به تقدير ما بين الحوادث بحوادث أخر وهذا التقدير من جنس العدد للمعدودات فإنه بالعدد يظهر وبزيادة أحد المعدودين على الآخر ونقصانه عنه ومساواته له ثم مع ذلك فليس العدد للمعدودات أمرا موجودا في الخارج قائم بنفسه أو عرض قائم فيها وإنما هو من باب الفصل والتمييز بين بعضها وبعضها وهي ممتازة ومنفصلة بذواتها وأعيانها لا بشيء غير ذلك والعدد لها كالحيز لها كما سنذكره إن شاء الله تعالى وكذلك الوقت لها ولهذا يفرق بين الوقت والعدد كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذكر الله مأمور به في كل حال ليس له وقت ولا عدد أي ليس له وقت مخصوص ولا عدد مخصوص كالصلاة وغيرها وهذا موضع تغلط فيه الأذهان حيث يشتبه عليها ما يأخذه الذهن من الحقائق الموجودة في الخارج بنفس الحقاق الموجودة في الخارج كما يشتبه على بعض الناس الصور الذهنية الكلية المطلقة أنها توجد في الخارج حتى يظن أنها بعينها موجودة في الخارج فالعلم بالحقائق وبعددها وزمانها ومكانها كله متقارب ولا ريب أن الحقائق موجودة في نفسها متميز بعضها عن بعض بنفسها بما فيها من الصفات القائمة بها وما يتبع ذلك من حيزها ووقتها وعددها وليست هذه الأمور جواهر وأعراضا منفصلة عن تلك الحقائق بل هي تارة لسبب بينها وبين غيرها إنما يعقل باعتبار الغيرين ولهذا يكثر تنازع الناس في مثل هذه الأمور هل هي أمور وجودية أو عدمية وبكل حال فقول القائل إن كل وقت يفتقر إلى وقت وكل حيز إلى حيز بمنزلة قوله كل عدد يفتقر إلى عدد وقوله كل حقيقة قائمة بنفسها تفتقر إلى حقيقة قائمة بنفسها ومما يوضح ذلك أن يقال له أيضا قول القائل ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان أضعف من قول القائل حكمنا بأن الحركة حدثت بلا حركة فإن الزمان هو مفتقر إلى الحركة دون زمان آخر والحركة هي سبب الزمان وإن كانت مقارنة له وليست مفتقرة إلى حركة أخرى فالتعجب من حدوث حركة بلا حركة وهي سبب الزمان وأعني عن الزمان من الزمان عنها أقرب إلى الصواب من تعجب المتعجب من حدوث زمان في غير زمان وإذا كان التعجب من عدم افتقار كل حركة إلى حركة نوعا من السخف والهذيان فالتعجب من عدم افتقار كل زمان إلى زمان أبلغ منه في السخف والهذيان كما يتعجب من عدم افتقار كل فاعل إلى فاعل وهذا السؤال من آخر ما يورده ويسأل عنه الشيطان لعلمه بأنه آخر مراتب الباطل والهذيان قال وثالثها أنا لا نعلم فاعلا يفعل بعد ما لم يكن فاعلا إلا لتغير حالة وتبدل صفة ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خلق العالم من غير شيء من ذلك يقال هذه الوجوه التي أوردها هنا هي من حجج الدهرية إما القائلين بقدم العالم وإما المنكرين للصانع حيث يحتجون بها على امتناع إبداع كل شيء بعد العدم ويوجبون قدم مادة وكذلك يوجبون قدم مدة وكذلك يقولون يمتنع حدوث الفعل بدون حدوث قدرة ولا إرادة ولا علم ولا غير ذلك من أسباب الفعل وهذه حجج الدهرية المتفلسفة المشائين المنتسبين إلى معلمهم الأول آرسطو وإن كان من معظميه من يزعم أنه لم يكن قائلا بقدم العالم ولكن تكلم بكلام مجمل في ذلك كما زعمه بعض الفلاسفة اليهود فيما جمعه وألفه بين فلسفته وبين الملة التي بعث الله بها الرسل فالمقصود هنا أن نعرف أصل هذا الكلام ونعلم أن هذا الرازي وإن أورده هنا من جهة أصحابه المسلمين الموافقين على حدوث العالم في احتجاجهم على إخوان لهم مسلمين في مسائل الصفات فإن هذه الحجج هو دائما يذكرها في معارضة حجج المسلمين وسائر أهل الملك على نفي قدم العالم فتارة يظهر منه التحير وتكافؤ الأدلة وتقابل الطائفتين بمنزلة المنافق المذبذب الذي لا هو مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وتارة ينصر المسلمين بما يصلح من الجدل ويكثر مما لا يصلح وتارة يؤيد أقوال أولئك المشركين الصابئين المبدلين تأييد عاجز عنهم أو معاون لهم أو معترض عليهم بحق أو باطل ونحن في هذا المقام الذي غرضه أن يقرر ثبوت ما يعلم امتناعه بالبديهة ويزعم أن هذا من حكم الحس والخيال المردود واحتجاجه بما ذكره من أفعال الله تعالى نجيب عنه بأن نبين أنا شهدنا من أفعال الله تعالى ما هو نظير ما لم نشهده أو أبلغ منه وأن ما تعجب منه هو مثل ما شهدناه أو دونه وبأن نبين أنه إذا أثبت من أفعال الله تعالى ما لم نشهد نظيره فلا محذور في ذلك فإن ثبوت مالا يعلم له نظير ليس بمحذور في حس ولا عقل وبأن نبين أن الحس والعقل في ذلك سواء فلا يثبت مالا يعلم بها عدمه ويثبت مالم يعلم بها نظيره وقد ذكرنا ذلك في المادة والمدة ونصوص المسلمين وسائر أهل الملل ومعارضتهم لهؤلاء الدهرية كثيرة حسنة لكن ليس هذا موضعها وكذلك ما ذكره في الفاعل وهي حجة ابن سينا أفضل متأخري هؤلاء الدهرية فإنها هي التي اعتمدها حيث زعم أن الذات الواحدة لا يصدر عنها شيء بعد أن لم يكن صادرا إلا بحدوث أمر من الأمور والكلام في ذلك الأمر كالكلام في الأول فيمتنع الحدوث فيجب القدم ثم ذكر في كيفية صدور العالم بصدور العقل ثم العقل والنفس والفلك من الكلام لا يرتضيه أسخف الناس عقلا ولا يستحسن أحد أن يستعمله إلا في المضاحك والهزليات دون ما هو من أعظم الإلهيات وذكروا هم ما اختص به العالم من المقادير والصفات غير ذلك وما الموجب لتخصيصه بذلك دون غيرها إلى غير ذلك مما ليس هذا موضعه إذ الغرض جواب ما ذكره الرازي وهو من نمط الذي قبله أيضا لوجوه أحدها أن غاية ما يذكره إثبات فاعل ليس له نظير وثبوت فعل ليس له نظير وهذا لا نزاع فيه وليس ذلك ممتنعا لا في حس ولا خيال ولا عقل حتى يكون نظيرا لمورد النزاع وكون ذلك على خلاف حكم الحس والخيال هو مثل كونه على خلاف حكم العقل والقياس الوجه الثاني أن الانتهاء إلى فاعل لا فاعل له مما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية كما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية امتناع حدوث فعل بلا فاعل وكما قالوه في امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإذا كان هذا مما يعلم بالضرورة الفطرية كيف يجعل معارضا أيضا لما يعلم بالضرورة الفطرية فالفطرة الضرورية تعلم امتناع أن يكون لكل فاعل فاعلا وامتناع أن يكون الفعل بلا فاعل وأن يكون الفاعل لا داخل المفعول القائم بنفسه ولا خارجه وإذا كان كذلك فتمثيل الفاعل الذي لا فاعل له بالفاعل له فاعل ممتنع أيضا في الفطرة الضرورية الوجه الثالث أن قوله لم نشهد فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا إلا لتغير حال وتبدل صفة إن أراد به استحالته من حال إلى حال بحيث أن ذاته تستحيل فليس الأمر كذلك فإن الشمس والقمر والكواكب كل في فلك يسبحون ومع هذا لم يتغير حالها ولم تتبدل صفاتها وإن عنى به أن نفس الحركة هو تغير وتبدل كما يقوله من يقوله من المتكلمين كان المعنى لم نشهد فاعلا إلا متحركا ومتحولا إما حركة روحانية وإما حركة جسمانية فقوله بعد ذلك ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى وتقدس خالق العالم من غير شيء من ذلك مما ينازعه فيه خصومه هنا وغير خصومه فإن المتكلمين يسمون هذه مسألة حلول الحوادث بذاته وقد علم أن مذهب الكرامية القول بها وهم خصومه في هذه المسألة وقد ذكر في أعظم كتبه نهاية العقول أنه ليس في هذه المسألة دليل عقلي على النفي فلا يمكنه أن يقيم عليهم فيها دليلا عقليا وغاية ما اعتصم فيها بما ادعاه من الإجماع على أن سبحانه وتعالى غير موصوف بالنقائص وإن الحادث إن كان صفة كمال فقد كان قبل ذلك ناقصا وإن لم يكن صفة كمال فالإجماع منعقد على أنه تعالى لا يوصف بغير صفة الكمال وقد تكلمنا على ما ذكر في غير هذا الموضع وإذا لم يكن في ذلك دليل عقلي لم يصح أن يكون ذلك معارضا لما يقول المنازع إنه معلوم بالفطرة الضرورية ومن أعجب العجب قوله عن المشبهة وهم عنده الكرامية والحنابلة أنهم وافقوه على ما ادعاه من أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف الحس والخيال ثم يحتج على ذلك بأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا من غير حدوث شيء بذاته وهو يعلم أن القول بحلول الحوادث في ذاته تعالى وتقدس هو شعار الكرامية وأنهم متفقون على ذلك وهذا مثل أن يقال عن المعتزلة وقد وافقونا على أن الله تعالى يحدث أفعال العباد بغير فعل منهم ثم إن القول بذلك هو مذهب أكثر أهل الحديث بل قول أئمة أهل الحديث وهو الذي نقلوه عن سلف الأمة وأئمتها وكثير من الفقهاء والصوفية أو أكثرهم وفيهم من الطوائف الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية من لا يحصي عدده إلا الله تعالى وقد ذكره هو في غير موضع من كتبه أن القول بحلول الحوادث يلزم كل الطوائف حتى المعتزلة والفلاسفة وذكر ذلك عن أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهو من أعظم الفلاسفة المتأخرين قدرا وأنه قال إن ألوهيته لهذا العالم لا تتم إلا بذلك فكيف يحكى الاتفاق على خلاف ذلك فإن قال قائل الفاعل منا وإن حدثت فيه حركة فالمحدث لها غيره وخالق العالم لا محدث لفعله إلا هو فهذا هو الفرق قيل هذا حق كما أن ذاتنا محدثة أحدثها غيرنا وهو سبحانه قديم واجب الوجود رب كل شيء ومليكه هو الخالق وما سواه مخلوق ولهذا كان السؤال عن من خلق الله منتهى مسائل الشيطان التي يظل بها الإنسان مع ظهور فسادها بالبرهان والرازي لم يستدل بكونه فاعلا لما لا يفعله من غير محرك من خارج وإنما استدل بكونه فاعلا من غير فعل في نفسه وهذا هو الذي ينازعونه فيه وهو لو استدل بالأول لم يصح لأنها هي مسألة وجود الصانع نفسه وهو في هذا المقام مقصوده أن يبين أن أفعاله على خلاف حكم الحس والخيال ليس مقصوده أن نفسه على خلاف الحس والخيال قال الرازي ورابعها أنا لا نعقل فاعلا يفعل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة ثم اعترفنا بأنه تعالى وتقدس خالق العالم بغير شيء من هذا والكلام عليه من نمط الذي قبله وإن كان هذا السؤال هو ببحوث القدرية والمعتزلة أخص كما أن الذي قبله ببحوث الفلاسفة والدهرية أخص وذلك من وجوه أحدها أن غاية هذا ثبوت مالا نظير له وليس ذلك ممتنعا كما تقدم ولا فرق في ذلك بين حكم الحس والخيال وحكم العقل كما تقدم غير مرة الثاني أنه هو خالق كل شيء ومن أجلب لنفسه منفعة من غيره أو دفع عن نفسه مضرة من غيره كان محتاجا إلى ذلك وهذه حال الفقر إلى غيره فما دل على أنه رب العالمين دل على غناه عن غيره وبذلك أخبر عن نفسه كما قال يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني وتمام الكلام كما بيناه قبل الوجه الثالث أن يقال ما تعني بقولك إنا لا نعقل فاعلا يفعل فعلا إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة ثم اعترفنا بأنه تعالى خالق العالم لغير شيء من هذا أتريد أنه سبحانه منزه عن نعوت المخلوقين الناقصين المحتاجين إلى غيرهم في اجتلاب منافعهم ودفع مضارهم كما يوجد أن الحي من الإنسان وغيره يطلب ما ينفعه ويلائمه من غيره ويدفع ما يخلف عليه من الضرر من نفسه ومن غيره فهذا حق فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إليهم بل هو الأحد الصمد الحي القيوم وهو سبحانه لا يخاف ضرر شيء لا من نفسه ولا من غيره بل العباد عاجزون عن أن يلحقوا به ضررا أو نفعا قال تعالى في الحديث الصحيح الذي رواه رسول الله ﷺ يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني أو تريد أنه سبحانه وتعالى لا يحب فعله ويرضاه ويفرح به فإن أردت هذا لم يسلم لا ذلك فإن الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة قد دل على وصفه بالمحبة والرضا والفرح أو تريد أنه لا يحدث له من هذه الأمور ما لم يكن قبل ذلك فهذا هو الوجه الأول وقد تقدم الكلام عليه ثم قال الرازي وأما تقرير ذلك في الصفات فذلك من وجوه أحدها أنا لا نعقل ذاتا تكون عالمة بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة واحدة وأنا إذا جربنا أنفسنا وجدناها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين امتنع عليها في تلك الحالة استحضار معلوم آخر ثم إنا مع ذلك نعتقد أنه تعالى وتقدس عالم بما لا نهاية له من المعلومات على التفصيل من غير أن يحصل فيه اشتباه والتباس فكان كونه تعالى عالما بجميع المعلومات أمرا على خلاف مقتضى الوهم والخيال والكلام على هذا من وجوه أحدها أن هذا الكلام أن علم الله ليس من جنس علومنا ولا مماثلا له وأنا لا نستطيع أن نعلم كعلم الله تعالى وهذا من أوضح الأمور وأبينها عند الخاصة والعامة فإن أحدا من الخلق كما لا يظن أن ذاته كذات الله تعالى لا يظن أن علمه كعلم الله تعالى ومن المعلوم لكل أحد أن الله أكبر وأعظم مما يعلمونه ويقولونه فيه فكذلك علمه وقدرته وسائر صفاته أكبر وأعظم من أن يعلم كنه علمه أو يوصف ولم يقل أحد من البشر أن علم الله تعالى مثل علمنا ولا توهم أحد ذلك ولا تخيله فأي شيء في هذا مما هو على خلاف مقتضى الوهم والخيال غاية ما فيه أنه ليس مثلما نتوهمه ونتخيله من نفوسنا وهذا لا ريب فيه وهذا يظهر بالوجه الثاني وهو أن الله سبحانه ليس مثلما نعلمه ونعقله ونحسه من نفوسنا فضلا عن أن يكون مثلما نتخيله ونتوهمه من نفوسنا فلا اختصاص للوهم والخيال بذلك وإذا كان الله سبحانه ليس مثلما نحسه ونعلمه ونعقله ونتخيله فينا ولم يكن في ذلك ما يقتضي أن يكون منافيا لما نعلمه لم يجب أن يكون منافيا لما نحسه ويتقرر هذا بالوجه الثالث وهو أن العلم بامتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه علم فطري ضروري ليس هو من خصائص الوهم والخيال وأما ما ذكره من إحاطة علم الله تعالى فليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك بحال الوجه الرابع إن كلما وصف الله به علم الله ليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك لا محسوس ولا متوهم ولا متخيل ولا معقول إلا أن يكون من الاعتقادات الباطلة التي لم تعلم بضرورة ولا نظر ولا ريب أن ذات الله وصفاته على خلاف الاعتقادات الباطلة التي يظن أنها معقولة أو محسوسة أو متخيلة ولكن لا فرق في ذلك بينما يظن أنه معقول ومعلوم وما يظن أنه محسوس ومتخيل الوجه الخامس أن قوى بني آدم في العلم متفاوتة تفاوتا لا ينضبط طرفاه أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان ولبعضهم من القوة على استحضار معلومات في وقت واحد ما ليس لبعض وليس لذلك حد معلوم للناس يعتقدون أن أحدا من البشر لا يمكن أن يكون أقوى في ذلك بل فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى كما قال السلف وإذا كان بنو آدم متفاوتين في العلم والقدرة ولم يكن عجز أحدهم ما يقدر عليه الآخر من العلوم والأعمال مانعا من اعتقاده ذلك لغيره مع كونه مجانسا له مساويا في الحقيقة فلأن لا يكون عجز أحدهم عما يوصف الله تعالى به من العلم مانعا من اعتقاد وجوب ذلك في ربه عز وجل بطريق الأولى والأخرى ولا يكون ذلك معتقدا ما يخالف محسوسه ولا معقوله الوجه السادس أنه إذا كان الآدمي يعلم من اقتدار غيره على استحضار العلوم المفصلة في زمن واحد مالا يقدر هو عليه كان ذلك دليلا عنده على أن رب العالمين أولى بأن يكون موصوفا بالعلم بمعلومات مفصلة لا يقدر العبد عليها الوجه السابع أن العبد يعلم أن ربه يدبر أمر السموات والأرض في آن واحد لا يشغله شأنه عن شأن ومعلوم أن التدبير يحتاج إلى قدر زائد عن العلم من القدرة والمشيئة والحكمة مع أن العبد يعلم عجز نفسه عن نظيره من نحو ذلك فأن يكون معتقدا بأن ربه بكل شيء عليم وإن كان عاجزا عن ذلك بطريق الأولى والأحرى وبالجملة فهذا الوجه من الوجوه التي ذكرها في تقريره هذه المقدمة وكذلك ما ذكره في قدرة الله تعالى وفي سمعه وفي بصره بعد هذا كما سنذكره قال الرازي وثانيها أنا نرى كل من فعل فعلا فلا بد له من آلة وأداة فإن الأفعال الشاقة تكون سببا للكلال والمشقة لذلك الفاعل ثم إنا نعتقد أنه سبحانه وتعالى يدبر من العرش إلى ما تحت الثرى مع أنه منزه عن المشقة واللغوب والكلال يقال له لا ريب أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما أي لا يكرثه ولا يثقل عليه وقال في الكتاب ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب واللغوب الإعياء وإنما يستريح من إعياء ومنه قول أبي قتادة في حديث حمار الوحش فسعى القوم حتى لغبوا وقال أهل الجنة الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب وهذا مما لا يتنازع فيه المسلمون وإذا كان كذلك فالكلام على ما ذكرته من وجوه أحدها أن هذا بيان قدرة الله تعالى كاملة تامة لا نقص فيها ليست مثل قدرة العبادة كما ذكرنا في العلم وهذا حق ولم يقل أحد إن هذا مخالف لا للمحسوس ولا للمعقول وإنما هو مخالف لمقدار صفاتنا الثاني أن هذا نسبة هذا أن المعلوم والمعقول والمحسوس والمتخيل نسبة واحدة فقولك إن ثبوت هذا على خلاف حكم الوهم والخيال كقول القائل إنه ثابت على خلاف حكم العقل والعلم الثالث إن هذا معناه أن الله ليس مثلنا ولا صفاته كمقدار صفاتنا وقد مضى أن انتفاء مثل الشيء لا يوجب انتفاءه فكيف إذا كان إنما نفى مماثلته لنا فقط وإن كان الله تعالى ليس كمثله شيء وقد قدمنا أنه إن عنى ثبوته على خلاف الحس والخيال عدم النظير فهو حق لكن نفي موجود لا داخل العالم ولا خارجه معلوم بالفطرة البديهية لا بالقياس ولا بعدم النظير الرابع أن هذه القدرة ليس عندنا اعتقاد بنفيها لا محسوس ولا معقول بخلاف وجود موجود لا داخل ولا خارجه فإن عندنا من العلوم الضرورية والنظرية ما ينفي ذلك الخامس أن قوى بني آدم في الفعل مختلفة فإذا كان عجز أحدهم عما يقدر عليه الآخر ليس مانعا من اعتقاد ثبوت تلك القدرة مع اشتراكهم في الجنس فأن لا يكون عجز أحدهم مانعا من الإيمان بقدرة خالقه أولى وأحرى السادس أنه إذا كان أحدهم يعلم من قدرة غيره على العمل ما ليس هو عنده ولا يكون ذلك ممتنعا لا في حسه ولا في خياله ولا في عقله فأن يعلم من قدرة خالقه ما ليس هو عنده أولى وأحرى قال الرازي وثالثها أنا نعتقد أنه يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى ويرى الصغير والكبير فوق أطباق السموات العلى وتحت الأرضين السفلى ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود مع أنا نعتقد أنه تعالى كذلك يقال له لا ريب أنه سبحانه وتعالى كما قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تناجي رسول الله ﷺ في جانب البيت وإنه ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي فتحدثوا بينهم بحديث فقال أحدهم أترون الله يسمع ما تقول فقال الآخر يسمع أن أعلنا ولا يسمع إن أسررنا فقال الثالث إن سمع منه شيئا فإنه يسمع كله فأنزل الله تعالى وما كنتم تستترون أن يشهد عليك سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين لكن الكلام في سعة سمعه وبصره سبحانه وتعالى كالكلام في سعة علمه وقدرته سواء وليس فيما ذكره إلا أن ذلك ليس مثل سمعنا وبصرنا وثبوت مثل هذا مما لا ينازع فيه عاقل ولا ينفيه حس ولا عقل ولا تخيل بل ثبوت مالا نظير له في الخلق لا ينفيه الحس والعقل فكيف بما ليس له نظير مساو أيضا فالعقل والحس والخيال والوهم بالنسبة إلى هذا سواء فقوله ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود بمنزلة قول القائل إن العقل البشري والعلم الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود وهو لا يقول إن الله ثابت على خلاف حكم العقل والعلم فيلزمه في الحس والوهم والخيال مثل ذلك وأيضا فقوله على خلاف ذلك إن أراد به أن الوهم والخيال يعجز عن إدراك ذلك لم يضر فإن العجز عن إدراك الشيء من بعض الوجوه لا ينفي القدرة على معرفته من وجه آخر وإن أراد أن الوهم والخيال يدرك ما ينافي ذلك لم يصح ذلك فليس في وهمنا وخيالنا الصحيح ما ينافي ذلك وإن فرض اعتقاد فاسد ينافي ذلك فهو كالاعتقاد الذي يظن صاحبه أنه معقول أو معلوم وقد قدمنا أن لفظ الوهم والخيال يقال على الباطل تارة وعلى المطابق أخرى فالمطابق لا ينافي ذلك والباطل لا نزاع فيه وأيضا فاعتقاد امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه ثابت بالضرورة الفطرية والمتوهم المتخيل لا يكون ثابتا بالفطرة الضرورية كما تقدم قال الرازي فثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته ومع ذلك فإنا نثبت الأفعال والصفات على مخالفة الوهم والخيال وقد ثبت أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض من معرفة الصفات فلما عزلنا الوهم والخيال في معرفة الصفات والأفعال فلأن نعزلهما من معرفة الذات أولى وأحرى فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه سبحانه وتعالى منزه عن الحيز والجهة ليس أمرا يدفعه صريح العقل وذلك هو تمام المطلوب وبالله التوفيق قلت قد تقدم الكلام على أصول هذا غير مرة من وجوه متعددة أحدها أن القصور عن معرفة الشيء غير العلم بانتفائه والمنازع له قال إني أعلم انتفاء موجود لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل إني قاصر أو عاجز عن معرفة وجوده الثاني أن قصور الوهم والخيال لا يستلزم قصور العلم والعقل والحس والمنازع له يقول إن ذلك لا يعلم بعقل ولا غيره فإذا كان غيره معقولا لم يجب أن يكون هذا معقولا الثالث أن المنازع له قال أنا أعلم بالفطرة الإنسانية التامة امتناع هذا الموجود لا يقول إن ذلك نعتقده بوهمنا وخيالنا دون علمنا وعقلنا الرابع أن جميع ما ذكره إنما يدل على ثبوت مالا نظير له لا يدل على ما نعتقد انتفاءه والأول مسلم ومورد النزاع من الثاني الخامس أن الوهم والخيال المطابق والعلم والعقل والإحساس فيما ذكره سواء كما تقدم بيانه ثم إنه لم يعزل العلم والعقل في معرفة الله تعالى فلا يعزل الحس الصحيح وأما الفاسد فهو معزول وإن قيل إنه معقول ومعلوم كما يعزل ما يذكره الجهمية وغيرهم من أهل الإلحاد من العقليات التي يسمونها عقليات وهي جهليات السادس أن المنازع له قد يسلم أن يعزل الوهم والخيال في معرفة أفعال الله تعالى وصفاته وذاته لكن لم يعزل الفطرة الإنسانية والمعارف الضرورية ومسألتنا من هذا الباب ولم يذكر حجة واحدة تنفي كون ذلك معلوما بالضرورة ولا يقبل الاحتجاج على خلاف ما يعرف بالضرورة السابع أنه إنما أثبت أن أفعال الله تعالى وصفاته ليست مماثلة لأفعالنا وصفاتنا وذلك لا يقتضي كونها ثابتة على خلاف الوهم والخيال فإن الوهم والخيال لا ينفي ما لم يكن مثاله موجودا فيه بل غاية ما ذكره انتفاء المثل في الوجود والوهم والخيال لا ينفي مالا مثل له بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء إثباتا لما لا نظير له في ما يقدره ويصوره من الأمور التي تكون موجودة فيه وليس لها نظير في الخارج وأما قوله فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه منزها عن الحيز والجهة ليس أمرا يدفعه صريح العقل وذلك تمام المطلوب فقد تبين بأدنى نظر أنه ليس فيها وجه واحد يبين إمكان وجود ذلك لا الإمكان الذهني ولا الخارجي أعني لم يثبت أن العقل يعلم إثبات ذلك ولا أنه لا يعلم امتناعه ولو لم يكن عندنا اعتقاد ينفي إمكان ذلك بضرورة أو نظر فكيف إذا كان اعتقاد امتناع ذلك معلوما بالنظر فكيف إذا كان معلوما بالضرورة وقد تقدم أن ما أعتقد امتناعه بالضرورة وأراد الرجل أن يبين أنه غير ممتنع بالضرورة ولا بالنظر بل هو ممكن في الذهن فلا بد أن يبين أنما يعلم امتناعه بالضرورة والنظر ليس هو الذي لا يعلم امتناعه في الذهن ليبقى الإمكان الذهني مع أن الإمكان الذهني لا يستلزم الإمكان الخارجي كما تقدم 6. فصل ثم إن المنازعين له إذا كانوا يقولون نعلم بالضرورة امتناع ذلك وقالوا إنما يقوله النفاة إنه الحق الذي يجب وصف واجب الوجود به فإنه ممتنع وجوده معلوم امتناعه بضرورة العقل بل يقولون إنا نعلم بضرورة العقل أن رب العالمين فوق العالم فنحن نعلم بضرورة العقل وجوب ما ادعى امتناعه بالنظر وامتناع ما ادعى إمكانه بالنظر وقد يقولون نحن نعلم بالفطرة والضرورة أن الموجود الذي ليس هو صفة لغيره أو أن واجب الوجود لا يكون إلا قائما بنفسه يمتنع غيره أن يكون بحيث هو وأنه ليس خيالا وشبحا في النفس بل هو شيء موجود له التحقق والثبوت الذي يعلم بالقلوب أنه تحقق وثبوت وإن سماه المنازع تحيزا وتجسيما ونحو ذلك وتعلم بالضرورة والفطرة أنما لا يكون كذلك لا يكون إلا معدوما كما نعلم بالضرورة والفطرة أنه ما من موجودين حيين عالمين قادرين بل ما من موجودين إلا وهما مشتركان في مسمى الوجود والثبوت وأن تميز أحدهما عن الآخر بخاصيته التي تخصه سواء كان واجبا أو لم يكن وما به الاشتراك ليس هو ما به الامتياز ولا مستلزما له وإلا كان أحدهما هو الآخر إذا كان المشترك مستلزما للميز فإنه إذا لم يكن أحدهما مختصا بما يميزه بل حيث تحقق المشترك تحقق المميز والمشترك ثابت لهما فإذا كان المميز ثابت لهما لم يكن لأحدهما تميز يخصه فلا يكون أحدهما غير الآخرة إذ لا بد في المعينين من أن يمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وإذا كان كل منهما موصوفا بقدر مشترك والقدر المشترك أن يكون لأحدهما شبه ما بالآخر ولو من بعض الوجوه امتنع أن يكون في الوجود موجود لا يشارك الموجودات في شيء من الأمور الوجودية ولا يشابهها في شيء من ذلك ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن العقلاء يعلمون بعقلهم انتفاء ذلك كما قال الإمام أحمد رحمه الله في رده على الجهمية لما ذكر عنهم ما وصفوه من السلوب وأنهم قالوا كلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه وهذا معنى قول المؤسس وذويه إنه على خلاف الحس والخيال أو العقل وقد تقدم ذكر ذلك قال فقلنا هو شيء قالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون به في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون بأنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فذكر أولا أنما يقال إنه شيء ثم يقال إنه لا كالأشياء أي لا يشابهها بوجه من الوجوه بل يخالفها من كل وجه فهذا قد عرف أهل العقل أنه لا شيء لأن العلم بذلك عام في أهل العقل ولما ذكر ثانيا من يعبدون قالوا نعبد المدبر لهذا الخلق فهذا إخبار عن المعبود الذي تجب عبادته في الدين فلما قالوا هو مجهول لا يعرف بصفة قد علم المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا لأن المسلمين يوجبون عبادة الله تعالى فذكر أولا عن عموم أهل العقل أنهم لا يثبتون شيئا وذكر ثانيا عن أهل الدين أنهم لا يعبدون شيئا ذكر في كل مقام ما يناسبه وذلك لأن المجهول لا يعرف فلا يقصد ولا يعبد ومن لا يعرف بصفة تميزه عن غيره لم يكن معلوما فلا يكون معبودا فهنا ذكر أن لا بد من صفة تميزه عن غيره والنفاة يقولون هذا تجسيم وذكر أولا أنه يمتنع أن لا يكون بينه وبين شيء من الموجودات قدر مشترك ولا شبه بوجه من الوجوه والنفاة يقولون هذا تشبيه فهم بما عنوه بلفظ التشبيه والتجسيم أوجبوا أن يكون الموصوف بنفي ذلك على المعنى الذي قصدوه معدوما بل واجب العدم ممتنع الوجود وإن كان اللفظ يحتمل نفي معان باطلة مثل نفي كونه مشابها للمخلوقات مماثلا لها من بعض الوجوه فإن نفي هذا واجب وكذلك نفي كونه يقبل التفريق والتفكيك فلا يكون صمدا أحدا هو أيضا واجب فتكلموا أيضا باللفظ المجمل المتشابه الذي يحتمل الحق والباطل ولكن قصدوا به ما هو باطل وإن قصدوا به ما هو أيضا حق أوهموا الناس أنهم لم يقصدوا به إلا نفي ما هو باطل كما قال أحمد رحمه الله يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويوهمون جهال الناس بما يشبهون عليهم فصل ويقول المنازعون نحن نعلم بالنظر العقلي والاستدلال كما علمنا بالفطرة الضرورية امتناع وجود ما أثبته المنازع من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ونعلم انتفاء ذلك وثبوت هذه بالكتاب والسنة والإجماع وبالنقل المتواتر عن الأنبياء المتقدمين وباتفاق أهل الفطر السليمة من جميع العقلاء فصاروا يقولون إن كل واحد من ثبوت ما يقوله ونفي ما يقوله الجاحد المخالف يعلم بالفطرة والضرورة والبديهة والذوق والوجد ويعلم بالفطرة والأدلة العقلية يعلم بالأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع ويعلم بالنقل المتواتر عن الأنبياء ويعلم باتفاق العقلاء ذوي الفطر السليمة وإذا استدلوا بالنظر والقياس والمعقول والبراهين التي يحتج بنظيرها مخالفوهم بل بالبراهين التي هي أصح من ذلك وهي حق في أنفسها قرروا ذلك من وجوه أحدها وفيه قاعدة جليلة جامعة وهو أن يقال لا ريب أن قياس الغائب على الشاهد يكون تارة حقا وتارة باطلا وهو متفق عليه بين العقلاء فإنهم متفقون على أن الإنسان ليس له أن يجعل كلما لم يحسه مماثلا لما أحسه إذ من الموجودات أمور كثيرة لم يحسها ولم يحس ما يماثلها من كل وجه بل من الأمور الغائبة عن حسه مالا يعلمه أو ما يعلمه بالخبر بحسب ما يمكن تعريفه به كما أن منها ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما شاهده وهذا هو المعقول كما أن الأول هو المسموع والمحسوس ابتداءا هو ما يحسه بظاهره أو باطنه وهذا بين القسم الثاني وهو أنهم متفقون على أن من الأمور الغائبة عن حسه ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما يشهده كما يعلم ما يغيب عنه من أفراد الآدميين والبهائم والحبوب والثمار وأفراد الأطعمة والأشربة واللباس ونحو ذلك فإنما يسميه الفقهاء ونحوهم جنسا واحدا أو هو ماله اسم جامع يجمع أنواعا يميز بينها بالصفات كالحنطة والثمر والإنسان والفرس وهو الذي يسميه المنطقيون النوع وما هو أخص من ذلك وإن كان قد يسمى أيضا جنسا أو صنفا أو نوعا كالعربي والعبري والفارسي والرومي وكالتمر البرني والمعقلي ونحو ذلك لا ريب أن الإنسان لم يحس جميع أعيانه وأفراده وإنما يعلم غائبها بالقياس على شاهدها فهذا أصل متفق عليه بين العقلاء ومن حكى من أهل الكلام أن من الأمم أمة لا تقر بشيء من المعقولات وإنما تقر بما أحسته ويذكرون ذلك عن البراهمة السمنية فلا ريب أن هذا النقل وقع فيه غلط من هؤلاء وتغليط من أولئك وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أصل هذا النقل لما ذكر مبدأ حدوث الجهمية في هذه الملة فقال وكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من الترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي ناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أنه لك إلاها قال الجهم نعم فقالوا له هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسا قال لا قالوا فوجدت له مجسا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى صلى الله على نبينا وعليه هي من روح الله تعالى ومن ذات الله تعالى فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان فيأمر بما يشاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني أسلت تزعم أن فيك روحا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسا أو مجسا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا تشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله ليس كمثله شيء وهو الله في السموات وفي الأرض ولا تدركه الأبصار فبنى أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله ﷺ وزعم أن من وصف من الله شيئا مما وصف به نفسه أو حدث عنه رسول الله ﷺ كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بشرا كثيرا فقد ذكر بأن السمنية طالبوه بأن يكون إلاهه معروفا ببعض حواسه الخمس وأن مالا يعرفه هو بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعلمه وهذا يقتضي أنما لا يحسه الإنسان بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعرفه وهذا تغليظ منهم وظن أنهم يقولون إن مذهبهم أن الإنسان لا يعرف شيئا إلا ما يحسه ببعض حواسه الخمس ثم إن الجهم أجابهم بدعوى وجود موجود لا يمكن إحساسه أيضا فقطعهم مع غلطه في المناظرة ومغالطتهم أيضا ولو كانوا هم لا يقرون إلا بما أحسه أحدهم لم يكونوا قد انقطعوا بمثل هذه المناظرة لأن غايتها إثبات وجود موجود غير محسوس فيقاس الرب عليه فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام ولا أمكن مخاطبتهم به كما لا يمكن أن يحتج بقول الأنبياء على من كذبهم ولا يقال هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه لأنه يقال لو كان من أصلهم أنهم لا يقبلون القياس في المحسوس لكانوا لا يقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس وكانوا يقولون هذا يعلم وجوده كما ذكرت فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء لا يعرف حكمه من جهة النظير بل الذي يقال إن القوم كانوا يقولون لا يكون شيء موجودا إلا أن يمكن إحساسه فلا يصدق الإنسان بوجود مالا يمكن معرفته بشيء من الحواس لا يقولون الإنسان المعين لا يعلم إلا ما أحسه هو بل ينكر ما أخبره جميع الناس من الأمور التي تماثل ما أحسه وينكر أيضا وجود نظير ما أحسه أو لا يمكنه الاعتراف بذلك فإن هذا لا يتصور أن تقوله طائفة مدنية وقد ذكر هذا المتكلمون فقالوا إن الطائفة التي تبلغ مبلغ التواتر لا يتفقون على إنكار ما يعرف بالضرورة كما ذكر المؤسس في هذا الكتاب إن الطائفة العظيمة من العقلاء لا يجتمعون على إنكار الضروريات فلا ينقلهم ذلك السلب العام عن طائفة من العقلاء ولا يبين به أن طوائف العقلاء يقعوا في شيء من هذا السلب وكلا الأمرين باطل بل التحقيق أن العقلاء لا يتفقون على إنكار العلوم الضرورية من غير تواطئ واتفاق كما لا يتفقون على الكذب من غير تواطئ ولا اتفاق وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كم يجهل بعضها وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لمعارض يغيره عن فطرته وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لمعارض فهو وإن كان ظلوما جهولا فذاك في كثير من الأمور أما أن تكون أمة من الأمم تجهل كل شيء أو تكذب في كل شيء أو تظلم في كل شيء فهذا لا يتفق أبدا فإن اجتماع بني آدم في الدنيا وهو الاجتماع الفطري الطبيعي الذي لا يعيشون بدونه لا يتصور مع هذا الإنكار وذلك أنهم لا بد أن يقروا بأن لأحدهم أبا وأخا ونحو ذلك ومن المعلوم أنه لم يعرف بحسه إحبال أبيه لأمه ولا ولادة أمه له وكذلك لم يحس ولادة أهله وأهل مدينته مع أنه لا بد لهم من اعتراف أن هذه أم فلان وهذا ابنها وإنما يشهد الولادة في العادة بعض النساء وكذلك لا بد أن يعرف أن آباءهم وأمهاتهم مولودون وأن أجدادهم ماتوا وأن الناس يموتون في الجملة ولم يحس كل منهم موت من غاب عنه ولا أن أحدهم يستعين بالآخر لجلب منفعة ودفع مضرة مباينة فيصلح له طعاما وشرابا أو لباسا ويحصل ذلك بأنواع الصناعات والمعاوضات الذي لم يشهد بحسه تفاصيل ذلك بل يستفيده من إخبار المباشرين له وكذلك ما يكون في قريته ومدينته من أحوال أهلها وصناعتهم وأحوالهم التي تتعلق مصلحته بها لا يعرف كل منهم كل شيء في ذلك بالمشاهدة بل بعضهم يشهد ذلك ويخبر غيره حتى يخبر بعضهم بعضا بالمدائن القريبة منهم وأحوالها ولا يخفى على سليم العقل أن الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه قد أوتي به إليه من مكان لم يشهده وصنع بأساب متنوعة لم يشهد عامتها وكذلك لا بد لكل مة من رئيس مطاع وكبير منهم لا يشهدونه وأكثرهم لا يشهدون تفاصيل أحواله التي تتعلق مصالحهم بها وإنما يتسامعون بها ولهذا جاءت الشريعة بقبول شهادة الاستفاضة في هذا وأمثاله كالموت والنسب باتفاق الفقهاء وإن كان لهم فيما يقبل فيه غير ذلك أقوال مختلفة ففي الجملة قبول الأخبار المستفيضة والمتواترة ونحو ذلك فيما يحس جنسه هو من الأمور الفطرية الضرورية لبني آدم كما أن الأكل والشرب والنكاح لهم كذلك فمن قال إن أمة من الأمم عاشت بدون هذه العلوم والأقوال كمن قال إنها عاشت بدون هذه الحياة وهذه الأفعال ولكن اشتبه النوع بالشخص فلما كان قولهم إنما لا يعرف بجنس الحواس لم يعترف به اشتبه ذلك بأن كل من لا يعرف هذا الجنس المعين لم يعترف به وبين القولين بون عظيم جدا فإن هذا الثاني في غاية الجحد والتكذيب ولهذا اشتد إنكار الناس كلهم لهذا القول وجعل هؤلاء المتكلمين هذا أحد أنواع السفسطة ولكن غلطهم في تفصيل السفسطة كغلطهم في جملتها فإنهم ذكروا أن من الناس من ينكر جملة العلوم ويجحدها ومنهم من يشك ويقول لا أدري ويسمونهم المتجاهلة واللاأدرية ومنهم من يقول إن الحقائق تتبع العقائد ثم قالوا منهم من يعترف بالحسيات فقط ومنهم من يضم إلى ذلك المتواترات ويقولون إن رئيس هؤلاء شخص يقال له سفسطاء نسبوا إليه كما نسبت المانوية والجهمية إلى رئيسهم وهذا غلط فإن أمة من الأمم لا يتصور أن تنكر ذلك ولا يتصور أن عاقلا يصر على إنكار ذلك ولكن قد يعرض للعقل نوع من الفساد كما يعرض للحس فينكر المنكر لذلك ما دام به ذلك المرض والآفة العارضة لعقله أو حسه أما أن يكون ذلك مقالة ومذهبا يقولها طائفة عقلاء يعيشون بين بني آدم فهذا لا يتصور ولكن وقع اشتباه في هذا النقل فإن هذه الكلمة هي كلمة معربة وأصلها باليونانية سوفسقيا أي حكمة مموهة فإن سوفيا باليونانية هي الحكمة ولهذا يقولون فيلسوف أي محب الحكمة وهم قسموا الحكمة القياسية إلى خمس أنواع برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموهة ومفلطية فهذه المموهة المغلطية هي التي تشبه الحق وتوهم أنها حق باطلة قطعا لا يجوز أن يظن صدقها ولا أن تتأثر النفس عنها فإن الشعرية قد تتأثر النفس عنها كما يتأثر الإنسان عن أقوال الشعر التي فيها من المدح والذم ما يجزم عقله بكذبه لكن لما فيها من التخيل والتشبيه يؤثر في النفس وإن علم أنها ليست مطابقة وأما هذه المموهة فهي تشبه الحق البرهاني ونحوه مما ينبغي قبوله وهي في الحقيقة باطلة يجب ردها ولكن موهت كما يموه الحق بالباطل فسموها سوفسقيا أي حكمة مموهة ثم إنه لما عربت الكتب اليونانية في حدود المأة الثانية وقبل ذلك وبعد ذلك وأخذها أهل الكلام وتصرفوا فيها من أنواع الباطل في الأمور الإلهية ما ضل به كثير منهم وفيها من أمور الطب والحساب مالا يضر كونه في ذلك وصار الناس فيها أشتاتا قوم يقبلونها وقوم يحلون ما فيها وقوم يعرضون ما فيها على أصولهم وقواعدهم فيقبلون ما وافق ذلك دون ما خالفه وقوم يعرضونها على ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة وحصل بسبب تعريبها أنواع من الفساد والاضطراب مضموما إلى ما حصل من التقصير والتفريط في معرفة ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة حتى صار ما مدح من الكتاب والسنة من مسمى الحكمة يظن كثير من الناس أنه حكمة هذه الأمة أو نحوها من الأمم كالهند وغيرهم ولم يعلموا أن اسم الحكمة مثل اسم العلم والعقل والمعرفة والدين والحق والباطل والخير والصدق والمحبة ونحو ذلك من الأسماء التي اتفق بنو آدم على استحسان مسمياتها ومدحها وإنما تنازعوا في تحقيق مناطها وتغيير مسمياتها فإن كل أمة من أهل الكتب وغير أهل الكتب تسمي بهذه الأسماء ما هو عندها كذلك من القول والعمل وإن كانت في كثير من ذلك أو أكثره إن تتبع إلا الظن وما تهوى الأنفس ولهذا قال تعالى وتقدس كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فإنما يفصل النزاع بين الآدميين كتاب منزل من السماء ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين عند تنازعهم بالرد إليه كما قال تعالى وتقدس يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وهذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا أن الناقلين للمقالات وأهل الجدل صاروا يعيرون باللفظة المعربة من سوفسقيا وهي سوفسطا عن هذا المعنى الذي يتضمن إنكار الحق وتمويهه بالباطل وظن من ظن أن هذا قول ومذهب عام لطائفة في كل حق وليس الأمر كذلك وإنما هو عارض لبني آدم في كثير من أمورهم فكل من جحد حقا معلوما وموه ذلك بباطل فهو مسفسط في هذا الموضع وإن كان مقرا بأمور أخرى وهو معاند سوفسطائي إذا علم ما أنكره قال تعالى وتقدس وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فهؤلاء سفسطائيون في هذا الجحود وإن كانوا مقرين بأمور أخرى وقال تعالى وتقدس فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولهذا كان جمهور من كذب بالحق الذي بعث به رسله من ذوي التميز هم من الجاحدين المعاندين وهم من شر السوفسطائين فهكذا ما ذكروه عن السمنية إنما كان أصل قولهم أن الموجود لا بد أن يمكن أن يكون محسوسا بإحدى الحواس لا أنه لا بد لمن أقر به أن يحس به وهذا الأصل الذي قالوه عليه أهل الأثبات فإن أهل السنة والجماعة المقرين بأن الله تعالى يرى متفقون على أن مالا يمكن معرفته بشيء من الحواس فإنما يكون معدوما لا موجودا فكان حق الجهم أن يقول لهم إن أردتم أني لا بد أن أحس بإلاهي فلا يجب عندكم أن ينكر الإنسان ما لم يحسه هو وإن أردتم أنه لا بد أن يمكن أن يحس به فإلاهي يمكن أن يرى وأن يسمع كلامه وإن أردتم أنه لا بد أن يكون قد عرفه بالحس بعض الآدميين فهذا مع أنه غير واجب فقد سمع كلامه من سمعه من الرسل وهو أحد الحواس وقد رواه بعضهم أيضا عند كثير من أهل الأثبات وكان يقول لهم أتريدون أنه لا بد أن يحسه هذا الحس الظاهر أم يكفي إحساس الباطن إياه وشهوده إياه الأول منقوض بأحوالنا الباطنية الجسمانية والنفسانية وأما الثاني فمسلم وقد شهدته بعض القلوب فعدل عن ذلك وادعى وجود موجود لا يمكن إحساسه وهو الروح وهذا هو قول المتفلسفة المشائين فيها وحجته هذه من جنس حجة أبي عبدالله الرازي لما ادعى جواز وجود موجود لا يمكن إحساسه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه واحتج على ذلك بقول هؤلاء المتفلسفة ومن وافقهم في العقول والنفوس ويقول بقولهم وقول من وافقهم من متكلمي المسلمين في النفس الناطقة فجهم أول هؤلاء ومقدمهم الأول ولهذا ألزمته هذه الحجة أن يصف الرب تعالى وتقدس من الحلول والاتحاد بنحو مما قالته النصارى في المسيح لكن أولئك خصوه بالمسيح والجهمية تطلقه في الموجودات فقولهم في كل مكان نظير قول النصارى إنه حال في المسيح إذا تبين ذلك فنقول المتكلمون والفلاسفة كلهم على اختلاف مقالاتهم هم في قياس الغائب على الشاهد مضطر بين كل منهم يستعمله فيما يثبته ويرد على منازعه ما استعمله في ذلك وإن كان قد استعمل هو في موضع آخر ما هو دونه وسبب ذلك أنهم لم يمشوا على صراط مستقيم بل صار قبوله ورده هو بحسب القول لا بحسب ما يستحقه القياس العقلي كما تجدهم أيضا في النصوص النبوية كل منهم يقبل منها ما وافق قوله ويرد منها ما خالف قوله وإن كان المردود من الأخبار المقبولة باتفاق أهل العلم بالحديث والذي قبله من الأحاديث المكذوبة باتفاق أهل العلم والحديث فحالهم في الأقيسة العقلية كحالهم في النصوص السمعية لهم في ذلك من التناقض والاضطراب مالا يحصيه إلا رب الأرباب وأما السلف والأئمة فكانوا في ذلك من العدل والاستقامة وموافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بحال آخر فالعصمة وإن كانت شاملة لجماعتهم فآحادهم مع ذلك لا يجترؤون في مخالفة النصوص المشهورة والمعقولات المعروفة على ما يجترئ عليه هؤلاء المسفسطون وكانوا يستعملون القياس العقلي على النحو الذي ورد به القرآن في الأمثال التي ضربها الله تعالى للناس فإن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الآلهية والمقاصد الربانية مالا تصل إليه آراء هؤلاء المتكلمين في المسائل والوسائل في الأحكام والدلائل كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه فإن الله سبحانه ليس مثلا لغيره ولا مساويا له أصلا بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك والعدل بالله وجعل الند لله وجعل غيره له كفوا وسميا وهم مع هذا كثير والبراءة من التشبيه والذم له وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله وجعل غيره له كفوا وندا وسميا كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر ابن هبيرة في كتاب الإيضاح في شرح الصحاح أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة لأن الله تعالى لا شريك له بل لله المثل الأعلى وذلك هو قياس الأولى والأحرى فكلما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالمعطي الكمال لغيره أولى وأحرى أن يكون هو موصوفا به إذ ليس أعطى وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله لغيره فإن ذلك لا يمكن بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة وكذلك ما كان منتفيا عن المخلوق لكونه نقصا وعيبا فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحق بالتنزيه عنها لأنه عن العدم أبعد من سائر الموجودات ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته وذاته بذاته تنافي العدم وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم فهذا أصل ينبغي معرفته فإذا أثبت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريق القياسية العقلية التي لله فيها المثل الأعلى كان ذلك اعتبارا صحيحا وكذلك إذا نفي عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطريق ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائما بنفسه أو موصوفا أو أن له من الحقيقة والصفة والقدرة ما استحق به ألا يكون بحيث غيره وأن لا يكون معدوما بل ما أوجب أن يكون قائما بنفسه مباينا لغيره وأمثال ذلك هو من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد صار على هذا الصراط المستقيم فكل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد الوجه الثاني أن يقال من المعلوم أن لفظ الوجود هو في أصل اللغة مصدر وجدت الشيء أجده وجودا ومنه قوله تعالى فلم تجدوا ماءا وقوله حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده وقوله ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى وأمثال ذلك فالموجود هو الذي يحده الواجد فنسبة الموجود إلى الوجود كنسبة المعلوم إلى العلم والمذكور إلى الذكر والمحس المحسوس إلى الحس والمشهود والمرئي إلى الرؤية وهذا الاسم إنما يستحقه من يكون موجودا لواجد يجده لكن هم في مثل هذا قد يقولون مشهود ومرئي وموجود ونحو ذلك لما يكون بحيث يشهده الشاهد ويراه الرائي ويجده الواجد وإن تكلموا بذلك في الوقت الذي لا يكون فيه يشهده ويراه ويجده غيره وقد لا يقولون هذا إلا في الوقت الذي يشهده الشاهد ويراه الرائي ويجده الوجد وكثيرا ما يقصدون به المعنى الأول فيطلقون الموجود على ما هو كائن ثابت لكونه بحيث يجده الواجد وكذلك لفظ الوجود يريدون بها تارة المصدر الذي هو الأصل فيها ويريدون بها تارة المفعول أي الموجود كما في لفظ الخلق ونحوه وكذلك لفظ الفعل فإنهم يقولون وجد هذا وهذا صيغة فعل مبني للمفعول فقد يريدون بذلك أنه وجده واجد وقد يريدون بذلك أنه كان وحصل حتى صار بحيث يجده الواجد ثم لما صار هذا المعنى هو الغالب في قصدهم صار لفظ الموجود عندهم والوجود يراد به الثبوت والكون والحصول من غير أن يستشعر فيه وجود واجد له لا بالفعل ولا بالاستحقاق فهذه ثلاث معان لكن غروب هذا المعنى عن الذهن إنما كان لما لم يقصد الناطق إلا نفس الكون والثبوت وإن كان المعنى الآخر لازم له وحينئذ فنقول اتفاق الناس على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى دليل على تلازمها فكما أن كل ما وجده واجد فله حصول في نفسه فكما له حصول في نفسه فإنه بحيث يجده الواجد ولا يجوز أن يسمى بالموجود ما يكون حيث لا يجده الواجد لأن هذا سلب لمعنى اللفظ الذي به صح إطلاقه على هذا المسمى كما أن اسم الحي والعالم والقادر لما أطلقوه على المسمى باعتبار كونه عالما وحيا وقادرا لم يجز أن تخرج هذه المعاني من هذه الأسماء ولهذا كثيرا ممن أطلق هذا الاسم على الله تعالى لا يريد به إلا ما فيه من معنى الإضافة مثل قول الداعي يا مقصود يا موجود وقول المذكر والداعي يا من يجيب من قصده أو من طلب الله صادقا وجده وعلى هذا دل قوله حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فإنما دل على هذا المعنى بلفظ الفعل الماضي وهو قوله ووجد الله عنده لكنه عداه إلى مفعولين وإذا كان كذلك علم أنه يجب أن يكون بحيث يجده القاصد والطالب ويجده الواجدون وهذا بعينه هو أنه بحيث يحسونه فإن وجود الشيء وإحساسه متلازمان بل هو هو لا يستعمل لفظ موجود ووجدته فيما لا يحس ولا يمكن الإحساس به البتة وهذا معنى احتجاج المثبتة بهذا كما قال القاضي أبو يعلى حيث قال في قوله الآخر أثبت الجهة بعد أن كان ينفيها ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقولون ليس هو في جهة ولا خارج منها وقائل هذا بمثابة من قال إثبات موجود مع وجود غيره لا يكون أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده قال ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم فبينوا أن المستقر في فطر الناس أن قولهم طلبته فلم أجده في موضع ما هو يدل على أنهم لم يحسوه في أين من الأيون هذا بمنزلة قولهم فإذا هو معدوم لأن ضد المعدوم هو ما يكون حيث يجده الواجد وقولنا بحيث يجده الواجد هو إشارة إلى الأين الذي يوجد فيه فمالا أين له ولا حيث يمتنع أن يجده الواجد وما امتنع لأن يجده الواجد لم يكن موجودا بل كان معدوما كما بين أن نفي الأين والحيث ونحوهما من الظروف من جميع الوجوه كنفي المقارنة بالقبل والبعد والمع ومعلوم أن هذا لا ينطبق إلا على المعدوم فكذلك الآخر والذي يحقق هذا أنك لست تجد أحدا من أهل الفطر السليمة مع ذكائه ونظره وجودة تصوره إلا إذا بينت له حقيقة قول السالبة قال هذا لا شيء ولهذا كثر كلام الناس فيهم بالخبر عنهم بأنهم معطلون وأنهم أعدموه وأمثال ذلك وقد استقرئت أنا في طوائف من الآدميين فوجدت فطرهم كلهم على هذا الوجه الثالث أن يقولوا نحن نعلم بالضرورة العقلية أن الموجود إما أن يكون موصوفا وإما أن يكون صفة أو نعلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا موصوفا وهذا متفق عليه بين الصفاتية ومن نازع في ذلك قيل له أنت توافقنا على ما هو معلوم بالفطرة من أن الموجود القائم بنفسه لا بد أن يوصف أي يخبر عنه بما هو مختص به متميز به عن غيره إذ الموجود في الخارج لا يكون مرسلا مطلقا لا يتميز بشيء بل فساد هذا معلوم بالضرورة باتفاق العقلاء المتفقين على أن الكلي لا يكون في الخارج كليا مطلقا بل لا يكون إلا مخصوصا معينا وإذا كان كذلك فلا يعني بالموصوف إلا ما يوصف سواء قيل إن الصفة ذاتية أو معنوية كقولنا الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكذلك نعلم أن الموجود إما جسم وإما عرض وإما متحيز وإما قائم بمتحيز لمن كان يفهم معاني هذه العبارات الاصطلاحية فإن من فهم هذا وهذا وهذا وتصوره تصورا تاما حصل له حينئذ العلم البديهي والضروري الفطري فإن العلم البديهي يعنون به ما كان تصور طرفيه كافيا في التصديق به فعدم التصديق به كثيرا ما يكون لعدم التصور الصحيح للطرفين وهذه العبارات المجملة قد لا يتصور أكثر الناس من إذا هل الاصطلاح بها فإذا تصوروا معناها ومعنى الموصوف والقائم بنفسه كان علمهم بهذا كعلمهم بهذا كل ذلك فطري ولذلك اتفق على ذلك محققو المثبتة ومحققو النفاة أما النفاة العقلاء من المتفلسفة والقرامطة وأهل الوحدة وأمثال هؤلاء فقد علموا أنهم مضطرون إلى أن يقولوا هو الوجود المطلق وهو لا يتعين ولا يتخصص ولا كذا ولا كذا لعلمهم بأنه متى كانت له حقيقة معينة في الخارج وخاصة تميزها لزم أن يكون جسما متحيزا داخل العالم أو خارجه وهم قد يسلمون نفي ذلك فصاروا دائرين بين المعنى الذي سموه تجسيما وبين هذا النفي والتعطيل فذهبوا إلى هذا لكنهم ظنوا إمكان وجود ما أثبتوه في الخارج وجميع العقلاء يعلمون بالفطرة الضرورية استحالة وجود مطلق في الخارج ويعلمون أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهؤلاء أيضا يعلمون ذلك إذا تدبروه ورجعوا إلى ما معهم من العلوم الفطرية الصحيحة العقلية ولهذا لما خاطبت بهذا غير واحد من أفاضل أهل الوحدة الكبار وثبت هذا لهم تبين الأمر وعلموا من أين دخل الداخل على من كان عندهم أئمة العالم في التحقيق والعرفان ومن كان حاذقا في هذه الأمور منهم يقول ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صرائح العقول ولذلك عبر هذا بالكشف والذوق والمشاهدة وهذا لا يحصل إلا بالرياضة والمجاهدة والخلوة ونحو ذلك من الطرق العبادية الزهدية الصوفية وقلت لبعض أكابرهم لما خاطبني في هذا وكان مهتما في ذلك وطلب مني أن لا أخاطبه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وقال أنا لا أقول إنها خبر والخبر محتمل لكن أمور أخرى وكنت علمت من حاله ما علمت معه ضعف تلك الأدلة في نفسه وكان مخاطبته بالأمور العقلية أيسر عليه وأبين له وإن كان ذلك مما بينه كتاب الله تعالى الذي ضرب للناس فيه من كل مثل وجعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه وأخبر المؤمنين عند التنازع في ظلمات وفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك وقال فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور كما قال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ونحو ذلك مما يبين أن القول المختلف باطل وذم من لا يعقل مثل ذلك ويعمى عن الحق المعقول فقلت له لا نزاع في أنه قد يحصل من العلم بالكشف والمشاهدة مالا يحصل بمجرد العقل سواء كان للأنبياء فقط أو للأنبياء والأولياء أو لهم ولغيرهم لكن يجب الفرق بين ما يقصر العقل عن دركه وما يعلم العقل استحالته بين مالا يعلم العقل ثبوته وبين ما يعلم العقل انتفاءه بين محارات العقول ومحالات العقول فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه قد يخبرون بمحارات العقول وهو ما تعجز العقول عن معرفته ولا يخبرون بمحالات العقول وهو ما يعلم العقل استحالته قلت وهذا بين واضح فلو قال قائل إنه يعلم بالكشف والذوق والمشاهدة أو بالأخبار عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو غير ذلك أن الواحد ليس نصف الاثنين وأن الواجب لذاته يكون ممتنعا لذاته وأن المخلوق يماثل الخالق في الحقيقة وأن الوجود كله ممكن الوجود ليس في الوجود وجود واجب ولا وجود قديم ونحو ذلك من القضايا التي يعلم العقل وجوبها وامتناعها وإمكانها فمن ادعى أنه يعلم بالكشف والبصر أو بالسماع والخير عن الأنبياء عليهم السلام ما ينافي هذا كانت هذه الدعوى باطلة فلما بينت له ذلك اعترف بهذا الأصل وبه يتبين زيف هؤلاء فلما تقرر هذا ثبت له أن العقل الصريح يمنع أن يكون في الخارج وجود كلي مطلق بشرط الإطلاق وأن الكليات بشرط إطلاقها أو عمومها إنما وجودها في الأذهان لا في الخارج وكان عارفا بهذه العلوم وبينت له ما تستلزم أقوالهم الكثيرة من الجمع بين المتناقضات التي هي معلوم استحالتها ببداية العقول وما كان كذلك فإذا ادعى أنه عرفه كشفا وشهودا أو ذوقا علم أنه خيالات فاسدة وأذواق فاسدة وذلك أنه لا بد من أحد الأمرين إما أن يكون قد شهد ما وجوده في الأذهان فاعتقد وجوده في الأعيان كما يقع لكثير من الناس ومعلوم أن شهود الشيء غير العلم بكونه في النفس أو الخارج وهؤلاء قد يحصل لهم مجرد الشهود من غير تمييز بين الموجود في النفس أو الخارج وكثيرا ما يضلهم الشيطان بتخيلات لا حقيقة لها في الخارج وإما أن يكون قد شهد ما وجوده في الخارج فظن أنه الخالق وإنما هو مخلوق ليس هو الخالق فكل شهود وذوق وكشف يدعى فيه أن المشهود بالقلب هو الله وذلك مما يناقض المعلوم بصريح العقل ويخالف الكتاب والسنة والإجماع فإنه يكون المشهود به إما في الذهن وإما في الخارج ولكن ليس هو الله ولا هو ما يقال هو وجوده ولا ذاته وبسط الكلام في هذا له موضع آخر فإن المؤسس وأمثاله وإن كانوا هم وهؤلاء يشتركون في إنكار الأصل وهو إنكار حقيقة وجود الله ومباينته لخلقه الذي يستلزم إنكاره هذه المقالات المتناقضة وفي الإقرار يثبتون ما يخالف ذلك من الأمور الممتنعة لكن هو وأمثاله لا يقولون بهذا ويسلمون أنه ليس وجودا مطلقا بل له حقيقة تختص به يمتاز بها عن من سواه ولكن المقصود بيان أنه هو وأمثاله كما يعلمون بصريح العقل بطلان قول هؤلاء النفاة فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجودا معينا مخصوصا قائما بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أن يقال هم لا ينازعون أن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره والله سبحانه وتعالى قائم بنفسه وإن نازعوا في وصف غيره بأنه قائم بنفسه لتنازعهم في أن القائم بنفسه هل يراد به الموجود المستغني عن المحل أو المستغني عن المحل والمخصص والمكان وغير ذلك لكن المقصود هنا أنه لا يعقل ما هو قائم بنفسه بمعنى أنه غير حال في محل إلا ما هو مختص بما يقولون إنه جهة وإن كان حقيقته أمرا عدميا وما تصح عليه المحاذاة على اصطلاحهم وما هو في اصطلاحهم جسم ومتحيز هو المعدوم في صرائح العقول ومن قيل له هل تعقل شيئا قائما بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكما بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود كما سمعنا ورأينا إنه يقول ذلك عامة من يذكر له ذلك من أهل العقول الصحيحة الذكية وكما يجده العاقل في نفسه إذا تأمل هذا القول وأعرض عما تلقنه من الاعتقادات السلبية وما اعتقده من يعظمها ويعظم قائلها واعتقاده أنهم حرروا هذه المعقولات فإن هذه العقائد التقليدية هي التي تصد القلوب عما فطرت عليه كما قال النبي ﷺ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ثم إن هذه المقالات السلبية لم يقل شيئا منها إمام من أئمة المسلمين ولا نطق بها كتاب ولا سنة والطوائف المتكلمون قد أنكرها من حذاقهم من لا يحصيه إلا الله فإن قيل الاستغناء عن المحل وصف سلبي فإذا كان القيام بالنفس وصفا سلبيا لم يدل على معنى ثبوتي وهو كونه متحيزا أو جسما قال له منازعه أولا هذا منقوض بوصف الأجسام والجواهر بأنها قائمة بنفسها غنية عن المحل فإن هذا السلب يستلزم هذا الثبوت وقالوا ثانيا نحن لم نجعل نفي السلب هو الثبوت وإنما قلت الشيء الموجود المحكوم عليه المخبر عنه بهذا السلب هو الذي يعلم القلب أنه محكوم عليه مخبر عنه بهذا الثبوت ونعلم أن لا يكون هذا السلب عن أمر موجود إلا مع هذا الثبوت وقالوا ثالثا المستلزم لهذا الثبوت هو الأمر الوجودي المسلوب عنه المحل فهذا الأمر الوجودي هو الذي سموه المتحيز والجسم وقالوا رابعا وهو الوجه الخامس إن القائم بنفسه لا يقوم بالقائم بنفسه ولا يكونان في حيز واحد بل كل منهما يمتنع أن يكون بحيث هو الآخر وهذا معنى قول المتكلمين إن الأجسام لا تتداخل ولما ذكروا عن النظام أنها تتداخل قالوا هذا قريب من جحد الضرورة ومن قال تتداخل لم يرد المعنى الذي يعلم بالضرورة بطلانه ولكن النظام جعل أعراض الجسم غير الحركة أجساما كاللون والطعم والريح وهذه متداخلة في محل واحد وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع في تسميته أجساما فأما الجسم القائم بنفسه فلم يقل أحد أنه يداخل مثله بل إذا تحلل في تضاعيف غيره زاد ذلك الغير في نفس حجمه وإذا كان القائمان بأنفسهما لا يكون أحدهما بحيث الآخر وإن كان القيام بالنفس عبارة عن عدم المحل فمعلوم أن كل واحد منهما له حيث يخصه وهو حيزه أو له قدر يخصه وجسم يخصه ونحو ذلك من العبارات وذلك مانع من المحايثة والمداخلة وإلا فإذا قدر أن كلا من الصفتين عدمي فالأمور العدمية لا تكون مانعة من الأمور الوجودية والمتكلمون قد ذكروا تعليق منع كون الجسم بحيث الجسم الآخر فقال المعتزلة وطائفة من الصفاتية المانع منه التحيز والموجب لهذا الامتناع التحيز وعلى هذا فيجب نفي الحكم لانتفاء علته فما لا يكون متحيزا لا يكون مانعا من ذلك ما ذكرناه وقال بعضهم الموجب لذلك تضاد كونهما وعلى هذا فما لا يكون لا يضاد غيره والأكوان إنما تكون للأجسام باتفاقهم وهو ظاهر وقال بعضهم الاستحالة والامتناع لا يعلل أي هي ثابتة للذات وعلى هذا فالمعلوم إن ذلك ثابت للذوات المتحيزة فما لا يكون متحيزا لا تعقل فيه هذه الاستحالة وعلى كل تقدير فيجب أن يكون ما ليس بمتحيز إذا كان قائما بنفسه أن لا يكون مانعا لغيره أن يداخله وهذا باطل قطعا وإذا كانت القلوب تعلم بالضرورة أن القائم بنفسه مانع لغيره من المداخلة وهذا الحكم مختص بالمتحيز علم أنها لا تعلم قائما بنفسه إلا المتحيز الوجه السادس أن يقال ما علم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزا أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا والمعتزلة ومن اتبعهم الذين يخرجون القديم من هذا التقسيم مما اعتقدوه لما اعتقدوه وهذا قول طائفة من الفلاسفة لا جميعهم وكذلك ذاك قول طائفة من المتكلمين لا جميعهم وكما أن قول هؤلاء الفلاسفة لم يكن مانعا للمتكلمين ومن وافقهم من الفلاسفة من هذا التقسيم فكذلك قول هؤلاء المتكلمين ليس مانعا لمن خالفوه من جماهير الناس وأهل الكلام والفلسفة من هذا التقسيم ولهذا قال أئمة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية ومن أخذ ذلك عنهم من متكلمي الصفاتية كالأستاذ أبي المعالي إمام الحرمين وأمثاله في تقسيم الموجودات الموجود إما أن كون له أول وإما أن يكون بلا أول والذي له أول هو الحادث وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي الحوادث إلى المحل وهذه القسمة أيضا تستند إلى نفي وإثبات قال ولو قيل هذه القسمة قسمة الموجودات لم يكن بعيدا غير أن الوجود الأول لا بدو له ولا نهاية لوجوده وكذلك أيضا لا نهاية لذاته ولا نهاية لصفاته وجودا وحكما فكذلك لا يتطرق إلى ذات القديم ولا إلى صفاته الأوهام ولا تجول فيه الأفكار قلت وهذا لا يمنع من التقسيم فإن وصفه بالنهاية وعدمها فيه ما هو معروف في موضعه وهو لا يريد بسلبها أن ذاته لا تتناهى إنما يريد أنها بحيث لا يقال فيها هي متناهية أو ليست متناهية فهي عنده لا تقبل أحدا من الوصفين كما لا تقبل الوصف بالمحايثة والمباينة والدخول والخروج ونحو ذلك والخلو عن هذين الوصفين فرع إمكان ذلك أو ثبوته فلا يجعل دليلا على ما يقتضي وجوده إذ الشيء لا يكون دليلا على نفسه إذا كان مطلوبا بالدليل فكيف تكون دعوى الإمكان والثبوت دليلا على وجود الشيء قبل العلم بوجوده وأيضا فقوله لا تتطرق إليه الأوهام ولا تجول فيه الأفكار إن أراد به لا تحيط به ولا تدركه فهذا حق وإن أراد به لا تثبته ولا تقر به فهذا باطل وأيضا فعدم التناهي وعدم تطرق الأوهام والأفكار لا يمنع صحة التقسيم كما إذا قلنا الموجود إما قديم وإما حادث والموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما خالق وإما مخلوق وقد قال أولا في أقسام الموجودات تنقسم قسمين موجود لا افتتاح لوجوده وهذا القديم سبحانه وصفاته وموجود لوجوده افتتاح وهو الحادث قال وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي لأن الموجود إما أن يكون له أول وإما أن لا يكون له أول فإذا كان قد أدخله في تقسيم الموجود إلى قديم ومحدث فكذلك يجب أن يدخله في قسمة الموجود إلى مستقل ومفتقر بل هذا التقسيم أبين وأوضح والعقلاء متفقون عليه فإنه لا نزاع بينهم أن الباري سبحانه هو موجود مستقل غير مفتقر كما أنهم متفقون على أنه قديم غير محدث لكن العلم باستقلاله وقيامه بنفسه هو أولى به وأبين وأسبق في القلب من كونه قديما كما أن العلم بوجوده أولى به من العلم بوجوب وجوده إذ لو لم يكن مستقلا بنفسه غنيا عن المحل امتنع أن يكون واجبا بخلاف العكس فإن ما لم يكن قديما وحده أو لم يكن واجبا بنفسه يمتنع أن يكون مستقلا أو موجودا فصار هذا مع هذا كالذات والصفات وأيضا فإذا كان الموجود الأزلي لا بدو له ولا نهاية لوجوده وذلك لا يمنع من دخوله في تقسيم الموجود إلى قديم وحادث فكذلك كونه لا نهاية لذاته وضعا إن صح ذلك لا يكون مانعا من دخوله في التقسيم إلى مستقل ومفتقر ومما يبين ذلك أن التقسيم الأول بالنسبة إلى الدهر والزمان كالتقسيم الثاني بالنسبة إلى الحيز والمكان فإن الحادث بالنسبة إلى الدهر والزمان كالمفتقر إلى محل بالنسبة إلى الحيز والمكان والقديم لا تحصره الأزمنة كالمستقبل الذي لا تحويه الأمكنة ثم قال هؤلاء المحدث الذي يستغني عن المحل هو الجوهر في اصطلاح المتكلمين والمفتقر إلى المحل هو العرض ويشمل القسمين اسم العالم ثم إن طائفة من متكلمة المعتزلة لما أثبتوا أعراضا لا في محل كالإرادة والكراهة والفناء اتفق سائر العقلاء على أن هذا خروج عن المعقول لكونه أثبت مالا يقوم بنفسه لا في محل فكذلك من أثبت قائما بنفسه ليس مباينا لغيره فإن علم العقل باستحالة عرض لا في محل كعلمه باستحالة قائم بنفسه ليس بمباين أو ليس بجسم كما أن الأول فيه جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل كذلك في الثاني جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل ثم قالوا فإن قيل هل في المقدور حدوث ما يخرج عن القسمين قلنا إنما يوصف الرب سبحانه وتعالى بالاقتدار على الممكنات وليس ذلك من الممكنات فإن الذي يحصره ويضبطه الذكر حسا أو حكما على هذا الحكم قسمان أحدهما موجود وهو جرم متحيز لو اتصل بمثله اتصل به على طريق المجاورة لا بالمداخلة والحقيقية بل ينحاز أحدهما عن الآخر ويختص عنه بجهة