عليك رب الجبروت والقهر يا بلوجر بظلمك لي وحذفك لصفحات تدويني يا طالم وغبي .

فوضت أمري الي الله الجبار فيك يا بلوجر هو وحده اللي حيهدَّك باضطهادك لي وحذفك لصفحات مدوناتي ينتقم منك ربنا بظلمك لي يا أرعن يا مُحدث يا ظالم أنصحك أن تعرض نفسك علي طبيب نفسي حاذق ليخضعك لعلاج علة النقص والتعقيد التي أصابتك لا أدري من كم سنة ؟

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 2 فبراير 2024

ج٢: الجزء الثاني . الرد علي المنطقيين لابن تيمية

 

ج٢: الجزء الثاني . الرد علي المنطقيين لابن تيمية


١٤.الوجه السادس: من القضايا الكلية ما يمكن العلم به بغير توسط القياس وهو يتضح بالوجه السادس وهو أن يقال لا ريب أن المقدمة الكبرى أعم من الصغرى أو مثلها لا يكون أخص منها والنتيجة اخص من الكبرى أومساوية لها واعم من الصغرى أو مساوية لها كالحدود الثلاثة فان الاكبر أعم من الاصغر او مثله والاوسط مثل الاصغر أو اعم ومثل الاكبر أو اخص ولا ريب ان الحس يدرك المعينات اولا ثم ينتقل منها الى القضايا العامة فان الانسان يرى هذا الانسان وهذا الانسان وهذا الانسان ويرى أن هذا حساس متحرك بالارادة ناطق وهذا كذا وهذا كذا فيقضى قضاء عاما أن كل إنسان حساس متحرك بالارادة ناطق فنقول العلم بالقضية العامة إما ان يكون بتوسط قياس او بغير توسط قياس فان كان لا بد من توسط قياس والقياس لا بد فيه من قضية عامة لزم ان لا يعلم العام إلا بالعام وذلك يستلزم الدور أو التسلسل فلا بد ان ينتهى الامر الى قضية كلية عامة معلومة بالبديهة وهم يسلمون ذلك وإن أمكن علم القضية العامة بغير توسط قياس أمكن علم الاخرى فان كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفا لازما لها يجب استواء جميع الناس فيه بل هو امر نسبى إضافي بحسب حال علم الناس بها فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له ومن احتاج الى نظر واستدلال بدليل كانت نظرية له وكذلك كونها معلومة بالعقل أو الخبر المتواتر أو خبر النبي الصادق أو الحس ليس هو أمرا لازما لها بل كذب مسيلمة الكذاب مثلا قد يعلم بقول النبي الصادق إنه كذاب وقد يعلم ذلك من باشره ورآه يكذب ويعلم ذلك من غاب عنه بالتواتر ويعلم ذلك بالاستدلال فانه ادعى النبوة وأتى يناقض النبوة فيعلم بالاستدلال وكذلك الهلال قد يعلم طلوعه بالرؤية فتكون القضية حسية ويعلم ذلك من لم يره بالاخبار المتواترة فتكون القضية عنده من المواترات ويعلم ذلك من علم أن تلك الليلة إحدى وثلاثون بالحساب والاستدلال ومثل هذا كثير فالمعلوم الواحد يعلمه هذا بالحس وهذا بالخبر وهذا بالنظر وهذه طرق العلم لبني آدم وهكذا القضايا الكلية إذا كان منها ما يعلم بلا قياس ولا دليل وليس لذلك حد في نفس القضايا بل ذلك بحسب احوال بنى آدم لم يمكن ان يقال فيما علمه زيد بالقياس إنه لا يمكن غيره ان يعلمه بلا قياس بل هذا نفى كاذب الوجه السابع: الادلة القاطعة على استواء قياسي الشمول والتمثيل الوجه السابع أن يقال هم يدعون ان المفيد لليقين هو قياس الشمول فأما قياس التمثيل فيزعمون انه لا يفيد اليقين ونحن نعلم ان من التمثيل ما يفيد اليقين ومنه ما لا يفيده ك الشمول فان الشيئين قد يكون تماثلهما معلوما وقد يكون مظنونا كالعموم وإن جمع بينهما بالعلة فالعلة في معنى عموم الشمول يوضح هذا أن يقال قياس الشمول يؤول في الحقيقة الى قياس التمثيل كما ان الاخر في الحقيقة يؤول الى الاول ولهذا تنازع الناس في مسمى القياس فقيل هو قياس التمثيل فقط وهو قول اكثر الاصوليين وقيل قياس الشمول فقط وهو قول اكثر المنطقيين وقيل بل القياسان جميعا وهو قول اكثر الفقهاء والمتكلمين وذلك أن قياس الشمول مبناه على اشتراك الافراد في الحكم العام وشموله لها وقياس التمثيل مبناه على اشتراك الاثنين في الحكم الذي يعمهما، ومآل الامرين واحد وقد بسط هذا في غير هذا الموضع ونحن نذكر هنا ما لم نذكره في غير هذا الموضع فنقول قد تبين فيما تقدم ان قياس الشمول يمكن جعله قياس تمثيل وبالعكس فاذا قال القائل في مسئلة القتل بالمثقل قتل عمد عدوان محض لمن يكافئ القاتل فأوجب القود كالقتل بالمحدد فقد جعل القدر المشترك الذي هو مناط الحكم القتل العمد العدوان المحض للمكافئ وهذا يسمى العلة والمناط والجامع والمشترك والمقتضى والموجب والباعث والامارة وغير ذلك من الاسماء فاذا أراد أن يصوغه ب قياس الشمول قال هذا قتل عمد عدوان محض للمكافئ وما كان كذلك فهو موجب للقود والنزاع في الصورتين هو في كونه عمدا محضا فان المنازع يقول العمدية لم تتمحض وليس المقصود هنا ذكر خصوص المسئلة بل التمثيل وهذا نزاع في المقدمة الصغرى وهو نزاع في ثبوت الوصف في الفرع فان قياس التمثيل قد يمنع فيه ثبوت الوصف في الاصل ويمنع ثبوته في الفرع وقد يمنع كونه علة الحكم ويسمى هذا السؤال سؤال المطالبة وهو اعظم أسئلة القياس وجوابه عمدة القياس فان عمدة القياس على كون المشترك مناط الحكم وهذا هو المقدمة الكبرى وهو كما لو قال في هذه المسئلة لا نسلم ان كل ما كان عمدا محضا يوجب القصاص وكذلك منع الحكم في الاصل أو منع الوصف في الاصل وهو منع للمقدمة الكبرى في قياس الشمول اللهم إلا ان يقيم المستدل دليلا على تأثير الوصف في غير أصل معين وهذا قياس التعليل المحض كما لو قال النبيذ المسكر محرم لان المعنى الموجب للتحريم وهو كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلوة موجود فيها وهذا المعنى قد دل النص علىانه علة التحريم وقد وجد فيثبت فيه التحريم وهم في قياس الشمول إذا أرادوا إثبات المقدمة الكبرى التي هي نظير جعل المشترك بين الاصل والفرع مناط الحكم فلا بد من دليل يبين ثبوت الحكم لجميع أفراد المقدمة باعتبار القدر المشترك الكلى بين الافراد وهذا هو القدر المشترك الجامع في قياس التمثيل فالجامع هو الكلى والكلى هو الجامع ومن قال من متأخرى النظار كأبي المعالى وأبي حامد والرازي وابي محمد إن العقليات ليس فيها قياس بل الاعتبار فيها بالدليل فهذا مع انهم خالفوا فيه جماهير النظار وأئمة النظر فنزاعهم فيها يرجع الى اللفظ فانهم يقولون العقليات لا تحتاج الى ان يعين فيها أصل يلحق فيه الفرع وليس جعل احدهما اصلا والاخر فرعا بأولى من العكس بل الاعتبار بالدليل الشامل للصورتين فيقال لهم لا ريب انه في العقليات والشرعيات لم يقع النزاع في جميع أفراد المعنى العام الذي يسمى الجامع المشترك بل وقع في بعضها وبعضها متفق عليه فتسمية هذا أصلا وهذا فرعا أمر إضافي ولو قدر أن بعض الناس علم حكم الفرع بنص وخفى عليه حكم الاصل لجعل الاصل فرعا والفرع أصلا والجمع إما ان يكون بالغاء الفارق وإما أن يكون بابداء الجامع وهذا يكون في العقليات قطعيا وظنيا كما يكون في الشرعيات فاذا قيل الاحكام والاتقان يدل على علم الفاعل شاهدا فكذلك غائبا او قيل علة كون العالم عالما قيام العلم به في الشاهد فكذلك في الغائب أو قيل الحيوة شرط في العلم شاهدا فكذلك غائبا او قيل حد العالم في الشاهد من قام به العلم فكذلك في الغائب فهذه الجوامع الاربعة التي تذكرها الصفاتية من الجمع بين الغائب والشاهد في الصفات الحد والدليل والعلة والشرط فذكر الشاهد حتى يمثل القلب صورة معينة ثم يعلم بالعقل عموم الحكم وهو ان الاحكام والاتقان مستلزم لعلم الفاعل فان الفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم وكذلك سائرها وهذا كسائر ما يعلم من الكليات العادية إذا قيل هذا الدواء مسهل للصفراء ومنضج للخلط الفلاني ونحو ذلك فان التجربة إنما دلت على اشياء معينة لم تدل على امر عام لكن العقل يعلم ان المناط هو القدر المشترك بما يعلم من انتفاء ما سواه ومناسبته او لا يعلم مناسبته وهذا قد يكون معلوما تارة كما يعلم ان أكل الخبز يشبع وشرب الماء يروي وأن السقمونيا مسهل للصفراء وإن كان قد يتخلف الحكم بفوات شرطه إذ قدمنا ان الطبيعيات التي هي العاديات ليس فيها كليات لا تقبل النقض بحال فكان ذكر الاصل في القياس العقلي لتنبيه العقل على المشترك الكلى المستلزم للحكم لا لأن مجرد ثبوت الحكم في صورة يوجب ثبوته في أخرى بدون أن يكون هناك جامع يستلزم الحكم وإذا قيل فمن أين يعلم أن الجامع مستلزم للحكم قيل من حيث يعلم القضية الكبرى في قياس المشول فاذا قال القائل هذا فاعل محكم لفعله وكل محكم لفعله فهو عالم فأي شئ ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل وزيادة ان هناك اصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك وفي قياس الشمول لم يذكر شئ من الافراد التي يثبت الحكم فيها ومعلوم أن ذكر الكلى المشترك مع بعض افراده اثبت في العقل من ذكره مجردا عن جميع الافراد باتفاق العقلاء ولهذا هم يقولون إن العقل بحسب إحساسه بالجزئيات يدرك العقل بينها قدرا مشتركا كليا فالكليات في النفس تقع بعد معرفة الجزئيات المعينة فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الاسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفا للقياس ويكون عدم ذكرها موجبا لقوته وهذه خاصة العقل فان خاصة العقل معرفته الكليات بتوسط معرفته بالجزئيات فمن أنكرها انكر خاصة عقل الانسان ومن جعل ذكرها بدون شئ من محالها المعينة أقوى من ذكرها مع التمثيل لمواضعها المعينة كان مكابرا والعقلاء باتفاقهم يعلمون ان ضرب المثل الكلى مما يعين على معرفته وانه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجردا عن الامثال ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة بالعقل في الطب والحساب والطبيعيات والصناعات والتجارات وغير ذلك وجد الامر كذلك فاذا قيل يسخن جوف الانسان في الشتاء ويبرد في الصيف لانه في الشتاء يكون الهواء باردا فيبرد ظاهر البدن فتهرب الحرارة الى باطن البدن لان الضد يهرب من الضد والشبيه ينجذب الى شبيه فتظهر البرودة الى الظاهر لان شبه الشئ منجذب اليه كان هذا أمرا كليا مطلقا فاذا قيل ولهذا يسخن جوف الارض في الشتاء وجوف الحيوان كله ولهذا تبرد الاجواف في الصيف لسخونة الظواهر فتهرب البرودة الى الاجواف كان كلما تصور الانسان النظائر قويت معرفته بتكلك الكلية وهو ان الضد يهرب من ضده والنظير ينجذب الى نظيره وهذا معلوم في الطبيعيات والنفسانيات وغيرهما لكن إذا ذكرت النظائر قوى العلم بذلك وقد يعبر عن ذلك بأن الجنسية علة الضم وكذلك إذا قيل الشمس إذا وقعت على البحر أو غيره تسخنه فتصاعد منه بخار لان الحرارة تحلل الرطوبة ثم قيل كما يتصاعد البخار من القدر التي فيها الماء الحار كان هذا المثال مما يؤكد معرفة الاول والاقيسة التي يستعملها الفلاسفة في علومهم ويجعلونها كلية كلها يعتضدون فيها بالامثلة وليس مع القوم إلا ما علموه من صفات الامور المشاهدة ثم قاسوا الغائب على المشاهد به بالجامع المشترك الذي يجعلونه كليا فان لم يكن هذا صحيحا لم يكن مع أحد من أهل الارض علم كلى يشترك فيه ما شهده وما غاب عنه حتى قوله الخبز يشبع والماء يروي ونحو ذلك فانه لم يعلم بحسه إلا امورا معينة فمن أين له أن الغائب بمنزلة الشاهد إلا بهذه الطريق والانسان قد ينكر امرا حتى يرى واحدا من جنسه فيقر بالنوع ويستفيد بذلك حكما كليا ولهذا يقول سبحانه كذبت قوم نوع المرسلين كذبت عاد المرسلين كذبت ثمود المرسلين ونحو ذلك وكل من هؤلاء إنما جاءه رسول واحد لكن كانوا مكذبين بجنس الرسل لم يكن تكذيبهم بالواحد لخصوصه وهذا بخلاف تكذيب اليهود والنصارى لمحمد ﷺ - فانهم لم يكذبوا جنس الرسل إنما كذبوا واحدا بعينه بخلاف مشركي العرب الذين لم يعرفوا الرسل فان الله يحتج عليهم في القرآن باثبات جنس الرسالة ولهذا يجيب سبحانه عن شبه منكري جنس الرسالة كقولهم أبعث الله بشرا رسولا الاسراء فيقول وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل) أي هذا متواتر عند أهل الكتاب فاسئلوهم عن الرسل الذين جاءتهم أكانوا بشرا أم لا وكذلك قوله وقالوا لو لا انزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون (الأنعام) فانهم لا يستطيعون الاخذ عن الملك في صورته فلو أرسلنا اليهم ملكا لجعلناه رجلا في صورة الانسان وحينئذ كان يلتبس عليهم الامر ويقولون هو رجل والرجل لا يكون رسولا وكذلك الرسل قبله قال تعالى او عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منك لينذركم ((الأعراف)) كما قال تعالى أكان للناس عجبا أن اوحينا الى رجل منهم ان انذر الناس (يونس) وكما قال تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل (الاحقاف) ونحو ذلك فكان علمهم بثبوت معين من هذا النوع يوجب العلم بقضية مطلقة وهو ان هذا النوع موجود بخلاف ما إذا اثبت ذلك ابتداء بلا وجود نظير فانه يكون اصعب وإن كان ممكنا فان نوحا اول رسول بعثه الله الى اهل الارض ولم يكن قبله رسول بعث الى الكفار المشركين يدعوهم الى الانتقال عن الشرك الى التوحيد وآدم والذين كانوا بعده كان الناس في زمهنم مسلمين كما قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشر قرون كلهم على الاسلام لكن لما بعث الله نوحا وانجى من آمن به وأهلك من كذبه صار هذا المعين يثبت هذا النوع أقوى مما كان يثبت ابتداء والذين قالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كان مبدأ كلامهم في الامور الطبيعية فانهم رأوا البارد إنما يقتضى التبريد فقط والحار إنما يقتضي التسخين فقط وكذلك سائرها لكن هذا ليس فيه إحداث واحد لواحد فان البرودة الحاصلة لا بد لها مع السبب من محل قابل وارتفاع موانع فلم يحصل السبب إلا عن شيئين لا عن واحد لكن هذا كان مبدأ كلامهم وأما احتجاج ابن سينا وامثاله بأنه لو صدر اثنان لكان مصدر هذا غير مصدر هذا ولزم التركيب المنافي للوحدة فهذه الحجة تبع لحجة التركيب وهذه اخذوها من أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم ليست هذه من كلام أئمة الفلاسفة كأرسطو وأتباعه لا سيما أكثر أساطين الفلاسفة فانهم كانوا يقولون باثبات الصفات لله تعالى بل وبقيام الامور الاختيارية كما ذكرنا كلامهم في غير هذا الموضع وهو اختيار ابي البركات صاحب المعتبر ومن قال إنه خالف اكثر الفلاسفة فمراده المشائين وأما الاساطين قبل هؤلاء فكلام كثير منهم يدل على هذا الاصل كما هو مذكور في موضعه ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف فاذا رأى الشيئين المتماثلين علم ان هذا مثل هذا يجعل حكمهما واحدا كما إذا رأى الماء والماء والتراب والتراب والهواء والهواء ثم حكم بالحكم الكلى على القدر المشترك وإذا حكم على بعض الاعيان ومثله بالنظير وذكر المشترك كان أحسن في البيان فهذا قياس الطرد إذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما وهذا قياس العكس وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس فانه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم كان من الاعتبار ان يعلم ان من فعل ما فعلوا أصابه ما أصابهم فيتقى تكذيب الرسل حذرا من العقوبة وهذا قياس الطرد ويعلم أن من لم يكذب الرسل بل أتبعهم لا يصيبه ما اصاب هؤلاء وهذا قياس العكس وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين فان المقصود ثبت في الفرع عكس حكم الاصل لا نظيره والاعتبار يكون بهذا وبهذا قال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لاولى الالباب يوسف وقال قد كان لكم أية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار ((آل عمران)) الميزان المنزل من الله هو القياس الصحيح وقد قال سبحانه وتعالى الله الذي انزل الكتب بالحق والميزان الشورى وقال لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط الحديد والميزان يفسره السلف بالعدل ويفسره بعضهم بما يوزن به وهما متلازمان وقد أخبر انه انزل ذلك مع رسله كما أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات فمعرفة أن هذه الدارهم أو غيرها من الاجسام الثقيلة بقدر هذه تعرف بموازينها وكذلك معرفة أن هذا الكيل مثل هذا يعرف بميزانه وهو المكاييل وكذلك معرفة أن هذا الزمان مثل هذا الزمان يعرف بموازينه التي يقدر بها الاوقات كما يعرف به مظلال وكما يعرف بجرى من ماء ورمل وغير ذلك وكذلك معرفة أن هذا بطول هذا يعرف بميزانه وهو الذارع فلا بد بين كل متماثلين من قدر مشترك كلى يعرف به ان احدهما مثل الاخر فكذلك الفروع المقيسة على اصولها في الشرعيات والعقليات تعرف بالموازين المشتركة بينهما وهي الوصف الجامع المشترك الذي يسمى الحد الاوسط فانا إذا علمنا أن الله حرم خمر العنب لما ذكره من انها تصد عن ذكر الله وعن الصلوة وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء ثم رأينا نبيذ الحبوب من الحنطة والشعير والرز وغير ذلك يماثلها في المعنى الكلى المشترك الذي هو علة التحريم كان هذا القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان التي انزلها الله في قلوبنا لنزن بها هذا ونجعله مثل هذا فلا نفرق بين المتماثلين والقياس الصحيح هو من العدل الذي امر الله تعالى به ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط والمقصود بها وزن الامور الموجودة في الخارج وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينات لم يكن بها اعتبار كما أنه لولا الموزونات لم يكن الى الميزان من حاجة ولا ريب أنه إذا احضر احد الموزونين واعتبر بالاخر بالميزان كان اتم في الوزن من ان يكون الميزان وهو الوصف المشترك الكلى في العقل أي شئ حضر من الاعيان المفردة وزن بها فان هذا ايضا وزن صحيح وذلك احسن في الوزن فانك إذا وزنت بالصنجة قدرا من النقدين ثم وزنت بها نظيره والاول شاهد والناس يشهدون ان هذا وزن به هذا فظهر مثله او اكثر او اقل كان احسن من ان يوزن احدهما في مغيب الاخر فانه قد يظن ان الوازن لم يعدل في الوزن كما يعدل إذا وزنها معا فان هذا يعتبر بأن يوزن أحدهما بالاخر بلا صنجة وهكذا الموزونات بالعقل وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع وبينا ان القياس الصحيح هو من العدل الذي انزله وانه لا يجوز قط ان يختلف الكتاب والميزان فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح لا قياس شرعي ولا عقلي ولا يجوز قط ان الادلة الصحيحة النقلية تخالف الادلة الصحيحة العقلية وأن القياس الشرعي الذي روعيت شروط صحته يخالف نصا من النصوص وليس في الشريعة شئ على خلاف القياس الصحيح بل على خلاف القياس الفاسد كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد وذكرنا في كتاب درء تعارض العقل والنقل ومتى تعارض في ظن الظان الكتاب والميزان النص والقياس الشرعي او العقلي فأحد الامرين لازم إما فساد دلالة ما احتج به من النص إما بأن لا يكون ثابتا عن المعصوم او لا يكون دالا على ما ظنه او فساد دلالة ما احتج به من القياس سواء كان شرعيا او عقليا بفساد بعض مقدماته او كلها لما يقع في الاقيسة من الالفاظ المجملة المشتبهة وأبو حامد ذكر في القسطاس المستقيم الموازين الخمسة وهي منطق اليونان بعينة غير عبارته ولا يجوز لعاقل ان يظن ان الميزان العقلي الذي انزل الله هو منطق اليونان لوجوه احدها إن الله انزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وابراهيم وموسى وغيرهم وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلثمائة سنة فكيف كانت الامم المتقدمة تزن بهذا الثاني إن امتنا أهل الاسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية ولم يسمع سلفنا بذكر هذا المنطق اليوناني وإنما ظهر في الاسلام لما عربت الكتب الرومية في دولة المأمون او قريبا منها الثالث انه ما زال نظار المسلمين بعد ان عرب وعرفوه يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا الى اهله في موازينهم العقلية والشرعية ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا إصطلاحات لفظية وإلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الامم فانه ليس الامر كذلك بل فيه معان كثير فاسدة ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الاقيسة العقلية وزعموا انه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن ان يزل في فكره وليس الامر كذلك فانه لو احتاج الميزان الى ميزان لزم التسلسل وايضا فالفطرة إن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي وإن كانت بليدة او فاسدة لم يزدها المنطق لوكان صحيحا إلا بلادة وفسادا ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه لا بد ان يتخبط ولا يأتي بالادلة العقلية على الوجه المحمود ومتى اتى بها على الوجه المحمود اعرض عن اعتبارها بالمنطق لما فيه من العجز والتطويل وتبعيد الطريق وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط كل قياس في العالم يمكن رده الى القياس الاقتراني فان قيل ما ذكرته من أن قياس الشمول يرجع الى قياس التمثيل يتوجه في قياس الاقترانى دون الاستثنائى فان الاستثنائى ما تكون النتيجة او نقيضها مذكورة فيه بالفعل بخلاف الاقترانى فان النتيجة إنما هي فيه بالقوة والاستثنائي مولف من الشرطيات المتصلة وهو التلازم ومن المنفصلة وهو التقسيم ولا ريب أن الحد الاوسط في الاقترانى يمكن جعله الجامع المشترك في القياس التمثيلي بخلاف الاستثنائى قيل الجواب من وجوه منها ان التلازم والتقسيم إذا قيل هذا مستلزم لهذا حيث وجد وجد فان هذا قضية كلية فتستعمل على وجه التمثيل وعلى وجه الشمول بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل القدر المشترك هو مناط الحكم وكذلك إذا قيل هذا إما كذا وإما كذا فهو أيضا كلى يبين بصيغة التمثيل وبصيغة الشمول ولهذا كانت الاحكام الثابتة بصيغة العموم يمكن استعمال قياس التمثيل فيها بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل المعنى المشترك هو مناط الحكم ومنها أن كل قياس في العالم يمكن رده الى الاقترانى فاذا قيل بصيغة الشرط إن كانت الصلوة صحيحة فالمصلى متطهر أمكن أن يقال كل مصل فهو متطهر وأن يقال الصلوة مستلزمة الطهارة ونحو ذلك من صور القياس الاقتراني والحد الاوسط فيه ان استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم وهذا معنى قولنا إذا وجد الملزوم وجد اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فان المقدم هو الملزوم والتالي هو اللازم وهكذا كل شرط وجزاء فالشرط ملزوم والجزاء لازم له وهذا إذا جعل بصيغة الاقترانى