ويصير أحد جهاته ولو نظر الناظر إليهما أدركهما شيئين متجاورين لكل واحد منهما حظ من المساحة وما هذا وصفه قد يسمى قائما بنفسه لاستغنائه عن محل يقوم به فيكون صفة له ومعنى تحيزه شغله الحيز وأنه إذا وجد في فراغ أخرجه عن كونه فراغا وما هذا وصفه يسمى جوهرا وأما القسم الثاني وهو الذي لو قدر شيئان منه لا يمتنع حصولهما في محل واحد وحيث واحد ولا يتصور ازدحامهما فيه ومن تأمل ما ذكرنا من القسمين وأنصف علم استحالة تقدير قسم ثالث خارج عن القسمين وهذا الكلام يتناول الموجود مطلقا ويقال فيه مطلقا ما قاله في المحدث فإن قوله الذي يضبطه الذكر حسا أو حكما يعم ذلك في الموجود لا يفرق في ذلك بين كونه قديما أو محدثا بل ضبط الذكر حسا أو حكما لهذين القسمين هو للموجود مطلقا من غير تقييد بحدوث أو قدم ويبين ذلك أن الذكر يضبط هذين القسمين قبل علمه بانقسام الموجود إلى محدث وقديم وقبل علمه باستحالة وصف القديم بأحدهما أو بهما أو جواز ذلك عليه وبالجملة فحكم الفطرة إن كان مقبولا في هذا التقسيم فهو مقبول مطلقا وإن لم يكن مقبولا فليس مقبولا مطلقا إذ الفطرة لا تفرق ولهذا كان يقول غير واحد من الفضلاء العالمين بالفلسفة والشريعة ما ثم إلا مذهب المثبتة أو الفلاسفة وما بينهما متناقض وثبت أن الفلاسفة أكثر تناقضا الوجه السابع أن ما به يعلم أنه لا بد لكل موجود في الخارج من صفة وخاصة ينفصل بها ويتميز بها عما سواه يعلم أنه لا بد لكل موجود من حد ومقدار ينفصل به عما سواه إذ كل موجود فلا بد له من صفة تخصه وقدر يخصه وليس المراد بالحد هنا الحد النوعي فإن ذلك هو القول الدال على المحدود وهو كلي لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه وإذا أريد بالحد نفس المحدود وحقيقته فليس في الخارج محدود كلي بشرط كونه كليا بل يقال حقيقة هذا تشبه حقيقة هذا فالحدود على هذا تتشابه وتتماثل إذا عني بها حقيقة الموجودات الخارجية ولا بد لكل موجود من هذه الحدود والحقائق كما ذكرنا وتقدير موجود قائم بنفسه ليس له صفة ولا قدر هو الذي يراد بالكيفية والكمية كتقدير موجود ليس قائما بنفسه ولا بغيره وهو الذي يراد بالعرض والجوهر ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن الكيف غير معقول وغير معلوم ويقولون إن لله عز وجل حدا لا يعلمه إلا هو فهم دائما ينفون علم العباد بكيفية الرب وكيفية صفاته وبحده وحد صفاته لا ينفون ثبوت ذلك في نفسه بل ينفون علمنا به يبين هذا أن الذي قاله أئمة أهل الكلام في الصفة يقال مثله في القدر قال الأستاذ أبو المعالي ذهب قدماء المعتزلة إلى أن حقيقة الإله قدمه وذلك أخص وصفة وقال بعضهم حقيقته وجوب وجوده وقال أبو هاشم أخص وصف الإله به حال هو عليها يوجب كونه حيا عالما قادرا قال فهذا قول جهم لا بيان له قال وأما أصحابنا فقال بعضهم حقيقته تقدسه عن مناسبة الحوادث في جهات الاتصالات وقال بعضهم حقيقته غناه وقال بعضهم حقيقته قيامه بنفسه بلا نهاية قال وهذه العبارات تشير إلى نفي الحاجة وقال الأستاذ يعني أبا إسحاق حقيقة الإله صفة تامة اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان قال أبو المعالي وهذا أيضا فيه إيهام لأنه يلقى من صفة النفي إثبات قال وحكى القاضي أبو جعفر السمناني عن القاضي أبي بكر حقيقة الإله لا سبيل إلى إدراكها هذا الأوان قال وسنعود إلى هذا في كتاب الإدراكات قال وكان شيخنا أبو القاسم القشيري يقول هو الظاهر بآياته الباطن فلا سبيل إلى درك حقيقته وقال الأستاذ أبو المعالي لا شك في ثبوت وجوده سبحانه وتعالى فأما الموجود المرسل من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال لكن ليس يتطرق إليها العقول ولا هي علم هجمي ولا علم مبحوث عنه إنا لا نقول إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها فإنه سبحانه وتعالى يعلم حقيقة نفسه وليس للمقدور الممكن من مزايا العقول عندنا موقف ينتهي إليه ولا يمتنع في قضية العقل مزية لو وجدت لاقتضت العلم بحقيقة الإله قلت المقصود هنا أنه بين امتناع أن يكون وجوده مرسلا وهو المطلق من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره وأنه يعلم تلك الحقيقة وجوز أن يعلمها العباد وأما الذي أحال عليه في كتاب الإدراكات فإنه قال في باب الرؤية فصل قال ضرار بن عمرو إن الباري يستحيل أن يدرك بالحواس الخمس ولكن يجوز أن يخلق الله تعالى لأهل الثواب حاسة سادسة تخالف الحواس الخمس فيدركونه بها ثم قال هذا الرجل لله عز وجل مائية لا يعلمها في وقتنا إلا هو ثم تردد فقال مرة لا يصح أن يعلم مائية الرب تعالى في الدنيا والعقبى غيره وقال مرة بل يعلمها من يدرك الرب تعالى ويراه وهو سبحانه رأى نفسه عالم بمائيته ونحن إذا رأيناه علمنا مائيته قال القاضي أبو بكر الخلسة قد تطلق والمراد بها الإدراك يقال أحس فلان إذا أدركه وقد يراد بها الجارحة فإن أراد ضرار بالحاسة الجارحة والبينة المخالفة لبقية الحواس شاهدا فقد سبق الرد على من قال الإدراك مفتقر إلى بينة وإن زعم أن الإدراك هو الذي أثبته خارج من قبيل الإدراكات إلا أنه مخالف لها مخالفة متعلقه متعلق الإدراكات فهذا صحيح ولكنه أخطأ في تسميته سادسا وإن هو أومى فيما ذهب إليه إلى اختلاف الإدراكات فتخرج الإدراكات شاهدا عن الخمس والخمسين قال القاضي فلو قال قائل فما مذهب الرجل قلنا مذهبه إثبات الرؤية بشرط بينة سادسة وصرف الحاسة إلى البينة والتأليف دون الإدراك قلت الحاسة يراد بها الإدراك ويراد بها القوة التي في العضو والسادس يجوز أن يراد به البينة والتأليف ويجوز أن يراد به القوة ويجوز أن يراد به الإدراك أي يخلق جنسا من الرؤية مخالفا للجنس الموجود في الدنيا وهذا من جنس قول هؤلاء الذين يقولون يرى لا في جهة وليس المقصود هنا ذلك قال وأما المائية التي أثبتها فقد صار إلى إثباتها بعض الكرامية ولم يسلكوا في ذلك مسلك ضرار فإنه من نفاة الصفات وإن عنى بها صفة نفسه وحالا فهو مذهب أبي هاشم فإنه صار إلى أنه سبحانه وتعالى في ذاته على صفة وحالة وهي أخص وصفه وبها يخالف خلقه وهذا تصريح بمذهب ضرار وإنما اختلفا في العبارة فإن أبا هاشم سماها خاصة وسماها ضرار مائية وقد رددنا على أبي هاشم مذهبه في إثبات الأحوال وقال القاضي أبو بكر لا بعد عندي فيما قاله ضرار فإن الرب سبحانه وتعالى يخالف خلقه بأخص صفاته فيعلم على الجملة اختصاص الرب بصفة يخالف بها خلقه ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والعدم ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات المعنوية فهذا أقصى ما يقال في ذلك قال وقد تردد القاضي في أن الذين يرون الله في الدار الآخرة هل يعلمون تلك الصفة التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية أم لا فمرة قال يعلمونها ومرة قال لا يعملها أحد إلا الله تعالى قال وقد قدمنا من مذهب الأستاذ أبي إسحاق أنه أوجب لله صفة توجب التقديس عن الأحياز والجهات والانفراد بنعوت الجلال فإنا نعلم أنه ليس من قبيل ما نشاهده من الجواهر والأعراض وأنه مما لا يتصور في الأوهام ولسنا نعني بقولنا ليس في العالم ولا خارج العالم نفي وجوده تعالى كما نسبتنا إلى ذلك المجسمة وإنما نعني به إثبات وجود غير محدود بوجه ومن أثبت لله حدا ونهاية من وجه فيلزمه إثبات النهاية من سائر الجهات فإن قول القائل إنه في العالم أو خارج العالم يقتضي حدا ونهاية يصح لأجلهما عليه الدخول في العالم أو الخروج منه وقال بعض المتكلمين أخص وصفه وجوب وجوده وقال بعض أصحابنا أخص وصفه قيامه بنفسه مع انتفاء النهاية والحجمية وهذا معنى قول الأستاذ ولم ينقل عن شيخنا أبي الحسن رحمه الله تعالى في ذلك شيء غير أنه قال إنما ينفرد الرب سبحانه عن الأغيار بالآلهية وهي قدرته على الاختراع واستحقاقه لنعوت الجلال وذكر الأستاذ أبو بكر في كتاب الانتصار عن بعض الأصحاب أنه قال لله سبحانه وتعالى مائية ثم فسرها بصفاته التي تفرد بها عن المخلوقات من العلم المحيط والقدرة الكاملة والإرادة النافذة وغير ذلك من تقدسه عن سمات الحدث ومن الكرامية من أثبت لله كيفية ومائية فإن عنوا بالمائية ما أشار أليه القاضي والأستاذ وما أراهم يريدون ذلك فيبقى بيننا وبينهم الاختلاف في الاسم فنحن نقول المائية تقتضي الجنس والكيفية تقتضي الكمية والشكل ويتعالى الله عن ذلك فإنه ليس نوعا لجنس ولا جنسا لنوع بل هو الأحد الصمد قلت ليس هذا موضع بسط الكلام على هذا فإن قوله المائية تقتضي الجنس إنما يعني أن يكون له ما يجانسه أي يماثله في حقيقته وليس الأمر كذلك فإن من أثبت له مائية وهي الحقيقة التي تخصه ويمتاز بها عن غيره لم يلزمه أن تكون تلك المائية من جنس المائيات كما أن الذين يطلقون عليه اسم الذات لا يلزمهم أن تكون ذاته من جنس سائر الذوات وإن فسر ذلك بثبوت قدر ما يتفقان فيه فهذا لا بد منه على كل تقدير ولفظ الجنس فيه عدة اصطلاحات فإن فسر بما يوجب مثلا لله فهو منتف عنه وإن فسر بالحد اللغوي الذي هو مدلول الأسماء المتواطأة والمشككة كما في اسم الحي والعليم والقدير ونحو ذلك من الأسماء فهذا لا بد منه باتفاق أهل الأثبات والنزاع في ذلك معروف عن الملاحدة ومن ضاهاهم ونفي ذلك تعطيل محض وأما قوله الكيفية تقتضي الكمية والشكل فإنه إن أراد أنها تستلزم ذلك فمعلوم أن الذين أثبتوا الكيفية إنما أرادوا الصفات التي تخصه كما تقدم وإذا كان هذا مستلزما للكمية فهو الذي يذكره المنازعون أنه ما من موصوف بصفة الأولة قدر يخصه وأكثر أهل الحديث والسنة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله وغيرهم لا ينفون ثبوت الكيفية في نفس الأمر بل يقولون لا نعلم الكيفية ويقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال بل كما قال الشريف أبو علي ابن أبي موسى وأبو الفرج المقدسي وغيرهما وهو موافق لقول السلف رضي الله عنهم والأئمة كما قالوا لا يعلم كيف هو إلا هو كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول وأمثال هذا كثير في كلامهم ومنهم من ينفي ذلك ويقول لا ماهية له فتجري في مقال ولا كيف فيخطر ببال وهذا قول ابن عقيل وغيره وهذا موافق لقول نفاة الصفات فقد تبين أن الأقوال في وجود الحق على مراتب فمن قال إنه وجود مطلق فقوله باطل بالبديهة ومن قال إنه يتميز بصفات سلبية مثل امتناع عدمه ونحو ذلك فهو نظيره بل هو هو ومن قال يتميز ببعض الصفات المعنوية كعلمه وقدرته قيل له وإن اختص بذلك لكن لا بد من ذات موصوفة بتلك الصفة وأن تكون الذات لها حقيقة في نفسها يتميز بها عن سائر الحقائق وإن القول الرابع وهو أن له حقيقة يختص بها هو الصواب ومعلوم أن الموجود ينظر في نفسه وفي صفته وفي قدره وإن كان اسم الصفة يتناول قدره ويستلزم ذاته أيضا فإذا علم بصريح العقل أنه لا بد له من وجود خاص أو حقيقة يتميز بها ولا بد له من صفات تختص به لا يشركه فيها أحد فيقال وكذلك قدره فإن الموجود لا يتصور أن يكون موجودا إلا بذلك ودعوى وجود موجود بدون ذلك دعوى تخالف البديهة والضرورة العقلية وكذلك حكموا على من نفى ذلك بالتعطيل لأنه لازم قوله وإن كان لا يعلم لزومه والتحقيق أنه جمع في قوله بين الإقرار بما يستلزم وجوده والإقرار بما يستلزم عدمه فهو مقر به من وجه منكر له من وجه متناقض من حيث لا يشعر ولهذا يقول المشايخ العارفون إن هؤلاء المنكرين لا تتنور قلوبهم ولا يفتح عليها ولا ينالون زينة أولياء الله تعالى الكاملين لما عندهم من الجحود والإنكار المانع لهم من حقيقة معرفة الله تعالى ومحبته والقرب منه فإنهم التزموا التكذيب بالحق الذي تقربهم معرفته وقصده إلى الله تعالى ففاتهم من معرفة الله وقصده والتقرب إليه بقلوبهم ما به ينالون ولايته التي نعت بها أولياءه المتقين العاملين وإن كانوا قالوا من ذلك بحسب ما عندهم من الإيمان والتقوى الوجه الثامن إنه قد ثبت بالسنة المتواترة وباتفاق سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام الذين ائتموا بهم في دينهم أن الله سبحانه وتعالى يرى في الدار الآخرة بالأبصار عيانا وقد دل على ذلك القرآن في مواضع كما ذلك مذكور في مواضعه والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة متواترة في الصحاح والسنن والمساند وقد اعتنى بجمعها أئمة مثل الدارقطني في كتاب الرؤية وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر الآجري وطوائف كثيرون وفي الصحيحين نحو عشرة أحاديث فيها أن رؤية الأبصار ليست ممتنعة والجهمية الذين يدخلون في هذا الاسم عند السلف كالمعتزلة والنجارية والفلاسفة ينكرون الرؤية ويقولن لأن ذلك يستلزم أن يكون بجهة من الرائي وأن يكون جسما متحيزا وذلك منتف عندهم ومسألة الرؤية كانت من أكبر المسائل الفارقة بين السنة المثبتة وبين الجهمية حتى كان علماء أهل الحديث والسنة يصنفون الكتب في الأثبات ويقولون كتاب الرؤية والرد على الجهمية وكذلك الأحاديث التي تنكرها الجهمية من أحاديث الرؤية وما يتبعها ويعدون من أنكر الرؤية معطلا قال الخلال في كتاب السنة أخبرني حنبل قال سمعت أبا عبدالله يقول وأدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئا أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين قال وسمعت أبا عبدالله يقول القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم ينكرون الرؤية قال وسمعت أبا عبدالله يقول قالت الجهمية إن الله لا يرى في الآخرة ونحن نقول إن الله يرى لقول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقال تعالى لموسى فإن استقر مكانه فسوف تراني فأخبر الله تعالى أنه يرى وقال النبي ﷺ إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر رواه جرير وغيره عن النبي ﷺ وقال كلكم يخلو به ربه إن الله يضع كنفه على عبده فيسأله ماذا عملت هذه أحاديث عن رسول الله ﷺ تروى صحيحة عن الله تعالى أنه يرى في الآخرة أحاديث عن رسول الله ﷺ غير مدفوعة والقرآن شاهد أن الله يرى في القيامة وقول إبراهيم لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر فثبت أن الله يسمع ويبصر وقال الله تعالى يعلم السر وأخفى وقال إنني معكما أسمع وأرى وقال أبو عبدالله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله ﷺ واخترع مقالة من نفسه وتأول رأيه فقد خسر خسرانا مبينا وسمعت أبا عبدالله يقول من قال إن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر وكذب بالقرآن ورد على الله أمره يستتاب فإن تاب وإلا قتل وروى عن يعقوب بن بختان أنه سمع أبا عبدالله يقول صارت حجتهم كفرا صراحا يقولون إن الله تبارك وتعالى لا يرى في الآخرة وسمعته يقول كفرهم ضروب وعن حنبل سمعت أبا عبدالله يقول إن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة فثبت في القرآن وفي السنة عن رسول الله ﷺ والصحابة والتابعين وقال الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد في نقضه على الجهمي المريسي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد ثم انتدب المريسي الضال لرد ما جاء عن رسول الله ﷺ في الرؤية في قوله عليه السلام إنكم سترون ربكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته كما لا تضامون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر فأقر الجاهل بالحديث وصححه وثبت روايته عن النبي ﷺ ثم تلطف لرده وإبطاله بأقبح تأويل وأسمج تفسير ولو قد رد الحديث أصلا كان أعذر له من تفاسيره هذه المقلوبة التي لا يوافقه عليها أحد من أهل العلم ولا من أهل العربية فادعى الجاهل أن تفسير قول رسول الله ﷺ إنكم سترون ربكم لا تضامون في رؤيته تعلمون أن لكم ربا لا تشكون فيه كما لا تشكون في القمر أنه قمر لا على أن أبصار المؤمنين تدركه جهرة يوم القيامة لأنه نفى ذلك عن نفسه بقوله لا تدركه الأبصار قال وليس على معنى المشبهة فقوله ترون ربكم تعلمون أن لكم ربا لا تعتريكم فيه الشكوك والريب ألا ترون أن الأعمى يجوز أن يقال ما أبصره أي ما أعلمه وهو لا يبصر شيئا ويجوز أن يقول الرجل نظرت في المسألة وليس للمسألة جسم ينظر إليه فقوله نظرت فيها رأيت فيها فتوهمت المشبهة الرؤية جهرة وليس ذلك من جهة العيان فيقال لك أيها المريسي أقررت بالحديث وثبته عن رسول الله ﷺ فأخذ الحديث بحلقك لما أن رسول الله ﷺ قد قرن التفسير بالحديث فأوضحه ولخصه فجمعهما جميعا إسناد واحد حتى لم يدع لمتأول فيه مقالا فأخبر أمته بروية العيان نصا كما توهم هؤلاء الذين سميتهم بجهلك مشبهة فالتفسير فيه مأثور مع الحديث وأنت تفسره بخلاف ما فسره الرسول ﷺ من غير أثر تأثره عمن هو أعلم منك فأي شقي من الأشقياء وأي غوي من الأغوياء يترك تفسير رسول الله ﷺ المقرون بحديثه المقبول عند العلماء الذي يصدقه ناطق الكتاب ثم يقبل تفسيرك المحال الذي لا تأثره إلا عن من هو أجهل منك وأضل أليس قد أقررت أن النبي ﷺ قال ترون ربكم لا تضامون فيه كما لا تضامون في رؤية الشمس والقمر يعني معاينة قلت وإنما قال النبي ﷺ لأصحابه لا تشكون يوم القيامة في ربوبيته وهذا التفسير مع ما فيه من معاندة الرسول محال باطل خارج عن المعقول لأن الشك في ربوبية الله زائل عن المؤمن والكافر يوم القيامة وكل مؤمن وكافر يعلم يومئذ أنه ربهم لا يعتريهم في ذلك شك فيقبل الله ذلك من المؤمن ولا يقبله من الكافرين ولايعذرهم يومئذ بمعرفتهم ويقينهم به فما فضل المؤمن على الكافر يوم القيامة عندك في معرفة الرب إذ مؤمنهم وكافرهم لا يعتريه في ربوبيته شك. أو ما علمت أيها المريسي أنه من مات ولم يعرف قبل موته أن الله ربه في حياته حتى يعرفه بعد مماته فإنه يموت كافرا ومصيره النار أبدا ولن ينفعه الإيمان يوم القيامة يرى من آياته إن لم يكن آمن به من قبل فما موضع بشرى رسول الله ﷺ للمؤمنين برؤية ربهم يوم القيامة إذ كل مؤمن وكافر في الرؤية يومئذ سواء عندك إذ كل لا يعتريه فيه شك ولا ريبة أولم تسمع أيها المريسي قول الله تعالى ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا فقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم به يومئذ موقنون فكيف المؤمنين من أصحاب رسول الله ﷺ الذين سألوه هل نرى ربنا تعالى قد علموا قبل أن سألوه أن الله ربهم لا يعتريهم في ذلك شك ولا ريب أو لم تسمع ما قال الله تعالى يوم تأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا يقال في تفسيره إنها طلوع الشمس من مغربها فإذا لم ينفع الرجل إيمانه عند الآيات في الدنيا فكيف ينفعه يوم القيامة فيستحق به النظر إلى الله تعالى فاعقل أيها المريسي ما يجلب عليك كلامك من الحجج الآخذة بحلقك وأما إدخالك على رسول الله ﷺ فيما حقق من رؤية الرب تعالى يوم القيامة فإنما يدخل على من عليه نزل وقد عرف ما أراد الله تعالى به وعقل فأوضحه تفسيرا وعبرة تعبيرا ففسر الأمرين جميعا تفسيرا شافيا كافيا سأله أبو ذر هل رأيت ربك يعني في الدنيا قال نور أنى أراه حدثنا الحوضي وغيره عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبدالله بن سفيان عن أبي ذر عن النبي ﷺ فهذا معنى قوله لا تدركه الأبصار في الحياة الدنيا فحين سئل عن رؤيته في المعاد قال نعم جهرة كما ترى الشمس والقمر ليلة البدر ففسر رسول الله ﷺ المعنيين على خلاف ما ادعيت والعجب من جهلك بظاهر لفظ رسول الله ﷺ إذ تتوهم في رؤية الله جهرة أنها كرؤية الشمس والقمر ثم تدعي أنه من توهم من سميتهم بجهلك مشبهة فرسول الله ﷺ في دعواك أول المشبهة إذ شبه رؤيته برؤية الشمس والقمر كما شبهه هؤلاء المشبهون في دعواك وأما أغلوطتك التي غلطت بها جهال أصحابك في رؤية الله تعالى يوم القيامة فقلت ألا ترى أن قوم موسى حين قالوا أرنا الله جهرة أخذتهم الصاعقة وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وقالوا أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا فادعيت أن الله تعالى أنكر عليهم ذلك وعابهم بسؤالهم الرؤية فيقال لهذا المريسي تقرأ كتاب الله وقلبك غافل عما يتلى عليك فيه ألا ترى أن أصحاب موسى سألوا موسى رؤية الله في الدنيا إلحافا فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ولم يقولوا حتى نرى الله في الآخرة ولكن في الدنيا فأخذتهم الصاعقة لظلمهم وسؤالهم ما حظره على أهل الدنيا ولو قد سألوه رؤيته في الآخرة كما سأل أصحاب محمد محمدا ﷺ لم تصبهم تلك الصاعقة ولم يقل لهم إلا ما قال محمد ﷺ لأصحابه إذ سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم لا تضارون في رؤيته فلم يعبهم الله تعالى ولا رسوله بسؤالهم عن ذلك بل حسنه لهم وبشرهم بشرى جميلة كما رويت أيها المريسي عنه وقد بشرهم الله تعالى بها قبله في كتابه فقال عز من قائل وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقال للكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون إلى أن قال وقد فسرنا أمر الرؤية وروينا ما جاء فيها من الآثار في الكتاب الأول الذي أمليناه في الجهمية وروينا منها صدرا في صدر هذا الكتاب أيضا فالتمسوها هناك واعرضوا ألفاظها على قلوبكم وعقولكم تنكشف لكم عورة كلام هذا المريسي وتأويله ودحوض حجته إن شاء الله تعالى وهو في الكتاب الأول الذي أحال عليه ذكر في ذلك عدة من الأحاديث والآثار مثل حديث جرير وأبي هريرة وأبي سعيد المشهورين الطويلين وهذه في الصحيحين ومثل حديث صهيب في قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وحديث أبي موسى وجابر في الورود وهذه في صحيح مسلم ومثل ابن عمر في الدجال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذه الألفاظ في الصحيح وذكر حديث أبي بكر الصديق المرفوع وحديث عبادة في الدجال وحديث ابن الحسين عن بعض الصحابة وحديث ابن عباس وحديث أنس في يوم المزيد وحديث عمار بن ياسر الذي فيه أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وحديثا عن ابن عمر في النظر وهذه الأحاديث في السنن والمساند وذكر الآثار عن الصديق وحذيفة وأبي موسى وابن أبي ليلى والضحاك وعامر بن سعد في تفسير الزيادة أنها النظر إلى وجه الله تعالى وذكر قول أبي موسى فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة وذكر أيضا النظر إليه عن عمار وأنس والضحاك وعكرمة وكعب وعمر بن عبدالعزيز والذي تركه من ذلك أكثر مما رواه ثم قال أبو سعيد فهذه أحاديث كلها وأكثر منها قد رويت في الرؤية على تصديقها والإيمان بها أدركت أهل الفقه من مشائخنا ولم يزل المسلمون قديما وحديثا يروونها ويؤمنون بها لا يستنكرونها وينكرونها ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال بل كان من أكبر رجائهم وأجزل سؤالهم الله تبارك وتعالى في أنفسهم النظر إلى وجه الله الكريم خالقهم يوم القيامة حتى ما يعدلون به شيئا من نعيم الجنة قال وقد كلمت بعض أولئك المعطلة وذكر كلاما طويلا في تقرير الرؤية والجواب عن شبه النفاة إلى أن قال وقال بعضهم إنا لا نقبل هذه الآثار قلت أجل ولا كتاب الله تعالى تقبلون أراكم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فيهم يتوارثونها عن أعلام الناس وفقهائهم قرنا بعد قرن قالوا نعم قلنا فحسبنا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة مروية تداولها العلماء والفقهاء فما تواتر عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها فلا تقدرون أن تأتوا فيها بخبر ولا أثر وقد علمتم إن شاء الله تعالى أنه لا يستدرك سنن رسول الله ﷺ وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا هذه الآثار والأسانيد على ما فيها من الاختلاف وهي السبب إلى ذلك والنهج الذي درج عليه المسلمون وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله تعالى منها يقتبسون العلم وبها يقضون وبها يفتون وعليها يعتمدون وبها يتزينون يورثها الأول منهم الآخر ويبلغها الشاهد منهم الغائب احتجاجا واحتسابا في أدائها إلى من لم يسمعها يسمونها السنن والآثار والفقه والعلم ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها يحلون بها حلال الله تعالى ويحرمون بها حرامه ويميزون بها بين الحق والباطل والسنن والبدع ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه وليتأول كلام الله برأيه خلاف ما عنى الله به فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من أثرهم واقتبسوا الهدى في سبيلهم وارضوا بهذه الآثار إماما كما رضي بها القوم لأنفسهم إماما فلعمري ما أنتم أعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم ولا يمكن الاقتداء بهم إلا باتباع هذه الآثار على ما تروى فمن لم يقبلها فإنه يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين وقال الله ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا فقال قائل منهم لا بل نقول بالمعقول قلنا هنا ضللتم عن سواء السبيل ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه لأن المعقول ليس لشيء واحد موصوف بحدود عند جميع الناس فيقتصر عليه ولو كان كذلك لكان راحة للناس ولقلنا به ولم نعد ولكن الله تبارك وتعالى قال كل حزب بما لديهم فرحون فوجدنا المعقول عند كل حزب ما هم عليه والمجهول عندهم ما خالفهم فوجدنا فرقكم معشر الجهمية في المعقول مختلفين كل فرقة منكم تدعي أن المعقول عندها ما تدعو إليه والمجهول ما خالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بين في كل شيء رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن ترد المعقولات كلها إلى أمر رسول الله ﷺ وإلى المعقول عند أصحابه المستفيض بين أظهرهم لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء الجائزة عن الطريق فالمعقول عندنا ما وافق هديهم والمجهول ما خالفهم ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقهم إلا هذه الآثار وقد انسلختم منها وانتفيتم منها بزعكمم فأنى تهتدون قلت كلام السلف والأئمة كثير في مسألة الرؤية وتقرير وجودها بالسمع وتقرير جوازها بالعقل وتقرير أن نفي جوازها مستلزم للتعطيل وقد نبه السلف ومتكلمة الصفاتية على ما هو معلوم بالمعقول أنه من قال إنه لا يمكن رؤيته فقد لزمه أن يعطله ويجعله معدوما لأنه إذا كان موجودا جازت رؤيته ثم للناس هنا طريقان أحدهما وهي طريقة أبي محمد ابن كلاب وغيره كأبي الحسن ابن الزاغوني أن كل ما هو قائم بنفسه فإنه تجوز رؤيته ولم يلتزم ذلك في سائر الأعراض والصفات والثانية وهي طريقة أبي الحسن الأشعري ومن اتبعه وقد سلكها القاضي أبو يعلى وغيره أن كل موجود تصح رؤيته سواء كان قائما بنفسه أو قائما بغيره وقد قرروا ذلك بطرق منها ما هو غير بين ويرد عليه أسولة والتزموا لأجل ذلك لوازم يظهر فسادها وقد بينا في غير هذا الموضع كيف تقرر الطريقة العقلية في ذلك على وجه يفيد المقصود ولكن نشير هنا إشارة فنقول: معلوم أن الرؤية تعلق بالموجود دون المعدوم ومعلوم أنها أمر وجودي محض لا يسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة شيء من المذوق وكالأكل والشرب الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق وإذا كانت أمرا وجوديا محضا ولا تتعلق إلا بموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته ومالا يمكن رؤيته إما أن يكون وجودا محضا أو متضمنا أمرا عدميا والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببا له ولا يكون أيضا شرطا أو جزءا من السبب إلا أن يتضمن وجودا فيكون ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلا عليه ومستلزما له ونحو ذلك وهذا من الأمور البينة عند التأمل ومن قال من العلماء إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة أو شرط علة فإنما يقولون ذلك في قياس الدلالة ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم لا يقول أحد إن نفس العدم هو المقتضى للوجود ولا يقول إن الوصف المركب من وجود وعدم هما جميعا مقتضيان للوجود المحض وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية والمصحح للرؤية والفارق بينما تجوز رؤيته وبينما لا تجوز إما أن يكون وجودا محضا فلا حاجة بنا إلى تعيينه سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس أو بالعين بشرط المقابلة والمحاذاة أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع لكن المقصود أنه أمور وجودية وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود وكماله من كل موجود إذ وجوده هو الوجود الواجب ووجود كل ما سواه هو من وجوده وله وله الكلام التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود وحينئذ فيكون الله وله المثل الأعلى أحق بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لا نستطيع التحديق في شعاع الشمس بل كما لا تطيق الخفاش أن تراها لا لامتناع رؤيتها بل ضعف بصره وعجزه كما قد لا يستطاع سماع الأصوات العظيمة جدا لا لكونها لا تسمع بل لضعف السامع وعجزه ولهذا يحصل لكثير من الناس عند سماع الأصوات العظيمة ورؤية الأشياء الجليلة ضعف أو رجفان أو نحو ذلك مما سببه ضعفه عن الرؤية والسماع لا لكون ذلك الأمر مما تمتنع رؤيته وسماعه ولهذا وردت الأخبار في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وغيره بأن الناس إنما لا يرون الله في الدنيا للضعف والعجز والله سبحانه وتعالى قادر على أن يقويهم على ما عجزوا عنه وتمام بسط هذا وتقريره له في موضع آخر وإنما المقصود أن نقول إذا ثبتت رؤيته فمعلوم في بداية العقول أن المرئي القائم بنفسه لا يكون إلا بجهة من الرائي وهذه الرؤية التي أخبر بها النبي ﷺ حيث قال ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فأخبر أن رؤيته كرؤية الشمس والقمر وهما أعظم المرئيات ظهورا في الدنيا وإنما يراهم الناس فوقهم بجهة منهم بل من المعلوم أن رؤية مالا يكون داخل العالم ولا خارجه ممتنع في بداية العقول وهذا مما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف وجماهير أهل الكلام المثبتة والنافية والفلاسفة وإنما خالف فيه فريق من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء كما قد يوافقهم القاضي أبو يعلى في المعتمد هو وغيره ويقولون ما قاله أولئك في الرؤية إنه يرى لا في جهة ويلتزمون ما اتفق أهل العقول على أنه من الممتنع في بداية العقول بل يقولون إن المعلوم ببداية العقول أنه لا يرى إلا ما هو متحيز أو قائم بمتحيز ومن ادعى رؤية ما ليس بمتحيز ولا قائما بمتحيز فقد خرج عن ضرورات العقول باتفاق عقلاء بني آدم من جميع الطوائف إلا هذا الفريق الذي اتفق الناس على تناقضهم فإن موافقيهم من الجهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم على إمكان وجود موجود ليس بمتحيز ولا حال فيه وعلى إمكان معرفة ذلك بالعقل وإن كانوا عند جمهور العقلاء مخالفين لضرورة العقل فإنهم لا يوافقونهم على أن من كان كذلك فإنه يرى بل هؤلاء يوافقون جمهور العقلاء في أن مالا يكون متحيزا ولا حالا في متحيز لا يمكن رؤيته حتى إن أئمة أصحاب الأشعري المتأخرين كأبي حامد وابن الخطيب وغيرهما لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة أو قريب منه وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها بذلك الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية الثابتة بالنصوص والإجماع المعلوم جوازها بدلائل المعقول بل المعلوم بدلائل العقول امتناع وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن تعلقها به لكن هؤلاء المثبتة الذين وافقوا عامة المؤمنين على إمكان رؤيته وانفردوا عن الجماعة بأنه يرى لا فوق الرائي ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا في شيء من جهاته هم قد وافقوا أولئك الجهمية في وجود موجود يكون كذلك فموافقتهم لهؤلاء في إمكان وجود موجود بهذا الوصف أبعد عن الشرع والعقل من قولهم يمكن رؤية هذا الموجود ولهذا تنكر الفطر وجوده أعظم مما تنكر رؤيته بتقدير وجوده كما قد ذكرنا أن قولهم هو فوق العرش وليس بجسم أقرب من قولهم لا داخل العالم ولا خارجه وهذا أيضا مما عظم فيه إنكار المدعين للجمع بين الشريعة والفلسفة كالقاضي أبي الوليد ابن رشد الحفيد فإنه قال في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وقال ما ذكرناه عنه قبل هذا في مسائل الجسم ومسألة الجهة وزعم ما ذكرناه عنه إلى قوله ولذلك اضطررنا نحن أيضا إلى وضع قول في موافقة الحكمة للشريعة قال وإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول إن الذي بقي علينا من هذا الخبر ومن المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء المتقدم لقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ولذلك أنكرها المعتزلة وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها فشنع الأمر عليهم وسبب وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه وتعالى واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين ووجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية إذ كل مرئي في جهة من الرائي فاضطروا لهذا المعنى لرد الشرع المنقول واعتلوا للأحاديث بأنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم مع أن ظاهر القرآن معارض لها أعني قوله تعالى لا تدركه الأبصار وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجؤوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة وذلك أنه يشبه أن يكون في الحجج ما يوجد في الناس أعني أنه كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة فيوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل وهو المرائي وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين ومنها حجة مرائية وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في دفع دليل المعتزلة ومنها أقاويل لهم في إثبات جواز الرؤية لما ليس بجسم وأنه ليس يعرض من فرضها محال فأما ما عاندوا به قول المعتزلة أن كل مرئي فهو في جهة من الرائي فمنهم من قال إن هذا إنما هو حكم الشاهد لا حكم الغائب وإن هذا الموضوع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب وأنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذا كان جائزا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها دون عين وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة أعني في مكان وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة ولا في كل جهة فقط بل في جهة ما مخصوصة ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضا وهي ثلاثة أشياء حضور الضوء والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر وكون المبصر ذا ألوان ضرورة والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الإبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع وإبطال لجميع معلوم المناظرة والهندسة وقد قال القوم أعني الأشعرية إن أحد المواضع التي يجب أن ينقل فيها حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط مثل حكمنا أن كل عالم حي لكون الحياة تظهر من الشاهد شرطا في وجود العلم وإن كان ذلك قلنا لهم وكذلك تظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شروط في الرؤية فألحقوا الغائب فيها بالشاهد على أصلكم وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بالمقاصد أن يعاند هذه المقدمة أعني كل مرئي في جهة من الرائي بأن الإنسان يبصر ذاته في المرآة وأن ذاته ليست منه في جهة غير جهة مقابلة وذلك أنه لما كان يبصر ذاته وكانت ذاته ليست تحل في المرآة التي في الجهة المقابلة فهو يبصر ذاته في غير جهة وهذه مغالطة فإن الذي يبصر هو خيال ذاته والخيال منه هو في جهة إذ كان الخيال في المرآة والمرآة في جهة وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم فإن المشهور عنهم في ذلك حجتان إحداهما وهي أشهر عندهم ما يقولونه من أن الشيء لا يخلو أن يرى من جهة ما هو متلون أو من جهة أنه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه موجود وربما عددوا جهات أخر غير هذه الموجودة ثم يقولون وباطل أن يرى من قبل أنه جسم إذ لو كان ذلك كذلك لما رؤي اللون وباطل أن يرى لمكان أنه لون إذ لو كان كذلك لما رؤي الجسم وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب فلم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود والمغالطة في هذا القول بينة فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي لذاته وهذه هي حال اللون والجسم فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون ولذلك لما لم يكن له لون لم يبصر ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة وهذه كلها خلاف ما يعقل وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة وما أشبهها إلى أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن ترى وهذا كله خروج عن الطبع وعن ما يمكن أن يعقله الإنسان فإنه في الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع وأن محوس هذه غير محوس تلك وأن آلة هذه غير آلة تلك وأنه ليس ممكن أن ينقلب البصر سمعا كما ليس يمكن أن يعود اللون صوتا والذين يقولون إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت ما فقد يجب أن يسألوا فيقال لهم ما هو البصر فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها المرئيات الألوان وغيرها ثم يقال لهم ما هو السمع فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها الأصوات فإذا وضعوا هذا قيل لهم فهل البصر عند إدراكه هو بصر فقط أو سمع فقط فإن قالوا هو سمع فقط فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان وإن قالوا إنه بصر فقط فليس يدرك الأصوات وإذا لم يكن بصرا فقط لأنه يدرك الأصوات ولا سمعا فقد لأنه يدرك الألوان فهو بصر وسمع معا وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئا واحدا حتى المتضادات وهذا شيء فيما أحسبه يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا أو يلزمهم تسليمه يعني هؤلاء الأشعرية وهو رأي سوفسطائي لأقوام قدماء مشهورين بالسفسطة وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وتلخيصها أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض فهو أحوال ليست بذوات فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذوات والذات هي نفس الموجود المشترك لجميع الموجودات فإذا الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو موجود وهذا كله في غاية الفساد ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه وإلا لكان بالجملة لا يمكن في الحواس لا في البصر أن يدرك فصول الألوان ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات وللزم أن تكون مدارك المحسوسات بالحس واحدا فلا يكون فرق بين مدرك البصر وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان وإنما تدرك الحواس ذوات الأشياء المشار إليها لمحسوساتها الخاصة بها فوجه المغالطة في هذا هو أن ما يدرك ذاتيا أخذ أنه مدرك بذاته ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة حتى ألجأت القائمين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل الهجينة التي هي ضحكه من عنى بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية هو التصريح في الشرع بما لم يأذن الله ورسوله به وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور وذلك أن من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ها هنا موجودا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار لأن مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام ولذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت وهذا أيضا لا يليق الإفصاح به للجمهور وأنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك من التخيل بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى فوصف لهم نفسه سبحانه وتعالى بأوصاف تقرب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك مع تعريفهم أنه لا يجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من هذا بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب المثال به إذ كان النور هو أشهر الموجودات عند الحس والتخيل وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الموجودة في المعاد أعني تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة فإذا متى أخذ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها لأنه إذا قيل له نور وأنه له حجابا من نور كما جاء في القرآن والسنن الثابتة ثم قيل إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس لم يعرض في هذا شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا حق العلماء وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفروا المصرح لهم بها فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذه المعاني المثالات التي لم يمكن تصورهم إياها دونها فقد نبه العلماء على أن تلك المعاني نفسها التي ضرب مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفا صنفا من الناس وألا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ولذلك قال عليه السلام إنا معشر الانبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم ومن جعل الناس شرعا واحدا في التعليم فهو كمن جعلهم شرعا واحدا في عمل من الأعمال وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول وقد تبين لك من هذا أن الرؤية معنى ظاهر وأنه ليس يعرض فيه شبهه إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا بإثباتها قلت قد عرف أن هذا الرجل يرى رأي الفلاسفة وإنما أخبرت به الرسل في الإيمان بالله واليوم الآخر أكثره أمثال مضروبة وهذا من أفسد الآراء وهو قول حذاق المنافقين الزنادقة وإن كانوا لا يعلمون أن ذلك نفاقا وزندقة بل يحسبونه كمال التحقيق والمعرفة كما يحسب ذلك هؤلاء المتفلسفة وليس هذا الموضع موضع بيان ذلك وإنما المقصود أنه مع كونه في الباطن يرى رأي الفلاسفة والمعتزلة في الرؤية وأنها مزيد علم ما يرى نحوا منه طائفة من متأخري الأشعرية فقد علم أنه لا يمكن إثبات الرؤية التي أخبر بها الشارع مع نفي ما يقولون إنه الجسم بل إثباتها مستلزم لما يقولون إنه الجسم والجهة فقد تبين أنه من جمع بين هذين فإنه مكابر للمعقول والمحسوس وهذا مما قد بينه بالدليل فيقبل منه وأما زعمه أنها في الباطن مزيد علم فهو لم يذكر على ذلك حجة وقد بين فيما تقدم أنه لا صحة له على أصل ذلك وهو نفي كونه جسما إلا إثبات أن النفس الناطقة ليست بجسم وبين فساد ما احتج به المتكلمون على أنه ليس بجسم بحجج واضحة ومعلوم أن الأصل الذي بنى عليه هو هذا النفي وهي مسألة النفس أضعف بكثير وأن جمهور العقلاء يضحكون مما يقوله هؤلاء في النفس من الصفات السلبية أكثر مما يضحكون ممن يثبت رؤية مرئي ليس هو في اصطلاحهم بجسم ولا في جهة كما قد بيناه في غير هذا الموضع وأما دعواه ودعوى غيره من الجهمية من المعتزلة ونحوهم أن الرؤية التي أخبر بها الرسول مزيد علم فمن سمع النصوص علم بالاضطرار أن الرسول إنما أخبر برؤية المعاينة وأيضا فإن أدلة المعقول الصريحة تجوز هذه الرؤية وإن لم يسلك في ذلك ما ذكروه من المسالك الضعيفة فإن تلك المسالك إنما ضعفت لأن أصحابها أثبتوا رؤية ما ليس في جهة ولا هو متحيز ولا حال في متحيز فاحتاجوا لذلك أن يحذفوا من الرؤية الشروط التي لا تتم الرؤية بدونها لاعتقادهم امتناع تلك الشروط في حق الله تعالى فأما إذا قيل إن الرؤية المعروفة يصح تعلقها بكل قائم بنفسه وإن شرط فيها أن يكون المرئي بجهة من الرائي وأن يكون متحيزا وقائما بمتحيز كانت الأدلة العقلية على إمكان هذه الرؤية مالا يمكن العقلاء أن يتنازعوا في جوازها وإنما ينفيها من نفاها لظنه أن الله تعالى ليس فوق العالم وأنه على اصطلاحهم ليس بجسم ولا متحيز ولا حال في المتحيز ونحو ذلك من الصفات السلبية التي ابتدعوها مع مخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول والمقصود أن المنازعين للمؤسس يقولون له نحن نثبت بالكتاب والسنة والإجماع ونثبت بالأدلة العقلية الصريحة إمكان رؤية الرب نثبت بالضرورة وبالنظر أن الرؤية لا تتعلق إلا بما يكون في اصطلاحهم في جهة وإلا بما يكون متحيزا أو حالا في المتحيز وإذا ثبت أن الرؤية لا تتعلق إلا بمتحيز أو حال في المتحيز مع أن المصحح لها هو الوجود وكماله ثبت أنه ليس في الموجودات مالا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز بل ثبت امتناع وجود ذلك وهذا يبقي هذه الصفة في النفس وفي الملائكة وفي الرب سبحانه وتعالى كما تقدم من الوجوه وكما ذكروه من الضرورة العقلية الوجه التاسع أن يقال قد ثبت بالفطرة التي اتفق عليها أهل الفطر السليمة وبالنقول المتواترة عن المرسلين من الأخبار وما نطقت به كتب الله واتفق عليه المؤمنون بالرسل قبل حدوث البدع أن الله تعالى عز وجل فوق العالم وثبت أيضا بالكتاب والسنة والإجماع أنه استوى على العرش فالعلو على العالم معروف بالفطرة والمعقول وبالشرعة والمنقول وأما الاستواء فإنما علم بالسمع المنقول وأكثر أهل الكلام والفلسفة من النفاة والمثبتة يقولون هذا لا يمكن إلا أن يكون جسما متحيزا فيكون التحيز من لوازم علوه على العرش كما قد يقول ذلك أهل الفطر السليمة إذا بين لهم معنى الكلام وهذا يقتضي المعقول والمنقول يستلزم ذلك وهذه المقدمة الثانية قد قررها المؤسس ومتأخرو أصحابه في غير موضع والأولى قد قررها عامة الناس من المثبتين للصفات وسائر أهل الفطر السليمة حتى أئمة أصحابه وإذا ثبت هذا في واجب الوجود امتنع أن يكون غيره من النفس وغيرها موصوفا بهذا السلوب لأن أحدا لم يقل ذلك من العقلاء ولأن الفطرة والشرعة يقضي ذلك فيها أيضا فإنهم يعلمون بهذه الطرق أن جميع هذه الأمور داخلة في العالم وجزء منه يمتنع أن تكون لا داخلة فيه ولا خارجة منه فصل ثم قال الرازي ولنختم هذا الباب بما روي عن أرسطا ليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى قال أبو عبدالله الرازي وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة فإنه ذكر مراتب تكوين الجسد في قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين فلما آل الأمر إلى تعلق الروح بالبدن قال ثم أنشأناه خلقا آخر وذلك كالتنبيه على أن كيفية تعلق الروح ليس مثل انقلاب النطفة من حال إلى حال بل هذا نوع آخر مخالف لتلك الأنواع المتقدمة فلهذا السبب قال ثم أنشأناه خلقا آخر فكذلك الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى وعقلا آخر بخلاف العقل الذي به اهتدى إلىمعرفة الجسمانيات وهذا آخر الكلام في هذه المقدمة قلت والكلام على هذا من وجوه أحدها أن هذا الكلام هو وما ذكره من الحجة أشبه بكلام أهل الجهل والضلال ومن لا يدري ما يخرج منه من المقال من كلام أهل العقل والعلم والبيان وهو أشبه بكلام جهال القصاص والمغالطين من كلام العلماء المجادلين بالحق وما أحسن ما قال الإمام أحمد رحمه الله في بشر المريسي إمام الجهمية قال كان صاحب خطب لم يكن صاحب حجج بل هذا الكلام دون كلام أهل الخطب والحجج الثاني أن يقال له ألم يكن في أثارة الأنبياء والمرسلين ما يستغنى به في أعظم المطالب وأشرف المعارف عن ما يروى عن معلم المبدلة من الضالين الذين انتقلوا عن الحنيفية الثابتة بالعقل والدين وهو رأس هؤلاء الدهرية ثم هذا الكلام لم تعلم أنه ثابت عنه وإنما قلت بما يروى عنه فهو منقطع هؤلاء الصابئة المبدلين الثالث أنه لو نقل واحد في هذا الباب شيئا من الإسرائيليات عن المتقدمين لم تقم به حجة إن لم يكن ذلك ثابتا بنقل نبينا محمد ﷺ عنهم وأما يذكره لنا أهل الكتابين ومن أسلم منهم عن الأنبياء المتقدمين فليس لنا تصديقه ولا تكذيبه إن لم يكن فيما علمناه ما يدل على صدقه أو كذبه كما في صحيح البخاري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله ﷺ لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية وفي سنن أبي داود عن ابن أبي تميلة الأنصاري عن أبيه أنه بينما هو جالس عند رسول الله ﷺ وعنده رجل من اليهود مر بجنازة فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال النبي ﷺ الله أعلم قال اليهودي إنها تتكلم فقال رسول الله ﷺ ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه وروى البخاري أيضا عن الزهري عن عبدالله بن عبدالله بن عتبة أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث الكتب عهدا بالرحمن تقرؤونه محضا لم يشب وقد أخبركم ربكم أن أهل الكتاب بدلوا كلام الله وغيروه وكتبوا بأيديهم وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ألا نهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا أحدا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم وروى البخاري أيضا عن الزهري أخبرني حميد بن عبدالرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب فإذا كان أهل الكتاب الذي أنزله الله تعالى والذي وجب علينا أن نؤمن بما فيه ولهذا قال النبي ﷺ وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم الآية وقال قولوا آمنا بالله ورسله إذا رووا لنا شيئا من ذلك لم نصدقه إن لم نعلم من غير ذلك أنهم صادقون وهم يقرؤون ذلك بلسان الأنبياء ثم يترجمون لنا بالعربية فهؤلاء الذين قرؤوا كتب الصابئة من الفلاسفة وغيرهم بلغتهم اليونانية وغيرها ثم ترجموها بالعربية كيف نقبل ذلك منهم والمنقول عنهم ليسوا أنبياء ولا ممن يصدقون لو شافهونا إذ كان من علماء أهل الكتابين لم يقبل ما يقولونه فكيف وهم من الصابئة المتكلمين في العلم الإلهي بما يخالف ما جاءت به الرسل عليهم السلام وهم أشد تبديلا وتغييرا من أهل الكتابين بشيء كثير فكيف في كلام مرسل لم يوجد في كتبهم وإنما نقل عنهم مطلقا الوجه الرابع أن جميع العقلاء الذين خبروا كلام آرسطو وذويه في العلم الإلهي علموا أنهم من أقل الناس نصيبا في معرفة العلم الإلهي وأكثر الناس اضطرابا وضلالا فإن كلامه وكلام ذويه في الحساب والعدد ونحوه من الرياضيات مثل كلام بقية الناس والغلط في ذلك قليل نادر وكلامهم في الطبيعيات دون ذلك غالبه جيد وفيه باطل وأما كلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب مع قلته فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل هو قليل كثير الضلال عظيم المشقة يعرفه كل من له نظر صحيح في العلوم الإلهية فكيف يستدل بكلام مثل هؤلاء في العلم الإلهي وحالهم هذه الحال وهذا المصنف هو القائل لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي غليلا ولا تروي عليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن هذا بمنزلة أن يستدل الرجل في مسائل الحلول والتثليث بكلام بطرس صاحب الرسائل التي عند النصارى وهو ممن غير دين المسيح وبدله وقد اعترف أساطين الفلسفة بأن العلم الإلهي لا سبيل لهم إلا العلم واليقين فيه وإنما يؤخذ فيه بالأولى والأخلق الأحرى وممن ذكر ذلك عنهم صاحب هذا الكتاب أبو عبدالله الرازي الذي سماه المطالب العالية فإذا كانوا معترفين بأنه ليس عندهم علم ولا يقين في العلم الإلهي كيف يستدل بكلامهم فيه الوجه الخامس يقال له لم تقبل هذه الوصية التي نقلتها عن الذي ائتممت به من أئمة الضلال وذلك أنه قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى وهذا يناسب ترتيب تعاليمه حيث ينقل أتباعه من درجة إلى درجة كما ينقلهم من المنطق والرياضي إلى الطبيعي ثم إلى الإلهي الذي لهم فجعل ذلك معلقا على إرادة الشرع في المعارف الإلهية وأنت جعلت ما تذكره من النظر في هذا الباب اعتقادا واجبا على جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم بل كفرت في الكتاب من خالفك فلو تركت الناس على ما هم عليه إلا من أراد أن يشرع في معارفك لكنت متابعا لهذا الإمام المضل لكنك ابتدأت بخطاب ذلك الملوك والعامة وغيرهم ممن لم يرد الشروع في معارفك الإلهية الوجه السادس أن يقال ما معنى قوله فليستحدث لنفسه فطرة أخرى والفطرة هي الخلقة التي فطر الله عباده عليها أتريد أن يبدل خلقته وما فيها من قوى الإدراك والحركة وهذا غير مقدور للبشر فإن الله تعالى فطر عباده على ذلك أم تريد أن يترك ما فطر عليه من المعارف والعلوم ويستحدث لنفسه معارف تخالف ذلك وهذا هو الذي يصلح أن يريده فهذا أمر بتبديل فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده وهي طريقة المبتدعة المبدلين لفطرة الله تعالى وشرعته كما قال النبي ﷺ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه فأهل الكتاب المنزل بدلوا وحرفوا من كتاب الله تعالى ما به بدلوه وحرفوه وهم مع الصابئين والمشركين القائمين بالنظر العقلي بدلوا من فطرة الله التي فطر الله عباده عليها وغيروا منها ما غيروه ولهذا قيل إن آرسطو هذا بدل طريقة الصابئة الذين كانوا قبله والذين كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر الذين أثنى عليهم القرآن فهذا الكلام المنقول عنه يوافق ذلك وهؤلاء المحرفة المبدلة في هذه الأمة من الجهمية وغيرهم اتبعوا سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وفارس والروم فغيروا فطرة الله تعالى وبدلوا كتاب الله والله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة التي فطرهم عليها وبعث إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشريعة المنزلة وهؤلاء بدلوا وغيروا فطرة الله وشرعته خلقه وأمره وأفسدوا اعتقادات الناس وإراداتهم إدراكاتهم وحركاتهم قولهم وعملهم من هذا وهذا كما بدل الذين ظلموا من بني إسرائيل القول الذي أمروا به والعمل الذي أمروا به ففي الصحيح عن النبي ﷺ إنه قيل لهم ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن مبدأ التجهم في هذه الأمة كان أصله من المشركين ومبدلة الصابئين من الهند واليونان وكان من مبدلة أهل الكتاب من اليهود وأن الجعد بن دهم ثم الجهم بن صفوان ومن اتبعهما أخذوا ذلك عنهم وأنه بعد ذلك أواخر المائة الثانية وقبلها وبعدها اجتلبت كتب اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشر مذهب مبدلة الصابئة مثل آرسطو وذويه ظهر في ذلك الزمان الخرمية وهم أول القرامطة الباطنية الذين كانوا في الباطن يأخذون بعض دين الصابئين المبدلين وبعض دين المجوس كما أخذوا عن هؤلاء كلامهم في العقل والنفس وأخذوا عن هؤلاء كلامهم في النور والظلمة وكسوا ذلك عبارات وتصرفوا فيه وأخرجوه إلى المسلمين وكان من القرامطة الباطنية في الإسلام ما كان وهم كانوا يميلون كثيرا إلى طريقة الصابئة المبدلين وفي زمنهم صنفت رسائل إخوان الصفا وذكر ابن سينا أن أباه كان من أهل دعوتهم من أهل دعوة المصريين منهم وكانوا إذ ذاك قد ملكوا مصر وغلبوا عليها قال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة لكونهم كانوا يرونها وظهر في غير هؤلاء من التجهم ما ظهر وظهر بذلك تصديق ما أخبر به النبي ﷺ كما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله كفارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك ومعلوم أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس والصابئين والمشركين فكان أول ما ظهر من البدع فيه شبه من اليهود والنصارى والنبوة كل ما ظهر نورها انطفت البدع وهي في أول الأمر كانت أعظم ظهورا فكان إنما يظهر من البدع ما كان أخف من غيره كما ظهر في أواخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والتشيع ثم في أواخر عصر الصحابة ظهرت القدرية والمرجئة ثم بعد انقراض أكابر التابعين ظهرت الجهمية ثم لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم إلى المسلمين فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان مع ما أظهروه من التشيع وكانت قرامطة البحرين أعظم تعطيلا وكفرا كفرهم من جنس كفر فرعون بل شر منه الوجه السابع أن يقال هذه الوصية مخالفة لما بعث الله تعالى به رسله وأن يقروهم على فطرتهم التي فطروا عليها وبذلك جاءتهم الرسل لم يأمروهم باستحداث فطرة غير الفطرة التي فطروا عليها ولا بتغيير تلك الفطرة كما أمرهم هؤلاء المبدلون لفطرة الله تعالى وكتبه والله سبحانه وتعالى قد فطر عباده على الإقرار به وعبادته وحده قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وهؤلاء الصابئة المبدلون ومن بدل دينه من اليهود والنصارى وسائر المشركين هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون هم من الذين اختلفوا من بعد ما كانوا أمة واحدة كما قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ولهذا يوجد في هؤلاء الصابئة المتفلسفة وغيرهم من الاختلاف والافتراق في أصول الدين أعظم مما يوجد بين اليهود والنصارى لأن أهل الكتاب أقرب إلى الهدى من الصابئين فمبتدعتهم دون مبتدعة الصابئين والتفرق والاختلاف في الصابئين أكثر ولهذا فيهم من عبادة الأصنام والكواكب والشرك مالا يوجد منه في أهل الكتابين وإن كان قد وجد فيهم من الشرك ما وجد فهو في أولك أعظم وهؤلاء وأمثالهم هم الذين بدلوا وغيروا ما فطر الله تعالى عليه عباده وأرسل به رسله وصار فيهم من الاستكبار وطلب العلو ودعوى التحقيق في العلوم والمعارف وعلو الهمة في الأعمال ما هم في الحقيقة متصفون عنده كما قال تعالى فيهم الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه وقال تعالى وتقدس فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وقال تعالى وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون وبالجملة فهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل وسوس الملل وخطاب القرآن لهم كثير جدا فإنهم أئمة لأتباعهم وهم من السادة والكبراء الذين قال الله تعالى في أتباعهم إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا أنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا وكان فرعون موسى من أكابر ملوك هؤلاء وقد ذكر الله تعالى في قصته في القرآن ما فيه عبرة وكذلك مشركو قريش الذين كفروا برسول الله ﷺ أولا كان فيهم الشبه بهؤلاء أن يكونوا أئمة من كفر بعدهم كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم وكافرهم تبع لكافرهم وكان في أئمة الكفر الوحيد الذي قال الله تعالى ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا إلى قوله تعالى إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر فاستعمل نظر أهل المنطق من التفكير الذي يطلب به الحد الأوسط ثم التقدير الذي هو القياس الذي ينتقل فيه من الحد الأوسط إلى المطلوب وكذب بكون القرآن كلام الله تعالى وجعله كلام البشر وهذا في الحقيقة قول هؤلاء المتفلسفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب فأمر الأمة بقبول وصية أمثال هؤلاء دون أن يذكر في ذلك ما أوصى الله تعالى به عباده وما وصت به رسله والوصية متضمنة تبديل فطرة الله تعالى بفطرة أخرى من أعظم تبديل الفطرة في العلوم والأعمال وذلك من تبديل دين الله 7. فصل قال أبو عبدالله الرازي المقدمة الثانية اعلم أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه وأنه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشي واحتج عليه بثلاث حجج ثم قال فظهر فساد قول من يقول لا يمكن أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا فإن عندنا الموصوف بهذه الصفة ليس إلا الله وبينا أنه لا يلزم من عدم النظير والشبيه عدم الشيء فثبت أن هذا الكلام ساقط بالكلية قلت نفي النظير والمثل والكفئ والسمي ونحو ذلك عن الله سبحانه وتعالى متفق عليه بين المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن وقد بينا فيما تقدم بالدلائل القاطعة الشرعية والعقلية أنه يمتنع أن يكون لله مثل بوجه من الوجوه وبينا أن التماثل بينه وبين خلقه ممتنع لذاته وأنه يستلزم كون الشي الواحد موجودا معدوما قديما محدثا خالقا مخلوقا ممكنا والحجج الثلاثة التي ذكرها الرازي في هذا المطلوب ضعيفة كما سنبينه إن شاء الله وإن كانت هذه المقدمة في نفسها حقا إذا فسرت بما يوافق الكتاب والسنة والعقل الصريح فإن هذا الرجل ربما يقول الحق ولكن تكون الحجج التي يقيمها عليه ضعيفة وكثيرا ما يقول ما ليس بحق وكثيرا ما يتناقض وهو في هذه المقدمة لم يثبت نفي الشبيه والنظير عن الله تعالى ولكن أراد أن يثبت أنه لا يجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه فأثبت سلب هذا العموم لم يثبت نفي النظير عن الله تعالى ومتى ثبت نفي المثل عن الله تعالى ثبت سلب هذا العموم لانتقاض هذه القضية العامة الكلية ولا يلزم من ثبوت نقيض هذه القضية وسلبها ثبوت نفي المثل عن الله فإنه إذا لم يجب أن يكون لكل موجود نظير لم يلزم من ذلك عدم وجود النظير لكل موجود إذ نفي الوجوب لا ينفي الوجود ولو ثبت أن في الموجودات مالا نظير له بل ما يجب نفي النظير عنه لم يثبت بمجرد هذا الإبهام أنه الله إلا بدليل آخر فكيف إذا لم يثبت إلا مجرد عدم وجوب النظير لكل موجود وإذا عرف مضمون هذه المقدمة فإن ما استفاد بها قوله فثبت فساد قول من يقول إنه لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا وإذا كان هذا هو الذي استفاده بهذه المقدمة فينبغي أن يعلم أن هذا الكلام لا يقوله من يجزم بقول ولا يقوله أحد من أهل الأقوال المعتبرة وما أعلم أحدا يقوله ممن يذكر له قول لكن لعله قد قاله بعض الجهال بالمذاهب والدلائل وأهل الريب والشك في ذلك وذلك أن المنازعين له عندهم يعلم بضرورة العقل ونظره امتناع وجود موجود لا داخل ولا خارجه وإذا كان هذا ممتنعا عندهم لم يجز أن يكون لهذا الممتنع نظير ولم يجز أن يقول عاقل إن هذا الممتنع لا أعقله إلا إذا كان له نظير فإن هذا يكون تعليقا لعقله على وجود نظيره ويكون عاقلا له إذا كان له نظير ومتى جوز وجود نظيره لم يكن هو في نفسه ممتنعا عنده والقائل لهذا إن كان يعتقد امتناعه لم يجز أن يكون له في نفسه وجود فضلا عن أن يجوز وجود نظير له وان كان يعتقد إمكانه لم يحتج عقله إلى وجود نظير لكن قد يقول هذا من لا يعلم امتناعه ولا إمكانه ويقول أنا لا أعقل شيئا إلا بشيء له نظير فهذه المقدمة تبطل هذا القول لو كان أقام حجة صحيحة عليها وتحقيق الأمر أن لفظ النظير إن أراد به هذا القائل أني لا أعقل شيئا إن لم يكن له نظير من كل وجه فهذا لا ينفعه فإنه سلم أن الله تعالى ليس له نظير من كل وجه وإن قال إن لم يكن له نظير من بعض الوجوه يعنى أن يكون بينه وبين غيره مشابهة في شيء فالرازي لم يقم دليلا على إفساد هذا بل قد سلم في كتبه أن هذا في كتبه أن هذا يقول كل أحد قال في كتابه نهاية العقول وهو أجل ما صنفه في الكلام في المسألة الثالثة في أن مخالف الحق من أهل الصلاة هل يكفر أولا قال قال أبو الحسن الأشعرى في أول كتاب مقالات الإسلاميين اختلف المسلمون بعد نبيهم ﷺ في أشياء ضلل بعضهم بعضا فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم قال فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب من كفر المخالفين قال فأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال لا أرد شهادة كل أهل الأهواء والأقوال إلا الخطابية فانهم يعتقدون حل الكذب وأما أبو حنيفة فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة وحكى الرازى عن الكرخي وغيره مثل ذلك قال وأما المعتزلة فالذين كانوا قبل أبو الحسين تحامقوا وكفروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال قال وأما المشبهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة وكان الاستاذ أبو اسحق يقول أكفر من يكفرني فكل مخالف يكفرنا نكفره وإلا فلا قال والذي نختاره أنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة وهذا الذي اختاره آخرا خلاف ما ذكره في تأسيسه ومحصلة من تكفير المجسمة ومن غيرهم والمقصود هنا أنه ذكر حجج من كفر المشبهة وتكلم عليها فقال وأما تكفير المشبهة فقد كفرهم أصحابنا والمعتزلة من وجوه إلى أن قال ورابعها أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم المشبه لا يخلو إما أن يكون هو أن يذهب الى كون الله تعالى وتقدس مشبها لخلقه من كل الوجوه أوليس والأول باطل لأن أحدا من العقلاء لم يذهب الى ذلك ولا يجوز أن يجمعوا على تكفير من لا وجود له بل المشبه الذي يثبت الاله على صفة يشبهه فيها بخلقه والمجسم كذلك لأنه إذا اثبت جسما مخصوصا غير معين فإنه يشتبه عليه بالأجسام المحدثة فثيت أن المجسم مشبه وكل مشبه كافر بالإجماع فالمجسم كافر ثم قال في الجواب عن هذا قوله المجسم مشبه والمشبه كافر قلنا إن عنيتهم بالمشبه من يكون قائلا بكون الله تعالى وتقدس شبيها بخلقه من كل الوجوه فلا شك في كفره لكن المجسمة لا يقولون بذلك فلا يلزم من قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولا يلزم من اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق قال وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله تعالى شبيها بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود وشيء وعالم وقادر والحيوانات أيضا كذلك وذلك لا يوجب الكفر وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك بل هو دعوى الإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه قلت هذا الكلام منه تسليم لأن كون الله شبيها بخلقه من لعض الوجوه متفق عليه بين المسلمين لاتفاقها على أن الله تعالى موجود وشيء وعالم وقادر وعلى هذا فما من موجود إلا وله شبيه من بعض الوجوه لاشتراكها في الوجود والشبه فقوله بعد هذا لا يجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه إن عنى به شبيها به من كل وجه فقد ذكر أن أحدا من العقلاء لم يذهب الى ذلك وإن عنى به شبيها من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا محل وفاق بين المسلمين وإن أراد نوعا من التشبيه فهو لم يذكره في هذه المقدمة ولم يوضح سبيلا ومن العجب أنه ذكر في نهايته على لسان منازعيه إجماع المسلمين على تكفير المشبهة وأنه ليس هو الذي يذهب إلى كون الله تعالى وتقدس شبيها بخلقه من كل الوجوه فإن هذا لم يذهب إليه عاقل فتعين أن يكون هو الذي أثب الإله على صفة شبهه معها بخلقه ثم ذكر هو إجماع المسلمين على كون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه فالذي ذكر أولئك إجماع المسلمين على تكفير قائله ذكر هو إجماع المسلمين على القول به وهذا الذي قرره في نهاية العقول في علم الأصول الذي صنفه بعد هذا الكتاب وقرر في أوله أن علم أصول الدين أجل العلوم وأشرفها وأعلاها وأنهاها قال ثم إن جماعة من الأفاضل الذين لا يوجد أمثالهم إلا على تباين الأعصار ونوادر الأدوار لما طال اقتراحهم لدي وكثر إلحاحهم علي في تصنيف كتاب في أصول الدين يشتمل على نهايات الأفكار العقلية وغايات المباحث العلمية صنفت هذا الكتاب بتوفيق الله تعالى على نحو ملتمسهم وأوردت فيه من الدقائق والحقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين والمخالفين وإن كتابي يتميز على سائر الكتب المصنفة في هذا المعنى بثلاثة أمور أحدها الاستقصاء في الأسولة والأجوبة والتعمق في بحار المشكلات على وجه ربما يكون انتفاع صاحب كل مذهب بكتابي هذا أكثر من انتفاعه بالكتب التي صنفها أصحاب ذلك المذهب فإني أوردت من كل كلام زبدته ومن كل بحث نقاوته حتى أني إذا لم أجد لأصحاب ذلك المذهب كلاما بعول عليه ويلتفت إليه في نصرة مذهبهم وتقرير مقالتهم استنبطت من نفسي أيضا ما يمكن أن يقال في تقرير ذلك المذهب وتحرير ذلك المطلب وإن كنا نرد بالعاقبة كل رئي ونزيف كل رواية سوى ما اختاره أهل السنة والجماعة ونبين بالبراهين الباهرة والأدلة القاهرة أن ذلك الذي يجب له الانقياد بالسمع والطاعة وثانيهما استنباط الأدلة الحقيقية والبراهين اليقينية المفيدة للعلم الحقيقي واليقين التام لا الا لزامات التي المقصود من إيرادها مجرد التعجيز وألافحام وثالثها الترتيب العجيب والتلفيق الأنيق الذي يوجب إلزامه على ملتزمه إيراد جميع مداخل الشكوك والشبهات والإجتناب على الحشو والاطناب وهذا كله لا يعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء وتحقق وقوعه على مجامع العقلاء من المحقين والمبطلين والموافقين والمخالفين حتى يمكن بعد ذلك فهم ما فيه من الأدلة العقلية والشكوك العويصة القوية فأني قل ما تكلمت في المبادىء والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفا إلى تخليص النهايات والغايات قال ولما خرج الكتاب على هذا الوجه سميته نهاية العقول في دراية الأصول ليكون الاسم موافقا واللفظ مطابقا للمعنى وجعلته خالصا لوجه الله تعالى الكريم وطلب مرضاته والفوز العظيم بثوابه والهرب من أليم عذابه وسألت الله تعالى أن بعظم لي الإنتفاع للمسلمين في الدارين ويجعله سبب السعادة في المنزلتين أنه قريب مجيب فهذا وصفه لكلامه في هذا الكتاب الذي صنفه بعد هذا وقد نقض فيه ما ذكر في هذا الكتاب في اسم المشبهة وتكفيرهم وذكر اتفاق المسلمين على إثبات التشبيه من بعض الوجوه وإذا كانوا متفقين عليه كيف يكون صاحبه هو المشبه المذموم في قول المسلمين وذكر أن القائلين بالجسم واختصاص الله تعالى بالمكان وإن عناهم متكلم بلفظ فلا حجة على تكفيرهم وقد ذكر في هذا الكتاب ضد هذين القولين في اسم التشبيه وفي تكفير المشبه مع أن الحجج التي ذكرها في هذا الكتاب من جانب منازعه قوية عظيمة توافق ما رجع إليه في نهايته فقال في القسم الرابع وقد جعله ثلاثة فصول قال الفصل الثاني في أن المجسم هل يوسف بأنه مشبه أم لا قال المجسم إنا وإن قلنا إنه جسم مختص بالحيز والجهة إلا أنا نعتقد أنه بحلاف سائر الأجسام في ذاته وحقيقته وذلك يمنع من القول بالتشبيه فإن إثبات المساواة في بعض الأمور لا يوجب إثبات التشبيه ويدل على ذلك أنه تعالى صرح في كتابه بالمساواة في الصفات الكثيرة ولم يقل أحد بأن ذلك يوجب التشبيه فالأول قال سبحانه وتعالى في صفة نفسه إنني معكما أسمع وأرى وقال في صفة الإنسان فجعلناه سميعا بصيرا الثاني قال واصنع الفلك بأعيننا وقال في الإنسان ترى أعينهم تفيض من الدمع حزنا الثالث قال بل يداه مبسوطتان وفي الإنسان بما قدمت يداك وقال في نفسه مما عملت أيدينا أنعاما وفي الإنسان يد الله فوق أيديهم الرابع قال الرحمن على العرش استوى وفي الإنسان لتستووا على ظهوره الخامس قال في صفة نفسه العزيز الجبار ووصف الخلق بذلك فقال إخوة يوسف أيها العزيز وقال كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار والسادس سمى نفسه العظيم ثم وصف العرش فقال رب العرش العظيم والسابع وصف نفسه الحفيظ العليم ووصف يوسف بها فقال إني حفيظ عليم وقال وبشروه بغلام عليم وقال في آية أخرى بغلام حليم الثامن سمى تحيتنا سلاما فقال تحيتهم يوم يلقونه سلام وسمى نفسه سلاما كما ﷺ بعد فراغه من الصلاة اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام التاسع المؤمن قال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ووصف نفسه تعالى به فقال السلام المؤمن العاشر الحكم قال الله ألا له الحكم ووصفنا به فقال فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها الحادي عشر الراحم الرحيم وهو ظاهر الثاني عشر الشكور فقال إن ربنا لغفور شكور الثالث عشر العلي والإنسان يسمى بذلك منهم كعلي رضي الله عنه الرابع عشر الكبير قال في نفسه وهو العلي الكبير وقال إن له أبا شيخا كبيرا وقال في حكاية عن المرأتين وأبونا شيخ كبير الخامس عشر الحكيم والله تعالى وصف نفسه وكتابه السادس عشر الشهيد قال في حق الخلق فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وقال في حق نفسه أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد السابع عشر قال الله تعالى فتعالى الله الملك الحق وقال وبالحق أنزلناه وبالحق نزل الملك يومئذ الحق للرحمن ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق الثامن عشر الوكيل قال تعالى وهو على كل شيء وكيل وقد يوصف الخلق بذلك فيقال فلان وكل فلانا التاسع عشر المولى قال تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ثم قال تعالى في حقنا ولكل جعلنا موالي والنبي ﷺ قال من كنت مولاه فعلي مولاه العشرون الولي قال تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا وقال النبي ﷺ أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل وقال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض الحادي والعشرون الحي قال الله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم وقال وجعلنا من الماء كل شيء حي الثاني والعشرون قال تعالى إنما هو إله واحد ويقع هذا الوصف على أكثر الأشياء فيقال ثوب واحد وإنسان واحد الثالث والعشرون الثواب قال الله تعالى إن الله كان توابا رحيما وسمى الخلق به فقال إن الله يحب التوابين الرابع والعشرون الغني قال الله تعالى والله الغني وقال إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء وقال النبي ﷺ خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم الخامس والعشرون النور قال الله تعالى الله نور السموات والأرض وقال يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم السادس والعشرون الهادي قال الله تعالى ولكن الله يهدي من يشاء وقال إنما أنت منذر ولكل قوم هاد السابع والعشرون الاستماع قال الله تعالى فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون وقال لموسى فاستمع لما يوحى الثامن والعشرون القديم قال تعالى حتى عاد كالعرجون القديم قال واعلم أنه لا نزاع في أن لفظ الموجود والشيء والواحد والذات والمعلوم والمذكور والعالم والقادر والحي والمريد والسميع والبصير والمتكلم والباقي واقع على الحق سبحانه وتعالى وعلى خلقه فثبت بما ذكرناه أن المشابهة من بعض الوجوه لا توجب أن يكون قائله موصوفا بأنه شبه الله بالخلق وبأنه مشبه ونحن لا نثبت المشابهة بينه وبين خلقه إلا في بعض الأحوال والصفات إلا أنا نعتقد أنه تعالى وإن كان جسما إلا أنه بخلاف سائر الأجسام في ذاته وحقيقته فثبت أن إطلاق اسم المشبه على هذه الطائفة كذب وزور وهذا جملة كلامهم في هذا الباب قال واعلم أن حاصل هذا الكلام من جانبنا أنا قد دللنا في القسم الأول من هذا الكتاب على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كان الباري جسما لزم أن يكون مثلا لهذه الأجسام في تمام الماهية وحينئذ فيكون القول بالتشبيه لازما أما ما لم يدل الدليل على أن الأشياء المتساوية في الموجودية والعالمية والقادرية فإنه لا يجب تماثلها في تمام الماهية فظهر الفرق قلت قد ذكر ما ذكر في حجج الذين سماهم مجسمة مع تقصير فيها فإنها حجج كثيرة جدا ومع هذا فلم يمكنه أن يمنعهم ثبوت التشبيه من بعض الوجوه كما قرره ولا أمكنه أن يمنع أن هذا ثابت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين لكن ادعى أن التجسيم يوجب إثبات مثل لله في تمام ماهيته وذلك ليس تشبيها في بعض الأمور بل هو مماثلة في كمال الحقيقة والماهية قلت ولا ريب أن من أثبت لله مثلا في كمال حقيقته فهو مشبه بل هو أعظم من أن يقال مشبه بل هو جاعل لله تعالى كفوا وشبها ولذا قال فالأشياء المستركة في الموجودية والعالمية والقادرية لا يجب تماثلها في تمام الماهية قلت وهذا حق فإن اشتراك الشيئين في كونهما موجودين أو عالمين أو قادرين لا يوجب استواءهما في حقيقتهما والغرض أنه في هذا الكتاب أيضا قد اعترف بأن التشبيه من بعض الوجوه ثابت بالكتاب والسنة واتفاق العقلاء فضلا عن المسلمين لكن خصومه المجسمة إنما عابهم بإثباتهم المشابهة في تمام الماهية وهذا مورد النزاع بينه وبينهم وسنذكر إنشاء الله تعالى ما يجب من الحكم بالقسط بينه وبينهم إذا انتهينا إلى ذكر حججه التي أحال عليها ونبين أن الأجسام كلها هل هي مستوية في تمام ماهيتها وكمال حقيقتها أم لا إذ هذا ليس موضع الكلام في ذلك وهذا الفصل وإن كان ذكره في آخر الكتاب فذكرناه في هذا الموضع لنبين اعترافه واعتراف سائر الخلق بما قامت عليه الأدلة الشرعية والعقلية من ثبوت المشابهة في بعض الأمور وأن ذلك لا يستلزم التماثل في الحقيقة وظهر بذلك ما في هذا اللفظ من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والمقصود هنا أن لفظ الشبيه والنظير فيه إجمال كبير واشتراك في اللفظ وإجمال في المعنى فإن أراد بما نفاه بهذه المقدمة نفي التشبيه من كل وجه فهذا محل وفاق ولا ينفعه ذلك وإن أراد به نفي التشبيه من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا متفق على ثبوته فلم يرد نفيه ولم يقم دليلا على نفيه والقول الذي ذكره عن بعض منازعيه لا يمكننا عقل موجود لا متصل ولا منفصل إلا إذا وجدنا له نظيرا قد ذكرنا أنه لا يقوله من يعلم امتناع موجود لا متصل ولا منفصل ولا يقوله من يعلم إمكانه وإنما يقوله الواقف الذي يطلب للشيء نظيرا وقد ذكر هذا الرازي أنه لا يطلب أحد من العقلاء نظيرا من كل وجه وذكر أن الشبيه من بعض الوجوه ثابت للرب سبحانه وتعالى باتفاق المسلمين فضلا عن أن يكون ثابتا لغيره وهذا المنازع له لا يطلب إلا نظيرا من بعض الوجوه فإذا كان مطلوبه حاصلا باتفاق المسلمين لم يكن قوله فاسدا فأحد الأمرين لازم إما أن لا يكون قال أحد هذا القول أو يكون هذا القول حقا مسلما بالاتفاق وعلى التقديرين فلا تصح مناظرة قائله فإن قيل هذا المنازع طلب نظيرا في مورد النزاع وهو أني لا أثبت موجودا لا داخل العالم ولا خارجه إن لم يكن له شبيه من هذا الوجه والمخالفون له لا يثبتون المشابهة من هذا الوجه قيل هذا حق وهو تشبيه من وجه مخصوص لكن المصنف لم يثبت جواز وجود موجود بدون هذا التشبيه الخاص إذ لو أثبت ذلك لكان قد أثبت جواز موجود لا يكون داخل العالم ولا خارجه وذلك لو أثبت كانت له مغنيا عن هذه المقدمة بل ادعى أنه لا يجب الوجود الشبيه والنظير لكل موجود ولفظ الشبيه مجمل كما ذكره هو وإذا كانت الدعوى مجملة تحتمل مورد النزاع وما هو أعم منه وما هو أخص منه لم تكن إقامة الدليل عليها دافعة للخصم وهذا بين وأما حججه فإنه قال الحجة الأولى أن بديهة العقل لا تستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفا له في تلك الخصوصية إذا لم يكن هذا مدفوعا في بداية العقول علمنا أنه لا يلزم من عدم نظير الشيء عدم ذلك الشيء وعلى هذا وجوه الأول إن عدم استبعاد البديهة لا يقتضي عدم استبعاد العلم النظري وكذلك كونه غير مدفوع في بديهة العقل لا يقتضى أنه لا يكون مدفوعا في نظره فإن حاصل هذا أنه لا يعلم بالبديهة امتناع هذا وفرق بين أن لا يعلم بالبديهة امتناعه وبين أن يعلم بالبديهة إمكانه وإذا لم يعلم بالبديهة امتناعه لم يجز أن يقال فعلمنا أنه لا يلزم من عدم نظير الشيء عدم الشيء فإن هذا لم يعلم مما ذكره إنما أفاد عدم العلم البديهي بوجود موجود لا نظير له لم يعدم وجود علم بإمكانه ولو كان قد قال نعلم بالبديهة أن الشيء قد يكون موجودا ولا يكون له نظير أو نعلم بالبديهة إمكان وجود شيء لا نظير له لكان الدليل تاما لكن هو لم يذكر إلا الإمكان الذهني دون الخارجي والإمكان الذهني ليس فيه علم لا بالامتناع ولا بالإمكان ولكن العلم بالإمكان الخارجي فيه بالإمكان الثاني أن الذي ادعاه أنه لا يستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفا له في تلك الخصوصية وهذا إثبات للمخالفة في الخصوصية وإن كانت المشابهة ثابتة في غير الخصوصية بحيث يكون بينهما قدر مشترك وقدر مميز والمنازع له لم ينف وجود هذا بل قد حكى الإجماع على أن أحدا من العقلاء لم يثبت المشابهة من كل وجه فلا يفيده هذا الوجه الثالث أن المنازع له الذي ذكره في هذه المقدمة طلب إثبات شيء يكون لا داخل العالم ولا خارجه وذكر أنه لا يقر بهذا إلا إذا علم المشابهة في هذا فإن لم يقم دليلا على أن وجود الموجود لا يقتضي وجود شبيه له من هذا الوجه إما دليلا يخص هذا الوجه أو دليلا يعم هذا الوجه وغيره لم يكن قد استدل وهذا الدليل إنما فيه جواز المخالفة في تلك الخصوصية ولا يلزم من جواز المخالفة في تلك الخصوصية جواز المخالفة في كونه لا داخل العالم ولا خارجه ثم قال الحجة الثانية وهو أن الشيء إما أن يتوقف على وجود ما يشابهه أو لا يتوقف والأول باطل لأنهما لو كانا متشابهين وجب استواؤهما في جميع اللوازم فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف الثاني على وجود الأول بل توقف كل واحد منهما على نفسه وذلك محال في بداية العقول يقال هذه الحجة أفسد من التي قبلها من وجوه أحدها أن هذه إنما تنفي وجوب التشابه الموجب للاستواء في جميع اللوازم وهذا هو التماثل وقد حكى الإجماع على أن أحدا من العقلاء لا يثبت لله مثلا يشاركه في جميع اللوازم ولا ريب أن انتفاء هذا الظاهر وإذا كان أحد من العقلاء لم يقل بهذا لم ينفعه في دفع ما ذكره عن منازعه الذي طلب التشابه في صفة واحدة لا في جميع اللوازم الوجه الثاني أنه كثيرا ما يحتج بمثل هذه الحجة في كتبه وهي من الأغاليط ولا يميز بين دور التقدم والتأخر وبين دور التفاوت وذلك أنه يمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر لأن العلة متقدمة للمعلول فيلزم أن يكون كل منهما علة للآخر ومعلولا له فيلزم تقدمه عليه وتأخره عنه وذلك يلزم تقدمه على نفسه بدرجتين وتأخره عن نفسه بدرجتين ويستلزم كونه علة لنفسه ومعلولا لنفسه لأنه يكون علة علته ومعلولا معلوله جميعا ولا يمتنع أن يكون كل من الشيئين مقارنا للآخر بحيث لا يوجد إلا معه كالأمور المتضايفة مثل الأبوة والبنوة ونحو ذلك وهذا دور الشروط فيجوز أن يكون وجود كل من الأمرين شرطا في وجود الآخر بحيث لا يوجد إلا معه فهذا جائز ليس بممتنع فقوله وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود ما يشابهه إن أراد بالتوقف توقف العلل بحيث يكون كل منهما موجودا مع الآخر فلم قال إن هذا ممتنع قوله لأن التشابه يقتضي الاستواء في اللوازم فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول يقال له غايته إنه توقف كل منهما على وجود الآخر وهذا أول المسألة وهو توقف الشيء على وجود ما يشبهه فلم قلت إن هذا محال إذا أريد بالتوقف وجوب وجوده معه لا وجوب وجوده به ومعلوم أن هذا لا يقتضي وقف الشيء على نفسه وأن هذا ليس بمحال في بداية العقول بل المحال أن يكون وجود كل منهما بوجود الآخر وفرق بين كون وجوده معه أو وجوده به فهذه الحجة كما قال الإمام أحمد رحمه الله في هؤلاء يتمسكون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم الوجه الثالث أن يقال نختار القسم الثاني وهو أن وجود الشيء لا يتوقف على وجود ما يشبهه بل يجوز وجوده بدونه لكن لم قلت إذا كان وجوده لا يتوقف على النظير أنه لا يجب أن يكون له نظير وإن لم يتوقف عليه وجوده كمعلولي العلة الواحدة لا يتوقف أحدهما على الآخر بأن كان وجود أحدهما مستلزما لوجود الآخر وأيضا فالمنازع الذي ذكرته لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا إنما نفى عقل نفسه فلم قلت إنه إذا جاز وجود هذا الموجود يمكن عقلنا له وهذا لا يحصل إلا إذا ثبت أنه يمكن أن يعقل كل ما جاز وجوده وهذا لم تذكر عليه حجة ثم قال الحجة الثالثة هو أن تعين كل شيء من حيث أنه هو ممتنع الحصول في غيره وإلا لكان ذلك الشيء عين غيره وذلك باطل في بداية العقول فثبت أن تعين كل شيء من حيث أنه هو ممتنع الحصول في غيره فعلمنا أن عدم النظير والمساوي لا يوجب القول بعدم الشيء يقال هذه الحجة أفسد من غيرها وهي أيضا من غلطاته فإنه لم يذكر فيها ما يدل على مطلوبه لوجوه أحدها أن إثبات نظير الشيء وشبهه ومثله يقتضي أن يكون عين أحدهما ليست عين الآخر إذ لو كانت عينه عينه لم يكن مثله ونظيره بل كان هو إياه وإذا كان نفس إثبات النظير يقتضي التغاير في التعيين صار وجود النظير مستلزما لامتناع كون أحدهما عين الآخر وثبوت اللازم لا يقتضي عدم الملزوم فكون عين الشيء يمتنع أن يكون لغيره لا يقتضي نفي ذلك كما لا يقتضي ثبوته وإذا لم يكن مقتضيا ثبوت النظير ولا نفيه لم يكن فيه إعدام الدليل على وجوب النظير وعدم الدليل ليس دليل العدم فتبين أن ما ذكره لا يمنع وجوب النظير كما لا يوجب ثبوت النظير ولكن غايته أنه لا يدل على ثبوت النظير لكن قد يقول هو إذا كان تعيينه يمتنع أن يكون لغيره فلا يقتضي وجود التعيين وجوده ولا عدمه فيقال هذه الحجة لم تفد غير ما هو معروف بدونها من أنه يمكن العقل أن يتصور وجود الشيء الذي ليس له نظير وأن ذلك ممكن فإن هذه الحجة ليس فيها إقامة دليل خاص على نفي الحاجة إلى النظير وإنما غايتها وجود عين الشيء من غير نظير ولو قال قائل قد يكون وجود الشيء موقوفا على نظيره لكون وجوده مشروطا بوجود النظير أو وجود الغير كالأمور المتضايفة وأنتم لم تقيموا دليلا على نفي وجوب التلازم فإنه ليس في حجته ما ينفي التلازم لكان قوله صحيحا لكن يقال نحن نتصور إمكان وجوده بدون التلازم فلا حاجة إلى حجته يبين ذلك أنه يكون امتناع كون عين الشيء حاصلا في غيره يمنع وجوب الشبيه أو النظير فإن ذلك يستلزم أن يكون إثبات الشيء مستلزما لعدمه لأن إثبات التشابه والتناظر والتساوي يقتضي ثبوت التغاير في التعيين وأن أحدهما ليست عين الآخر فلو كان هذا التغاير في التعيين مانعا من وجوب مشابه لكان لازما الشيء بل بعض معناه مانعا من وجوبه فإن اللازم لا يمنع وجوب الملزوم ولا يوجب وجوده الوجه الثاني أن كون تعيين الشيء ممتنع الحصول في غيره لا يقتضي عدم نظير ذلك التعيين في الثاني وإنما يقتضي عدم نفس ذلك التعيين في الثاني والمنازع إنما يثبت نظير التعيين في الثاني لا نفس التعيين فلم قلت إن نظير ذلك التعيين غير واجب فإن قلت يلزم أن يكون لكل نظير نظيرا قيل له كل من التعيينين نظير الآخر الوجه الثالث أن تعين الشيء في اقتضائه لنفي وجوب لمثل كما هو في اقتضائه لنفي وجود المثل ثم من المعلوم أنه إذا كان امتناع حصول العين في الغير يقتضي نفي المثل وجب أن لا يكون لشيء من الأشياء نظير ولا شبيه ولا مثل فإنه ما من شيء إلا له عين مخصوصة يمتنع حصولها في غيره فإن كان عدم حصول عين الشيء في غيره يقتضي عدم مثله ونظيره فليس في الوجود ماله نظير وشبيه وهذا من أبطل الأشياء وإذا لم يكن تعيين الشيء مانعا من وجود النظير لم يكن مانعا من وجوب النظير فإنه لا يدل على هذا ولا هذا فصل قال الرازي المقدمة الثالثة أن القائلين بأنه تعالى جسم اختلفوا فمنهم من يقول إنه على صورة الإنسان ثم المنقول عن مشبهة الأمة أنه على صورة الإنسان الشاب وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ وهؤلاء يجوزون الانتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى وأما المحققون من المشبهة فالمنقول عنهم أنه على صورة نور من الأنوار وقال وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة واعلم أن كثيرا من هؤلاء يمتنع من جواز الحركة والسكون على الله تعالى وأما الكرامية فهم يقولون بالأعضاء والجوارح بل يقولون إنه مختص بما فوق العرش ثم إن هذا المذهب يحتمل وجوها ثلاثة فإنه تعالى إما أن يقال إنه ملاق للعرش وإما أن يقال إنه مباين عنه ببعد منتاه وإما أن يقال إنه مباين ببعد غير متناه وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة طائفة من الكرامية واختلفوا أيضا في أنه تعالى مختص بتلك الجهات لذاته أو لمعنى قديم وبينهم اختلاف في ذلك فهذا تمام الكلام في المقدمات وبالله التوفيق قلت هذا الكلام فيه تقصير كثير في معرفة مذاهب الناس وتحقيقها وذلك أن القائلين بأن الله تعالى فوق العرش والقائلين بالصفات الخبرية وهم السلف وأهل الحديث وأئمة الأمة وجماهيرها وجمهور الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وجمهور المشهورين بالإمامة في الفقه والتصوف في الأمة من جميع الطوائف جمهورهم لا يقول هو جسم ولا ليس بجسم لما في اللفظين من الإجمال والاشتراك المشتمل على الحق والباطل ومنهم طوائف يقولون هو جسم وطوائف يقولون ليس بجسم ثم إن كثيرا من أئمة السنة والحديث أو أكثرهم يقولون إنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه بحد ومنهم من لم يطلق لفظ الحد وبعضهم أنكر الحد وممن ذكر ما عنده في ذلك من مذاهب أهل الحديث والكلام وإن كان بمقالات أهل الكلام أخبر أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين الذي من أو ما ذكر فيه أخذ الرازي وغيره مذهبه في عدم تكفير أهل الصلاة قال أبو الحسن هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأن الله سبحانه وتعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وأن له يدين بلا كيف كما قال خلقت بيدي وكما قال تعالى بل يداه مبسوطتان وأن له عينين بلا كيف كما قال تجري بأعيننا وأن له وجها كما قال تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قال المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علما كما قال أنزله بعمله وكما قال وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله تعالى كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله تعالى القوة كما قال او لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وذكر مذهبهم في القدر إلى أن قال ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف من قال بالوقف أو اللفظ فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرىالقمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال تعالى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وأن موسى عليه السلام سأل الله تعالى الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة وذكر مذهبهم في باب الإيمان والوعيد والأسماء والأحكام إلى أن قال ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير فلم يرض بالشر وإن كان مريدا له وذكر مذهبهم في الصحابة والخلافة والتفضيل ثم قال ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله ﷺ أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له كما جاء في الحديث عن رسول الله ﷺ أن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم مالم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وجاء ربك والملك صفا صفا وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف شاء كما قال ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وذكر مذهبهم في الأمراء والصلاة خلفهم وترك الخروج عليهم وأشياء غير ذلك ثم قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب ثم قال فأما أصحاب عبدالله بن سعيد القطان يعني ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الله لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا عظيما جليلا كبيرا كريما مريدا متكلما جوادا ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى وذكر غير ذلك قال وكان يزعم أن الباري لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستو على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء ثم قال ذكر قول زهير الأثري فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرا كان يقول إن الله تعالى بكل مكان وأنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وجاء ربك بلا كيف ويزعم أن القرآن كلام محدث غير مخلوق وأن القرآن يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد وإن إرادة الله ومحبته قائمان بالله تعالى ويقول بالاستثناء كما يقول أصحاب الاستثناء المرجئة الذين حكينا قولهم في الوعيد ويقول في القدر بقول المعتزلة وذكر قوله في الإيمان أنه موافق لقول المرجئة قال وأما أبو معاذ التومني فإنه يوافق زهيرا في أكثر أقواله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في إرادته ومحبته وقال في باب اختلاف الناس في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو يحمله العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأنه هاتين الفرقتين أنكرت القول بأنه في مكان دون مكان قال وقال القائلون هو جسم خارج من جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بطعم ولا لون ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلاعلى معنى أنه فوقه غير مماس له وأنه فوق الأشياء وفوق العرش ليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها قال وقال هشام بن الحكم إن ربه تعالى في مكان دون مكان وأن مكانه هو العرش وأنه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحده وقال بعض أصحابه أن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له قال وقال بعض من ينتحل الحديث إن العرش لم يمتلىء به وأنه يقعد نبيه ﷺ معه على العرش قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبهه الأشياء وأنه على العرش كما قال الرحمن على العرش استوى ولا نقدم بين يدي الله تعالى في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجها كما قال ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأن له يدين كما قال خلقت بيدي وأن له عينين كما قال تجري بأعيننا وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله ﷺ وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن قال واختلف الناس في حملة العرش ما الذي تحمل قال قائلون الحملة تحمل الباري تعالى وإنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وأن العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل قال الأشعري وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولا تحمله الحملة ولكن العرش هو الذي يخف ويثقل وتحمله الحملة قال وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه تعالى على العرش وإنه بائن منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل بينونة ليس على العزلة والبينونة من صفات الذات قال أبو الحسن الأشعري واختلفوا يعني الأمة في العين واليد الوجه على أربع مقالات فقالت المجسمة له يدان ورجلان ووجه وعينان وجنب يذهبون إلى الجوارح والأعضاء وقال أصحاب الحديث لسنا نقول في ذلك إلا ما قال الله تعالى أو جاءت به الرواية عن رسول الله ﷺ فنقول وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف وقال عبدالله ابن كلاب أطلق اليد والعين والوجه خبرا لأن الله تعالى أطلق ذلك ولا أطلق غيره فأقول هي صفات لله تعالى كما قال في العلم والقدرة والحياة إنها صفات وقالت المعتزلة بإنكار ذلك إلا الوجه وقالت اليد بمعنى النعمة وقوله تجري بأعيننا أي بعلمنا والجنب بمعنى الأمر وقالوا في قوله تعالى أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله أي في أمر الله وقالوا نفس الباري هي هو وكذلك ذاته هي هو وتألوا قوله الصمد على وجهين أحدهما أنه السيد والآخر أنه المصمود إليه بالحوائج قال وأما وجهه فإن المعتزلة قالت فيه قولين قال بعضهم وهو أبو الهذيل وجه الله هو الله تعالى وقال غيره معنى قوله ويبقى وجه ربك أي يبقى ربك من غير أن يكون يثبت وجها يقال إنه هو الله تعالى أو لا يقال ذلك فيه قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالإبصار على تسع عشرة مقالة فقال قائلون يجوز أن نرى الله بالإبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات وأجاز بعضهم عليه الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول إذا رأوا إنسانا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذ أرادوا ذلك حكي ذلك عن أصحاب مضر وكهمس وحكي عن أصحاب عبدالواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون إن الله تعالى يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن وقد قال قائلون إنا نرى الله تعالى في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا وروي عن رقبة بن مصقلة أنه قال رأيت رب العزة في النوم فقال لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء أربعين سنة قال وامتنع كثير من القول إنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا إنه يرى في الآخرة قال واختلفوا أيضا في ضرب آخر فقال قائلون نرى جسما محدودا مقابلا لنا في مكان دون مكان وقال زهير الأثري ذات الباري في كل مكان وهو مستو على عرشه ونحن نراه في الآخرة على عرشه بلا كيف وكان يقول إن الله تعالى يجيء يوم القيامة إلى مكان لم يكن خاليا منه وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ولم تكن خالية منه قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالأبصار هل هي إدراك له بالأبصار أم لا فقال قائلون هي إدراك له بالأبصار وهو يدرك الأبصار وقال قائلون يرى الله تعالى بالأبصار ولا يدرك بالأبصار واختلفوا في ضرب آخر فقال قائلون نرى الله جهرة ومعاينة وقال قائلون لا يرى الله جهرة ولا معاينة ومنهم من يقول أحدق إليه إذا رأيته ومنهم من يقول لا يجوز التحديق إليه وقال قائلون منهم ضرار وحفص الفرد إن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا هذه فندركه بها وندرك ما هو بتلك الحاسة وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها ويكلم خلقه منها وقال الحسين النجار يجوز أن يحول الله تعالى العين إلى القلب ويجعل لها قوة العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤية له أي علما له قال وأجمعت المعتزلة على أن الله تعالى لا يرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة أن الله تعالى يرى بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بها وأنكر ذلك الفوطي وعباد وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية إن الله لا يرى بالأبصار بالدنيا والآخرة ولا يجوز ذلك عليه واختلفوا في الرؤية لله تعالى في الأبصار وهل يجوز أن تكون أو هي كائنة لا محالة على مقالتين فقال قائلون يجوز أن يرى الله تعالى في الآخرة بالأبصار وقال قائلون إنه بتاتا وقال نقول إنه يرى بالأبصار وقال قائلون نقول بالأخبار المروية وبما جاء في القرآن أنه يرى بالأبصار في الآخرة بتاتا يراه المؤمنون قال وكل المجسمة إلا نفرا يسيرا يقولون بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم قال واختلفوا هل يقال إن الباري تعالى لم يزل عالما قادرا حيا أم لا يقال ذلك على مقالتين فقال قائلون لم يزل الله تعالى عالما قادرا حيا وزعم كثير من المجسمة أن الباري كان قبل أن يخلق الخلق ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا مريد ثم أراد وإرادته عندهم حركته فإذا أراد كون شيء تحرك فكان الشيء لأن معنى أراد تحرك وليست الحركة غيره وكذلك قالوا في قدرته وعلمه وسمعه وبصره إنها معان وليست غيره وليست بشيء لأن الشيء هو الجسم وقال قائلون إن حركة الباري غيره واختلف القائلون بتحركه تعالى على مقالتين فزعم هشام أن حركة الباري هي فعله الشيء وكان يأبى أن يكون الباري يزول مع قوله يتحرك وأجاز عليه السكاك الزوال وقال لا يجوز عليه الطفر وحكي عن رجل كان يعرف بأبي شعيب أن الباري يسر بطاعة أوليائه وينتفع بها وبإنابتهم ويلحقه العجز بمعاصيهم إياه قال واختلف المعتزلة في المكان فقال قائلون إن الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل عليه وقال قائلون الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ الأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان وقال أيضا اختلفت المعتزلة في المكان فقال قائلون الباري بكل مكان بمعنى أنه مدبر لكل مكان وأن تدبيره في كل مكان والقائلون بهذا القول جمهور المعتزلة أبو هذيل والجعفران والإسكافي والجبائي وقال قائلون الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل وهو قول هشام الفوطي وعبا د بن سليمان وأبي زفر وغيرهم من المعتزلة قال وقالت المعتزلة في قول الله تعالى الرحمن على العرش استوى يعني استولى قال أبو الحسن وهذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن الباري تعالى ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قلت وهذا الذي أحال عليه ذكره في قول المعتزلة فقال هذا شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض ولا أجزاء وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه الممساسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ولا يوصف بأنه متناهي ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود ولا والد ولا مولود ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار ولا تدركه الحواس ولا يقاس بالناس ولا يشبهه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات ولا تحل به العاهات وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له ولم يزل أولا سابقا متقدما للمحدثات موجود قبل المخلوقات ولم يزل عالما قادرا حيا ولا يزال كذلك لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام ولا يسمع بالأسماع شيء لا كالأشياء عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء وأنه القديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواء ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق لم يخلق الخلق على مثال سبق وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا أصعب منه لا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ولا يناله السرور واللذات ولا يصل إليه الأذى والآلام ليس بذي غاية فيتناهى ولا يجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز والنقص تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء قال أبو الحسن فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شركهم في هذه الجملة الخوارج وطوائف من الشيعة وإن كانوا للجملة التي يظهرونها ناقضين ولها تاركين ثم ذكر من اختلافهم في مسائل الصفات ما ليس هذا موضع حكايته كلاما طويلا قلت فهذا هو قوله قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن الباري ليس بجسم ولا محلول ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفت المجسمة فيما بينهم من التجسيم وهل للباري تعالى وتقدس قدر من الأقدار وفي مقداره على ست عشر مقالة وقال هشام بن الحكم إن الله جسم محدود عريض عميق طويل طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه نور ساطع له قدر من الأقدار بمعنى أن له مقدارا في طوله وعرضه وعمقه لا يتجاوزه في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون ولم يثبت لونا غيره وإنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد قال وحكى عنه ابن الراوندي أنه يزعم أن الله يشبه الأجسام التي خلقها من جهة من الجهات ولولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه أنه قال إنه جسم لا كالأجسام ومعنى ذلك أنه شيء موجود قال وقد ذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونا ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة وأن يكون طويلا وعريضا وعميقا وزعم أنه في مكان دون مكان من وقت خلق الخلق قال وقال قائلون إن الباري وأنكروا أن يكون موصوفا بلون أو طعم أو رائحة أو مجسة أو شيء مما وصفه هشام غير أنه تعالى على العرش مباين له دون ما سواه قال أبو الحسن واختلفوا في مقدار الباري تعالى بعد أن جعلوه جسما فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم إلا أنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن الباري عز وجل جسم له مقدار من المساحة ولا ندري كم ذلك المقدار وقال بعضهم هو تعالى في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء وحكى عن هسام بن الحكم إن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه وقال بعضهم ليس لمساحة الباري تعالى نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسيم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب وقال بعضهم إن معبودهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به قال وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان إن الله جسم وأنه جثة على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن الجواربي أنه كان يقول أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وكثير من الناس يقولون هو مصمت ويتأولون قول الله تعالى الصمد المصمت الذي ليس بأجوف قال وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله تعالى على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحما ودما وأنه نور ساطع يتلألأ بياضا وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وأن له وفرة سوداء قال أبو الحسن وممن قال بالصورة من ينكر أن يكون الباري جسما وممن قال بالتجسيم من ينكر أن يكون الباري وقد ذكر أبو محمد الحسن بن موسى النبخي في كتاب الآراء والديانات وهو ممن يذهب مذهب المعتزلة في توحيدهم وعدلهم فقال في كتابه باب قول الموحدين والمسبهين زعمت المعتزلة بأجمعها والخوارج بأسرها وأكثر الزيدية وكثير من الشيعة والمرجئة سوى أصحاب الحديث من أهل الإرجاء أن الله ليس بجسم ولا صورة ولا جزء ولا عرض وليس يشبه شيئا من ذلك وقال هشام بن الحكم وعلي بن منصور ومحمد بن الخليل والسكاك ويونس بن عبدالرحمن ومن قال بقولهم من الشيع إن الله تعالى جسم لا كالأجسام هذه جملة اجتمع هشام بن الحكم وأصحابه عليها فاجتمعت حكاية الحاكين لهذا القول عنه إلا ما أومأ إليه الراوندي في كتابه الذي احتج به لمذهب هشام في الجسم فزعم أنه تعالى وتقدس يشبه الخلق من جهة دون جهة والذي صح عندي من قول هشام بعد ذلك عمن وافقه من أصحابه بعد في الحكاية عنه أنه كان يزعم أن الله تعالى بعد حدوث الأماكن في مكان دون مكان وأنه يجوز أن يتحرك وسمعت قوما من أصحابه يحكون عنه أنه يزعم أنه نور وقال آخرون منهم إنه كان يزعم أنه متناهى الذات واختلف الحاكون من مخالفي هشام عن هشام فحكوا عنه دروبا من الأقاويل مختلفة لا تليق به وما رأيت أصحابه يدفعونها عنه فمن ذلك أن الجاحظ ذكر عن النظام أن هشاما قال في التشبيه في سنة واحدة خمسة أقاويل قطع في آخرها أن معبوده بشبر نفسه سبعة أشبار وحكى أبو عيسى الوراق في كتابه عن المشبهة عن كثير من مخالفي هشام أنه كان يزعم أن القديم على هيئة السبيكة وقال بعضهم إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة التي من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة وحكى بعضهم كما قلت إنه سبعة أشبار قال وحكى بعضهم أنه ذو صورة وحكوا غير ذلك أيضا مما رأيت أصحاب هشام يدفعونه عنه وينكرونه ويزعمون أنه لم يرد على قوله جسم كالأجسام وإنما أراد بذلك إثباته أنه نور لقوله تعالى الله نور السموات والأرض وينفون عنه المساحة والذرع والشبر والتحديد قال وسمعت ذلك من غير واحد منهم ممن ينتحل القول بالجسم وناظرونا به وقد وجدت الأمر على ما حكاه الوراق من ذلك وقد أضاف قوم القول في الجسم إلى أبي جعفر الأحول المعروف بشيطان الطاق الذي يسميه أصحابه مؤمن الطاق واسمه محمد بن النعمان والي هشام بن سالم المعروف بالجواليقي والي أبي مالك الحضرمي قال وليس من هؤلاء أحد جرد القول بالجسم ولكنهم كانوا يقولون هو نور على صورة الإنسان وينكرون قول القائل بالجسم فقاس من حكى ذلك عنهم عليهم وحكى من طريق القياس إذ كان الحاكي كذلك يعتقد أن الصور لا تكون إلا للأجسام فغلط عليهم وهكذا غلط كثير من أهل الكلام وذكر أن هشام بن سالم وأبا جعفر الأحول أمسكا بعد قولهما بالصورة عن الكلام في الله تعالى رجعا إلى تأويل أنه من القرآن فرويا عمن يوجبان تصديقه أنه سئل عن قول الله تعالى وإن إلى ربك المنتهى قال فإذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكا عن الكلام في ذلك والخوض فيه حتى ماتا وأقام على القول بالصورة من أقام عليه من أتباعهما قال النوبختي وأقول إن هذا الذي ذكره الوراق قد روي وقد رأيت نفرا من أصحاب هشام بن سالم يزعمون نه لم يزل يناظر على القول بالصورة إلى أن مات قال أبو عيسى وأما علي بن إسماعيل بن ميثم فإن أصحابه ومخالفيه مختلفون في الإخبار عنه فبعضهم يزعم أنه كان يقول بالجسم والصورة وبعضهم يزعم أنه كان لا يقول بالصورة وبعضهم يزعم أنه كان يقول بالصورة ولا يقول بالجسم قال ولا ثبت عندي في ابن ميثم أنه قال بالصورة ولا بالجسم قال أبو عيسى في هذا الباب وقد حكى ذلك لي كثير من المتكلمين أن مقاتل بن سليمان ونعيم بن حماد المصري وداود الجواربي في خلق كثير من العامة وأصحاب الحديث قالوا إن لله تعالى صورة والأعضاء قال أبو عيسى وبلغني عن داود الجواربي أنه قال اعفوني عن الفرج والجثة واسألوني عما وراء ذلك أو قال عما شئتم وقد حكى كثير من المتكلمين عن داود ومقاتل أنهما قالا إن معبودهم جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن الجواربي حكاية أخرى أنه كان يقول إنه أجوف من فمه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وذكر أن مقاتل بن سليمان يأبى هذا القول الأخير وحكى إبراهيم النظام في كتابه عن المشبهة أن قوما لا أدري هم في الملة أو ليسوا في الملة زعموا أن معبودهم جسم فضاء وأن الأجسام كلها فيه وحكى أن آخرين قالوا هو فضاء وليس بجسم لأن الجسم يحتاج إلى مكان وهو نفسه المكان وحكى الجاحظ في كتابه عن المشبهة أن بعضهم قال هو جسم في مكانه إلا أنه فاضل عن الأماكن خلا أن له نهاية لازمة قال وزعم بعضهم أنه ذاهب في الجهات الست لا إلىنهاية وهو ليس بجسم وهذا أيضا قول ما علمت أن أحدا من أهل الصلاة قال به ولا كان شيئ منه وهذه أقاويل أهل الملة قال النوبختي وللفلاسفة القدماء في الباري أقوال مظلمة غير بينة وكان عنايتهم بغير أمر الديانات وكان أكثر كلامهم في أمور الطبيعة والنفس والفلك والكون والفساد والجواهر والأعراض وقد زعم آرسطاطا ليس على ما قرأناه في مقالة اللام التي فسرها ثامسطيوس أن الله تعالى جوهر أزلي بسيط غير مركب ليس بجسم ولا تجوز عليه الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وسماه مرة عقلا وطبيعة تارة وقال في موضع آخر من هذه المقالة إنه حياة وقال في موضع آخر منها إنه يعقل ذاته ويعلم ذاته وسائر الأشياء التي هو علة لها وذكر فرفوريوس في رسالته التي زعم أنه يحكي فيها مذاهب أرسطاطا ليس في الباري والمبادئ إنه يصف الله تعالى لأنه خير وأنه حكيم وأنه قوي وزعم أفلاطون في كتابه كتاب النواميس أن أشياء لا ينبغي للإنسان أن يجهلها منها أن له صانعا وأن صانعه يعلم أفعاله فأثبت لله العلم بأفعاله وزعم قوم من فلاسفة دهرنا أن أفلاطون إنما وضع هذا على سبيل التأديب للناس وبحسب السنة وما كان يذهب إليه لا على الاعتقاد قال وهذا ظن من هؤلاء القوم فأما قول أفلاطون فهو ما ذكره في كتابه وحكى يحيى النحوي في المقالة الأولى من كتابه في تفسير سمع الكنان أن الله تعالى إنما يعرف بالسلب فيقال إنه لا شبه له ولا مثال إلا الشمس وحدها فإنه كما أن الشمس تفوق جميع الأشياء التي في العالم كذلك تفوق العلة الأولى جميع الموجودات وتفضلها فضلا يجوز كل قياس قال وكما أن الشمس تدبر جميع الأشياء على طريقة واحدة وقال أبو الحسن الأشعري أيضا اختلفت الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فالفرقة الأولى هشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد وذكر مثل ما تقدم عن هشام وزاد أنهم لم يعينوا طولا غير الطويل وإنما قالوا طوله مثل عرضه على المجاز دون التحقيق وأنه قد كان لا في مكان ثم حدث المكان بأن تحرك فحدث المكان بحركته فكان فيه وزعم أن المكان هو العرش قال وذكر أبو الهذيل في بعض كتبه أن هشام بن الحكم قال له إن ربه جسم ذاهب جاء يتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم أخرى وأنه طويل عريض عميق لأن ما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي قال فقلت له فأيما أعظم إلهك أو هذا الجبل قال وأومأت إلى جبل أبي قبيس قال فقال هذا الجبل يومى عليه أي هو أعظم منه قال وذكر أيضا ابن الراوندي أن هشام بن الحكم كان يقول إن بين إلهه وبين الأجسام المشاهدة تشابها من جهة من الجهات لولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه خلاف هذا أنه كان يقول إنه جسم وأبعاض لا يشبهها ولا تشبهه غير أن هشام بن الحكم في بعض كتبه كان يزعم أن الله تعالى إنما يعلم ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب في عمق الأرض ولوا ملابسته لما وراء ما هنالك لما درى ما هناك وزعم أن بعضه يرى وهو شعاعه وأن الثرى محال على بعضه ولو زعم هشام أن الله يعلم ما تحت الثرى بغير اتصال ولا خبر ولا قياس كان قد ترك تعلقه بالمشاهدة وقال بالحق وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل زعم مرة أنه كالبلورة وزعم مرة أنه كالسبيكة وزعم مرة أنه غير صورة وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار ثم رجع عن ذلك وقال هو جسم لا كالأجسام قال وزعم أبو عيسى الوراق أن بعض أصحاب هشام أجابه مرة إلى أن الله تعالى وتقدس على العرش مماس له وأنه لا يفضل عن العرش ولا يفضل العرش عنه قال والفرقة الثانية من الرافضة الإمامية يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون الباري تعالى ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله تعالى وتقدس على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن ربهم تعالى وتقدس على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسما والفرقة الرابعة منهم الهشامية أصحاب هشام بن صالح الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحما ودما ويقولون هو نور ساطع يتلألا بياضا وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم قال وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه تعالى وتقدس وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود والفرقة الخامسة يزعمون أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان قال والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا صورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فكانوا يقولون ما حكيناه عنهم من التشبيه قال أبو الحسن واختلف الرافضة في حملة العرش هل يحملون العرش أم يحملون الباري تعالى وتقدس وهم فرقتان فرقة يقال لهم اليونسية أصحاب يونس بن عبدالرحمن القمي مولى آل يقطين ويزعمون أن الحملة يحملون الباري واحتج يونس في أن الحملة تطيق حمله وشبههم بالكركي وأن رجليه يحملانه وهما دقيقتان وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والباري يستحيل أن يكون محمولا قال أبو الحسن الأشعري واختلفت الروافض في إرادة الله تعالى وهم أربع فرق الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب هشام بن الحكم وهشام الجواليقي يزعمون أن إرادة الله تعال حركة وهي معنى لا هي الله ولا هي غيره وأنها صفة لله تعالى ليست غيره وذلك أنهم يزعمون أن الله إذا أراد الشيء تحرك فكان ما أراد والفرقة الثانية منهم أبو مالك الحضرمي وعلي بن ميثم ومن تابعهما يزعمون أن إرادة الله تعالى غيره وهي حركة الله تعالى كما قال هشام إلا أن هؤلاء خالفوه فزعموا أن الإرادة حركة وأنها غير الله بها يتحرك والفرقة الثالثة منهم وهم القائلون بالاعتزال والإمامة يزعمون أن إرادة الله تعالى ليست بحركة فمنهم من أثبتها غير المراد فيقول إنها مخلوقة لله تعالى لا بإرادة ومنهم من يقول إرادة الله تعالى لتكوين الشيء وإرادته لأفعال العباد هي أمره إياهم بالفعل وهي غير فعلهم وهم يأبون أن يكون الله تعالى أراد المعاصي فكانت والفرقة الرابعة منهم يقولون لا نقول قبل الفعل إن الله تعالى أراده فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها وذكر عنهم في القول بأن الله حي عالم قادر سميع بصير إله وغير ذلك مقالات يطول وصفها جمهورها يقتضي وصفه بالحركة والتحول كما في الإرادة قال أبو الحسن الأشعري مقالات المرجئة في التوحيد فقال القائلون منهم في التوحيد بقول المعتزلة وقال قائلون منهم بالتشبيه وهم ثلاث فرق فقالت الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب مقاتل بن سليمان إن الله تعالى جسم وأن له جمة وأنه على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين مصمت وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه وقالت الفرقة الثانية أصحاب داود الجواربي مثل ذلك غير أنهم قالوا أجوف من فيه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك وقالت الفرقة الثالثة هو جسم كالأجسام فقد ذكر الأشعري أن القول بأن الله تعالى فوق العرش وثبوت الصفات الخبرية هو قول أهل السنة وأصحاب الحديث وذكر أن ذلك قول ابن كلاب وأصحابه وقوله وذكر التنازع في نفي هذه الصفات وإثباتها بين فرق الأمة فنفي الجسم وهذه الصفات هو قول المعتزلة والخوارج وطائفة من المرجئة ومتأخري الشيعة وإثبات الجسم وهذه الصفات قول جمهور الإمامية المتقدمين وطائفة من المرجئة وغيرهم وهو مع هذا لم يذكر تفصيل أقوال أئمة الإسلام وسلف الأمة وعلماء الحديث وإنما ذكر قولا مجملا ولهم في هذا الباب من الأقوال المفصلة وعندهم في ذلك من النصوص الثابتة عن رسول الله ﷺ وأصحابه ما هو معروف عند أهله وقد ذكر الأشعري عشرة أصناف فقال واختلف المسلمون عشرة أصناف الشيع والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية والضرارية والحسينية وهم النجارية والبكرية والعامة وأصحاب الحديث والكلابية أصحاب عبدالله بن سعيد بن كلاب القطان ومعلوم أن أئمة الأمة وسلفها ليسوا في شيء من هذه الطوائف إلا في أهل الحديث والعامة وهؤلاء مع جمهور الشيع والمرجئة والكلابية والأشعرية من أهل الأثبات بأن الله تعالى فوق العرش والصفات الخبرية وإن كان فيهم من يثبت الجسم ومنهم من لا ينفيه ولا يثبته وأما نفي ذلك مطلقا فإنما ذكره عن المعتزلة والخوارج وأما الضرارية والبكرية والنجارية فتوافقهم في بعض ذلك وتوافق أهل الأثبات في بعض ذلك وهذه المقالة التي نسبها هو الي المعتزلة هي المشهورة في كلام الأئمة علماء الحديث بمقاله الجهمية فإن الأيمة نسبوها إلى من أحدث هذه المقالات وابتدعها ودعا الناس إليها والمعتزلة إنما أخذوها عنه كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله أنه أخذ ذلك عن الجهم قوم من أصحاب عمرو بن عبيد وأصحاب عمرو بن عبيد هم المعتزلة فإن أول المعتزلة هو واصل بن عطاء وإنما كان شعار المعتزلة أولا هو المنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد وبه اعتزلوا الجماعة ثم دخلوا بعد ذلك في إنكار القدر وأما إنكار الصفات فإنما ظهر بعد ذلك وكذلك حكاية ذلك عن الخوارج إنما يكون عن متأخرة الخوارج الموجودين بعد حدوث هذه المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك وأما قدماء الخوارج الذين كانوا على عهد الصحابة والتابعين فماتوا قبل حدوث هذه الأقوال المضافة إلى المعتزلة والجهمية وذلك أن مقالات هؤلاء ونحوهم إنما نقلها من كتب المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك لم يقف هو على شيء من كلام الخوارج والمعتزلة يستكثر بالخوارج لموافقتهم لهم في إنفاذ الوعيد ونفي الإيمان والخروج عن الأئمة والأمة لكن الأشعري كان بمقالات المعتزلة أعلم منه بغيرها لقراءته عليهم أولا وعلمه بمصنفاتهم وكثيرا ما يحكي قول الجبائي عنه مشافهة وقد ذكر مقالة جهم في كتابه فقال ذكر قول الجهمية الذي تفرد بها جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله تعالى وحده وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله تعالى إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختيارا له منفردا بذلك كما خلق له طولا كان به طويلا ولونا كان به متلونا قال وكان الجهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقتل جهم بمرو قتله سلم بن أحوز المازني في آخر ملك بني أمية قال ويحكى عنه قال يقول لا أقول إن الله تعالى شيء لأن ذلك تشبيه له بالأشياء قال وكان يقول إن علم الله تعالى محدث فيما حكي عنه ويقول بخلق القرآن وإنه لا يقال إن الله لم يزل عالما بالأشياء قبل أن تكون وكذلك قال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة له بعد الخطبة أما بعد فإن كثيرا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على رأيهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ولا أوصح به برهانا ولا نقلوه عن رسول الله ﷺ ولا عن سلف المتقدمين فخالفوا روايات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عن نبي الله ﷺ في رؤية الله تعالى بالأبصار وقد جاءت بذلك روايات من الجهات المختلفات وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار وأنكروا شفاعة رسول الله ﷺ للمذنبين وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين وجحدوا عذاب القبر وأن الكفار في قبورهم يعذبون وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا إن هذا إلا قول البشر فزعموا أن القرآن كقول البشر وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر نظيرا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين أحدهما يخلق الخير والآخر يخلق الشر وزعمت القدرية أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر وزعموا أن الله تعالى يشاء مالا يكون ويكون مالا يشاء خلافا لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لم يشأكم لم يكن وردا لقول الله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله فأخبر الله أنا لا نشاء شيئا إلا قد شاء الله أن نشاءه ولقوله ولو شاء الله ما اقتتلوا وقوله ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولقوله تعلى فعال لما يريد ولقوله سبحانه وتعالى خبرا عن شعيب أنه قال وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ولهذا سماهم رسول الله ﷺ مجوس هذه الأمة لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا قولهم وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس ذلك وأنه يكون من الشر مالا يشاء الله كما قالت المجوس وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردا لقوله الله تعالى قل لا أملك لنفسي نفعاولا ضرا إلا ما شاء الله وإعراضا عن القرآن وعما أجمع المسلمون عليه وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على ما لم يصفو الله بالقدرة عليه كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله عز وجل فكانوا مجوس هذه الأمة إذ دانوا بديانة المجوس وتمسكوا بأقاويلهم ومالوا إلى أضاليلهم وقنطوا الناس من رحمة الله وأيسوهم من روح الله وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها خلافا لقول الله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وزعموا أن من دخل الناء لا يخرج منها خلافا لما جاءت به الرواية عن رسول الله ﷺ إن الله يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا فيها وصاروا حمما ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله تجري بأعيننا وقوله تعالى ولتصنع على عيني ونفوا ما روي عن رسول الله ﷺ من قوله ﷺ إن الله ينزل إلى سماء الدنيا قال وأنا ذاكر ذلك بابا بابا إن شاء الله تعالى قال فإن قيل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة نبينا صل الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلالة وأوضح به المناهج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا أنا نقر بالله تبارك وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقات عن رسول الله ﷺ لا نرد من ذلك شيئا وأن الله عز وجل واحد أحد فرد صمد لا غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمد عبده ورسوله والجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وأن له وجها كما قال عز وجل ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأن له يدين كما قال عز وجل بل يداه مبسوطتان وقال سبحانه وتعالى خلقت بيدي وأن له عينين بلا كيف كما قال عز وجل تجري بأعيننا وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا وأن لله تعالى علما كما قال تعالى أنزله بعلمه وقال سبحانه وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ونثبت لله قدرة وقوة كما قال تعالى أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ونثبت لله تعالى السمع والبصر ولا ننفي ذلك عنه كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول إن كلام الله تعالى غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن كما قد قال سبحانه وتعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى وذكر الكلام في مسائل القدر وخلق الأفعال إلى أن قال ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا وندين بأن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله ﷺ ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله عز وجل كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وأن موسى سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا ونرى ألا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم بذلك كافرون ونقول إن من عمل كبيرة وما أشبهها مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله ﷺ وندين بأن لا ننزل أحدا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله ﷺ بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله عز وجل يخرج من النار قوما بعدما امتحشوا بشفاعة محمد ﷺ ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان حق والحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق وأن الله عزوجل يوقف العباد بالموقف ويحاسب المذنبين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله ﷺ التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى تنتهي إلى رسول الله ﷺ وندين بحب السلف رضي الله عنهم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ﷺ ونثني عليهم بما أثنى الله تعالى عليهم ونتولاهم ونقول إن الإمام بعد رسول الله ﷺ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأن الله سبحانه وتعالى أعز به الإسلام والدين وأظهره على المرتين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله ﷺ للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ثم عثمان نضر الله وجهه قتلوه قاتلوه ظلما وعدوانا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله ﷺ ونكف عما شجر بينهم وندين لله تعالى أن الأئمة الأربعة راشدين مهديين فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما أثبتوه ونقلوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله تعالى بدعة لم يأذن الله تعالى بها ولا نقول على الله مالا نعلم ونقول إن الله عز وجل يجيء يوم القيامة كما قال تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف شاء كما قال تعالى ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وكما قال عز وجل ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وفاجر وسائر الصلوات والجماعات كما روي عن عبدالله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج ونرى المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافا لقول من أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله ﷺ ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسألتهما للمدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيرا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله تعالى ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرا وأن السحر كائن موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالا وحراما وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية كما قال الله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وكما قال من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم وقولنا في أطفال المشركين إن الله يؤجج لهم نارا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك وندين بأن الله تعالى يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وما كان وما يكون ومالا يكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء وقال وسنحتج لما ذكرنا من قولنا ومما بقي منه مما لم نذكره بابا بابا وشيئا شيئا ثم ذكر من دلائل ذلك وحججه ما قد يذكر بعضه إن شاء الله تعالى عند الكلام على ما ذكره الرازي من الأدلة وقال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال فيه باب الحد والعرش وادعى المعارض ايضا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية قال وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالته واشتق منه أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن حاوره قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله تعالى لا شيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأنه لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه غيره ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله تعالى ولمكانه أيضا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك بما نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لا شيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرحمن على العرش استوى أأمنتم من في السماء يخافون ربهم من فوقهم إني متوفيك ورافعك إلي إليه يصعد الكلم الطيب فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله تعالى وجحد آيات الله تعالى وقال رسول الله ﷺ إن الله فوق عرشه فوق سماوته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء قال أعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله ﷺ إنها مؤمنة إنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله فحدثنا