فقيل هذا مصل وكل مصل متطهر فهذا متطهر أو قيل هذا ليس بمتطهر ومن لا يكون متطهرا ليس بمصل فهذا ليس بمصل والقضية الكلية فيه ان كل مصل متطهر وأن كل من ليس بمتطهر فليس بمصل فالسالبة والموجبة كلاهما كليتان وهذه الكلية معروفة بنص الشارع ليست مما عرفت بالعقل ولو كانت مما تعرف بالعقل المجرد لعرفت ب قياس التمثيل مع انها تصاغ ب قياس التمثيل فيقال هذا مصل فهو متطهر كسائر المصلين او هذا ليس بمتطهر فليس بمصل كسائر من ليس بمتطهر ثم يبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم كما في الاول وكذلك الشرطي المنفصل الذي هو التقسيم والترديد إذا قيل هذا إما أن يكون شفعا أو وترا ونحو ذلك قيل هذا لا يخلو من كونه شفعا او وترا ولا يجتمع هذاوهذا معا وهو شفع فلا يكون وترا أو هو وتر فلا يكون شفعا وهذه القضية معلومة بالبديهة لكن تصور أفرادها أبين من تصور كليتها فلا يحتاج شئ من أفرادها أن يبين بالقياس الكلى المنطقي فانه أي شئ علم انه شفع علم انه ليس بوتر بدون ان يوزن بامر كلى عنده ولا بقياس على نظيره فلا يحتاج ان يقال وكل شفع فليس بوتر أو كل وتر فليس بشفع وهذا كما تقدم التنبيه عليه ان ما يثبتونه بالقضايا الكلية تعلم مفرداتها بدون تلك القضايا بل وتعرف بدون قياس التمثيل فاذا عرف ان هذا الثوب او غيرة اسود عرف انه ليس بأبيض بدون أن يقال كل اسود فانه ليس بابيض وهذه الكلية من أن كل أسود لا يكون ابيض يعرف بدون أن يعرف أن كل ضدين لا يجتمعان ولو أثبت تلك المعينات بهذه الكلية لا حتيج أن يبين أنهما ضدان فانه لا يعلم انهما ضدان حتى يعلم انهما لا يجتمعان وإذا علم انهما لا يجتمعان أغنى ذلك عن الاستدلال عليه بكونهما ضدين فعلم انه لا يحتاج أن يبين ما يندرج في هذا الكلى لا من الانواع ولا من الاعيان المعينة به بل العلم بها أبين من العلم بهذه الكلية بل إذا أرادوا أن يبينوا ان الضدين لا يجتمعان قالوا المراد بالضدين هما الوصفان الوجوديان الذان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض فيعود الامر الى تعريفهم مرادهم بهذا اللفظ وأما بيان ما دل عليه من المعاني المعقولة فلا يحتاج الى الاستدلال عليه بالكلى وكذلك في النقيضين وكذلك في الشرط والمشروط والعلة والمعلول وسائر هذه الامور الكلية إبطال القول باقتران العلة والمعلول في الزمان ولهذا من لم يحكم معرفة هذا وإلا التبست عليه المعقولات ودخل عليه غلطهم سواء كانوا قد غلطوا هم في التصور وهو الغالب على أئمتهم أو كانوا يقصدون التغليط كما يفعله بعضهم مثال ذلك انه إذا قيل لهم في مسئلة حدوث العالم كيف يكون العالم مفعولا مصنوعا للرب وهو مساوق له أزلا وأبدا مقارن له في الزمان هذا مما يعلم فساده بضرورة العقل فان المفعول لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان قالوا بل هذا ممكن وهو أن تقدم العلة على المعلول تقدما عقليا لازما كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم الذي فيها وتقدم الشمس على الشعاع وتقدم الحركة على الصوت الناشئ عنها ثم إن كان ممن تكلم في العلة والمعلول المذكور في الصفات والاحوال وهو يقول العلم علة كون العالم عالما كما يقوله مثبتوا الاحوال من النظار كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي في أول قوليه والقاضي أبي يعلى وأمثالهم فانه قد ألف أن العلة والمعلول متلازمان مقترنان فلا يستنكر مثل هذا هنا ولهذا غلط بسبب متابعتهم في هذا طوائف من الفقهاء في الفقه كأبي المعالي واتباعه ابي حامد والرافعي وغيرهم فادعوا شيئا خالفوا فيه جميع أئمة الفقه المتقدمين من اصحاب الائمة الاربعة وغيرهم ولم يقله الشافعي ولا احد من ائمة أصحابه ولا غيرهم وهو انه إذا قال لامرأته إذا شربت أو زنيت أو فعلت كذا فأنت طالق وقصده أن يقع بها الطلاق إذا وجد ذلك الشرط أو قال إذا أعطيتني الفا فأنت طالق أو قال إذا طلقتك فانت طالق طلقة أخرى أو إذا وقع عليك طلاقي فانت طالق أو قال مثل ذلك في العتق فزعموا ان الحكم المعلق بشرط يقع هو والشرط معا في زمن واحد بناء على أن الشرط علة للحكم والمعلول يقارن العلة في الزمان وهذا خطأ شرعا ولغة وعقلا أما الشرع فان جميع الاحكام المعلقة بالشروط لا تقع شئ منها إلا عقيب الشروط لا تقع مع الشروط والفروع المنقولة عن الائمة تبين ذلك واما لغة فإن الجزاء عند أهل اللغة يكون عقب الشرط وبعده ولا يكون الجزاء مع الشرط في الزمان ولهذا قد يكون الجزاء مما يتأخر زمانه كقوله تعالى ف من يعلم مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (الزلزال) وفي النذر إذا قال إن شفى الله مريضي فعلي صوم سنة فلا يجب عليه الصوم إلا بعد الشفاء لا مقارنا للشفاء ولا في زمن الشفاء وكذلك إذا قال إن سلم الله مالى الغائب وكذلك إذا قال من رد عبدي الآبق أو بنى لى هذا الحائط ونحو ذلك وأيضا فهذا يذكر بحرف الفاء والفاء للتعقيب يوجب ان يكون الثاني عقيب الاول لا معه وأما عقلا فلأن الاول هنا كالفاعل الموجب للثاني ولا يعرف قط أن الفاعل يقارنه مفعوله وما ذكروه من اقتران العلة العقلية لمعلولها ك العلم والعالمية فجوابه أنه عند جماهير العقلاء ليس هنا علة ومعلول بل العلم هو العالمية وهذا مذهب جمهور نظار اهل السنة والبدعة وهو نفي الاحوال فلا علة ولا معلول وإن جعلت المعلول الحكم بكونه عالما والخبر عنه بكونه عالما فهذا قد يتأخر عن العلم وعلى قول من أثبت الحال هو يقول إنها ليست موجودة ولا معدومة فليست نظير المعلولات الوجودية وأيضا فهولاء يقولون إن العالم فاعل للعالمية ولا هو جاعل العالمية ولا هذا عنده من باب تأثير الوجود كالاسباب والعلل فان كونه عالما لازم للعلم بما يلزم العلم انه علم ليس هذا مثل كون قطع الرقبة سببا للموت ولا كون الاكل سببا للشبع من الاسباب التي خلقها الله فكيف بالاسباب التي يصنعها العباد كقوله إذا زنيت فأنت طالق فهنا علق حادثا بحادث وحكم بكون ذلك الاول سببا للثاني فأين هذا من العلم والعالمية وإنما غرهم الاشتراك في لفظ العلة وكذلك المتفلسفة ليس في جميع ما مثلوا به علة فاعله قارنت مفعولها في الزمان فحركة اليد ليست هي الفاعلة لحركة الخاتم بل المحرك لهما واحد ولكن حركتهما متلازمة لاتصال الخاتم باليد كحركة بعض اليد مع بعض وكما يقال حركت يدى فتحرك الخاتم وكما يقال حركت كفى فتحركت اصابعي وليست حركة الكف فاعلة لحركة الاصابع وإن قدر انها بعدها لم يسلم اقترانهما في الزمان بل تكون كأجزاء الزمان المتصل بعضها ببعض فانه لا فصل بينهما وإن كان الجزء الثاني متصلا بالاول كذلك أجزاء الحركة كحركة الظل وغيره كل جزء منها يحدث بعد الاخر وفي الزمان الذي يلى حركة الجزء الاول فأما أن يقال الحركتان وجدتا معا وأحدهما فاعلة للاخرى فهذا باطل وأيضا فان المعروف أنه إذا قيل حركت يدى فتحرك خاتمى او المفتاح في كمى ونحو ذلك إذا تحرك بحركة تخصه مثل ان يكون الخاتم ملقى فاذا حرك يده علق في يده فتحرك وهذه الحركة بعد حركة اليد في الزمان واما إذا كان الخاتم متصلا بالاصبع ثابتا فيها وإنما يتحرك كما تتحرك الاصابع فالمحرك للجميع واحد ولو كان الانسان نائما او ميتا فرفع رجل يده وفيها الخاتم لكانت أيضا متحركة بحركة اليد وهى حركة واحدة شملت الجميع لاتصال بعضه ببعض ليس هنا حركتان إحداهما سبب الاخرى فضلا عن ان تكون فاعلة لها ومن قال في مثل هذا حركت يده فتحرك خاتمه فانما هو كقوله فتحركت اليد فانما يريد بذلك أن الحركة شملت الجميع ولم يرد بذلك أن حركة اليد كانت سببا للحركة الاولى ولا نعرف عاقلا يقول هذا ويقصد هذا وإن قدر انه وجد فليس قوله حجة على سائر العقلاء ومن رفع يد ميت أو نائم وفيها خاتم لم تكن حركة بعض ذلك سببا لبعض بل الجميع موجود في زمان واحد لفاعل واحد وسبب واحد فبطل أن يكون في الوجود سبب يقارن مسببه في الزمان بل لا يكون إلا قبله فكيف بالفاعل المستقل وإنما الذي يقارن الشئ في الزمان شرطه وتقدم الواحد على الاثنين هو من هذا الباب لا من باب تقدم الشرط على المشروط وحركة الخاتم مع اليد هي من باب المشروط مع الشرط ليست من باب المفعول مع الفاعل ولكن لفظ العلة فيه إجمال وكذلك الصوت مع الحركة فان الصوت يحدث عقيب الحركة وغايته أن يكون معها كالجزء الثاني من الحركة مع الاول والحركة المتصلة والزمان المتصل ليس بعضه مع بعض في الزمان فغاية الصوت مع الحركة أن تكون كذلك وكذلك الشعاع مع ظهور الشمس مع أن الشمس ليست فاعلة للشعاع بل الشعاع يحدث في الارض إذا قابل الشمس ما ينعكس الشعاع عليه وكذلك الحركة ليست هى الفاعلة للصوت ولكن الشمس شرط في الشعاع والحركة شرط في الصوت وأما فاعل يبدع مفعوله ويكون مقارنا له في الزمان فهذا لا يوجد قط لكن لفظ العلة فيه إجمال ف العلة الفاعلة شئ والعلة التي هي شرط شئ آخر والشرط قد يقارن المشروط في زمانه بخلاف الفاعل فانه لا بد ان يتقدم فعله على المعين وإذا قدر انه لم يزل فاعلا فكل جزء من أجزاء الفعل مسبوق بجزء آخر وإن كان نوع الفعل لم يزل فلا يتصور أن يكون فعله أو مفعوله معينا مع الله أزلا وابدا وإن قيل إنه لم يزل فاعلا بمشيئته فدوام نوع الفعل شئ ودوام الفعل المعين والمفعول المعين شئ آخر والذي أخبرت به الرسل ودلت عليه العقول واتفق عليه جماهير العقلاء من الاولين والاخرين أن الله خالق كل شئ وأن كل ما سواه فهو مخلوق له وكل مخلوق محدث مسبوق بالعدم وأما تغيير هولاء للفظ المحدث وقولهم إنا نقول إنه محدث حدوثا ذاتيا بمعنى أنه معلول فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه فان المحدث معلوم انه قد كان بعد أن لم يكن وأنه مفعول أحدثه محدث إحداثا وما لم يزل ولا يزال فلا يسميه أحد من العقلاء في لغة من اللغات محدثا بل ولا يقول أحد من العقلاء أنه مفول مصنوع مخلوق ولا يقول أحد أنه ممكن يمكن وجوده ويمكن عدمه إلا هذه الشرذمة من الفلاسفة الميزان العقلي هو المعرفة الفطرية للتماثل والاختلاف وهذه الامور مبسوطة في مواضعها وإنما المقصود هنا أنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات الى اقيسة كلية وضعوا الفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة وكانوا فيها من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (المطففين) واين البخس في الاموال من البخس في العقول والاديان مع ان اكثرهم لا يقصدون البخس بل هم بمنزلة من قد ورث موازين من ابيه يزن بها تارة له وتارة عليه ولا يعرف أهى عادلة ام عائلة والميزان التي انزلها الله مع الكتاب حيث قال الله تعالى الذي انزل الكتب بالحق والميزان وقال لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وانزلنا معهم الكتب والميزان هي ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشئ بمثله وخلافه فيسوى بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين بما جعله الله في فطر عبادة وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف فان قيل إذا كان هذا مما يعرف بالعقل فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل قيل لان الرسل ضربت للناس الامثال العقليه التي يعرفون بها التماثل والاختلاف فان الرسل دلت الناس وارشدتهم الى ما به يعرفون العدل ويعرفون الاقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية فليست العلوم النبوية مقصورة على مجرد الخبر كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام ويجعلون ما يعلم بالعقل قسيما للعلوم النبوية بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علما وعملا وضربت الامثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه او كانت الفطرة قد فسدت بما حصل لها من الاراء والاهواء الفاسدة فأزالت ذلك الفساد وبينت ما كانت الفطرة معرضة عنه حتى صار عند الفطرة معرفة الميزان التي أنزلها الله وبينها رسله والقرآن والحديث مملوء من هذا يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والامثال المضروبة ويبين طرق التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله ام حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين امنوا وعملوا الصلحت سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون الجاثية وقوله أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون القلم أي هذا حكم جائر لا عادل فان فيه تسوية بين المختلفين وقال ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصلحت كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار ﷺ ومن التسوية بين المتماثلين قوله أكفاركم خير من أولئكم ام لكم برآءة في الزبر القمر وقوله أم حسبتهم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباسآء والضرآء وزلزلوا (البقرة) والقرآن مملوء من ذلك لكن ليس هذا موضعه وإنما المقصود التنبيه على جنس الميزان العقلى وانها حق كما ذكر الله في كتابه وليست هي مختصة بمنطق اليونان وإن كان فيه قسط منها بل هى الاقيسة الصحيحة المتضمنة التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل وصيغ التمثيل هى الاصل وهي أكمل والميزان القدر المشترك وهو الجامع وهو الحد الاوسط وإنزاله تعالى الميزان مع الرسل كانزاله الايمان وهو الامانة معهم والايمان لم يحصل إلا بهم كما قال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتب ولا الايمان ولكن جعلنه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي الى صراط مستقيم الشورى وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله ﷺ - حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الاخر حدثنا ان الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة وحدثنا عن رفع الامانة قال ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منترا وليس فيه شئ فقد بين في هذا الحديث أن الامانة التي هى الايمان أنزلها في أصل القلوب فان الجذر هو الاصل وهذا إنما كان بواسطة الرسل لما اخبروا بما اخبروا به فسمع ذلك ف ألهم الله القلوب الايمان وانزله في القلوب وكذلك أنزل الله سبحانه الميزان في القلوب لما بينت الرسل العدل وما يوزن به عرفت القلوب ذلك فأنزل الله على القلوب من العلم ما تزن به الامور حتى تعرف التماثل والاختلاف وتضع من الالات الحسية ما يحتاج اليه في ذلك كما وضعت موازين النقدين وغير ذلك وهذا من وضعه تعالى الميزان قال تعالى والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان الرحمن وقال كثير من المفسرين هو العدل وقال بعضهم ما يوزن به ويعرف العدل وهما متلازمان الوجه الثامن: ليس عندهم برهان على علومهم الفلسفية إنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا الحسيات والاوليات والمتواترات والمجربات والحدسيات ومعلوم أنه لا دليل على نفى ما سوى هذه القضايا كما تقدم البينة عليه ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرهما ما جرت العادة باشتراك بنى آدم فيه وتناقضوا في ذلك وذلك ان بنى آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات فانهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق وإن لم يكن ما رآه هؤلاء من ذلك هو ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم وكذلك اكثر المرئيات فانه ما من شخص ولا أهل درب ولا مدينة ولا إقليم إلا ويرون من المرئيات ما لا يراه غيره وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس في شئ معين فيه بل الذي يشمونه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين كما يتفقون في شرب جنس الماء ومس جنس النساء وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس فانه قد يتواتر عند هؤلاء ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ولم يجربوه ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الادوية ويجرب الاخرون جنس تلك الادوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب ثم هم مع هذا يقولون في المنطق إن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره فيقال لهم وكذلك المشمومات والمذوقات والملموسات بل اشتراك الناس في المتواترات اكثر فان الخبر المتواتر ينقله عدد كثير فيكثر السامعون له ويشتركون في سماعه من العدد الكثير لا سيما إذا كان العدد الكثير مئين وألوفا فبطائفة من هؤلاء يحصل العلم المتواتر فاذا نقل هؤلاء لقوم وهولاء لقوم وهؤلاء لقوم حصل العلم المتواتر لامم لا يحصى عددهم إلا الله بخلاف ما يدرك بالحواس فانه يختص بمن احسه فاذا قال رأيت او سمعت او ذقت او لمست او شممت فكيف يمكنه ان يقيم من هذا برهانا على غيره ولو قدر انه شاركه في تلك الحسيات عدد فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم احسها ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر فاذا ادعوا أن الخبر المتواتر مختص بالحسيات فلا يقوم به البرهان على المنازع فالحسيات اعظم اختصاصا فيلزم ان لا يقوم بها برهان على المنازع وليس في الحسيات اكثر اشتراكا الرؤية فان الناس يشتركون في رؤية الانوار العلوية كالشمس والقمر والكواكب ولكن مواد البرهان لا يختص بذلك وإن قالوا الحسيات تحصل بالاشتراك في جنسها كاشتراك الناس في معرفة الالوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة وإن لم يكن عين ما احسه هؤلاء هو عين ما احسه هؤلاء لكن اشتركا في الجنس قيل والمتواترات والمجربات قد يشتركون في جنسها كما تقدم بل وجود الشبع والري عقيب الاكل والشرب هو من المجربات والناس يشتركون في جنسه وكذلك وجود اللذة بذلك وبالجماع وغير ذلك بما إذا فعله الانسان وجد عقيبه اثرا من الاثار ثم يتكرر ذلك حتى يعلم ان ذاك سبب هذا الاثر فهذا هو التجربيات والقضايا الظنية أصلها التجربيات وهو من هذا الباب فان المراد أنه إذا استعمل الدواء الفلاني وجد زوال المرض أو حصل به ألم المرض فوجود المرض بهذا ووجود زواله بهذا هو من التجربيات وكذلك الالام واللذات التي تحصل بالمشمومات والمسموعات والمرئيات والملموسات فان الحس ينال كذا ويرى هذا ويسمع هذا ويذوق هذا ويلمس هذا ثم وجود اللذة في النفس هو من الوجديات المعلومة بالحس الباطن وهو من جنس الحسيات الظاهرة وأما الاعتقاد الكلى القائم في النفس من أن هذا الجنس يحصل به اللذة وهذا الجنس يحصل به الالم فهذا من التجربيات إذ الحسيات الظاهرة والباطنة ليس فيها شئ كلى فالقضاء الكلى الذي يقوم بالقلب هو مركب من الحس والعقل وهو التجربيات كما في اعتقاد حصول الشبع والري بما يعرف من المأكولات والمشروبات والموت والمرض بما يعرف من السموم القاتلة والاسباب الممرضة وزوال ذلك بالاسباب المعروفة وكل هذا من القضايا التجربية فالحس به يعرف الامور المعينة ثم إذا تكررت مرة بعد مرة أدرك العقل ان هذا بسبب القدر المشترك الكلى فقضى فضاء كليا أن هذا يورث اللذة الفلانية وهذا يورث الالم الفلاني والحدسيات هى كذلك فبالحس يعرف أعيانها ثم يتكرر فتعلم بالعقل القدر المشترك لكن ذلك التكرر لا يكون بفعل الانسان بل هو كما يعرف من الامور السماوية مثل ان يرى اختلاف انوار القمر عند اختلاف مقابلته للشمس فيحدس أن ضوءه مستفاد منها ومثل ما يرى الثوابت لا تختلف حركتها بالطول والعرض بل حركتها حركة واحدة فيحدس أن فلكها واحد وإلا فيجوز أن يكون لكل واحد فلكا حركته مثل حركة الاخر ومثل ما يرى اختلاف حركات السبعة فيحدس عن اختلاف أفلاكها وهذا يسمى في اللغة تجربيات وكثير منهم ايضا يسميه تجربيات ولا يجعل قسما غير المجربات وبالجملة الامور العادية سواء كان سبب العادة إرادة نفسانية أو قوة طبيعية فالعلم بكونها كلية هو من التجربيات او الحدسيات إن جعلت نوعا أخر حتى العلم بمعانى اللغات هو من الحدسيات فان الانسان يسمع لفظ المتكلم ثم قد يعلم مراده المعين بإشارة إليه أو بقرينة أخرى ثم إذا تكرر تكلمه بذلك اللفظ مرة بعد مرة وهو يريد به ذلك المعنى علم ان هذه عادته الارادية وهو إرادة هذا المعنى بهذا اللفظ إذا قصد إفهام المخاطب وهذا مما يسمونه الحدسيات إذ ليس كلام المتكلم موقوفا على اختيار المستمع وهو من التجربيات العامة فان السمع إنما عرف به الصوت والمعنى المعين قد يفهم أولا بأسباب متعددة إما كون هذا المتكلم من عادته ولغته انه إذا تكلم بهذا اللفظ أراد ذلك المعنى فهذا من هذا الباب وكذلك سائر ما يعلم من عادات الناس وعادات البهائم وعادات النبات وعادات سائر الاعيان هو من هذا الباب وقد يعلم احد الشخصين بعادة نظيره فاذا كان من عادة شخص إذا قال أو فعل أمرا اراد به شيئا ورأى نظيره يقول ذلك او يفعله فقد اعتقد انه اراد ما اراد لان العادة عرف أنها للنوع لا للشخص كعادة الناس في اللغات والافعال من العبادات وغير العبادات فاذا رأى الرجل يدخل المسجد قرب صلوة الجمعة وعليه أهبة أهل الصلوة اعتقد أنه يدخله للصلوة لان هذا عادة هذا النوع وكذلك إذا رأى قاعدا في محل التطهير شارعا فيما يشرع فيه المتطهر عرف أنه يتطهر ثم العاديات قد تنتقض وقد يعلم ما يفعله الفاعل من العلم بصفاته ويعلم صفاته من افعاله لكن ذاك من باب الاستدلال النظري العقلي وهو الاستدلال بالملزوم على اللازم فليس ذاك من هذا كون العلوم الفلسفية من المجربات فعامة ما عند الفلاسفة بل وسائر العقلاء من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هو من العلم بعادة ذلك الموجود وهو مما يسمونه الحدسيات وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية والعلوم الفلكية كعلم الهيئة فهو من هذا القسم من المجربات ان كان علما فان هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع فليس عند القوم برهان على المنازع وايضا فان كون هذه الاجسام الطبيعية جربت وكون الحركات الفلكية جربت لا يعرفه اكثر الناس الا بالنقل والتواتر في هذا قليل وانما الغاية ان تنتقل التجربة في ذلك عن بعض الاطباء او بعض اهل الحساب وعلم الهيئة الذي هو اعظم علومهم الرياضية العقلية الذي جعله ارسطو اهله هم ائمة الفلاسفة وعلمهم اصل الفلسفة فانه منه تعرف عدد الافلاك وحركاتها والا فالحس لا يرى الا حركة الاجسام المعينة فيرى الشمس متحركة والقمر متحركا والكواكب متحركة هذا الذي يعلم بالحس واما كون هذه مذكورة في افلاك متحركة فهذا انما يعلمونه من علم الهيئة والعلم بأن بعض الافلاك فوق بعض علموه بكسوف الاعلى الاسفل فلما راوا