أحمد بن منيع البغدادي الأصم حدثنا أبو معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن الحصين أن النبي ﷺ قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلها قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فلم ينكر النبي ﷺ على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي ﷺ فحصين في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوده بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله تعالى وبمكانه أعلم من الجهمية قال ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله تعالى وعلى رسوله فيها حرفا بعد حرف وشيئا بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فاغتنمنا ذلك منه إذ صرح باسمه وسلم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره وهتوك ستره وافتضاحه في مصره وسائر الامصار الذين سمعوا بذكره وذكر الكلام في الصفات وقال الخلال في كتاب السنة أخبرنا أبوبكر المروذي قال سمعت أبا عبدالله قيل له روى عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله عز وجل قال علىالعرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبدالله هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ثم قال وجاء ربك والملك صفا صفا قال الخلال أخبرنا الحسن بن صالح العطار حدثنا هارون بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال كنا عند أبي عبدالله قال فسألناه عن قول ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إليه يصعد الكلم الطيب أأمنتم من في السماء تعرج الملائكة والروح إليه وهو على العرش وعلمه مع كل شيء قال الخلال وأخبرنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد بن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال الخلال أخبرنا حرب بن إسماعيل قال قلت لاسحاق يعني ابن راهويه على العرش بحد قال نعم بحد وذكر عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلفه بحد وقد ذكر أيضا حرب بن إسماعيل في آخر كتابه في المسائل كلها هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والشام والحجاز وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبدالله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل إلى أن قال وخلق الله سبع سموات بعضها فوق بعض وقد تقدم حكاية قوله إلى قوله لأن الله تبارك وتعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه وله حد الله تعالى أعلم بحده والله تعالى على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره ولكن هذا اللفظ يحتمل أن يعود فيه الحد إلى العرش بل ذلك أظهر فيه قال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل رأيت بخط أبي إسحاق حدثنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر بن أبي داود سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله تعالى حد فقال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يقول محدقين وروى الخلال أيضا في كتاب السنة أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبدالله قيل له ولا يشبه ربنا تبارك وتعالى شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال نعم ليس كمثله شيء قال أخبرني عبيدالله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي نحن نؤمن بالله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف ويحده أحد فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه ليس في الله شيء محدود ولا يبلغ علم قدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وكان الله تعالى قبل أن يكون شيئا والله تعالى الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته والتسليم لأمر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير فهو في هذا الكلام أخبر أنه بلا حد ولا وصف يبلغها واصف أو بحد أحد فنفى أن تحيط به صفة العباد أو حدهم وكذلك قال لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية فبين أن الأبصار لا تدرك له حدا ولا غاية وقال أيضا ولا يدركه صفة واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله تعالى شيء محدود كما قال بعد هذا ولا يبلغ أحد حد صفاته فنفى في هذا الكلام كله أن يكون وصف العباد أو حد العباد يبلغه أو يدركه كما لا تدركه الأبصار قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبل حدثهم قال سألت أبا عبدالله عن الأحاديث التي تروى أن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله تعالى يرى وأن الله تعالى يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبدالله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئا ونعلم أن ما جاءت به الرسل حق ونعلم أن ما ثبت به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحيحة ولا نرد على قوله ولا نصف الله تبارك وتعالى بأعظم مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية وقال حنبل في مواضع أخر ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فيعبد الله تعالى بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه قال تعالى وهو السميع البصير وقال حنبل في مواضع أخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه تعالى ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت ووصف وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضع كنفه عليه هذا كله يدل على أن الله تعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلما حيا عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفاته وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثم استوى على العرش كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له ليس كمثله شئ وهو خالق كل شئ وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك الله ولا يعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول ﷺ وتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة وقال أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول ليس كمثله شئ فقلت له ليس كمثله شئ وهو السميع البصير قال ما أردت بها قلت القرآن وصفه من صفات الله وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له المشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي وقال حنبل في موضع آخر وقد تقدم فقد شبه الله تعالى بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود الكلام في هذا لا أحبه قال أبو عبد الله جردوا القرآن وقال النبى ﷺ يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله بل نؤمن به قال الله تعالى وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء به والنهي عما نهى وأسماؤه وصفاته منه غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شئ قدير وقال الخلال وزادني أبو القاسم عن حنبل في هذا الكلام وقال تبارك وتعالى لا إله إلا هو الحي القيوم لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى فهذا الكلام من الإمام أبى عبد الله أحمد رحمه الله يبين أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى أو صفاته بحد أو يقدرون ذلك بقدر أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره أو أنه هو يصف نفسه وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها كما ذكر من كلامهم في غير هذا الموضع ما يبين ذلك وأصحاب الإمام أحمد منهم من ظن أن هذين الكلامين يتناقضان فحكى عنه في إثبات الحد لله تعالى روايتين وهذه طريقة الروايتين والوجهين ومنهم من نفى الحد عن ذاته تعالى ونفى علم العباد به كما ظنه موجب ما نقله حنبل وتأول ما نقله المروذي والأثرم وأبو داود وغيرهم من إثبات الحد له على أن المراد إثبات حد للعرش ومنهم من قرر الأمر كما يدل عليه الكلامان أو تأول نفى الحد بمعنى آخر والنفي هو طريقة القاضي أبى يعلى أولا في المعتمد وغيره فإنه كان ينفي الحد والجهة وهو قوله الأول قال فصل وقد وصف الله تعالى نفسه بالاستواء على العرش والواجب إطلاق هذه الصفة من غير تفسير ولا تأويل وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى العلو والرفعة ولا على معنى الاستيلاء والعلم وقد قال أحمد في رواية حنبل نحن نؤمن أن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد قال فقد أطلق القول في ذلك من غير كيفية الاستواء وقد علق القول في موضع آخر فقال في رواية المروذي يروى عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله تعالى قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك وأعجبه قال القاضي وهذا محمول على أن الحد راجع إلى العرش لا إلى الذات ولا إلى الاستواء وقصد أن يبين أن العرش مع عظمته محدود قلت وهذا الذي قاله القاضي في الاستواء هنا هو الذي يقوله أئمة الأشعرية المتقدمين وهو قريب من قول أبي محمد ابن كلاب وأبي العباس القلانسي وغيرهم من أهل الحديث والفقه ولهذا قال خلافا لمن قال من المعتزلة معناه الاستيلاء والغلبة وخلافا لمن قال من الأشعرية معناه العلو من طريق الرتبة والمنزلة والعظمة والقدرة وهذا قول بعض الأشعرية لا أئمتهم المتقدمون قال وخلافا للكرامية والمجسمة معناه المماسة للعرش بالجلوس عليه ثم أنه قال في الحجة والذي بين صحة ما ذكرنا أنه مقالة السلف من أهل اللغة وغيرهم فذكر ابن قتيبة في كتاب مختلف الحديث الرحمن على العرش استوى استقر كما قال الله تعالى فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك أي استقررت وذكر ابن بطة عن ابن الإعرابي قال أرادني ابن أبي داود أن أطلب في بعض لغات العرب ومعانيها الرحمن على العرش استولى فقلت والله ما يكون هذا ولا أصبته وقال يزيد بن هارون من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي وعن عبد الوهاب قال الرحمن على العرش استوى قال قعد وعن ابن المبارك قال الله على العرش بحد والقاضي في هذا الكتاب ينفي الجهة عن الله كما قد صرح بذلك في غير موضع كما ينفي أيضا هو وأتباعه كأبي الحسن ابن الزاغونى وغيره التحيز والجسم والتركيب والتأليف والتبعيض ونحو ذلك ثم رجع عن نفي الجهة والحد وقال بإثبات ذلك كما ذكر قوليه جميعا فقال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات لما تكلم على حديث الأوعال فإذا ثبت أنه تعالى على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد اثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا اثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرام وابن مندة الأصبهاني المحدث والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو على العرش فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا الله تعالى فإما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقولون ليس هو في جهة ولا خارجا منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا معه ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في أنفسها فدل على أنه في مكان قلت وهذا الكلام من القاضي وابن منده ونحوهما يقتضي أن الجهة أمر وجودي ولهذا حكوا عن النفاة أنه ليس في جهة ولا خارجا منها وأنها غيره وفي كلامه الذي سيأتي ما يقتضي أن الجهة والحد هي من الله تعالى وهو ما حاذى لذات العرش فهو الموصوف بأنه جهة وحد ثم ذكر أن ذلك من صفات الذات ثم قال وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المروذي وقد ذكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال ورأيت بخط أبي إسحاق حدثنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء قال سمعت أبا بكر بن أبي داود قال سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يقول محدقين قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله تعالى وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بان الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما على معنى انه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبا في الجهات الستة بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يبين بها من غيره ويتميز ولهذا يسمى البواب حدادا لأنه يمنع غيره من الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا ثم قال ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالتين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه أنما حاذى العرش من ذاته هو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدى الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة وكان الفرق بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلذلك لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها قلت هذا الذي جمع به بين كلامي أحمد وأثبت الحد والجهة من ناحية العرش والتحت دون الجهات الخمس يخالف ما فسر به كلام أحمد أولا من التفسير المطابق لصريح الفاظه حيث قال فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما يقال على جهة مخصوصة وليس هو ذاهبا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يبين بها عن غيره ويتميز فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته قال منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرناه فهذا القول الوسط من أقوال القاضي الثلاثة هو المطابق لكلام أحمد وغيره من الأئمة وقد قال إنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو ولو كان مراد أحمد رحمه الله الحد من جهة العرش فقط لكان ذلك معلوما لعباده فانهم قد عرفوا أن حده من هذه الجهة هو العرش فعلم أن الحد الذي لا يعلمونه مطلق لا يختص بجهة العرش وروى شيخ الإسلام في ذم الكلام ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائلة قال قلت لإسحاق بن إبراهيم وهو الإمام المشهور المعروف بابن راهويه ما تقول في قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة الآية قال حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لإسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد وقال حرب أيضا قال إسحاق بن إبراهيم لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين لقول الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله بصفاته وأفعاله يعني كما نتوهم فيهم وإنما يجوز التفكر والنظر في أمر المخلوقين وذكر أنه يمكن أن يكون الله عز وجل موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثاها إلى سماء الدنيا كما يشاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما شاء كما شاء وروى شيخ الإسلام عن محمد بن إسحاق الثقفي سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال دخلت يوما على طاهر بن عبد الله وأظنه عبد الله بن طاهر وعنده منصور بن طلحة فقال لي منصور يا أبا يعقوب تقول إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة قلت ونؤمن به إذا أنت لا تؤمن إن لك ربا في السماء فلا تسألني عن هذا فقال ابن طاهر ألم أنهك عن هذا الشيخ وروى عن محمد بن حاتم سمعت إسحاق بن راهويه يقول قال لي عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب هذه الأحاديث التي تروونها وقال في النزول ما هي قال قلت أيها الأمير هذه الأحاديث جاءت مجئ الأحكام الحلال والحرام ونقلها العلماء ولا يجوز أن ترد هي كما جاءت بلا كيف فقال عبد الله بن طاهر صدقت ما كنت اعرف وجوهها حتى الآن وفي رواية قال رواها من روى الطهارة والغسل والصلاة والأحكام وذكر أشياء فإن يكونوا مع هذه عدولا وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع فقال شفاك الله كما شفيتني أو كما قال وروى أيضا شيخ الإسلام ما ذكره أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية حدثنا علي بن الحسن السلمي سمعت أبي يقول حبس هشام بن عبيد الله وهو الرازي صاحب محمد بن الحسن الشيباني رجلا في التجهم فتاب فجئ به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه فقال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب قال شيخ الإسلام شرحت مسألة حد البينونة في كتاب الفاروق باب أغنى عن تكريره هاهنا قال شيخ الإسلام وسألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم ابن حبان البستي قلت رأيته قال كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير ولم يكن كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله فأخرجناه من سجستان قلت وقد أنكره طائفة من أهل الفقه والحديث ممن يسلك في الإثبات مسلك ابن كلاب والقلانسي وأبي الحسن ونحوهم في هذه المعاني ولا يكاد يتجاوز ما أثبته أمثال هؤلاء مع ماله من معرفة بالفقه والحديث كأبي حاتم هذا وأبي سليمان الخطابي وغيرهما ولهذا يوجد للخطابي وأمثاله من الكلام ما يظن أنه متناقض حيث يتأول تارة ويتركه أخرى وليس بمتناقض فإن أصله إن الصفات التي في القرآن والأخبار الموافقة له أو ما في الاخبار المتواترة دون ما في الأخبار المحضة أو دون ما في غير المتواترة وهذه طريقة ابن عقيل ونحوه وهي إحدى طريقي أئمة الأشعرية كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وهم مع هذا يثبتونها صفات معنوية قال الخطابي في الرسالة الناصحة له ومما يجب أن يعلم في هذا الباب ويحكم القول فيه أنه لا يجوز أن يعتمد في الصفات إلا الأحاديث المشهورة إذ قد ثبت صحة أسانيدها وعدالة ناقليها فإن قوما من أهل الحديث قد تعلقوا منها بألفاظ لا تصح من طريق السند وإنما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها أصلا في الصفات وأدخلوها في جملتها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله ﷺ فأعود إلى ربي فأجده بمكانه أو في مكانه فزعموا على هذا المعنى أن الله تعالى مكانا تعالى الله عن ذلك وإنما هذه لفظة تغرد بها من هذه القصة شريك بن عبد الله ابن أبي نمر وخالفه أصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة أن ترد ولا تقبل لاستحالتها ولأن مخالفة أصحاب الراوي له روايته كاختلاف البينة وإذا تعارضت البينتان سقطتا معا وقد تحتمل هذه اللفظة لو كانت صحيحة أن يكون معناها أن يجد ربه عز وجل بمكانه الأول من الإجابة في الشفاعة والإسعاف بالمسألة إذ كان مرويا في الخبر أنه يعود مرارا فيسأل ربه تعالى في المذنبين من أمته كل ذلك يشفعه فيهم ويشفعه في مسألتهم قال ومن هذا الباب أن قوما منهم زعموا أن لله حدا وكان أعلا ما احتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك نعرف ربنا بحد أو نثبته بحد فقال نعم بحد فجعلوه أصلا في هذا الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك سبيل هؤلاء القوم عفانا الله وإياهم أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب أو من قول رسول الله ﷺ دون قول أحد من الناس كائنا من كان علت درجته أو نزلت تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال على أن هذه الحكاية قد رويت لنا أنه قيل له أنعرف ربنا بجد قال نعم بجد بالجيم لا بالحاء وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له إنما أحوجنا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز ردها فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي أرأيت إن قال جاهل رأس لا كالرؤوس قياسا على قولنا يد لا كالأيدي هل يكون الحجة عليه إلا نظير ما ذكرناه في الحد من أنه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما يجئ ذكر الرأس لم يجز القول به قلت أهل الإثبات المنازعون للخطابي وذويه يجيبون عن هذا بوجوه أحدها أن هذا الكلام الذي ذكرناه إنما يتوجه لو قالوا إن له صفة هي الحد كما توهمه هذا الراد عليهم وهذا لم يقله أحد ولا يقوله عاقل فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شئ من الموصوفات كما وصف باليد والعلم صفة معينة يقال لها الحد وإنما الحد ما يتميز به الشئ عن غيره من صفته وقدره كما هو المعروف في لفظ الحد في الموجودات فيقال حد الإنسان وحد كذا وهي من الصفات المميزة له ويقال حد الدار والبستان وهي جهاته وجوانبه المميزة له ولفظ الحد في هذا أشهر في اللغة والعرف العام ونحو ذلك ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها ويجحدون قدره حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي عالم قدير قد عرفنا حقيقته وماهيته ويقولون إنه لا يباين غيره بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم فيقولوا لا داخل العالم ولا خارجه ولا كذا ولا كذا أو يجعلوه حالا في المخلوقات أو وجود المخلوقات فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه وذكر الحد لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد فلما سألوا أمير المؤمنين في كل شئ عبد الله بن المبارك بماذا نعرفه قال بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فذكروا لازم ذلك الذي تنفيه الجهمية وبنفيهم له ينفون ملزومه الذي هو موجود فوق العرش ومباينته للمخلوقات فقالوا له بحد قال بحد وهذا يفهمه كل من عرف ما بين قول المؤمنين أهل السنة والجماعة وبين الجهمية الملاحدة من الفرق الوجه الثاني قوله سبيل هؤلاء أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب الله أو من قول رسول الله ﷺ دون قول أحد من الناس فيقولون له لو وفيت أنت ومن اتبعه بإتباع هذه السبيل لم تحوجنا نحن وأئمتنا إلى نفي بدعتكم بل تركتم موجب الكتاب والسنة في النفي والإثبات أما في النفي فنفيتم عن الله تعالى أشياء لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا إمام من أئمة المسلمين بل والعقل لا يقضي بذلك عند التحقيق وقلتم إن العقل نفاها فخالفتم الشريعة بالبدعة والمناقضة المعنوية وخالفتم العقول الصريحة وقلتم ليس هو بجسيم ولا جوهر ولا متحير ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شئ عن شئ وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية تريدون بذلك انه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدر أو يكون له قدر لا يتناها وأمثال ذلك ومعلوم أن الوصف بالنفي كالوصف بالإثبات فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب ولا سنة مع اتفاق السلف على ذم من ابتدع ذلك وتسميتهم إياهم جهمية وذمهم لأهل هذا الكلام وأما في الإثبات فإن الله تعالى وصف نفسه بصفات ووصفه رسوله بصفات فكنتم أنتم الذين تزعمون أنكم من أهل السنة والحديث دع الجهمية والمعتزلة تارة تنفونها وتحرفون نصوصها أو تجعلونها لا تعلم إلا أماني وهذا مما عاب الله تعالى به أهل الكتاب قبلنا وتارة تقرونها إقرارا تنفون معه ما أثبته المنصوص من أن يكون النصوص نفته وتاركين من المعاني التي دلت عليه مالا ريب في دلالتها عليه مع ما في جمعهم بين الأمور المتناقضة من مخالفة صريح المعقول فأنت وأئمتك في هذا الذي تقولون إنكم تثبتونه إما أن تثبتوا ما تنفونه فتجمعوا بين النفي والإثبات وإما أن تثبتوا ما لا حقيقة له في الخارج ولا في النفس وهذا الكلام تقوله النفاة المثبتة لهؤلاء كمثل الأشعري والخطابي والقاضي أبي يعلى وغيرهم من الطوائف ويقول هؤلاء المثبتة كيف سوغتم لأنفسكم هذه الزيادات في النفي وهذا التقصير في الإثبات على ما أوجبه الكتاب والسنة وأنكرتم على أئمة الدين ردهم لبدعة ابتدعها الجهمية مضمونها إنكار وجوب الرب تعالى وثبوت حقيقته وعبروا عن ذلك بعبارة فأثبتوا تلك العبارة ليبينوا ثبوت المعنى الذي نفاه أولئك وأين في الكتاب والسنة أنه يحرم رد الباطل بعبارة مطابقة له فإن هذا اللفظ لم نثبت به صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة بل بينا به ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته لخلقه وثبوت حقيقته ويقولون لهم قد دل الكتاب والسنة على معنى ذلك كما تقدم احتجاج الإمام أحمد لذلك بما في القرآن مما يدل على أن الله تعالى له حد يتميز به عن المخلوقات وأن بينه وبين الخلق انفصالا ومباينة بحيث يصح معه أن يعرج الأمر إليه ويصعد إليه ويصح أن يجئ هو ويأتي كما سنقرر هذا في موضعه فإن القرآن يدل على المعنى تارة بالمطابقة وتارة بالتضمن وتارة بالالتزام وهذا المعنى يدل عليه القرآن تضمنا أو التزاما ولم يقل أحد من أئمة السنة إن السني هو الذي لا يتكلم إلا بالألفاظ الواردة التي لا يفهم معناها بل من فهم معانى النصوص فهو أحق بالسنة ممن لم يفهمها ومن دفع ما يقوله المبطلون مما يعارض تلك المعاني وبين أن معاني النصوص تستلزم نفي تلك الأمور المعارضة لها فهو أحق بالسنة من غيره وهذه نكت لها بسط له موضع آخر 8. وممن نفى لفظ الحد أيضا من أكابر أهل الإثبات أبو نصر السجزى قال في رسالته المشهورة إلى أهل زبيد وعند أهل الحق أن الله سبحانه مباين لخلقه بذاته وأن الأمكنة غير خالية من علمه وهو بذاته تعالى فوق العرش بلا كيف بحيث لا مكان وقال أيضا فاعتقد أهل الخق أن الله سبحانه وتعالى فوق العرش بذاته من غير مماسة وأن الكرامية ومن تابعهم على القول بالمماسة ضلال وقال وليس من قولنا إن الله فوق العرش تحديد له وإنما التحديد يقع للمحدثات فمن العرش إلى ما تحت الثرى محدود والله سبحانه وتعالى فوق ذلك بحيث لا مكان ولا حد لاتفاقنا أن الله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو كما كان قبل خلق المكان قال وإنما يقول بالتحديد من يزعم أنه سبحانه وتعالى على مكان وقد علم أن الأمكنة محدودة فإن كان فيها بزعمهم كان محدودا وعندنا أنه مباين للأمكنة ومن حلها وفوق كل محدث فلا تحديد لذاته في قولنا هذا لفظه وأما قول الرازي وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الاله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة فالكلام على هذا من وجوه أحدها انه من العجب أن يذكر عن أبي معشر ما يذم به عبادة الأوثان وهو الذي اتخذ أبا معشر أحد الأئمة الذين اقتدى بهم في الأمر بعبادة الأوثان لما ارتد عن دين الإسلام وأمر بالإشراك بالله تعالى وعبادة الشمس والقمر والكواكب والأوثان في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وقد قيل إنه صنفه لأم الملك علاء الدين ابن محمد أبي بكر ابن جلال الدين هو أنها أعطته عليه ألف دينار وكان مقصودها ما فيه من السحر والعجائب والتوصل بذلك إلى الرئاسة وغيرها من المآرب وقد ذكر فيه عن أبي معشر أنه عبد القمر وأن في عبادته ومناجاته من الأسرار والفوائد ما ذكر فمن تكون هذه حاله في الشرك وعبادة الأوثان كيف يصلح أن يذم أهل التوحيد الذين يعبدون الله تعالى لا يشركون به شيئا ولم يعبدوا لا شمسا ولا قمرا ولا كوكبا ولا وثنا بل يرون الجهاد لهؤلاء المشركين الذين ارتد إليهم أبو معشر والرازي وغيرهما مدة وإن كانوا قد رجعوا عن هذه الردة إلى الإسلام فإن سرائرهم عند الله لكن لا نزاع بين المسلمين إن الأمر بالشرك كفر وردة إذا كان منا مسلم وأن مدحه والثناء عليه والترغيب فيه كفر وردة إذا كان من مسلم فأهل التوحيد وإخلاص الدين لله تعالى وحده الذين يرون جهاد هؤلاء المشركين ومن ارتد إليهم من أعظم الواجبات وأكبر القربات كيف يصلح أن يعيبهم بعض المرتدين إلى المشركين بأنهم يوافقون المشركين على أصل الشرك وهؤلاء لا يؤمنون بالله وبما أنزل إلى انبيائه وما أشبه حال هؤلاء بقوله تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلى قوله عن سواء السبيل فإن هؤلاء النفاة الجهمية منهم من عبد الطاغوت وأمر بعبادته ثم هؤلاء يعيبون من آمن بالله ورسوله يوضح ذلك أن هذا الرازي اعتمد في الإشراك وعبادة الأوثان على مثل تنكلوا شاه البابلي ومثل طمطم الهندي ومثل ابن وحشية أحد مردة المتكلمين بالعربية ومعلوم أن الكلدانيين والكشدانيين من أهل بابل وغيرهم أتباع نمرود بن كنعان البابلي وغيره وأهل الهند هم أعظم الأمم شركا وهم اعداء إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فكيف يكون أتباع هؤلاء المشركين أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام معيرين بأتباع المشركين لأهل الملة الحنفية الذين اتبعوا إبراهيم وآل إبراهيم في إثبات صفات الله وأسمائه وعبادته فإن هؤلاء الجهمية ينكرون حقيقة خلة الله تعالى وتكليمه كما أنكره سلفهم أعداء الخليل وأعداء الكليم وأول من أظهر في الإسلام التجهم وهذا المذهب الذي نصره الرازي وأبو معشر ونحوها هو الجعد بن درهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولا كلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه فهذا أول الجهمية نفاة الصفات في هذه الأمة هو مكذب حقيقة ما خص الله به إمام الحنفاء المخلصين الذين يعبدون الله لا يشركون به شيئا وكليم الله الذي اصطفاه برسالاته وبكلامه والله تعالى يفضل هذين الرسولين ويخصهما في مثل قوله تعالى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى وقوله أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى وهما اللذان رآهما رسول الله ﷺ ليلة المعراج فوق الأنبياء كلهم في السماء السادسة والسابعة فرأى أحدهما في السادسة ورأى الآخر في السابعة وقد جاءت الأحاديث التي في الصحيح بعلو هذا وعلو هذا فإذا كان سلف الجهمية ومخاطبي الكواكب هم من أعظم المشركين المعادين لرسل الله تعالى الآمرين بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له كيف يصلح لهم أن يعيبوا أهل الأيمان بالله ورسوله الذين يقرون بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له يقرون بتوحيد الله العلمي القولي كالتوحيد الذي ذكره في سورة قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين كيف يصلح لأولئك الذين أشركوا وأتموا بالمشركين في نقيض التوحيد من هذين الوجهين فأمروا بعبادة غير الله ودعائه ورغبوا في ذلك وعظموا قدره وجهلوا من ينكر ذلك وينهى عنه وأنكروا من أسماء الله تعالى وصفاته وحقيقة عبادته ما لا يتم الأيمان والتوحيد إلا به كيف يصلح لهؤلاء أن يعيبوا أولئك باتباع المشركين ويجعلوا موافقيهم على هذا الكفر أعظم قدرا من أولئك المؤمنين الدين ليس لهم نصيب من قوله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت الى قوله نصيرا فإن سبب نزول هذه الآية ما فعله كعب بن الأشرف رئيس اليهود من تقديمه لدين المشركين على دين المؤمنين لما كان بينه وبين المؤمنين من العداوة فمن آمن بالجبت وهو السحر والطاغوت وهو ما عظم بالباطل من دون الله تعالى مثل رؤساء المشركين وله من علوم المسلمين ما له ففيه شبه من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت وإذا كان هؤلاء يتعصبون لأولئك المشركين وينصرونهم ويذمون المؤمنين ويعيبونهم ألم يكن لهم نصيب من قوله تعالى ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فيكون لهم نصيب من قوله تعالى أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا وتمام الكلام في قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا وهذه الآية مطابقة لحال هؤلاء كما بيناه في غير موضع الوجه الثاني أن الاستدلال في توحيد الله تعالى الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه بمثل كلام أبي معشر المنجم ونقله عن الأمم المتقدمة يليق بمثل الرازي وذويه أترى أبا معشر لو كان من علماء أهل الكتاب المسلمين كمن أسلم من الصحابة والتابعين ونقل لنا شيئا عن الأنبياء المتقدمين أكان يجوز لنا في الشريعة تصديق ذلك الخبر إذ لم نعلم صدقه من جهة أخرى إذا كان الناقل لنا إنما أخبره عن أهل الكتاب وفي الصحيح عن نبينا ﷺ أنه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وأما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه فكيف وأبو معشر الناقل لذلك وإنما خبرة الرجل بكلام الصائبة المشركين عباد الكواكب ونحوهم وهم من أقل الناس خبرة ومعرفة بالتوحيد الذي بعث الله به رسله وبحال أهله المؤمنين مع الكفار المشركين الوجه الثالث إن هذه الحكاية تقتضي أن الناس كانوا قبل ابتداع الشرك على المذهب الذي سماه مذهب المشبهة وأنهم كانوا حينئذ يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا كما ذكره فيكون هذا الاعتقاد وهو مذهب القوم في الدهر الأقدم قبل عبادة الأوثان ثم إنه بسبب هذا الاعتقاد استحسنوا عبادة الأوثان ومعلوم أن الناس كانوا قبل الشرك على دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها وهي دين الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد غيره كما قال تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على الإسلام وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه ذكر في حديث الشفاعة عن نوح قول أهل الموقف له وأنت أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض وقد قال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فإذا كان الله قد بعث في كل أمة رسولا يدعوها إلى عبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت ونوح أول من بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض علم أنه لم يكن قبل قوم نوح مشركون كما قال ابن عباس وإذا كان كذلك وأولئك على الإسلام ومذهبهم هو المذهب الذي سماه مذهب المشبهة ثبت بموجب هذه الحكاية أن هذا هو مذهب الأنبياء والمرسلين والمسلمين من كل أمة الوجه الرابع إن في هذه الحكاية إنهم اشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد انهم يعبدون الإله والملائكة وقد ذكر الله تعالى قول المشركين في كتابه الذين جعلوا معه إلها آخر فلم يذكر أنهم كانوا يعتقدون أنهم يعبدون الله إذا عبدوا الأوثان ولكن ذكر أنهم اتخذوا هذه الأوثان شفعاء وذكر أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ولكن في هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إن عباد الأوثان ما عبدوا إلا الله تعالى وأن عابد الوثن هو العابد لله كما ذكرنا ذلك فيما تقدم عن صاحب الفصوص وذويه وهو من رؤساء هؤلاء الجهمية وأئمتهم الوجه الخامس أن عبادة الأوثان إنما هي مشهورة ومعروفة عن نفاة الصفات من الفلاسفة الصابئين سلف أبي معشر والرازي وذويهم مثل النمرود بن كنعان وقومه أعداء الخليل عليه الصلاة والسلام وأتباعه وأولياء رهط أبي معشر ومثل فرعون عدو موسى كليم الرحمن عز وجل وأتباعه وأولياء الجهمية نفاة الصفات ومن يدخل فيهم من الاتحادية والقرامطة وكما صرح بعضهم بموالاته فرعون وتعظيمه كما فعل صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي صنفه للقرمطة وكما فعله صاحب الفصوص وذويه ومن لم يصرح بموالاة فرعون ولم يعتقد موالاته فإنه موافق له فيما كذب فيه موسى حيث قال يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا قال خلائق من العلماء وممن قال ذلك أبو الحسن الأشعري إمام طائفة الرازي قال فرعون كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وهؤلاء النفاة يوافقون فرعون في هذا التكذيب لموسى الوجه السابع إن القول الذي يسمونه مذهب المشبهة بل التشبيه الصريح لا يوجد إلا في أهل الكتب الالهية كاليهود والمسلمين كما ذكر الرازي ذلك عن مشبهة اليهود ومشبهة المسلمين ومن ليس له كتاب فلا يعرف عنه شئ من التشبيه الذي يعير أهله بأنه تشبيه أو الذي يقول منازعوهم إنه تشبيه ومن المعلوم أن أصل الشرك لم يكن من أهل الكتب وإنما كان من غيرهم فإن الله لم يبعث رسولا ولم ينزل كتابا إلا بالتوحيد كما قال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون وقال تعالى وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتني إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وقال تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله وقال: ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعلمون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأتقون ولم يحدث في أهل الكتب وأتباع الرسل من العرب وبني إسرائيل وغيرهم شرك إلا مأخوذ من غير أهل الكتاب كما ابتدع عمرو بن لحي بن قميثة سيد خزاعة الشرك في العرب الذين كانوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء ابتدعه لهم بأوثان نقلها من الشام من البلقاء التي كانت إذ ذاك دار الصابئة المشركين سلف أبي معشر وذويه وكذلك بنو إسرائيل عبد منهم الأوثان كما ذكر الله ذلك في كتابه تعالى وتقدس وإنما حدث فيهم هذا من جيرانهم الصابئة المشركين سلف أبي معشر وذويه فإذا كان أصل المذهب الذي سموه مذهب التشبيه لا يعرف إلا عن من هو من أهل كتاب منزل من السماء وأهل الكتب لم يكونوا هم نواهم الذين ابتدعوا الشرك أولا علم أن الشرك لم يبتدعه أولا القوم الذين سماهم أهل التشبيه الوجه الثامن أنه إذا كان الإشراك متضمنا لما سماه تشبيها فمن المعلوم أن المرسلين كلهم ليس فيهم من تكلم بنقيض هذا المذهب ولا نهى الناس عن هذا الذي سماه تشبيها فليس في القرآن عن محمد ﷺ ولا عن المرسلين المتقدمين ولا في التوراة والأنجيل وغيرهما من الكتب ولا في الأحاديث المأثورة عن أحد من المرسلين أنهم نهوا المشركين أو غيرهم أن يقولوا إن الله تعالى فوق السموات أو فوق العرش أو فوق العالم أو أن يصفوه بالصفات الخبرية التي يسميها هؤلاء تشبيها بل ولا عنهم حرف واحد بأن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ولا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا نحو ذلك فإن كان الشرك متضمنا لما سموه تشبيها والرسل لم تنه عما سموه تشبها ولا ذموه ولا أنكروه ولا تكلموا بما هو عند هؤلاء توحيد وتنزيه ينافي هذا التشبيه عندهم أصلا ثبت أن المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه كلهم كانوا مقررين لهذا الذي سموه تشبيها وذلك يقتضي أنه حق فهذا النقل الذي نقله أبو معشر واحتج به الرازي إن كان حقا فهو من أعظم الحجج على صحة مذهب خصومهم الذين سموهم مشبهة وإن لم يكن حقا فهو كذب فهم إما كاذبون مفترون وأما مخصومون مغلوبون كاذبون مفترون في نفس المذهب الذي انتصروا عليه الوجه التاسع أن الشرك كان فاشيا في العرب ولم يعلم أحد منهم كان يعتقد أن الوثن على صورة الله وقبلهم كان في أمم كثيرة وله أسباب معروفة مثل جعل الأوثان صورا لمن يعظمونه من الأنبياء والصالحين وطلاسم لما يعبدونه من الملائكة والنجوم ونحو ذلك ولم يعرف عن أحد من هؤلاء المشركين أنه اعتقد أن هذا الوثن صورة الله والشرك في أيام الإسلام ما زال بأرض الهند والترك فاشيا والهند فلاسفة وهم من أعظم سلف أبي معشر ومع هذا فليس في الهند والترك من يقول هذا فعلم أن هذا أول مفترى الوجه العاشر لو كان هذا من أسباب الشرك فمن المعلوم أن غيره من أسباب الشرك أعظم وأكثر وأن الشرك في غير هؤلاء الذي سماهم مشبهة أكثر فإن كان الشرك في بعض مثبتة هذه الصفات عيبا فالشرك في غيرهم أكثر وأكثر كان الطعن والعيب على نفاة الصفات بما يوجد فيهم من الشرك أعظم وأكبر الوجه الحادي عشر قوله فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب الشبهة كلام مجمل فإن من الفرع ما يكون لازما لأصله فإذا كان الأصل مستلزما لوجود الفرع الفاسد كان فساد الفرع وعدمه دليلا على فساد الأصل وعدمه ومن الفروع ما يكون مستلزما للأصل لا يكون لازما له وهو الغالب فلا يلزم من فساده وعدمه فساد الأصل وعدمه ولكن يلزم من فساده وعدمه فساد هذا الفرع وعدمه فالأول كما قال تعالى ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة كيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار فالكلمتان كلمة الأيمان واعتقاد التوحيد وكلمة الكفر واعتقاد الشرك فلا ريب أن الاعتقادات توجب الأعمال بحسبها فإذا كان الاعتقاد فاسدا أورث عملا فاسدا ففساد العمل وهو الفرع يدل على فساد أصله وهو الاعتقاد كذلك الأعمال المحرمة التي تورث مفاسد كشرب الخمر الذي يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء فهذه المفاسد الناشئة من هذا العمل هي فرع لازم للأصل ففسادها يدل على فساد الأصل وهكذا كل أصل فهو علة لفرعه وموجب له وأما القسم الثاني فالأصل الذي شرطا لا يكون علة كالحياة المصححة للحركات والإدراكات وأصول الفقه التي هي العلم بأجناس أدلة الفقه وصفة الاستدلال ونحو ذلك فهذه الأصول لا تستلزم وجود الفروع وإذا كان الفرع فاسدا لم يوجب ذلك فساد أصله إذ قد يكون فساده من جهة أخرى غير جهة الأصل وذلك نظير تولد الحيوان بعضه من بعض فالوالدان أصل للولد والله تعالى وتقدس يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فالكافر يلد المؤمن والمؤمن يلد الكافر وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن اعتقاد ثبوت الصفات بل اعتقاد التشبيه المحض ليس موجبا لعبادة الأصنام ولا داعيا إليه وباعثا عليه أكثر ما في الباب أن يقال اعتقاد أن الله تعالى وتقدس مثل البشر يمكن معه أن يجعل الصنم على صورة الله بخلاف من لم يعتقد هذا الاعتقاد فإنه لا يجعل الصنم على صورة الله تعالى فيكون ذلك الاعتقاد شرطا في اتخاذ الصنم على هذا الوجه وهذا القدر إذا صح لم يوجب فساد ذلك الاعتقاد بالضرورة فإن كل باطل في العالم من الاعتقادات والإرادات وتوابعها هي مشروطة بأمور صحيحة واعتقادات صحيحة ولم يدل فساد هذه الفروع المشروطة على فساد تلك الأصول التي هي شرط لها فإن الإنسان لا يصدر منه عمل إلا بشرط كونه حيا قادرا شاعرا ولم يدل فساد ما يفعله من الاعتقادات والارادات على فساد هذه الصفات والذين أشركوا بالله تعالى وتقدس وعبدوا معه إلها آخر كانوا يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون هم شفعاؤنا عند الله ويعتقدون أن الله يملكهم كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقد قال تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما تملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم وقد أخبر عنهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه أن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال عكرمة يؤمنون أنه رب كل شئ وهم يشركون به فإذا كانوا إنما أشركوا به لاعتقادهم أنه رب كل شئ وملكيه وأن هذه الشفعاء والشركاء ملكه وآمنوا بأنه رب كل شئ ثم اعتقدوا مع ذلك أن عبادة هذه الأوثان تنفعهم عنده فهل يكون ما ابتدعوه من الشرك الذي هو فرع مشروط بذلك الأصل قادحا في صحة ذلك الأيمان والإقرار الحق الذي قالوه الوجه الثاني عشر إن الذين أشركوا بالله تعالى حقيقه من عباد الشمس والقمر والكواكب والملائكة والأنبياء والصالحين والذين اتخذوا أوثانا لهذه المعبودات إنما فعلوا ذلك لاعتقادهم وجود االشمس والقمر والكواكب والملائكة والأنبياء واعتقادهم ما تفعله من الخير تشبيها فهل يكون إشراكهم بها قادحا في وجودها وفي اعتقاد ما هي متصفة أم لا فإن كان كذلك فيلزم أبا معشر والرازي أن يقدحوا في العلوم الطبيعية والرياضية ويقدحوا في الملائكة والنبيين وإن لم يكن كذلك كان ما ذكره من الحجة باطلا الوجه الثالث عشر قوله فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة يقال له الثبوت إنما يكون بذكر حجة عقلية أو سمعية وهب ما ذكره أبو معشر إنما هو خبر عن أمم متقدمين لم يذكرهم ولم يذكر إسناده في معرفة ذلك وليس أبو معشر من يحتج بنقله في الدين بإجماع أئمة الدين فإنه إن لم يكن كافرا منافقا كان فاجرا فاسقا وقد قال الله تعالى وتقدس يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فلو قدر أن هذا النقل نقله بعض أئمة التابعين عن رسول الله ﷺ لكن هذا خبرا مرسلا لا يثبت به حكم في فرع من الفروع فكيف والناقل له مثل أبي معشر عن أمم متقدمة فهذا خبر في غاية الانقطاع ممن لا تقبل روايته فهل يحسن بذي عقل أو دين أن يثبت بهذا شيئا في أصول الدين ومن العجب أن هذا الرجل المحاد لله ولرسوله عمد إلى الأخبار المتفيضة عن رسول الله ﷺ التي توارثها عنه أئمة الدين وورثة الأنبياء والمرسلين واتفق على صحتها جميع العارفين فقدح فيها قدحا يشبه الزنادقة المنافقين ثم يحتج في أصول الدين بنقل أبي معشر أحد المؤمنين يالجبت والطاغوت أئمة الشرك والضلال نعوذ بالله من ششرورهم وأقوالهم والله المستعان على ما يصفون والله سبحانه وتعالى أعلم فصل قال الرازي الفصل الثاني في تقرير الدلائل السمعية على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحيز والجهة قلت لم يذكر في هذا الفصل حجة تدل على مطلوبه دلالة ظاهرة فضلا عن أن تكون نصا بل إما أن يكون ما ذكره عديم الدلالة على مطلوبه أو يكون على نقيض مطلوبه أدل منه على مطلوبه وذلك يتبين بذكر حججه قال الحجة الأولى قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد قال وأعلم قد اشتهر في التفسير أن النبي ﷺ سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل الله هذه السورة إذا عرفت هذا فنقول هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابا عن سؤال السائل وأنزلها عند الحاجة وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذا ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلا قلت كون هذه السورة من المحكمات وكون كل مذهب يخالفها باطلا هو حق لا ريب فيه بل هذه السورة تعدل ثلث القرآن كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وهي صفة الرحمن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وعليها اعتمد الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض والإمام أحمد وغيرهم من أئمة الإسلام وهي على نقيض مطلوب الجهمية أدل منها على مطلوبهم كما قررناه في موضعه وإنما نذكر منه هاهنا ما ييسره الله لكن سائر الآيات المذكورة فيها أسماء الله وصفاته مثل أية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ونحو ذلك هي كذلك كل ذلك من الآيات المحكمات لكن هذه السورة ذكر فيها ما لم يذكر في غيرها من اسمه الأحد الصمد ومثل نفي الأصول والفروع والنظراء جميعا وإلا فأسمه الرحمن أنزله الله لما أنكر المشركون هذا الإسم فأثبته الله لنفسه ردا عليهم وهذا أبلغ في كونه محكما من هذه السورة إذ الرد على المنكر أبلغ في إثبات نقيض قوله من جواب السائل الذي لم يرد عليه بنفي ولا إثبات وقد قال وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا وقال تعالى كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب وكذلك قول فرعون يا هامان إبن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا هذا أبلغ في كون موسى صرح له بأن إلهه فوق السموات حتى قصد تكذيبه بالفعل من الأخبار عن ذلك بلفظ موسى وكذلك مسألة الصحابة للنبي ﷺ هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب فقالوا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤيته كما لا تضارون في رؤية الشمس والقمر وسائر ما في هذا المعنى من الأحاديث الصحيحة المتواترة مع ورودها على سؤال السائل وجوابه بهذا التصريح هو من أبلغ ما يكون في إثبات هذه الرؤية وأبعد عن التشابه كما يظنه الرازي وغيره ممن يحرف الرؤية عن حقيقتها إتباعا للمريسي وغيره من الجهمية وإن كان الرازي في الظاهر مقرا بالرؤية فإن إقراره بها كإقرار المريسي وذويه بألفاظها ثم يحرفون الكلم عن مواضعه ثم قال الرازي فنقول إن قوله تعالى أحد يدل على نفي الجسمية ونفي الحيز والجهة أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحد مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيا للجسمية قال وأما دلالته على أنه ليس بجوهر فنقول أما الذين ينكرون الجوهر الفرد فإنهم يقولون إن كل متحيز فلا بد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني وذلك لأنه لا بد أن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن خلفه وفوقه عن تحته وكلما تميز فيه شئ فهو منقسم لأن يمينه موصوف بأنه يمين لا يسار ويساره موصوف بأنه يسار لا يمين فلو كان يمينه عين يساره لأجتمع في الشئ الواحد أنه يمين وليس بيمين ويسار وليس بيسار فيلزم اجتماع النفي والإثبات في الشئ الواحد وهو محال قالوا فثبت أن كل متحيز فهو منقسم وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد فلما كان الله موصوفا بأنه أحد وجب أن لا يكون متحيزا أصلا وذلك ينفي كونه جوهرا وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد فأنه لا يمكنهم الاستدلال على نفي كونه تعالى جوهرا من هذا الاعتبار ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الآية على نفي كونه جوهرا من وجه آخر وبيانه هو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به أيضا نفي الضد والند ولو كان تعالى جوهرا فردا لكان كل جوهر فرد مثلا له وذلك ينفي كونه أحدا ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد ولو كان جوهرا لكان كل جوهر فرد كفوا له فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسيم ولا جوهر وجب أن لا يكون في شئ من الأحياز والجهات لأن كل ما كان مختصا بحيز وجهة فإن كان منقسما كان جسما وقد بينا إبطال ذلك وإن لم يكن كان جوهرا ولما بطل القسمان ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلا فثبت أن قوله أحد يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة أصلا قلت هذا الاستدلال هو معروف قديما من استدلال الجهمية النافية فأنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد وأنه يثبت تعدد القدماء لا يجعل القديم واحدا فقط فالجهمية من المتلفسفة والمعتزلة وغيرهم يبنون على هذا وقد يسمون أنفسهم الموحدين ويجعلون نفي الصفات داخلا في مسمى التوحيد ومبني ذلك على أصل واحد وهو أنهم سموا أقوالهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم وجعلوا مسمى الأسماء الواردة في الكتاب والسنة أشياء أخر ابتدعوها هم فألحدوا في أسماء الله وآياته وحرفوا الكلم عن مواضعه وقد ذكر تلبيسهم وتمويههم وإلحادهم أئمة السلف والخلف وممن نبه عليه الإمام أحمد قال في رسالته في الرد على الزنادقة والجهمية فقالت الجهمية لنا لما وصفنا هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول أن الله لم يزل وقدرته ولا نقول ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا قد كان الله ولا شئ فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شئ ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار وأسمها أسم شئ واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف قال وسمى الله رجلا كافرا أسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال ذرني ومن خلقت وحيدا وقد كان الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة وقد سماه وحيدا بجميع صفاته وكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد فهذا القول الذي ذكره الإمام أحمد عنهم أنهم قالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا قد كان الله ولا شئ وهو كلام مجمل ولكن مقصودهم أنه لم يكن موجودا بشئ يقال إنه من صفاته فإن ثبوت الصفات يستلزم عندهم التركيب والتجزءة إما تركيب المقدار كالتركيب الذي يزعمونه في تأليف الجسم من أجزائه وإما التركيب الذي يزعمونه في الحدود وهو التركيب من الصفات كما يقولون النوع مركب من الجنس والفصل ويستلزم أيضا التشبيه والتوحيد عندهم نفي التشبيه والتجسيم ويقولون إن الأول يعنون به عدم النظير والثاني يعنون به أنه لا ينقسم وهم يفسرون الواحد والتوحيد بما ليس هو معنى الواحد والتوحيد في كتاب الله وسنة رسوله وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وهذا أصل عظيم تجب معرفته فقال نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم الواحد هو الذي لا صفة له ولا قدرة ويعبرون عن هذا المعنى بعبارات فيقول من يريد هذا المعنى من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله إن واجب الوجود واحد من كل وجه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم أو يقال ليس فيه كثره حد ولا كثرة كم ويقال ليس فيه تركيب المحدود من الجنس والفصل ولا تركيب الأجسام ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة وكذلك تقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم إن القديم واحد ليس معه في القدم غيره ولو قامت به الصفات لكان معه غيره وأنه ليس بجسم إذ الجسم مركب مؤلف منقسم وهذا تعدد ينافي التوحيد أو يقولون أيضا إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وعددا في ذاته خلاف التوحيد ويسمون أنفسهم الموحدين والعلم الذي يعلم به هذا علم التوحيد وهذا عندهم أول الأصول الخمسة التي هي عندهم التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن هنا أخذ محمد ابن التومرت هذا اللقب وسمى طائفته الموحدين ووضع لهم المرشدة المتضمنة لمثل عقيدة المعتزلة وغيرهم من الجهمية في التوحيد لم يذكر اعتقاد الصفاتية كابن كلاب والأشعري فضلا عن اعتقاد السلف والأئمة لكن ذكر في القدر مذهب أهل الإثبات وهذا الذي ذكر يشبه قول حسين النجار وضرار بن عمرو وكان حفص الفرد من أصحاب النجار وكان برغوث من أصحاب ضرار وذاك خصم الشافعي وهذا من خصوم أحمد وذهب حسين النجار وطائفة من المعتزلة إلى أن معنى الواحد هو الذي لا شبيه له كما يقول فلان واحد دهره وقد يقولون التوحيد يجمع المعنيين جميعا فالأول نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه فإن نفي الصفات عندهم هو نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه والتوحيد ينافي التشبيه والتجسيم وجماع قولهم أن التوحيد ثلاث معان أنه واحد في نفسه لا صفة له ولا قدر فليس بمركب ولا محدود ولا موصوف بصفة تقوم به وهو أيضا واحد لا شبيه له فهذان نفي التجسيم والتشبيه والثالث أنه واحد في أفعاله لا شريك له فهذا الثالث هو متفق عليه بين المسلمين لكن الناس يقولون هذا التوحيد لا يتم للقدرية الذين يجعلون بعض العالم مفعولا لغير الله ويجعلون من يفعل كفعل الله فإن هذا إثبات شريك له في الملك ثم إن المعتزلة وغيرهم من الجهمية وإن وافقهم بقية المسلمين على نفي التشبيه فإنهم يدخلون في اسم التشبيه كل من أثبت لله صفة كما هو معروف عنهم ولذلك نقله عنهم الأئمة كما ذكر الإمام أحمد في الرد عليهم فقال في وصف الجهم وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله ﷺ وزعم أن من وصف من الله شيئا وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسول الله ﷺ كان كافرا وكان من المشبهة وأضل بشرا كثيرا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية وأكثر الشيعة المتأخرين على هذا التوحيد ونفي القدر وأما الشيعة المتقدمون الذين أدركوا زمن الأئمة فكان جهورهم على الإثبات وغالب الإمامية مصرحون بالتجسيم قلت أصحاب عمرو بن عبيد هم المعتزلة فإن عمرا هو الإمام الأول الذي ابتدع دين المعتزلة هووواصل بن عطاء وأما الذين اتبعوه من أصحاب أبي حنيفة فهم من جنس الذين قاموا بأمر محنة المسلمين على دين الجهمية لما دعوا الناس إلى القول بخلق القرآن وغيره من أقوال الجهمية وهم مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي داود قاضي القضاة وأمثالهم ولما دخلت الجهمية هذا النفي الذي ابتدعوه في مسمى التوحيد أظهر المسلمون خلافهم من الأئمة والفقهاء وأهل الحديث والكلام كما وروى أبو عبد الرحمن السلمي ومن طريقه شيخ الإسلام الأنصاري عن عبد الرحمن بن مهدي قال دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل وكان المثبتة من أهل الكلام يخالفونهم في مسمى الواحد وكذلك الصفاتية وقد تقدم كلام أبي محمد ابن كلاب في معنى الواحد وأنه قال في كتاب التوحيد في معنى قول القائل إن الله واحد وفي معنى قولنا مطلقا للشئ إنه واحد فقال معنى قولنا الله واحد أنه منفرد بنفسه لا يدخله غيره وقال في معنى مطلق قولنا إنه واحد إنه قد يقال ذلك لما هو أشياء كثيرة مجتمعة وهو أجسام متماثلة كما يقال إنسان واحد وقولنا للخالق واحد لا على هذا المنهاج لأجل أنه المنفرد بنفسه الذي لا يدخله غيره قال وقد كان الله واحدا قبل خلقه فلم تداخله الأشياء حين خلقها ولم يداخلها ولو كان ذلك كذلك لم يكن واحدا قال ولو كان داخلا فيها لكان حكمه حكمها ولو كانت داخلة فيه كان كذلك ومن زعم أنها فيه أو هو فيها لزمه أن يحكم فيه بحكم المخلوق إذ كان في المخلوقات أو المخلوقات فيه فلما استحال في ربنا أن يداخل المخلوقين فيكون بعضا لهم أو يداخلوه فيكونوا بعضا له لم نجد منزلة ثالثة غير أنه بائن بخلق الأشياء فهي غير داخلة فيه ولا مماسة له ولا هو داخل فيها ولا ماس لها ولولا أن ذلك كذلك كان حكمه حكمها فإن قالوا فيعتقبه الطول والعرض قيل لهم هذا محال لأنه واحد لا كالآحاد عظيم لا تقاس عظمته بالمخلوقات كما أنه كبير عليم لا كالعلماء كذلك هو واحد عظيم لا كالآحاد العظماء فإن قلت العظيم لا يكون إلا متحيزا قيل لك والعليم لا يكون إلا متحيزا وكذلك السميع والبصير لأنك تقيس على المخلوقات قال ابن فورك وحكى حاكون عن ابن كلاب أنه لا يصح أن يضبط بالوهم شئ واحد أراد أنه إن كان قديما فلا بد من صفات وإن كان محدثا فمن أعراض قلت هذا الكلام يقال إبطالا لمذهب الجهمية ونحوهم من الفلاسفة والمعتزلة إن الواحد لا صفة له فيقال لهم فيمتنع على هذا القول أن يكون في الوجود واحد كما سنبين إن شاء الله مخالفة وقولهم للغة والعقل والشرع وكان كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد والتوحيد بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية ولم يفسروه بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك كما سنذكره لكن مع تفسيرهم إياه بما ينفي التجسيم والتشبيه لم يلتزموا أن ذلك ينفي الصفات بل عندهم تفسير الواحد بذلك لا ينافي ثبوت الصفات القائمة به وهذا من مواضع النزاع بينهم وبين المعتزلة والفلاسفة وغيرهم من الجهمية فإن هؤلاء يزعمون أن نفي الصفات داخل في مسمى الواحد وأما الصفاتية فينكرون ذلك قال الأستاذ أبو المعالي قال أصحابنا الواحد هو الشئ الذي لا ينقسم أو لا يصح انقسامه قال القاضي أبو بكر ولو قلت الواحد هو الشئ كان كافيا ولم يكن في الحد تركيب وفي قول القائل الشئ الذي لا ينقسم نوع تركيب قال الأستاذ أبو المعالي يقال للقاضي التركيب في الحدود وهو أن يأتي الحاد بوصف زائد يستغني عنه وقد لا تفهم من الشئ المطلق ما تفهم من القيد وليس يفهم من الشئ ما يفهم من الواحد الذي لا ينقسم فإن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشئ المقصود من التحديد والإيضاح أجاب القاضي بأن قال كلامنا في الحقائق والشئ المطلق هو الواحد الذي لا ينقسم قال منازعوه ويقال قد ذكرنا أن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشئ فهما أمران متلازمان فلا بد من التعرض لهما ثم قال أبو المعالي ثم قال أصحابنا إذا سئلنا عن الواحد فنقول هذه اللفظة تردد بين معان فقد يراد به الشئ لا يقبل وجود القسمة وقد يطلق والمراد به نفي الأشكال والنظائر عنه وقد يطلق والمراد أنه لا ملجأ وملاذ سواه وهذه المعاني متحققة في وصف القديم سبحانه وتعالى وقال الأستاذ أبو بكر ابن فورك إنه سبحانه واحد في اته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وحكي عن أبي إسحاق الأسفرائيني أنه قال الواحد هو الذي لا يقبل الرفع والوضع يعني الوصل والفصل قال الأنصاري أشار إلى وحدة الإله فإن الجوهر واحد لا ينقسم ولكن يقبل النهاية والإله سبحانه واحد على الحقيقة فلا يقبل فصلا ولا وصلا قال فإن قال قائل الوحدانية ترجع إلى صفة إثبات أم هي من الأوصاف التي تفيد النفي قلنا قال بعض المتكلمين المقصد من الواحد انتفاء ما عدى الموجود الفرد وربما يميل القاضي أبو بكر إلى هذا وقال الجبائي كونه واحدا ثابت لا للنفس ولا للمعنى وطرد ذلك شاهدا وغائبا والذي يدل عليه كلام القاضي أن الأتحاد صفة إثبات ثم هي صفة النفس قال أبو المعالي فإن قيل أوضحوا معنى التوحيد قيل مراد المتكلمين من إطلاق هذه اللفظة الوحدانية والحكم بذلك وأبو المعالي كثيرا ما يقول قال الموحدون ويعني بهم هؤلاء وسلك سبيله ابن التومرت في لفظة الموحدين لكن لم يذكر في مرشدته الصفات الثبوتية كما يذهب إليه أبو المعالي ونحوه لكن اقتصر على الصفات السلبية وعلى الأحكام وهذه طريقة المعتزلة والنجارية ونحوهم وكذلك قد وافق هؤلاء في تفسير الواحد بهذه المعاني الثلاثة طائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم قال القاضي أبو يعلى في المعتمد كما ذكر ابن الباقلاني وأما الواحد والفرد والوتر فمعناه استحالة التجزئة والانقسام والتبعيض عليه فقال ونفي الشريك عنه ونفى الثاني عنه فيما لم يزل ونفي المثل عنه تعالى وعن صفاته الأزلية فجعل في هذا الموضع اسم الواحد يعم هذه المعاني الثلاثة وأما في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات ففسر الواحد بما لا شريك له وجعل هذه المعاني ثلاثة أقوال فقال وأما وصفه بأنه واحد فمعناه الذي لا شريك له القهار ويقهر كل جبار والأحد والواحد بمعنى واحد وقيل معناه شيء وكل شيء واحد وكل واحد شيء فإذا قيل للجملة إنها واحدة فإنه يقدر فيها حكم الواحد الذي لا ينقسم وقيل المراد به نفي النظير كقوله فلان واحد زمانه لكن كثير ممن يفسر الواحد بعدم التجزي يريد بذلك ما يعرفه الناس من معنى التجزي وهو انفصال جزء عن الآخر كما يعنون بلفظ المنقسم انفصال قسم من قسم وليس هذا فقط هو المعنى الذي يريده نفاة الجسم بقولهم ليس بمنقسم ولا متجزئ فإن هذا المعنى لا يشترطون فيه وجود الأنفصال ولا إمكان وجوده وهذا الاصطلاح قول أبي الوفاء ابن عقيل في كتاب الكفاية باب في نفي الولد والتجزية وهو سبحانه واحد لا يتجزأ لقوله تعالى لم يلد لأنه لو كان والدا لكان متجزئا لأن الولد هو انفصال جزء من الوالد قال سبحانه وجعلوا من عباده جزءا يعني ولدا قال لأن التجزي لا يجوز إلا على المركبات وقد أفسدنا التركيب حيث أفسدنا كونه جسما قال ونخص هذا بدلالة أخرى فنقول إن الايلاد تحلل والتحلل لا يجوز إلا على ذات مستحيلاة تتعاقب عليها الأزمان وتتغالب فيها الطباع تأخذ من الأغذية حظا وتعيد منها فضلا والقديم سبحانه ذات لا يداخله شئ ولا يداخل شيئا ولا يتصل بشيء ولا ينفصل عنه شيء لأنه واحد والتجزي والانقسام لا يتصور إلا على آحاد التأمت بالاجتماع فتوحدت وتفككت بالانقسام فتعددت ألا ترى أن العلل والأحكام والعقول والعلوم لما لم توصف بالتركيب لم تتسلط عليها التجزءة وكذلك قال أبو الوفاء ابن عقيل في باب نفي التشبيه وهو سبحانه غير مشبه بالأشياء فليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا على صفة من صفات الموجودات قال سبحانه ليس كمثله شئ معناه ليس مثله شئ والكاف زائدة والدلالة على أنه ليس بجسيم ولا مشبه للأشياء أنه لو كان جسما لكان مؤلفا لأن حقيقة الجسم هو المؤلف ولهذا أدخلت عليه العرب التزايد فيقال هذا أجسم ويراد به أكثر أجساما وأكبر جثة ولو كان مؤلفا لأحتاج إلى مؤلف كما احتاجت سائر الأجسام ويجاز عليه ما يجوز عليها من التجزي والانقسام والتفكك والالتآم ولو جوزنا قدم غائب مع كونه جسما لاقتبسنا العلم بحدث هذا الجسم الحاضر حدث الغائب ولأن المشبه للشئ ما سد مسده وقام مقامه فلو أشبه هذه الأشياء الموجودة أو أشياء منها لسد مسده وقام مقامه في القدم والأحداث والصفة والاختراع إلى غير ذلك من صفات القديم سبحانه ولأنه لو كان يشبهها من وجه من الوجوه لأحتاج إلى ما احتاجت إليه من الأمكنة لوجود قدم الكائنات وفي وفي ذلك إما قدم العالم أو حدث القديم وكلاهما محال فما أدى إليه محال قلت وطائفة أخرى تجعل قول النصارى في الأقانيم بمعنى الأجزاء والأبعاض لكن ليس في نقلهم أنهم يوجبون كون الولادة انفصال جزء عن غيره كما يذكر الأولون قال أبو عبد الله بن الهيصم الفصل الرابع وأما القول في أنه أحدي الذات فإن النصارى زعمت أن الله جل عن قولهم أقانيم ثلاثة رب واحد وفسر بعضهم الأقانيم بأنها الأشخاص وقال بعضهم إنها الخواص قال وقال أهل التوحيد إن الله واحد في ذاته ليس بذي أقانيم ولا أبعاض واحتجت النصارى بأنكم قد وافقتمونا على أن الله عز ذكره قد كان لم يزل وله حياة وكلام وذلك ما أردناه بقولنا أقانيم ثلاثة قال والرد عليهم أن يقال لهم إن الحياة والكلام عندنا صفتان لذاته وليستا في حكم الذات ولا يقع عليهما اسم الله فإن الله هو الموصوف بهما دونهما وليس يصح إضافة شئ من أفعال الربوبية إليهما لأن الحياة والكلام لا يفعلان وإنما يفعل الحي المتكلم وهو الله الموصوف بهما وليس كذلك قولكم من قبل أنكم جعلتم الروح والابن أقنومين يتناولهما اسم الله وأفعال الربوبية عندكم منسوبة إلى مجموع الأب ولابن والروح القدس قد جعلتموها بمنزلة أركان الإنسان التي يتناولها مجموعها اسم الإنسان وتنسب إلى جملتها أفعاله وهذا هو وصفه بالتجزئة والتبعيض وليس ما وصفنا به من الحياة والكلام كذلك ثم يقال لهم وإذ كان الله عندنا وعندكم موصوفا بالقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والرحمة والعزة كما كان موصوفا بالحياة والكلام فهلا جعلتم هذه كلها أقانيم له ومالكم قصرتم الأقانيم على الثلاثة وفي هذا ما يدل على أنكم لم تذهبوا من الأقانيم مذهب إثبات الصفات له لذلك فرقتم بين هذه الصفات وبينها وإنما ذهبتم فيها مذهب الأبعاض والأجزاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا قلت مذهب النصارى لكونه متناقضا في نفسه لا يعقل إذ لا حقيقة له كما لا تعقل الممتنعات صاروا يضطربون في قوله فكل طائفة منهم تفسره بغير ما تفسره الأخرى وكذلك يضطرب الناس في نقله فلهذا ذكر هذا أن الأقانيم عندهم أبعاض كأركان الإنسان وأن كان الآخرون من النصارى لا يقولون ذلك فإن عندهم كل واحد من الأقانيم إله يدعى ويعبد مع قولهم أن الثلاثة إله واحد وبعض الإله ليس هو إلها ولكن عندهم الذات الموصوفة بالأمور الثلاثة مع كل صفة أقنوم ثم يقولون إن الواحد هو المتحد بالمسيح فإن كان متحدا لصفة فالصفة ليست إلها يخلق ويرزق وعندهم المسيح إله وإن كان المتحد الذات فيكون المسيح هو الأب والابن والروح القدس إله وهم لا يقولون ذلك وإنما يقولون المتحد به الكلمة التي هي الابن ويقولون هو ابن الله لذلك ويقولون أيضا هو الله لأن المتحد به هو الذات التي هو الله فيجعلون المتحد به هو الذات بصفة دون الذات بالصفتين الأخريين ومن المعلوم أن الصفات لا تفارق الذات وقد يكونون يقولون كما حكى هذا الأقانيم أبعاض وأجزاء كل منهما إله أيضا وإذا عرف أن مراد أئمة هذا القول بنفي التجزي والانقسام ليس هو وجود الانقسام بانفصال بعضه عن بعض ولا إمكان ذلك وان كان اللفظ في ذلك أظهر منه في غيره فإن عامة ألفاظهم الاصطلاحية لا يريدون بها ما هو المعروف في اللغة من معناها بل معاني اختصوا هم بالكلام فيها نفيا وإثباتا ولهذا قال الإمام أحمد فيهم يتكلمون بالمتشابهة من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم وهذان المعنيان مما اتفق المسلمون فيما أعلمه على تنزه الله وتقدسه عنهما فإن الله سبحانه أحد صمد لا يتجزى ويتبعض وينقسم بمعنى أنه ينفصل بعضه عن بعض كما ينفصل الجسم المقسوم المعضى مثل ما تقسم الأجسام المتصلة كالخبز واللحم والثياب ونحو ذلك ولا ينفصل عن الحيوان ما ينفصل من عضلاته وهذه المعاني هو منزه عنها بمعنى أنها معدومة وأنها ممتنعة في حقه فلا تقبل ذاته التفريق والتبعيض بل ليس هو بأجوف كما قال الصحابة والتابعون في تفسير الصمد أنه الذي لا جوف له كما سيأتي بيانه وأكثر الناس لا يفهمون من نفي التبعيض والتجزئة والانقسام والتركيب إلا هذين المعنيين ونحوهما وذلك متفق على نفيه بين المسلمين اللهم إلا أن يكون بعض من لا أعلم من الجهال الضلال قد جوز على الله أن ينفصل منه بعضه عن بعض كما يحكى ذلك عن بعض الكفار فبنوا آدم لا يمكن حصر ما يقولونه وإنما المقصود أن المقالات المحكية عن طوائف الأمة لم أجد فيها من حكى هذا القول عن أحد من الطوائف وإنما مراد أئمة هذا القول من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم من الصفاتية بنفي ذلك ما ينفونه عن الجسم المطلق وهو أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث لا يكون له قدر وحد وجوانب ونهاية ولا عين قائمة بنفسها يمكن أن يشار إليها أو يشار إلى شيء منها دون شيء ولا يمكن أيضا عند التحقيق أن يرى منه شيء دون شيء وهذا عندهم نفي الكم والمساحة وأما غير الصفاتية فيريدون أنه لا صفة له إذ وجود الصفات يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب كما سيأتي بيان قولهم فيه وهؤلاء ينفون التجسيم والتشبيه وهم متناقضون في ذلك عند النفاة والمثبتة الذين يخالفونهم كما أن النفاة تثبت موجودا مطلقا مجردا عن الصفات والمقادير وهم في ذلك متناقضون عند جماهير العقلاء وكذلك من أثبت أنه حي عالم قادر ونفي الصفات كانت متناقضا عند جماهير العقلاء ومن أثبت من الصفاتية الخبرية كالوجه واليدين مع نفي التجسيم والتشبيه هم متناقضون في ذلك عند من يخالفهم من الصفاتية والمثبتة كما هو قول ابن كلاب والأشعري وغيرهما ثم متكلمة أهل الحديث وفقهاؤهم الذين يوافقون هؤلاء على النفي مع إثبات المعاني الواردة في آيات الصفات وأحاديثها هم متناقضون في ذلك عند هؤلاء ولهذا لما صنف القاضي أبو يعلى كتابه الذي سماه كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وقال في أوله أحمده حمدا يرضيه وأستعينه على أوامره ونواهيه وابرأ إليه من التجسيم والتشبيه وصار في عامة ما يذكره من أحاديث الصفات يقر الحديث على ما يقول إنه ظاهره ومقتضاه مع قوله بنفي التجسيم كما يقول سائر الصفاتية في الوجه واليد وكما يقولونه في العلم والقدرة ونحو ذلك وهذا تناقض عند أكثر أهل الإثبات والنفي ولهذا صار في أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من يشهد بتناقضه إما مائلا إلى النفي كرزق الله التميمي وابن عقيل وابن الجوزي وغيرهم وأما مائلا إلى الإثبات كطوائف أجل وأكثر من هؤلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم وطوائف آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم يوافقونه على مجمل ما ذكره وإن نازعوه في بعض المواضع وهؤلاء أكثر وأجل من المائلين إلى النفي كالشريف أبي جعفر وأبي الحسن القزويني والقاضي أبو الحسين وأبي وإن كانو يخالفونه في أشياء مما أثبتها إما لضعف الحديث أو لضعف دلالته وأما التشبيه فهو في اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل والمتشابهان هما المتماثلان وهما ما سد أحدهما سد صاحبه وقام مقامه وناب منابه وبينهم نزاع في إمكان التشابه الذي هو التماثل من وجه وهل التشابه الذي هو التماثل بنفس الذوات أو بالصفات القائمة بالذوات وهذا التشبيه أيضا منتف عن الله وإنما خالف فيه المثبتة الممثلة الذين وصفهم الأئمة وذموهم كما قال الإمام أحمد المشبه الذي يقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي ومن قال هذا فقد شبه الله بخلقه وكما قال إسحاق وأبو نعيم ومحققو المتكلمين على أن هذا التشابه الذي هو التماثل لا يكون بالموافقة في بعض الصفات بل الموافقة في جميع الصفات الذاتية التي بها يقوم بها أحدهما مقام الآخر وأما التشبيه في اللغة فإنه قد يقال بدون التماثل في شئ من الحقيقة كما يقال للصورة المرسومة في الحائط إنها تشبه الحيوان ويقال هذا يشبه هذا في كذا وكذا وإن كانت الحقيقتان مختلفتين ولهذا كان أئمة أهل السنة ومحققو أهل الكلام يمنعون من أن يقال لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فأن مقتضى هذا كونه معدوما ومنهم طوائف يطلقون هذا لكن من هؤلاء من يريد بنفي التشابه نفي التماثل فلا يكون بينهما خلاف معنوي إذ هم متفقون على نفي التماثل بوجه من الوجوه كما دل على ذلك القرآن كما قد بيناه في غير هذا الموضع كما يعلم أيضا بالعقل وأما النفاة من الجهمية وأشباههم فلا يريدون بذلك إلا نفي الشبه بوجه من الوجوه وهذا عند كل من حقق هذا المعنى لا يصلح إلا للمعوم وقد قرر ذلك غير واحد من أئمة المتكلمين حتى أبو عبد الله الرازي كما سنذكر كلامه في ذلك وكذلك لفظ التجسيم هو كلفظ التأليف والتركيب والتبعيض والتجزئة من معناه ما هو متفق على نفيه بين المسلمين ومنه ما هو متفق على نفيه بين علماء المسلمين من جميع الطوائف إلا ما يحكى عن غلاة المجسمة من أنهم يمثلونه بالأجسام المخلوقة وأما المعنى الخاص الذي يعنيه النفاة والمثبتة الذين يقولون هو جسم لا كالأجسام فهذا مورد النزاع بين أئمة أهل الكلام وغيرهم وهو الذي يتناقض سائر الطواف من نفاته لإثبات ما يستلزمه كما يتناقض مثبتوه مع نفي لوازمه ولهذا كان الذي عليه أئمة الإسلام إنهم لا يطلقون الألفاظ المبتدعة المتنازع فيها لا نفيا ولا إثباتا إلا بعد الاستفسار والتفصيل فيثبت ما أثبته الكتاب والسنة من المعاني وينفي ما نفاه الكتاب والسنة من المعاني والمقصود هنا أن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالأضرار من دين الإسلام ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون وإن كان فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسول فهم مع زعمهم أنهم الموحدون ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسولهبل التوحيد اللذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا فقد وحده ومن عبد من دونه شيئا من الأشياء فهو مشرك به ليس بموحد مخلص له الدين وإن كان مع ذلك قائلا بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد حتى لو أقر بأن الله وحده خالق كل شئ وهو التوحيد في الأفعال الذي يزعم هؤلاء المتكلمون أنه يقر أن لا إله إلا هو ويثبتون بما توهموه من دليل التمانع وغيره لكان مشركا وهذه حال مشركي العرب الذين بعث الرسول إليهم ابتداءا وأنزل القرآن ببيان شركهم ودعاهم إلى توحيد الله وإخلاص الدين له فإنهم كانوا يقرون بإن الله وحده هو الذي خلق السموات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في القرآن كما في قوله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وفي قوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال ابن عباس تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره فهذا الشرك المذكور في القرآن في مواضع كثيرة المضاد للإخلاص والتوحيد كما في حديث جابر وابن عمر وسعد وغيرهم وقد بسطنا الكلام في هذا في غير الموضع والتوحيد الذي جاء به الرسول يتناول التوحيد في العلم والقول وهو وصفه بما يوجب أنه في نفسه أحد صمد لا يتبعض ويتفرق فيكون شيئين وهو واحد متصف بصفات تختص به ليس له فيها شبيه ولا كفؤ والتوحيد في الإدارة والعمل وهو عبادته وحده لا شريك له وقد أنزل الله سورتي الإخلاص قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد الواحدة في توحيد العمل ولهذا كان القول فيها لا أعبد ما تعبدون وهي جملة إنشائية فعلية والأخرى في توحيد العلم وهي قوله قل هو الله أحد وبهذا كان القول جملة خبرية اسمية والكلام إما إنشاء وإما إخبار فالإخبار يكون عن العلم والإنشاء يكون عن الإرادة ولهذا قال الله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقال قل إنما يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون وقال قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد وقال وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وقال وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إلى قوله أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وفي القرآن من نفي الألوهية عن غيره من المخلوقات وإثباتها له وحده ما لا يحصى إلا بكلفة كقوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون مع المعذبين ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شئ هالك إلا وجهه رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذوه وكيلا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن أفترى على الله كذبا لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا فاعلم أنه لا إله إلا هو إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ونحو ذلك مما يتضمن وحدانيته في الإلهية فلا يجوز أن يكون إله معبود إلا هو والإلهية تتضمن استحقاقه للعبادة والدعاء لا أنها بمعنى القدرة على الاختراع كما يذكر ذلك عن الأشعري فإن هذا هو الربوبية التي كان المشركون يقرون بها ولهذا خاطبني بعض الأعيان من الفضلاء المتفلسفين وأخذ يقول إن الفلاسفة يوحدون وأنهم من أعظم الناس توحيدا ويفضلهم على النصارى في التوحيد فبينت له أن الأمر ليس كذلك بل النصارى في التوحيد خير منهم وأنهم مشركون لا موحدون فقلت الفلاسفة الذين تذكرهم إما مشركون يوجبون الشرك ويوالون عليه ويعادون وإما صابئون يسوغون الشرك ويجوزون عبادة ما سوى الله وكتبهم مشحونة بهذا ولهذا كان أحسن أحوالهم أن يكونوا صابئة أو هم علماء الصابئة وهل كان نمرود وقومه وفرعون وقومه وغير هؤلاء إلا منهم وهل عبدت الكواكب وبينت لها الهياكل كل وأصنامها إلا برأي هؤلاء المتفلسفة بل وهل عبد الصالحون وعكف على قبورهم ومثلت صورهم إلا بآرائهم حتى الذين كانوا متظاهرين بالإسلام منهم قد صنفوا في الإشراك بالله وعباده الكواكب والأصنام وذكروا ما في هذا الشرك من الفوائد وتحصيل المقاصد وبالاضطرار يعلم من عرف دين الرسل محمد وغيره أنهم إنما بعثوا بالنهي عن هذا الإشراك وجميع الرسل بعثوا بذلك كما قال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال وما أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقد اتفق المسلمون على أن دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى خير من دين من لا كتاب له من المشركين والصابئين وغيرهم والعلماء على تنوع أصنافهم من الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأرباب المقالات وأن اختلفوا في الصابئين فلتنوعهم ولهذا كان للفقهاء فيهم طريقان أحدهما أن في كونهم من أهل الكتاب قولين للشافعي وأحمد والطريق الثاني أنهم صنفان فمن تدين منهم بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا هذا هو المختار عندهم وأما الشرك الذي في النصارى فإنما ابتدعوه تشبها بأولئك فكان فيهم قليل من شرك أولئك قال تعالى وقالت اليهود عزيز ابن عبد الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل كالذين قالوا الملائكة أولاد الله كما يقوله هؤلاء المتفلسفة الصابئون فإنهم كانوا قبل النصارى قلت وأما التوحيد الذي يذكر عن الفلاسفة من نفي الصفات فهو مثل تسمية المعتزلة لما يقولونه توحيدا وهذا في التحقيق تعطيل مستلزم للتمثيل والإشراك وأما النصارى فهم لا يقولون إن ثم إلهين متباينين بل يقولون قولا متناقضا حيث يجعلون الثلاثة واحدا ويجعلون الواحد هو المتحد بالمسيح دون غيره مع عدم إمكان تحيز واحد عن غيره وهذا الكفر دون كفر الفلاسفة بكثير وتكلمت في ذلك بكلام بعد عهدي به وفساد هذا وتناقضه أعظم حتى لقد قال عبد الله بن المبارك إنا لنحكي قول اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وهذا يتبين بما نقوله وهو أن ما فسر به هؤلاء اسم الواحد من هذه التفاسير التي لا أصل لها في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة باطل بلا ريب شرعا وعقلا ولغة أما في اللغة فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب ولا يرى منه شئ دون شيء إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالأضرار في لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيرا من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسما إذ المخلوقات إما أجسام وإما أعراض عند من يجعلها غيرها وزائدة عليها وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحدا امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شئ منه دون شئ وسيأتي بيان هذا ونذكر ما في اللغة في ذكر الواحد مع كونه موصوفا ذا مقدار بل لا يوجد في اللغةاسم واحد إلا على ذي صفة ومقدار لقوله تعالى الذي خلقكم من نفس واحدة وقال ذرني ومن خلقت وحيدا وقال وإن كانت واحدة فلها النصف وسئل النبي ﷺ يصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أو كلكم ثوبان وقال لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ وسيأتي بسط هذا إن شاء الله وأما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل ولا له وجود في الخارج وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شئ موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز منه شئ عن شئ بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن سماه المسمي جسما وأيضا فإن التوحيد إثبات لشئ هو واحد فلا بد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها ويتميز بها عما سواه حتى يصح أنه ليس كمثله شئ في تلك الأمور الثبوتية ولا مجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو حقيقة يستحق بها واحدا ولهذا فسر ابن كلاب وغيره الواحد بأنه المنفرد عن غيره المباين له وهذا المعنى داخل في معنى الواحد في الشرع وإن لم يكن إياه ولذلك أهل الإثبات من أهل السنة والحديث يصنفون كتب التوحيد يضمنونها ثبوت الصفات التي أخبر بها الكتاب والسنة لأن تلك الصفات في كتابه تقتضي ثبوت الصفات التي أخبر بها الكتاب والسنة لأن تلك الصفات في كتبه تقتضي التوحيد ومعناه وأما الشرع فنقول مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم تعرف مسميات تلك الأسماء حتى يعطوها خقها ومن المعلوم بالأضرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية واتباعها ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين قال الإمام عثمان بن سعيد الدرامي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد وذكر أن بعض من كان بنواحيه ممن أظهر معارضة السنة والآثار بكلام بشر المريسي وصنف في ذلك إلى أن قال افتتح هذا المعارض كتابه بكلام نفسه منشأ لكلام المريسي مدلسا على الناس بما يوهم أنه يحكي ويرى من قبله من الجهال ومن حواليه من الأغمار أن مذاهب جهم والمريسي في التوحيد كبعض اختلاف الناس في الأيمان في القول والعمل والزيادة والنقصان وكاختلافهم في التشيع والقدر ونحوهما كيلا ينفروا من مذاهب جهم والمريسي أكثر من نفورهم من كلام الشيعة والمرجئة والقدرية قال وقد أخطأ المعارض محجة السبيل وغلط غلطا كثيرا في التأويل لما أن هذه الفرق لم يكفرهم العلماء بشيء من اختلافهم والمريسي وجهم وأصحابهما لم يشك أحد منهم في أكفارهم سمعت محبوب بن الحسن الانطاكي أنه سمع وكيعا يكفر الجهمية وكتب ألي علي بن خشرم أن ابن المبارك يخرج الجهمية من عداد المسلمين وسمعت يحيى بن يحيى وأبا توبة وعلي بن المديني يكفرون الجهمية ومن يدعي أن القرآن مخلوق فلا يقيس الكفر ببعض اختلاف هذه الطرق إلا امرؤ جهل العلم ولم يوفق فيه لفهم فادعى المعارض أن الناس قد تكلموا في الأيمان وفي التشيع والقدر ونحوه ولا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير الصواب إذ جميع خلق الله تدرك بالحواس الخمس اللمس والشم والذوق والبصر بالعين والسمع والله بزعم المعارض لا يدرك بشيء من هذه الخمس قال فقلنا لهذا المعارض الذي لا يدي كيف يتناقض أما قولك لا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير الصواب فقد صدقت وتفسير التوحيد عم الأمة وصوابه قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له التي قال رسول الله ﷺ من جاء بها مخلصا دخل الجنة أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله من قالها فقد وحد الله وكذلك روى جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ أنه أهل بالتوحيد في حجة الوداع فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن حاتم ابن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر فهذا تأويل التوحيد وصوابه عن الأمة فمن أدخل الحواس الخمس أيها المعارض في صواب التأويل من أمة محمد ومن عداها فأشر إليه غير ما ادعيتم فيه من الكذب على ابن عباس من رواية بشر المريسي ونظرائه ولمن تأول في التوحيد غير الصواب لقد تأولت أنت فيه غير الصواب إذ ادعيت أن الله لا يدرك ولن يدرك بشيء من هذه الحواس الخمس إذ هو في دعواك لا شيء والله مكذب من ادعى هذه الدعوى في كتابه إذ يقول عز وجل وكلم الله موسى تكليما ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم فاخبر في كتابه أن موسى أدرك منه الكلام سمعه وهو أحد الحواس عندك وعندنا ويدرك في الآخرة بالنظر إليه بالأعين وهي الحاسة الثانية كما قال الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناضرة كما قال رسول الله ﷺ ترون ربكم يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر جهرا لا تضامون في رؤيته وروى عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله ﷺ ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فذاك الناطق من قول الله وهذا الصحيح المشهور من قول رسول الله ﷺ فأي صواب أبين من هذا فلذلك قلنا إن المعارض قد تأول فيه غير الصواب وروى أبو عبد الرحمن السلمي في ما صنفه في ذم الكلام ما ذكره أيضا من طريقه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهري في تصنيفه المشهور في ذلك قال أبو عبد الرحمن سمعت أبا نصر أحمد بن خالد السجزي يقول سمعت أبي يقول قلت لأبي العباس ابن سريح ما التوحيد قال توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي ﷺ بإنكار ذلك وفي النفي الذي يذكر النفاة ويفسرون به اسم الله الواحد وغير ذلك هو عند أهل السنة والجماعة مستلزم العدم مناف لما وصف به نفسه في كتابه من أنه الأحد الصمد وأنه العلي العظيم وأنه الكبير المتعال وأنه استوى على العرش وأنه يصعد إليه ويوقف عليه وأنه يرى في الآخرة كما ترى الشمس والقمر وأنه يكلم عباده وأنه السميع البصير وقوله وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه وهو لا يكون له قدر في نفسه وإنما قدره عندهم في القلوب وكذلك لا يكون له في نفسه عظمة وإنما عظمته في النفوس وذلك يظهر بالكلام على حجته وذلك من وجوه أحدها أنه قال الجسم أقله أن يكون مركب من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحد مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيا للجسمية يقال له هذا يقتضي أن شيئا مما يقال له جسم لا يوصف بالوحدة حيث قلت إن الجسم مركب وذلك ينافي الوحدة ومعلوم أن هذا خلاف ما في الكتاب والسنة وخلاف لغة العرب قال الله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم وحواء خلقت من ضلع آدم القصيراء من جسده خلقت لم تخلق من روحه حتى يقول القائل الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم وجسد آدم جسم من الأجسام وقد سماها الله نفسا واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله ذذرني ومن خلقت وحيدا فإن الوحيد مبالغة في الواحد فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فأنه واحد أولى ومع هذا فهو جسم من الأجسام وقال تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف فوصف المرأة بأنها واحدة وهذا جسم موصوف بالوحدة حيث لم يكن لها نظير في كونه بنتا لهذا الميت وقال تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله وقال تعالى ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا الآيات وقال تعالى قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه والفرد والوتر من جنس لفظ الواحد وقد قال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وقال تعالى ونرثه ما يقول ويأتينا فردا وقال تعالى فجاءت إحداهما تمشي على استحياء إلى قوله قالت يا أبت استأجره وقد قال تعالى بعثناهم ليتسألوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه وقال تعالى أيود أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا وقال تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وقال وآتيتم أحداهن قنطارا وقال تعالى أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب وقال تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى في موضعين وفي الصحيح أن النبي ﷺ سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد فقال اولكلكم ثوبان وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس عاتقه منه شيء بل في الصحيح من لفظ النبي ﷺ قال لا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء وفي الصحيح عن عمر بن أبي سلمة قال رأيت رسول الله ﷺ يصلي في ثوب واحد مشتملا به وفي حديث المتلاعنين الذي في الصحيح عن النبي ﷺ قال الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب وفي الصحيح عن سلمان بن صرد قال استب رجلان عند النبي ﷺ فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه فقال النبي ﷺ إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وفي حديث إبراهيم اللهم أنت واحد في السماء وأنا واحد في الأرض وفي الصحيح عن ابن عباس قال مر النبي ﷺ على قبرين فقال إنهما يعذبان ومايعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة وفي السنن عن النبي ﷺ قال إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يناجي ربه وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إذا أستيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان وفي الصحيحين عنه النبي ﷺ من حديث ابن عباس وهو البخاري من حديث أبي برزة أن النبي ﷺ إذا أصصبح يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى وفي لفظ البخاري إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه وفي لفظ مسلم ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب أن يستقبل فينتخع في وجهه فإذا تنخع أحدكم وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته وفي صحيح البخاري عن جابر قال كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول إذا هم أحدكم بالأمر وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ يستجاب لأحدكم ما لم يعجل وفيها أنه قال لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه وفي رواية لأن يأخذ وفي الصحيحين قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه وفي الصحيحين أيضا أنه قال لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه وفيهما عن النبي ﷺ وما تصدق أحد بصدقه من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستديرها وفي الصحيحين إنه قال إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض بداخله إزاره الحديث وفيهما إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه وفيهما لا يقولن أحدكم أسق ربك وضيء ربك وفيهما أنه قال بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي وفيهما لا يمشي أحدكم في نعل واحد وفيهما إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا وفيهما أنه قال مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع وفيهما أنه قال إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبه في داره وفي الصحيحين لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له فحذفته بحصاة فقأت عينه ما كان عليك جناح وفي الصحيحين عن أبي بكر قال قلت لرسول الله أينطلق أحدنا إلى منى ومذاكيره تقطر منيا وفي الصحيحين أيضا أنه قال لا يضربن أحدكم امرأته ضرب العبد ثم يجامعها بالليل وفي الصحيحين أنه قال لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه وفيهما أيضا أنه قال إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث وفي الصحيحين عنه أنه قال لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده وفيهما أنه قال السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه وفي الصحيحين أنه قال لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة لاألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها يعار لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته لها صياح رقاق تحقق لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت وفيهما أنه قال أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام وفيهما أنه قال لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وفيما أنه قال لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب وفيهما أنه قال إذا صلى أحدكم للناس فليخفف وفيهما أنه قال: إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة بعشر أمثالها الحديث وفيهما أنه قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد وفيهما أنه قال إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من اسفل منه وفيهما في حديث داود فذهب الذئب بابن إحداهما وفيهما أنه قال نعم ما لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده وفيهما إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وفي لفظ إذا أصبح أحدكم صائما وفيه فإن شاتمه أو قاتله أحد فليقل إني صائم وفيهما عن أبي هريرة اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر وفيهما عنه ﷺ قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد وفيهما عنه أنه قال إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه وفي مسلم إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم وفي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إذا قام أحدكم يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس الوجه الثاني أن الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها بل قد نزل بلغة قريش كما قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وقال بلسان عربي مبين فليس لأحد يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص بل لا يحمله إلا على معاني عنوها بها إما من المعنى اللغوي أو أعم أو مغايرا له لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو بل يضع القرآن على مواضعه التي بينها الله لمن خاطبه بالقرآن بلغته ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفا للكلام عن مواضعه ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها كما أن من المتكلمين من يقول الأحد هو الذي لا ينقسم وكل جسم منقسم ويقول الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة حتى يدخل في ذلك الهواء وغيره لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي ﷺ يخاطب بها أمته وهي لغة العرب عموما ولغة قريش خصوصا ومن المعلوم المتواتر في اللغة الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون درهم واحد ودينار واحد ورجل واحد وامرأة واحدة وشجرة واحدة وقرية واحدة وثوب واحد وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد فيقولون رجل واحد ورجلان اثنان وثلاثة رجال وأربعة رجال وهذا من أظهر اللغة واشهرها وأعرفها فكيف يجوز أن يقال أن الوحدة لا يوصف بها شيء من الأجسام وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام وتحريف هؤلاء للفظ الواحد كتحريفهم للفظ المثل كما نذكره إن شاء الله الوجه الثالث أن أهل اللغة قالوا إسم الأحد لم يجئ اسما في الإثبات إلا لله لكنه مستعمل في النفي والشرط والاستفهام كقوله تعالى في نفس السورة التي ذكرها ولم يكن له كفوا أحد وكقوله تعالى فليعما عملا صالحا ولا يشرك بعباده به أحد وقال وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا وقال تعالى قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا وقال وما لأحد عنده من نعمة تجزى وقال تعالى ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لا أحد أغير من الله وفي السنن من غير وجه أنه قال لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول بيننا وبينكم كتاب الله وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مأة مرة كتبت له مأة حسنة وحط عنه مئة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال أو زد عليه وفي الصحيحين أن النبي ﷺ لما فتح مكة خطب الناس فقال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمسلمين وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما حلت لي ساعة من نهار وفي رواية فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ﷺ فقولوا إنما أحلها الله لرسوله ولم يحلها لك وفي الصحيحين أيضا عنه أنه قال أحلت لنا الغنائم ولم تحل لأحد قبلنا وقال النابغة... وقفت فيها أصيلانا أسائلها... عيت جوابا وما بالربع من أحد... إلا الأواري لأيامنا أبينها... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد... فلو كان لفظ الأحد لا يقع على جسم أصلا لكان التقدير ولم يكن ما ليس بجسم كفوا له وهذا عنده ليس إلا الجوهر الفرد عند من يقول به فيكون المعنى لم يكن الجوهر فرد كفوا له وأما سائر الموجودات فلم ينف مكافأتها له ولا أشرك بربي ما ليس بجسم ولن يجيرني من الله ما ليس بجسم ومعلوم أن عامة ما يعلم من القائمة بأنفسها هي أجسام كأجسام بني آدم وغيرهم والأرواح تدخل في مسمى ذلك عند عامة المسلمين وإن لم تدخل عند بعضهم ومن المعلوم أن الله لم ينه عن أن يشرك به ما ليس بجسم فقط بل نهيه عن أن يشرك به الأجسام أيضا لا سيما وعامة ما أشرك به من الأوثان والشمس والقمر والنجوم إنما هي أجسام وفي السنن حديث أبي بكر الصديق لما أستأذنه أبو بردة في قتل بعض الناس فقال إنها لم تكن لأحد بعد رسول الله ﷺ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة وفي لفظ لن ينجو أحد منكم بعمله وفيهما أنه قال غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك امرأة وهو يريد أن يبني بها ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها وفيهما أنه قال ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب أو ترجمان وفي الصحيحين أن الأقرع ابن حابس قال للنبي ﷺ أن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا وفي الصحيحين أنه قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة الوجه الرابع أن قوله لأن الجسم أقله أن يكون مركب من جوهرين هذا إنما يتم على رأي المثبتين للجوهر الفرد وإلا فنفاته عندهم الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبا من الجواهر المنفردة وهذا المصنف قد صرح في أشرف كتبه عنده أن هذه المسألة متعارضة من الجانبين وهو لما أقام أدلته على إثبات الجوهر الفرد في هذا الكتاب في مسألة المعاد وزعم أنها قاطعة ثم ذكر المعارضات قال في الجواب أما المعارضات التي ذكروها فأعلم إنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري وهو أحذق المعتزلة توقف فيها منحن أيضا نختار التوقف فإذن لا حاجة بنا إلى جواب عما ذكره فإذا كان أذكى المتأخرين من الأشعرية النافية للصفات الخبرية وأمامهم وهو أبو المعالي وأذكى متأخري المعتزلة وهو أبو الحسين وابن الخطيب إمام متبعيه توقفوا في كون الجسم هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تنقسم أم ليس مركبا منها كانت هذه المقدمة التي استدل بها مما لا يعلم صحتها أفاضل الطوائف المتبوعين الموافقين له فقوله بتسليمهم ذلك حجة فاسدة وأقل ما في ذلك أن هذه المقدمة ممنوعة فلا يسلم له منازعوه أن الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين والنزاع في ذلك بين أهل الكلام بعضهم مع بعض وبين المتفلسفة أيضا مشهور وهو لم يذكر حجة على كونه مركبا فلا يكون قد ذكر دليلا أصلا فإن قيل نفاة الفرد يقولون أنه يقبل التقسيم والتجزئ إلى غير غاية فما من جزء إلا وهو يحتمل التقسيم فيكون عدم الوحدة في الجسم أبلغ على قولهم قيل هؤلاء أن قالوا أن لفظ الواحد لا يقال إلا على ما لا يقبل القسمة وعندهم كل شئ قابل للقسمة فهذا اللفظ عندهم ليس له مسمى معلوم متفق عليه أصلا إذ مورد النزاع فيه من الخفاء والنزاع ما لا يصلح أن يكون اللفظ مختصا به إذ اللفظ المشهور بين العامة والخاصة لا يكون مسماه ما قد تنازع الناس في إثباته ولا يعلم إلا بدقيق النظر إن سلم ثبوته وأيضا فهؤلاء يصرحون بأن الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبا من جوهرين ولا من جواهر وإذا كانوا يصفونه بالوحدة ويمنعون أن يكون مركبا لا من جوهرين امتنع أن تصح هذه الحجة على أصلهم فهذه الوجوه الأربعة تبين بطلان ما ذكره من دلالة اسم الأحد على نفي كونه جسما الوجه الخامس إن الجسم إما أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة وأقل ما يترتب من جوهرين أو لا يكون فإن كان الأول صحيحا بطلت الحجة الثانية التي ذكرها على نفي كونه جوهرا فإنها مبنية على أن الجسم ليس أقله أن يكون مركبا من جوهرين وإن كان باطلا فسدت هذه الحجة التي نفى بها كونه جسما فثبت بطلان إحدى الحجتين وبقيت الحجة الثالثة التي ذكرها لنفي الجوهر الفرد وسنتكلم عليها إن شاء الله وذلك أن الجسم إن كان أقله مركبا من جوهرين فالجوهر ليس بمنقسم بل هو فرد فلا تصح تلك الحجة وإن لم يكن أقله مركبا من جوهرين بطلت هذه الحجة فبطلت إحدى الحجتين إما التي نفى بها التجسيم أو التي نفى بها الجوهر ويلزم من بطلان إحداهما بطلان الأخرى الوجه السادس أن يقال ما ذكرته في منع الجوهر الفرد وأن كل متحيز فهو منقسم قد اعترفت بأن هذه الحجة مكافئة لنظيرها ولم تعلم الحق في ذلك ثم يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد هذا لا يصح على قول هؤلاء فأنتم تقولون الجسم واحد في نفسه كما أنه واحد في الحس وهو واحد مستقل ليس مركبا من الجواهر المنفردة فتصفونه بالوحدة وإن قالوا أنه قابل للانقسام فقبوله للإنقسام عندهم لا يمنع وصفه بالوحدة عندهم وتسميتهم إياه واحدا بل يصفون بالوحدة ما هو أبلغ من ذلك فيقولون واحد واحد بالجنس وواحد بالنوع وواحد بالشخص الوجه السابع أن يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد لم تذكر على هذا دليلا أصلا لا بينة ولا شبهة وهو لم يذكر قبل هذا إلا أن الجسم مركب من جوهرين وقال وذلك ينافي الوحدة وتلك أيضا دعوى لم تقم عليها دليلا ولو ثبت ذلك في ما هو مركب بالفعل لم يثبت فيما هو قابل للقسمة فإن هذا ليس فيه من التعدد ما في ذلك المركب فكيف إذا لم تذكر حجة على شيء من ذلك فأين هذا الثبوت الذي أحال عليه والشيء لا يقال فيه ثبت إلا إذا كان معلوما بالبديهة أو قد أقيمت عليه حجة الوجه الثامن إن طوائف كثيرة من أبناء جنسك المتكلم من الأولين والآخرين يقولون إنه لا موجود إلا جسم أو ما قام به أولا موجود إلا الجسم فقط وأنه لا يعقل موجود إلا كذلك فهؤلاء عندهم إذا فسرت الأحد بما ليس بجسم ولا جوهر يقولون لك فسرته بالمعدوم مثل أن تفسره بما لا يقوم بنفسه أو بغيره أو تفسره بما ليس بخالق ولا مخلوق أو تفسره بما ليس بقديم ولا محدث فتحتاج أولا أن تثبت وجود موجود غير الجسم ليمكنك تفسير لفظ الأحد به وإذ كانت حجتك موقوفة على هذه المقدمة فلو ثبتت هذه المقدمة استغنيت عن هذه الأدلة التي ذكرت إنها سمعية لا تتم الوجه التاسع أن يكون لفظ الأحد لا يقال على الجسم والجوهر ليس نصا في اللغة ولا ظاهرا بل إن كان صحيحا فإنما يعلم بهذه المقدمات الخفية التي فيها نزاع عظيم بين أهل الأرض ومعلوم إن إفهام المخاطبين بمثل هذه الطريق لا يجوز وليس هذا من البلاغ المبين الذي وصف الله به الرسول وقد وصف كتابه بأنه بيانا للناس وليس هذا من البيان في شيء لا سيما والقوم كانوا يستعملون لفظ الواحد والأحد في كلامهم وهم لا يعلمون إلا الجسم أو ما قام به لا يطلقون هذا اللفظ إلا على ذلك فإذا قصد بهذا اللفظ أن يبين لهم أن معناه لا يكون جسما كانوا قد خوطبوا بنقيض معنى لغتهم ولو فرض أن لغتهم لا تنفي هذا فهي لا تدل عليه بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام الظاهر بل بلزوم خفي لا يصلح مثله لدلالة اللفظ فإنه يحتاج أن يقال لهم لفظ الأحد والواحد ينفي العدد فهذا ظاهر ثم يقال لهم وكل ما ترونه وتعلمونه من الموجودات فليس هو واحدا لأن يمينه ليست بيساره وأعلاه ليس هو أسفله وكل ما يتميز منه شيء عن شيء فليس هو بواحد ولا أحد ومعلوم أن هذا لا يخطر ببال عامة الخلق بل لا يتصوره إلا بعد كلفة وشدة وإذا تصوروه أنكرته فطرتهم وأنكروا أن يكون هذا لسانهم الذي خوطبوا به واستلزم ذلك أن يقال الشمس ليست واحدة والقمر ليس واحدا وكل كوكب من هذه الكواكب ليس واحدا وكل سماء من السموات ليست واحدة وكل إنسان ليس بواحد وكل عين ويد ورجل وحاجب وأنف وسن وشفة ورأس وشجرة وورقة وثمرة وغير ذلك ليس واحدا إذ هذا جميعه يميز جانب منه عن جانب وأعلاه عن أسفله الوجه العاشر أن هذه الحجة يحتج بها نفاة الصفات بأسرها الذين يقولون ليس الله علم ولا قدرة ولا حياة فإن تعدد الصفات يمنع أن يكون الموصوف بها أحدا وينافي الوحدة لأن هناك عددا من الصفات والوحدة تنافي العدد ولذا احتج الجهمية المحضة بهذه الحجة كما ذكره الإمام أحمد وغيره وهذا المستدل هو ممن يثبت الصفات في الجملة ويقول بإثبات الصفات السبع من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة فإن كانت هذه الحجة صحيحة لزم إبطال مذهبه ذاك وإن كانت باطلة لزم بطلان هذا الاستدلال وما كان جوابه عن استدلال نفاة الصفات مطلقا بها كان جوابا لمنازعيه في إثبات العلو وما يتبعه بل ذلك يبطل استدلاله بذلك على المجسمة المحضة الوجه الحادي عشر أن يقال أعظم الناس نفيا للصفات غلاة الفلاسفة والقرامطة وأئمتهم من المشركين الصابئين وغيرهم وهم لا بد إذا أثبتوا الصانع أن يثبتوا وجوده ويثبتوا أنه واجب الوجود غير ممكن الوجود وأن أبدع العالم سواء قالوا إنه علة أو والدا أو غير ذلك فمسمى الوجود إن كان هو مسمى الوجوب لزم أن يكون كل موجود واجبا بنفسه وهو خلاف المشهود بالإحساس وإن كان هذا المسمى ليس هذا المسمى ففيه معنيان وجود ووجوب ليس الوجوب مجرد عدم إذ هو توكيد الوجود والعدم المحض لا يؤكد بالوجود فإن كان لفظ الأحد والواحد يمنع تعدد المعاني المفهومة الثبوتية بالكلية كما يزعم ابن سينا وذويه من مرتدة العرب المتبعين لمرتدة الصابئة إنه إذا كان واحدا من كل وجه فيه تعدد من جهة الصفة ولا من جهة القدر ويعبر عن ذلك بأنه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم لزم أن يكون الوجوب والوجود والإبداع معنى واحد وهو معلوم الفساد بالبديهة وإن كان هو نفسه مقسما بالأحد والواحد مع ثبوت هذه المعاني المتعددة علم أن هذا الاسم لا يوجب نفي الصفات بل هو سبحانه أحد واحد لا شبيه له ولا شريك وليس كمثله شيء بوجه من الوجوه وكذلك هو أيضا ذات وهو قائم بنفسه باتفاق الخلائق كلهم وسائر الذوات وكل ما هو قائم بنفسه يشاركه في هذا الاسم ومعناه كما يشاركه في اسم الوجود ومعناه وهو سبحانه يتميز عن سائر الذوات وسائر ما هو قائم بنفسه بما هو مختص به من حقيقته التي تميز بها وانفرد واختص عن غيره كما تميز بوجوب وجوده وخصوص تلك الحقيقة ليس هو المعنى العام المفهوم من القيام بالنفس ومن الذوات كما أن خصوص وجوب الوجود ليس هو المعنى العام المفهوم من الوجود فسواء سمى المسمي هذا تعادا أو تركيبا أو لم يسمه هو ثابت في نفس الأمر لا يمكن دفعه والحقائق الثابتة لا تدفع بالعبارات المجملة المبهمة وأن شنع بها الجاهلون الوجه الثاني عشر قوله أن مثبتة الجوهر الفرد يمكنهم الاحتجاج بهذه الآية على نفي كونه جوهرا فردا من وجه آخر وهو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به نفي الضد والند ولو كان تعالى جوهرا فردا لكان كل جوهر فرد كفوا له يقال هذه الدلالة مشتركة بين جميع الناس نفاة الجوهر وغيرهم فكل أحد يمكنه من ذلك ما أمكن هؤلاء وأيضا فالمطلوب بهذا الدليل وهو نفي كونه جوهرا فردا أمر متفق عليه بين الخلائق كلهم بل هو معلوم بالضرورة العقلية أن رب السموات والأرض ليس في القدر بقدر الجوهر الفرد فإنه عند مثبتيه أمر لا يحسه أحد من حقارته فهو أصغر من الذرة والهباه وغير ذلك فكيف يخطر ببال أحد أن رب العالمين بهذا القدر حتى يحتاج هذا إلى دليل على نفيه ولا ريب أن كونه واحدا يمنع أن يكون له شبيه وكذلك قوله لم يكن له كفوا أحد يمنع الكفؤ فيمنع أن يكون من الجواهر المتماثلة لكن هذه الدلالة إنما تتم إذا كانت الجواهر المنفردة في حقائقها الوجه الثالث عشر قوله وإذا ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات يقال له هذا مما ينازعك فيه كثير من أصحابك وغيرهم من متكلمي الصفاتية ويقولون قد يكون في الجهة ما ليس بجسم وهذا هو الذي سلمته لهم في أشرف كتبك وهو نهاية العقول قال المسألة الثالثة في أنه تعالى ليس في الجهة وقبل الخوض في الاستدلال لا بد من البحث عما لا يكون جسما هل يمكن بعقل حصوله في الجهة أم لا فإن لم يعقل حصوله كانت الدلالة على نفي الجسمية كافية في نفي الجهة قال وزعم من أثبت الجهة ونفي الجسمية أنا نعلم بالضرورة اختصاص الأكوان بالجهات المخصوصة مثل الكون القائم بأعلى الجدار والكون القائم بأسفله ولا يضرنا في ذلك ما يقال الأكوان إنما تحصل في الجهات على طريق التبعية لمحلها لأنا نقول الحصول في الجهة أعم من الحصول في الجهة بالاستقلال أو التبعية وتسليم الخاص يتضمن تسليم العام فإذا سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات على سبيل التبعية فقد سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات ومتى ثبت ذلك أنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسما نفي اختصاصه بالحيز والجهة قال وإذا ثبت ذلك وجب علينا بعد الفراغ من نفي الجسمية عن الله إقامة الدليل على نفي حصوله في الحيز والجهة ثم احتج على ذلك بما تكلمنا عليه في موضعه لما ذكرناه فهذا الكلام وإن كان لمن قال بالأول أن يقول يلزم من نفي كون الشيء جسما أو قائما بجسم نفي اختصاصه بالحيز والجهة لكن المقصود هنا أن كثيرا من الصفاتية أهل الكلام كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وغيرهم من أئمة الصفاتية المتكلمين من يقول ليس بجسم ولا جوهر ويقول مع ذلك إنه فوق العرش كما قرروه في كتبهم لكن من هؤلاء من يطلق لفظ الجهة ومنهم من لا يطلق لفظ الجهة ولفظ الحيز وهذا قول طوائف من الفقهاء أهل المذاهب الأربعة ومن الصوفية وأهل الحديث وغيرهم يجمعون بين نفي الجسم وبين كونه نفسه فوق العرش قال أبو عبد الله الرازي واعلم أنه تعالى كما نص على أنه تعالى واحد فقد نص على البرهان الذي لأجله يجب الحكم بأنه أحد وذلك أنه قال هو الله أحد وكونه إلها يقتضي كونه غنيا عما سواه وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكونه إلها يمنع من كونه مفتقرا إلى غيره وذلك يوجب القطع بكونه أحدا وكونه أحدا يوجب القطع بأنه ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة فثبت أن قوله تعالى هو الله أحد برهان قاطع على ثبوت هذه المطالب قال الشيخ رحمه الله مضمون هذه الحجة الاحتجاج بما في أسمائه من الدلالة على لفظ الغنى على عدم هذه الصفات وقال إن ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها وقال أيضا إن هذه الحجة من جنس حجة الجهمية المحضة على نفي الصفات بأنه لو كانت له علم وقدرة وحياة لكان محتاجا في أن يعلم ويقدر ويتكلم إلى علم وقدرة وكلام وقال إن الغني الصمد هو غني عن مخلوقاته ومصنوعاته لا يصح أن يقال هو غني عن نفسه وذاته وقال إن المخلوق إذا صح تسميته بأنه غني وأنه صمد مع ماله من الصفات ولا ينافي ذلك إطلاق هذا الاسم كيف يصح أن يقال إن تسمية الخالق بهذه الأسماء ينافي هذه الصفات وقال الشيخ رحمه الله ومعنى المركب عندهم أعم من معناه في اللغة فإن المركب والمؤلف في اللغة ما ركبه مركب وألفه مؤلف كالأدوية من المعاجين والأشربة ونحو ذلك وبالمركب ما ركب على غيره أو فيه كالباب المركب في موضعه ونحوه ومنه قوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك وبالتأليف التوفيق بين القلوب ونحو ذلك ومنه قوله تعالى والمؤلفة قلوبهم وقوله وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم أنه عزيز حكيم وقوله إذ كنتم أعداءا فألف بين قلوبكم وللناس اصطلاحات في المؤلف والمركب كما للنحاة اصطلاح فقد يعنون بذلك الجملة التامة وقد يعنون ما ركب تركيب مزج كبعلبك وقد يعنون به المضاف وما يشبهه وهو ما ينصب في النداء وللمنطقيين ونحوهم من أهل الكلام اصطلاحات آخر يعنون به ما دل جزؤه على جزء معناه فيدخل في ذلك المضاف إذا قصد به الإضافة دون العلمية ولا يدخل فيه بعلبك ونحوه ومنهم من يسوي بين المؤلف والمركب ومنهم من يفرق بينهما وهذا كله تأليف في الأقوال وأما التأليف في الأعيان فأولئك إذا قالوا أن الجسم هو المؤلف والمركب لا يعنو به ما كان مفترقا فاجتمع ولا ما يقبل التفريق بل يعنون به ما تميز منه جانب عن جانب كالشمس والقمر وغيرهما من الأجسام وأما المتفلسفة فالمؤلف والمركب عندهم أعم من هذا يدخلون في ذلك تأليفا عقليا لا يوجد في الأعيان ويدعون أن النوع تؤلف من الجنس والفصل فإذا قلت الإنسان حيوان ناطق قالوا إن الإنسان مؤلف من هذين وإنما هو موصوف بهما وأما لفظ الجسم فإن الجسم عند أهل اللغة كما ذكره الأصمعي وأبو عبيد وغيرهما هو الجسد والبدن قال تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كغلظ الجسد ثم يراد به نفس الغليظ وقد يراد به غلظه فيقال لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة ويقال هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف ثم صار لفظ الجسم في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك فيسمون الهواء وغيره من الأمور اللطيفة جسما وإن كانت العرب لا تسمى هذا جسما وبينهم نزاع فيما يسمى جسما هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا يتميز منها شيء إما جواهر متناهية كما يقول النظام والتزم الطفرة المعروفة بطفرة النظام أو هو مركب من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما يقوله أكثر الناس وهو قول الهاشمية والكلابية والنجارية والضرارية وكثير من الكرامية على ثلاثة أقوال وكثير من الكتب ليس فيها إلا القولان الأولان والصواب أنه ليس مركبا لامن هذا ولا من هذا كما قد بسط في موضعه والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم والنظار كلهم متفقون فيما أعلم على أن الجسم يشار إليه وأن اختلفوا في كونه مركبا من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة أولا من هذا ولا من هذا وقد تنازع العقلاء أيضا هل يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يمكن أن يرى على ثلاثة أقوال فقيل لا يمكن ذلك بل هو ممتنع وقيل بل هو ممتنع في المحدثات الممكنة التي تقبل الوجود والعدم دون الواجب وقيل بل ذلك ممكن في الممكن والواجب وهذا قول بعض الفلاسفة ومن وافقهم من أهل الملل ومثبتو ذلك يسمونها المجردات والمفارقات وأكثر العقلاء يقولون إنما وجود هذه في الأذهان لا في الأعيان وإنما يثبت من ذلك وجود نفس الإنسان التي تفارق بدنه وتتجرد عنه فإذا عرف تنازع النظار في حقيقة الجسم فلا ريب أن الله سبحانه ليس مركبا من الأجزاء المنفردة ولا من المادة والصورة ولا يقبل سبحانه التفريق والاتصال ولا كان متفرقا فاجتمع بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فهذه المعاني المعقولة من التركيب كلها منتفية عن الله تعالى لكن المتفلسفة ومن وافقهم تزيد على ذلك وتقول إذا كان موصوفا بالصفات كان مركبا وإذا كانت له حقيقة ليست هي مجرد الوجود كان مركبا فيقول لهم المسلمون المثبتون للصفات النزاع ليس في لفظ المركب فإن هذا اللفظ إنما يدل على مركب ركبه غيره ومعلوم أن فلانا لا يقول أن الله تعالى مركب بهذا الاعتبار وقد يقال لفظ المركب على ما كانت أجزاؤه متفرقة فجمع إما جمع امتزاج وإما غير امتزاج كتركيب الأطعمة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس من أجزائها ومعلوم نفي هذا التركيب عن الله ولا نعلم عاقلا يقول أن الله تعالى مركب بهذا الاعتبار وكذلك التركيب بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وهو التركيب الجسمي وهذا أيضا منتف عن الله تعالى والذين قالوا أن الله جسم قد يقول بعضهم أنه مركب هذا التركيب وإن كان كثير منهم بل أكثرهم ينفون ذلك ويقولون إنما نعني بكونه جسما أنه موجود أو قائم بنفسه وأنه يشار إليه أو نحو ذلك لكن بالجملة هذا التركيب وهذا التجسيم يجب تنزيه الرب عنه وأما كونه سبحانه ذاتا مستلزمة لصفات الكمال له علم وقدرة وحياة فهذا لا يسمى مركبا فيما يعرف من اللغات وإذا سمى هذا مركبا لم يكن النزاع معه في اللفظ بل في المعنى العقلي ومعلوم أنه لا دليل على نفي هذا كما قد بسط في موضعه بل الدلالة العقلية توجب إثباته ولهذا كان جميع العقلاء مضطرين إلى إثبات معن متعددة لله تعالى فالمعتزلي يسلم أنه حي عالم قادر ومعلوم أن كونه حيا ليس هو معنى كونه عالما ومعنى كونه عالما ليس معنى كونه قادرا والمتفلسف يقول إنه عاقل ومعقول وعقل ولذيذ ومتلذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ومعلوم بصريح العقل أن كونه يحب ليس كونه محبوبا وكونه معلوما ليس معنى كونه عالما ومعنى كونه قادرا مؤثرا فاعلا وذلك هو نفس ذاته فيجعل العلم هو القدرة وهو الفعل وتجعل القدرة هي القادر والعلم هو العالم والفعل هو الفاعل وهذه الأقوال صريح العقل ومجرد تصورها التام يكفي في العلم بفسادها وليس فرارهم إلا من معنى التركيب وليس معهم قط حجة على نفي مسمى التركيب بجميع هذه المعاني بل عمدتهم أن المركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه بل يكون معلوما وهذه الحجة ألفاظها كلها مجملة فلفظ الواجب بنفسه يراد به الذي لا فاعل له فليس له علة فاعلة ويراد به لذي لا يحتاج شيء إلى مباين له ويراد به القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مباين له وعلى الأول والثاني فالصفات واجبة الوجود والبرهان إنما قام على أن الممكنات لها فاعل واجب الوجود قائم بنفسه أي غني عما سواه والصفة ليست هي الفاعل وقوله إذا كانت له ذات وصفات كان مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره فلفظ الغير مجمل يراد بالغير المباين فالغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود وهذا اصطلاح الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ويراد بالغيرين ما ليس أحدهما الآخر أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر وهذا اصطلاح طوائف من المعتزلة والكرامية وغيرهم وأما السلف كالإمام أحمد وغيره فلفظ الغير عندهم يراد به هذا ويراد به هذا ولهذا لم يطلقوا القول بأن علم الله غيره ولا أطلقوا القول بأنه ليس غيره ولا يقولون هو هو ولا هو غيره بل يمتنعون عن إطلاق المجمل نفيا وإثباتا لما فيه من التلبيس فإن الجهمية يقولون ما سوى الله مخلوق وكلامه غيره فيكون مخلوقا فقال أئمة السنة إذا أريد بالغير والسوى ما هو مباين له فلا يدخل علمه وكلامه في لفظ الغير والسوى كما لم يدخل في قول النبي ﷺ من حلف بغير الله فقد أشرك وقد ثبت في السنة جواز الحلف بصفاته كعزته وعظمته فعلم فعلم أنها لا تدخل في مسمى الغير عند الإطلاق وإذا أريد بالغير أنه ليس هو إياه فلا ريب أن العلم ليس هو العالم والكلام ليس هو المتكلم وكذلك لفظ افتقار المفعول إلى فاعله ونحو ذلك ويراد به التلازم بمعنى أنه لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر وإن لم يكن أحدهما مؤثرا في الآخر كالأمور المتضايقة مثل الأبوة والبنوة والمركب قد عرف ما فيه من الإشراك فإذا قال القائل لو كان عالما لكان مركبا من ذات وعلم فليس المراد به أن هذين كانا مفترقين فاجتمعا ولا أنه يجوز مفارقة أحدهما بل المراد أنه إذا كان عالما فهناك ذات وعلم قائم بها وقوله والمركب مفتقر إلى أجزائه فمعلوم أن افتقار المجموع إلى أبعاضه ليس بمعنى أن بعض فعله أو وجدت دونه وأثرت فيه بل المعنى أنه لا يوجد إلا بوجود المجموع ومعلوم أن الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن ممتنعا بل هذا هو الحق فإن نفس الواجب لا يستغني عن نفسه وإذا قيل هو واجب بنفسه فليس المراد أبدعت وجوده بل المراد أن نفسه موجودة بنفسها لم تفتقر إلى غيره في ذلك ووجوده واجب لا يقبل العدم بحال فإذا قيل مثلا العشر مفتقر إلى العشرة لم يكن في هذا افتقار لها إلى غيرها وإذا قيل هي مفتقرة إلى الواحد الذي هو جزؤها لم يكن افتقارها إلى بعضها أعظم من افتقارها إلى المجموع التي هي هو وإذا لم يكن ذلك ممتنعا بل هو الحق فأنه لا يوجد جزئه والدليل إنما دل على أن الممكنات لها مبدع واجب بنفسه خارج عنها أما كون ذلك المبدع مستلزما لصفاته أو لا يوجد إلا متصفا بصفات الكمال فهذا لم ينف بحجة أصلا ولا هذا التلازم سواء سمي فقرا أو لم يسم مما ينافي كون المجموع واجبا قديما أزليا لا يقبل العدم بحال وأيضا فتسمية الصفات القائمة بالموصوف جزءا له ليس هو من اللغة المعروفة إنما هو اصطلاح لهم كما يسمون الموصوف مركبا وإلا فحقيقة الأمر أن الذات المستلزمة للصفة لا توجد إلا وهي متصفة بالصفة وهذا حق وإذا تنزل إلى اصطلاحهم المحدث وسمي هذا جزءا فالمجموع لا يوجد إلا بوجود جزئه الذي هو بعضه وإذا قيل هو مفتقر إلى بعضه لم يكن هذا إلا دون قول القائل هو مفتقر إلى نفسه الذي هو المجموع وإذا كان لا محذور فيه فهذا أولى وإذا قيل أجزاؤه غيره والواجب لا يفتقر إلى غيره قيل إن أردت أن جزئه مباين له وأنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه من الوجوه فهذا باطل فليس جزؤه غيره بهذا التفسير وإن أردت أنه يمكن العلم بأحدهما دون العلم بالآخر كما نعلم أنه قادر قبل العلم بأنه عالم ونعلم الذات قبل العلم بصفاتها فهو غيره بهذا التفسير وقد علم بصريح العقل أنه لا بد من إثبات معان هي أعيان بهذا التفسير وإلا فكونه قائم بنفسه ليس هو كونه عالم وكونه عالما ليس كونه حيا وكونه حيا ليس كونه قادرا ومن جعل هذه الصفة هي الأخرى وجعل الصفات كلها هي الموصوف فقد انتهى في السفسطة إلى الغاية وليس هذا إلا كمن قال السواد هو والبياض والسواد والبياض هو الأسود والأبيض ثم هؤلاء الذين نفوا المعاني التي يتصف بها كلهم متناقضون يجمعون في قولهم بين النفي والإثبات وقد جعلوا هذا أساس التعطيل والتكذيب بما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول والمقصود هنا أن من نفى الجسم وأراد به نفي التركيب من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة فقد أصاب في المعنى لكن منازعوه يقولون هذا الذي قلته ليس هو مسمى الجسم في اللغة ولا هو أيضا حقيقة الجسم الاصطلاحي وإن كان منازعوه ممن ينفي التركيب من هذا وهذا فالفريقان متفقان على تنزيه الرب عن ذلك لكن أحدهما يقول نفي الجسم لا يفيد هذا التنزيه وإنما يفيده لفظ هذا التركيب ونحوه والآخر يقول بل لفظ الجسم يفيد هذا التنزيه ومن قال هو جسم فالمشهور عن نظار الكرامية وغيرهم ممن يقول هو جسم أنه يفسر ذلك بأنه الموجود أو القائم بنفسه لا بمعنى المركب وقد اتفق الناس على أن من قال أنه جسم وأراد هذا المعنى فقد أصاب في المعنى لكن إنما يخطؤه في اللفظ أما من يقول الجسم هو المركب فيقول أخطأت استعملت لفظ الجسم في القائم بنفسه أو الموجود وأما من يقول بأن كل جسم مركب فيقول تسميتك لكل موجود أو قائم بنفسه جسما ليس هو موافقا للغة العرب المعروفة ولا تكلم بهذا اللفظ أحد من السلف والأئمة ولا قالوا أن الله جسم فأنت مخطئ في اللغة والشرع وإن كان المعنى الذي أردته صحيحا قال الرازي وأما قوله الله الصمد فالصمد هو السيد المصمود إليه في الحوائج وذلك يدل على أنه ليس بجسم وعلى أنه غير مختص بالحيز والجهة أما بيان دلالته على نفي الجسمية فمن وجوه الأول إن كل جسم فهو مركب وكل مركب فهو محتاج إلى واحد من أجزائه وكل من أجزائه غيره فكل مركب فهو محتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير لا يكون غنيا فلم يكن صمدا مطلقا قال الشيخ رحمه الله والاسم الصمد فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن إنها مختلفة وليس كذلك بل كلها صواب والمشهور منها قولان أحدهما أن الصمد هو الذي لا جوف له والثاني أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين والاشتقاق يشهد للقولين جميعا وهو على الأول أدل وكون الصمد يصمد إليه في الحوائج هو حق أيضا وهو مقرر للتفسير الأول ودال عليه فلا ينافي أن يكون هو نفسه مجتمعا لا جوف له بل كونه في نفسه كذلك فهو الموجب لاحتياج الناس إليه وأما استدلال هؤلاء المتأخرين بذلك على نفي الجسم والحد فباطل أيضا هو قلب الدلالة فإن كون الموصوف مصمتا لا يمنع أن يكون جسما أو محدودا كسائر ما وصف بأنه مصمد وأما استدلال المجسمة الذين يقولون أن الله لحم ودم وعظم ونحو ذلك والذين يجعلون الباري من جنس شئ من الأجسام المخلوقة بهذا الاسم فباطل لوجوه أحدها أن هذا اللفظ على ذلك من تفاسيره الثاني أن الملائكة موصوفة بأنها صمد والأجسام المصمتة موصوفة بأنها صمد وليست لجما ودما قال الرازي لو كان مركبا من الجوارح والأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين وفي الفعل إلى اليد وفي المشي إلى الرجل وذلك ينافي كونه صمدا مطلقا قلت هذه الحجة كان يمكن أن يذكرها في اسم الله كما ذكرها في الاسم الصمد إذ مضمونها الاحتجاج بما في أسمائه من الدلالة على الغنى على عدم هذه الصفات لكن لما كانت من جنس الحجة التي قبلها لم يذكرها إلا في الاسم الصمد لظهور دلالته على الغنى وقد قدمنا أن لفظ الجوارح والأعضاء مما لا يقولها الصفاتية فمضمون حجته أنه لو كان الله خلق آدم بيديه وكتب التوراة بيده وخلق عدن بيده لكان الله محتاجا في الفعل إلى يد وذلك ينافي كونه صمدا وهذا قد ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة المتفق على صحتها المتلقاة بالقبول والكلام على هذا من وجوه أحدها أن ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها فأن الله سبحانه قادر أن يخلق ما يخلقه بيديه وقادر أن يخلق ما يخلقه بغير يديه وقد وردت الأثارة من العلم بأنه خلق بعض الأشياء بيديه وخلق بعض الأشياء بغير يديه قال عثمان بن سعيد الدرامي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لقد قالت الملائكة يا ربنا منا الملائكة المقربون ومنا حملة العرش ومنا الكرام الكاتبون ونحن نسبح الله بالليل والنهار ولا نسأم ولا نفتر خلقت بني آدم فجعلت لهم الدنيا وجعلتهم يأكلون ويشربون ويتزوجون فكما جعلت لهم الدنيا فأجعل لنا الآخرة فقال لن أفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة فقال لن أفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة بمثل ذلك فقال لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان وقد روى نحو هذا عبد الله بن أحمد بم حنبل في كتاب السنة عن النبي ﷺ أظنه مرسلا قال الدرامي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عبيد بن مهران وهو الكاتب حدثنا مجاهد قال قال عبد الله بن عمر خلق الله أربعة أشياء بيده العرش والقلم وعدن وآدم ثم قال لسائر الخلق كن فكان وقال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن عطاء بن السائب عن ميسرة قال إن الله لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده وقال حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن كعب قال لم يخلق الله بيده غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده ثم قال لها تكلمي قالت قد أفلح المؤمنون وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ في حديث الشفاعة أن موسى يقال له أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده وفي لفظ وكتب لك التوراة بيده وثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده وأما الفعل باليد غير الخلق فقد ثبت بالكتاب والسنة قبضه الأرض والسموات وقد تواترت بذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما كقوله يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرض بيده الأخرى وفي رواية مسلم بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون وقوله تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وهذا كما أنه سبحانه وتعالى قد كتب في اللوح المحفوظ وفي غيره ما كتبه من مقادير الخلائق وقال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتكم ثم لم تدل كتابته لذلك على انه محتاج إلى الكتاب والكتاب خوف النسيان والغلط مع أن الكتاب أمر منفصل عنه فخلقه ما يخلقه بيديه أولى أن لا يدل على حاجته إلى ذلك 9. الوجه الثاني أن يقال له إنه سبحانه الغني الصمد القادر وقد خلق ما خلقه من أمر السموات والأرض الدنيا والآخرة بالأسباب التي خلقها وجعل بعض المخلوقات سببا لبعض كما قال تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات وقال تعالى وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وقال تعالى ونزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد وقال تعالى ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات وقال تعالى فأنبتنا به حدائق ذات بهجة فإذا كان خلقه بعض المخلوقات ببعض لا يوجب حاجته إلى مخلوقاته ولا ينافي كونه صمدا غنيا عن غيره فكيف يكون خلقه لآدم بيده وقبضه الأرض والسموات بيده موجبا لحاجته إلى غيره ومن المعلوم ان فعل الفاعل بيده أبعد عن الحاجة إلى الغير من فعله بمصنوعاته الوجه الثالث إن هذه الحجة من جنس حجة الجهمية المحضة على نفي الصفات فإن قولهم لو كان له علم وقدرة وحياة وكلام لكان محتاجا في أن يعلم ويقدر ويتكلم إلى علم وقدرة وكلام بمنزلة قول هذا