القمر يكسف سائرها استدلوا بذلك على انه تحت الجميع ولما راوا زحل لا يكسف شيئا والجميع تكسفه استدلوا بذلك على انه فوق الجميع وكذلك كون الثوابت في الثامن ادعوا علمه بأنها لا تكسف شيئا بل قد يكسفها غيرها واما افلاكها فاستدلوا عليها بالحركات والعلم بقدر حركاتها وبكسوف بعضها لبعض ونحو ذلك مداره على الارصاد وغايته ان بعض الناس راى هذا فأخبر به غيره وليس هذا خبرا متواترا بل غالبه خبر واحد ثم ان الارصاد يقع فيها من الغلط ما هو معروف ولهذا اختلفت ارصاد المتقدمين والمتأخرين في حركة الثوابت هل تقطع درجة فلكية في كل مائة سنة او في ستة وستين وثلثي سنه كما زعمه اهل الرصد المأموني ولما اخبرهم اهل الهيئة بحركة الفك استدلوا بذلك على ان لها نفسا تحركه بالارادة لان حركته دورية ليست طبيعية واستدلوا على عدد النفوس التسعة بالافلاك التسعة وعلى العقول العشرة بالافلاك التسعة مع العقل العاشرة الذي هو اول صادر عن واجب الوجود وجعلوا الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الاولى ليخرج ما فيه من الايون والاوضاع وغاية الفلسفة عندهم التشبه بالعلة الاولى بحسب الامكان فهذا هو العلم الالهي الذي هو الفلسفة الاولى والحكمة العليا وفيه من المقدمات الضعيفة ما ليس هذا موضع بسطه وانما المقصود ان مبناه على قضايا يخبر بها بعض الناس عن قضايا حدسية فاذا قالوا ان هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع والقضايا الطبيعية مبناها على ما ينقله بعض الناس من التجارب فاذا لم يكن في هذا ولا هذا برهان لم يكن عند القوم برهان على ما يختصون به واما ما يشتركون فيه هم وسائر الناس فهذا ليس مضافا اليهم ولا هو من علمهم فأين البرهان على العلوم الفلسفية مع العلم بأن العاديات التي هي عامة علومهم الكلية منتقضة كما بيناه في غير هذا الموضع فنحن نعلم انه ليس معهم في عامة ما يدعونه برهانيا برهان يقيني ولكن مع هذا نذكر بعض تناقضهم ===========15. سنة الله التي لا تنتقض بحال ولكن العادة التي لا تنتقض بحال ما اخبر الله انها لا تنتقض كقوله تعالى لئن لم ينته المنفقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها الا قليلا ملعونين اينما ثقفلوا اخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا الاحزاب وقال ولو قتلكم الذين كفروا لولا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيراه سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا الفتح وقال واقسموا بالله جهد ايمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من احدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفورا استكبارا في الارض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء الا بأهله فهل ينظرون الا سنت الاولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا تحويلا فاطر فهذه سنة الله وعادته في نصر عباده المؤمنين اذا قاموا بالواجب على الكافرين وانتقامه وعقوبته للكافرين الذين بلغتهم الرسل بعذاب من عنده أو بأيدى المؤمنين هى سنة الله التي لا توجد منتقضة قط وكما قال قبل هذا ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان امر الله قدرا مقدورا الاحزاب لم يقل هنا ولن تجد لان هذه سنة شرعية لا ترى بالمشاهدة بل تعلم بالوحي بخلاف نصره للمؤمنين وعقوبته للمنذرين فانه امر مشاهد فلن يوجد منتقضا وقد أراد بعض الملاحدة كالسهروردي المفتول في كتابه المبدأ والمعاد الذي سماه الالواح العمادية أن يجعل له دليلا من القرآن والسنة على إلحاده فاستدل بهذه الاية على ان العالم لا يتغير بل لا تزال الشمس تطلع وتغرب لانها عادة الله فيقال له انخراق العادات امر معلوم بالحس والمشاهدة بالجملة وقد أخبر في غير موضع أنه سبحانه لم يخلق العالم عبثا وباطلا بل لأجل الجزاء فكان هذا من سنته الجميلة وهو جزاؤه الناس باعمالهم في الدار الاخرة كما أخبر به من نصر أوليائه وعقوبة أعدائه فبعث الناس للجزاء هو من هذه السنة وهو لم يخبر بان كل عادة لا تنتقض بل أخبر عن السنة التي هى عواقب أفعال العباد باثابته أولياءه ونصرهم على الاعداء فهذه هى التي اخبر لن يوجد لها تبديل ولا تحويل كما قال فهل ينظرون إلا سنت الاولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا فاطر وذلك لان العادة تتبع إرادة الفاعل وإرادة الفاعل الحكيم هى إرادة حكيمة فتسوى بين المتماثلات ولن يوجد لهذه السنة تبديل ولا تحويل وهو إكرام اهل ولايته وطاعته ونصر رسله والذين آمنوا على المكذبين فهذه السنة تقتضيها حكمته سبحانه فلا انتقاض لها بخلاف ما اقتضت حكمته تغييره فذاك تغييره من الحكمة ايضا ومن سنته التي لا يوجد لها تبديل ولا تحويل لكن في هذه الايات رد على من يجعله يفعل بمجرد إرادة ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح فان هؤلاء ليس عندهم له سنة لا تتبدل ولا حكمة تقصد وهذا خلاف النصوص والعقول فإن السنة تقتضي تماثل الآحاد وأن حكم الشيء نظيره فيقتضي التسوية بين المتماثلات وهذا خلاف قولهم المتواتر عن الانبياء أعظم من المتواتر عن الفلاسفة والمقصود هنا الكلام على الفلاسفة فنقول معلوم أن من شياطينهم من يقول المتواترات لا يقوم بها البرهان على المنازع ليدخل في ذلك ما تواتر عن الانبياء صلوات الله عليهم من الايات والبراهين والمعجزات التي بعثوا بها كما يدخلون ما اخذ عن الانبياء من المقبولات فيقال لهم من المعلوم بالاضطرار أن تواتر خروج محمد ﷺ - ومجيئه بهذا القرآن أعظم عند أهل الارض من تواتر وجود الفلاسفة كلهم فضلا عما يخبرون به من القضايا التجربية والحدسية التي استدلوا بها على الطبيعيات والفلكيات وكذلك ما تواتر من سائر معجزاته وما تواتر من اخبار موسى والمسيح صلوات الله عليهما هذا معلوم عند الناس أعظم من تواتر وجود أولئك فضلا عن تواتر ما يخبرون به ولهذا صار ظهور الانبياء مما تؤرخ به الحوادث في العالم بظهور أمرهم عند الخاصة والعامة فان التاريخ يكون بالحادث المشهور الذي يشترك الناس فيه ليعرفوا به كم مضى بعده وقبله كما ان النهار يعرف بطلوع الشمس والشهر بالهلال لانه نور ظاهر يشترك الناس في رؤيته ولهذا جعل عمر تاريخ المسلمين من الهجرة النبوية فانها أظهر أحوال الرسول المشهورة وهو خروجه من بلد الى بلد وبها اعز الله الاسلام وكانت العرب قبل الاسلام تؤرخ بالحوادث المشهورة وكذلك الروم والفرس والقبط وسائر الامم يؤرخون مثل ذلك فنحن اليوم إذا اردنا ان نعرف زمان واحد من هؤلاء المتفلسفة قلنا كان قبل المسيح بكذا وكذا سنة بل ارسطو إنما عرف زمانه لانه قد عرف أنه كان وزير الاسكندر بن فيلبس المقدوني ملك اليونان وكانوا مشركين يعبدون الكواكب والاصنام ويعانون السحر ارسطو وملكه وغيرهما وهذا الاسكندر لما جاء الى الشام اقام ايام بني اسرائيل غلب عليهم فذكروا أنه طلب ان يكتب في التوراة فقالوا ما يمكن هذا فقال اجعلوا لي تأريخا فصار التاريخ الرومي الذي تؤرخ به اليهود والنصارى مؤرخا به وأرسطو وزيره فعرف وقته من هذا الوجه وكان قبل المسيح بثلثمائة سنة والتواريخ التي تختص بها اليهود هي من الانبياء وأحوال بيت المقدس يقولون في البيت الاول في البيت الثاني ثم عرف أرسطو بهذه الكتب المنسوبة اليه كما عرف بطليموس المجسطى وكما عرف ابقراط وجالينوس بما ينسب اليهما من كتب الطب وإلا فأي شئ هو الذي تواتر عند الناس من أخبار هؤلاء فضلا عن ان يتواتر عنهم ما يذكرونه في كتبهم من القضايا التجربية والحدسية وغاية ما يوجد أن يقول بطلميوس هذا مما رصده فلان وأن يقول جالينوس هذا مما جربته أنا أو ذكر لى فلان انه جربه او نحو ذلك من الحكايات التي ملأ بها جالينوس كتابه وليس في هذه شئ من المتواتر وإن قدر ان غيره جرب ايضا فذاك خبر واحد ولكن ما يدعى في تجارب الاطباء من الادوية أقرب الى التسليم مما يدعونه في تجاربهم الرصدية وذلك لاشتراك كثير من الاطباء في تجربة الدواء الواحد وأيضا فلكثرة وجود ما يدعى فيه التجربة من النبات وتواطؤ المجربين له وليس كذلك ما يدعونه من فلسفتهم فانا رأينا تجارب الاطباء على غير منوالهم وعلمنا صدقها كثيرا وليس القصد إلا بفساد تأصيلهم فقط وإلا فالاطباء في تجاربهم أسد حالا منهم لان القوم إنما يذكرون دواء موجودا يمكن تجربته كثيرا لوجوده ولكثرة المحتاجين اليه ممن يصيبه ما يقال إن ذلك الدواء يؤثر فيه شفاء والله فاعل ذلك الشفاء في ذلك الدواء فبينهم حينئذ فرق من حيث ما قررته فالتواتر عزيز عندهم جدا واكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه ولا علموا بالارصاد ما ادعوا انهم علموه وإذا قيل قد اتفق على ذلك رصد فلان وفلان كان غاية ما عندهم أن يذكروا جماعة رصدوا وهذا غاية ان يكون من المتواتر الخاص الذي ينقله طائفة فمن زعم انه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الانبياء كيف يمكنه أن ان يقيم على غيره برهانا بمثل هذا التواتر ويعظم علم الهيئة والفلسفة ويدعى انه علم عقلى معلوم بالبرهان كون الفلاسفة من أجهل الخلق برب العالمين وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله فما الظن بالالهيات التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الاول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين وصار يتعجب تعجبا لا ينقضى ممن يقرن علم هؤلاء بالالهيات الى ما جاءت به الانبياء ويرى ان هذا من جنس من يقرن الحدادين بالملئكة بل من يقرن دهاقين القرى بملوك العالم فهو أقرب الى العلم والعدل ممن يقرن هؤلاء بالانبياء فان دهقان القرية متول عليها كتولى الملك على مملكته فله جزء من الملك وأما ما جاءت به الانبياء فلا يعرفه هؤلاء ألبتة وليسوا قريبين منه بل كفار اليهود والنصارى أعلم بالامور الالهية ولست اعنى بذلك ما اختص الانبياء بعلمه من الوحي الذي لا ينال غيرهم فان هذا ليس من علمهم ولا من علم غيرهم وإنما أعنى العلوم العقلية التي بينها الرسل للناس بالبراهين العقلية في امر معرفة الرب وتوحيده ومعرفة اسمائه وصفاته وفي النبوات والمعاد وما جاءوا به من مصالح الاعمال التي تورث السعادة في الاخرة فان كثيرا من ذلك قد بينه الرسل بالادلة العقلية فهذه العقليات الدينية الشرعية الالهية هي التي لم يشموا رائحتها ولا في علومهم ما يدل عليها وأما ما اختصت الرسل بمعرفته واخبرت به من الغيب فذاك امر أعظم من ان يذكر في ترجيحه على الفلسفة وانما المقصود الكلام في العلوم العقلية التي تعلم بالادلة العقلية دع ما جاءت به الانبياء فانه مرتبة عالية وهؤلاء المتكلمون من اهل الملل الذين يدعهم اهل السنة من اهل الملل كالجهمية والمعتزلة وما يفرع على هؤلاء من جميع طوائف الكلام فان الفلاسفة تقول ان هؤلاء اهل جدل ليسوا اصحاب برهان ويجعلون نفوسهم هم اصحاب البرهان ويسمون هؤلاء اهل الجدل ويجعلون ادلتهم من المقاييس الجدلية اذ كانوا قد قسموا القياس خمسة اقسام برهاني وخطابي وجدلي وشعري وسوفسطائي كما سنتكلم عليه ان شاء الله ولهذا تجد ابن سينا وابن رشد وغيرهما من المتفلسفة يجعل هؤلاء اهل الجدل وان مقدماتهم التي يحتجون بها جدلية ليست برهانية ويجعلون انفسهم اصحاب البرهان ونحن لا ننازعهم ان كثيرا مما يتكلمه المتكلمون باطل لكن اذا تكلم بالانصاف والعدل ونظر في كلام معلمهم الاول ارسطو وامثاله في الالهيات وفي كلام من هم عند المسلمين من شر طوائف المتكلمين كالجهمية والمعتزلة مثلا وجد بين ما يقوله هؤلاء المتفلسفة وبين ما يقوله هؤلاء من العلوم التي يقوم عليها البرهان العقلي من الفروق التي تبين فرط جهل اولئك بالنسبة الى هؤلاء ما لا يمكن ضبطه وهذا كلام ارسطو موجود وكلام هؤلاء موجود فان هؤلاء المتكلمين يتكلمون بالمقدمات البرهانية اليقينية اكثر من اولئك بكثير كثير وارسطو اكثر ما يبني الامور الالهية على مقدمات سوفسطاية في غاية الفساد ولولا ان هذا ليس موضع ذكره لذكرت كلامه في مقالة اللام التي هي اخر علومه بالفاظها وكذلك كلامه في اثولوجيا وهذا ابن سينا افضل متأخريهم الذي ضم الى كلامه في الالهيات من القواعد التي اخذها عن المتكلمين اكثر مما اخذه عن سلفه الفلاسفة اكثر كلامه فيها مبني على مقدمات سوفسطائية ملبسة ليست خطابية ولا جدلية ولا برهانية مثل كلامه في توحيد الفلاسفة وكلامه في اسرار الايات وكلامه في قدم العالم كما بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع الوجه التاسع: الرد على ابن سينا والرازي في كلامهما في القضايا المشهورة المشتمل على ثمانية انواع الوجه التاسع انهم اخرجوا القضايا التي يسمونها الوهميات والتي يسمونها الاراء المحودة عن ان تكون يقينيات وقد بينا في غير هذا الموضع انها وغيرها من العقليات سواء ولا يجوز التفريق بينهما وان اقتضاء الفطرة لهما واحد اما المشهورات فان ابن سينا قال في اشاراته اصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجري مجراهم اربعة مسلمات ومظنونات وما معها ومشبهات بغيرها ومتخيلات والمسلمات اما معتقدات واما مأخوذات والمعتقدات اصنافها ثلاثة الواجب قبولها والمشهورات والوهميات والواجب قبولها اوليات ومشاهدات ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا قياساتها معها الى ان قال فأما المشهورات في هذه الجملة فمنها ايضا هذه الاوليات ونحوها مما يوجب قبوله لا من حيث هي واجب قبولها بل من حيث عموم الاعتراف بها قال ومنها الاراء المسمات بالمحمودة وربما خصصناها باسم المشهورة اذ لا عمدة لها الا الشهرة وهو انه لو خلى انسان وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها ولم يفد الاستقراء ظنه القوى الى حكم لكثرة الجزئيات ولم يستدع اليها ما في طبعه الانساني من الرحمة والخجل والانفة والحمية وغير ذلك لم يقض بها الانسان طاعة لعقله او وهمه او حسه مثل حكمنا ان سلب مال الانسان قبيح وان الكذب قبيح لا ينبغي ان يقدم عليه قال ومن هذا الجنس ما يسبق وهم كثير من الناس وليس شيء من هذا يوجه العقل الساذج ولو توهم الانسان بنفسه انه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع ادبا ولم يطع انفعالا نفسانيا او خلقا لم يقض في امثال هذه القضايا بشيء بل امكنه ان يجهله ويتوقف فيه وليس كذلك حال قضائه ان الكل اعظم من الجزء وهذه المشهورات قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وان كانت صادقة ليست تنسب الى الاوليات ونحوها اذا لم تكن بينة عند العقل الاول الا بنظر وان كانت محمودة عنده والصادق غير المحمود وكذلك الكاذب غير الشنيع ورب شنيع حق ورب محمود كاذب والمشهورات اما من الواجبات واما من التأديبات الصلاحية وما تطابق عليها الشرائع الالهية واما خلقيات وانفعاليات واما استقرائيات وهي اما بحسب الاطلاق واما بحسب اصحاب صناعة وحكمة وقد ذكر الرازي في شرحه للاشارات تقرير الفرق بين الاوليات العقلية والمشهوارات والوهميات وقالوا المشهورات تشبه بالاوليات ووجه الفرق ظاهر فان الاولى هو الذي يكون حكمه على موضوعه في الوجودين حملا اولا لا ثانيا أي لا يكون حمله بتوسط فان المحمول على غيره بتوسط شئ اخر كان بعد حمل ذلك الشئ فلا يكون حمله عليه اولا بل ثانيا وهذا إنما يظهر إذا لم يكن للعقل في ذلك الحكم موجب آخر إلا مجرد حضور طرفى الموضوع والمحمول أما إذا كان هناك اسباب أخر من الرقة او الانفة أو الحمية او العادة او الحمد على النظام الكلى والمصلحة العامة فحينئذ لا يعرف ان الموجب لحكم العقل بذلك هو نفس حضور طرفي الموضوع والمحمول او ذلك لاسباب اخر فاذا اردت ان تمتحن ذلك فعليك ان تقدر نفسك كأنك خلقت في هذه الحال ولا تلتفت الى مقتضيات العادات واحكام سائر القوى من الرأفة والرقة وتجرد عما تعودته والفتة من القضايا المصلحية ثم تعرض على نفسك طرفى الموضوع والمحمول فان كان نفس حضورهما يوجب حكم العقل بتلك النسبة كانت القضية اولية وإلا كانت مشهورة وهو مثل قولنا الكذب قبيح فان السبب في شهرته تعلق المصلحة العامة به وقولنا الايلام قبيح والسبب فيه الرقة والدليل على ان ذلك ليس من الاوليات انا عند الفرض المذكور إذا عرضنا على العقل ان الشئ لا يخلو عن النفى والاثبات وعرضنا عليه ان الكذب قبيح وجدنا العقل جازما بالاول متوقفا في الثاني فعرفنا أن ذلك ليس من المحولات الاولية ثم إن المشهور قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا فالصادق قد يكون أوليا وقد لا يكون بل يحتاج في إثباته الى البرهان فان كل اولى لا بد ان يكون مشهورا لكن لا ينعكس فان السبب في الشهرة إما كونه اوليا أو تعلق النظام به او الانفعالات النفسانية كما ذكرنا او الاستقراء العام فان لكل مذهب أمورا مشهورة عندهم ربما لا تكون مشهورة عند من يخالفهم قلت والكلام على هذا بأنواع متعددة النوع الاول: الكلام على تفريقهم بين الاوليات والمشهورات النوع الاول إن التفريق بين الاوليات وغيرها بأن الاوليات ما كان ثبوت الموضوع للمحمول وهو ثبوت الصفة للموصوف والمحكوم به للمحكوم عليه والمخبر به للمخبر عنه كثبوت الخبر للمبتدأ بالتفريق بين الاولى وغيره بان الموضوع إن ثبت للمحمول بنفسه في الوجودين الذهنى والخارجي فهو اولى وإن افتقر الى وسط فليس بأولى فرق بنى على اصل فاسد وهو ان الصفات اللازمة للموصوف منها ما يلزم بنفسه ليس بينه وبين الموصوف وسط في نفس الامر ومنها ما لا يلزم بنفسه بل بوسط في نفس الامر يكون ذلك الوسط لازما للموصوف ويكون هذا المحمول لازما لذلك اللازم وهذا الفرق قد ذكره غير واحد كالرازي وغيره في الصفات اللازمة وابن سينا ذكره ايضا لكن ابن سينا ذكر انه إنما اراد بالوسط الحد الاوسط في القياس وهو ما يقرن باللام في قولك لانه وهذا هو الدليل والدليل هو وسط في الذهن للمستدل ليس هو وسطا في نفس ثبوت الصفة للموصوف فانه قد يستدل بالمعلول على العلة كما يستدل بالعلة على المعلول ويستدل بأحد المعلولين على الاخر ويستدل بثبوت احد الضدين على انتفاء الاخر وبثبوت احد المتلازمين على تحقق الاخر ولا ريب أن الصفات اللازمة للموصوف تنقسم الى ما لزومه بين للإنسان والى ما ليس هو بينا بل يفتقر ملزومه الى دليل وكونه بينا للانسان وغير بين ليس هو صفة الشئ في نفسه وإنما هو إخبار عن علم الانسان به وتنبيه له فهو إخبار عن الوجود الذهني لا الخارجي فما كان بينا للانسان معلوما له موجودا في ذهنه لم يحتج فيه الى دليل وما لم يكن كذلك احتاج فيه الى دليل وكون الشئ بينا وغير بين نسبة وإضافة بين المعلوم والانسان العالم وهذا يختلف فيه احوال الناس فقد يتبين لزيد ما لا يتبين لعمرو فان اسباب العلم وقوة الشعور وجودة الاذهان متفاوته فلا يلزم إذا تبين لانسان ثبوت بعض الصفات او لزومها او اتصاف الموصوف بها ان يتبين ذلك لكل احد ولا يلزم اذا خفى على بعض الناس ان يكون خفيا على كل احد وحينئذ فإذا فرق بين الاولى وغيره بان الاولى لا يحتاج الى وسط فبين كون القضية اولية او غير اولية فرق إضافي بحسب احوال الناس فيكون ذلك بمنزلة ان يقال القضية إما ان تكون معلومة وإما ان لا تكون وإما ان تكون ظاهرة وإما ان لا تكون وإما ان تكون واضحة وإما ان لا تكون وإما ان تكون جلية وإما ان لا تكون وإما ان يتصور الانسان صدقها وإما ان لا يتصور وهذا فرق صحيح فإن كل قضية بالنسبة الى كل احد إما ان تكون بينة له وإما ان لا تكون بينة له ولكن ليس هذا الفرق يميز بين اجناس القضايا حتى يجعل جنس منها بتمامه من قبيل غير البين وجنس آخر بتمامه من جنس البين فإن هذا الفرق لا يعود الى صفة لازمة للقضية كما ادعاه من ان اللازم البين ما ثبت للموصوف بلا وسط في نفس الأمر واللازم غير البين ما كان ثبوته بوسط في نفس الأمر بل جميع اللوازم للموصوف ليس بينها وبين الموصوف وسط اصلا في نفس الأمر وإن احتجاج الانسان في علمه بثبوتها الى دليل فليس كل ما لا يعلم لزومه للموصوف إلا بدليل لايكون ثبوته له إلا بوسط كما تقدم بيانه فإن المعلول لازم لعلته المعينة لا يمكن تخلف المعلول عن علته التامة التي دخل فيها وجود الشروط وانتفاء الموانع ومع هذا فقد لا يعلم ثبوت المعلول إلا بوسط بأن يستدل بمعلول آخر على العلة ثم بالعلة على المعلول كما يستدل بالرائحة التي في الشراب على انه مسكر ويستدل بالمسكر على التحريم كقوله ﷺ كل مسكر خمر وكل مسكر حرام رواه مسلم وكما يستدل بثبوت كفارة اليمين في الالتزام على انه يمين ويستدل بأنه يمين على انعقاد الايلاء به وكذلك بالعكس وكما يستدل بالشعاع المنتشر على طلوع الشمس وبطلوعها على فوات الفجر وكما يستدل بفيء الظلال على زوال الشمس وبزوالها على دخول وقت الظهر فانها لا تفيء من المغرب الى المشرق إلا اذا زالت الشمس ولا يسمى فيئا إلا ما كان بعد الزوال والظل اسم عام لما كان في اول النهار وآخره وإن شئت تستدل بتزايد الظلال بعد تناهي قصرها على الزوال وبه على دخول وقت الظهر وكما يستدل بالجدي على جهة الشمال ويستدل بها على جهة الكعبة بأن يعلم ان الكعبة في تلك الأرض من جهة الجنوب والقطب شماليها إما محاذيا للركن الشامي سواء كما في أرض حران وما سامتها وإما مائلا الى المشرق وجهة الباب فينحرف الى المغرب كما في ارض العراق ومثل هذا كثير وبالجملة فالدليل باتفاق العقلاء اعم من العلة بل كل ملزوم يستلزم غيره يمكن الاستدلال به عليه مطلقا ولا يفرق في هذا بين لازم ولازم ولا يقال من اللوازم ما يلزم بوسط فلا يمكن العلم به إلا بعد ذلك الوسط بل يمكن الاستدلال به عليه كما يمكن الاستدلال بكل ملزوم على لازمه فإن شرط ذلك العلم بالملزوم متى علم ان هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم فقد يكون ما هو لازم بغير وسط عندهم ولا يعرف لزومه إلا بالوسط الذي هو الدليل كالمعلول مع العلة وقد يكون ما يزعمون انه لازم بوسط ويمكن العلم بلزومه بلا وسط كما ذكروه من المثال في ذلك فزعموا ان اللونية للسواد والجسمية للحيوان ذاتية لثبوتها بلا وسط وزعموا ان الزوجية والفردية للعدد عرضية قالوا لأنا وإن علمنا ان الأربعة زوج والثلاثة فرد فلا يعلم ذلك في كل الأعداد بل يفتقر علمنا بأن المائتين واثنين وستين زوج والاحدى وستون فرد الى وسط وهو ان يقسم هذه فاذا انقسمت بقسيمين متساويين علمنا انها زوج وقد بينا في كلامنا على فساد قولهم في الفرق بين الذاتي واللازم ان الفرق لا يعود الى صفة الموصوف في نفس الامر بل كون الزوجية والفردية لازمة