القائل لو كان له يد لكان محتاجا في الفعل إلى اليد وذلك ينافي كونه صمدا فما كان جوابه لأولئك كان جوابا له عن هؤلاء لا سيما بل هذا أوكد لأنه قد تقدم أنه قادر على الخلق والفعل بيده وبغير يده ولا يجوز أن يقال أنه عالم بلا علم وقادر بلا قدرة فإن كان ثبوت الصفات موجبا حاجته إليها فالحاجة في هذه أقوى وإن لم تكن موجبة حاجته إليها بطلت الحجة الوجه الرابع إن الغني الصمد هو غني عن مخلوقاته ومصنوعاته لا يصح أن يقال هو غني عن نفسه وذاته كما تقدم وصفاته تعالى ليست خارجة عن ذاته فوجود الصفات والفعل بها كوجود الذات والفعل بها وقد تقدم الكلام على ما في هذا من الألفاظ المجملة مثل الافتقار والجزء وغير ذلك وبينا أن ذلك مثل قول القائل واجب الوجود بنفسه وهو موجود بنفسه وبنفسه فعل ونحو ذلك من العبارات الوجه الخامس إن المخلوق إذا صح تسميته بأنه غني وأنه صمد مع ماله من الصفات ولا ينافي ذلك إطلاق هذا الاسم كيف يصح أن يقال إن تسمية الخالق بهذه الأسماء ينافي هذه الصفات قال الرازي الثالث إنا نقيم الدلالة على أن الأجسام متماثلة والأشياء المتماثلة يجب اشتراكها في اللوازم فلو احتاج بعض الأجسام إلى بعض لزم كون الكل محتاجا إلى ذلك الجسم ولزم أيضا كونه إلى نفسه وكل ذلك محال ولما كان ذلك محالا وجب أن لا يحتاج إلى شيء من الأجسام ولو كان كذلك لم يكن صمدا على الإطلاق وأما احتجاجهم بقولهم الأجسام متماثلة فهذا إن كان حقا فهو تماثل يعلم بالعقل ليس فيه أن اللغة التي نزل بها القرآن تطلق لفظ المثل على كل جسم ولا أن اللغة التي نزل بها القرآن تقول إن السماء مثل الأرض والشمس والقمر والكواكب مثل الجبال والجبال مثل البحار والبحار مثل التراب والتراب مثل الهواء والهواء مثل الماء والماء مثل النار والنار مثل الشمس والشمس مثل الإنسان والإنسان مثل الفرس والفرس مثل الحمار والفرس والحمار مثل السفرجل والرمان والرمان مثل الذهب والفضة والذهب والفضة مثل الخبز واللحم ولا في اللغة التي نزل بها القرآن أن كل شيئين اشتركا في المقدارية بحيث يكون كل منهما له قدر من الأقدار كالطول والعرض والعمق أنه مثل الآخر ولا أنه إذا كان كل منهما بحيث يشار إليه الإشارة الحسية يكون مثل الآخر بل ولا فيها إن كل شيئين كانا مركبين من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة كان أحدهما مثل الآخر بل اللغة التي نزل بها القرآن تبين أن الإنسانين مع اشتراكهما في أن كل منهما جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق ضحاك بادئ البشرة قد لا يكون أحدهما مثل الآخر كما قال تعالى وإن تتلوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم إلى أن قال فكيف وهو باطل في العقل كما بسطناه في موضع آخر وكذلك أيضا يقولون إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات مستلزم للتجسيم والأجسام متماثلة والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى وتارة بمنع المقدمة الثانية وتارة بمنع كل من المقدمتين وتارة بالإستفصال ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود أو بالمركب من الهيولي والصورة ونحو ذلك فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة وعلى أنها متماثلة فهذا ينبني على صحة ذلك وعلى إثبات الجوهر الفرد وعلى أنه متماثل وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك وقال أبو عبد الله الرازي وأما بيان دلالته على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة فهو أنه تعالى لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان إما أن يكون حصوله في الحيز المعين واجبا أو جائزا فإن كان واجبا فحينئذ يكون ذاته تعالى مفتقرا في الوجود والتحقق إلى ذلك الحيز المعين وأما ذلك الحيز المعين فأنه يكون غنيا عن ذاته المخصوص لأنا لو قرضنا عدم حصول ذات الله تعالى في ذلك الحيز المعين لم يبطل ذلك الحيز أصلا وعلى هذا التقدير يكون تعالى محتاجا إلى ذلك الحيز فلم يكن صمدا على الإطلاق أما إن كان حصوله في الحيز المعين جائزا لا واجبا فحينئذ يفتقر إلى مخصص يخصصه بالحيز المعين وذلك يوجب كونه محتاجا وينافي كونه صمدا فيقال له أولا لا الكرامية ولا غيرهم يقولوا أنه في جهة موجودة يحيط بها ويحتاج إليها بل كلهم متفقون على أن الله تعالى مستغن عن كل ما سواه سواء سمي جهة أو لم يسم جهة نعم قد يقولون هو في جهة يعنون بذلك أنه فوق وأيضا فمن المعلوم أن القرآن ينطق بالعلو في مواضع كثيرة جدا حتى قيل أنها ثلاثمائة موضع والسنن متواترة عن النبي ﷺ بمثل ذلك وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي اتفاقهم على ذلك وأنه لم يكن فيهم من ينكره ومن يريد التشنيع على الناس ودفع هذه الأدلة الشرعية والعقلية لا بد أن يذكر حجة ولنفرض أنه لا بناظره إلا أئمة أصحابه وهو لم يذكر دليلا إلا قوله ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة فيقال له لم يعلموا ذلك ولم تذكر ما به يعلمون ذلك فإن قولك هو محتاج إلى تلك الجهة إنما يستقيم إذا كانت الجهة أمرا وجوديا وكانت لازمة له لا يستغني عنها فلا ريب أن من قال إن الباري لا يقوم إلا بمحل يحل فيه لا يستغني عن ذلك وهي مستغنية عنه فقد جعله محتاجا إلى غيره وهذا لم يقله أحد وأيضا لم نعلم أحدا قال إنه محتاج إلى شئ من مخلوقاته فضلا عن أن يكون محتاجا إلى غير مخلوقاته ولا يقول أحد أن الله محتاج إلى العرش مع أنه خالق العرش والمخلوق مفتقر إلى الخالق لا يفتقر الخالق إلى المخلوق وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات وهو الغني عن العرش وكل ما سواه فقير إليه فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون أن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم كيف وهم يقولون أنه كان موجودا قبل العرش فإذا كان موجودا قائما بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغنيا عن العرش وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجا إليه فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله فالهواء فوق الأرض وليس محتاجا إليها وكذلك السموات فوق السحاب والهواء والأرض وليست محتاجة إلى ذلك والعرش فوق السموات والأرض وليس محتاجا إلى ذلك فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجا إلى مخلوقاته لكونه فوقها عاليا عليها وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود وأمر معدوم فمن قال إنه فوق العالم كله لم يقل أنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ويراد بكونه فيها أنه عليها كما قيل في قوله أنه في السماء أي على السماء وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها وهو غني عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها فضلا عن أن يحتاج إليها وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذلك ليس بشيء ولا هو أمر وجودي حتى يقال أنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا وأوهموا إذا كان في جهة كان في شيء غيره كما يكون الإنسان في بيته ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره والله تعالى غني عن كل ما سواه وهذه مقدمات كلها باطلة وكذلك لفظ التحيز إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها فهو سبحانه كما قال أئمة السنة فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وأما لفظ المتحيز فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة وهذا لا بد أن يحيط به حيز وجودي ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز وعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا فيجعلون كل جسم متحيز والجسم عندهم ما يشار إليه فتكون السموات والأرض وما بينهما متحيزا على اصطلاحهم وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان فيقولون المكان أمر موجود والحيز تقدير مكان عندهم فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود فلا تكون في مكان وهي عندهم متحيزة ومنهم من يتناقض فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما كالرازي وغيره كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع فمن تكلم باصطلاحهم وقال إن الله متحيز بمعنى أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطىء فهو سبحانه بائن من خلقه وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار وإن أراد بالحيز أمرا عدميا فالأمر العدمي لا شيء وهو سبحانه بائن عن خلقه فإذا سمي العدم الذي فوق العالم حيزا وقال يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما بسط في غير هذا الموضع قال الرازي وأما قوله ولم يكن له كفوا أحد فهذا أيضا يدل على أنه ليس بجسم ولا جوهر لأنا سنقيم الدلالة على أن الجواهر متماثلة فلو كان تعالى جوهرا لكان مثلا لجميع الجواهر فكان كل واحد من الجواهر كفوا له ولو كان جسما لكان مؤلفا من الجواهر لأن الجسم يكون كذلك وحينئذ يعود الإلزام المذكور فثبت أن هذه السورة من أظهر الدلائل على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر ولا حاصل في مكان وحيز قال الشيخ وكذلك قوله ولم يكن له كفوا أحد فإن المعنى لم يكن أحد من الآحاد كفوا له فإن كان الأحد عبارة عما لا يتميز منه شيء عن شيء ولا يشار إلى شيء منه دون شيء فليس في الموجودات ما هو أحد إلا ما يدعونه من الجوهر الفرد وهذا عند أكثر العقلاء يمتنع وجوده ومن رب العالمين وحينئذ لا يكون قد نفى عن شيء من الموجودات أن يكون كفوا للرب لأنه لم يدخل في مسمى أحد ومن العجب إن كلامه كلام أمثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وإن القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على أنها مركبة من الجواهر المنفردة وإن الجواهر متماثلة ثم أنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر أنه لا دليل على تماثلها فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاما بلا علم بل بخلاف الحق مع أنه كلام في الله تعالى وقد قال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون والمقصود هنا أن أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره كانوا إذا ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة كلفظ الجسم والجوهر والحيز ونحوها لم يوافقهم لا على إطلاق الإثبات ولا على إطلاق النفي وأهل البدع بالعكس ابتدعوا ألفاظا ومعاني إما في النفي وإما في الإثبات وجعلوها هي الأصل المعقول المحكم الذي يجب اعتقاده والبناء عليه ثم نظروا في الكتاب والسنة فما أمكنهم أن يتأولوه على قولهم تأولوه وإلا قالوا هذا من الألفاظ المتشابهة وقال الرازي وأعلم أنه كما إن الكفار لما سألوا الرسول صلى الله عليه وسسلم عن صفة ربه فأجاب الله بهذه السورة الدالة على كونه تعالى منزها عن أن يكون جسما أو جوهرا أو مختصا بالمكان فكذلك فرعون سأل موسى عليه السلام عن صفة الله تعالى فقال وما رب العالمين ثم إن موسى لم يذكر الجواب عن هذا السؤال إلا بكونه تعالى خالقا للناس ومدبرا لهم وخالق السموات والأرض ومدبرا لهما وهذا أيضا من أقوى الدلائل على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا في جهة لأنا سنبين إن شاء الله تعالى أن كون الشيء جسما ومتحيزا عين الذات ونفسها وحقيقتها لا أنه صفة قائمة بالذات وأما كونه خالقا للأشياء ومدبرا لها فهو صفة ولفظة ما سؤال عن الماهية وطلب للحقيقة فلو كان تعالى متحيزا لكان الجواب عن قوله وما رب العالمين بذكر كونه متحيزا أولى من الجواب عنه بذكر كونه خالقا ولو كان كذلك كان جواب موسى عليه السلام خطأ ولكان طعن فرعون بأنه مجنون لا يفهم السؤال ولا يذكر في مقابلة السؤال ما يصلح أن يكون جوابا متجها لازما ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى ما كان متحيزا فلا جرم ما كان يمكن تعريف حقيقته سبحانه وتعالى إلا بأنه خالق مدبر فلا جرم كان جواب موسى عليه السلام صحيحا وكان سؤال فرعون سؤالا فاسدا فثبت أنه كما كان جواب محمد ﷺ عن سؤال الكفار عن صفة الله تعالى يدل على تنزيه الله تعالى عن التحيز فكذلك جواب موسى عليه السلام وقد ظن بعض الناس إن سؤال فرعون وما رب العالمين هو سؤال عن ما هية الرب كالذي يسأل عن حدود الأشياء فيقول ما الإنسان ما الملك ما الجني ونحو ذلك قالوا ولما لم يكن للمسئول عنه ماهية عدل موسى عن الجواب إلى بيان ما يعرف به وهو قوله رب السموات والأرض وهذا قول قاله بعض المتأخرين وهو باطل فإن فرعون إنما استفهم استفهام إنكار وجحد لم يسأل عن ماهية رب أقر بثبوته بل كان منكرا له جاحدا ولهذا قال في تمام الكلام لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين وقال وإني لأظنه كاذبا فاستفهامه كان إنكارا وجحدا يقول ليس للعالمين رب يرسلك فمن هو هذا إنكارا له فبين موسى أنه معروف عنده وعند الحاضرين وأن آياته ظاهرة بينة لا يمكن معها جحده وأنكم إنما تجحدون بألسنتكم ما تعرفونه بقلوبكم كما قال موسى في موضع آخر لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وقال الله تعالى وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ولم يقل فرعون ومن رب العالمين فإن من سؤال عن عينه يسأل بها من عرف جنس المسؤول عنه أنه من أهل العلم وقد شك في عينه كما يقول لرسول عرف أنه جاء من عند إنسان من أرسلك وأما ما فهي سؤال عن الوصف يقول أي شيء هو هذا وما هو هذا الذي اسميته رب العالمين قال ذلك منكرا له جاحدا فلما سأل جحدا أجابه موسى بأنه أعرف من أن ينكر وأظهر من أن يشك فيه ويرتاب فقال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ولم يقل موقنين بكذا وكذا بل أطلق فأي يقين كان لكم بشيء من الأشياء فأول اليقين اليقين بهذا الرب كما قالت الرسل لقومهم أفي الله شك وإن قلتم لا يقين لنا بشيء من الأشياء بل سلبنا كل علم فهذه دعوى السفسطة العامة ومدعيها كاذب ظاهر الكذب فإن العلوم من لوازم كل إنسان فكل إنسان عاقل لا بد له من علم ولهذا قيل في حد العقل إنه علوم ضرورية وهي التي لا يخلو منها عاقل فلما قال فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وهذا من افتراء المكذبين على الرسل لما خرجوا من عاداتهم التي هي محمودة عندهم نسبوهم إلى الجنون ولما كانوا مظهرين للجحد بالخالق أو للاسترابة والشك فيه هذه حال عامتهم ودينهم وهذا عندهم دين حسن وإنما إلههم الذي يطيعونه فرعون قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون فبين له موسى إنكم الذين سلبتم العقل النافع وأنتم أحق بهذا الوصف فقال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينيه وأعظمها في الفطرة الإقرار بالخالق فلما ذكر أولا أن من أيقن بشيء فهو موقن به واليقين بشيء هو من لوازم العقل بين ثانيا أن الإقرار به هو من لوازم العقل ولكن المحمود هو العلم النافع الذي يعمل به صاحبه فإن لم يعمل به صاحبه قيل أنه ليس له عقل ويقال أيضا لمن لم يتبع ما أيقن به إنه ليس له يقين فإن اليقين أيضا يراد به العلم المستقر في القلب ويراد به العمل بهذا العلم فلا يطلق الموقن إلا على من أستقر في قلبه العلم والعمل وقوم فرعون لم يكن عندهم إتباع لما عرفوه فلم يكن لهم عقل ولا يقين وكلام موسى يقتضي الأمرين إن كان لك يقين فقد عرفته وإن كان لك عقل فقد عرفته وإن ادعيت أنه لا يقين لك ولا عقل لك فكذلك قولك فهذا إقرار منكم بسبكم خاصية الإنسان ومن يكن هكذا لا يصلح له ما أنتم عليه من دعوى الالهية مع أن هذا باطل منكم فانكم موقنون به كما قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ولكم عقل تعرفونه به ولكن هواكم يصدكم عن إتباع موجب العقل وهو إرادة العلو في الأرض والفساد فأنتم لا عقل لكم بهذا الاعتبار كما قال أصحاب النار لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وقال تعالى عن الكفار أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا قال تعالى عن فرعون وقومه فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين والخفيف هو السفيه الذي لا يعمل بعلمه بل يتبع هواه وبسط هذا له موضع آخر والله تعالى قد أخبر عن فرعون أنه طلب أن يصعد ليطلع إلى إله موسى فلو لم يكن موسى أخبره أن إلهه فوق لم يقصد ذلك فإنه لو لم يكن مقرا به فإذا لم يخبره موسى به لم يكن إثبات العلو لا منه ولا من موسى عليه الصلاة والسلام فلا يقصد الاطلاع ولا يحصل به ما قصده من التلبيس على قومه بأنه صعد إلى إله موسى فموسى صدق محمدا في أن ربه فوق وفرعون كذب موسى في أن ربه فوق فالمقرون بذلك متبعون لموسى ومحمد والمكذبون بذلك موافقون لفرعون وإن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعة فيها إجمال وإبهام وإيهام كقولهم ليس بمتحيز ولا جسم ولا جوهر ولا هو في جهة ولا مكان وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائص ومقصدهم بها أنه ليس فوق السموات رب ولا على العرش إله يعبد ولا عرج بالرسول إلى الله قال أبو عبد الله الرازي وأما الخليل ﷺ فقد حكى الله تعالى عنه في كتابه بأنه استدل بحصول التغير في أحوال الكواكب على حدوثها ثم قال عند تمام الاستدلال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا واعلم أن هذه الواقعة تدل على تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التحيز والجهة أما دلالتها على تنزيه الله تعالى عن التحيز فمن وجوه أحدها أنا سنبين إن شاء الله تعالى أن الأجسام متماثلة فإذا ثبت ذلك فنقول ما صح على أحد المثلين وجب أن يصح على المثل الآخر فلو كان تعالى جسما أو جوهرا وجب أن يصح عليه كل ما صح على غيره وأن يصح على غيره كل ما صح عليه وذلك يقتضي جواز التغير عليه ولما حكم الخليل عليه السلام بأن المتغير من حال إلى حال لا يصلح للآلهية وثبت أنه لو كان جسما لصلح عليه التغير لزم القطع بأنه تعالى ليس بمتحيز أصلا الثاني أنه عليه السلام قال عند تمام الاستدلال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض فلم يذكر في صفات الله تعالى إلا كونه خالقا للعالم والله مدحه على هذا الكلام وعظمه فقال وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ولو كان إله العالم جسما موصوفا بمقدار مخصوص وشكل مخصوص لما كمل العلم به تعالى إلا بعد العلم بكونه جسما متحيزا ولو كان كذلك لما كان مستحقا للمدح والتعظيم بمجرد معرفة كونه خالقا للعالم فلما كان هذا المقدار من المعرفة كافيا في كمال معرفة الله تعالى دل ذلك على أنه تعالى ليس بمتحيز الثالث أنه تعالى لو كان جسما لكان كل جسم مشاركا له في تمام الماهية فالقول بكونه تعالى جسما يقتضي إثبات الشريك لله تعالى وذلك ينافي قوله وما أنا من المشركين فثبت بما ذكرناه أن العظماء من الأنبياء صلوات الله عليهم كانوا قاطعين بتنزيه الله تعالى وتقديسه عن الجسمية والجوهرية والجهة وبالله التوفيق وقد ظن طائفة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن مراده بقوله هذا ربي أن هذا خالق العالم وأنه استدل بالأفوال وهو الحركة والانتقال على عدم ربوبيته وزعموا أن هذه الحجة هي الدالة على حدوث الأجسام وحدوث العالم وهذا غلط من وجوه أحدها أن هذا القول لم يقله أحد من العقلاء لا من قوم إبراهيم ولا غيرهم ولا توهم أحدهم أم كوكبا أو القمر أو الشمس خلق هذا العالم وإنما كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون هذه الكواكب زاعمين أن في ذلك جلب منفعة أو دفع مضرة على طريقة الكلدانيين والكشدانيين وغيرهم من المشركين أهل الهند وغيرهم وعلى طريقة هؤلاء صنف الكتاب الذي صنفه أبو عبد الله ابن الخطيب الرازي في السحر والطلمسات ودعوة الكواكب وهذا دين المشركين من الهند والخطا والنبط والكلدانيين والكشدانيين وغير هؤلاء ولهذا قال الخليل ياقوم أني برئ مما تشركون وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فأنهم عدو لي إلا رب العالمين وأمثال ذلك وأيضا فالأفول في لغة العرب هو المغيب والاحتجاب ليس هو الحركة والانتقال وأيضا فلو كان احتجاجه بالحركة والانتقال لم ينتظر إلى أن يغيب بل كان نفس الحركة التي يشاهدها من حين تطلع إلى أن تغيب الأفول وأيضا فحركتها بعد المغيب والاحتجاج غير مشهودة ولا معلومة وأيضا لو كان قوله هذا ربي هذا رب العالمين لكانت قصة إبراهيم عليه السلام حجة عليهم لأنه حينئذ لم تكن الحركة عنده مانعة من كونه رب العالمين وإنما المانع هو الأفول وهو المخالفون لإبراهيم ولنبينا ولغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك أن الله تعالى قال فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم أني برئ مما تشركون اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين فقد أخبر الله في كتابه أنه من حين بزغ الكواكب والقمر والشمس وإلى حين أفولها لم يقل الخليل لا أحب البازغين ولا المتحركين ولا المتحولين ولا أحب من تقوم به الحركات ولا الحوادث ولا قال شيئا مما يقوله النفاة حين أفل الكوكب والشمس والقمر والأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب بل هذا معلوم بالأضرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن وهو المراد باتفاق العلماء فلم يقل إبراهيم لا أحب الآفلين إلا حين أفل وغاب عن الأبصار فلم يبق مرئيا ولا مشهودا فحينئذ قال لا أحب الآفلين وهذا يقتضي أ كونه متحركا منتقلا تقوم به الحوادث بل كونه جسما متحيزا تقوم به الحوادث لم يكن دليلا عند إبراهيم على نفي محبته فإن كان إبراهيم إنما استدل بالأفوال على أنه ليس رب العالمين كما زعموا لزم من ذلك أن يكون ما يقوم به الأفول من كونه متحركا منتقلا تحله الحوادث بل ومن كونه جسما متحيزا لم يكن دليلا عند إبراهيم على أنه ليس برب العالمين وحينئذ فيلزم أن تكون قصة إبراهيم حجة على نقيض مطلوبهم لا على تعيين مطلوبهم وهكذا أهل البدع لا يكادون يحتجون بحجة سمعية ولا عقلية إلا وهي عند التأمل حجة عليهم لا لهم ولكن إبراهيم عليه السلام لم يقصد بقوله هذا ربي أنه رب العالمين ولا كان أحد من قومه يقولون أنه رب العالمين بل كانوا مشركين مقرين بالصانع وكانوا يتخذون الكواكب والشمس والقمر أربابا يدعونها من دون الله ويبنونن لها الهياكل وقد صنفت في مثل مذهبهم كتب مثل كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وغيره من الكتب ولهذا قال الخليل أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين وقال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم أنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ولهذا قال الخليل في تمام الكلام إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين بين أنه إنما يعبد الله وحده فله يوجه وجهه إذا توجه قصده إليه يتبع قصده وجهه فالوجه توجه حيث توجه القلب فصار قلبه وقصده ووجهه متوجها إلى الله تعالى ولهذا قال وما أنا من المشركين لم يذكر أنه أقر بوجود الصانع فإن هذا كان معلوما عند قومه لم يكونوا ينازعونه في وجود فاطر السموات والأرض وإنما كان النزاع في عبادة غير الله واتخاذه ربا فكانوا يعبدون الكواكب السماوية ويتخذون لها أصناما أرضية وقوله لا أحب الآفلين فالآفل هو الذي يغيب تارة ويظهر تارة فليس هو قائم على عبده في كل وقت والذين يعبدون ما سوى الله من الكواكب ونحوها ويتخذونها أوثانا يكونون في وقت البزوغ طالبين سائلين وفي وقت الأفول لا يحصل مقصودهم ولا ومرادهم فلا يجلبون منفعة ولا يدفعون مضرة ولا ينتفعون إذ ذاك بعبادة فبين ما في الآلهة التي تعبد من دون الله من النقص وبين ما لربه فاطر السموات والأرض من الكمال بأنه الخالق الفاطر العليم السميع البصير والهادي الرازق المحيي المميت ففي الجملة الاحتجاج بلفظ التغير إن كان سمعيا فالأفول ليس هو التغير وإن كان عقليا فإن أريد بالتغير الذي يمتنع على الرب محل النزاع لم يحتج به وإن أريد به مواقع الإجماع فلا منازعة فيه ولما فسر هؤلاء الأفوال بالحركة وفتحوا باب تحريف الكلم عن مواضعه دخلت الملاحدة من هذا الباب ففسر ابن سينا وأمثاله من الملاحدة الأفول بالإمكان الذي ادعوه حيث قالوا أن الأفلاك قديمة أزلية وهي مع ذلك ممكنة وكذلك ما فيها من الكواكب والنيرين قالوا فقول إبراهيم لا أحب الآفلين أي لا أحب الممكن المغلول وإن كان قديما أزليا وأين في لفظ الأفول ما يدل على هذا المعنى ولكن هذا شأن المحرفين للكلم عن مواضعه وجاء بعدهم من جنس من زاد في التحريف فقال المراد بالكواكب والشمس والقمر هو النفس والعقل الفعال والعقل الأول وقد ذكر ذلك أبو حامد الغزالي في بعض كتبه وحكاه عن غيره في بعضها وقال هؤلاء الكواكب والشمس والقمر لا يخفى على عاقل إنها ليست رب العالمين بخلاف النفس والعقل ودلالة لفظ الكواكب والشمس والقمر على هذه المعاني لو كانت موجودة من عجائب تحريفات الملاحدة الباطنية كما يتأولون العمليات مع العمليات ويقولون الصلوات الخمس معرفة أسرارنا وصيام رمضان كتمان أسرارنا والحج هو الزيارة لشيوخنا المقدسين وفتح لهم هذا الباب الجهمية والرافضة حيث صار بعضهم يقول الإمام المبين علي بن أبي طالب والشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية والبقرة المأمور بذبحها عائشة واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين قال الرازي الحجة الثانية من القرآن قوله تعالى ليس كمثله شيء ولو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام في تمام الماهية لأنا سنبين إن شاء الله تعالى بالدلائل الباهرة أن الأجسام كلها متماثلة وذلك كالمناقض لهذا النص قال الشيخ وكذلك إذا قالوا الموصوفات تتماثل والأجسام تتماثل والجواهر تتماثل وأرادوا أن يستدلوا بقوله تعالى ليس كمثله شيء على نفي مسمى هذه الأمور التي سموها بهذه الأسماء في اصطلاحهم الحادث كان هذا افتراءا على القرآن فأن هذا ليس هو المثل في لغة العرب ولا لغة القرآن ولا غيرهما قال تعالى وإن تتلوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم فنفى مماثلة هؤلاء مع اتفاقهم في الإنسانية فكيف يقال إن لغة العرب توجب أن كل ما يشار إليه مثل كل ما يشار إليه وقال تعالى ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد فأخبر أنه لم يخلق مثلها في البلاد وكلاهما بلد فكيف يقال إن جسم فهو مثل لكل جسم في لغة العرب حتى يحمل على ذلك قوله ليس كمثله شيء وقد قال الشاعر... ليس كمثل الفتى زهير... وقال... ما إن كمثلهم في الناس من بشر... قال الرازي فإن قيل لم لا يجوز أن يقال أنه تعالى وإن كان أنه مخالف لغيره من الأجسام كما أن الإنسان والفرس وإن أشتركا في الجسمية لكنهما مختلفان في الأحوال والصفات ولا يجوز أن يقال الفرس مثل الإنسان فكذا هنا والجواب من جهتين الأول إنا سنقيم الدلالة على أن الأجسام كلها متماثلة في تمام الماهية فلو كان تعالى جسما لكان ذاته مثلا لسائر الأجسام وذلك يخالف هذا النص والإنسان والفرس ذات كل واحد منهما مماثلة لذات الآخر والاختلاف إنما وقع في الصفات والأعراض والذاتان إذا كانتا متماثلتين لكان اختصاص كل واحدة منهما بصفاته المخصوصة من الجائزات لا من الواجبات لأن الأشياء المتماثلة في تمام الذات والماهية لا يجوز اختلافهم في اللوازم فلو كان الباري تعالى جسما لوجب أن يكون اختصاصه بصفاته المخصوصة من الجائزات ولو كان كذلك لزم افتقاره إلى المدبر والمخصص وذلك يبطل القول بكونه تعالى إله العالم والقول بتماثل الأحسام في غاية الفساد والرازي نفسه قد بين بطلان ذلك في غير موضع بل نقول مجرد اشتراك الاثنين في كون كل منهما جسما أو متحيزا أو موصوفا أو مقدارا أو غير ذلك لا يمنع اختصاص أحدهما بصفات لازمة له وليس إذا احتاج اختصاصه بالحيز إلى سبب غير الجسمية المشتركة يلزم أن يكون ذلك المخصص له مخصص آخر بل المشاهد خلاف ذلك فإن اختصاص الأجسام المشهودة باحيازها ليس للجسمية المشتركة بل لأمر يخصها هو من لوازمها بمعنى أن المقتضي لذاتها هو المقتضي لذلك اللازم إلى أن قال وهذا مطرد في كل ما يقدر من الموصوفات المستلزمة لصفاتها كالحيوانية والناطقية للإنسان وكذلك الاعتداء والنمو للحيوان والنبات مثلا فإن كون النبات ناميا مغتذيا هو صفة لازمة له لا لعموم كونه جسما ولا لسبب غير حقيقته التي يختص بها بل حقيقته مستلزمة لنموه واغتذائه وهذه الصفات أقرب إلى أن تكون داخلة في حقيقته من كونه ممتدا في الجهات وإن كان ذلك أيضا لازما له فإنا نعلم أن النار والثلج والتراب والخبز والإنسان والشمس والفلك وغير ذلك كلها مشتركة في أنها متحيزة ممتدة في الجهات كما أنها مشتركة في أنها موصوفة بصفات قائمة بها وفي أنها حاملة لتلك الصفات وما به افترقت وامتاز بعضها عن بعض أعظم مما فيه اشتركت فالصفات الفارقة بينها الموجبة لاختلافها ومباينة بعضها لبعض أعظم مما يوجب تشابهها ومناسبة بعضها لبعض فمن يقول بتماثل الجواهر والأجسام يقول أن الحقيقة هي ما اشتركت فيه من التحيزية والمقدارية وتوابعها وسائر الصفات عارضة لها تفتقر إلى سبب غير الذات ومن يقول باختلافها يقول بل المقدارية للجسم والتحيزية للمتحيز كالموصوفية للموصوف واللونية والعرضية للعرض والقيام بالنفس للقائمات بأنفسها ونحو ذلك ومعلوم أن الموجودين إذا اشتركا في أن هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه لم يكن أحدهما مثلا الآخر وإذا اشتركا في أن هذا لون وهذا لون وهذا طعم وهذا طعم وهذا عرض وهذا عرض لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن هذا موصوف وهذا موصوف لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن هذا مقدار ولهذا مقدار ولهذا حيز ومكان ولهذا حيز ومكان كان أولى أن لا يوجب هذا تماثلها لأن الصفة الموصوف أدخل في حقيقته من القدر للمقدار والمكان للتمكن والحيز للمتحيز فإذا كان اشتراكهما فيما هو أدخل في الحقيقة لا يوجب التماثل فاشتراكهما فيما هو دونه في ذلك أولى بعدم التماثل والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع قال الرازي الثاني أن تقدير أن يكون هو تعالى مشاركا لسائر الأجسام في الجسمية ومخالفا لها في الماهية المخصوصة يجب وقوع الكثرة في ذات الله تعالى لأن الجسمية مشترك فيها بين الله وبين غيره وخصوصية ذاته غير مشتركة فيما بين الله تعالى وبين غيره وما به المشاركة غير ما به الممايزة وذلك يقتضي وقوع التركيب في ذاته المخصوصة وكل مركب ممكن لا واجب على ما بيناه فثبت أن السؤال ساقط والله أعلم قال الشيخ رحمه الله يذكرون لفظ التكثر والتغير وهما لفظان مجملان يتوهم السامع أنه تكثر الآلهة وأن الرب يتغير ويستحيل من حال إلى حال إلى أن قال ثم إنهم ينفون ذلك من غير دليل أصلا بل نقول مجرد اشتراك الاثنين في كون كل منهما جسما أو متحيزا أو موصوفا أو مقدرا لا يمنع من اختصاص أحدهما بصفات لازمة له فإن كون النبات ناميا مغتذيا هو صفة لازمة له لا لعموم كونه جسما ولا لسبب غير حقيقته التي اختص بها بل حقيقة مستلزمة لنموه واغتذائه وحينئذ فقوله ما به الاشتراك غير ما به الامتياز قلنا لم يشتركا في شيء خارجي حتى يحوجهما اشتراكهما فيه إلى الامتياز بل هما ممتازان بأنفسهما وإنما تشابها أو تماثلا في شيء والمتماثلان لا يحوجهما التماثل إلى مميز بين عينيهما بل كل منهما ممتاز عن الآخر بنفسه وإن أريد بالمشترك بينهما المعنى المطلق الكلي فذاك لا يفتقر إلى ما به الامتياز وليس له ثبوت في الأعيان حتى يقال أنه يلزم أن يكون المطلق في الأعيان من غير مخصص وإن أريد به ما يقوم بكل منهما من المشترك وهو ما يوجد في الأعيان من الكلي فذاك لا اشتراك فيه في الأعيان فإن كل ما لأحدهما فهو مختص به لا اشتراك فيه وحينئذ فالموجود من الوجوب هو مختص بأحدهما بنفسه لا يفتقر إلى مخصص فلا يكون الوجوب الذي لكل منهما في الخارج مفقرا إلى مخصص وإذا لم يكن ذلك بطل ما احتجوا به على كونه ممكنا قال أبو عبد الله الرازي الحجة الثالثة قوله تعالى والله الغني وانتم الفقراء دلت هذه الآية على كونه غنيا ولو كان جسما لما كان غنيا لأن كل جسم مركب وكل مركب محتاج إلى كل واحد من أجزائه وأيضا لوجوب اختصاصه بالجهة لكان محتاجا إلى الجهة وذلك يقدح في كونه غنيا على الإطلاق الحجة الرابعة قوله تعالى لا إله إلا هو الحي القيوم والقيوم من يكون قائما بنفسه مقوما لغيره فكونه قائما بنفسه عبارة عن كونه غنيا عن كل ما سواه وكونه مقوما لغيره عبارة عن احتياج كل ما سواه إليه فلو كان جسما لكان هو مفتقرا إلى غيره وهو جزؤه ولكان غيره غنيا عنه وهو جزؤه فحينئذ لا يكون قيوما وأيضا لو وجب حصوله في شئ من الأحياز لكان مفتقرا محتاجا إلى ذلك الحيز فلم يكن على الإطلاق فإن قيل ألستم تقولون إنه يجب أن يكون موصوفا بالعلم ولم يقدح ذلك عندكم في كونه قيوما فلم لا يجوز أيضا أن يقال إنه يجب أن يحصل في حيز معين ولم يقدح ذلك في كونه قيل عندنا أن ذاته كالموجب لتلك الصفة وذلك لا يقدح في وصف الذات بكونه قيوما أما هنا فلا يمكن أن يقال أن ذاته توجب ذلك الحيز المعين لأن بتقدير أن لا يكون حاصلا في ذلك الحيز لم يلزم بطلان ذلك ولا عدمه فكان الحيز غنيا عنه وكان هو مفتقرا إلى ذلك الحيز فظهر الفرق والله أعلم قلت ولقائل أن يقول هذا باطل من وجوده أحدها إن الذين قالوا إنه جسم لا يقول أكثرهم أنه مركب من الأجزاء بل ولا يقولون إن كل جسم مركب من الأجزاء فالدليل على امتناع ما هو مركب من الأجزاء فقط لا يكون حجة على من قال أنه ليس بمركب وإن كان بناءا على إن جسم مركب فهذا ممنوع وإن قيل لا نعني بالأجزاء أجزاءا كانت موجودة بدونه وإنما نعني بها أنه لا بد أن يتميز منه شئ عن شئ قيل فحينئذ لا يلزم أن يكون ذلك الذي يمكن أن يصير جزءا غير مفتقر إليه إذ هو لا بد منه في وجود الجملة وليس موجودا دونها فالجملة لا تستغني عنه وهو أيضا لا يستغني عنها فتكون الحجة باطلة الثاني أن يقال ما تعني بقولك إنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء أتعني أنه يكون مفعولا للجزء أو معلولا لعلة فاعلة أم تعني أنه يكون وجوده مشروطا بوجود الجزء بحيث لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر فإن ادعيت الأول كان التلازم باطلا فأنه من المعلوم أن الأجسام التي خلقها الله تعالى ليس شئ من أجزائها فاعلا لها ولا علة فاعلة لها فإذا لم يكن شئ من المركبات المخلوقة جزؤه فاعلا له ولا علة فاعلة له كان دعوى أن ذلك قضية كلية من أفسد الكلام فإنه لا يعلم ثبوتها في شئ من الجزئيات المشهودة فضلا عن أن تكون كلية وإن قيل نعني بالافتقار أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا قيل ولم قلتم إن مثل هذا ممتنع على الواجب بنفسه فإن الممتنع عليه أن يكون فاعلا أو علة فاعلة إذا قيل بإمكان علة فاعلة لا تفعل بالاختيار فأما كونه لا يكون وجوده مستلزما للوازم لا يكون موجودا إلا بها فالواجب بنفسه لا ينافي ذلك سواء سميت صفات أو أجزاء أو ما سميت ويظهر هذا بالوجه الثالث وهو أن النافي لمثل هذا التلازم إن كان متفلسفا فهو يقول إن ذاته مستلزمة للمكنات المنفصلة عنه فكيف يمنع أن تكون مستلزمة لصفاته اللازمة له ولما هو داخل في مسمى اسمه وهو أيضا يسم أن ذاته تستلزم كونه واجبا وموجودا وعاقلا وعقلا ولذيذا وملتذا به ومحبا لذاته ومحبوبا لها وأمثال ذلك من االمعاني المتعددة فإذا قيل هذه كلها شئ واحد قيل هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة لكونه تضمن أن العلم هو الحب وأن العالم المحب هو العلم والحب فإن قدر إمكانه فقول القائل إن الجسم ليس بمركب من الهيلولي والصورة ولا من الجواهر المنفردة بل هو واحد بسيط أقرب إلى العقل من دعوى اتحاد هذه الحقائق وإن كان من المعتزلة وأمثالهم فهم يسلمون أن ذاته تستلزم أنه حي عالم قادر وإن كان من الصفاتية فهم يسلمون استلزام ذاته للعلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات فما من طائفة من الطوائف إلا وهي تضطر إلى أن تجعل ذاته مستلزمة للوازم وحينئذ فنفي هذا التلازم لا سبيل لأحد إليه سواء سمي افتقارا أم لم يسم وسواء قيل أن هذا يقتضي التركيب أو لم يقل الوجه الرابع أن يقال قول القائل إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء أتعني بالمركب تلك الأجزاء أو تعني به اجتماعها أو الأمرين أو شيئا رابعا فإن عنيت الأول كان المعني أن تلك الأجزاء مفتقرة إلى تلك الأجزاء وكان حاصله أن الشئ المركب مفتقر إلى المركب وأن الشيء مفتقر إلى نفسه وأن الواجب بنفسه مفتقر إلى الواجب نفسه ومعلوم أن الواجب بنفسه لا يكون مستغنيا عن نفسه بل وجوبه بنفسه يستلزم أن نفسه لا تستغني عن نفسه فما ذكرتموه من الافتقار هو تحقيق لكونه واجبا بنفسه لا مانع لكونه واجبا بنفسه وإن قيل أن المركب هو الاجتماع الذي هو اجتماع الأجزاء وتركيبها قيل فهذا الاجتماع هو صفة وعرض للأجزاء لا يقول عاقل أنه واجب بنفسه دون الأجزاء بل إنما يقال هو لازم للأجزاء والواجب بنفسه هو الذات القائمة بنفسها وهي الأجزاء لا مجرد الصفة التي نسبة بين الأجزاء وإذا لم يكن هذا هو نفس الذات الواجبة بنفسها وإنما هو صفة لها فالقول فيه كالقول في غيره مما سميتموه أنتم أجزاءا وغايته أن يكون بعض الأجزاء مفتقرا إلى سائرها وليس هذا هو افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه وإن قيل أن المركب هو المجموع إي الأجزاء واجتماعها فهذا من جنس أن يقال المركب هو الأجزاء لكن على هذا التقدير صار الاجتماع جزءا من الأجزاء وحينئذ فإذا قيل هو مفتقر إلى الأجزاء كان حقيقته أنه مفتقر إلى نفسه إي لا يستغني عن نفسه وهذا حقيقة وجوبه بنفسه لا مناف لوجوبه بنفسه وإن عنيت به شيئا رابعا فلا يعقل هنا شيء رابع فلا بد من تصويره ثم هذا الكلام عليه وإن قال بل المجموع يقتضي افتقاره إلى كل جزء من الأجزاء قيل افتقار المجموع إلى ذلك الجزء كافتقاره إلى سائر الأجزاء وذلك وسائر الأجزاء هي المجموع فعاد إلى أنه مفتقر إلى نفسه فإن قيل فأحد الجزأين مفتقر إلى الآخر أو قيل الجملة مفتقرة إلى كل جزء إلى آخره قيل أولا ليس هذا هو حجتكم فإنما ادعيتم افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه وقيل ثانيا إن عنيت بكون أحد الجزأين مفتقرا إلى الآخر أن أحدهما فاعل للآخر أو علة فاعلة له فهذا باطل بالضرورة فإن المركبات الممكنة ليس أحد أجزائها علة فاعلة للآخر ولا فاعلا له باختياره فلو قدر أن في المركبات ما يكون جزؤه فاعلا لجزئه لم يكن له مركب كذلك فلا تكون القضية كلية فلا يجب أن يكون مورد النزاع داخلا فيما جزؤه مفتقر إلى جزئه فكيف إذا لم يكن من الممكنات شيء من ذلك فكيف يدعى في الواجب بنفسه إذا قدر مركبا أن يكون بعض اجزائه علة فاعلة للجزء الآخر وإن عنيت أن أحد الجزأين لا يوجد إلا مع الجزء الآخر فهذا إنما فيه تلازمهما وكون أحدهما مشروطا بالآخر وذلك دور معي اقتراني وهو ممكن صحيح لا بد منه في كل متلازمين وهذا لا ينافي كون المجموع واجبا بالمجموع وإذا قيل في كل من الأجزاء هل هو واجب بنفسه أم لا قيل إن أردت هل هو مفعول معلول لعلة فاعلة أم لا فليس في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وأن عنيت أنه هل فيها ما يوجد بدون وجود الآخر فليس فيها ما هو مستقل دون الآخر ولا هو واجب بنفسه بهذا الاعتبار والدليل دل على إثبات واجب بنفسه غني عن الفاعل والعلة الفاعلة لا على أنه لا يكون شيء غني عن الفاعل للوازم فلفظ الواجب بنفسه فيه إجمال واشتباه دخل بسببه غلط كثير فما قام عليه البرهان من إثبات الواجب بنفسه ليس هو ما فرضه هؤلاء النفاة فإن الممكن هو الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده فكونه موجودا بنفسه مستلزما للوازم لا ينافي أن يكون ذاتا متصفة بصفات الكمال وكل من الذات والصفات ملازم للآخر وكل من الصفات ملازمة للأخرى وكل ما يسمى جزأ فهو ملازم للآخر وإذا قيل هذا فيه تعدد الواجب قيل إن أردتم تعدد الإله الموجود بنفسه الخالق للممكنات فليس كذلك وأن أردتم تعدد معان وصفات له أو تعدد ما سميتموه اجزاءا له فلم قلتم إنه إذا كان كل من هذه واجبا بنفسه أي هو موجود بنفسه لا بموجد يوجده مع أن وجوده ملزوم لوجود الآخر يكون ممتنعا ولم قلتم إن ثبوت معنيين أو شيئين واجبين متلازمين يكون ممتنعا وهكذا كما تقول المعتزلة إنكم إذا أثبتم الصفات قلتم بتعدد القديم فيقال لهم إن قلتم إن ذلك يتضمن تعدد آلهة قديمة خالقة للمخلوقات فهذا التلازم باطل وإن قلتم يستلزم تعدد صفات قديمة للإله القديم فلم قلتم إن هذا محال فعامة ما يلبس به هؤلاء النفاة ألفاظ مجملة متشابهة إذا فسرت معانيها وفصل بين ما هو حق منها وبين ما هو باطل زالت الشبهة وتبين أن الحق الذي لا محيد عنه هو قول أهل الإثبات للمعاني والصفات قوله أما هاهنا فلا يمكن أن يقال إن ذاته توجب ذلك الحيز المعين لأن بتقدير أن يكون حاصلا في ذلك الحيز لم يلزم بطلان ذلك ولا عدمه فكان الحيز غنيا عنه وكان هو مفتقرا إلى ذلك الحيز فظهر الفرق والله أعلم قال ابن تيمية رحمه الله وأيضا لم نعلم أحدا قال إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته فضلا عن أن يكون محتاجا إلى غير مخلوقاته ولا يقول أحد إن الله محتاج إلى العرش مع أنه خالق العرش والمخلوق مفتقر إلى الخالق لا يفتقر الخالق إلى المخلوق وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات وهو الغني عن العرش وكل ما سواه فقير إليه فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات إنهم يقولون أن الله محتاج إلى العرش فقد أفترى عليهم كيف وهم يقولون إنه كان موجودا قبل العرش فإذا كان موجودا قائما بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغنيا عن العرش وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجا إليه فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله وكثير مما يسمي مكانا وحيزا وجهة للإنسان يكون مفتقرا إليه بل ولغير الإنسان أيضا كاحتياج القميص إلى لا بسه واستغناء صاحبه عنه وكذلك الحيز قد ذكرنا أنه يراد به حدود الشيء المتصلة به التي تحوزه وهو جوانبه وتلك تكون داخلة فيه فلا تكون مستغنية عنه مع حاجته إليها وقد يراد به الشيء المنفصل عنه الذي يحيط به كالقميص المخيط وهذا قد يكون مفتقرا إلى الإنسان كقميصه وقد يكون مستغنيا عنه وإن كان مستغنيا عن الإنسان لكن الإنسان لا يحتاج إلى حيز بعينه فليس الإنسان مفتقرا إلى حيز معين خارج عن ذاته بحال بل وكذلك سائر الموجودات وأما الحهة فهي لا تكون جهة إلا بالتوجه فهي مفتقرة إلى كونها جهة إلى المتوجه والمتوجه لا يفتقر إلى جهة بعينها بحال إلى أن قال فكيف في حق الخالق الغني عن كل ما سواه المفتقر إليه كل ما سواه وقد بسطت معنى القيوم في موضع آخر وبينا أنه الدائم الباقي الذي لا يزول ولا يعدم ولا يفنى بوجه من الوجوه قال الرازي الحجة الخامسة قوله تعالى هل تعلم له سميا قال ابن عباس رضي الله عنهما هل تعلم له مثلا ولو كان متحيزا لكان كل واحد من الجواهر مثلا وأما التمثيل فقد نطق القرآن بنفيه عن الله في مواضع كقوله ليس كمثله شيء وقوله هل تعلم له سميا وقوله ولم يكن له كفوا أحد وقوله فلا تجعلوا لله أندادا وقوله فاعبدوا واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا أي نظيرا يستحق مثل اسمه ويقال مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس هل تعلم له سميا مثيلا أو شبيها وموجب الأدلة السمعية يتلقى من عرف المتكلم بالخطاب لا من الوضع المحدث فليس لأحد أن يقول إن الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني هذا من فعل أهل الالحاد المفترين فإن هؤلاء عمدوا إلى معاني ظنوها ثابتة فجعلوها هي معنى الواحد والواجب والغني والقديم ونفي المثل ثم عمدوا إلى ما جاء في القرآن والسنة من تسمية الله تعالى بأنه أحد وواحد وغني ونحو ذلك في نفي المثل والكفؤ عنه فقالوا هذا يدل على المعاني التي سميناها بهذه الأسماء وهذا من أعظم الافتراء على الله وكذلك إذا قالوا الموصوفات تتماثل والأجسام تتماثل والجواهر تتماثل وأرادوا أن يستدلوا بقوله تعالى ليس كمثله شيء على نفي مسمى هذه الأمور التي سموها بهذه الأسماء في اصطلاحهم الحادث كان هذا افتراءا على القرآن ويقال له أتعني بالحيز ما هو من لوازم المتحيز وهو نهايته وحده الداخل في مسماه أم تريد بالحيز شيئا موجودا منفصلا عنه كالعرش فأن أريد بالحيز المعنى الأول وهو ما هو من لوازم كل متحيز فإن حيزه بهذا التفسير داخل في مسمى ذاته ونفسه وعينه إلى أن قال ولا نسلم أنه ممتنع والقدر والحيز الداخل في مسمى المتحيز الذي هو من لوازمه أبلغ من صفاته الذاتية فإن كل وجود متحيز بدون الحيز الذي هو جوانبه المحيطة به يمتنع أن يكون هو إياه والقديم الذي يمتنع وجوده مع الله هو ما كان شيئا منفصلا عنه بل كل شيء يكون داخلا في مسماه ليس خارجا عنه إلى أن قال يقال له كل جسم فإنه مختص بحيزه وحيزه الذي هو جوانبه ونهايته وحدوده الداخل في مسماه وأما اختصاصه بحيز وجودي ينفصل عنه فذاك شيء آخر لا يلزم كما قد بيناه فعلم أن ذلك لا ينافي ما ذكره من دليل حدوث الأجسام مع أن ذلك الدليل لا نرتضيه ولقائل أن يقول إن عنيت بالتحيزية تفرقته بعد الاجتماع واجتماعه بعد الافتراق فلا نسلم أن ما لا يكون كذلك يلزم أن يكون حقيرا وإن عنيت به ما يشار إليه أو يتميز منه شيء عن شيء لم نسلم أن مثل هذا ممتنع بل نقول أن كل موجود قائم بنفسه فإنه كذلك وأن ما لا يكون كذلك فلا يكون إلا عرضا قائما بغيره وأنه لا يعقل موجود إلا ما يشار إليه أو ما يقوم بما يشار إليه وعند هؤلاء أن الباقي حال بقائه لا يحتاج إلى الرب قال الرازي الحجة السادسة قوله تعالى هو الله الخالق البارئ المصور وجه الاستدلال به أنا بينا في سائر كتبنا أن الخالق في اللغة هو المقدر ولو كان تعالى جسما لكان متناهيا ولو كان متناهيا لكان مخصوصا بمقدار معين ولما وصف نفسه بكونه خالقا وجب أن يكون تعالى هو المقدر لجميع المقدرات بمقاديرها المخصوصة فإذا كان هو مقدرا في ذاته بمقدار مخصوص لزم كونه مقدارا لنفسه وذلك محال وأيضا لو كان جسما لكن متناهيا وكل متناه فإنه محيط به حد أو حدود مختلفة وكل ما كان كذلك فهو مشكل وكل مشكل فهو صورة فلو كان جسما لكان له صورة ثم أنه تعالى وصف نفسه بكونه مصورا فيلزم كونه مصورا لنفسه وذلك محال فيلزم أن يكون منزها عن الصورة والجسمية حتى لا يلزم هذا المحال لفظ الخلق المراد به الفعل الذي يسمى المصدر كما يقال خلق يخلق خلقا كقوله وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وقوله يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق وقوله ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وليس الكلام في لفظ خلق المراد به المخلوق ومنه قوله هذا خلق الله والناس تنازعوا في نفس الخلق والأحداث والتكوين هل هو من صفات الله أم لا وهذا المؤسس وأصحابه مع المعتزلة يقولون إن الخلق هو المخلوق ليس ذلك صفة لله بحال وأما جمهور الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام فيقولون إن الفعل نفسه والخلق من صفاته ولكن المخلوق ليس من صفاته وقال في قوله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى العطف يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما ذكر وإن بينهما مغايرة في الصفات فإن الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى لكن هذا الاسم والصفة ليس هو ذاك الاسم والصفة قوله لزم أن يكون مقدرا لنفسه، معلوم أن الشيء لا يوجد إلا بنفسه وإذا قيل هو مفتر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن ممتنعا بل هذا هو الحق فأن نفس الواجب لا يستغني عن نفسه وإذا قيل هو واجب بنفسه فليس المراد ابدعت وجوده بل المراد أن نفسه موجودة بنفسها لم تفتقر إلى غيره في ذلك ووجوده واجب لا يقبل العدم بحال قوله وأيضا لو كان جسما لكان متناهيا وكل منته فإنه محيط به حد أو حدود مختلفة يقال هذه الحجة من جنس قولهم لو كان فوق العرش لكان إما أن يكون أصغر منه أو بقدره أو أكبر منه ببعد متناه أو غير متناه وهذه حجج الجهمية قديما كما ذكر الأئمة والكلام على هذه الحجة في مقامين أحدهما منع المقدمة الأولى والثاني منع المقدمة الثانية أما الأول فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس له حد ولا مقدار ولا هو جسم كما يقول ذلك كثير من الصفاتية من الكلابية أئمة الأشعرية وقدمائهم ومن وافقهم من الفقهاء والطوائف الأربعة وغيرهم وأهل الحديث والصوفية وغير هؤلاء وهم أمم لا يحصيهم إلا الله إلى أن قال وأما المقام الثاني فهو كلام من لا ينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ليس لها أصل في الكتاب والسنة بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظا أو معنى أو لا يتعرض لها بنفي ولا إثبات وهذا المقام هو الذي تكلم فيه سلف الأمة وأئمتها وجماهير أهل الحديث وطائفة من أهل الكلام والصوفية وغيرهم وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين إلى أن قال والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال قوله إن كل ما كان متناهيا من جميع الجوانب كانت حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكلما كان كذلك كان محدثا على ما بيناه يقال له قد تقدم الكلام على هذه الحجة وبينا أن جميع بنى آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين يخالفونك في هذه المقدمة وبينا فساد ما ذكره من الحجة عليها بوجوه كثيرة بيانا واضحا إلى أن قال ويقال له وإذا نازعك إخوانك المتكلمون الجهمية من المجسمة وغير المجسمة الموافقون لك أنه ليس فوق العرش الذين يقولون لا نهاية لذاته ومساحته مع قولهم إنه جسم ومع قولهم ليس بجسم فما حجتك عليهم إلى أن قال وقد يقول هؤلاء هب أنه قام دليل على تناهي العالم وتناهي المخلوقات وتناهي الأبعاد التي فيها المحدثات فلم قلت إن ذلك محال في حق الباري وهذا يقوله مثبتة لجسم ونفاته ولهذا لم يكن لابتداء وجوده ولا لدوام بقائه حد ولا نهاية ولا غاية ولا يقال مثل ذلك في عظمة ذاته وقدره بل يقال لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما أو يقال وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الآية ولهذا كان جهم وأبو الهذيل وهما إماما الجهمية وغيرهما لما قاسوا النهاية في الذات والمكان على النهاية في الوجود والزمان عدوا حكم هذا إلى حكم هذا وحكم هذا إلى حكم هذا فقال بان المخلوق يتثبت له النهايات جميعا وأثبتوها في الانتهاء فقال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء الحركات كلها قال الرازي الحجة السابعة قوله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن وصف نفسه بكونه ظاهرا وباطنا ولو كان جسما لكان ظاهره غير باطنه فلم يكن الشيء الواحد موصوفا بأنه ظاهر وبأنه باطن لأنه على تقدير كونه جسما يكون الظاهر منه سطحه والباطن منه عمقه فلم يكن الشيء الواحد ظاهرا وباطنا وأيضا المفسرون قالوا أنه ظاهر بحسب الدلائل باطن بحسب أنه لا يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال ولو كان جسما لما أمكن وصفه بأنه لا يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال قال الشيخ رحمه الله اعتقاد النفاة هو أنه لا داخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق السموات رب ولا على العرش إله وإن محمدا ﷺ لم يعرج به إلى الله وإنما عرج به إلى السموات فقط لا إلى الله وأن الملائكة لا تعرج إلى الله بل إلى ملكوته وأن الله لا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء وأمثال ذلك وأن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعة فيها إجمال وإبهام وإيهام كقولهم ليس بمتحيز ولا جسم ولا جوهر ولا هو في جهة ولا مكان وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائض ولفظ الجسم فيه إجمال قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت أو ما يقبل التفريق والانفصال أو المركب من مادة وصورة أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر الفردة والله تعالى منزه عن ذلك كله أو كان متفرقا فاجتمع أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة بعض الشيء بعضا وانفصاله عنه أو غير ذلك من التركيب الممتنع عليه وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى أو ما تقوم به الصفات والله تعالى يرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم فإن أراد بقوله ليس بجسم هذا المعنى قيل له هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلا على نفيه وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لفظ الجوهر والمتحيز ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع أهل الكلام المحدث فيها نفيا وإثباتا وإن قال كل ما يشار إليه ويرى وترفع إليه الأيدي فإنه لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة قيل له هذا محل نزاع فأكثر العقلاء ينفون ذلك وأنت لم تذكر على ذلك دليلا وهذا منتهى نظر النفاة فإن عامة ما عندهم أن ما تقوم به الصفات ويقوم به الكلام والإرادة والأفعال وما يمكن رؤيته بالإبصار لا يكون جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة وما يذكرونه من العبارة فإلى هذا يعود وقد تنوعت طرق أهل الإثبات في الرد عليهم فمنهم من سلم لهم أنه يقوم به الأمور الاختيارية من الأفعال وغيرها ولا يكون إلا جسما ونازعهم فيما يقوم به من الصفات التي يتعلق منها ششيء بالمشيئة والقدوة ومنهم من نازعهم في هذا وهذا وقال بل لا يكون هذا جسما ولا هذا جسما ومنهم من سلم لهم أنه جسم ونازعهم في كون القديم ليس بجسم وقوله تعالى هو الظاهر ضمن معنى العالي كما قال فما استطاعوا أن يظهروه ويقال ظهر الخطيب على المنبر وظاهر الثوب أعلاه بخلاف بطانته وكذلك ظاهر البيت أعلاه وظاهر القول ما ظهر منه وبان وظاهر الإنسان خلاف باطنه فكلما علا الشيء ظهر ولهذا قال أنت الظاهر فليس فوقك شيء فأثبت الظهور وجعل موجب الظهور أنه ليس فوقه شيء ولم يقل ليس شيء أبين منك ولا أعرف وبهذا تبين خطأ من فسر الظاهر بأنه المعروف كما يقوله من يقول الظاهر بالدليل الباطن بالحجاب كما في كلام أبي الفرج وغيره فلم يذكر مراد الله ورسوله وإن كان الذي ذكره له معنى صحيح وقال أنت الباطن فليس دونك شيء فيهما معنى الإضافة لا بد أن يكون البطون والظهور لمن يظهر ويبطن وإن كان فيهما معنى التجلي والخفاء ومعنى آخر كالعلو في الظهور فإنه سبحانه لا يوصف بالسفول وقد بسطنا هذا في الإحاطة لكن إنما يظهر من الجهة العالية علينا فهو يظهر علما بالقلوب وقصدا له ومعاينة إذا رؤي يوم القيامة وهو باد عال ليس فوقه شيء ومن جهة أخرى يبطن فلا يقصد منها ولا يشهد وإن لم يكن شيء أدنى منه فإنه من ورائهم محيط فلا شيء دونه سبحانه والرب تعالى لا يكون أعلى منه قط بل هو العلي إلا على ولا يزال هو العلى الأعلى مع أنه يقرب إلى عباده ويدنو منهم وينزل إلى حيث شاء ويأتي كما شاء وهو في ذلك العلي الأعلى الكبير المتعالي علي في دنوه قريب في علوه فهذا وإن لم يتصف به غيره فلعجز المخلوق أن يجمع بين هذا وهذا كما يعجز أن يكون هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولهذا قيل لأبي سعيد الخراز بم عرفت الله قال بالجمع بين النقيضين وأراد أنه يجتمع له ما يتناقض في حق الخلق ولو أراد مجرد الانكشاف والتجلي لنافى ذلك وصفه بالبطون لأن كون الشيء ظاهرا بمعنى كونه معلوما أو مشهودا ينافي كونه باطنا وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه كان يقول أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين واغنني من الفقر فأخبر بأنه ليس فوقه شيء في ظهوره وعلوه على الأشياء وأنه ليس دونه شيء فلا يكون أعظم بطونا منه حيث بطن في الجهة الأخرى من العباد إلى أن قال ومجموع الأسمين يدلان على الإحاطة والسعة قال أبو عبد الله الرازي الحجة الثامنة قوله تعالى ولا يحيكون به علما وقوله لا تدركه الأبصار وذلك يدل على كونه تعالى منزها عن المقدار والشكل والصورة وإلا لكان الإدراك والعلم محيطين به وذلك على خلاف هذين النصين فإن قيل لم لا يجوز أن يقال أنه وإن كان جسما لكنه جسم كبير فلهذا المعنى لا يحيط به الإدراك والعلم قلنا لو كان الأمر كذلك لصح أن يقال بأن علوم الخلق وأبصارهم لا تحيط بالسموات ولا بالجبال ولا بالبحار ولا بالمفاوز فإن هذه الأشياء أجسام كبيرة والأبصار لا تحيط بأطرافها والعلوم لا تصل إلى تمام أجزائها ولو كان الأمر كذلك لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا الوصف فائدة وأما احتجاج النفاة بقوله تعالى لا تدركه الأبصار فالآية حجة عليهم لا لهم لأن الإدراك أما أن يراد به مطلق الرؤية أو الروية المقيدة بالإحاطة والأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال إنه أدركه كما لا يقال أحاط به كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال ألست ترى السماء قال بلى قال أكلها ترى قال لا ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال أنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع بل المستدل بالآية عليه أن يبين إن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم إنه أدركه وهذا لا سبيل إليه كيف وبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية أو اشتراك لفظي فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهده كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا فأدركه ولم يره وقد قال تعالى فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك والإدراك هنا هو إدراك القدرة إي ملحقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك هنا هو إدراك القدرة إي ملحقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفي إحاطة البصر أيضا وقد جاء حيث رواه ابن أبي حاتم قال حدثنا أبو زرعة ثنا منجاب بن الحارث أنبأ بشر بن عمارة عن أبي روق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ في قوله تعالى لا تدركه الأبصار قال لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا وهذا له شواهد مثل ما في الصحاح في تفسير قوله تعالى والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح لأن النفي المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا لأن المعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه وإن كان المنفي هو الإدراك فهو سبحانه لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علما ولا يلزم من نفي إحاطة العلم والرؤية نفي الرؤية بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى ولا يحاط به فإن تخصيص الإحاطة يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفي وهذا الجواب قول أكثرالعلماء من السلف وغيرهم وقد روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره فلا تحتاج الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية فلا نحتاج أن نقول لا نراه في الدنيا أو نقول لاتدركه الأبصار بل المبصرون أو لا تدركه كلها بل بعضها ونحو ذلك من الإقوال التي فيها تكلف قال أبو عبد الله الرازي الحجة التاسعة قوله تعالى وإذا سألك عبادي عني فأني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون وسئل النبي ﷺ أقريب ربنا فنناجيه فأنزل الله تعالى هذه الآية ولو كان الله تعالى في السماء أو في العرش لما صح القول بأنه تعالى قريب من عباده قال الشيخ رحمه الله فصل في الجمع بين علو الرب عز وجل وبين قربه من داعيه وعابديه فنقول قد وصف الله نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفوقية في كتابه في آيات كثيرة حتى قال بعض كبار أصحاب الشافعي في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله عال على الخلق وأنه فوق عباده وقال غيره فيه ثلاثمائة دليل تدل على ذلك مثل قوله إن الذين عند ربك وله من في السموات والأرض ومن عنده فلو كان المراد بأن معنى عنده في قدرته كما يقول الجهمية لكان الخلق كلهم في قدرته ومشيئته لم يكن فرق بين من في السموات ومن في الأرض ومن عنده كما أن الاستواء لو كان المراد به الإستيلاء لكان مستويا على جميع المخلوقات ولكان مستويا على العرش قبل أن يخلقه دائما وقد افترق الناس في هذا المقام أربع فرق فالجهمية النفاة الذين يقولون ليس داخل العالم ولا خارج العالم ولا فوق ولا تحت لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته بل الجميع عندهم متأول أو مفوض وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص كالخوارج والشيعة والقدرية والرافضة والمرجئة وغيرهم إلا الجهمية فإنهم ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي وقسم ثان يقولون إنه بذاته في كل مكان كما يقوله النجارية وكثير من الجهمية عبادهم وصوفيتهم وعوامهم يقولون إنه عين وجود المخلوقات كما يقوله أهل الوحدة القائلون بأن الوجود واحد ومن يكون قوله مركبا من الحلول والاتحاد وجميع ما يحتجون به حجة عليهم فإن المعية أكثرها خاصة بأنبيائه وأوليائه وعندهم أنه في كل مكان والقسم الثالث من يقول أنه فوق العرش وهو في كل مكان ويقول أنا أقر بهذه النصوص وهذه لا أصرف واحدا فيها عن ظاهره وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في المقالات الإسلامية وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية لكنه غلط أيضا وأما القسم الرابع فهم سلف الأمة وأئمتها أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة فانهم أثبتوا أن الله تعالى فوق سمواته وأنه على عرشه بائن من خلقه وهم منه بائنون وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه ومع انبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية وهو أيضا قريب مجيب ولهذا لما ذكر الله سبحانه قربه من داعيه وعابديه قال وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فهنا هو نفسه سبحانه وتعالى القريب الذي يجيب دعوة الداعي لا الملائكة وكذلك قال النبي ﷺ في الحديث المتفق على صحته أنكم لا تدعون أصم ولا غائبا وإنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته وأما قرب الرب قربا يقوم به بفعله القائم بنفسه فهذا تنفيه الكلابية ومن يمنع قيام الأفعال الاختيارية بذاته وأما السلف وأئمة الحديث والسنة فلا يمنعون ذلك وكذلك كثير من أهل الكلام قال أبو عبد الله الرازي الحجة العاشرة لو كان تعالى في جهة فوق لكان سماء ولو كان سماء لكان مخلوقا لنفسه وذلك محال فكونه في جهة فوق محال وإنما قلنا أنه تعالى لو كان في جهة فوق لكان سماء لوجهين الأول أن السماء مشتق من السمو وكل شيء سماك فهو سماء فهذا هو الاشتقاق الأصلي اللغوي وعرف القرآن أيضا متقرر عليه بدليل أنهم ذكروا في تفسير قوله تعالى وننزل من السماء من جبال فيها من برد أنه السحاب قالوا وتسمية السحاب بالسماء جائز لأنه حصل فيها معنى السمو وذكروا أيضا في تفسير قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا أنه من السحاب فثبت أن الاشتقاق اللغوي والعرف القرآني متطابقان على تسمية كل ما كان موصوفا بالسمو والعلو سماء الثاني أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان من جلس في العرش ونظر إلى فوق لم ير إلا نهاية ذات الله تعالى فكانت نسبة نهاية السطح الأخير من ذات الله تعالى إلى سكان العرش كنسبة السطح الأخير من السموات إلى سكان الأرض وذلك يقتضي القطع بأنه لو كان فوق العرش لكان ذاته كالسماء لسكان العرش فثبت أنه تعالى لو كان مختصا بجهة فوق لكان ذاته سماء وإنما قلنا أنه لو كان ذاته مخلوقا لقوله تعالى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى ولفظة السموات لفظة جمع مقرونة بالألف واللام وهذا يقتضي كون كل السموات مخلوقة لله تعالى وكذلك قوله تعالى أن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام يدل على ما ذكرناه فثبت أنه تعالى لو كان مختصا بجهة فوق لكان سماء ولو كان سماء لكان مخلوقا لنفسه وهذا محال فوجب أن لا يكون مختصا بجهة فوق فإن قيل لفظ السماء مختص في العرف بهذه الأجرام المستديرة وأيضا فهب إن هذا اللفظ في أصل الوضع يتناول ذات الله تعالى إلا أن تخصيص العموم جائز قلنا أما الجواب عن الأول فهو أن هذا الفرق ممنوع وكيف لا نقول ذلك وقد دللنا على أن بتقدير أن يكون الله تعالى مختصا بجهة فوق فإن نسبة ذاته تعالى إلى سكان العرش كنسبة السماء إلى سكان الأرض فوجب القطع بأنه لو كان مختصا بجهة فوق لكان سماء وأما الجواب عن الثاني فهو أن تخصيص العموم إنما يصار إليه عند الضرورة فلو قام دليل قاطع عقلي على كونه تعالى مختصا بجهة فوق لزمنا المصير إلى التخصيص أما ما لم يقم شيء من الدلائل على ذلك بل قامت القواطع العقلية على امتناع كونه تعالى في الجهة فلم يكن بنا إلى التزام هذا التخصيص ضرورة فسقط هذا الكلام قال الشيخ في قوله أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات فهو جاهل ضال بالاتفاق وإن كنا إذا قلنا أن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك فإن حرف في متعلق بما قبله وبما بعده فهو بحسب المضاف إليه ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان وكون الجسم في الحيز وكون العرض في الجسم وكون الوجه في المرآة وكون الكلام في الورق فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصة يتميز بها عن غيره وإن كان حرف في مستعملا في ذلك فلو قال قائل العرش في السماء أو في الأرض لقيل في السماء ولو قيل الجنة في السماء أم في الأرض لقيل الجنة في السماء ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات بل ولا الجنة فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فأنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك مع أن الجنة في السماء يراد به العلو سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها قال تعالى فليمدد بسبب إلى السماء وقال تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله أنه في السماء أنه في العلو وأنه فوق كل شيء وكذلك الجارية لما قال لها أين الله قالت في السماء إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها وإذا قيل العلو فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها فما فوقها كلها هو في السماء ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله كما لو قيل العرش في السماء فإنه خلا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك كان المراد أنه عليها كما قال ولأصلبنكم في جذوع النخل وكما قال فسيروا في الأرض وكما قال فسيحوا في الأرض ويقال فلان في الجبل وفي السطح وأن كان على أعلى شيء فيه ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره وضال أن اعتقده في ربه وما سمعنا أحدا يفهمه من اللفظ ولا رأينا أحدا نقله عن واحد ولو سئل سائر المسلمين هل يفهمون من قوله سبحانه ورسوله أن الله في السماء إن السماء تحويه لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا وإذا كان الأمر هكذا فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا محالا لا يفهمه الناس منه ثم يريد أن يتأوله بل عند المسلمين أن الله في اسماء وهو على العرش واحد إذ السماء إنما يراد به العلو فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السموات والأرض وإن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره ويحويه وما في الكتاب والسنة من قوله أأنتم من في السماء ونحو ذلك قد يفهم منه بعضهم أن السماء هي نفس المخلوق العالي العرش فما دونه فيقولون قوله في السماء بمعنى على السماء كما قال ولأصلبنكم في جذع النخل أي على جذوع النخل وكما قال فسيروا في الأرض أي على الأرض ولا حاجة إلى هذا بل السماء اسم جنس للعالي لا يخص شيئا فقوله في السماء أي في العلو دون السفل وهو العلي الأعلى فله أعلى العلو وهو ما فوق العرش وليس هناك غيره العلي الأعلى سبحانه وتعالى وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود وأمر معدوم فمن قال أنه فوق العالم كله لم يقل أنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ويراد بكونه فيها أنه عليها كما قيل في قوله أنه في السماء أي على السماء وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها وهو غني عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها فضلا عن أن يحتاج إليها وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذاك ليس بشيء ولا هو أمر وجودي حتى يقال أنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه ومن عرف نهايات أقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب عرف أن غالب ما يزعمونه برهانا هو شبهة ورأى إن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها أو شبهة مركبة من قياس فاسد أو قضية كلية لا تقع إلا جزئية أو دعوى إجماع لا حقيقة له أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة ثم أن ذلك إذا ركب بالفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان قال أبو عبد الله الرازي الحجة الحادية عشرة قوله تعالى قل لمن ما في السموات والأرض قل لله وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى وقوله وله ما سكن في الليل والنهار وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الاصفهاني رحمه الله تعالى في تفسيره وأعلم أن في تقديم ذكر المكان على ذكر الزمان سرا شريفا وحكمة عالية قال الشيخ رحمه الله الزمان قد يراد به الليل والنهار كما يراد بالمكان السموات والأرض وهذا هو الذي يعنيه طوائف منهم الرازي في كتابه هذا والمكان المشهور المعروف هو الأعيان المشهودة وما يقوم بها سواء قيل أن المكان هو نفس الأجسام التي يكون الشيء عليها أو فيها أو قيل إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاصق للسطح الظاهر للجسم المحوي وأما الزمان المعروف فأنه تابع للجسم سواء قيل أنه تقدير الحركة أو مقارنة حادث لحادث أو مرور الليل والنهار قال الله تعالى في كتابه الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور وقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لا نزاع بين أهل الملل أن الله سبحانه كان قبل أن يخلق هذه الأمكنة والأزمنة وأن وجوده لا يجب أن يقارن وجود هذه الأمكنة والأزمنة كما تقدم بيان ذلك ولا ريب أن كل تقدم يوصف به المخلوق على غيره فالباري يوصف به وزيادة أخرى وهذا من باب قياس الأولى فإن التقدم على الغير من صفات الكمال كالعلو وكل علو يثبت للمخلوق فهو به أحق وكل تقدم يثبت للمخلوق فهو به أحق فإذا كان الأولون متقدمين على الآخرين تقدما معلوما بمقارنة ذلك الزمان فالرب أيضا متقدم على هؤلاء تقدما معلوما بمقارنة ذلك الزمان فهو موجود مع طلوع الشمس وغروبها كما أن غيره موجود مع ذلك ووجوده أكمل فمقارنته له أكمل وليس في ذلك ما يقتضي أنه محتاج إلى الزمان بل بينا أن مقارنة المخلوق للزمان لا توجب حاجة المخلوق إليه فالخالق أولى أن يكون محتاجا إلى الزمان إذا كان الزمان قد قارن وجوده حين وجود الزمان يبين هذا أن المقارنة يدل عليها لفظ مع فيكون الله مع خلقه عموما أو خصوصا مما أجمع عليه المسلمون ودل عليه القرآن في غير موضع فهو مع كل شيء معية عامة وخاصة فلماذا يمتنع أن يكون مع الزمان والمكان على الوجه الذي يليق به وذلك أمر واجب لا محالة ولا نزاع بين من يقول بحدوث العالم أو بقدمه ووجوبه عنه في أن العالم مفتقر إليه محتاج إليه وأنه متقدم عليه بالمرتبة والعلية والذات ومن يقول أنه في كل مكان أو يقول إنه مقارن للوجود فكلا القولين في الحقيقة يوجب افتقاره إلى المخلوقات ويمنع أن يكون واجب الوجود وإن أصحاب هذه الأقوال وإن قالوا مع ذلك هو مباين للعالم وفوقه أو قالوا هو قبل العالم ومتقدم عليه فلا حقيقة لكلامهم وقولهم صريح في معنى ذلك والتكذيب به ومن قال منهم ليس بداخل العالم ولا بخارجه فهو كمن قال لا قبل العالم ولا معه وكل من هؤلاء ينازع في أنه إله العالم المعبود لا يثبتون حقيقة ربوبيته ولا حقيقة إلهيته بل هم مشركون به وجاحدون ومعطلون وإن كان جهمية المتفلسفة أشد إشراكا وجحودا من جهمية المتكلمين وقال في سياق حديث الجارية المعروف أين الله قالت في السماء ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء وقد قال مالك بن أنس إن الله فوق السماء وعلمه في كل مكان إلى أن قال فمن أعتقد أن الله في جوف السماء محصور محاط به وإنه مفتقر إلى العرش أو غير العرش من المخلوقات أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه فهو ضال مبتدع جاهل ومن اعتقد أنه ليس فوق السموات إله يعبد ولا على العرش رب يصلى له ويسجد وأن محمدا لم يعرج به إلى ربه ولا نزل القرآن من عنده فهو معطل فرعوني ضال مبتدع وهؤلاء قد يقولون كان ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان وهذه الزيادة الالحادية وهو قولهم وهو الآن على ما عليه كان قصد بها المتكلمة المتجهمة نفي الصفات التي وصف بها نفسه من استوائه على العرش ونزوله إلى السماء الدنيا وغير ذلك فقالوا كان في الأزل ليس مستويا على العرش وهو الآن على ما عليه كان فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير وقول الرازي واعلم إن في تقديم ذكر الزمان سرا شريفا وحكمة عالية يشير إلى أنه سببه فإن الزمان يفتقر إلى الحركة والحركة هي سبب الزمان وإن كانت مقارنة له قال أبو عبد الله الرازي الحجة الثانية عشرة قوله تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ولو كان الخالق في العرش لكان حامل العرش حاملا لمن في العرش فيلزم احتياج الخالق إلى المخلوق ويقرب منه قوله تعالى الذين يحملون العرش قال الشيخ رحمه الله فصل للناس في أن الله فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والصوفية والفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوقات والخالق وبين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئا وهذا قول من يقول يمتنع حلول الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني هو المشهور عن السلف وأئمة الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويا عليه وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيؤه وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر أنه ليس في الأدلة العقلية ما يحيل ذلك فصل للناس في حملة العرش قولان أحدهما أن حملة العرش يحملون العرش ولا يحملون من فوقه والثاني أنهم يحملون العرش ومن فوقه كما تقدم حكاية القولين فيذكر ما يقوله الفريقان في جواب هذه الحجة فإنهم ينازعونه في المقدمتين جميعا فيقال من جهة الأولين لا نسلم أن من حمل العرش يجب أن يحمل ما فوقه إلا أن يكون ما فوقه معتمدا عليه وإلا فالهواء والطير وغير ذلك مما هو فوق السقف ليس محمولا لما يحمل السقف وكذلك السموات فوق الأرض وليست الأرض حاملة السموات وكل سماء فوقها سماء وليست السفلى حاملة للعليا فإذا لم يجب في المخلوقات أن يكون الشيء حاملا لما فوقه بل قد يكون وقد لا يكون لم يلزم أن يكون العرش حاملا للرب تعالى إلا بحجة تبين ذلك وإذا لم يكن العرش حاملا لم يكن حملة العرش حاملة لما فوقه بطريق الأولى الوجه الثاني أن الطائفة الأخرى تمنع المقدمة الثانية فيقولون لا نسلم أن العرش وحملته إذا كانوا حاملين لله لزم أن يكون الله محتاجا إليهم فإن الله هو الذي يخلقهم ويخلق قواهم وأفعالهم فلا يحملونه إلا بقدرته ومعونته كما لا يفعلون شيئا من الأفعال إلا بذلك فلا يحمل في الحقيقة نفسه إلا نفسه كما أنه سبحانه إذا دعاه عباده فأجابهم وهو سبحانه الذي خلقهم وخلق دعاءهم وأفعالهم فهو المجيب لما خلقه وأعان عليه من الأفعال وكذلك إذا فرح بتوبة التائب من عباده أو غضب من معاصيهم وغير ذلك مما فيه إثبات نوع تحول عن أفعال عباده فإن هذا يقوله كثير من أهل الكلام مع موافقة جمهور أهل الحديث وغيرهم فيه مقامان مشكلان أحدهما مسألة حلول الحوادث والثانية تأثير المخلوق فيه وجواب المسألة الأولى مذكور في غير هذا الموضع وجواب السؤال الثاني أنه لا خالق ولا بارئ ولا مصور ولا مدبر لأمر الأرض والسماء إلا هو فلا حول ولا قوة إلا به وكل ما في عباده من حول وقوة فبه هو سبحانه فيعود الأمر إلى أنه هو المتصرف بنفسه سيحانه وتعالى الغني عما سواه وهؤلاء يقولون هذا الذي ذكرناه أكمل في صفة الغني عما سواه والقدرة على كل شيء مما يقوله النفاة فإن أولئك يقولون لا يقدر أن يتصرف بنفسه ولا يقدر أن ينزل ولا يصعد ولا يأتي ولا يجيء ولا يقدر أن يخلق في عباده قوة يحملون بها عرشه الذي هو عليه ويكونون إنما حملوه وهو فوق عرشه بقوته وقدرته من كونه لا يقدر على مثل ذلك ولا يمكنه أن يقيم نفسه إلا بنفسه كما أنه سبحانه إذا خلق الأسباب وخلق بها أمورا أخرى ودبر أمر السموات والأرض كان ذلك أكمل وأبلغ في الاقتدار من أن يخلق الشيء وحده بغير خلق قوة أخرى من غيره يخلقه بها فإن من يقدر على خلق القوى في المخلوقات أبلغ ممن لا يقدر على ذلك ولهذا كان خلقه للحيوان ولما فيه من القوى والإدراك والحركات من أعظم الآيات الدالة على قدرته وقوته قال الله تعالى إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين قال عثمان بن سعيد الدرامي في نقضه على المريسي وصاحبه وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغير أو كبير وزعمت كالصبيان العميان إن الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن كان الله أصغر فقد صيرتم العرش أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلا عن العرش وإن كان مثله إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر مع خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يضل بها لو كان من يعمل لله لقطع قشرة لسانه والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات فيقال لهذا البقباق النفاج إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحمله العرش عظما ولا قوة ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقل به العرش ولا الحملة ولا السموات ولا الأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض وكيف تنكر أيها النفاج أن عرشه يقله والعرش أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ولو كان العرش في السموات والارضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة فكيف تنكر هذا وأنت تزعم أن الله في الأرض في جميع أمكنتها والأرض دون العرش في العظمة والسعة فكيف تقله الأرض في دعواك ولا يقله العرش الذي هو أعظم منها وأوسع وادخل هذا القياس الذي أدخلت علينا في عظم تاعرش وصغره وكبره على نفسك وعلى أصحابك في الأرض وصغرها حتى تستدل على جهلك وتفطن لما يورد عليك حصائد لسانك فأنك لا تحتج بشيء إلا هو راجع عليك وآخذ بحلقك وقد حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح قال أول ما خلق الله حين كان عرشه على الماء حملة عرشه فقالوا ربنا لما خلقتنا فقال خلقتكم لحمل عرشي قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك فيقول لهم إني خلقتكم لذلك قال قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك قال فقال خلقتكم لحمل عرشي قال فيقولون ذلك مرارا قال فقال لهم قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فيحملكم والعرش قوة الله قال أفلا تدري أيها المعارض أن حملة العرش لم يحملوا العرش ومن عليه بقوتهم وبشدة أسرهم إلا بقوة الله وتأييده وقال في كتابه حدثني محمد بن بشار بندار حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وعن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ﷺ إن الله فوق عرشه فوق سمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي ﷺ بيده مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية عن عدة مشايخ منهم ابن بشار قال فيه عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله ﷺ إعرابي فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله ﷺ إنه لا يستشفع بالله على أحد خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب قال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته وساق الحديث وقوله في الحديث إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه أي الله هو الذي يفعل لا يشفع إلى غيره في أن يفعل وهذا كما يقوله الشعراء مخاطبا للنبي ﷺ... شفيعي إليك الله لا شيء غيره وهذا الحديث قد يطعن فيه بعض المشتغلين بالحديث انتصارا للجهمية وإن كان لا يفقه حقيقة قولهم وما فيه من التعطيل أو استبشاعا لما فيه من ذكر الأطيط كما فعل أبو القاسم المؤرخ ويحتجون بأنه تفرد به محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن جبير ثم يقول بعضهم ولم يقل ابن إسحاق حدثني فيتحمل أن يكون منقطعا وبعضهم يتعلل بكلام بعضهم في ابن إسحاق مع إن هذا الحديث وأمثاله وفيما يشبهه في اللفظ والمعنى لم يزل متداولا بين أهل العلم خالقا عن سالف ولم يزل سلف الأمة وأئمتها يروون ذلك رواية مصدق به راد به على من خالفه من الجهمية متلقين لذلك بالقبول حتى قد رواه الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه في التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بأحاديث الثقاة المتصلة الإسناد رواه عن بندار كما رواه الدرامي وأبو داود سواء وكذلك رواه عن أبي موسى محمد بن المثنى بهذا الإسناد مثله سواء فقال حدثنا محمد بن بشار حدثنا وهب يعني ابن جرير ثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وعن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله ﷺ أعرابي فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وجاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فقال رسول الله ويحك أتدري ما تقول فسبح رسول الله ﷺ فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من جميع خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله على عرشه وعرشه على سمواته وسمواته على أرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب قال ابن خزيمة قرئ على أبي موسى وأنا أسمع أن وهبا حدثهم بهذا الإسناد مثله سواء وممن احتج به الحافظ أبو محمد بن حزم في مسألة استدارة الأفلاك مع أن أبا محمد هذا من أعلم الناس لا يقلد غيره ولا يحتج إلا بما تثبت عنده صحته وليس هذا الموضوع وهؤلاء يحتجون في معارضة ذلك من الحديث بما أوهى عند أهله من الرأي السخيف الفاسد الذي يحتج به قياسو الجهمية كاحتجاج أبي القاسم المؤرخ في حديث أملاه في التنزيه بحديث أسنده عن عوسجة وهذا الحديث مما يعلم صبيان أهل الحديث أنه كذب مختلق وأنه مفترى وأنه لم يروه قط عالم من علماء المسلمين المقتدى بهم في الحديث ولا دونوه في شيء من دواوين الإسلام ولا يستجيز أهل العلم والعدل منهم أن يورد مثل ذلك إلا على بيان أنه كذب كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين فمن رد تلك الأحاديث المتلقاة بالقبول واحتج في نقضها بمثل هذه الموضوعات فإنما سلك سبيل من لا عقل له ولا دين وإن كان في ذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس وهو من المقلدين لقوم لا علم لهم بحقيقة حالهم كما قال تعالى وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب وروى أيضا عثمان بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة قال أتت امرأة إلى النبي ﷺ فقالت ادع الله أن يدخلني الجنة فعظم الرب وقال إن كرسيه وسع السموات والأرض وانه ليقد عليه فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع ومد أصابعه الأربعة وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركبه من يثقله وقال أيضا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد وهو ابن سلمة عن الزبير بن عبد السلام عن أيوب بن عبد الله الفهري أن ابن مسعود قال إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع فيها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم الذين يحملون العرش وسرادقات العرش والملائكة وأصحاب هذا القول قد يستشهدون بما روي عن طائفة في تفسير قوله تعالى تكاد السموات يتفطرن من فوقهن قال عثمان بن سعيد في رده على الجهمية حدثنا عبد الله بن صالح المصري قال حدثني الليث وهو ابن سعد حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن زيد بن أسلم حدثه عن عطاء بن يسار قال أتى رجل كعبا وهو في نفر فقال يا أبا إسحاق حدثني عن الجبار فأعظم القوم قوله فقال كعب دعوا الرجل فإن كان جاهلا يعلم وإن كان عالما إزداد علما قال كعب أخبرك أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ثم جعل ما بين كل سمائين كما بين السماء الدنيا والأرض وكثفهن مثل ذلك ثم رفع العرش فاستوى عليه فما في السموات سماء إلا لها أطيط كأطيط العلا في أول ما يرتحل من ثقل الجبار فوقهن وهذا الأثر وإن كان هو رواية كعب فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد هو لا يدافعها ولا يصدقها ولا يكذبها فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هم من أجل الأئمة وقد حدثوا به هم وغيرهم ولم ينكروا ما فيه من قوله من ثقل الجبار فوقهن فلو كان هذا القول منكرا في دين الإسلام عندهم لم يحدثوا به على هذا الوجه وقد ذكر ذلك القاضي أبو يعلى الأزجي فيما خرجه من أحاديث الصفات وقد ذكره من طريق السنة عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثني أبو المغيرة حدثنا عبدة بنت خالد بن معدان عن أبيها خالد بن معدان أنه كان يقول إن الرحمن سبحانه ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون حتى إذا قام المسبحون خفف عن حملة العرش قال القاضي وذكر أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه بإسناده حدثنا عن ابن مسعود وذكر فيه فإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيه ثلاث ساعات فيطلع منها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذي يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين يحملون العرش وذكر الخبر القاضي فقال أعلم أنه غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره وأن ثقله يحصل بذات الرحمن إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته قال على طريقته في مثل ذلك لأنا لا نثبت ثقلا من جهة المماسة والاعتماد والوزن لأن ذلك من صفات الأجسام ويتعالى عن ذلك وإنما نثبت ذلك لذاته لا على وجه المماسة كما قال الجميع أنه عال على الأشياء لا على وجه التغطية لها وإن كان في حكم الشاهد بأن العالي على الشيء يوجب تغطيته قال وقيل أنه تتجدد له صفة يثقل بها على العرش ويزول في حال كما تتجدد له صفة الإدراك عند خلق المدركات وتزول عند عدم المدركات قال القاضي قيل هذا غلط لأن الهيبة والتعظيم مصاحب لهم في جميع أحوالهم ولا يجوز مفارقتها لهم ولهذا قال سبحانه يسبحون الليل والنهار لا يفترون وما ذكره من قول القائل الحق ثقيل وكلام فلان ثقيل فإنما لم يحمل على ثقل ذات لأنها معاني والمعاني لا توصف بالثقل والخفة وليس كذلك هنا لأن الذات ليست معاني ولا أعراض فجاز وصفها بالثقل وأما قوله تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا فقد فسره أهل النقل أن المراد به ثقل الحكم ولأن الكلام ليس بذات قال فإن قيل يحمل على إنه يخلق في العرش ثقلا على كواهلهم وجعل لذلك إمارة لهم في بعض الأحوال إذا قام المشركون قيل هذا غلط لأنه يفضي أن يثقل عليهم بكفر المشركين ويخفف عنهم بطاعة المطيعين وهذا لا يجوز لما فيه من المواخذ بفعل الغير وليس كذلك إذا حملناه على ثقل الذات لأنه لا يفضي إلى ذلك لأن ثقل ذاته عليهم تكليف لهم وله أن يثقل عليهم في التكليف ويخفف قلت المقصود هنا التنبيه على أصل كلام الناس في ذلك وأما الكلام في الخفة والثقل ونحو ذلك فربما نتكلم عليه إن شاء الله في موضعه فإن طوائف من المتفلسفة يقولون السموات ليست خفيفة ولا ثقيلة قالوا لأن الجسم الثقيل هو الذي يتحرك إلى أسفل وهو الوسط والخفيف هو الذي يتحرك إلى فوق من الوسط والأفلاك مستديرة لا تتحرك إلى فوق ولا إلى أسفل لذلك لم نصفها بثقل ولا خفة كما لم يصفوها بشيء من الطبائع الأربعة وهذا النزاع قد يكون لفظيا وقد يكون معنويا إذا اصطلحوا على أنهم لا يسمون خفيفا ولا ثقيلا إلا ما هو كذلك فهو نزاع لفظي وأما النزاع في كون أجسام السموات يمكن صعودها وانخفاضها إلا أن الله يمسكها بقدرته كما قال إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا وقال ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره فهذا نزاع معنوي وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث كريب عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث أم المؤمنين أن النبي ﷺ خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال ما زلت على الحال الذي فارقتك عليها قالت نعم فقال النبي ﷺ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته فالمقصود بالحديث نهاية ما يمكن من المعدود وغاية ما يمكن من القول والمحبوب هو كلام الرب ورضاه وذكر عدد خلقه وزنة عرشه الوجه الثالث أن يقال هذه المسألة تدل على نقيض مطلوبك فإنه أثبت أن العرش له حملة وأنه يحمل مع ذلك اليوم ويوم القيامة وظاهر هذا الخطاب أنه على العرش يحمل مع ذلك على أن حملة العرش يحملونه أم لم يدل على ذلك فإن دل على ذلك أيضا فقد دل على ما هو من أبلغ نقيض مطلوبه ثم إذا خالف هو هذه الآية يحتاج إلى تأويلها أو تفويضها فلا تكون الآيات المثبتة للعرش ولحملته أو لحمل الملائكة لما فوقه تنفي كونه على العرش هذا تعليق على الدليل ضد موجبه ومقتضاه ولكن قوله يلزم الافتقار من باب التعارض فيحتاج إلى الجمع بين موجب الآية وبين هذا الدليل لا تكون الآية لأجل ما يقال أنه يعارضها تدل على نقيض مدلولها هذا لا يقوله عاقل الوجه الرابع في تقرير ذلك ثم أن قوله الذين يحملون العرش ومن حوله وقوله ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يوجب أن لله عرشا يحمل ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك كما تقوله طائفة من الجهمية فإن الملك هو مجموع الخلق فهنا دلت الآية على أن لله ملائكة من جملة خلقه يحملون عرشه وآخرون يكونون حوله وعلى أنه يوم القيامة يحمله ثمانية إما ثمانية أملاك وإما ثمانية أصناف وصفوف وهذا إلى مذهب المثبتة أقرب منه إلى قول النافية بلا ريب الوجه الخامس أن العرش في اللغة السرير بالنسبة إلى ما فوقه وكالسقف بالنسبة إلى ما تحته فإذا كان القرآن قد جعل لله عرشا وليس هو بالنسبة إليه كالسقف علم أنه بالنسبة إليه كالسرير بالنسبة إلى غيره وذلك يقتضي أنه فوق العرش الوجه السادس أن إضافة العرش مخصوصة إلى الله لقوله ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يقتضي أنه مضاف إلى الله إضافة تخصه كما في سائر المضافات إلى الله كقوله بيت الله وناقة الله ونحو ذلك وإذا كان العرش مضافا إلى الله في هذه الآية إضافة اختصاص وذلك يوجب أن يكون بينه وبين الله من النسبة ما ليس لغيره فما يذكره الجهمية من الاستيلاء والقدرة وغير ذلك أمر مشترك بين العرش وسائر المخلوقات وهذه الآية التي احتج بها تنفي أن يكون الثابت من الإضافة هو القدر المشترك وتوجب اختصاصا للعرش بالله ليس لغيره كقوله عرش ربك وهذا إنما يدل على قول المثبتة أو هو إلى الدلالة عليه أقرب وأيهما كان فقد دلت الآية على نقيض مطلوبه وهو الذي ألزمناه فلم يذكر آية من كتاب الله على مطلوبه إلا وهي لا دلالة فيها بل دلالتها على نقيض مطلوبه أقوى قال الرازي الحجة الثانية عشرة لو كان مستقرا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لأن تقدير القول بأنه مستقر على العرش يكون العرش مكانا له والسموات مكان عبيده والأقرب إلى العقول أن تكون تهيئة مكان نفسه مقدما على تهيئة مكان العبيد لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش لقوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وكلمة ثم للتراخي قلت الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا والحمد لله الذي جعل لرسوله منه سلطانا نصيرا والحمد لله الذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يوم الأشهاد ينصرهم بسلطان الحجة وسلطان القدرة وهو الذي يأتي رسله والمؤمنين به حجة على من خالفهم وجادلهم فيه بالباطل كما قال وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال فإن هذا الرجل وأمثاله لا يحتجون بحجة إلا وهي عليهم لا لهم لكن يزيد فهم ذلك من يكون الله قد أيده بروح منه وكتب في قلبه الإيمان وجعل في قلبه من نور يفهم دقيق ذلك وأما جليله فيفهمه جمهور الناس وهذه من جليل ذلك وذلك أنه لا خلاف بين المسلمين وأهل الكتاب أن العرش خلق قبل السموات والأرض فقول هذا المحتج لو كان مستقرا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لا يضرهم بل ينفعهم فإن الأمر في الترتيب ذلك ما كان قول المثبتة يستلزم تقديم خلق العرش فهكذا وقع ولله الحمد وإن لم يكن مستلزما هذا الترتيب بطلت هذه الحجة فهي باطلة على التقديرين أما قوله لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش فيقال هذا لم يعلمه أحدا لا من الأولين ولا من الآخرين ولا قاله أحد يعرف بالعلم وأما احتجاجه على تقدم خلق السموات بقوله إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وكلمة ثم للتراخي فهنا إنما ذكر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض فأين قوله ثم استوى على العرش ومن قوله خلق العرش هذا لا يخفى على أحد فليس في كتاب الله ما يوهم خلق العرش فضلا عن أن يدل فلا دلالة في القرآن على خلق السموات بعد العرش الوجه الثاني أن القرآن يدل على أن خلق العرش قبل خلق السموات والأرض بهذه الآية التي ذكرها وبغيرها فإن قوله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يقتضي أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ولم يذكر أنه خلقه حينئذ ولو كان خلقه حينئذ لكان قد ذكر خلقه ثم استواءه عليه ولأن ذكره للاستواء عليه دون خلقه دليل على أنه كان مخلوقا قبل ذلك ولأنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين وأهل الكتاب أن الخلق كان في ستة أيام وقد قال تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا فأخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان حينئذ على الماء وفي الصحيح عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ أنه قال كان الله ولا شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض قال البخاري في كتاب التوحيد والرد على الجهمية والزنادقة: باب قوله تعالى وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم عن عمران بن حصين قال إني كنت عند النبي ﷺ إذ جاءه وفد بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فأعطنا فدخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشري يا اهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم فقالوا قبلنا جئناك لنفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء الوجه الرابع أنه إذا كان قد خلق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض وكان ذلك مناسبا في العقل لأن يكون العرش مكانا له والسموات مكان عبيده كان الثابت بالآية التي تلاها وبغيرها من الآيات والأحاديث واتفاق المسلمين دليل على مذهب منازعه دون مذهبه الوجه الخامس أنه لو فرض أن الله خلق العرش بعد السموات والأرض لم يكن في هذا ما ينافي أن يكون عليه كما أنه خلق السموات بعد الأرض فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم بعد قوله هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا قال ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين بعد قوله أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها قواتها في أربعة أيام سواءا للسائلين 10. قال أبو عبد الله الرازي الحجة الرابعة عشرة قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه ظاهر الآية يقتضي فناء العرش وفناء جميع الأحياز والجهات وحينئذ يبقى الحق سبحانه وتعالى منزها عن الحيز والجهة وإذا ثبت امتنع أن يكون الآن في جهة والألزم وقوع التغير في الذات وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية فنقول تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عن من قاله من السلف والمفسرين من أن المعنى كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه فأنه ذكر ذلك بعد نهيه عن الإشراك وإن يدعو معه إلها آخر وقوله لا إله إلا هو يقتضي أظهر الوجهين وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الإيمان والأعمال وغيرهما روى عن أبي العالية قال إلا ما أريد به وجهه وعن جعفر الصادق إلا دينه ومعناهما واحد وقد روي عن عبادة بن الصامت قال يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال ميزوا ما كان لله منها قال فيماز ما كان لله منها ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار وقد روى عن علي ما يعم ففي تفسير الثعلبي عن صالح بن محمد عن سليمان بن عمرو عن سالم الأفطس عن الحسن وعن سعيد بن جبير عن علي ابن أبي طالب أن رجلا سأله فلم يعطه شيئا فقال أسألك بوجه الله فقال له علي كذبت ليس بوجه الله سألتني إنما وجه الله الحق إلا ترى إلى قوله كل شيء هالك إلا وجهه يعني الحق ولكن سألتني بوجهك الخلق وعن مجاهد إلا هو وعن الضحاك كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش وعن ابن كيسان إلا ملكه وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع سلف الأمة وأئمتها لما في ذلك من الدلالة على بقاء الجنة وأهلها وبقاء غير ذلك مما لا تتسع هذه الورقة لذكره وقد استدل طوائف من أهل الكلام والمتفلسفة على امتناع فناء جمع المخلوقات بأدلة عقلية ويجيبهم أهل السنة والإثبات بجوابين معروفين أحدهما أن المتجدد نسبة وإضافة بينه وبين العرش بمنزلة المعية ويسميها ابن عقيل الأحوال وتجدد النسب والاضافات متفق عليه بين جميع أهل الأرض من المسلمين وغيرهم إذ لا يقتضي ذلك تغيرا ولا استحالة والثاني إن ذلك وإن اقتضى تحولا من حال إلى حال ومن شأن إلى شأن فهو مثل مجيئه واتيانه ونزوله وتكليمه لموسى وإتيانه يوم القيامة في صورة ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص وقال به أكثر أهل السنة والحديث وكثير من أهل الكلام وهو لازم لسائر الفرق ولفظ التغير لفظ مجمل يتوهم السامع أن الرب يتغير ويستحيل من حال إلى حال كما يتغير الإنسان أما بمرض وأما بغيره وكما تتغير الشمس إذا اصفر لونها ولا يدري أنه عندهم إذا أحدث ما لم يكن محدثا سموه تغيرا وإذا سمع دعاء عباده سموه تغيرا وإذا رأى ما خلقه سموه تغيرا وإذا كلم موسى بن عمران سموه تغيرا وإذا رضي عمن أطاعه وسخط على من عصاه سموه تغيرا إلى مثل هذه الأمور ثم أنهم ينفون ذلك من غير دليل أصلا فإن الفلاسفة يجوزون أن يكون القديم محلا للحوادث قوله فإن قيل الحيز والجهة ليس شيئا موجودا حتى يصير هالكا فانيا قلنا الأحياز والجهات أمور مختلفة بحقائقها متباينة بماهياتها بدليل أنكم قلتم إنه يجب حصول ذات الله تعالى في جهة فوق ويمتنع حصول ذاته في سائر الجهات فلولا أن جهة فوق مخالفة بالماهية لسائر الجهات لما كانت جهة فوق مخالفة لسائر الجهات في هذه الخاصة وهذا الحكم والجواب عن هذه الحجة وأمثالها ينبني على مقامين المقام الأول قول من يقول أنه نفسه تعالى فوق العرش ويقول أنه ليس بجسم ولا متحيز كما ذكر ابن كلاب والأشعري وكثير من الصفاتية والمنازعون لهم في كونه فوق العرش كالرازي ومتأخري الأشعرية وكالمعتزلة يدعون أن هذا تناقض مخالف للضرورة العقلية إلى أن قال وأما القسم الثاني فهو مقام من سلم له أنه فوق العرش وهو متحيز وله حد ونهاية ويطلق عليه أيضا لفظ الجهة فإن أهل الإثبات متنازعون في لفظ الجهة وفي ذلك نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم كما أنهم متنازعون في اسم الحد أيضا فنقول على هذا التقدير فالكلام على هذا من وجوه الأول أن كلام هذا وغيره في الحيز هل هو أمر وجودي أو عدمي أو إضافي مضطرب متناقص فإنه وإن كان قد قرر هنا أنه وجودي فقد قرر في غير هذا الموضع أنه عدمي ويكفي نقض كلامه بكلامه فأنا قد اعتمدنا هذا مرات فإن هذا موجود في عامة هؤلاء تحقيقا لقوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا بخلاف الحق الذي يصدق بعضه بعضا فقد ذكر في البرهان الرابع بعد هذا نقض هذا فقال الرابع وهو أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها متساوية يكون حكمها واحدا وذلك يمنع من القول بأنه تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين فإن قالوا فلم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى قلنا هذا باطل لوجهين أحدهما أنه قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض فلم يكن هناك فوق ولا تحت فبطل قولكم الثاني أنه لو كان الفوق متميزا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت الجهات أمورا وجودية ممتدة قابلة للانقسام وذلك يقتضي تقدم الجسم لأنه لا معنى بالجسم إلا ذلك فهذا تصريح في أنها مختلفة في الحقائق وأنها خلاء صرف وفراغ محض وهذا يناقض ما ذكره هنا ومن لم يكن لسانه وراء قلبه كان كلامه كثير التقلب والتناقض قال الرازي وأيضا فلأنا نقول هذا الجسم حصل في هذا الحيز بعد أن كان حاصلا في حيز آخر فهذه الأحياز معدودة متباينة متعاقبة والعدم المحض لا يكون كذلك فثبت أن هذه الأحياز أمور متخالفة بالحقائق متباينة بالعدد وكل ما كان كذلك امتنع أن يكون عدما محضا فكان أمرا موجودا وإذا ثبت هذا دخل تحت قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه وإذا هلك الحيز والجهة بقي ذات الله تعالى منزها عن الحيز وبقية الكلام قد تقدمت وأما قوله أن الجوهر إذا انتقل من حيز إلى حيز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب فيقال إن كان الانتقال في أجسام العالم الموجودة فهذه أمور وجودية وإن كان فيما ليس كذلك فلا نسلم إن هناك شيء يكون متروكا ومطلوبا أصلا بل الأحياز الموجودة لا يكون المنتقل فيها طالبا لحيز دون حيز بل قصده شيء آخر فكيف يجب أن يكون منتقل ومتحرك طالبا لحيز وجودي يكون فيه وتاركا لحيز وجودي قال أبو عبد الله الرازي الحجة الخامسة عشرة قوله تعالى هو الأول والآخر فهذا يقتضي أن يكون ذاته متقدما في الوجود على كل ما سواه وإن يكون متأخرا في الوجود عن كل ما سواه وذلك يقتضي أنه كان موجودا قبل الحيز والحهة ويكون موجودا بعد فناء الحيز والجهة وإذا ثبت هذا فالتقريب ما ذكرناه في الحجة الثالثة عشرة والرابعة عشرة قال الشيخ رحمه الله في شرح حديث عمران بن حصين كان الله ولم يكن شيء قبله وهو الآن على ما عليه كان وهذه الزيادة وهو قوله وهو الآن على ما عليه كان كذب مفترى على رسول الله ﷺ إلى أن قال وهذه الزيادة الالحادية قصد بها المتكلمة المتجهمة نفي الصفات التي وصف بها نفسه من استوائه على العرش ونزوله إلى السماء الدنيا وغير ذلك فقالوا كان في الأزل ليس مستويا على العرش وهو الآن على ما عليه كان فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير ويجيبهم أهل السنة والإثبات بجوابين معروفين أحدهما أن المتجدد نسبة وإضافة بينه وبين العرش بمنزلة المعية ويسميها ابن عقيل الأحوال وتجدد النسب والإضافات متفق عليه بين جميع أهل الأرض من المسلمين وغيرهم إذ لا يقتضي ذلك تغيرا ولا استحالة والثاني أن ذلك وإن اقتضى تحولا من حال إلى حال ومن شأن إلى شأن فهو مثل مجيئه واتيانه ونزوله وتكليمه لموسى وإتيانه يوم القيامة في صورة ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص وقال به اكثر أهل السنة والحديث وكثير من أهل الكلام وهو لازم لأهل الفرق قال الرازي الحجة السادسة عشرة قوله تعالى واسجد واقترب ولو كان في جهة الفوق لكانت السجدة تفيد البعد عن الله تعالى لا القرب منه وذلك خلاف الأصل سئل الشيخ رحمه الله عن العرش هل هو كروي وإذا كان كرويا والله محيط به فما فائدة أن العبد يقصد العلو حين دعائه وعبادته دون التحت فقال الجواب عن هذا السؤال بثلاث مقامات الأول أنه لم يثبت أن العرش فلك مستدير الثاني أن العرش والعالم بالنسبة إلى الله في غاية الصغر سواء كان كرويا أو لا الثالث لو قدر أنه كروي فهو فوق المخلوقات مطلقا إلى أن قال وإذا كان الأمر كذلك فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها وهو فوقها مطلقا فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو لا من جهاته الباقية أصلا ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من الأفلاك من غير جهة العلو كان جاهلا باتفاق العقلاء فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوته والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق به فأن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا إلى أن قال وهذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم وهذا غلط عظيم فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقا وهذا قلب للحقائق إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقا وأهل الهيئة يقولون لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهي إلى المركز حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر للتقيا جميعا في المركز ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجرين للتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت صاحبه بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك إلى أن قال وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين أحدهما أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء أو إلى ما فوق كان صعوده مما يلي رأسه أقرب إذا أمكنه ذلك ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية إلى من قال ولو أن رجلا أراد أن يخاطب الشمس والقمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب فتنحرف عن سمت الرأس فكيف بمن هو فوق كل شيء دائما لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى الوجه الثاني أنه إذا قصد أسفل بدون علو كان ينتهي قصده إلى المركز وأن قصده أمامه أو ورائه أو يمينه أو يساره من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء فلا بد له من قصد العلو ضرورة سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها ولو فرض أنه قال أقصد من اليمين مع العلو أو من السفل مع العلو كان بمنزلة من يقول أريد أن أحج من المغرب فأذهب إلى خراسان ثم أذهب إلى مكة قال الرازي الحجة السابعة عشرة قوله تعالى فلا تجعل لله أندادا والند المثل ولو كان تعالى جسما لكان مثلا لكل واحد من الأجسام لما سنبين إن شاء الله تعالى أن الأجسام كلها متماثلة فحينئذ يكون الند موجودا على هذا التقدير وذلك على مضادة هذا النص قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وأما التمثيل فقد نطق الكتاب بنفيه عن الله في غير موضع كقوله تعالى ليس كمثله شيء وقوله هل تعلم له سميا وقوله ولم يكن له كفوا أحد وقوله فلا تجعل لله أندادا وقوله فلا تضربوا لله الأمثال ولكن وقع في لفظ التشبيه إجمال إلى أن قال فإن التشبيه الذي يجب نفيه عن الرب تعالى اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق وإن يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب وأما إذا قيل حي وحي وعالم وعالم وقادر وقادر وقيل لهذا قدرة ولهذا قدرة ولهذا علم ولهذا علم كان نفس علم الرب لم يشركه فيه العبد ونفس علم العبد لا يتصف به الرب تعالى عن ذلك وكذلك في سائر الصفات إلى أن قال وإن أراد به من جعل صفات الرب مثل صفات العبد فهؤلاء مبطلون ضالون وأما احتجاجهم بقولهم الأجسام متماثلة فهذا إن كان حقا فهو تماثل يعلم بالعقل ليس فيه أن اللغة التي نزل بها القرآن تطلق لفظ المثل على كل جسم ولا أن اللغة التي نزل بها القرآن تقول إن السماء مثل الأرض والشمس والقمر والكواكب مثل الجبال والجبال مثل الأنهار ومن العجب أن كلامه وكلام أمثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وإن القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على أنها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة ثم إنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر أنه لا دليل على تماثلها فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاما بلا علم بل بخلاف الحق مع أنه كلام في الله تعالى وقد قال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال عن الشيطان إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون قال أبو عبد الله الرازي الحجة الثامنة عشرة الحديث المشهور وهو ما روي أن عمران أبن الحصين قال يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر فقال كان الله ولم يكن معه شيء وقد دللنا مرارا كثيرة على أنه تعالى لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان ذلك الحيز شيئا موجودا معه وذلك على نقيض هذا النص قال الشيخ رحمه الله الوجه الثالث أنه قال كان الله ولم يكن شيئا قبله وقد روي معه وروي غيره والألفاظ الثلاثة في البخاري والمجلس كان واحدا وسؤالهم وجوابه كان في ذلك المجلس وعمران الذي روى الحديث لم يقم منه حين أنقضى المجلس بل قام لما أخبر بذهاب راحلته قبل فراغ المجلس وهو المخبر بلفظ الرسول فدل على أنه إنما قال أحد الألفاظ والآخران رويا بالمعنى وحينئذ فالذي ثبت عنه لفظ القبل فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء وهذا موافق ومفسر لقوله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن وإذا ثبت في هذا الحديث لفظ القبل فقد ثبت أن الرسول ﷺ قاله واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما أبدا وكان أكثر أهل الحديث إنما يروونه بلفظ القبل كان الله ولا شيء قبله مثل الحميدي والبغوي وابن الأثير وغيرهم وإذا كان إنما قال كان الله ولم يكن شيء قبله لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ولا لأول مخلوق مطلقا بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء وإن كان ذلك كله مخلوقا كما أخبر به في مواضع أخر لكن في جواب أهل اليمن إنما كان مقصوده إخباره إياهم عن بدء خلق السموات والأرض وما بينهما وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام لا بابتداء ما خلقه الله قبل ذلك قوله لو كان الباري أزلا وأبدا مختصا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودان في الأزل فيلزم إثبات قديم غير الله وذلك محال بإجماع المسلمين يقال له هؤلاء إن قالوا بأنه مختص بحيز وجودي أزلا وأبدا فليس ذلك عندهم شيئا خارجا عن مسمى الله كما أن الحيز الذي هو نهايات المتحيز وحدوده الداخلة فيه ليس خارجا عنه بل هو منه وعلى هذا التقدير فيكون إثباتهم لقدم هذا الحيز كإثبات سائر الصفاتية للصفات القديمة من علمه وقدرته وحياته لا فرق بين تحيزه وبين قيامه بنفسه وحياته وسائر صفاته اللازمة والحيز مثل الحياة بل أبلغ منه في لزومه للذات إلى أن قال ثم إن هذه الحجة التي ذكرها من لزوم إثبات قديم غير الله تعالى مشهورة من حجج النفاة للصفات قال أبو عبد الله الرازي الحجة التاسعة عشرة روي أن النبي ﷺ قيل له أين كان ربنا قال كان في عماء ليس تحته ماء ولا فوقه هواء فقيل العماء بالمد الغيم الرقيق وأما العمى بالقصر فهو عبارة عن الحالة المضادة للبصر فقال بعض العلماء يجب أن تكون الرواية الصحيحة هي الرواية بالقصر وحينئذ يدل على نفي الجهة لأن الجهة إذا لم تكن موجودة لم تكن مرئية فأمكن جعل العمى عبارة عن عدم الجهة ويتأكد هذا بقوله عليه السلام ليس تحته ماء ولا فوقه هواء قال الشيخ رحمه الله وحديث أبي رزين رواه أحمد والترمذي وغيرهما قال الترمذي حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء فهذا الحديث فيه بيان أنه خلق العرش قبل السموات والأرض وأما قوله في عماء فعلى ما ذكره يزيد بن هارون ورواه عنه أحمد بن منيع وقرره الترمذي من أن معناه ليس معه شيء فيكون فيه دلالة على أن الله كان وليس معه شيء ثم لو دل على وجود موجود على قول لم يفسر العماء بالسحاب الرقيق لم يكن في ذلك دليل على قول الدهرية بقدم ما ادعوا قدمه ولا بأن مادة السموات والأرض ليستا مبتدعتين وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة وأخبر أيضا أنه يغير هذه المخلوقات قوله واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها بعضها قوي وبعضها ضعيف وكيفما كان الأمر فقد ثبت أن في القرآن والأخبار دلائل كثيرة تدل على تنزيه الله تعالى عن الحيز والجهة وبالله التوفيق قال الشيخ وقد بسط الكلام على هذه الأمور في مواضع وبين أن ما ينفيه نفاة الصفات التي نطلق بها الكتاب والسنة من علو الله على خلقه وغير ذلك كما أنه لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة ولا التابعين فلم يدل عليه دليل عقلي بل الأدلة العقلية الصريحة الموافقة للأدلة السمعية الصحيحة ولكن هؤلاء ضلوا بألفاظ متشابهة ابتدعوها ومعاني عقلية لم يميزوا بين حقها وباطلها وجميع البدع كبدع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية لها شبه في نصوص الأنبياء بخلاف بدعة الجهمية النفاة فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي اصلا ولهذا كانت آخر البدع حدوثا بالإسلام ولما أحدثت أطلق السلف والأئمة القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق ولهذا يصير محققوهم إلى مثل فرعون مقدم المعطلة بل وينتصرون له ويعظمونه والمبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم وبيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله قال أبو عبد الله الرازي الفصل الثالث في إقامة الدلائل العقلية على أنه ليس بمتحيز البتة اعلم أنا إذا دللنا على أنه تعالى ليس بمتحيز فقد دللنا على أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر فرد لأن المتحيز إن كان منقسما فهو الجسم وإن لم يكن منقسما فهو الجوهر الفرد يقال له قد تقدم أن الحيز قد يراد به ما يحوز الشيء وهو نهايته وحدوده الداخلة فيه وقد يراد به الشيء الذي يكون منفصل عنه وهو محيط به وكلاهما أمر وجودي وقد يراد بالحيز ما هو تقدير المكان وهذا هو الحيز عند كثير من أهل الكلام الذين يفرقون بين لفظ الحيز والمكان والحيز على هذا أمر عدمي كما تقدم تقرير ذلك فإذا قال إذا كان متحيزا فالمتحيزات مماثلة له كان هذا مصادرة على المطلوب لأن نفي كونه جسما بناءا على نفي الجوهر ونفي الجوهر بناءا على نفي التحيز والمتحيز هو الجسم أو الجوهر فيكون قد جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه وهذه هي المصادرة قوله فنقول الذي يدل على أنه تعالى ليس بمتحيز وجوه البرهان الأول أنه تعالى لو كان متحيزا لكان مماثلا لسائر المتحيزات في تمام الماهية وهذا ممتنع فيقال هذه الحجة قد تقدم الكلام على موادها غير مرة والكلام عليها من المقامين المتقدمين أحدهما قول من يقول أنه فوق العرش وهو مع ذلك ليس بجسم ولا هو متحيز كما ذكرنا أن هذا قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفقهاء ومن تبعهم من أهل الحديث والصوفية وغيرهم وهذا قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وغيرهم فعلى هذا لا يلزم من نفي كونه متحيزا نفي كونه على العرش وتقدم ما في ذلك من دعوى الضرورة من الجانبين المقام الثاني من لا ينفي ذلك بل يسلم إثباته أو لا يتكلم فيه بنفي ولا إثبات والكلام في هذا المقام من وجوه أحدها لا نسلم أنه لو كان مختصا بشيء من الأحياز والجهات لكان مساويا للمتحيزات وما ذكروه من الحجة مبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم إبطال ذلك بما لا حاجة إلى إعادته وأن القول بتماثلها من أضعف الأقوال بل من أعظمها مخالفة للحس والعقل ولما عليه جماهير العقلاء وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات مستلزم للتجسيم والأجسام متماثلة والمثبتون يجيبون على هذا تارة بمنع المقدمة الأولى وتارة بمنع المقدمة الثانية وتارة بمنع كل من المقدمتين وتارة بالإستفصال ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود أو بالمركب من الهيولى والصورة ونحو ذلك فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة وعلى أنها متماثلة فهذا يبنى على صحة ذلك وعلى إثبات الجوهر المفرد وعلى أنه متماثل وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك إلى أن قال ولهذا يقول هؤلاء أن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه وأكثر العقلاء على خلاف ذلك قوله فيفتقر هنا إلى بيان أنه يمتنع أن يكون مساويا لسائر المتحيزات في عموم المتحيزية ومخالفا لها في ماهيته المخصوصة فنقول الدليل على أن ذلك ممتنع هو أن بتقدير أن يكون مساويا لسائر المتحيزات في عموم المتحيزية ومخالفا لها في الخصوصية كان ما به الاشتراك مغايرا لا محالة لما به الامتياز فحينئذ يكون عموم المتحيزية مغايرا لخصوص ذاته المخصوصة وحينئذ نقول إما أن يكون الذات هي المتحيزية ويكون المتحيزية صفة لتلك الذات وإما أن يقال المتحيزية صفة وتلك الخصوصية هي الذات أما القسم الأول فإنه يقتضي حصول المقصود لأنه إذا كان مجرد المتحيزية هو الذات وثبت أن مجرد المتحيزية أمر مشترك فيه بينه وبين سائر المتحيزات فحينئذ يحصل منه أن بتقدير أن يكون تعالى متحيزا كانت ذاته مماثلة لذوات سائر المتحيزات وليس المطلوب إلا ذلك وأما القسم الثاني وهو أن يقال الذات هي تلك الخصوصية والصفة هي المتحيزية فنقول هذا محال وذلك لأن تلك الخصوصية من حيث انها هي هي مع قطع النظر عن المتحيزية إما أن يكون لها اختصاص بالحيز وإما أن لا يكون كذلك والأول محال لأن كل ما كان حاصلا في حيز وجهة على سبيل الاستقلال كان متحيزا فلو كانت تلك الخصوصية التي فرضناها خالية عن التحيز حاصلة في الحيز لكان الخالي عن التحيز متحيزا وذلك محال وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الخصوصية غير مختصة بشيء من الأحياز والجهات فنقول أنه يمتنع أن تكون المتحيزية صفة قائمة بها لأن تلك الخصوصية غير مختصة بشيء من الأحياز والجهات والمتحيزية أمر لا يعقل إلا أن يكون حاصلا في الجهات والشيء الذي يجب أن يكون حاصلا في الجهات يمتنع أن يكون حاصلا في الشيء الذي يمتنع حصوله في الجهة وإذا لم تكن المتحيزية صفة للشيء كان نفس الذات وحينئذ يلزم أن يكون الأشياء المتساوية في المتحيزية متساوية في تمام الذات فثبت بما ذكرنا أن المتحيزات يجب أن تكون كلها متساوية في تمام الماهية وهذا برهان قاطع في تقرير هذه المقدمة قد قدمنا أن هذا المشترك وهو المقدار صفة المقدر قائم به لا نفس المقدار وحقيقته قال تعالى وكل شيء عنده بمقدار وقال قد جعل الله لكل شيء قدرا فجعل المقدار القدر للأشياء لم يجعل ذلك أعيان الأشياء أو ذواتها كما قال تعالى وما ننزله إلا بقدر معلوم وبينا أن كل واحد من المشترك والمميز يجوز أن يكونا سواءا بالنسبة إلى الذات الموصوفة بهما فليس جعل أحدهما ذاتا والآخر صفة بأولى من العكس وبينا أنه وإن قيل أنه الذات فليس هو تمام الحقيقة بل الحقيقة موافقة لما به الاشتراك وما به الامتياز فالمتحيز وإن كان جنسا كما قيل في الجوهر بالجنس لا يجب أن يكون مماثل الأنواع فإن التماثل يحتاج إلى الاشتراك في جميع الصفات الذاتية وهو قد سلم أن المتحيزات مختلفة في الصفات فيجوز أن يكون كل جسم وإن كان التقدير ذاته فله صفات ذاتية مختصة به كما يقول من يقول من المتكلمين المنطقيين وغيرهم إن الجوهر جنس وتحته أنواع إضافية وتحت كل نوع أنواع إلى النوع الشامل الخاص الذي تتفق أفراده في تمام الماهية الحقيقية قال الرازي وإنما قلنا إنه يمتنع أن يكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهية لوجوه الأول أن من حكم المتماثلين الاستواء في جميع اللوازم فيلزم من قدم ذات الله تعالى قدم سائر الأجسام أو من حدوث سائر الأجسام حدوث ذات الله تعالى وذلك محال الثاني أن المثلين يجب استواؤهما في جميع اللوازم فكما صح على سائر الأجسام خلوها عن صفة العلم والقدرة والحياة وجب أن يصح على ذاته الخلو عن هذه الصفات فحينئذ يكون اتصاف ذاته بحياته وعلمه وقدرته من الجائزات وإذا كان الأمر كذلك امتنع كون تلك الذات موصوفا بالحياة والعلم والقدرة إلا بإيجاد موجد وتخصيص مخصص وذلك يقتضي احتياجه إلى الإله فحينئذ كل ما كان محتاجا إلى الإله وهذا يقتضي أن الإله يمتنع أن يكون جسما فإن قيل إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه من ذلك الوجه أو وجب له ما وجب له وامتنع عليه ما امتنع عليه قيل هب أن الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع عن الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا كما إذا قيل إنه موجود حي عليم سميع بصير وقد سمى بعض عباده حيا سميعا بصيرا قيل لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعا على الرب تعالى فإن ذلك لا يقتضي حدوثا ولا إمكانا ولا نقصا ولا شيئا مما ينافي صفات الربوبية وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود أو الحياة أو الحي أو العلم أو العليم أو السمع أو البصر أو السميع أو البصير أو القدرة أو القدير والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث ولا فيما يختص بالواجب القديم فإنما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال كالوجود والحياة والعلم والقدرة ولم يكن في ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق لم يكن في إثبات هذا محذور أصلا بل إثبات هذا من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة ويقال له كل جسم فإنه مختص بحيزه وحيزه الذي هو جوانبه ونهايته وحدوده الداخل في مسماه فعلم أن ذلك لا ينافي ما ذكروه من دليل حدوث الأجسام مع أن ذلك الدليل لا نرتضيه لا لهذا لكن لمعاني أخر ومع إن المنازعين له الذين يقولون أنه جسم أوله حد وقدر ينازعون في حدوث كل ما كان جسما أوله حد وقدر يقولون دعوى حدوث جميع هذا مثل دعوى حدوث كل ذات أو كل موصوف أو كل صفة وموصوف أو حدوث كل قائم بنفسه أو كل موجود ونحو ذلك قال الرازي الثالث أنه لما كان ذاته تعالى مساوية لذات سائر المتحيزات فكما صح في سائر المتحيزات كونها متحركة تارة وساكنة أخرى وجب أن يكون ذاته أيضا كذلك فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون ذاته تعالى قابلة للحركة والسكون وكل ما كان كذلك وجب القول بكونه محدثا لما ثبت في تقرير هذه الدلائل في مسئلة حدوث الأجسام ولما كان محدثا وحدوثه محال فكونه جسما محال ويقول له الخصم هب أنك تقول لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون فنحن نقول أن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون فإنه أما أن يكون منتقلا أو لا يكون منتقلا فإن كان منتقلا فهو متحرك وإلا فهو ساكن والحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلا كانت الأولى أكمل ويقول الخصم قولك الحركة حادثة قلت حادثة النوع أو الشخص الأول ممنوع والثاني مسلم قولك ما لا يخلوا عن الحوادث فهو حادث إن أريد به ما لا يخلو عن نوعها فممنوع والثاني لا يضر وأنت لم تذكر حجة على حدوث نوع الحركة إلا حجة واحدة وهو قولك الحادث لا يكون أزليا وهي ضعيفة كما عرف إذ لفظ الحادث يراد به النوع ويراد به الشخص قال الرازي الرابع أنه لو كان جسما لكان مؤتلف الأجزاء وتلك الأجزاء تكون متماثلة بأعيانها وهي أيضا مماثلة لأجزاء سائر الأجسام وعلى هذا التقدير كما صح الاجتماع والافتراق على سائر الأجسام وجب أن يصح على تلك الأجزاء وعلى هذا التقدير لا بد له من مركب ومؤلف وذلك على إله العالم محال وأما الاجتماع والافتراق فهو مبني على مسئلة الجوهر الفرد ومن قال أن الأجسام ليست مركبة من الجواهر الفردة وهم أكثر الطوائف لم يقل بأن الجسم لا يخلو من الاجتماع والافتراق بل الجسم البسيط عنده واحد سواء قبل الافتراق أو لم يقبله وكذلك إذا قدر أن فيه حقائق مختلفة متلازمة لم يلزم من ذلك أن يقبل الاجتماع والافتراق قال أبو عبد الله الرازي البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون متحيزا هو أنه لو كان متحيزا لكان متناهيا وكل متناه ممكن وكل ممكن محدث فلو كان متحيزا لكان محدثا وهذا محال وذاك محال يقال هذه من حجج الجهمية قديما كما ذكر ذلك الأئمة وذكروا أن جهما وأتباعه هم أول من أحدث في الإسلام هذه الصفات السلبية وإبطال نقيضها مثل قولهم ليس فوق العالم ولا داخل العالم ولا خارجه وليس في مكان دون مكان أو ليس في مكان ولا بمتحيز ولا جوهر ولا جسم ولا له نهاية ولا حد ونحو هذه العبارات إلى أن قال وإذا عرف أصل هذا الكلام فجميع السلف والأئمة الذين بلغهم ذلك أنكروا ما فيه من هذه المعاني السلبية التي تنافي ما جاء به الكتاب والسنة إلى أن قال والكلام على هذه الحجة في مقامين أحدهما منع المقدمة الأولى والثاني منع المقدمة الثانية أما الأولى فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس له حد ولا مقدار ولا هو جسم كما يقول ذلك كثير من الصفاتية من الكلابية وأئمة الأشعرية وقدمائهم ومن وافقهم من الفقهاء الطوائف الأربعة وغيرهم وأهل الحديث والصوفية وغير هؤلاء وهم أمم لا يحصيهم إلا الله إلى أن قال وأما المقام الثاني فكلام من لا ينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ليس لها أصل في الكتاب والسنة بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظا أو معنى أو لا يتعرض لها بنفي ولا إثبات وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها وجماهير أهل الحديث وطائفة من أهل الكلام والصوفية وغيرهم وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين حيث أثبتوا بما في الكتاب والسنة وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده قوله أما المقدمة الأولى وهي بيان أنه تعالى لو كان متحيزا لكان متناهيا فالدليل عليه أن كل مقدار فإنه يقبل الزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه وهذا يدل على أن كل متحيز فهو متناه وشرح هذا الدليل قد قررناه في سائر كتبنا يقال هب أنك صرحت بأن مجاز الاسم الصمد هو كونه لا قدر له وإذا لم يكن له قدر فلا يجوز وصفه بالزيادة والنقص ولا يجوز وصفه بعدم الزيادة والنقص فإن كون الشيء يزيد وينقص أو لا يزيد ولا ينقص كونه ذا قدر فما لا قدر له ولا يقبل الوصف بالزيادة والنقصان ولا الوصف فأنه لا يزيد ولا ينقص كالمعدوم لا يقال فيه أنه لا يزيد ولا ينقص وقد بسطنا هذا في الوصف بالنهاية وعدمها وإذا كان كذلك فعدم قبول الوصف ثبوت ذلك ونفيه لا يكون صفة إلا للمعدوم لا يكون صفة للموجود كما بينا هذا فيما تقدم فإن المعدوم لا يقبل الاتصاف بالصفات المتقابلة فلا يقال فيه عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا يزيد منقوص ولا غير يزيد منقوص فأما كون الشيء غير موصوف بالزيادة والنقصان ولا بعدم ذلك وهو موجود وليس بذي قدر فهذا لا يعقل قال الرازي وأما المقدمة الثانية وهي بيان أن كل متناه فهو ممكن فذلك لأن كل ما كان متناه فإن فرض كونه أزيد قدرا أو أنقص قدرا ممكن والعلم بثبوت هذا الإمكان ضروري فثبت أن كل متناه فهو في ذاته ممكن قوله أن المتناهي يقبل الزائد والنقصان قيل لك هذا ممنوع فيما وجوده بنفسه فإن صفاته تكون لازمة لذاته فلا يمكن أن تكون على خلاف ما هو عليه قال الرازي المقدمة الثالثة وهي بيان أن كل ممكن محدث فهو أنه لما كان الزائد والناقص والمساوي متساوية في الإمكان امتنع رجحان بعضها على بعض إلا لمرجح والافتقار إلى المرجح إما أن يكون حال وجوده أو حال عدمه فإن كان حال وجوده فإنه يكون إما حال بقائه لأن المؤثر تأثيره بالتكوين فلو افتقر حال بقائه إلى المؤثر لزم تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وذلك محال فلم يبق إلا أن يحصل الافتقار أما حال حدوثه أو حال عدمه وعلى التقديرين فأنه يلزم أن يكون كل ممكن محدث فثبت أن كل جسم محدث والإله يمتنع أن يكون محدثا وبالله التوفيق فيقولون له أنت دائما تثبت تخصيصا من هذا الجنس كما تقول أن الإرادة تخصص أحد المثلين لا لموجب فإذا قيل لك هذا يستلزم ترجيح أحد المتماثلين بلا رجح قلت هذا شأن الإرادة والإرادة صفة من صفاته فإذا كانت ذاته مستلزمة لما من شأنه ترجيح أحد المثلين لذاته بلا مرجح فلأن تكون ذاته تقتضي ترجيح أحد المثلين بلا مرجح أولى إلى أن قال والمقصود إن هؤلاء القائلين بعدم التناهي أو بالتناهي من جانب دون جانب مع كون قولهم فاسدا فنفاة كون الرب على العرش الذين يحتجون على نفي ذلك بنفي الجسم وعلى نفي الجسم بهذه الحجج يلزمهم من التناقض أعظم مما يلزم المثبتين والمقدمات التي يحتجون بها هي أنفسها وما هو أقوى منها من جنسها تدل على فساد أقوالهم بطريق الأولى فإن كانت صحيحة دلت على فساد قولهم ومتى فسد قولهم صح قول المثبتة لأمتناع رفع النقيضين وإن كانت باطلة لم تدل على فساد قول المثبتة فدل ذلك على أن هذه المقدمات مستلزمة فساد قول النفاة دون قول أهل الإثبات وهذه الطريق هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية قال أبو عبد الله الرازي البرهان الثالث لو كان إله العالم متحيزا لكان محتاجا إلى الغير وهذا محال فكونه متحيزا محال