للزوج والفرد كلزوم العددية للعدد ولزوم اللونية للبياض والسواد ولزوم الجسمية للحيوان ولكن بعض اللوازم بين لبعض الناس انه لازم لجميع الافراد وبعضها يخفي ثبوته لبعض الافراد وهذا فرق يعود الى الانسان كما ان من الاشياء ما نراها ومن الاشياء ما لا نراها وكذلك من الاشياء ما نعلمها ومن الاشياء ما لا نعلمها ولا يقتضى ذلك ان يكون ما علمه من الصفات هو اجزاء للماهية تركبت منها لو جاز ان تتركب الماهية من الاوصاف وما لم يعلمه لا يكون اجزاء للماهية فكيف اذا كان تركب الماهية الموجودة في الخارج من صفات قائمة بها ودعوى ان تلك الصفات اجزاء لها مقومة وهي سابقة عليها في غاية الفساد والرازي وامثاله لما شاركوا المنطقيين في هذا الخطأ زعموا ان الوسط الذهني هو وسط خارجي فهذا باطل وما علمت قدماء المنطقيين يقولونه ولا رايته في كلام ابن سينا وامثاله وانما الذي رايته في كلامه ان الوسط هو الدليل برهان للرازي على هذا التفريق وبيان تناقضه من ثلاثة عشر طريقا فالرازي لما ادعى ما ادعاه لزمه تناقض زائد على تناقض المنطقيين قال الرازي والبرهان على ان ما يكون لزومه بغير وسط كان بينا هو ان الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم فاذا عقلنا الماهية وجب ان نعقل منها انها لما هي هي تقتضى ذلك اللازم والا لما كنا عقلنا الماهية لما هي هي واذا عقلنا منها لما هي مقتضية للازم الفلاني وجب ان نعقل اللازم الفلاني لان العلم باضافة امر الى امر يتضمن العلم بكل المضافين قال فهذا ما قيل في هذا الباب وفيه بحث لا بد من ذكره فان لقائل ان يقول ان ما يحصل لزومه من العلم بالماهية العلم بلازمها القريب وذلك القريب علة قريبة للازم الثاني فحينئذ يجب ان يعلم اللازم الثاني وان يعلم من ذلك الثاني اللازم الثالث فكان يجب ان يكون العلم بالماهية مقتضيا للعلم بجميع لوازمها القريبة والبعيدة وذلك محال فثبت ان العلم بالماهية لا يقتضى العلم بلازمها قال ايضا فان ماهية العلة غير مقولة بالقياس الى المعلوم وعلته والعلة مقولة بالقياس الى المعلول فاذن ماهية العلة مغايرة لعلتها فاذن لا يلزم من العلم بماهية العلة العلم بدليل المعلول ثم قال لكنا نقول في جواب هذا الشك العلم بماهية العلة لا يقتضى العلم بالمعلول الا بشرط اخر وهو حصول تصور المعلول فان العلية امر اضافي لا يحصل بمجرد ذات العلة فلا يكون العلم بذات العلة كافيا في العلم بالعلية لكن ذات العلة وذات المعلول هما لذاتيهما يقتضيان الوصف الاضافي وهو العلية والمعلولية لا جرم عند حصول تصورهما يجب حصول التصديق بانتساب احدهما الى الاخر وهذا هو المعنى بقولنا اللازم الذي يكون بغير وسط يكون بين الثبوت قال واذا ثبت ان تصور العلة انما يوجب التصديق بثبوت المعلول القريب له عند تصور المعلول ثم من الجائز ان لا يحصل تصور المعلول عند تصور العلة لا جرم لا يلزم من العلم بحقيقة العلة العلم بثبوت كل اللوازم القريبة والبعيدة قال واما الشك الثاني فهو ايضا خارج لانا لا نسلم ان العلية مغايرة لحقيقة ذات العلة لكنا ندعي ان تصور حقيقة العلة مع تصور حقيقة المعلول القريب يوجب العلم بكون العلة علة لذلك المعلول قلت فهذا الكلام الذي زعموا انه برهان قرروا به الاصول الكلية ل الحد والبرهان وفيه من الفساد والخطأ والتناقض ما يطول وصفه لكن ننبه على بعضه وذلك من طرق الطريق الاول ان قوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم ان عني به ان الماهية الملزومة هي العلة في حصول لازمها في نفس الامر كما يقتضية كلامه فهذا من ابطل الباطل فليس كل ما كان لازما لغيره يكون ذلك الغير هو العلة المقتضية لوجوده في نفس الامر فان العلة نفسها لازمة لمعلولها المعين لا يوجد المعلول المعين الا بتلك العلة وان قدر وجود ما هو من جنسه بغير تلك العلة فليس هو ذلك المعين والعلة لا تكون معلولة لمعلولها وهي لازمة له وكذلك احد المعلولين يلازم المعلول الاخر كالابوة والبنوة هما متلازمان وليس وجود احدهما علة للاخر بل كلاهما معلول علة اخرى وكذلك جميع المتلازمات كالناطقية والضاحكية للانسان متلازمان وليس احدهما علة للاخر وكذلك الحس والحركة الارادية متلازمان وليس احدهما علة الاخر ونظير هذا كثير في الحسيات والعقليات والشرعيات وكل شيء فان نجوم الثريا متلازمة ما دام الفلك موجودا على هذه الصفة وليس بعضها علة لبعض وكذلك الاخلاط الاربعة في جسد ابن ادم متلازمة وليس بعضها علة لبعض وصفات الرب تعالى كعلمه وقدرته متلازمة وليس احدى الصفتين علة للاخرى والادلة الدالة على الصانع جل جلاله وهي جميع مخلوقاته ملزومة لوجوده وليس فيها والعياذ بالله ما يجوز ان يقال انه علة له وبالجملة فكل دليل فهو مستلزم لمدلوله والمدلول لازم للدليل وهذا متفق عليه بين العقلاء ومتفق بين العقلاء على ان الدليل لا يختص بان يكون معلولا لمدلوله بل الدليل اعم وكل من هذين امر بين مع اتفاق العقلاء عليه فكيف يجوز ان يقال ان كل ما لزم غيره فان الملزوم هو العلة المقتضية للازم وكل مدلول فهو لازم لدليله مع انتفاء هذا الاقتضاء في اكثر الادلة فان قيل نحن لا نعني اللازم هنا الا الصفات اللازمة لموصوف وتلك الماهية الموصوفة مقتضية لذاتها لتلك الصفات قيل هذا خطأ من وجوه احدها انهم لم يعنوا ذلك كما حكينا كلامهم بل جعلوا القضايا التي ليست اولية هي ما يفتقر الى هذا الوسط الذي جعلوه هنا معلولا للماهية كما قد حكينا كلامهم وان الاوليات حمل محمولها على موضوعها في الوجودين الذهني والخارجي حملا اوليا بلا وسط فجعلوا الوسط الذهني هو الخارجي والخارجي هو الذي ذكروه هنا وجعلوه معلول الماهية وايضا فانهم بهذا فرقوا بين اللازم البين واللازم غير البين الوجه الثاني ان يقال هب انهم ارادوا الصفات اللازمة للماهية فكل دليل فهو ملزوم لمدلوله فكونه مستلزما لمدلوله صفة له لازمة له وهي على قولهم اما ان تكون بوسط واما ان تكون بغير وسط فآيات الله المخلوقة وهي العالم جميعه مستلزمة لوجود الرب تعالى ووجوده لازم لها وكونها ملزومة لذلك صفة لها لازمة لا يتصور قط ان يزول عنها هذا اللازم فانها مفتقرة بالذات الى الخالق وهذا الفقر لازم لها لا يفارقها البتة وحدوثها دليل على الباري وليست هي التي اقتضت وجوده وكذلك المعلول تقوم به صفات لازمة له وهو وصفاته تستلزم العلة والمعلول وصفاته من العلة ليس هو علة لصفاته الوجه الثالث ان يقال لا نسلم ان في الموصوفات ما هو علة فاعلة لصفته اصلا بل هو محل لصفاته القائمة به والموصوف ان كان رب العالمين فلا فاعل لصفاته كما لا فاعل لذاته وان كان مخلوقا فالفاعل لذاته هو الفاعل لصفاته اما كون ذاته علة فاعلة لصفاته فهذا باطل قطعا ومما يتبين بطلانه ان الكلام في صفاته اللازمة وتلك لا تفارقه ولا يتصور ان يكون فاعلا الا بعد وجودها فيمتنع كونه هو الموجد لها واما صفاته المقومة فتلك عندهم هي المقومة لذاته ليست ذاته السابقة لها وهي كالعلة فجعلوا بعض صفاته اللازمة علة لذاته وهي الصفات المقومة وبعضها معلولة وهي اللازمة غير المقومة والقسمان خطأ فليس في صفات الموصوف اللازمة ما هو علة للذات ولا معلول للذات بل هي صفات قائمة بالذات وفاعل الذات فاعل صفاتها ان كانت الذات من الذوات المفعولة والذي خلق الانسان خلق الحيوانية والناطقية وخلق الضاحكية وغيرها ليس بعض هذه الصفات سابقا لذات الانسان او مادة لها ولا علة لها ولا بعضها معلول لها بل هي صفات قائمة بالانسان لازمة له والذي خلقه خلق هذه الصفات اللازمة له وكذلك سائر المخلوقات الوجه الرابع ان يقال ما تعني بقولك وتلك الماهية الموصوفة مقتضية بصفاتها ان عنيت انها مستلزمة لها فحينئذ جميع الملزومات كذلك كما تقدم فبطل كونهم ارادوا بعض الملزومات وان عنيت انها فاعلة للزومها فليس في الماهيات ما يفعل شيئا من صفاتها الطريق الثاني ان يقال لو سلم انها مقتضية لذلك اللازم بمعنى انها علة كما ادعاه او بمعنى انها ملزومة لذلك اللازم كما هو الحق في نفس الامر فان كون الملزوم ملزوما واللازم لازما له هو ثابت لا ريب فيه واما كون الملزوم فعل اللازم او علة للازم فهذا قد يكون في بعض الملزومات كالمعلول المعين اللازم لعلته والا فأكثر اللوازم ليست معلولة لملزوماتها وسواء قدر انها معلولة او لم يقدر فقوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم كلام مجمل فان كون الشيء ملزوما لغيره هو انه متى تحقق الملزوم تحقق اللازم فقوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم كلام فيه اجمال فان كونها ملزومة حقيقة معقولة فقول القائل لما هي هي يقتضى ان اللزوم قسمان لزوم لما هي هي ولزوم لغير ما هي هي فان قيل نعم عندي اللزوم نوعان فاللازم البين الذي لا يفتقر الى وسط هو اللازم لما هي هي واللازم الذي يفتقر الى وسط هو اللازم لاجل الوسط لا لما هي هي قيل له الكلام في هذا الفرق فأنت تريد ان تقيم البرهان على ان ما كان لزومه بغير وسط كان بينا لا يفتقر الى دليل بل كان من الاوليات فمجرد تصور طرفي القضية كاف في العلم به والمنازع يقول لك قد يكون اللازم بغير وسط كالعلة مع معلولها لا يعلم الا بدليل ووسط فيكون وسطا في العلم والذهن لا وسطا في الخارج وانت قد ادعيت ان كل ما كان مفتقرا الى وسط في الذهن فانه يفتقر الى وسط في الوجود وان ما لا يفتقر الى وسط في الوجود لا يفتقر الى وسط في الذهن وعلى هذا ادعيت اقامة البرهان ونحن نقول مجرد التصور التام لما ادعيته يوجب العلم الضروري بفساده لكن نبين مع ذلك فساد ما دللت به على دعواك كما نبين فساد شبه السوفسطائية وان سموها براهين وهو انك صادرت على المطلوب فجعلت المطلوب مقدمة في اثبات نفسه فانك لم يمكنك الاستدلال حتى اخذت مسلما ان اللوازم تنقسم الى البين الذي يلزم لما هي هي والى اللازم بوسط الذي يفتقر الى وسط في نفس الامر والمنازع لك يقول لا نسلم افتقار شيء من اللوازم الى وسط في نفس الامر بل جميع اللوازم يلزم الملزوم نفسه وان كان بعض الملزومات شرطا في البعض كما ان العلم مشروط بالحيوة والارادة مشروطة بالعلم فليس الشرط وسطا ملزوما للازم الثاني كما ادعيته بل الذات مستلزمة الجميع ومتى تحققت تحقق الجميع ولا يتحقق شيء منها الا مع الذات وبعضها لا يتحقق الا مع بعض بل قد تكون متلازمة كصفات الله تعالى لا يتحقق شيء منها الا مع الاخرى فحياته لازمة لعلمه وقدرته ومشيئته وكذلك قدرته ملازمة لعلمه وحياته فهي كلها متلازمة وهي ايضا لازمة للذات والذات لازمة لها وليس شيء من الصفات هو وسطا للاخرى كما ادعيته من ان بعض اللوازم لازم للذات وبعضها لازم اللازم وبعضها لازم لازم اللازم بل جميعها لازمة للذات وهي ايضا متلازمة والذي ذكرناه من ان بعض الصفات قد يكون شرطا وهو من جنس الصفات واما الصفات اللازمة للموصوف مطلقا سواء كان هو الخالق او كان الملزوم مخلوقا كصفات الانسان اللازمة كلها متلازمة فحيوانية الانسان وناطقيته وضاحكيته متلازمة لا يوجد واحد منها دون الاخر وان وجدت حيوانية في غيره فتلك حيوانية غير حيوانيتة والفصول والخواص كلها متلازمة كالناطقية والضاحكية واذا كانت متلازمة وبعضها شرطا في بعض امتنع ان يكون الشرط هو الوسط الذي به يثبت المشروط كما ادعوه لان ذلك مستلزم ان يكون كل صفة لازمة وسطا للاخرى وان يكون ليس شيء من الصفات اللازمة يلزم بنفسه فيلزم الجمع بين النقيضين فعلم ان كون احدى الصفتين شرطا في الاخرى لا يقتضى كونها وسطا في الثبوت كما ادعوه واذا كان المنازع يمنع انقسام اللوازم الى ما لا يلزم بنفسه وبوسط وبرهانك مبنى على اخذ هذا التقسيم مسلما كنت مصادرا على المطلوب مثبتا للشيء بنفسه فان قلت انا اقيم هذا البرهان على من يسلم لي من المنطقيين ان من اللوازم ما يلزم بوسط وبغير وسط قيل لك فهذا ايضا خطأ من وجوه احدها ان القياس يكون حينئذ جدليا لا برهانيا وانت جعلته برهانيا الثاني ان المنطق الذي هو ميزان العلوم عندكم لا يجوز ان تجعل المقدمات المبينة له جدلية فانه حينئذ لا يكون علما بل يكون شيئا اتفق بعض الناس على دعواه ونحن نعلم ان كثيرا من الناس يدعون صحة المنطق ولكن أي فائدة في هذا الثالث ان يقال ولو سلم لك هذا التقسيم فالبرهان خطأ كما سيأتي بيانه وخطأه دليل على فساد اصل التقسيم واذا كان اصل التقسيم خطا كان البرهان باطلا وكان التقسيم باطلا وهو المطلوب الطريق الثالث ان يقال قولكم فاذا عقلنا الماهية وجب ان نعقل منها انها لما هي هي تقتضى ذلك اللازم يقال هذا ممنوع وذلك ان قول القائل عقلنا الماهية وتصورنا الماهية ونحو ذلك من العبارات لفظ مجمل فانه قد يعني به التصور التام والعقل التام الذي يتضمن تصور الملزوم وقد نعني به انا عقلناها وتصورنا نوعا من العقل والتصور وان لم يكن تاما ولا شك ان مثل هذا لا يستلزم تصور الملزوم فدعواك ان كل عقل للماهية يوجب ان نعقل منها انها لما هي هي تقتضى ذلك اللازم ممنوع وهو خلاف الواقع فان الناس لا يزالون يعقلون بعض الماهيات نوعا من العقل فلا يعقلون انها لما هي هي تقتضى اللازم وبالجملة فنحن في هذا المقام يكفينا المنع فان الدعوى ليست بديهية ولم يقم عليها دليلا الا قوله والا لما عقلنا الماهية لما هي هي فان اراد بهذا اللازم المنفي العقل التام الذي هو التصور التام فنحن نسلم ذلك ونقول ليس كل من تصور ماهية ما وعقلها نوعا من العقل والتصور يكون قد عقلها وتصورها عقلا تاما وتصورا تاما وان اراد بهذا اللازم المنفي انا لا يكون حصل لنا شيء من التصور والعقل فهذا ممنوع الطريق الرابع ان يقال ما ذكره يستلزم ان لا يعقل شيء من المفردات البسائط ولا يعقل شيء وحده بل كل من عقل شيئا فلا بد ان يعقل لازمه القريب فيكون قد عقل اثنين وتصور اثنين لم يعقل واحدا ولم يتصور واحدا وهذا مناقض لما زعموه من ان العلم ينقسم الى تصور وتصديق وان التصور هو التصور الساذج الذي لا يكون معه حكم بشيء اصلا لا بنفي ولا باثبات ونحن وان كنا قلنا ان مثل هذا ليس بعلم وانه لا يسمى علما الا ما تضمن العلم بنفي او اثبات فلا يمتنع ان يتصور الشيء من بعض الوجوه وان لم يتصور انه ملزوم للوازم له يلزمه بنفسها فقد ثبت ان قوله باطل باتفاق العقلاء الطريق الخامس ان يقال لو كان ما ذكرته صحيحا للزم ان من عقل شيئا عقل لوازم الشيء جميعها فانه اذا عقل الملزوم وجب ان يعقل لازمه الذي بغير وسط ثم عقل ذلك اللازم يوجب عقل الاخر وهلم جرا فيلزم ان يكون قد عقل اللوازم جميعها وهذا كما انه يبطل حجته فهو يبطل اصل قولهم ان اللازم بغير وسط لا يفتقر الى دليل في حق احد فانه لو كان كذلك لكان من تصور شيئا تصور جميع لوازمه ويلزم ان من عرف الله عرف جميع ما يعلمه الله فيعلم كل شيء لان علمه سبحانه من لوازم ذاته بل يلزم ان من علم شيئا من مخلوقاته علم كل شيء فان المخلوق مستلزم للخالق والخالق مستلزم لعلمه بكل شيء بل وهو مستلزم لمشيئته ومشيئته مستلزمة لجميع ما خلقه فانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلو كان من علم الملزوم لا بد ان يعلم لازمه لزم ان من علم شيئا فقد علم كل شيء وفساد هذا بين مع ان فساد هذه الدعوى اظهر من ان يحتاج الى دليل لكن اذا عرف شناعة لوازمها كان ادل على قبحها وفسادها وهذا يتضمن السؤال الذي ذكره وقال فيه بحث لا بد من ذكره كما تقدم حكاية لفظه والجواب الذي ذكره عنه باطل وقد تناقض فيه وذلك يتبين بذكر الطريق السادس وهو ان قوله العلم بماهية العلة لا يقتضى العلم بالمعلول الا بشرط اخر وهو حضور تصور المعلول فيقال المعلول عندكم هنا هو اللازم الاول الذي كان الموصوف علة له في ذاته لم يفتقر في كونه علة له إلى المعلول فان العلة لو افتقرت في كونها علة الى المعلول لم تكن وحدها علة وللزم تقدم المعلول على علية علته وعلية علته متقدمة على ذاته وهذا دور ممتنع باتفاق العقلاء وانتم جعلتم ما كان يفتقر لزومه الى وسط افتقر العلم به الى وسط وما لزم بلا وسط علم بلا وسط فاذا جعلتم العلم بلزومه موقوفا على تصور المعلول والعلة والملزوم واللازم جميعا وقلتم لا يعلم اللزوم الا بعد هذين التصورين واللزوم الخارجي موقوف على العلة وحدها لا على الاثنين بطل قولكم ان الوسط الذهني هو الخارجي فان هذا يتوقف العلم بلزومه على تصورين ولزومه في الخارج انما هو لازم لواحد لا لاثنين الطريق السابع قولك في الجواب ان الماهية وحدها لا تكفي في حصول العلية لان العلية امر اضافي والامور الاضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين كلام باطل سواء كانت العلية امرا عدميا او وجوديا فانها ان كانت عدمية بطل هذا الكلام وان كان امرا وجوديا فمعلوم ان العلة وحدها هي الموجبة للمعلول والا لم تكن علة له بل جزء علة والمعلول لا يكون الا بعد العلة فاذا كانت وحدها موجبة وهو لا يوجد الا بوجود العلة علم انها وحدها توجب المعلول والعلية الطريق الثامن قولك الامور الاضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد تعني به في الذهن او في الخارج فان هذا الموضع فيه التباس ان عنيت انها لا تتصور الا بتصور شيئين فهذا صحيح ولا ريب ان العلية لا تتصور الا بتصور العلة والمعلول فحصولها في التصور الذهني مشروط بحصول تصور المضافين في الذهن وان عنيت انها لا توجد في الخارج الا بالشيئين فهذا باطل بالضرورة واتفاق العقلاء فان ذات الرب وحدها مستلزمة لكل ما يتصف به من الامور الثبوتية والاضافية وهذا متفق عليه بين المسلمين والفلاسفة وسائر الناس فان كونه خالقا للعالم وربا وفاعلا هو الذي يسمونه علة ومؤثرا والناس متنازعون في الخلق هل هو امر عدمي وهو نفس المخلوق كما يقوله اكثر المعتزلة والاشعرية ام الخلق زائد على المخلوق كما هو قول جماهير المسلمين وهو قول السلف والائمة وذكر البخاري انه قول العلماء مطلقا لم يذكر فيه نزاع وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا انه على كل قول فلا يقول عاقل ان المخلوق اوجب كونه خالقا ولا المعلول جعل العلة علة ولا انه شرط في ذلك بل الخالق سبحانه هو وحده خلق جميع المخلوقات وكونه خالقا على قول الجمهور حاصل بقدرته ومشيئته عند المسلمين ليس خاصا بالمخلوقات بل خلق المخلوق متقدم عليه في نفس الامر فكيف يكون الخلق معلولا ل المخلوق وكذلك علية العلة متقدمة على المعلول في نفس الامر فكيف يكون المعلول جزء علية العلة فقوله ان العلية امر اضافي والامور الاضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين فيه تغليط بسبب الاجمال في قوله فالشيء الواحد لا يكفي في حصولها فان ما ذكره صحيح في الحصول في العلم والتصور واما الحصول الخارجي فالشيء الواحد قد يكون علة لامور كثيرة اضافية والعلة علة المعلول وعلة عليتها وهما جميعا حاصلان بالعلة وكذلك الابوة والبنوة من المتضائفات وهما لازمان للايلاد فعلة الايلاد اوجبت هذين المتضائفين فان قيل اراد ان الامور الاضافية لا توجد الا بوجود المضافين وان كان احدهما مستقلا بوجود المضافين قيل عن هذا جوابات احدها بأنه لم يرد هذا ولو اراده لم ينفعه وكان خطأ فهذه ثلاثة اجوبة وذلك ان كلامه في وجود علية العلة هو حصل بالعلة وحدها او بها وبالمعلول فلا بد ان يدخل صورة الدعوى في دليله ولفظه تقدم قال فيه وبيانه ان ماهية العلة وحدها لا تكفي في حصول العلية لان العلية امر اضافي والامور الاضافية لا تكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين فاذا لم تكن ذات العلة مستقلة باقتضاء حصول صفة العلية لا جرم لم يكن العلم بذات العلة كافيا في حصول العلم بالعلية فقد تبين مراده وهو ان العلة لا تستقل باقتضاء صفة العلية بل المقتضى بحصول هذه الصفة العلة والمعلول جميعا وهذا باطل ولو قدر انه اراد ان الامور الاضافية تتوقف على وجود المضافين وان لم يكن احدهما علة بل شرطا أي لا توجد الاضافة الا مع وجود المضافين لم ينفعه هذا فانه يقول العة اوجبت الامرين معا ولم يوجد احدهما الا مع الاخر ويلزمه ان يقول في العلم مثل ذلك فيقول العلم بالملزوم يوجب العلم باللازم وبالملزوم فان الملزوم هو العلة عندهم في هذا موضع واللازم هو المعلول ثم انه لا يسلم له ان كل اضافة تتوقف على وجود المضافين في ان واحد فان التقدم والسبق ونحو ذلك من الامور الاضافية توجد قبل وجود احد المضافين وكذلك علية العلة التي ليست تامة توصف بها العلة قبل وجود المعلول وهي التي يسميها الفقهاء الاسباب فيقال ملك النصاب سبب لوجوب الزكوة والسببية من الأمور الإضافية والنصاب موصوف بها قبل وجوب الزكاة وكذلك يقال هذا موجود قبل هذا او هو متقدم على هذا او هو اسبق من هذا. ومثل هذا كثير الطريق التاسع انه قال ان ذات العلة والمعلول يعني اللازم والملزوم بغير وسط عند تصورهما يجب حصول التصديق بانتساب احدهما الى الاخر فيقال هذا اول الدعوى فانه ان اراد بالتصور التام الذي يحصل معه تصور الملزوم فهذا حق ولكن لا ينفعه فانه ادعى ان مطلق عقل الماهية يوجب ذلك وايضا فانا نلزمه مثل ذلك في جميع الملزومات انها متى تصورت تصور اللازم وهو باطل وايضا فانا نحن نلتزم مثل ذلك في التصور التام فنقول في جميع اللوازم متى تصور الملزوم تصورا تاما يحصل به تصور الملزوم حصل معه العلم بأن هذا لازم وان لم يحصل هذا التصور لم يجب العلم باللازم في شيء من الامور كما سيأتي ذكر ذلك وقوله متى تصورنا حقيقة العلة وحقيقة المعلول امتنع عند ذلك ان لا نصدق بثبوت احدهما للاخر ان اراد التصور التام فهذا مشترك بين جميع اللوازم وان اراد غيره فالحكم ممنوع وهو انما ادعى ان مطلق عقل الماهية يوجب ذلك وقد بينا ان عقلها او تصورها ينقسم الى تام وغير تام وان ما ذكره انما يلزم في التام الطريق العاشر ان يقال ان كنت تعني باللزوم البين هذا فهكذا يفسر به لازم اللازم فيقال اذا تصور اللازم الاول وتصور لازم لازمه امتنع حينئذ ان لا بعرف ان احدهما علة للاخر فيلزم ما فررت منه وهو انه متى تصور شيئا تصور جميع لوازمه الطريق الحادي عشر قوله اذا اثبت ان تصور العلة انما يوجب التصديق بثبوت المعلول القريب عند تصور المعلول ثم من الجائز ان لا يحصل تصور المعلول عند تصور العلة لا جرم لا يلزم من العلم بحقيقة العلة العلم بكل اللوازم القريبة والبعيدة فيقال له انت فرقت بين اللوازم القريبة والبعيدة بأن القريبة ما كان بين اللزوم وادعيت ان ما كان بين اللزوم وهو ما ثبت بغير وسط يجب ان يعلم إذا تصور الملزوم فلا يفتقر الى وسط وقد فسرت ذلك في آخر الأمر بأن المراد إذا تصور الملزوم واللازم جميعا فيجب ان يعلم الملزوم فيقال لك وهكذا ايضا إذا تصور اللازم الأول ولازمه الثاني فقد تصور الملزوم ولازمه القريب فيجب ان يتصور لزومه له وقد كان تصور لزوم الأول فيلزم ما فررت منه من انه إذا عرف لزوم الأول عرف لزوم سائر اللوازم فإذا شرطت في العلم بلزوم الأول حضورهما جميعا فكذلك فاشرطه في العلم بلزوم الثاني وإن حذفت الشرط في الثاني فاحذفه من الأول حتى يكون الكلام عدلا وعلى التقديرين يلزم بطلان الفرق بين لازم ولازم بأن هذا بوسط وبأن هذا بغير وسط اذا فسر الوسط بوسط في نفس الأمر وبطلان ما ادعوه من ان اللازم بغير وسط يجب العلم به بلا دليل وان اللازم بوسط لا يعلم إلا بالعلم بالوسط فما ادعوه من هذا وهذا باطل فبطل ما ذكروه من دليل الفرق بين الأوليات والمشهورات وهو المطلوب الطريق الثاني عشر انه قال في جواب السؤال الثاني لا نسلم ان العلية مغايرة لحقيقة ذات العلة لكنا ندعي ان تصور حقيقة العلة مع تصور حقيقة المعلول القريب يوجب العلم بكون العلة علة لذلك المعلول فيقال هذا كلام مناقض لما تقدم مع تناقضه في نفسه فان العلية ان لم تكن مغايرة لذات العلة بطل قولك ان ماهية العلة وحدها لا تكفي في حصول العلية لان العلية امر اضافي والامور الاضافية لا تكفي في حصولها الشيء الواحد فانها اذا لم تغايرها لم يكن هناك شيء يكون معلولا لا للعلة ولا لها ولغيرها بل ولا هناك شيء يتصور اذا تصورت العلة والمعلول وان قيل هي مغايرة في العلم لا في الاعيان فانها امر عدمي قيل وهذا يبطل قوله فان العدم المحض لا حصول له فضلا عن ان يفتقر الى علة لحصوله ولكن تصورها في الذهن يتوقف على المضافين وهذا مما قدمنا انه حق وهو مبطل لما قاله الطريق الثالث عشر انهم قد زعموا ان اللوازم مترتبة في نفسها بالذات مستلزمة للاول والثاني مستلزم للثالث والثالث للرابع وان ما كان لزومه بغير وسط كان بينا لا يحتاج الى دليل وقد تناقض تفسيره لذلك لتناقض القول في نفسه فيقال له أي شيء قلته في لزوم الاول للملزوم الاول يقال في اللازم الثاني للاول سواء بسواء من كل وجه وحينئذ فأي شيء فسرت به العلم بلزوم الاول لا يفتقر الى وسط يلزمك مثله في الثاني فيكون موجب برهانك ان من علم شيئا علم جميع لوازمه وهذا في غاية الفساد 16. فصل برهان اخر للرازي على هذا التفريق ثم ذكر برهانا اخر على ما ادعاه من ان ما كان لزومه بغير وسط كان بينا فقال برهان اخر وهو انا اذا عقلنا ماهية فانه تبقى بعض لوازمها مجهولة ويمكننا تعرف تلك اللوازم المجهولة فلو لا وجود لوازم بينه الثبوت للشيء والا لزم التسلسل واما عدم تعرف تلك اللوازم وكلاهما باطلان قال وهذا البرهان كاف في اثبات اصل المقصود من ان الصفات اللازمة في نفسها يلزم بعضها بوسط في نفس الامر وبعضها بغير وسط وانما يدل هذا على ان الانسان قد يتبين له لزوم بعض اللوازم بلا دليل وبعضها لا يتبين الا بدليل وهذا لا ريب فيه لكن الدليل كل ما كان مستلزما للمدلول لا يختص بما يكون علة للمدلول ولا بعض اللوازم في نفس الامر علة لبعض ولا كل ما كان بينا لزيد يجب ان يكون بينا لعمرو فتبين ان الفرق الذي ذكره بين الاوليات والمشهورات من ان الاولى هو الذي يكون حمله على موضوعه اولا في الوجودين حملا ثانيا غلط لا يستقيم الا في الوجود الخارجي فانه ليس في اللوازم ترتيب حتى يكون بعضها اولا وبعضها ثانيا ولا في الذهن فان الوسط انما هو الدليل فيعود الفرق الى ان الاوليات ما لا يفتقر الى دليل والنظريات ما يفتقر الى دليل وهذا كلام صحيح متفق عليه لا يحتاج الى ما ذكروه ولكن هذا يوجب كون القضية اولية ونظرية هو من الامور الاضافية فقد تكون بديهية لزيد نظرية لعمرو باعتبار تمام التصور فمتى تصور الشيء تصورا اتم من تصور غيره تصور من لوازمه ما لم يتصوره ذو التصور الناقص فلم يحتج في معرفته بتلك اللوازم الى وسط واحتاج صاحب التصور الناقص الى وسط وايضا فهذا لا يوجب كون المشهورات ليست يقينية كما سنذكره ان شاء الله رد ابن سينا تفريقهم بين الصفات الذاتية واللازمة ولفظ ابن سينا في اشاراته قال واما اللازم غير المقوم يخص باسم اللازم فان كان المقوم ايضا لازما فهو الذي يصحب الماهية ولا يكون جزءا منها مثل كون المثلث مساوي الزوايا القائمتين قال وامثال هذا ان كان لزومها بغير وسط كانت معلومة واجبة اللزوم وكانت ممتنعة الرفع من الوهم مع كونها غير مقومة وان كان لها وسط بين يبين به علمت واجبة به قال واعني بالوسط ما يقرن بقولنا لانه كذا وهذا الوسط ان كان مقوما للشيء لم يكن اللازم مقوما له لان مقوم المقوم مقوم بل كان لازما له ايضا فان احتاج الى وسط تسلسل الى غير نهاية فلم يكن وسطا وان لم يحتج فهناك لازم بين اللزوم بلا وسط وان كان الوسط لازما متقدما واحتاج الى توسط لازم اخر او مقوم غير منته من ذلك الى لازم بلا وسط تسلسل الى غير النهاية فلا بد في كل حال من لازم بغير وسط وقد بان انه ممتنع الرفع في الوهم فلا يلتفت اذا الى ما يقال ان كل ما ليس بمقوم فقد يصح رفعه من الوهم ومن امثلة كون كل عدد مساويا للاخر او مفاوتا قلت مقصوده بهذا الرد على من قال من المنطقيين ان الفرق بين الصفة الذاتية والعرضية اللازمة ان ما ليس بذاتي يمكن رفعه في الوهم فيمكن تصور الموصوف بدون تصوره بخلاف الذاتي فتبين ان اللوازم لا بد ان تنتهي الى لازم بين لا يفتقر الى وسط وذاك يمتنع رفعه في الوهم اذا تصور الموصوف وهذا الذي قاله جيد وهو يبطل الفرق الذي هو عمدتهم ولهم فرق ثان بأن الذاتي ما لا يفتقر الى علة واللازم ما يفتقر الى علة والعلة هي الوسط وهذا الفرق افسد من الذي قبله فان كون بعض الصفات اللازمة تفتقر الى علة دون بعض باطل ثم سواء قيل يفتقر الى علة او وسط وسواء جعل ذلك هو الدليل او هو ايضا علة لثبوته في الخارج فان من اللوازم ما لا يفتقر الى علة فبطل هذا الفرق الثاني والفرق الثالث التقدم في الذهن او في الخارج وهو ان الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف الا بعد تصوره بخلاف اللازم العرضي فانه متصور بعد تصور الملزوم والذاتي هو المقوم وهذا الفرق ايضا فاسد فان الصفة لا تتقدم على الموصوف في الخارج اصلا واما في الذهن فقد تتصور الصفة والموصوف جميعا فلا يتقدم تصور الصفة وبتقدير التقدم فهذا يختلف باختلاف التصور التام والناقص لا باختلاف اللوازم نفسها فعلى هذه الفروق الثلاثة او احدها يعتمدون حتى الذين صاروا يجعلون المنطق في اول اصول الفقه من المتأخرين هذا عمدتهم كما يذكر ذلك الامدي وابن الحاجب وغيرهما وكلها باطلة اما التقدم الخارجي فمن المعلوم بصريح العقل ان الصفة القائمة بالموصوف والعرض القائم بالجوهر لا يعقل تقدمه عليه بوجه من الوجوه بل اذا اعتبر تقدم عقلي او غيره فالذات متقدمة على الصفات واما في التصور فالتصور مراتب متعددة يكون مجملا ومفصلا فالانسان قد يخطر له الانسان ولا يستحضر شيئا من صفاته فهذا تصوره تصورا مجملا وقد يخطر له مع ذلك انه ناطق كما قد يخطر له مع ذلك انه ضاحك واذا تصور الحيوان قد يخطر له انه حساس كما قد يخطر له انه متحرك بالارادة وكما يخطر له انه متألم او متلذذ وانه يحب ويبغض واذا تصور ان الانسان حيوان ناطق ولم يتصور الحيوان مفصلا لم يكن قد تصور الانسان مفصلا فما من صفة لازمة الا ويمكن وجودها في التصور المفصل وحذفها في التصور المجمل وحينئذ فقول القائل ان الذاتي ما لا يتصور الموصوف الا بعد تصوره ان ادعاه في كل تصور فهذا باطل وهو ممن يسلم بطلانه فانه يقول قولك عن الانسان انه حيوان ناطق حمد تام يفيد تصور حقيقته ومع هذا لم يتصور الذاتيات مفصلة فانه لم يستحضر في ذهنه ان الحيوان هو الجسم الحساس النامي المتحرك بالارادة فثبت انهم يجعلونه متصور الحقيقة بدون استحضار الذاتيات على وجه التفصيل فلا يجب في كل ذاتي ان يتقدم تصوره المفصل واما التصور المجمل فلا يجب فيه استحضار شيء من الصفات وتصور الانسان مجملا كتصور الحيوان مجملا ومعلوم ان الموصوف يشاركه غيره في صفات ويفارقه في صفات فاذا لم يجب ذكر جميع الصفات المشتركة على وجه التفصيل فدعوى الاكتفاء ببعضها دون بعض تحكم محض واذا كانت حقيقة الانسان عندهم متصورة بدون تصور الصفات الذاتية المشتركة على وجه التفصيل علم ان ما ذكروه من ان الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف بدونه باطل وان اكتفوا بالتصور المجمل فمن تصور الانسان مطلقا فقد دخل في جميع ذلك صفاته وبسط هذا له موضع اخر والمقصود هنا الكلام على ما فرقوا به بين الاوليات والمشهورات من ان الاوليات ليس بين الموصوف وصفته وسط في نفس الامر بخلاف غيره وقد تبين بطلان هذا الفرق طردا وعكسا وانه قد يكون من اللوازم التي لا وسط لها في نفس الامر ما يفتقر الى دليل ومن اللوازم التي يدعون افتقارها الى وسط ما يعلم ثبوته بلا دليل وان التفريق بين اللوازم بوسط في نفس الامر باطل وان الوسط الذي هو الدليل يختلف باختلاف احوال الناس ليس هو امرا لازما للقضايا فهذه عدة اوجه من هذا الطريق الاول النوع الثاني: لا دليل على دعواهم ان المشهورات ليست من اليقينيات النوع الثاني ان يقال المراد بالمشهورات عندهم هي القضايا العلمية كلها مثل كون العدل حسنا والظلم قبيحا والعلم حسنا والجهل قبيحا والصدق حسنا والكذب قبيحا والاحسان حسنا ونحو ذلك من الامور التي تنازع الناس هل حسنها وقبحها بالعقل ام لا المثبتة والنفاة للحسن والقبح العقليين واكثر الطوائف على اثبات الحسن والقبح العقليين لكن لا يثبتونه كما يثبته نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم بل القائلون بالتحسين والتقبيح من اهل السنة والجماعة من السلف والخلف كمن يقول به من الطوائف الاربعة وغيرهم يثبتون القدر والصفات ونحوهما مما يخالف فيه المعتزلة اهل السنة ويقولون مع هذا باثبات الحسن والقبح العقليين وهذا قول الحنفية ونقلوه ايضا عن ابي حنيفة نفسه وهو قول كثير من المالكية والشافعية والحنبلية كأبي الحسن التميمي وابي الخطاب وغيرهما من ائمة اصحاب احمد كأبي علي بن ابي هريرة و ابي بكر القفال الشاشي وغيرهما من الشافعية وكذلك من اصحاب مالك وكذلك اهل الحديث كأبي نضر السجزي وابي القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما بل هؤلاء ذكروا ان نفي ذلك هو من البدع التي حدثت في الاسلام في زمن ابي الحسن الاشعري لما ناظر المعتزلة في القدر بطريق الجهم بن صفوان ونحوه من ائمة الجبر فاحتاج الى هذا النفي قالوا والا فنفي الحسن والقبح العقليين مطلقا لم يقله احد من سلف الامة ولا ائمتها بل ما يؤخذ من كلام الائمة والسلف في تعليل الاحكام وبيان حكمة الله في خلقه وامره وبيان ما فيما امر الله به من الحسن الذي يعلم بالعقل وما في مناهيه من القبح المعلوم بالعقل ينافي قول النفاة والنفاة ليس لهم حجة في النفي اصلا وقد استقصى ابو الحسن الآمدي ما ذكروه من الحجج وبين انها عامتها فاسدة وذكر هو حجة اضعف من غيرها وهو ان الحسن والقبح عرض والعرض لا يقوم بالعرض فان اثبات هذا لا يحتاج الى قيام العرض بالعرض كما توصف الاعراض بالصفات وجميع ذلك قائم بالعين الموصوفة فنقول هذا سواد شديد وهذه حركة سريعة وبطيئة وهم يسلمون ان كون الفعل صفة كمال او صفة نقص او ملائما للفاعل او منافرا له قد يعلم بالعقل وهذه صفات للفعل وهي قائمة بالموصوف ومن الناس من يظن ان الحسن والقبح صفة لازمة للموصوف وان معنى كون الحسن صفة ذاتية له هذا معناه وليس الامر كذلك بل قد يكون الشيء حسنا في حال قبيحا في حال كما يكون نافعا ومحبوبا في حال وضارا وبغيضا في حال والحسن والقبح يرجع الى هذا وكذلك يكون حسنا في حال وسيئا في حال باعتبار تغير الصفات والحسن والقبح من افعال العباد يرجع الى كون الافعال نافعة لهم وضارة لهم وهذا مما لا ريب فيه انه يعرف بالعقل ولهذا اختار الرازي في اخر امره ان الحسن والقبح العقليين ثابتان في افعال العباد واما اثبات ذلك في حق الله تعالى فهو مبني على معنى محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه وفرحه بتوبة التائب ونحو ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع وهل ذلك صفات ليست هي الارادة كما اتفق عليه السلف والائمة او ذلك هو الارادة بعينها كما يقوله من يقوله من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم بيان ان قضايا التحسين والتقبيح من اعظم اليقينيات والمقصود هنا ذكر هذه القضايا المشهورة من بني ادم كلهم كقولهم العدل حسن وجميل وصاحبه يستحق المدح والكرامة والظلم قبيح مذموم سيء وصاحبه يستحق الذم والاهانة فان هؤلاء نفوا كونها من اليقينيات وهذا يستلزم ان لا يقول الفلاسفة بالحسن والقبح العقليين اذ لم يكن في العقل قضية برهانية عقلية ومن الناس من حكى عنهم القول بذلك والتحقيق انهم في ذلك متنازعون مضطربون كما في امثال ذلك فنقول دعوى المدعي ان هذه القضايا ليست من اليقينيات دعوى باطلة بل هذه من اعظم اليقينيات المعلومة بالعقل وذلك ان التصديق مسبوق بالتصور فينبغي ان ننظر معنى قولنا العدل حسن والظلم قبيح ثم ننظر في ثبوت هذا المحمول لهذا الموضوع ولنتكلم في عدل الناس وظلمهم فنقول الناس اذا قالوا العدل حسن والظلم قبيح فهم يعنون بهذا ان العدل محبوب للفطرة يحصل لها بوجوده لذة وفرح نافع لصاحبه ولغير صاحبه يحصل به اللذة والفرح وما تتنعم به النفوس واذا قالوا الظلم قبيح فهم يعنون به انه ضار لصاحبه ولغير صاحبه وانه بغيض يحصل به الالم والغم وما تتعذب به النفوس ومعلوم ان هذه القضايا هي في علم الناس لها بالفطرة وبالتجربة اعظم من اكثر قضايا الطب مثل كون السقمونيا تسهل الصفراء فلم كانت التجربيات يقينية وهذه التي هي اشهر منها وقد جربها الناس اكثر من تلك لا تكون يقينية مع ان المجربين لها اكثر واعلم واصدق وجزئياتها في العالم اكثر من جزئيات تلك والمخبرون بذلك عنها ايضا اكثر واعلم واصدق فان الانسان من نفسه يجد من لذة العدل والصدق والعلم والاحسان والسرور بذلك ما لا يجده من الظلم والكذب والجهل والناس الذين وصل اليهم ذلك والذين لم يصل اليهم ذلك يجدون في انفسهم من اللذة والفرح والسرور بعدل العادل وبصدق الصادق وعلم العالم واحسان المحسن ما لا يجدونه في الظلم والكذب والجهل والاساءة ولهذا يجدون في انفسهم محبة لمن فعل ذلك وثناء عليه ودعاء له وهم مفطورون على محبة ذلك واللذة به لا يمكنهم دفع ذلك من انفسهم كما فطروا على وجود اللذة بالاكل والشرب والالم بالجوع والعطش فلم كانت تلك القضايا من اليقينيات المعلومة بالحس والعقل كالتجربة وغيرها ولم تكن هذه من القضايا العقلية المعلومة ايضا بالحس والعقل والامر فيها اعظم واللذة التي توجد بهذه لذة روحانية عقلية شريفة والانسان كلما كمل عقله كانت هذه اللذة احب اليه من تلك اللذة ثم الفلاسفة اثبتوا معاد الارواح واللذة العقلية وهي مبنية على هذه القضايا التي سموها المشهورات فان لم تكن معلومة كان ما اثبتوه من ذلك ليس فيه شيء من العلم بل يقولون ما يقوله غيرهم من ان اللذات الباطنة اقوى واشرف من اللذات الظاهرة ويدعون الضرورة في اثبات لذة وراء اللذات الحسية الظاهرة واذا كانت اللذة اما ادراك الملائم كما قد يزعمونه او هي تابعة ولازمة للادراك الملائم كما يقوله غيرهم وهو الصحيح فمعلوم ان العلم والعدل والصدق والاحسان ملائم لبني آدم فيكونوا ملتذين بذلك بل يكون التذاذهم بذلك اعظم من غيره وهذا معنى كون الفعل حسنا ومعنى كونه قبيحا ضد ذلك واذا تصور معنى الحسن والقبح علم ان هذه المشهورات من اعظم اليقينيات فانها ما اتفقت عليها الامم لما علموه بالحس والعقل والتجربة بل اتفاق الناس على هذه اعظم من اتفاقهم على عامة ما يذكرونه وقد يعيش طوائف من الناس زمانا لا تخطر لهم القضايا الكلية العقلية التي جعلوها مبادى العلم كقول القائل النفي والاثبات لا يجتمعان وان يعلم ان هذا الشيء المعين اذا كان موجودا لم يكن معدوما لكن قد لا تخطر لهم القضية الكلية بل وقد لا يخطر لهم تقدير اجتماع وجوده وعدمه فان هذا التقدير ممتنع فلا يخطر لاكثر الناس ولا توجد طائفة الا وهي تحسن العدل والصدق والعلم وتقبح ضد ذلك وايضا فالحكمة عندهم وعند سائر الامم نوعان علم وعمل وهذه الحكمة عند المسلمين قال مالك رحمه الله الحكمة معرفة الدين والعمل به ولذلك قال ابن قتيبة الحكمة عند العرب العلم و العمل و الحكمة العملية عندهم و عند غيرهم تتضمن علم الأخلاق وسياسة المنزل وسياسة المدنية وبنى ذلك كله على هذه القضايا المشهورة بل وكل عمل يؤمر به فلا بد فيه من العدل فالعدل مأمور به في جميع الأعمال والظلم منهى عنه نهيا مطلقا ولهذا جاءت أفضل الشرائع والمناهج بتحقيق هذا كله وتكلميه فأوجب الله العدل لكل أحد على كل أحد في كل حال كما قال تعالى يأيها الذين أمنوا كونوا قومين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن فقيرا أو غنيا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا و قال تعالى وقال تعالى يأيها الذين امنوا كونوا قومين لله شهدآء بالقسط ولا يجر منكم شنان قوم أي يحملنكم بغض قوم كعدوكم الكفار على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى وقال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وأنزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الامنت الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل النساء وقال تعالى إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتآئى ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (النحل) ومثل هذا كثير وكذلك تحريم الظلم بمجموع أنواعه كثير في النصوص الالهية حتى في الحديث الالهى حديث ابي ذر الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي إنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني اغفر لكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى يا عبادي لو ان أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا يا عبادي لو ان أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا يا عبادي لو أن اولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكى إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط يا عبادي إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم اوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه والمقصود أن الحكمة العملية كلها مبنية على هذه القضايا والنفس لها قوتان العلمية والعملية والعمل لا بد ان يكون بعلم فان لم يكن هذه القضايا معلومة لم يكن شئ من الحكمة العملية معلوما ولا شئ من الاعمال والاخلاق المحمودة والمذمومة معلوما وهذا مع ما فيه من المناقضة لما يقولونه هو وغيرهم من العقلاء فهو مكابرة ظاهرة مع أنا في هذا النوع من الكلام لم نقصد إقامة الدليل على فساد قولهم بل صورناه لتعلم حقيقته وطالبناهم بالدليل على أن هذه المشورات ليست يقينية فانهم لم يذكروا على ذلك دليلا اصلا وسنتكلم على ما توهموه دليلا من قولهم هذه القضايا ليست بأولية لما ذكروه من الفرق بين الاولى وغيره قد تقدم بطلان هذا الفرق ولكن نحن نسلم ان من القضايا ما يكون بديهيا أوليا لبعض الناس أو لكلهم ويكون مجرد تصور طرفى القضية موجبا للحكم لكن ليس علة ذلك كون المحمول لازما للموضوع بلا وسط في نفس الامر كما ذكر ذلك الرازي ونحوه وإن كان هذا لم نجده في كلام ابن سينا وامثاله بل الوسط عنده الدليل كما تقدم بل ولا ذاك امرا لازما للقضية بل قد تكون بديهية لزيد ونظرية لعمرو بحسب المتصور لتمامه ونقضانه وهذا مما قد تنازع فيه بعضهم ويدعون أن كل ما كان اوليا لزيد فهو اولى لغيره كما يدل كلامهم على ذلك وأن الادميين يشتركون في العلم بكل ما هو أولى لكل شخص منهم لانها موجب العقل والعقل مشترك وهذا القول إن كنا نبطله ونقول القضية قد تكون ضرورية لزيد نظرية لعمرو كذلك غير ذلك من القضايا قد تكون المتواترة لهذا محسوسة لهذا والمجربة لهذا معلومة بالاستدلال لهذا ونحو ذلك وإذا كان كذلك فنحن ليس مقصودنا أن هذه القضايا المشهورة أولية أو ليست أولية ولا انها اوليه لجميع الناس أو لبعضهم بل المقصود انها من جملة القضايا الواجب قبولها التي يجب التصديق بها وتكون مادة للبرهان فانهم جعلوا المعتقدات ثلاثة الواجب قبوها والمشهورات والوهميات والمقصود هنا ان المشهورات العامة مثل حسن العدل وقبح الظلم هى من الواجب قبولها وإن لم نقل هى اولية فان الواجب قبولها قد جعلوها اصناقا اوليات ومشاهدات ومجربات وحدسيات ومتواترات وقضايا قياساتها معها وهذه المشهورات إذا لم تكن اولية لم تكن بدون كثير من المجربات والحدسيات ونحو ذلك فتكون مادة للبرهان اليقيني كالمتواترات والمجربات فان المتواترات والمجربات ليست اوليات وهذه المشهورات ابلغ من كثير من المجربات والعلم بها والتصديق بها في نفوس الامم قاطبة أقوى واثبت من العلم بكثير من المجربات والمتواترات التي تواترت عند بعض الامم دون بعض وبهذا الاعتبار فلم يذكروا حجة على انها ليست من اليقينيات فان قولهم موجب الحكم بها العادات او الاحوال النفسانية أو مصلحة النظام هذا لا ينافي كونها يقينية بل هو دليل على ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى فان المجربات كلها عاديات فكونها عاديات لا ينافى كونها يقينيات وكذلك كون قوى النفس تقتضيها فان هذا يدل على الملائمة والمنافرة وهذا هو معنى الحسن والقبح فلذلك لا ينافى كونها قضايا صادقة معلومة الصدق وكذلك كون نظام العالم مربوطا بها لا ينافى كونها صادقة معلومة فليس فيما ذكروه ما ينافي العلم بها ولا يدعى كونها أولية بالمعنى الذي ذكروه كما لا يدعى ذلك في المجربات والمتواترات وذلك لا ينافى كونها من اليقينيات النوع الرابع: خاصة العقل والفطرة استحسان الحسن واستقباح القبيح النوع الرابع أن يقال قوله لا عمدة لها إلا الشهرة وهو أنه لو خلى الانسان وعقله المجرد ووهمه وحسه الى قوله لم يقض بها الانسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه مثل حكمنا بأن سلب مال الانسان قبيح وأن الكذب قبيح لا ينبغي ان يقدم عليه فيقال لا نسلم هذا فان هذا دعوى مجردة وقوله سلب مال الانسان قبيح لفظ عام وقد يسلب ماله بعدل وقد يسلب بظلم والكلام فيما إذا علم الانسان أنه سلب