بيان الملازمة أنه لو كان مساويا لغيره من المتحيزات في مفهوم كونه متحيزا ولكان مخالفا لها في تعينه وتشخصه ثم نقول إن بعد حصول الامتياز بالتعين أما أن يحصل الامتياز في الحقيقة وعلى هذا التقدير يكون المتحيز جنسا تحته أنواع أحدها واجب الوجود وإما أن لا يحصل الامتياز في الحقيقة وعلى هذا التقدير يكون المتحيز نوعا تحته أشخاص أحدها واجب الوجود فنقول الأول باطل لأن على هذا التقدير يكون ذاته مركبا من الجنس والفصل وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره فلو كان واجب الوجود متحيزا لكان مفتقرا إلى غيره والثاني أيضا باطل لأن على هذا التقدير يكون تعينه زائدا على ما هية النوعية وذلك التعين لا بد من مقتض وليس هو تلك الماهية وإلا لكان نوعه منحصرا في شخصه وقد فرضنا أنه ليس كذلك فلا بد وأن يكون المقتضي لذلك التعيين شيئا غير تلك الماهية وغير لوازم تلك الماهية فيكون محتاجا إلى غيره فثبت أنه لو كان متحيزا لكان محتاجا إلى غيره وذلك محال لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته لا يكون واجب الوجود لغيره فثبت أن يكون متحيزا محال لفظ الحيز والجهة ونحو ذلك فيه اشتراك كما تقدم فقد يراد به شيء منفصل عن الله كالعرش والغمام وقد يراد به ما ليس منفصلا عنه وهو نهايته وجوانبه وقد يراد به أمر عدمي وهو ما يقدر فيه الأجسام وهو المعروف من لفظ الحيز عند المتكلمين الذين يفرقون بين لفظ الحيز والمكان فيقولون الحيز تقدير المكان قوله لكان مساويا لغيره من المتحيزات لا نسلم أنه لو كان متحيزا لكان مساويا للمتحيزات وما ذكروه من الحجة مبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم إبطال ذلك بما لا حاجة إلى إعادته وأن القول بتماثلها من أضعف الأقوال بل من أعظمها مخالفة للحس والعقل ولما عليه جماهير العقلاء وقال الشيخ رحمه الله عليه وقد سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات ادعوا أن صفات الباري ليست زائدة على ذاته لأنه لا يخلو أما أن يقوم وجوده بتلك الصفة المعينة بحيث يلزم من تقدير عدمها عدمه أولا فإن يقم فقد تعلق وجوده بها وصار مركبا من أجزاء لا يصح وجوده إلا بمجموعها والمركب معلول وإن كان لا يقوم وجوده بها ولا يلزم من تقدير عدمها عدمه فهي عرضية والعرض معلول وهما على الله محال فلم يبق إلا أن صفات الباري غير زائدة على ذاته وهو المطلوب فأجاب الذي دل عليه الكتاب والسنة أن الله سبحانه له علم وقدرة ورحمة ومشيئة وعزة وغير ذلك وساق النصوص في ذلك إلى أن قال وأما الشبهة الثانية وهي شبهة التركيب وهي فلسفية معتزلية والأولى معتزلية محضة فالجواب عنها أيضا من وجهين أما الأول فإنهم يثبتون عالما وقادرا ويثبتونه واجبا بنفسه فاعلا لغيره ومعلوم بالضرورة أن مفهوم كونه عالما غير مفهوم الفعل بغيره فإذا كانت ذاته مركبة من هذه المعاني لزم التركيب الذي ادعوه وإن كانت عرضية لزم الافتقار الذي ادعوه وإن كان الواجب بنفسه لا يتميز عن غيره بصفة الثبوتية فلا واجب وإذا لم يكن واجبا لم يلزم من التركيب محال وذلك أنهم إنما نفوا المعاني لاستلزامها ثبوت التركيب المستلزم نفي الوجوب وهذا محال إلى أن قال وأما ما يذكره المنطقيون من تركيب الأنواع من الجنس والفصل كتركيب الإنسان من حيوان وناطق وهو المركب مما به الاشتراك بينه وبين سائر الأنواع ومما به امتيازه عن غيره من الأنواع وتقسيمهم الصفات إلى ذاتي تتركب منه الحقائق وهو الجنس والفصل وإلى عرضي وهو العرض العام والخاصة ثم الحقيقة المؤلفة من المشترك والمميز هي النوع فنقول هذا التركيب أمر اعتباري ذهني ليس له وجود في الخارج كما أن ذات النوع من حيث هي عامة ليس لها ثبوت في الخارج بل نفس الحقائق الخارجة ليس فيها عموم خارجي ولا تركيب خارجي كما قلنا في مسئلة المعدوم أنه شيء في الذهن لا في الخارج لتعلق العلم والإرادة به فإن الإنسان الموجود في الخارج ليس فيه ذوات متميزة بعضها حيوانية وبعضها ناطقية وبعضها ضاحكية وبعضها حساسية بل العقل يدرك منه معنى ونظير ذلك المعنى ثابت لنوع آخر فيقول فيه معنى مشترك ويدرك فيه معنى مختصا ثم يجمع بين المعنيين فيقول هو مؤلف منهما ثم إذا أدرك فيه المعنيين لم يدرك أن أحدهما فيه متميز عن الآخر منفصل كما أنه إذا أدرك الوجود والوجوب والقيام بالنفس والإقامة للغير لم يدرك أحد هذه المعاني منفصلا عن الآخر متميزا عنه بل أبلغ من ذلك أن الطعم واللون والريح القائمة بالجسم لا يتميز بعضها عن بعض بمحالها وإنما الحس يميز بين هذه الحقائق فهذا النوع من التركيب ليس من جنس تركيب ابعاضه واخلاصه فليس الأبعاض كالأعراض ونحن لا ننازع في تسمية هذا مركبا فإن هذا نزاع لفظي ولكن الغرض أن هذا التركيب ليس من جنس التركيب الذي يعقله بنو آدم بالفطرة الأولى حتى يطلق عليه لفظ الأجزاء إذا عرف هذا كان الجواب من فنين في الحل كما كان من فنين في الأبطال أحدهما إنا لا نسلم أن هناك تركيبا من أجزاء بحال وإنما هي ذات قائمة بنفسها مستلزمة للوازمها التي لا يصح وجودها إلا بها وليست صفة الموصوف أجزاءا له ولا أبعاضا يتميز بعضها عن بعض أو تتميز عنه حتى يصح أن يقال هي مركبة منه أو ليست مركبة فثبوت التركيب ونفيه فرع تصوره وتصوره هنا منتف والجواب الثاني أنه لو فرض أن هذا يسمى مركبا فليس هذا مستلزما للإمكان ولا للحدوث وذلك أن الذي علم بالعقل والسمع أنه يمتنع أن يكون الرب تعالى فقيرا إلى خلقه بل هو الغني عن العالمين وقد علم أنه حي قيوم بنفسه وأن نفسه المقدسة قائمة بنفسه وموجودة بذاته وأنه أحد صمد غني بنفسه ليس ثبوته وغناه مستفادا من غيره وإنما هو بنفسه لم يزل ولا يزال حقا صمدا قيوما فهل يقال في ذلك إنه مفتقر إلى نفسه أو محتاج إلى نفسه لأن نفسه لا تقوم إلا بنفسه فالقول في صفاته التي هي داخلة في مسمى نفسه هو القول في نفسه وقال بعد ذكر كلام أبي حامد في تهافت الفلاسفة وتكلم في ذلك بكلام حسن بين فيه ما احتاجوا به من الألفاظ المجملة كلفظ التركيب فإنهم جعلوا إثبات الصفات تركيبا وقالوا متى أثبتنا معنى يزيد على مطلق الوجود كان تركيبا وادخلوا في مسمى التركيب خمسة أنواع أحدها أنه ليس له حقيقة إلا الوجود المطلق لئلا يكون مركبا من وجود ماهية والثاني ليس له صفة لئلا يكون مركبا من ذات وصفات والثالث ليس له وصف مختص ومشترك لئلا يكون مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز كتركيب النوع من الجنس والفصل أو من الخاصة والعرض العام الرابع أنه ليس فوق العالم لئلا يكون مركبا من الجواهر المفردة وكذلك لا يكون مركبا من المادة والصورة وهو الخامس قال أبو عبد الله الرازي البرهان الرابع لو كان إله العالم متحيزا لكان مركبا وهذا محال فكونه متحيزا محال بيان الملازمة من وجهين أحدهما وهو على قول من ينكر الجوهر الفرد أن كل متحيز فلا بد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني وكل ما كان كذلك فهو منقسم فثبت أن كل متحيز فهو منقسم مركب الثاني أن كل متحيز فأما أن يكون قابلا للقسمة أو لا يكون فإن كان قابلا للقسمة كان مركبا مؤلفا وإن كان غير قابل للقسمة فهو الجوهر الفرد وهو في غاية الصغر والحقارة وليس العقلاء أحد يقول هذا القول فثبت أنه تعالى لو كان متحيزا لكان مؤلفا منقسما وذلك محال لأن كل ما كان كذلك فهو مفتقر في حقيقته إلى كل واحد من أجزائه زكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر في الحقيقة إلى غيره وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته فكل مركب ممكن لذاته فيلزم أن يكون الممكن لذاته واجبا لذاته وذلك محال فيمتنع أن يكون متحيزا ولقائل أن يقول إن عنيت بالتحيزية تفرقته بعد الاجتماع واجتماعه بعد الافتراق فلا نسلم أن ما لا يكون كذلك يلزم أن يكون حقيرا وإن عنيت به ما يشار إليه أو يتميز منه شيء لم نسلم أن مثل هذا ممتنع بل نقول أن كل موجود قائم بنفسه فإنه كذلك وإن ما لا يكون كذلك فلا يكون إلا عرضا قائما بغيره وإنه لا يعقل موجود إلا ما يشار إليه أو ما يقوم بما يشار إليه قال أبو عبد الله الرازي البرهان الخامس أنه لو كان متحيزا لكان مركبا من الأجزاء إذ ليس في العقلاء من يقول إنه في حجم الجوهر الفرد ولو كان مركبا من الأجزاء فأما أن يكون الموصوف بالعلم والقدرة والحياة جزءا واحدا من ذلك المجموع أو يكون الموصوف بهذه الصفات مجموع تلك الأجزاء فإن كان الأول كان إله العالم هو ذلك الجزء الواحد فيكون إله العالم في غاية الصغر والحقارة وقد بينا أنه ليس في العقلاء من يقول بذلك وإن كان الثاني فأما إن يقال القائم بمجموع تلك الأجزاء علم واحد وقدرة واحدة أو يقال القائم بكل واحد من تلك الأجزاء علم على حدة وقدرة على حدة والأول محال لأنه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وذلك محال وإن كان الثاني لزم أن يكون كل واحد منها إلها قديما وذلك يقتضي تكثر الآلهة وهو محال فإن قيل هذا يشكل بالإنسان فإن ما ذكرتم قائم فيه بعينه فيلزم أن لا يكون جسما وهذه مكابرة فإنا نعلم بالضرورة أن الإنسان ليس إلا هذه البنية ثم نقول لم لا يجوز أن يقال قام علم واحد بمجموع تلك الأجزاء إلا أنه انقسم ذلك المجموع وقام بكل واحد من تلك الأجزاء جزء من ذلك العلم وأيضا لم لا يجوز أن نقول قام بكل واحد من تلك الأجزاء علم بمعلوم واحد وقدرة على مقدور واحد وبهذا الطريق كان مجموع الأجزاء عالما بجملة المعلومات قادرا على جملة المقدورات والجواب عن السؤال الأول أن نقول أما الفلاسفة فقد طردوا قولهم وزعموا أن الإنسان ليس عبارة هذه البنية فإن الإنسان عبارة عن الشيء الذي يشير إليه كل إنسان بقوله أنا وذلك الشيء موجود ليس بجسم ولا جسماني قالوا وأما قول من يقول بأن هذا باطل بالضرورة لأن كل واحد يعلم أن الإنسان ليس إلا هذه البنية المخصوصة فقد أجابوا عنه بأن الإنسان مغاير لهذه البنية المشاهدة ويدل عليه وجوه الأول أنا قد نفعل أنفسنا حال ما نكون غافلين عن جملة اعضائنا الظاهرة والباطنة والمعلوم مغاير لغير المعلوم الثاني أني أعلم بالضرورة أني أنا الإنسان الذي كنت موجودا قبل هذه المدة بخمسين سنة وجملة أجزاء هذه البنية متبدلة بسبب السمن والهزال والصحة والمرض والباقي مغاير لما ليس بباق الثالث أن المشاهد ليس إلا السطح الموصوف باللون المخصوص وباتفاق العقلاء ليس عبارة عن هذا القدر فثبت أن الإنسان ليس بمشاهد البتة وأما سائر الطوائف والفرق فقد ذكروا الفرق بين الشاهد والغائب من وجهين أحدهما قال الأشعري كل واحد من أجزاء الإنسان موصوف بعلم على حدة وقدرة على حدة وهذا يقتضي أن يكون هذا البدن مركبا من أشياء كثيرة وكل واحد منها عالم قادر حي وهذا مما لا نزاع فيه وأما التزام ذلك في حق الله سبحانه وتعالى فإنه يقتضي تعدد الآلهة وذلك محال فظهر الفرق الثاني قال ابن الرواندي الإنسان جزء واحد لا يتجزأ في القلب وهذا يقتضي أن يكون الإنسان في غاية الحقارة وذلك غير ممتنع أما لو قلنا بمثله في حق الله تعالى يلزم كونه في غاية الحقارة وذلك لم يقل بها عاقل وأما السؤال الثاني وهو قوله لم لا يجوز أن يقال العلم ينقسم فقام بكل واحد من تلك الأجزاء جزء واحد من ذلك فنقول هذا محال لأن كل واحد من أجزاء العلم إما أن يكون علما وإما أن لا يكون علما فإن كان الأول كان القائم بكل واحد من تلك الأجزاء علما على حدة وذلك غير هذا السؤال وإن كان الثاني لم يكن شئ من تلك الأجزاء موصوفا بالعلم والمجموع ليس إلا تلك الأمور فوجب أن لا يكون المجموع موصوفا بالعلم والقدرة وأما السؤال الثالث وهو قولهم كل واحد من تلك الأجزاء يكون موصوفا بعلم متعلق بمعلوم معين وبقدرة متعلقة بمقدور معين فنقول هذا أيضا محال لأنه يقتضي كون كل واحد من تلك الأجزاء عالما بمعلومات معينة قادرا على مقدورات معينة فيرجع حاصل الكلام إلى إثبات آلهة كثيرة كل واحد منها مخصوص بمعرفة بعض المعلومات وبالقدرة على بعض المقدورات وذلك يناقض القول بأن إله العالم موجود واحد والله أعلم ولقائل أن يقول الاعتراض على هذا من وجوه الأول قولك لو اتصف بكل واحد من هذه الصفات فأما أن يكون كل جزء من أجزائه متصفا بجميع هذه الصفات إلى آخره فرع على ثبوت الأجزاء وذلك ممنوع فلم قلت إن كل ما هو جسم فهو مركب من الأجزاء فإن هذا مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة وهذا ممنوع وجمهور العقلاء على خلافه وهو لم يثبته هنا بالدليل فيكفي مجرد المنع وبسط ذلك في موضعه وكل من أمعن في معرفة هذا المقام علم أن ما ذكروه من أن الجسم مركب من جواهر منفردة متشابهة عرض لها التركيب أو من مادة وصورة وهما جوهران من أفسد الكلام وإذا كان كذلك أمكن أن يكون كل من الصفات القائمة بجميع المحل شائعة في جميع الموصوف ولا يلزم أن يكون الواحد قام بأجزاء بل القول في الصفة الحالة كالقول في المحل الذي هو الموصوف الوجه الثاني أن يقال القول في وحدة الصفة وتعددها وانقسامها وعدم انقسامها كالقول في الموصوف وسواء في ذلك الصفات المشروطة بالحياة والقدرة والحس بل والحياة نفسها أو التي لا تشترط بالحياة كالطعم واللون والريح فإن طعم التفاحة مثلا شائع فيها كلها فإذا بعضت تبعض ولا يقال أنها قام طعم واحد بجملة التفاحة بل إن قيل إن التفاحة أجزاء كثيرة قيل قام بها طعوم كثيرة وإن قيل هي شيء واحد قيل قام بها طعم واحد فإن قيل فهذا هو التقدير الأول وهو اتصاف كل جزء من هذه الأجزاء بجميع هذه الصفات قيل ليس كذلك أما أولا فلمنع التجزي وأما ثانيا فلأنه لم يقم بكل جزء إلا جزء من الصفة القائمة بالجميع لم تقم جميع الصفة بكل جزء وحينئذ فيبطل التلازم المذكور وهو كون كل جزء إلها فإن الإله سبحانه وتعالى هو المتصف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير أما إذا قدر موصوف قام به جزء من هذه القدرة لا تنقسم هي ولا محلها لم يلزم أن يكون ذلك الجزء قادرا فضلا عن أن يكون ربا إذ القادر لا يجب أن يكون من قام به جزء من القدرة ولا الحي من قام به جزء من الحياة ولا العالم من قام به جزء من العلم فإن قيل كيف يعقل انقسام محل هذه الصفات فإن الإنسان تقوم حياته بجميع بدنه وكذلك الحس والقدرة تقوم ببدنه وغيرهما من صفاته فكما أن بدنه ينقسم فالقائم ببدنه ينقسم فإن قيل إذا انقسم لم يبق قدرة ولا علما ولا حياة قيل وكذلك المحل لا يبقى يدا ولا عضوا ولا قادرا ولا حيا ولا عالما ولا حساسا فإن الجزء المنفرد بتقدير وجوده هو أحقر من أن يقال أنه يد أو عضو أو بدن حي عالم قادر فكيف يقال فيه أنه إله الوجه الثالث أن ما ذكروه معارض بقيام هذه الصفات في الإنسان فإن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس ولم نذكر العلم ولا نحتاج أن نقول كما قالت المعتزلة إن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء في الجملة عاد حكمها إلى جميع الجملة بل نذكر من الأعراض ما يعلم قيامه بالبدن الظاهر كالحياة والحس والحركة والقدرة فإن هذا التقسيم الذي ذكروه يرد عليه فأنه إن قيل أن كل جزء من أجزائه متصف بهذه الصفات لزم تعدد الإنسان وأن كان المتصف بجملتها بعض الإجزاء فلا أولوية ولزم أن لا يتعدى حكم الصفة محلها والتقدير أن ظاهر البدن كله حي حساس وإن قيل أن كل واحد يختص بصفة فهو معلوم الفساد بالضرورة مع أنه لا أولوية وإن قيل تقوم الصفة الواحدة بالجملة لزم قيام الواحد بالمتعدد فإذا كان هذا التقسيم واردا على ما يعلم قيام الصفات به ولم ينف قيامها به علم أنها حجة باطلة الوجه الرابع قوله والرابع محال لأنه يلزم قيام المتحد بالمعدد فيقال لا نسلم التلازم فإن هذا القيام مبناه على أنه حينئذ يقوم الواحد بالمتعدد فإنه فرض قيام علم واحد بجملة أجزاء وهذا الأصل فاسد فإن المعلوم من وحدة الصفة الحالية وتعددها هو المعلوم من وحدة المحل وتعدده فالحياة القائمة بجسم حي إذا قيل هي حياة واحدة قيل هو حي واحد وإذا قيل الحي أجزاء متعددة قيل الحياة أجزاء متعددة فالحال ومحله سواء في الاتحاد والتعدد حينئذ فقولهم إنه قام المتحد بالمتعدد كلام باطل بل ما فسروا به الاتحاد في أحدهما كان موجودا في الآخر وما فسروا به تعدد أحدهما كان موجودا في الآخر الوجه الخامس أنا لا نسلم الحصر فيما ذكروه من الأقسام بتقدير انقسام الجسم بل من الممكن أن يقال قام كل جزء من أجزاء هذه الصفات بجزء من أجزاء الموصوف وكل جزء منه متصف من الصفة وهذا التقسيم غير ما ذكره من الأقسام ليس فيه اتصاف كل جزء بجميع الصفة ولا المتصف بجميعها بعض الجملة ولا كل جزء مختصا بجميع صفته ولا قيام واحد بمتعدد فإن قال الصفة لا تنقسم ومحلها ينقسم قيل هذه مكابرة للحس والعقل بل انقسامها بانقسام محلها يبين هذا أن من أعظم عمد مثبتي الجوهر الفرد قولهم إن الحركة قائمة بالجسم والزمان مقدار الحركة والزمان فيه الآن الذي لا ينقسم فلا ينقسم الجزء الذي يحلها فإنما استدلوا على وجود الجزء الذي لا ينقسم بوجود جزء من الحركة لا ينقسم فعلم أن انقسام الحال عندهم كانقسام محله مع أن هذا معلوم بالحس والعقل وكذلك المتفلسفة القائلون بأن النفس الناطقة ليست جسما عمدتهم أنه يقوم بها ما لا ينقسم وما لا ينقسم لا يقوم إلا بما لا ينقسم وقد اتفقت الطوائف على أن الصفة إذا لم تنقسم كان محلها لا ينقسم الوجه السادس أن قوله إما أن يكون كل جزء من الأجزاء متصفا بهذه الصفات يقال له إن أردت انه يتصف به كما تتصف به كما تتصف به الجملة فهذا لا يقوله عاقل فانه ليس في الأجسام ما يكون صفة جميعه صفة للجوهر الفرد منه على الوجه الذي هي به صفة لجميعه وإن أردت أنه متصف به كما يليق بذلك الجزء فلم قلت إن ما اتصف بالصفة على هذا الوجه يمكن انفراده عن غيره فضلا عن كونه إلها وهذا لأنه ليس في جميع ما يعلم من الموصوفين المنفردين بأنفسهم ما هو جوهر فرد ولا في شيء مما يشاهد من الموصوفين ما هو جوهر فرد بل الجوهر الفرد بتقدير وجوده لا يحس به ولا يوجد منفردا فما كان لا يوجد وحده حتى ينضم إليه أمثاله كيف يكون حيا فضلا عن أن يكون فرسا أو بعيرا فضلا عن أن يكون إنسانا أو ملكا أو جنيا فضلا عن أن يكون إلها وهل ذكر مثل هذا في حق الله إلا من أعظم الدليل على جهل قائله فإنهم لا يعلمون شيئا من الجواهر المنفردة يسمى باسم جملته لقيام الصفة بالجملة فكيف يجب في حق الله إذا قامت به صفات الكمال أن يكون بتقدير ما ذكروه يجب فيه مثل ذلك السابع أن يقال كما أنه لا يجب في كل جزء من الإنسان أن يكون إنسانا لأنه قام به من الصفات ما يقوم بالإنسان ولا في كل جزء من أجزاء الفرس وسائر الحيوان أن يكون فرسا لكونه من الجملة التي قامت بها الصفة فلماذا يجب في كل ما كان من الإله أن يكون إلها لقيام صفة الأله بالإله الموصوف كله مع أن كل واحد من الموجودات لا يكون جزؤه حكم كله لقيام الصفة بالجميع هل هذا إلا من أفسد الحجج وإن كان هو من أعظم عمدة النفاة قال الشيخ رحمه الله وأما التأويل الثالث المذكور عن الغزالي من أن معنى قوله خلق آدم على صورته أن الإنسان ليس بجسم ولا جسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير والتصرف ونسبة ذات آدم إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم من حيث أن كل منها غير حال في هذا الجسم وإن كان موجودا فيه فهذا يشبه ما ذكره الإمام أحمد عن الجهم في مناظرة المشركين السمنية إلى أن قال وهذا يشبه قول الصائبة المتفلسفة الذين اتبعهم أبو حامد حيث ادعوا أن الروح هي كذلك ليست جسما ولا يشار إليها ولا تختص بمكان دون مكان ولكنها مدبرة للجسد كما أن الرب مدبر للعالم مع أن في كلام أبي حامد من التناقض في هذه الأمور ما ليس هذا موضع استقصائه وبهذا تبين ما نبهنا عليه في غير موضع أن مذهب الجهمية هو من جنس دين الصائبة المبدلين فإن الإنسان عبارة عن البدن والروح معا بل هو بالروح أخص منه بالبدن فمن قال بالمركب من الجواهر المنفردة اضطربوا في محل العلم ونحوه من العبد هل هو جزء منفرد في القلب كما يذكر عن ابن الراوندي أو عن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء من الجملة اتصف بها سائر الجملة كما يقوله المعتزلة أو حكم العرض لا يتعدى محله بل يقوم بكل جوهر فرد عرض يخصه من العلم والقدرة ونحو ذلك كما يقوله الأشعري على ثلاثة أقوال ومن لم يقل بالجوهر الفرد لم يلزمه ذلك بل يقول أن العرض القائم بالجسم ليس بمنقسم في نفسه كما أن الجسم ليس بمنقسم وأما قبوله للقسمة فهو كقبول الجسم للقسمة وهؤلاء يقولون أن الإنسان من تقوم به الحياة والقدرة والحس بجميع بدنه ويقولون أن بدن الإنسان ليس مركبا من الجواهر المنفردة فلا يرد عليهم ما ورد على أولئك وأما الأعراض القائمة بروحه من العلم والإرادة ونحو ذلك فهي أبعد عن الانقسام من الأعراض القائمة ببدنه وروحه أبعد عن كونها مركبة من الجواهر المنفردة من بدنه وإن قيل أنها جسم وعلى هذا فإن قيل يقوم بها علم واحد بمعلوم واحد كان هذا بمنزلة أن يقال يقوم بالعين إدراك واحد لمدرك واحد وبمنزلة أن يقوم بداخل الأذن سمع واحد لمسموع واحد وهذا وغيره مما يجيبون به المتفلسفة الذين قالوا أن النفس الناطقة لا تتحرك ولا تسكن ولا تصعد ولا تنزل وليست بجسم فإن عمدتهم على ذلك كونها يقوم بها ما لا ينقسم كالعلم بما لا ينقسم وإذا لم تنقسم امتنع كونها جسما وكلا المقدمتين ممنوعة كما قد بسط الجواب عن هذه الحجة التي هي عمدتهم في غير هذا الموضع قال أبو عبد الله الرازي البرهان السادس أنه تعالى لو كان جسما لكانت الحركة إما أن تكون جائزة عليه وأما لا تكون جائزة والقسم الأول باطل لأنه لما لم يمتنع أن يكون الجسم الذي تكون الحركة عليه جائزة إلها فلم لا يجوز أن يكون إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك وذلك لأن هذه الأجسام ليس فيها عيب يمنع من إلهيتها إلا أمور ثلاث وهي كونها مركبة من الأجزاء وكونها محدودة متناهية وكونها موصوفة بالحركة والسكون فإذا لم تكن هذه الأشياء مانعة من الإلهية فكيف يمكن الطعن في إلهيتها وذلك عين الكفر والإلحاد وإنكار الصانع تعالى والقسم الثاني هو أن يقال أنه تعالى جسم ولكن الانتقال والحركة عليه محال فنقول هذا باطل من وجوه الأول أن هذا يكون كالزمن المقعد الذي لا يقدر على الحركة وهذا صفة نقص وهو على الله تعالى محال الثاني أنه تعالى لما كان جسما كان مثلا لسائر الأجسام فكانت الحركة جائزة عليه الثالث أن القائلين بكونه جسما مؤلفا من الأجزاء والابعاض لا يمنعون من جواز الحركة عليه فأنهم يصفونه بالذهاب والمجيء فتارة يقولون أنه جالس على العرش وقدماه على الكرسي وهذا هو السكون وتارة يقولون أنه ينزل إلى السماء الدنيا وهذا هو الحركة فهذه مجموع الدلائل على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وبالجملة فليس بمتحيز قال الشيخ رحمه الله وقد سئل عن من يقول أن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم أو يشعر به والعقل دل على تنزيه الباري عز وجل عنه إلى آخره فأجاب هذه مسألة كبيرة عظيمة القدر اضطرب فيها خلائق من الأولين والآخرين من أوائل المئة الثانية من الهجرة النبوية فأما المأة الأولى فلم يكن بين المسلمين اضطراب في هذا وإنما نشاء ذلك في أوائل المأة الثانية لما ظهر الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان ومن اتبعهما من المعتزلة وغيرهم على إنكار الصفات قالوا لأن إثبات الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك لأن الصفات التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك أعراض ومعان تقوم بغيرها والعرض لا يقوم إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم لأن الأجسام لا تخلوا من الأعراض الحادثة وما لا يخلو من الحوادث محدث قالوا وإذا كانت الأعراض التي هي الصفات لا تقوم إلا بجسم والجسم مركب من أجزائه والمركب مفتقر إلى غيره ولا يكون غنيا عن غيره واجب الوجود بنفسه والله تعالى غني عن غيره واجب الوجود بنفسه قالوا ولأن الجسم محدود متناهى فلو كان له صفات لكان محدودا متناهيا وذلك لا بد أن يكون له مخصص بقدر دون قدر وما افتقر إلى مخصص لم يكن غنيا قديما واجب الوجود بنفسه قالوا ولأنه لو قامت به الصفات لكان جسم ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام فيجوز عليه ما يجوز عليها ويمتنع عليه ما يمتنع عليها وذلك ممتنع على الله تعالى أو قالوا إنما أثبتنا حدوثها بحدوث الأفعال التي هي الحركات وأن القابل لها لا يخلو منها وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث وأن ما قبل المجيء والإتيان والنزول كان موصوفا بالحركة وما اتصف بالحركة لم يخل منها أو من السكون الذي هو ضدها وما لا يخل من الحوادث فهو حادث فإذا ثبت حدوث الأجسام قلنا إن المحدث لا بد له من محدث فأثبتنا الصانع بهذا فلو وصفناه بالصفات أو بالأفعال القائمة به لجاز أن تقوم الأفعال والصفات بالقديم وحينئذ فلا يكون دليلا على حدوث الأجسام فيبطل دليل إثبات الصانع فيقال لهم الجواب من وجوه أحدها أن بطلان هذا الدليل المعين لا يستلزم بطلان جميع الأدلة وإثبات الصانع له طرق كثيرة لا يمكن ضبط تفاصيلها وإن أمكن ضبط جملها الثاني أن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين الثالث أن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا واحدا بسلوك هذا السبيل فلو كانت المعرفة موقوفة عليه وهي واجبة لكان واجبا وإن كانت مستحبة كان مستحبا ولو كان واجبا أو مستحبا لشرعه رسول الله ﷺ ولو كان مشروعا لنقلته الصحابة وقال بعضهم قد قال الله تعالى واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا فقد ذم الله من أتخذ إلها جسدا والجسد هو الجسم فيكون الله قد ذم من اتخذ إلها هو جسم فيقال له هذا باطل من وجوه أحدها أن هذا إنما يدل على نفي أن يكون جسدا لا على نفي أن يكون جسما والجسم في اصطلاح نفاة الصفات أعم من الجسد إلى أن قال الثاني أن يقال إن سبحانه منزه أن يكون من جنس شيء من المخلوقات لا أجساد الآدميين ولا أرواحهم ولا غير ذلك من المخلوقات فإنه لو كان من جنس شيء من ذلك بحيث تكون حقيقته كحقيقته للزم أن يجوز على كل منهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه لأنه يستلزم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه غير قديم واجب الوجود بنفسه وأن يكون المخلوق الذي يمتنع غناه غنيا يمتنع افتقاره إلى الخالق وأمثال ذلك من الأمور المتناقضة والله تعالى نزه نفسه أن يكون له كفوأ ومثل أو سمي أو ند والمقصود إنما أخرجه كان جسدا مصمتا لا روح فيه حتى تبين نقصه وأنه كان مسلوب الحياة والحركة الوجه الثالث وهو إنه سبحانه قال ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا فلم يذكر فيما عابه به كونه ذا جسد ولكن ذكر فيما عابه به أنه لا يكلمه ولا يهديهم سبيلا ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيبا ونقصا لذكر ذلك فعلم أن الآية تدل على نقض حجة من يحتج بها على أن كون الشيء ذا بدن عيبا ونقصا وهذه الحجة نظير احتجاجهم بالأفول فإنهم غيروا معناه في اللغة وجعلوه الحركة فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين ولو كان كما ذكروه لكان حجة عليهم لا لهم الوجه السادس أن الله تعالى ذكر عن الخليل أنه قال يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا وقال تعالى هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون فاحتج على نفي إلهيتها بكونها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر مع كون كل منها لها بدن وجسم سواء كان حجرا أو غيره فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافيا لذكره إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة واللام بل إنما احتجوا بمثل ما احتج الله به من نفي صفات الكمال عنها كالتكليم والقدرة والحركة وغير ذلك الوجه السابع أن يقال ما ذكره الله تعالى أما أن يكون دالا على أن إلا له سبحانه موصوف ببعض هذه الصفات وإما أن لا يدل فإن لم يدل بطل ما ذكروه وإن دل فهو يدل على إثبات صفات الكمال لله تعالى وهو التكليم للعباد والسمع والبصر والقدرة والنفع والضر وهذا يقتضي أن تكون الآيات دليلا على إثبات الصفات لا على نفيها ونفاة والصفات إنما نفوها لزعمهم إن إثباتها يقتضي التجسيم والتجسيد فالآيات التي احتجوا هي عليهم لا لهم الوجه الثامن أنه إذا كان كل جسم جسدا وكل ما عبد من دون الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب والأوثان وغير ذلك أجساما وهي أجساد فإن كان الله ذكر هذا في العجل لينفي به عنه الإلهية لزم أن يطرد هذا الدليل في جميع المعبودات ومعلوم أن الله لم يذكر هذا في غير العجل أنه ذكر كونه جسدا لبيان سبب افتتانهم به لا أنه جعل ذلك هو الحجة عليهم بل احتج عليهم بكونه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ويقول له الخصم إنك تقول لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون فنحن نقول أن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون فإنه إما أن يكون منتقلا أو لا يكون منتقلا فإن كان منتقلا فهو متحرك وإلا فهو ساكن ويقول الخصم قولك الحركة حادثة قلت حادثة النوع أو الشخص الأول ممنوع والثاني مسلم قولك ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث إن أريد به ما لا يخلو عن نوعها فممنوع والثاني لا يضر وأما لفظ الزوال والانتقال فهذا اللفظ مجمل ولهذا كان أهل الحديث والسنة فيه على أقوال عثمان بن سعيد الدارمي وغيره أنكر وأعلى الجهمية قولهم أنه لا يتحرك وذكروا أثرا أنه لا يزول وفسروا الزوال بالحركة فبين عثمان بن سعيد أن ذلك الأثر إن كان صحيحا لم يكن حجة لهم لأنه في تفسير قوله الحي القيوم ذكروا عن ثابت دائم باق لا يزول عما يستحقه كما قال ابن إسحاق لا يزول عن مكانته قلت والكلبي بنفسه الذي يروي هذا الحديث وهو يقول استوى على العرش استقر ويقول ثم استوى إلى السماء صعد إلى السماء وأما الانتقال فابن حامد وطائفة يقولون ينزل بحركة وانتقال وآخرون من أهل السنة كالتميمي من أصحاب أحمد أنكروا هذا وقالوا بل ينزل بلا حركة وانتقال وطائفة ثالثة كابن بطة وغيره يقفون في هذا وقد ذكر الأقوال الثلاثة القاضي أبو يعلى في كتاب اختلاف الروايتين والوجهين ونفى اللفظ بمجمله والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص فيثبت ما أثبت الله ورسوله باللفظ الذي أثبته وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه وهو أن يثبت النزول والإتيان والمجيء وينفي المثل والسمي والكفؤ والند وقد صرح طوائف منهم بالحركة كما صرح بذلك طوائف من أئمة الحديث والسنة وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء وأن الحركة من لوازم الحياة وقد صرح بالحركة من صرح من الفلاسفة قوله فهذه مجموع الدلائل على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وبالجملة فليس بمتحيز قال الشيخ رحمة الله عليه قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره أن عامة ما يحتج به النفاة للرؤية والنفاة لكونه فوق العرش ونحوهم من الأدلة الشرعية الكتاب والسنة هي أنفسها تدل على نقيض قولهم ولا تدل على قولهم فضلا عما يعترفون هم بدلالته على نقيض قولهم وهكذا أيضا عامة ما يحتجون به من الأدلة العقلية إذا وصلت معهم فيها إلى آخر كلامهم وما يجيبون به معارضهم وجدت كلامهم في ذلك يدل على نقيض قولهم وإنما يذكرونه من المناظرات العقلية هو على قول أهل الإثبات أدل منه على قولهم قال أبو عبد الله الرازي أما شبه الخصم فمن وجوه الشبهة الأولى أن العالم موجود والباري سبحانه وتعالى موجود وكل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا في الآخر أو مباينا عنه بالجهة وكون الباري تعالى ساريا في العالم محال فلا بد وأن يكون مباينا عنه بالجهة وكل ما كان كذلك فهو متحيز ثم أنه إما أنم يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد وهو محال وإما أن يكون شيئا كبيرا مركبا من الأجزاء والأبعاض وهو المقصود الشبهة الثانية أنا لم نشاهد حيا عالما قادرا ألا وهو جسم وإثبات شيء على خلاف المشاهدة لا يقبله العقل ولا يقر به القلب فوجب القول بكونه تعالى جسما الشبهة الثالثة أن إله العالم يجب أن يكون عالما بهذه الجسمانيات والعالم بها يجب أن يحصل في ذاته صورها ومن كان كذلك يجب أن يكون جسما فهذه مقدمات ثلاث متى ظهرت لزم القول بأنه جسم أما المقدمة الأولى فقد اتفق المسلمون عليها وأيضا فهذه الأجسام الموصوفة بهذه المقادير فلا بد لها من خالق وذلك الخالق هو الله تعالى وخالق الشيء لا بد وأن يكون عالما به فثبت أن خالق العالم عالم بهذه الجسمانيات وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أن العالم بهذه الجسمانيات يجب أن يحصل في ذاته صور الجسمانيات فالدليل عليه أن خالقها يجب أن يكون عالما بها قبل وجودها وإلا لم يصح منه خلقها وإيجادها والعالم بالشيء يجب أن يتميز ذلك في علمه عن سائر المعلومات وإلا لم يكن عالما بها وإذا تميز ذلك المعلوم عن غيره فذلك المعلوم ليس عدما محضا لأن العدم المحض لا يحصل فيه الامتياز فذلك المعلوم يجب أن يكون أمرا موجودا وهو غير موجود في الخارج لأن الكلام فيما إذا علمها قبل وجودها ولما لم يكن وجوده في الخارج وجب أن يكون وجوده في علم صانع العالم وأما المقدمة الثالثة وهي في بيان أن من يحصل في ذاته صور الجسمانيات وجب أن يكون جسما فالدليل عليه أن من علم مربعا مجنحا بمربعين متساويين وجب أن يحصل هذا في ذات ذلك العالم وذلك العالم لا بد وأن يميز بين ذينك المربعين المتطرفين وذلك الامتياز ليس في الماهية ولا في لوازمها لأنهما متماثلان في الماهية فلا بد وأن يكون بالعوارض ولو كان محلاهما واحد لامتنع امتياز أحدهما عن الآخر بشيء من العوارض لأن المثلين إذا حصلا في محل واحد فكل عارض يعرض لأحدهما فهو بعينه عارض للآخر وذلك يمنع من حصول الامتياز ولما بطل هذا وجب أن يكون محل أحد المربعين مغايرا لمحل المربع الآخر حتى يكون امتياز أحد المحلين عن الثاني سببا لامتياز إحدى الصورتين عن الأخرى وامتياز أحد المحلين عن الثاني لا يحصل إلا إذا كان ذلك المحل جسما منقسما فثبت أن خالق العالم مدرك للجسمانيات وثبت أن كل من كان كذلك فهو جسم فيلزم أن يكون إله العالم جسما قال الشيخ رحمه الله قلت أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس منازعة للكرامية حتى يذكر بينه وبينهم أنواع من ذلك وميله إلى المعتزلة والمتفلسفة أكثر من ميله إليهم وقال ليس في الحنابلة من أطلق لفظ الجسم لكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبتها مجسما بطريق اللزوم إذ كانوا يقولون أن الصفات لا تقوم إلا بجسم وذلك أنهم اصطلحوا في معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة فإن الجسم في اللغة هو البدن وهم يسمون كل ما يشار إليه جسما فيلزم على قولهم: إن كل ما جاء به الكتاب والسنة وما فطر الله عليه عباده وما سلف الأمة وأئمتها تجسيما وهذا لا يختص طائفة لا الحنابلة ولا غيرهم بل يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة على أتباع السلف كلهم قوله الجواب عن الشبهة الأولى أنا قد بينا أن قولهم كل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه بالجهة مقدمة غير بديهية بل مقدمة محتاجة في النفي والإثبات إلى برهان منفصل فسقط الكلام قوله والجواب عن الشبهة الثانية ما بيناه أنه لا يلزم من عدم النظير للشيء عدم ذلك الشيء فسقطت هذه الشبهة قوله والشبهة الثالثة ساقطة أيضا والدليل عليه أنه يمكننا التخيل صورة الشجر والخيل فهذه الصورة لو كانت منتقشة في ذاتنا لكانت ذاتنا إما أن يكون هو هذا الجسم وإما أن يكون جوهرا مجردا والأول محال لأنا نعلم بالضرورة أن الأشياء العظيمة لا يمكن انطباعها في المحل الصغير وأما الثاني فأنه اعتراف بأن صور المحسوسات يمكن انطباعها فيما لا يكون جسما وذلك يوجب سقوط هذه الشبهة وبالله التوفيق قال الشيخ فصل قال ابن سينا في تمام مسألة العلم ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة لمحسوس وكل صورة خيالية فإنما ندركها بآلة متجزية فيقال له هذا إن كان حقا فهو منتقض على أصلك بعلمه بالأفلاك والكواكب فأنها محسوسة وعندك أنه يعلمها بأعيانها إلى أن قال وهذه الأقوال إذا ضم بعضها إلى بعض لزم أن يكون واجب الوجود على قوله جسما وأن يكون النفس على أقواله أيضا جسما وما ذكره أبو البركات إنما هو إلزام لابن سينا بطريق المناقضة وليس فيه ما يدل على بطلان ما ذكره من الإدراك إنما احتج أبو البركات على بطلان ذلك بأن المدركات كبار والمدرك إذا كان جسما أو قوة في جسم فهو صغير يسعها وهذه حجة ضعيفة فإن القائلين بارتسام المدرك في المدرك لا يقولون أن المرتسم فيه مساو في المقدار للموجود في الخارج كما أنهم لا يقولون أن المرتسم حقيقة مساوية لحقيقة الموجود في الخارج وإنما هذا من جنس اعتراض الرازي عليهم بأنه لو كان صحيحا لكان من أدرك النار وجب أن يسخن ومن أدرك الثلج وجب أن يبرد ومن أدرك الرحى وجب أن يدور ودعوى ذلك مما لا يقوله عاقل ولهذا صاروا يتعجبون بل يسخرون ممن يورد عليهم مثل هذا وهم يشبهون تمثل المدركات في المدرك بتمثل المرئيات في المرآة ومعلوم أن ما في المرآة ليس مماثلا في الحقيقة والمقدار للموجود في الخارج أما حقيقة فلأن غايته أن يكون عرضا في المرآة والمرئي الخارج يكون جسما موجودا كالسماء والشمس والإنسان وغير ذلك مما يرى في المرآة وكذلك الإدراك فأنه عرض قائم بالمدرك والمدرك نفسه يكون عينا قائمة بنفسها سواء كان مرئيا أو معلوما بالقلب وأما قدره فلأن مقدار المرئي يختلف باختلاف المرآة فإذا كانت كبيرة رؤي كبيرا وإن كانت صغيرة رؤي صغيرا وهو على التقديرين يشبه الصورة الموجودة في الخارج فلذلك إذا قيل أن المدرك يتمثل في المدرك لم يلزم أن يكون قدره في المدرك مثل قدره في نفسه فهذا جملة ما احتج به هؤلاء الذين هم فحول النظر وأئمة الكلام والفلسفة في هذه المسائل وقد تبين بكلام بعضهم في بعض إفساد هذه الدلائل وهذا جملة ما يعارضون به الكتاب والسنة ويسمونه قواطع عقلية ويقولون أنه يجب تقديم مثل هذا الكلام على نصوص التنزيل والثابت من أخبار الرسول وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها فلو لم يكن في المعقول ما يوافق قول الرسول لم تجز معارضته بمثل هذا الكلام فضلا عن تقديمه عليه فكيف والمعقول الصريح موافق لما جاء به الرسول بل لا يجوز أن يعارض بمثل هذا الكلام الأحكام الثابتة بالعمومات والأقيسة والظواهر وأخبار الآحاد فكيف يعارض بذلك النصوص الثابتة عن المعصوم بل مثل هذا الكلام لا يصلح لإفادة ظن ولا يقين وإنما هو كلام طويل بعبارات طويلة وتقسيمات متنوعة يهابه من ما يفهمه وعامة من وافق عليه وافق عليه تقليدا لمن قاله قبله لا عن تحقيق عقلي قام في نفسه وكلام السلف والأئمة في ذم مثل هذا الكلام الذي احتجوا فيه بطريقة الأعراض والجواهر على حدوث الأجسام وإثبات الصانع كثير منتشر في غير هذا الموضع وكل من أمعن النظر وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علما وأبر قلوبا وأقل تكلفا وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم وقبلوا الحق وردوا الباطل والله أعلم والمقصود هنا نوع تنبيه على إن ما يدعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن يفزعه ذلك من الصبيان ومن هو شبيه بالصبيان وإذا أعطى النظر في المعقولات حقه من التمام وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول وأن لوازم ما أخبر به لازم صحيح وإن من نفاه نفاه لجهله حقيقة الأمر وفزعا باطنا وظاهرا كالذي يفزع من الآلهة المعبودة من دون الله أن تضره ويفزع من عدو الإنسان لما عنده من ضعف الإيمان ومن خالف الرسول لم يسلم من الشرك والإفك فسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين فصل ثم قال ابو عبد الله الرازي في تأسيسه الفصل الرابع في اقامة البراهين على انه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى انه يصح ان يشار اليه بالحس انه ها هنا وهناك وقد ذكر على ذلك ثمانية براهين مع ما بعضها مبني على ما تقدم من نفي انه جسم فانه قرر ان ذلك يستلزم نفي ان يكون على العرش واكثرها غير مبني على ذلك وهذا الفصل يتضمن انه ليس على العرش ولا فوق السموات وان الرسول لم يعرج به اليه وانه لا يصعد اليه شيء ولا ينزل من عنده شيء ولا ترفع الابصار والرؤوس والايدي اليه في الدعاء بل لا تتوجه القلوب الى فوق قصدا للتوجه اليه اصلا في دعاء ولا عبادة ولا غير ذلك ويتضمن انه ليس فوق العالم رب ولا اله وليس هناك الا العدم المحض والنفي الصرف وان ما فوق العرش وما تحت الارض السابعة سواء في ذلك فكما انه ليس في جوف الارض فليس فوق العرش بل منهم من يقول انه في كل مكان او في كل موجود اما بمعنى ان تدبيره فيهم واما بمعنى ان ذاته في كل مكان او ان ذاته هي كل موجود واما ما فوق العرش فليس هناك شيء لانه هو ليس هناك عندهم وليس فوق العالم موجود آخر مخلوق حتى يقال انه فيه بمعنى التدبير او بذاته او بمعنى ان وجوده وجوده فهذه اقوال الجهمية متكلمهم ومتعبدهم لكن متكلموهم الجهمية الى النفي المطلق اقرب لكن ثم طائفة تقول: هو بذاته فوق العرش وفي كل مكان كما ذكر ذلك الاشعري في المقالات عن زهير الاثري وابي معاذ التومنى واصحابهم فقال انهم يقولون ان الله بكل مكان وانه مع ذلك مستو على عرشه وانه يرى بالابصار بلا كيف وانه موجود الذات بكل مكان وانه ليس بجسم لا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم انه يجيء يوم القيامة كما قال وجاء ربك وهذا في نفاة الجسم يشبه قول بعض مثبتة الجسم الذين يقولون انه لا نهاية له اذ الكلام قد يصف الموجود بصفة المعدوم ويشبه ذلك واما عبادهم فلهم قصد وارادة فيمن يعبدونه والقصد لا بتوجه الى العدم المحض فلهذا كثيرا ما يجعلونه هو في كل مكان او يجعلونه هو الوجود كله والعامة هم الى هذا اقرب لانه لا تخرج القلوب ان تعبد شيئا موجودا وبنوا آدم قد اشركوا بالله فعبدوا ما شاء الله من المخلوقات فاذا ذكر لهم ما يقتضي عبادة كل شيء كما فعلته الاتحادية لم ينفروا عن هذا نفورهم عن ان تعطل قلوبهم من عبادة شيء من الاشياء بالكلية فهؤلاء يشركون شركا ظاهرا واما اولئك فالجحود المحض اغلب على قلوبهم ولهذا يوجد فيهم من الاستكبار عن العبادة وقسوة القلوب ما لا يوجد في الاخرين وكل واحد من الاستكبار والاشراك ينافي الإسلام الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه فان الإسلام ان تعبد الله وحده لا شريك له فمن عبد الله وغيره فقد اشرك به كما كان مشركو العرب وغيرهم ومن امتنع عن عبادة الله كفرعون ونحوه فهو جاحد وهو اكفر من هؤلاء وان كان مشركا حيث له آلهة يعبدها ولما كان الإسلام هو دين الله العام الذي اتفق عليه الاولون والاخرون من جميع عباده المؤمنين كما قال نوح عليه السلام فإن توليتم فما سألتكم من اجر ان اجري الا على الله وامرت ان اكون من المسلمين وقال ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين وقال ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وانتم مسلمون وقال يوسف عليه السلام توفني مسلما والحقني بالصالحين كما قال اني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي ابراهيم واسحاق ويعقوب ما كان لنا ان نشرك بالله من شيء الى قوله ما تعبدون من دونه الا اسماءا سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان ان الحكم الا لله امر الا تعبدوا الا اياه ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون وقال موسى عليه السلام يا قوم ان كنت آمنتم بالله فعليه توكلوا ان كنتم مسلمين وقال انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا وقالت بلقيس رب اني ظلمت نفسي واسلمت مع سليمان لله رب العالمين وقد قال تعالى ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن وقال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصارى تلك امانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهذا عام في الاولين والاخرين كما قال افغير دين الله يبغون وله اسلم من في السموات والارض طوعا وكرها واليه يرجعون قل آمنا بالله وما انزل علينا وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما اوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقال شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولو العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم ان الدين عند الله الإسلام ثم قال وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فان الله سريع الحساب فان حاجوك فقل اسلمت وحهي لله ومن اتبعني وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم فان اسلموا فقد اهتدو وان تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد وقوله تعالى ان الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فيه بيان انهم اختلفوا في دين الله الذي هو الإسلام من بعد ما جاءهم العلم حملهم على الاختلاف البغي وهذا كما قال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب وما تفرق الذين اوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك الى اجل مسمى لقضي بينهم وان الذين اورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما امرت ولا تتبع اهواءهم وقل آمنت بما انزل الله من كتاب وامرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا اعمالنا ولكم اعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وواليه المصير واختلاف اهل الكتاب في دين الله الذي هو الإسلام قد تكلمنا عليه في غير الموضع ومن ذلك ان اليهود يغلب عليهم الاستكبار والقسوة فهم يعرفون الحق ولا يتبعونه وبذلك وصفهم الله في القرآن ومن فسد من اهل العلم والكلام كان فيه شبه منهم ولهذا يوجد في متكلمه الجهمية من المعتزلة ونحوهم شبه كثير حتى ان من احبار اليهود من يقرر الاصول الخمس التي للمعتزلة ويوجد فيهم من التكذيب بالقدر والصفات وتأويل ما في التوراة وغير ذلك ما فيه مضاهاة للمعتزلة واما النصارى فيغلب عليهم الاشراك والجهل فهم يتعبدون ويرحمون لكن بضلال واشراك وبذلك وصفهم الله في القرآن ولهذا يوجد في متعبدة الجهمية من الاتحادية وغيرهم منهم سبه كثير حتى قد رأيت من هؤلاء الاتحادية من اخذ كلام النصارى النسطورية يزنه بكلامهم وحتى ان من النصارى من يأخذ فصوص الحكم لابن عربي فيعظمه تعظيما شديدا ويكاد يغشى عليه من فرحه به ولهذا يوجد شيوخ الاتحادية موالين للنصارى ولعهلم يوالونهم اكثر من المسلمين واذا كان كذلك فينبغي ان يعلم ان الكلام في هذا الفصل مقصود لنفسه وفيه ينفصل اهل التوحيد من اهل الالحاد فان القول بان الله فوق العرش هو مما اتفقت عليه الانبياء كلهم وذكر في كل كتاب انزل على كل نبي ارسل وقد اتفق على ذلك سلف الامة وائمتها من جميع الطوائف وجميع طوائف الصفاتية تقول بذلك الكلابية وقدماء الاشعرية وائمتهم والكرامية وقدماء الشيعة من الامامية وغيرهم بخلاف لفظ الجسم والمتحيز فإن هذا لم يثبته السلف والائمة مطلقا ولا نفوه مطلقا وان كان فيما اثبتوه ما يوافق ما قد يعنيه مثبتو ذلك وفيما نفوه ما قد يوافق بعض اقوال نفاة ذلك وذلك ان الله سبحانه له الاسماء الحسنى كما سمى نفسه بذلك وانزل كتبه وعلمه من شاء من خلقه كاسمه الحق والعليم والرحيم والحكيم والاول والاخر والعلي والعظيم والكبير ونحو ذلك وهذه الاسماء كلها اسماء مدح وحمد تدل على ما يحمد به ولا يكون معناها مذموما وهي مع ذلك قد تستلزم معاني اذا اخذت مطلقة وسميت باسمائها عمت المحمود والمذموم مثل اسمه الرحيم فانه يستلزم الارادة فاذا اخذت الارادة مطلقا وقيل المريد فالمريد قد يريد خيرا يحمد عليه وقد يريد شرا يذم عليه وكذلك اسمه الحكيم والصادق وغيرهما يتضمن انه متكلم فاذا اخذ الكلام مطلقا وقيل متكلم فالمتكلم قد يتكلم بصدق وعدل وقد يتكلم بكذب وظلم وكذلك الاسم الاول يدل على انه متقدم على كل شيء فاذا اخذ معنى التقدم وقيل قديم فإنه يقال على ما تقدم على غيره وان تقدم غيره عليه كالعرجون القديم والافك القديم وكذلك اسم الحق بل وسائر الاسماء تدل على انه بحيث يجده الواجدون فإذا اخذ لفظ الوجود مطلقا لم يدل الا على انه بحيث يجده غيره لم يدل على انه حق في نفسه وان لم يكن ثم غيره يجده وكذلك اذا قيل ذات او ثابت او نحو ذلك لم يدل الا على القدر المشترك لم يدل على خصوصية وكذلك اسم العلي والعظيم والكبير يدل على انه فوق العالم وانه عظيم وكبير وكذلك يستلزم انه مباين للعالم متحيز عنه بحده وحقيقته فاذا اخذ اسم المتحيز ونحوه لم يدل الا على القدر المشترك لم يدل على ما يمدح به الرب ويتميز به عن غيره وقد قال من قال من العلماء ان مثل اسمائه الخافض الرافع والمعز المذل والمعطي المانع والضار النافع لا يذكر ولا يدعى بأحد الاسمين الذي هو مثل الضار والنافع والخافض لان الاسمين اذا ذكرا معادل ذلك على عموم قدرته وتدبيره وانه لا رب غيره وعموم خلقه وامره فيه مدح له وتنبيه على ان ما فعله من ضرر خاص ومنع خاص فيه حكمة ورحمة بالعموم واذا ذكر احدهما لم يكن فيه هذا المدح والله له الاسماء الحسنى ليس له مثل السوء قط فكذلك ايضا الاسماء التي فيها عموم واطلاق لما يحمد ويذم لا توجد في اسماء الله الحسنى لانها لا تدل على ما يحمد الرب به ويمدح لكن مثل هذه الاسماء ومثل تلك ليس لاحد ان ينفي مضمونها ايضا فيقول ليس بضار ولا خافض او يقول ليس بمريد ولا متكلم ولا بائن عن العالم ولا متحيز عنه ونحو ذلك لان نفي ذلك باطل وان كان اثباته يثبت على الوجه المتضمن مدح الله وحمده واذا نفى هاتان فقد تقابل ذلك النفي بالاثبات ردا لنفيه وان لم تذكر مطلقة في الثناء والدعاء والخبر المطلق فإن هذا نوع تقييد يقصد به الرد على المنافق المعطل وهذا في الاثبات والنفي جميعا فمن العيوب والنقائص ما لا يحسن ان يثنى على الله به ابتداء لكن اذا وصفه بعض المشركين نفي ذلك ردا لقولهم كمن يقول ان الله فقير ووالد ومولود او ينام ونحو ذلك فينفى عن الله الفقر والولادة وغير ذلك فهذا اصل في التفريق بين ما ذكر من اسماء الله وصفاته مطلقا وما لا يذكر الا مقيدا اما مقرونا بغيره واما لمعارضة مبطل وصف الله بالباطل ف سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ومما ينبغي ان يعلم ان المبطل اذا اراد ان ينفي ما اثبته القرآن او يثبت ما نفاه لم يصادم لفظ القرآن الا اذا افرط في الجهل مثل من ينكر من الجهمية اطلاق القول بان الله كلم موسى تكليما او ان الرحمن على العرش استوى ونحو ذلك وقد يقول انما انكرت اطلاقه لان مطلقه عنىبه معنى فاسدا ويكون المطلق لم يعن غير ما عناه الله ورسوله ومنهم من لا يمكنه منع اطلاق اللفظ فيطلق من التصريف ما جاء به نص آخر وما هو من لوازم هذا النص مثل ان يقول يقال الرحمن على استوى ولا يقال الله ولا الرب على العرش استوى او لا يقال هو مستو فاذا قيل لاحد هؤلاء فقد قال في الاية الاخرى ان ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم استوى على العرش وقال الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش بقي حائرا كما روى ان عمرو بن عبيد قال لابي عمرو بن العلاء احب ان تقرأ هذا الحرف وكلم الله موسى تكليما ليكون موسى هو الذي كلم الله ولا يكون في الكلام دلالة على ان الله كلم احدا فقال له فكيف تصنع بقوله ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه واذا كان الفاظ النصوص لها حرمة لا يمكن المظهر للإسلام ان يعارضها فهم يعبرون عن المعاني التي تنافيها بعبارات اخرى ابتدعوها ويكون فيها اشتباه واجمال كما قال الامام احمد فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب محمعون على مخالفةالكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ومن هذا الباب قول المؤسس ونحوه ممن فيه تجهم اقامة البراهين على انه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى انه يصح ان يشار اليه بالحس انه ها هنا وهناك فان المقصود الذي يرده على منازعه بهذا الكلام انه ليس على العرش ولا فوق العالم كما يذكره في سائر كلامه ويحرف النصوص الدالة على ذلك ولكن لم يترجم للمسألة بنفي هذا المعنى الخاص الذي اثبتته النصوص بل عمد الى معى عام مجمل يتضمن نفي ذلك وقد يتضمن ايضا نفي معنى باطل فنفاهما جميعا نفي الحق والباطل فان القائل ليس في جهة ولا حيز يتضمن نفيه انه ليس داخل العالم ولا في اجواف الحيوانات ولا الحشوش القذرة وهذا كله حق ويتضمن انه ليس على العرش ولا فوق العالم وهذا باطل وكان في نفيه نفي الحق والباطل ولهذا كان اهل الاثبات على فريقين منهم من يقول بل هو في جهة وحيز لانه فوق العرش وهذا مما دخل في عموم كلام النافي والنافية الكلية السالبة تناقض بإثبات معين كما في قوله وما قدروا الله حق قدره اذ قالوا ما انزل الله على بشر من شيء قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسى ومقصود هذا المثبت جهة معينة وحيزا معينا وهو ما فوق العرش ومنهم لا يطلق انه لا في جهة ولا في حيز اما لان هذا اللفظ لم ترد به النصوص واما لانه مطلق لا يبين المقصود الحق وهو انه على العرش وفوق العالم واما لان لفظه يفهم او يوهم معنى فاسدا مثل كونه قد احاط به بعض المخلوقات فإن كثيرا من النفاة وان كان مشهورا عند الناس بعلم او مشيخة او قضاء او تصنيف قد يظن ان قول من قال انه في السماء او في جهة معناه ان السموات تحيط به وتحوزه وكذلك اذا قال متحيز يظن ان معناه التحيز اللغوى وهو كونه تحيز في بعض مخلوقاته حتى ينقلون ذلك عن منازعهم اما عمدا او خطأ وربما صغروا الحيز حتى يقولوا ان الله في هذه البقعة او هذا الموضع او نحو ذلك من الاكاذيب المفتراة وايضا فمن المثبتة الضلال من يقول ان الله متحيز بهذا الاعتبار مثل من يقول انه ينزل عشية عرفة على جمل اورق فيصافح المشاة ويعانق الركبان وان النبي ﷺ رآه في الطواف او في بعض سكك المدينة وان مواضع الرياض هو موضع خطواته ونحو ذلك مما فيه من وصفه بالتحيز امر باطل مبني على احاديث موضوعة ومفتراة ولهذا الاجمال والاشتراك الذي يوجد في الاسماء نفيا واثباتا تجد طوائف من المسلمين يتباغضون ويتعادون او يختصمون او يقتتلون على اثبات لفظ او نفيه والمثبتة يصفون النفاة بما لم يريدوه والنفاة يصفون المثبتة بما لم يريدوه لان اللفظ فيه اجمال واشتراك يحتمل معنى حقا ومعنى باطلا فالمثبت يفسره بالمعنى الحق والنافي يفسره بالمعنى الباطل ثم المثبت ينكر على النافي بأنه جحد من الحق والنافي ينكر على المثبت انه قال على الله الباطل وقد يكون احدهما او كلاهما مخطئين في حق الاخر وسبب ذلك مع اشتراك اللفظ نوع جهل ونوع ظلم ولا حول ولا قوة الا بالله واذا كان القول بان الله فوق العرش وفوق العالم ولوازم هذا القول الذي يلزم بالحق لا بالباطل هو قول سلف الامة وائمتها وعامة الصفاتية لم يكن رد هذا المؤسس على طائفة او طائفتين بل على هؤلاء كلهم وقد ذكرنا بعض ما يعرف به مذهبهم في غير هذا الموضع فإن المقصود الاكبر هنا انما هو النظر العادل فيما ذكره من دلائل الطرفين ليحكم بينهما بالعدل واما ما للمثبتة من الحجج التي لم يذكرها هو وذكر القائلين بالاثبات فلم يكن ذلك هو المقصود لكن الكلام يحوج الى ذكر بعضه فينبه على ذلك فمن ذلك طائفة هذا المؤسس وهم ابو الحسن الاشعري واتباعه فان قدماءهم جميعهم وائمتهم الكبار كلهم متفقون على ان الله فوق العرش ينكرون ما ذكره المؤسس وطائفة معه كأبي المعالي وابي حامد من نفي ذلك او تأويل آيات القرآن كقوله ثم استوى بمعنى استولى وقد ذكرت قبل ذلك قول ابي الحسن الاشعري في كتاب الابانة حيث قال فإن قال قائل قد انكرتم قول المعتزلة والقدرية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ وما روى عن الصحابة والتابعين وائمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول احمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته واجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مجانبون لانه الامام الفاضل والرئيس الكامل الذي ابان الله به الحق عند ظهور الضلال واوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من امام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع ائمة المسلمين وجملة قولنا انا نقر بالله تبارك وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقاة عن رسول الله ﷺ لا نرد من ذلك شيئا وان الله عز وجل واحد فرد احد صمد لا اله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وان محمدا ﷺ عبده ورسوله والجنة حق والنار حق وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور وان الله مستو على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وان له وجها كما قال ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وان له يدين كما قال تعالى بل يداه مبسوطتان وقال سبحانه وتعالى لما خلقت بيدي وان له عينان بلا كيف كما قال عز وجل تجري باعيننا وان من زعم ان اسم الله عز وجل غيره كان ضالا وان لله علما كما قال عز وجل انزله بعلمه وقال سبحانه وما تحمل من انثى ولا تضع الا بعلمه ونثبت لله تعالى قدرة وقوة كما قال سبحانه اولم يروا ان الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوة ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول ان كلام الله غير مخلوق وانه لم يخلق شيئا الا وقد قال له كن فيكون كما قال سبحانه انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون وانه لا يكون في الارض شيء من خير ولا شر الا ما شاء الله وان الاشياء تكون بمشيئة الله ونقول ان القرآن كلام الله غير مخلوق وان من قال بخلق القرآن كان كافرا وندين بان الله يرى بالابصار يوم القيامةكما يرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون كما جاءت به الروايات عن رسول الله ﷺ ونقول ان الكافرين اذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وان موسى سأل الله الرؤية في الدنيا وان الله تجلى للجبل فجعله دكا واعلم بذلك موسى ان لا يراه في الدنيا ونرى ان لا نكفر احدا من اهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا انهم بذلك كافرون ونقول ان من عمل كبيرة وما اشبهها مستحلا لها كان كافرا اذا كان غير معتقد لتحريمها ونقول ان الإسلام اوسع من الايمان وليس كل اسلام ايمانا وندين بان الله يقلب القلوب وان القلوب بين اصبعين من اصابعه وانه يضع السموات على اصبع والارضين على اصبع كما جاءت به الرواية عن رسول الله ﷺ وندين بأن لا ننزل احدا من الموحدين المسلمين بالايمان جنة ولا نارا الا من شهد له رسول الله ﷺ ونرجوا الجنة للمذنبين ونخاف عليهم ان يكونوا بالنار معذبين ونقول ان الله سبحانه وتعالى يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا بشفاعة محمد ﷺ ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان والحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق وان الله يوقف العباد بالمواقف ويحاسب المؤمنين وان الايمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله ﷺ التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى تنتهي الرواية الى رسول الله ﷺ. وندين بحب السلف رضي الله عنهم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ونثني عليهم بما اثنى الله عليهم ونتولاهم ونقول ان الامام بعد رسول الله ﷺ ابو بكر رضي الله عنه وان الله اعز به الدين واظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للامامة كما قدمه رسول الله ﷺ للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ثم عثمان بن عفان نضر الله وجهه قتله قاتلوه ظلما وعدوانا ثم علي ابن ابي طالب صلوات الله عليه ورضوانه فهؤلاء الائمة بعد رسول الله ﷺ وخلافتهم خلافة النبوة ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله ﷺ ونتولى سائر اصحاب رسول الله ﷺ ونكف عما شجر بينهم وندين الله ان الائمة الاربعة راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها اهل النقل من النزول الى السماء الدنيا وان الرب يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما نقلوه واثبتوه خلافا لما قاله اهل الزيغ والتضليل. ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ واجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول ان الله يجيء يوم القيامة كما قال وجاء ربك والملك صفا صفا وان الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال سبحانه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد وكما قال ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى. ومن ديننا ان نصلي الجمعة والاعياد خلف كل بر وفاجر وكذلك الجماعات كما روى عن عبد الله بن عمر انه كان يصلي خلف الحجاج وان المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافا لقول من انكر ذلك ونرى الدعاء لائمة المسلمين بالصلاح والاقرار بامامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم اذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله ﷺ ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسألتهم في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقول ان لذلك تفسيرا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وان رسم السحر كائن موجود في الدنيا ونؤمن بالصلاة على من مات من اهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر ان النار والجنة مخلوقتان وان من مات او قتل فبأجله مات او قتل وان الارزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالا وحراما وان الشيطان يوسوس للانسان ويشككه ويخبطه خلافا لقول المعزلة والجهمية كما قال الله عز وجل الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وكما قال الله عز وجل من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ونقول ان الصالحين يجوز ان يخصهم الله بآيات يظهرها عليهم وقولنا في الاطفال اطفال المشركين ان الله يؤجج لهم نارا في الاخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك وندين ان الله يعلم ما العباد عاملون والى ما هم صائرون وما كان وما يكون وما لا يكون ان لو كان كيف كان يكون وبطاعة الائمة ونصيحة المسلمين ونرى مفارقة كل داعية لبدعة ومجانية اهل الاهواء وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه وما لم نذكره بابا بابا وشيئا فشيئا ونتكلم عن مسألة رؤية الله بالابصار وعلى القرآن ثم قال باب ذكر الاستواء وذكر ما قد نبه عنه قريبا الذي اوله فان قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له ان الله مستو على عرشه كما قال سبحانه الرحمن على العرش استوى وقال تعالى اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال سبحانه وتعالى بل رفعه الله اليه وقال سبحانه وتعالى يدبر الامر من السماء الى الارض ثم يعرج اليه وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي ابلغ الاسباب اسباب السموات فاطلع الى اله موسى واني لاظنه كاذبا فاكذب موسى ان الله فوق السموات وقال سبحانه أأمنتم من في السماء ان يخسف بكم الارض فاذا هي تمور والسموات فوقها العرش وانما اراد العرش الذي على السموات وقال وجعل القمر فيهن نورا ولم يرد ان القمر يملؤهن جميعا وانه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون ايديهم اذا دعوا نحو العرش كما لا يحطونهااذا دعوا نحو الارض قال وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية ان معنى قوله الرحمن على العرش استوى انه استولى وملك وقهر وان الله في كل مكان وجحدوا ان يكون الله على عرشه كما قال اهل الحق فذهبوا في الاستواء الى الاستيلاء ولو كان هذا كما قالوه كان لا فرق بين العرش والارض السابعة السفلى لان الله عز وجل قادر على كل شيء ثم قال ابو الحسن الاشعري باب الكلام في الوجه والعينين والبصر قال الله تبارك وتعالى كل شيء هالك الا وجهه وقال سبحانه وتعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام فاخبر سبحانه وتعالى ان له وجها لا يفنى ولا يلحقه الهلاك وقال تعالى تجري بأعيننا فاخبر عن العينين ولله تعالى ذكره عين ووجه كما قال لا يحد ولا يكيف وقال سبحانه واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وقال عز وجل ولتصنع على عيني وقال تعالى وكان الله سميعا بصيرا وقال تعالى لموسى وهارون انني معكما اسمع وأرى فاخبر عن سمعه ورؤيته وبصره*

قلت المدون يتلوه الجزء الثاني إن شاء الله من رقم 

 11 الي اخر رقم 19.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج11. فهرست تاريخ الطبري

  فهرست تاريخ الطبري    فهرست تاريخ الطبري فهرس رئيسي الزمان | بدء الخلق | خلق آدم | آدم في الأرض | نوح | قصة عيسى ومريم | ملوك الفرس |...