ماله ظلما مثل أن يعلم ان الاثنين المشتركين في المال من كل وجه استولى أحدهما على الاخر فسلبه أكثر من نصف ونحو ذلك فان عقول العقلاء قاطبة وأوهامهم تقضى بقبح هذا أما الوهم فانه قد فسره بقوله في الاشارات وايضا فان الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئية معانى جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها فهذه القوة التي سموها الوهم هى التي يدرك بها الانسان صداقة الصديق وعدواة العدو ويدرك بها كل من الزوجين ما في الزوج الاخر من الامر المحبوب وبها يميل الانسان الى غيره وبها ينفر عنه ولهذا يقولون اكبر حاكم على النفوس الوهم ومعلوم أن هذه القوة تميل الى الشخص الذي تعلم انه عادل صادق محسن وتنفر عن الشخص الذي تعلم انه كاذب ظالم مسئ بل تميل الى هذا الشخص وإن لم يصل اليها من جهته نفع وضرر والنفوس مجبولة على محبة العدل وأهله وبغض الظلم وأهله وهذه المحبة التي في الفطرة هو المعنى بكونه حسنا وهذا البغض هو المعنى بكونه قبيحا كما يقال في الصورة الظاهرة هذا حسن وهذا قبيح فالحسن الظاهر ما يحسه الحس الظاهر والحسن الباطن ما يحسه القلب الباطن وإذا كانت النفوس مجبولة على محبة هذا وبغض هذا فهذا معنى الحسن والقبح فكيف يقال لو ترك الانسان وحسه وعقله ووهمه لم يقض بها ونفوس بنى آدم مجبولة على استحسان هذا واستقباح هذا وأما العقل فأخص صفات العقل عند الانسان ان يعلم الانسان ما ينفعه ويفعله ويعلم ما يضره ويتركه والمراد بالحسن هو النافع والمراد بالقبيح هو الضار فكيف يقال إن عقل الانسان لا يميز بين الحسن وبين القبيح وهل اعظم تفاضل العقلاء إلا بمعرفة هذا من هذا بل وجنس الناس يميل الى من يتصف بالصفات الجميلة وينفر عمن يتصف بالقبائح فذاك يميل جنس الانسان الى سمع كلامه ورؤيته وهذا ينفر عن رؤيته وسمع كلامه النوع الخامس: في بيان كون هذه المشورات معلومة بالفطرة النوع الخامس إن مبادى هذه القضايا أمر ضروري في النفوس فانها مفطورة على حب ما يلائمها وبغض ما يضرها والمراد بالحسن ما يلائمها وبالقبيح ما يضرها وإذا كانت مفطورة على حب هذا وبغض هذا فالمراد بقولنا حسن إنه ملائم نافع والمراد بقولنا قبيح إنه ضار مؤذ وهذا أمر فطري فعلم ان الناس بفطرتهم يعلمون هذه القضايا المشهورة بينهم النوع السادس: في بيان كون الموجب لاعتقاد هذه المشهورات من لوازم الانسانية النوع السادس ان يقال لو لم يكن لهذه القضايا مبدأ في قوى الانسان لم تشتهر في جميع الامم فان المشهور في جميع الامم لا بد ان يكون له موجب في الفطرة المشتركة بين جميع الامم فعلم أن الموجب لاعتقاد هذه القضايا امر اشتركت فيه الامم وذلك لا يكون إلا من لوازم الانسانية فان الامم لم تشترك كلها في غير لوازم الانسانية النوع السابع: رد ابن سينا على نفسه في قوله بأن المشهورات لا تدرك بقوى النفس النوع السابع قوله لو توهم الانسان بنفسه أنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع ادبا ولم يطع انفعالا نفسانيا ولا خلقا لم يقض في امثاله بشئ هذا ممنوع بل إن كان تام العقل علم ان العلم والعدل والصدق ينفعه وتصلح به نفسه وتلتذ وأن الكذب والظلم يضره ويفسد نفسه ويؤلمها ولو قدر أنه لا يعلم به أحد غير علم العقل بأنه إذا ظلم أبغضه الناس وعادوه وغير علمه بأن الله يعاقبه فان قيل الانسان يلتذ بما يراه قبيحا كما قد يلتذ بما يأخذه ظلما فيأكله ويشربه قيل وإن التذ بدنه فان قلبه وعقله لا يلتذ بذلك بل يلتذ إذا عدل وإن قدر انه يلتذ به لذة حاضرة فانه يتألم بقبح عاقبته عنده وإذا لم يتألم فلغيبة عقله عن إدراك المؤلم كما قد يحصل للسكران وغيره من أمور تؤلمه ولا يتألم بها لغيبة عقله عن إدراكها وهذا مما قد ذكره ابن سينا نفسه فقال في نمط البهجة والسعادة إنه قد يسبق الى الاوهام العامية أن اللذات القوية المستعلية هي الحسية وأن ما عداها لذات ضعيفة وكلها خيالات غير حقيقة وقد يمكن ان ينبه من جملتهم من له تمييز ما فيقال له اليس الذ ما يصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات وأمور تجرى مجراها وانتم تعلمون ان المتمكن من غلبة ما ولو في امر خسيس كالشطرنج والنرد قد يعرض له منكوح ومطعوم فيرفضه لما يعتاضه من لذة الغلبة الوهمية وقد يعرض منكوح ومطعوم لطالب العفة والرياسة مع صحة جسمه في صحبة حشمه فينفض اليد منهما مراعاة للحشمة فيكون مراعاة الحشمة آثر وألذ لا محالة هناك من المنكوح والمطعوم، وإذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بانعام يصيبون موضعه أثروه على الالتذاذ بمشتهى حيوانى متنافس فيه وآثروا فيه غيرهم على انفسهم مسرعين الى (الأنعام) به وكذلك فان كبير النفس يستصغر الجوع والعطش عند المحافظة على ماء الوجه ويستحقر هول الموت ومفاجاة العطب عند مناجزة المبارزين وربما اقتحم الواحد على عدد دهم ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقعه من لذة الحمد ولو بعد الموت كأن تلك تصل اليه وهو ميت فقد بان ان اللذات الباطنة مستعلية على اللذات الحسية وليس ذلك في العاقل فقط بل وفي العجم من الحيوانات فان من كلاب الصيد ما يقنص الصيد على الجوع ثم يمسكه على صاحبه وربما حمله اليه والراضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها وربما خاطرت محامية عليه اعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها فاذا كانت اللذات الباطنة اعظم من الظاهرة وإن لم تكن عقلية فما قولك في العقلية فيقال له هذا كله حجة عليك في قولك إن استحسان الحسن واستقباح القبيح لا يدركه الانسان لا بحسه ولا بعقله ولا بوهمه وانت قد ذكرت ان الانسان بل الحيوان يلتذ بالحمد والثناء ويلتذ بالغلبة ويلتذ ب(الأنعام) والاحسان والرحمة أعظم من التذاذة بالأكل والشرب ومعلوم ان لذة الاكل والشرب مما يعلم بالحس الظاهر فهذه اللذه الباطنة يعلم بالحس الباطن وبالوهم فكيف تقول إن الحسن والوهم والعقل لا يعلم به حسن الحسن وقبح القبيح وما ذكرته من التذاذ الانسان بالايثار وتركه الطعام الشهى مراعاة الحشمة ونحو ذلك إنما هو لكونه يرى ذاك قبيحا وهذا جميلا ويلتذ بفعل الجميل لذة باطنة يحس بها فكيف يقال إن الحسن والقبيح لا ينال بشئ من قوى النفس وإنما يصدق به لمجرد الشهرة فقط من غير موجب حسي ولا وهمى ولا عقلى النوع الثامن: رد قولهم إن العقل بمجرده لا يقضى في المشهورات بشئ النوع الثامن انه قال تنبيه إن اللذة هى إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك والالم هو إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك نقص وشر من حيث هو كذلك وقد يختلف الخير والشر بحسب القياس فالشئ الذي هو عند الشهوة خير هو مثل المطعم الملائم والملمس الملائم والذي هو عند الغضب خير فهو الغلبة والذي عند العقل فتارة وباعتبار فالحق وتارة وباعتبار فالجميل ومن العقليات نيل الشكر ووفور الحمد والمدح والكرامة وبالجملة فان همم ذوي العقول في ذلك مختلفة وكل خير بالقياس الى شيء ما فهو الكمال الذي يختص به وينحوه باستعداده الأول وكل لذة فانها تتعلق بأمرين بكمال خيري وبادراك له من حيث هو كذلك فيقال هذا تصريح بان العقل يحب الحق ويلتذ به ويحب الجميل ويلتذ به وان محبة الحمد والشكر والكرم هي من العقليات وهذا صحيح فان للانسان قوتين قوة علمية فهى تحب الحق وقوة عملية فهى تحب الجميل والجميل هو الحسن والقبيح ضده وتفريقه بين الحق والجميل هو بحسب اصطلاحه وإلا فاللغة التي جاء بها القرآن وتكلم بها الرسول لفظ الحق منها يتضمن النوعين كقوله ﷺ كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق وقوله الوتر حق فمن شاء أوتر بركعة ومن شاء اوتر بثلاث ومن شاء اوتر بخمس او سبع ومثل هذا موجود في غير موضع من كلامه ومن هذا الباب قوله اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شئ ما خلا الله باطل ومنه قوله تعالى ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل الحج وقوله فدلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال يونس ومعلوم أن ما عبد من دونه موجود مخلوق ولكن عبادته باطلة وهو باطل لان المقصود منه بالعبادة معدوم ولهذا يقول الفقهاء بطلت العبادة وبطل العقد وقد قال تعالى ولا تبطلوا اعمالكم محمد والابطال ضد الاحقاق وقال تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله اضل أعمالهم والذين امنوا وعملوا الصلحت وامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سياتهم واصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وان الذين امنوا اتبعوا الحق من ربهم وقد بين الله ان الاعمال السيئة القبيحة باطلة في مثل قوله والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمت في بحر لجي يغشه موج النور فهذا الثاني مثل ما يصدر عن الجهل البسيط والاول الجهل المركب وقال تعالى يايها الذين امنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والادى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدون على شئ مما كسبوا (البقرة) فهذا مثل إبطال العمل بالمن والاذى وبالرياء والكفر والمقصود انها لم تبق نافعة بخلاف العمل الحق المحمود فانه نافع ومنه قوله تعالى وقدمنا الى ما عملوا من علم فجعلنه هباء منثورا الفرقان وبالجملة فما ذكروه تصريح منهم بأن العقل يميز بين الجميل والقبيح وأن العاقل يلتذ بالجميل ويتألم بالقبيح وأن الجميل كمال وخير للقوة العاقلة من حيث هى كذلك وهذا مناقض لقولهم إن العقل بمجرده لا يقضى في أمثال هذا بشئ لا بحسن ولا بقبيح وهكذا تناقضوا في نفس الوهميات كما سنذكره إن شاء الله وسبب ذلك انهم تارة يقولون بموجب الفطرة فيكون كلامهم صحيحا وتارة يقولون بمقتضى الفطرة الفاسدة التي قد فسدت بالاعتقادات الفاسدة فيقولون باطلا كون الوجود كله مبنيا على الحق والعدل وهذه القضايا التي اتفقت الامم عليها مثل حسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم داخلة في مسمى الحق كما تقدم في كلام الله ورسوله وكذلك كلام العقلاء قاطبة يسمون هذا كله حقا ويقولون لصاحب الدين له عليه حق وأعطيه حقه وإذا حكم بينهما بعدل وقسم بانصاف يقولون هذا حق وإن حكم بخلاف ذلك يقولون هذا ظلم وجور وإذا لم يكن عنده شيء حق بل هو يدعى الباطل فيسمون الصدق حقا والكذب باطلا كما في كلام الله ورسوله قال النبي ﷺ - إن لصاحب الحق مقالا وفي لفظ إن لصاحب الحق اللسان واليد وقال ﷺ - لكعب بن مالك لما طلب غريمه أي كعب دع الشطر قال قد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه وذلك لان الامور الحسنة تتضمن امرا موجودا ماضيا ومستقبلا ففيها وجود وكمال الوجود والامور القبيحة تتضمن عدما ماضيا او مستقبلا ففيها نفى الوجود أو كمال الوجود فان كان موجودا كان العلم بوجوده حقا مطابقا له والاخبار عن وجوده كذلك وأما الكذب المتضمن نفيه والجهل الذي هو عدم العلم به فهو عدم علم وعدم قول حق بل الكذب من جنس الجهل المركب وأيضا العلم كمال وجود والصدق كمال وجود والجهل والكذب صفة نقص وكذلك العدل كالتسوية بين المتماثلين والتفصيل بين المختلفين هو تحقيق الامور على ما هى عليه وتكميلها ولهذا مبنى الوجود كله على العدل حتى في المطاعم والملابس والابنية ونحو ذلك فالبيت المبنى إن لم تكن حيطانه معتدلة بل كان بعضها اطول من بعض طولا فاحشا او كان منحنيا غير مستقيم فسد السقف وكذلك الثياب إن لم تكن على مقدار لا بسيها معادلة لهم وإلا لم ينتفعوا بها وكذلك ما يضع من المطاعم والادوية إن لم أجزاؤه معتدلة في الصفة والقدر في الكم والكيف فسد وكان مضرا لا نافعا فهذا موجود في الامور المحسوسة ان العدل فيها حسن أي تحصل به المنفعة والمصلحة والظلم فيها قبيح أي تحصل به المضرة والفساد وعلم الاخلاق والسياسة عندهم وعند سائر العقلاء مبنى على العدل ولهذا جعلوا كمال الانسان العملى اربعة امور إصلاح الشهوة والغضب والعدل بينهما وفي العلم بذلك والذي ذكروه هو بعض صفات الكمال التي أرسل الله بها رسله وانزل بها كتبه والاقتصار على ما ذكروه لا تحصل به السعادة التي هى كمال الانسان ولكنه من الامور المعتبرة فيها وقد بسطنا هذه الامور وبينا قصور فلسفتهم عن حصول السعادة والكمال بها وأنها ابلغ في القصور من دين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل وان ما عندهم إذا اخذ منه الحق وترك الباطل كان جزءا من الاجزاء المحصلة للسعادة وفيه امور كثيرة باطلة وأمور هي حق لكن ليس مما تحصل به السعادة والكمال الوجه العاشر: لا حجة على تكذيبهم بأخبار الانبياء الخارجة عن قياسهم الوجه العاشر ان الانبياء والاولياء لهم من علم الوحي والالهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه بل الفراسة ايضا وامثالها فان ادخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات لم يمكنهم نفى ما لم يدركوه ولم يبق لهم ضابط وهذا موضع ينبغى تحقيقه وهم اعنى ابن سينا واتباعه جعلوا القضايا من جهة ما يصدق بها المستعملة بين القائسن ومن يجرى مجراهم أربعة اصناف الاول الواجب قبولها التي هى مادة البرهان وهي الاوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات وربما ضموا الى ذلك قضايا معها حدودها ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر ولهذا اعترف المنتضرون لهم ان هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه وإذا كان كذلك لم يلزم ان كل ما لم يدخل في قياسهم أن لا يكون معلوما وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ فانه إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذه الطرق لم يمكن وزنها بهذه الالة وعامة هؤلاء المنطقيون يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم وهذا في غاية الجهل لا سيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الانبياء فيكونون ممن قال الله فيه بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله يونس وهذا صار بمنزلة المنجم إذا كذب بعلم الطب أو الطبيب إذا كذب بعلم النجوم والناس أعداء ما جهلوا ومن جهل شيئا عاداه فاذا كان اشرف العلوم لا سبيل الى معرفتها بطريقهم لزم امران أحدهما انه لا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه والثاني أن ما علموه خسيس بالنسبة الى ما جهلوه فكيف إذا علم انه لا يفيد النجاة ولا السعادة الوجه الحادى عشر: بطلان قولهم إن البرهانى والخطابي والجدلى هي المذكورة في قوله تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة الاية الوجه الحادي عشر إنهم يجعلون ما هو حق وعلم يجب تصديقه ليس علما وما هو باطل ليس بعلم علما وذلك أن هؤلاء جعلوا اجناس الاقيسة باعتبار مادتها خمسة البرهان والخطابة والجدل والشعر والسفسطة اصله سوفسطيقا وكذلك سائرها لها اسماء باليونانية ولسائر اجناس المنطق لكنها الفاظ طويلة مثل قاطيغورياس وانولوطيقا الى غير ذلك واللغة العربية اوجز وأبين فهى أكمل بيانا واوجز لفظا ويجعلون القياس باعتبار صورته قسمين الاقترانى والاستثنائى لتأليفه من الحمليات والشرطيات المتصلة والمنفصلة ويتكلمون قبل القياس في القضايا واقسامها وأحكامها مثل النقيض والعكس المستوى وعكس النقيض فانها إذا صحت بطل نقيضها وصح عكسها وعكس نقيضها فاذا قيل كل إنسان حيوان فنقيضه باطل وهو انه ليس شيء من الانسان حيوان وصح عكسه وهو ان بعض الحيوان إنسان وعكس نقيضه وهو ان ما ليس بحيوان فليس بانسان فإن التناقض اختلاف القضيتين بالسلب والايجاب على وجه يلزم من صدق احدهما كذب الأخرى وإن العكس جعل الموضوع محمولا والمحمول موضوعا مع بقاء الصدق وعكس النقيض والسالبة هو ان يجعل الموضوع محمولا مع جعل الايجاب سلبا واقسامها الكلية والجزئية والموجبة والسالبة أي العامة والخاصة والمثبتة والنافية وقبل ذلك يتكلمون في مفردات القضية وهي المعاني المفردة مثل الكلام في الكلي والجزئي والذاتي والعرضى وقبل ذلك في الالفاظ الدالة على المعاني كدلالة المطابقة والتضمن والالتزام والمقصود في هذا كله هو الحد والقياس والقياس هو المطلوب الاعظم والمطلوب الاعظم من انواع القياس هو القياس البرهاني قالوا والبرهان ما كانت مواده يقينية وهي التي يجب قبولها كما تقدم واما الخطابي فمواده هي المشهورات التي تصلح لخطاب الجمهور سواء كانت علمية او ظنية والجدلي هو الذي مواده ما يسلمها المجادل سواء كانت علمية او ظنية او مشهورة او غير مشهورة وهذا احسن ما تفسر به هذه الاصناف الثلاثة وكثير منهم يقول بل البرهاني ما كانت مقدماته واجبة القبول كما تقدم والجدلي ما كانت مقدماته مشهورة سواء كانت حقا او باطلا او واجبة او ممتنعة او ممكنة والخطابي ما كانت مقدماته ظنية كيف كانت فالخطابي هو الذي يفيد الظن مطلقا سواء كانت مقدماته مسلمة او مشهورة والجدلي ما يكون مقدماته مشهورة ومنهم من يقول بل البرهاني مؤلف من الواجبات والجدلي من الاكثريات والخطابي من المتساويات والشعري من الممتنعات وهذا ليس بشيء فان الشعري ما تشعر به النفس فيقصد به تنفيرها وترغيبها وترهيبها وقد يكون صدقا وقد يكون كذبا ولكن المقصود بالشعريات تحريك النفس لا لإفادتها علما وابن سينا رد هذا القول فقال ولا يلفت الى ما يقال من ان البرهانيات واجبة والجدلية ممكنة اكثرية والخطابية ممكنة متساوية لا مثل فيها ولا قدرة والشعرية كاذبة ممتنعة فليس الاعتبار بذلك ولا اشار اليه صاحب المنطق لكنه مع رده لهذا ذكر القول الثاني فقال القياسات البرهانية مؤلفة من المقدمات الواجب قبولها والجدلية مؤلفة من المشهورات والتقريرية ما كانت واجبة او ممكنة او ممتنعة والخطابية مؤلفة من المظنونات والمقبولات التي ليست بمشهورة وما يشبهها كيف كانت ولو ممتنعة والشعرية مؤلفة من المقدمات المخيلة من حيث يشعر من يخيلها كانت صادقة او كاذبة واما السوفسطائية فهي التي تستعمل الشبهة ويشاركها في ذلك الممتحنة المجربة على سبيل التغليط فان كان التشبيه بالواجبات ونحو استعمالها سمي صاحبها سوفسطائيا وان كان بالمشهورات سمي صاحبها مشاغبا ومماريا والمشاغب بازاء الجدلي والسوفسطائي بازاء الحليم وهذا الذي ذكره في مواد الجدلي والخطابي ضعيف ايضا بل مواد الجدلي هي المسلمات التي يسلمها المجادل سواء كانت مشهورة او لم تكن وسواء كانت حقا او باطلا ومواد الخطابي هي المشهورات ونحوها التي يخاطب بها الجمهور وكل من ذلك يكون برهانيا وغير برهاني ويكون صادقا وكاذبا هذا مراد قدمائهم وهو اشبه باللفظ والتقسيم واما كون الخطابيات هي الظنيات مطلقا فهذا خطا عند القوم فانه اذا كانت الجدليات قد تكون علمية فالخطابيات التي هي اشرف منها اولى انها قد تكون علمية فان الخطاب ارفع من الجدل عندهم والتفسير الاول تفسير محققيهم المتقدمين فانه ليس من شرط الخطابي ولا الجدلي ان لا يكون علميا كما انه ليس من شرط البرهاني ان لا يخاطب به الجمهور وان لا يجادل به المنازع بل البرهاني اذا كان مشهورا صلح للبرهان والخطابة والجدلي اذا كان برهانيا صلح للبرهان والجدل واذا كانت القضية مبرهنة وهي مشهورة مسلمة من المناظر صلحت للبرهان والخطابة والجدل بخلاف الشعري فان المقصود به تحريك النفس ليس المراد به ان يفيد لا علما ولا ظنا فلهذا لم يدخل مع الثلاثة وايضا فالخطابيات يراد بها خطاب الجمهور وهذا انما يكون بالقضايا المشهورة عند الجمهور وان كانت ظنية واذا كانت علمية فهو اجود فليس من شرطها ان لا تكون علمية واما الجدلي فانما هو خطاب لناس معينين فاذا سلموا تلك المقدمات حصل مقصود الجدلي وان لم تكن مشهورة واما السوفسطائي فهو المشبه الملبس وهو الباطل الذي اخرج في صورة الحق والمراد بيان فساده والا فليس لاحد ان يتكلم به فانه كذب في صورة صدق وباطل في صورة حق لكن المقصود بذكره تعريفه وامتحان الاذهان بحل شبه السوفسطائية ثم قد يقول من يقول من حذاقهم ومن يروم ان يقرن بين طريقهم وطريق الانبياء ان الاقسام الثلاثة البرهان والجدل والخطابة هي المذكورة في قوله تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ((النحل)) كلام اهل الفلسفة في الانبياء عليهم السلام ثم يقولون ان ما جاءت به الانبياء فهو من جنس الخطابة التي قصد بها خطاب الجمهور لم يقصد به تعريف الحقائق هذا في الامور العملية فان مبادى الامور العلمية قد لا يجعلونها من البرهانيات بل من المشهورات كالعلم بحسن العدل وقبح الظلم واما العلميات فيقولون ان الانبياء لم يذكروا حقائق الامور في معرفة الله والمعاد وانما اخبروا الجمهور بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في اقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا بذلك الحق ويقولون انهم ارادوا بخطابهم للناس ان يعتقدوا الامور على خلاف ما هي عليه وهي من جنس الكذب لمصلحة الناس وهم يعلمون هذه المرتبة ثم النبي عندهم هل يعرف الامور العلمية فيه نزاع بينهم وهم يعظمون محمدا ﷺ - يقولون لم يأت الى العالم ناموس افضل من ناموسه ويفضله كثير منهم على الفيلسوف ومنهم من يفضل الفيلسوف عليه وهم حائرون في امور الانبياء ولهذا كلامهم في الانبياء في غاية الاضطراب ولم ينقلوا عن ارسطو واتباعه فيهم شيئا بل ذكروا من كلام افلاطون وغيره في النواميس ما جعلوا به واضعى النواميس من اليونان وغيرهم من جنس الانبياء الذين ذكرهم الله في القران ونحن نعلم ان الرسل جميعهم دعوا الى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى وسئل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن الهة يعبدون الزخرف وقال تعالى ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (النحل) والنواميس التي يذكرونها فيها شرك لا يأمر به احد من انبياء الله فعلم ان كل من ذكروه من واضعى النواميس المخالفة لما اتفقت عليه الرسل فليس بني ولا متبع لنبي بل هو من جنس واضعي النواميس من ملوك الكفار ووزرائهم وعقلائهم وعلمائهم وعبادهم وهم وان عظموا الانبياء ونواميسهم فلاجل انهم اقاموا قانون العدل الذي لا تقوم مصلحة العالم الا به ويوجبون طاعة الانبياء والعمل بنواميسهم وهي الشرائع التي جاؤا بها ولكنهم لم يأتوا بالامور العلمية بل بالعمليات النافعة والعلميات عندهم اما ان تكون التي علمها وما امكنه اظهارها بل اظهر ما يخالف الحق عنده لمصلحة الجمهور واما انه لم يعلمها والا فهم يجوزون للرجل ان يتمسك بأي ناموس كان ولا يوجبون اتباع نبي بعينه لا محمد ولا غيره الا من جهة مصلحة دنياهم بذلك لا لانه يعذب في الاخرة على مخالفة شريعة محمد او غيره ولهذا لما ظهرت الترك الكفار واراد من أراد منهم ان يدخل في الاسلام قبل ظهور الاسلام عليهم اشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بأن لا يفعل فان ذاك لسانه عربي ولا يحتاجون الى شريعته ونحو هذا الكلام يبين ان الشريعة التي جاء بها محمد لا يحتاج اليها مثلكم وامثالكم وقد قيل ان الذي اراد الدخول في الاسلام وقال له منجمه هذا هو هولاكو ولما قدم هلاكو الشام وتقلد القضاء من جهته بعض قضاة الشام الذين كانوا يعظمون صوفية الفلاسفة كابن عربي ونحوه ودخل الى البلد اخذ يثني على ملك الكفار ويعظمه ويذكر ما يذكر من فضائله بزعمه فقال له بعض الحاضرين ياليته كان مسلما فقال القاضي واي حاجة لهذا الى الاسلام سواء كان مسلما او لم يكن وهذا بناء على هذا الاصل فالنبي عندهم يشبه من بعض الوجوه ائمة المذاهب عند المتكلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وسفيان الثوري والليث بن سعد والاوزاعي وداود بن علي وغير هؤلاء من ائمة الفقهاء فان المتكلمين يعظمون هؤلاء في علم الشريعة العملية والقضايا الفقهية واما في الكلام واصول الدين مثل مسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوات والمعاد فلا يلتزمون موافقة هؤلاء بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين افضل منهم في ذلك وقد يقولون انهم وان علموا ذلك لكن لم يبسطوا القول فيه ولم يبينوه كما فعل ذلك شيوخ المتكلمين فالنبي عند هؤلاء المتفلسفة يشبه المجتهد المتبوع عند المتكلمين ولهذا يقول من يقرنهم بالانبياء كأصحاب رسائل اخوان الصفا وامثالهم اتفقت الانبياء والحكماء او يقولون الانبياء والفلاسفة كما يقول الاصوليون اتفق الفقهاء والمتكلمون وهذا قول الفقهاء والمتكلمين ونحو ذلك والذين يعظمونهم يريدون التوفيق بين ما يقولونه وبين ما جاءت به الانبياء كما تقدم انهم يجعلون الاقيسة الثلاثة هي المذكورة في صورة (النحل) ويجعلون الملائكة هي هي العقول والنفوس ومنهم طائفة ادعت كثرة الملائكة كأبي البركات صاحب المعتبر وهؤلاء اقرب عندهم فان الانبياء صرحوا بكثرة الملائكة وقد يجعلون الجن والشياطين هي قوى النفوس الصالحة والفلسفة وقد بسط القول عليهم في غير هذا الموضع وبين ان الملائكة التي اخبرت بها الرسل من ابعد الاشياء عما يدعونه من العقول والنفوس وان الجن والشياطين احياء ناطقون موجودون ليسوا اعراضا قائمة بغيرها الكلام على جعلهم الاقيسة الثلاثة من القران والمقصود هنا كلامهم في المنطق فنقول قوله تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن (النحل) ليس المراد به ما يذكونه من القياس البرهاني والخطابي والجدلي فان الاقيسة التي هي عندهم برهانية قد تقدم بعض وصفها وانها لا تفيد قط الا امرا كليا لا يدل على شيء معين وتلك الكليات غالبها انما توجد في الاذهان لا في الاعيان والذي جاء به الرسول امران خبر وامر فأما الخبر فانه اخبر عن الله بأسمائه وصفاته المعينة وهذا امر يعترفون هم انه لا يعرف ببرهانهم وما اخبر به الرسول عن ربه عز و جل فهم من ابعد الناس عن معرفته وكفار اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل اقرب الى الرسول فيه منهم اليه وكذلك ما اخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والحنة والنار ليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم وليس المراد بالعرش الفلك التاسع ولا بالكرسي الثامن كما قد بسط في موضع اخر ولو قدر انه كذلك فليس هذا مما يعلم بالقياس المنطقي والرسول اخبر عن امور معينة مثل نوح وخطابه لقومه واحواله المعينة ومثل ابراهيم واحواله المعينة ومثل موسى وعيسى واحوالهما المعينة وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم لا البرهاني ولا غيره فان اقيستهم لا تفيد الا امورا كلية وهذه امور خاصة وكذلك اخبر عما كان وعما سيكون بعده من الحوادث المعينة حتى اخبر عن التتر بما ثبت في الصحيحين عنه من غير وجه انه قال لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الاعين ذلف الانوف حمر الخدود ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة فهل يتصور ان قياسهم وبرهانهم يدل على ادمي معين او امة معينة فضلا عن ان يوصف بهذه الصفات قبل ظهورهم بنحو سبعمائة سنة وكذلك قوله الثابت في الصحيح لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من ارض الحجاز تضيء بها اعناق الابل ببصرى وهذه النار قد خرجت قبل مجيء اكثر الكفار الى بغداد سنة خمس وخمسين وستمائة وقد تواتر عن اهل بصرى انهم راوا ببصرى اعناق الابل من ضوء تلك النار وخبر هذه النار مشهور متواتر بعد ان خرجت بجبال الحجاز وكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم وفزع لها الناس فزعا شديدا فهل يدل قياس برهاني او غير برهاني على هذا الامر المعين ويخبر به المخبر قبل حدوثه بأكثر من ستمائة وخمسين سنة فان هذا اخبر به النبي ﷺ - في اخر ايام النبوة وابو هريرة انما اسلم عام خير سنة سبع من الهجرة وصحب النبي ﷺ - اقل من اربع سنين فأخباره كلها متأخرة وكذلك سائر ما اخبر به من الامور الماضية والمستقبلة والامور الحاضرة مما يعلمون هم انه يمتنع ان يعرف ذلك بالقياس البرهاني وغيره فان ذاك انما يدل على امر مطلق كلي لا على شيء معين واما العمليات التي امر بها فهم وان ادعوا ان ما عندهم من الحكمة الخلفية والمنزلة والمدنية تشبه ما جاء به من الشريعة العملية فهذا من اعظم البهتان وذاك ان حكمتهم العملية انما مبناها على انهم عرفوا ان النفس لها قوة الشهوة والغضب الشهوة لجلب الملائم والغضب لدفع المنافي فجعلوا الحكمة الخلقية مبناها على ذلك فقالوا ينبغي تهذيب الشهوة والغضب لكون كل منهما بين الافراط والتفريط وهذا يسمى عفة وهذا يسمى شجاعة والتعديل بينهما عدلا وهذه الثلث تطلب لتكميل النفس بالحكمة النظرية العلمية فصار الكمال عندهم هذه الامور العفة والشجاعة والعدل والعلم وقد تكلم في هذا طوائف من الداخلين في الاسلام واستشهدوا على ذلك بما وجدوه في القران والحديث وكلام السلف في مدح هذه الامور والذين صنفوا في الاخلاق والاعمال على طريق هؤلاء مثل كتاب موازين الاعمال لابي حامد ومثل اصحاب رسائل اخوان الصفا ومثل كتب محمد بن يوسف العامري وغيره يبنون كلامهم على هذا الاصل لكن غلطوا فان مراد الله ورسوله بالعلم الذي يمدحه ليس هو العلم النظري الذي هو عند فلاسفة اليونان بل الحكمة اسم يجمع العلم والعمل به في كل امة قال ابن قتيبة وغيره الحكمة عند العرب العلم والعمل به وسئل مالك عن الحكمة فقال هو معرفة الدين والعمل به وكل امة لها حكمة بحسب علمها ودينها فالهند لهم حكمة مع انهم مشركون كفار والعرب قبل الاسلام كانت لهم حكمة وكان فيهم حكماء العرب مع كونهم مشركين يعبدون الاوثان فكذلك اليونان لهم حكمة كحكمتهم وحكماء كل طائفة هم افضل تلك الطائفة علما وعملا لكن لا يلزم من ذلك ان يكونوا ممدوحين عند الله وعند رسوله فان الممدوح عند الله وعند رسوله لا يكون قط الا من المؤمنين المسلمين الذين امنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وعبدوا الله وحده لم يشركوا به شيئا ولم يكذبوا نبيا من انبيائه ولا كتابا من كتبه ولا يثنى الله قط الا على هؤلاء كما قال تعالى ان الذين امنوا والذين هادوا والنصرى والصبئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يجزنون (البقرة) وقال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصرى تلك امانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صدقين بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة) وقال ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا النساء وقد ذكر الله عن الانبياء واتباعهم انهم كانوا مسلمين مؤمنين من نوح الى الحواريين وقال تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخسرين (آل عمران) وهذا عام في الاولين والاخرين وقال ان الدين عند الله الاسلام (آل عمران) وقال ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة (النحل) وقوله تعالى اسلم وجهة لله وهو محسن أي اخلص قصده وعمله لله وهو محسن يفعل الصالحات وهذا هو الاسلام وهو ان يكون عمله عملا صالحا ويعمله لله تعالى وهذا هو عبادة الله وحده لا شريك له وبهذا بعث الله الرسل جميعهم 17. سبب نزول قوله ان الذين آمنوا والذين هادوا الآية وكذلك لما ذكر الملل الاربعة الذين فيهم من هو محمود سعيد قال تعالى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يزنون (البقرة) وروى الناس كابن أبي حاتم وغيره بالاسانيد الثابتة عن سفيان عن ابن ابي نجيح عن مجاهد قال قال سلمان سألت النبي ﷺ عن اهل دين كنت معهم فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصرى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا وكذلك ذكر السدي عن اشياخه في تفسيره المعروف قال نزلت هذه الاية في اصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي ﷺ - اذ ذكر اصحابه فأخبره فقال كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ويشهدون انك ستبعث نبيا فأنزل الله هذه الاية ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصرى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر فقال كان ايمان اليهود انه من تمسك بالتوراة وبسنة موسى حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة واخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا وايمان النصارى ان من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد ﷺ - فمن لم يتبع محمدا ﷺ - منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والانجيل كان هالكا قال ابن ابي حاتم وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا والذين آمنوا أولا المراد بهم امة محمد واما ما يذكره طائفة من المفسرين في قوله ان الذين آمنوا ان فيهم اقوالا احدها انهم هم الذين آمنوا بعيسى قبل ان يبعث محمد قاله ابن عباس والثاني انهم الذين آمنوا بموسى وعملوا بشريعته الى ان جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته لما أن جاء محمد وقالوا هذا قول السدى عن اشياخه والثالث انهم طلاب الدين كحبيب النجار وقس بن ساعدة وسلمان الفارسي وابي ذر وبحيرا الراهب آمنو بالنبي قبل مبعثه فمنهم من ادركه وتابعه ومنهم من لم يدركه والخامس انهم المنافقون والسادس انهم الذين آمنوا بالانبياء الماضين والكتب المتقدمة فلا يؤمنوا بك ولا بكتابك فهذه الاقوال ذكرها الثعلبي وامثاله ولم يسموا قائلها وذكرها ابو الفرج ابن لجوزي الا السادس وسمي قائل الاولين وذكر انهم المنافقون عن الثورى وهذه الاقوال كلها مبتدعة لم يقل الصحابة والتابعون لهم باحسان شيئا منها وما نقل عن السدي غلط عليه وقد ذكرنا لفظه الموجود في تفسيره المنقول بالاسناد الثابت في تفاسير الذين يذكرون الاسانيد كتفسير عبد الرحمن بن ابي حاتم وتفسير ابي بكر بن المنذر وتفسير محمد بن جرير الطبري وامثال هذه التفاسير وما نقل عن ابن عباس لا يثبت وهي أقوال باطلة فان من كان متمسكا بشريعة عيسى قبل ان يبعث محمد ﷺ - من غير تبديل فهم النصارى الذين اثنى الله عليهم وكذلك من تمسك بشريعة موسى قبل النسخ و التبديل فهم اليهود الذين اثنى الله عليهم و طلاب الدين كحبيب النجار كان على دين المسيح و كذلك بحيرا الراهب و غيره و كل من تقدم من الانبياء و امتهم يؤمنون بمحمد فليس هذا من خصائص هذا النفر القليل الكلام على اخذ الله ميثاق النبيين على الايمان بمحمد قال تعالى و اذا اخذ الله ميثاق النبيين لما اتيتكم من كتب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال اقررتم و اخذتم على ذلكم اصرى قالوا اقررنا قال فاشهدوا و انا معكم من الشهدين و عن علي بن ابى طالب انه قال لم يبعث الله نبيا ادم و من بعده الا اخذ عليه العهد فى محمد و امره و اخذ العهد على قومه ليؤمنن به و لئن بعث و هم احياء لينصرنه و كذلك عن ابن عباس انه قال ما بعث الله نبيا الا اخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به و امره ان ياخذ الميثاق على أمته ان بعث محمد و هم احياء ليؤمنن به و لينصرنه و قال بعض العلماء اخذ الميثاق على النبيين و امتهم فاجتزا بذكر الانبياء عن ذكر الامم لان فى اخذ الميثاق على المتبوع دلالة على اخذه على التابع و حقيقة الامر ان الميثاق اذا اخذ على الانبياء دخل فيه غيرهم لكونه تابعا لهم و لانه اذا وجب على الانبياء الايمان به و نصره فوجوب ذلك على من اتبعهم اولى و احرى و لهذا ذكر عن الانبياء فقط و قد قيل ان المراد باخذ الميثاق على الأنبياء هو اخذه على قومهم فإنهم هم الذين يدركون النبي الآتي وقالوا هي في قراءة ابن مسعود و ابي بن كعب وإذ اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وزعم بعضهم ان هذه القراءة هي الصواب والأولى غلط من الكتاب وهذا قول باطل ولولا انه ذكر لما حكيته فإن ما بين لوحي المصحف متواتر والقرآن صريح في ان الله اخذ الميثاق على النبيين فلا يلتفت الى من قال إنما اخذ على اممهم لكن الأنبياء امروا ان يلتزموا هذا الميثاق مع علم الله وعلم من اعلمه منهم انهم لا يدركونه كما نؤمن نحن بما تقدمنا من الأنبياء والكتب وإن لم ندركهم وأمر الجميع بتقدير إدراكه ان يؤمنوا به وينصروه كما ان النبي ﷺ - اخبرنا بنزول عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق واخبر انه يقتل المسيح الدجال فنحن مأمورون بالايمان بالمسيح ابن مريم وطاعته إن ادركناه وإن كان لا يأمرنا إلا بشريعة محمد و مامورون بتكذيب المسيح الدجال و اكثر المسلمين لا يدركون ذلك بل انما يدركه بعضهم قال طاوس اخذ الله ميثاق النبيين بعضهم على بعض ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه فقال هذه الاية لاهل الكتاب اخذ الله ميثاقهم ان يؤمنوا بمحمد و يصدقوه يعني بذلك ان من ادرك نبوة محمد منهم يعنى هم الذين ادركهم العمل بالاية و الا فذكر ان الميثاق اخذ على النبيين بعضهم على بعض لكن ذلك عهد واقرار مع العلم بانهم لا يدركونه و كذلك عن السدى لم يبعث الله نبيا قط من لدن نوح الا اخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد و لينصرنه ان خرج و هو حى و الا اخذ على قومه ان يؤمنوا به و ينصروه ان خرج و هم احياء و قال محمد بن اسحق ثم ذكر ما اخذ عليهم و على انبيائهم الميثاق بتصديقه اذا هو جاءهم واقرارهم به على انفسهم فقال واذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتب وحكمة ثم جاءكم الاية وقوله رسول مصدق لما معكم متناول لمحمد بالاتفاق فان رسالته كانت عامة وقد قال الله له وانزلنا اليك بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليه المائدة فكتابه مهيمن على ما بين يديه من كتب السماء وقد اوجب الله على اهل الكتابين وسائر اهل الارض الايمان به وهذا مذكور في غير موضع من القران والحديث وهو مع انه اجماع من المسلمين فهو معلوم بالاضطرار من دينه متواتر عنه كما تواتر عنه غزوه اليهود والنصارى وهل يدخل في ذلك غيره من الرسل فيه قولان قيل ان الله اخذ ميثاق الاول من الانبياء ان يصدق الثاني وينصره وامره ان يأخذ الميثاق على قومه بذلك وقيل بل هذا الرسول هو محمد خاصة وهذا قول الجمهور وهو الصواب لان الانبياء قبله انما كانت دعوتهم خاصة لم يكونوا مبعوثين الى كل احد فاذا لم يدخل في دعوته جميع اهل زمنهم ومن بعدهم كيف يدخل فيها من ادركهم من الانبياء قبلهم والله تعالى قد بعث في كل قوم نبيا كما قال تعالى انا ارسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وان من امة الا خلافيها نذير فاطر وقال ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبو الطاغوت (النحل) وكذلك قوله لتؤمنن به ولتنصرنه والنصرة مع الايمان به هو الجهاد ونوح وهود ونحوهم من الرسل لم يؤمروا بجهاد ولكن موسى وبنوا اسرائيل امروا بالجهاد وقوله لما هذه اللام تسمى الموطئة للقسم فان الكلام اذا كان فيه شرط متقدم وقسم كان جواب القسم يسد مسد جواب الشرط والقسم جميعا وادخلت اللام الموطئة على اداة الشرط وما هنا شرطية واللام في قوله لتؤمنن به هي جواب القسم ونظير اللام المؤطئة في قوله ولئن اتيت الذين اوتوا الكتب بكل آية ما تبعوا قبلتك (البقرة) ونظير هذه الآية قوله ولئن جآء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم العنكبوت وقوله ولئن شئنا لنذهبن بالذي اوحينا اليك الاسراء ولئن اخرنا عنهم العذاب الى امة معدودة ليقولن ما يحبسه هود ولهذا قال النحاة كالمبرد والزجاج هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء أي الشرطية كما تدخل على ان ومعناه لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به واللام في لتؤمنن به جواب الجزاء وكذلك قال الفراء من فتح اللام جعلها لاما زائدة بمنزلة اليمين اذا وقعت على جزاء صرف بعد ذلك الجزاء على جهة فعل وحرف جوابه كجواب اليمين والمعنى أي كتاب اتيتكم ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به وجواب الجزاء في قوله لتؤمن به ومعنى قولهم جواب الجزاء في هذا أي جواب القسم تضمن ايضا جواب الجزاء فهو جواب لهما في المعنى والمقصود ان ما عليه جميع الامم من حكمة علمية وعملية اذا لم يكونوا ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا فان الله لا يمدحهم ولا يثني عليهم وهؤلاء الفلاسفة ارسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الاوثان ويبنون الهياكل للكواكب فليست حكمتهم من الحكمة التي اثنى الله عليها وعلى اهلها ومن كان من الفلاسفة الصابئة المشركين فهو من جنسهم الصابئة وصواب التحقيق عنهم واما الصابئون الحنفاء فهم في الصابئين بمنزلة من كان متبعا لشريعة التوراة والانجيل قبل النسخ والتبديل من اليهود والنصارى وهؤلاء ممن حمدهم الله واثنى عليهم وبعض الناس يقول ان بقراط كان من هؤلاء ووهب بن منبه من اعلم الناس بأخبار الامم المتقدمة وقد روى ابن ابي حاتم بالاسناد الثابت انه قيل لوهب بن منبه ما الصابئون قال الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا وكذلك روى عن الثورى عن ليث عن مجاهد قال هم قوم من المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين قال وروى عن علماء نحو ذلك أي ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي ولم يرد بذلك انهم كفار فان الله قد اثنى على بعضهم فهم متمسكون بالاسلام المشترك وهو عبادة الله وحده وايجاب الصدق والعدل وتحريم الفواحش والظلم ونحو ذلك مما اتفقت الرسل على ايجابه وتحريمه فان هذا دخل في الاسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره وكذلك قال عبد الرحمن بن زيد هم قد يقولون لا اله الا الله فقط وليس لهم كتاب ولا نبي وهذا كما كانت العرب عليه قبل ان يبتدع عمرو بن لحي الشرك وعبادة الاوثان فانهم كانوا حنفاء يعبدون الله وحده ويعظمون ابراهيم واسماعيل ولم يكن لهم كتاب يقرؤنه ويتبعون شريعته وكان موسى قد بعث الى بني اسرائيل بشريعة التوراة وحج البيت العتيق ولم يبعث الى العرب لا عدنان ولد اسماعيل ولا قحطان والناس متفقون على ان عدنان ولد اسماعيل وربيعة ومضر واما قحطان فقال بعضهم هم ايضا من ولد اسماعيل والصحيح انهم كانوا موجودين قبل ابراهيم بأرض اليمن ومنهم جرهم الذين سكنوا مكة ومنهم تعلم اسماعيل العربية واما من قال من السلف الصابئون فرقة من اهل الكتاب يقرؤن الزبور كما نقل ذلك عن ابي العالية والضحاك والسدي وجابر بن يزيد والربيع ابن انس فهؤلاء ارادوا من دخل في دين اهل الكتاب منهم وكذلك من قال هم صنف من النصارى كما يروى عن ابن عباس انه قال هم صنف من النصارى وهم السائحون المحلقة اوساط رؤسهم فهؤلاء عرفوا منهم من دخل في اهل الكتاب ومن قال انهم يعبدون الملائكة كما يروي عن الحسن قال هم قوم يعبدون الملائكة وعن ابي جعفر الرازي قال بلغني ان الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرؤن الزبور ويصلون فهذا ايضا صحيح وهم صنف منهم وهؤلاء كثير من الصابئين يعبدون الروحانيات العلوية لكن هؤلاء من المشركين منهم ليسوا من الحنفاء وكذلك اختلاف الفقهاء في الصابئين هل هم من اهل الكتاب ام لا ويذكر فيه عن احمد روايتان وكذلك قولان للشافعي والذي عليه محققوا الفقهاء انهم صنفان فمن دان بدين اهل الكتاب كان منهم والا فلا وقال ابو الزناد الصابئون قوم مما يلى العراق وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون الى الشمس كل يوم خمس صلوات فهؤلاء الصابئة الذين ادركهم الاسلام وكانوا بأرض حران والذين خبروهم عرفوا انهم ليسوا من اهل الكتاب بل مشركون يعبدون الكواكب ولا يحل اكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وان اظهروا الايمان بالنبيين فهو من جنس ايمان الفلاسفة بالنبيين والفلاسفة الصابئون من هؤلاء واما قبول الجزية منهم فهو على خلاف المشهور فمن قبلها من غير اهل الكتاب كما يقبل من المجوس قبلها من هؤلاء وهذا مذهب مالك وابي حنيفة واحمد في احدى الروايتين ومن لم يقبلها الا من اهل الكتاب لم يقبلها من هؤلاء كما اذا لم يدخلوا في دين اهل الكتاب كما هو قول الشافعي واحمد في الرواية الاخرى عنه وكان ابو سعيد الاصطخري افتى بأن لا تقبل منهم الجزية ونازعه في ذلك جماعة من الفقهاء كون ايمان الفلاسفة كايمان المنافقين وهذا كما ان كثيرا من الفلاسفة وغيرهم من الزنادقة يدخلون في دين المسلمين واليهود والنصارى من الشرائع الظاهرة وان لم يكونوا في الباطن مقرين بحقيقة ما جاءت به الانبياء كالمنافقين في المسلمين يجري عليهم احكام الاسلام في الظاهر وهم في الاخرة في الدرك الاسفل من النار فان قيل هؤلاء الفلاسفة يؤمنون بالله واليوم الاخر فانهم يقرون بواجب الوجود وبمعاد الارواح قيل النصارى خير منهم ومن اسلافهم وهم مع هذا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق فلا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يعملون صالحا فكيف هؤلاء قال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يد ينون دين الحق من الذين اوتوا الكتب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون التوبة مع ان النصارى يقرون بمعاد الابدان لكن لما انكروا ما اخبر به الرسول من الاكل والشرب ونحو ذلك صاروا ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر وهؤلاء الفلاسفة لا يقرون بمعاد الابدان ولهم في معاد النفوس ثلاثة اقوال والثلاثة تذكر عن الفارابي نفسه انه كان يقول تارة هذا وتارة هذا وتارة هذا منهم من يقر بمعاد الانفس مطلقا ومنهم من يقول انما تعاد النفوس العالمة دون الجاهلة فان العالمة تبقى بالعلم فان النفس تبقى ببقاء معلومها والجاهلة التي ليس لها معلوم باق تفسد وهذا قول طائفة من اعيانهم ولهم فيه مصنفات ومنهم من ينكر معاد الانفس كما ينكر معاد الابدان وهو قول طوائف منهم وكثير منهم يقول بالتناسخ اليوم الآخر كما هو مذكور في القران وليس شيء من ذلك ايمانا باليوم الاخر فان اليوم الاخر هو الذي ذكره الله في قوله تعالى ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه (آل عمران) وقوله تعالى قل إن الأولينوالآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم الواقعة وقوله تعالى زعم الذين كفروا ان لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فامنوا بالله ورسوله والنور الذي انزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن التغابن وقوله تعالى واذا الرسل اقتت لاي يوم اجلت ليوم الفصل وما ادراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين الى قوله انطلقوا الى ما كنتم به تكذبون انطلقوا الى ظل ذي ثلث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب انها ترمي بشرر كالقصر كأنه جملت صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعنكم والاولين فان كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين المرسلت وقوله تعالى ان في ذلك لاية لمن خاف عذاب الاخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره الا لاجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس الا باذنه فمنهم شقي وسعيد هود وقوله ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم او وزنوهم يخسرون الا يظن اولئك انهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العلمين المطففين وفي الصحيح عن النبي ﷺ - انه قال يوم يقوم الناس لرب العالمين يقوم احدهم في العرق الى انصاف اذنيه وقوله القارعة ما القارعة ومآ ادراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش القارعة وقوله فاذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على ارجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمنية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية الحاقة وقوله اذا متنا وكنا ترابا وعظاما انا لمبعثون او آبآؤنا الاولون قل نعم وانتم داخرون فانما هي زجرة واحدة فاذا هم ينظرون وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وازواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم وقفوهم انهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون الصافات وقوله تعالى سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره الى قوله يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسئل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه المعارج وقوله تعالى فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذين يوعودن يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم الى نصب يوفضون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون وقوله فتول عنهم يوم يدع الداع الى شيء نكر خشعا ابصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين الى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر وقوله تعالى فكيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا وقوله تعالى ان زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ولكن عذاب الله شديد ومثل هذا في القران كثير فهولاء لا يؤمنون باليوم الاخر فلم يدخلوا في من مدح من الصابئين بيان بعض ضلالات من معتقدات الفلاسفة وايضا لأنبياء واتباعهم بل وجماهير الأمم متفقون على ان الله خلق السموات والأرض فهي محدثة بعد ان لم تكن وكذلك اساطين الفلاسفة والقول بقدمها هو عن ارسطو وشيعته ومن وافقهم فكيف يجوز ان يقال إن الحكمة التي امر الله نبيه ان يدعو الخلق بها هو هذا وايضا فحكمتهم غايتها تعديل اخلاق النفس لتستعد للعلم الذي هو كمالها وهذا من اقل ما جاء به الرسل ومن توابعه والمقصود بالعبادات التي امرت بها الرسل تكميل النفس بمحبة الله تعالى وتألهه فإن النفس لها قوتان علمية وعملية وهؤلاء جعلوا كمالها في العلم فقط ثم ظنوا ذلك هو العلم بالوجود المطلق حتى يصير الانسان عالما معقولا موازيا للعالم الموجود ومنهم من يقول النفس إنما تبقى ببقاء معلومها وهم يعتقدون بقاء الأفلاك والعقول والنفوس فجعلوا كمالها في العلم بالموجودات التي اعتقدوا بقاءها ومن تقرب الى الاسلام منهم يقول بل كمالها في العلم بواجب الوجود وهذا يشبه قول الجهم بن صفوان ومن وافقه في ان الايمان مجرد العلم بالله وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع في جواب المسئلة الصفدية وغير ذلك وبينا انهم غلطوا من وجوه منها ظنهم ان كمال النفس في مجرد العلم ومنها ظنهم ان هذا الكمال يحصل بمعرفة امور كلية لا موجودات معينة ومنها ظنهم ان ما عندهم في الالهيات علم واكثر جهل ولهذا كان الغاية عندهم التشبه بالفلك ولهذا يصنف من يصنف منهم في الصلوة فليس المقصود منها عبادة الله ولا دعاؤه فانه لا يعلم الجزئيات عندهم ولا يميز بين المصلي وغير المصلي بل مقصود الصلوة هو العلم بالوجود المطلق الذي يزعمون انه كمال النفس والصلوة الظاهرة يطلب منها سياسة البدن ورياضته وانما قالوا ان يسأل القمر ويستعيذه فانه يدبر هذا العالم بواسطة العقل الفعال فهو عندهم الرب الذي يسأل ويستعاذ به ومنه فاضت العلوم على الانبياء وغيرهم وربما قالوا المقصود بالصلوة تذكر الشرع الذي شرعه الشارع ليحفظ به القانون الذي شرعه لهم لمصلحة الدنيا كما يذكر ذلك ابن سينا وغيره وذلك انهم لا يثبتون ان الله يسمع كلام العباد ولا يرى افعالهم ولا يجيب دعاءهم بل الدعاء عندهم هو تصرف النفس في هيولي العالم فيحصل لها بما تهتم به من تجردها عن البدن نوع تجريد حتى تتصرف في هيولي العالم واما الرب تعالى فليس هو عندهم لا بكل شيء عليم ولا على كل شيء قدير ولا يعلم لا السر ولا النجوى ولا غير ذلك من احوال العباد ولا له ملئكة كثير ينزلون ويصعدون اليه عندهم ولا يصعد اليه لا الكلم الطيب ولا العمل الصالح وغاية الانفس عندهم ان تكون متصلة بالعقل الفعال الذي هو ربها عندهم لا تصعد الى الله واذا قالوا سعادة النفس ان تشهد الله وتراه فحقيقة ذلك عندهم هو العلم بما تصورته من الوجود المطلق او من وجود واجب الوجود وصاحب الكتب المضنون بها على غير اهلها اذا تكلم في رؤية الحق ورؤية وجهه في كتابه الاحياء او غيره قال هذا يعود مراده وهو معرفة النفس الناطقة بربها هذه هي الرؤية عندهم كما قد بين ذلك في غير موضع لان الاصول التي اعتقدوها من اقوال النفاة المعلطلة الجأتهم الى هذه العقائد الفاسدة كما قد بسط في موضعه فكيف تكون الحكمة العلمية التي امر الله بها ورسوله موافقة لحكمة هؤلاء ضلالهم في نفي علم الله وغيره من الصفات ورده ونحن قد بسطنا الكلام على فساد قولهم في العلم وغيره من الصفات وبينا اصولهم التي اوجبت ان قالوا مثل هذه الاقوال التي هي من اعظم الفرية على الله، وبينا فسادها ولهذا لما تفطن ابو البركات لفساد قول ارسطو افرد مقالة في العلم وتكلم على بعض ما قاله في المعتبر وانتصف منه بعض الانتصاف مع ان الامر اعظم مما ذكره ابو البركات واعظم عمدهم في نفيه انه يستلزم التكثر والتغير فالتكثر يريدون به اثبات الصفات ثم ابن سينا وغيره اثبتوا علمه بنفسه وبلوازم نفسه معينا كالافلاك كليا كغيرها فيلزمهم ما فروا منه من تعدد الصفات وهم يقولون انه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة وربما قالوا مبتهج وهي معان متعددة ثم يكابرون فيقولون العلم هو الحب وهو القدرة وهو اللذة فيجعلون كل صفة هي الصفة الاخرى ويزيدون مكابرة اخرى فيقولون العلم هو العالم والحب هو المحب والذة هو الملتذ فيجعلون الصفات عين الموصوف ولما راى الطوسي شارح الاشارات ما لزم صاحبها سلك طريقة اخرى جعل فيها العلم بالمعقولات هو نفس المعقولات مع انهم ليس لهم قط حجة على نفي الصفات الا ما تخيلوه من ان هذا تركيب وقد بينا فساده من وجوه كثيرة اما التغير فقالوا العلم بالمتغيرات يستلزم ان يكون علمه بأن الشيء سيكون غير علمه بأن قد كان فيلزم ان يكون محلا للحوادث وهم ليس عندهم على نفي هذه اللوازم حجة اصلا لا بينة ولا شبهة وانما نفوه لنفيهم الصفات لا لامر يختص بذلك بخلاف من نفي ذلك من الكلابية ونحوهم فانهم لما اعتقدوا ان القديم لا تقوم به الحوادث قالوا لانها لو قامت به لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وقد بين اتباعهم كالرازي والامدي وغيرهم فساد المقدمة الاولى التي يخالفهم فيها جمهور العقلاء ويقولون بل القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده اما المقدمة الثانية فهي حجة المتكلمين الجهمية والقدرية ومن وافقهم من اهل الكلام على اثبات حدوث الاجسام باستلزامها للحوادث وقالوا ما لا يخلو عن الحوادث او ما لا يسبقها فهو حادث لبطلان حوادث لا اول لها وهو التسلسل في الاثار والفلاسفة لا يقولون بشيء من ذلك بل عندهم القديم تحله الحوادث ويجوزون الحوادث لا اول لها ولهذا كان كثير من اساطينهم ومتأخريهم كأبي البركات يخالفونهم في اثبات الصفات وقيام الحوادث بالواجب وقالوا لا خوانهم الفلاسفة ليس معكم حجة على نفي ذلك بل هذه الحجة اثبتموها من جهة التنزيه والتعظيم بلا حجة والرب لا يكون مدبرا للعالم الا بهذه القضية فكان من تنزيه الرب واجلاله تنزيهه عن هذا التنزيه واجلاله عن هذا الاجلال وللنظار في جوابهم عن هذا طريقان منهم من يمنع المقدمة الاولى ومنهم من يمنع الثانية فالاول جواب كثير من المعتزلة والاشعري واصحابه وغيرهم ممن ينفي حلول الحوادث فادعى هؤلاء ان العلم بأن الشيء سيكون هو عين العلم بأنه قد كان وان المتجدد انما هو نسبته بين المعلوم والعلم لا امر ثبوتي والثاني جواب هشام وابن كرام وابي الحسين البصري وابي عبد الله بن الخطيب وطوائف غير هؤلاء قالوا لا محذور في هذا وانما المحذور في ان لا يعلم الشيء حتى يكون فان هذا يستلزم انه لم يكن عالما وانه احدث بلا علم وهذا قول باطل ادلة القران والحديث على اثبات العلم لله تعالى وعامة من يستشكل الايات الواردة في هذا المعنى كقوله الا لنعلم حتى نعلم يتوهم ان هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون وهذا جهل فان القران قد اخبر بأنه يعلم ما سيكون في غير موضع بل ابلغ من ذلك انه قدر مقادير الخلائق كلها وكتب ذلك قبل ان يخلقها فقد علم ما سيخلقه علما مفصلا وكتب ذلك واخبر بما اخبر به من ذلك قبل ان يكون وقد اخبر بعلمه المتقدم على وجوده ثم لما خلقه علمه كائنا مع علمه الذي تقدم انه سيكون فهذا هو الكمال وبذلك جاء القران في غير موضع بل وباثبات رؤية الرب له بعد وجوده كما قال تعالى وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون التوبة فأخبر انه سيرى اعمالهم وقد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الامة ودلائل العقل على انه سميع بصير والسمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم فاذا خلق الاشياء راها سبحانه واذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم كما قال تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاور كما المجادلة أي تشتكي اليه وهو يسمع التحاور والتحاور تراجع الكلام بينها وبين الرسول قالت عائشة سبحان الذي وسع سمعه الاصوات لقد كانت المجادلة تشتكي الى النبي ﷺ - في جانب البيت وانه ليخفي على بعض كلامها فأنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما وكما قال تعالى لموسى وهارون لا تخافا انني معكما اسمع وارى طه وقال ام يحسبون انا لا نسمع سرهم ونجويهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون الزخرف وقد ذكر الله علمه بما سيكون بعد ان يكون في بضعة عشر موضعا في القران مع اخباره في مواضع اكثر من ذلك انه يعلم ما يكون قبل ان يكون وقد اخبر في القران من المستقبلات التي لم تكن بعد بما شاء الله بل اخبر بذلك نبيه وغير نبيه ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء بل هو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لو كان كيف كان يكون كقوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه (الأنعام) بل وقد يعلم بعض عباده بما شاء ان يعلمه من هذا وهذا وهذا ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء قال تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه (البقرة) وقال ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ويعلم الصبرين (آل عمران) وقوله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين امنوا ويتخذ منكم شهداء (آل عمران) وقوله ومآ اصابكم يوم التقي الجمعن فباذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا (آل عمران) وقوله ام حسبتم ان تتركوا ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة التوبة وقوله ثم بعثنهم لنعلم أي الحز بين احصى لما لبثوا امدا الكهف وقوله ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكذبين الى قوله وليعلمن الله الذين امنوا وليعلمن المنفقين العنكبوت وقوله ولنبلونكم حتى نعلم المجهدين منكم والصبرين ونبلو اخباركم محمد وغير ذلك من المواضع روى عن ابن عباس في قوله الا لنعلم أي لنرى وروي لنميز وهكذا قال عامة المفسرين الا لنرى ونميز وكذلك قال جماعة من اهل العلم قالوا لنعلمه موجودا واقعا بعد ان كان قد علم انه سيكون ولفظ بعضهم قال العلم على منزلتين علم بالشيء قبل وجوده وعلم به بعد وجوده والحكم للعلم به بعد وجوده لانه يوجب الثواب والعقاب قال فمعنى قوله لنعلم أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب ولا ريب انه كان عالما سبحانه بأنه سيكون لكن لم يكن المعلوم قد وجد وهذا كقوله قل اتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض يونس أي بما لم يوجد فانه لو وجد لعلمه فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازمان يلزم من ثبوت احدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاوه والكلام على هذا مبسوط في موضع اخر والمقصود ان يعرف الانسان انهم يقولون من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال فرارا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه ولو قدر شبهة تعارض ثبوت العلم فأين هذا من هذا واين الادلة الدالة على ثبوت علمه والمحذور في نفي علمه مما يظن انه يدل على نفي الصفات او نفي بعضها دليلا ومحذورا بطلان قولهم الثلاثة المذكورة في (النحل) هي البرهان والخطابة والجدل والمقصود هنا ان ما يجعلونه من القران مطابقا لاصولهم ليس كما يقولون فان قيل لا ريب ان ما جاء به الرسول من الحكمة والموعظة الحسنة والجدل يخالف اقوال هؤلاء الفلاسفة اعظم من مخالفته لاقوال اليهود والنصارى لكن المقصود ان الثلاثة المذكورة في القران هي البرهان الصحيح والخطابة الصحيحة والجدل الصحيح وان لم تكن هي عين ما ذكره اليونان اذ المنطق لا يتعرض لشيء من المواد وانما الغرض ان هذه الثلاثة هي جنس هذه الثلاثة قيل وهذا ايضا باطل فان الخطابة عندهم ما كان مقدماته مشهورة سواء كانت علما مجردا او علما يقينيا والوعظ في القران هو الامر والنهي والترغيب والترهيب كقوله تعالى ولو انهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم واشد تثبيتا واذا لآتينهم من لدنا اجرا عظيما ولهدينهم صراطا مستقيما النساء فقوله ما يوعظون به أي ما يؤمرون به وقال يعظكم الله ان تعودوا لمثله ابدا ان كنتم مؤمنين النور أي ينهاكم عن ذلك وايضا فالقرآن ليس فيه انه قال ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بل قال ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم وذلك لان الانسان له ثلاثة احوال اما ان يعرف الحق ويعمل به واما ان يعرفه ولا يعمل به واما ان يجحده فأفضلها ان يعرف الحق ويعمل به والثاني أن يعرفه لكن نفسه تخافه فلا توافقه على العمل به والثالث من لا يعرفه بل يعارضه فصاحب الحال الاول هو الذي يدعى بالحكمة فأن الحكمة هي اللم بالحق والعمل به فالنوع الاكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيدعون بالحكمة والثاني من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعضة الحسنة فهاتان هما الطريقان الحكمة والموعظة وعامة الناس يحتاجون الى هذا وهذا فأن النفس لها اهواء تدعوها الى خلاف الحق وان عرفته فالناس يحتاجون الى الموعظة الحسنة والى الحكمة فلا بد من الدعوة بهذا وهذا واما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل فاذا عارض الحق معارض جودل بالتي هى أحسن ولهذا قال وجادلهم فجعله فعلا مأمورا به مع قوله ادعهم فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره ان يجادل بالتي هى أحسن وقال في الجدال بالتي هى أحسن ولم يقل بالحسنة كما قال في الموعظة لان الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي احسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعا لم يحتج الى مجادلة فاذا مانع جودل بالتي هى أحسن والمجادلة يعلم كما أن الحكمة بعلم وقد ذم الله من يجادل بغير علم فقال تعالى هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم (آل عمران) والله لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إن لم تكن علما فلو قدر انه قال باطلا لم يأمر الله ان يحتج عليهم بالباطل لكن هذا قدر يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه لا لبيان الدعوة الى القول الحق والقرآن مقصوده بيان الحق ودعوة العباد إليه وليس المقصود ذكر ما تناقضوا فيه من أقوالهم ليبين خطأ احدهما لا بعينه فالمقدمات الجدلية التي ليست علما هذا فائدتها وهذا يصلح لبيان خطأ الناس مجملا ثم إنهم تارة يجعلون النبوة إنما هى من باب الخطابة وتارة يجعلون الخطابة احد انواع كلامها فيتناقضون وسبب ذلك أن القرآن أمر عظيم باهر لم يعرفوا قدره ولا دروا ما فيه من العلم والحكمة وأرادوا أن يشبهوا به كلام قوم كفار اليهود والنصارى أقل ضلالا منهم في معرفة الله ومعرفة أنبيائه وكتبه وامره ونهيه ووعده ووعيده ولو شبه مشبه القرآن بالتوارة والانجيل لظهر خطأه غاية الظهور والجميع كلام الله تعالى فكيف بكلام هؤلاء الملاحدة الوجه الثاني عشر: كون نفيهم وجود الجن والمئلكة والوحي قولا بلا علم الوجه الثاني عشر أن يقال هم معترفون بالحسيات الظاهرة وبالحسيات الباطنة التي يحس بها الانسان ما في نفسه كاحساسه بجوعه وعطشه ولذته وألمه وشهوته وغضبه وفرحه وغمه وكذلك ما يتخيله في نفسه من أمثلة الحسيات التي أحسها فانه يتخيل ذلك من نفسه وقد فرقوا بين قوة التخيل والوهم فالتخيل ان يتخيل الحسيات والوهم أن يتصور في الحسيات معنى غير محسوس كما يتصور الصداقة والعداوة فان الشاة تتصور في الذئب معنى هو العداوة وهو غير محسوس ولا تتخيل وتتصور في التيس معنى الصداقة فالموالات والمعادات يسمون الشعور بها توهما وهم لم يتكلموا في ذلك بلغة العرب فان الوهم في لغة العرب معنى آخر كما قد بين في موضعه وليس معهم ما ينفى وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس بالباطن كالملائكة والجن بل ولا معهم ما ينفى تمثل هذه الارواح أجساما حتى ترى بالحس الظاهر ولا معهم ان النفس قد ترى غيرهما ما هو من أحوالها مثل ان ترى عند الموت امورا موجودة لم تكن تراها وهي متعلقة بالبدن وكذلك النائم وإن كان قد يتخيل فليس معهم علم بأن كل ما يراه يكون تخيلا مع إمكان أن يرى في منامه من جنس ما يراه الميت عند مفارقة روحه بدنه فان النفس الناطقة هى الرائية وإنما يمنعها من ذلك تعلقها بالبدن فاذا تم تجردها بالموت رأت ما لم تكن تراه كما قال تعالى فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ق وقال تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون الواقعة قال المفسرون يعنى الملائكة وكذلك بالنوم قد يحصل لها نوع تجريد ولهذا من الناس من يرى في منامه شيئا فيأتى كما يراه من غير تغيير أصلا بل يكون المرئى في المنام هو الموجود في اليقظة وأما رؤية كثير من الناس للجن حال الصرع وغير الصرع فهذا أكثر وأشهر من أن يذكر وما يدعيه الاطباء من أن الصرع كله من الاخلاط فغلطه ظاهر فان دخول الجنى بدن الانسى وتكلمه على لسانه بأنواع من الكلام وغير ذلك أمر قد علمه كثير من الناس بالضرورة وقد اتفق عليه أئمة الاسلام كما اتفقوا على وجود الجن وقد رآهم غير واحد من الناس وخاطبوهم فهذا باب واسع فما الظن بالملائكة الكرام التي يراهم الانبياء صلوات الله عليهم يرونهم بباطنهم وظاهرهم وايضا فقد تواتر في الكتب الالهية والاحاديث النبوية ان الملائكة تتصور بصورة البشر وكذلك الجن ويرون في تلك الصورة كما أخبر الله عن ضيف إبراهيم في غير موضع من كتابه وكما اخبر عن مريم انه ارسل اليها الروح وهو جبريل فتمثل لها بشرا سويا قالت إنى اعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلما زكيا (مريم) وجميع هذه الامور ليس معهم على نفيها إلا ما هو من أضعف الشبه فنفيهم مثل هذه الحسيات الباطنة والظاهرة قول بلا علم ولهذا صاروا يحملون ما جاءت به الانبياء على أنه من باب التخيل في النفس ويجعلون الملئكة وكلام الله الذي بلغوه هو ما يتخيل في نفس النبي من الصور والاصوات كما يتخيل للنائم وذلك من أعراضه القائمة به ليس هناك عندهم ملك منفصل ولا كلام نزل به الملك من الله عندهم وكل ما ينفونه من هذا ليس معهم فيه إلا الجهل المحض فهم يكذبون بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله مع ان عامه أساطين الفلاسفة كانوا يقرون بهذه الاشياء وكذلك ائمة الاطباء كأبقراط وغيره يقر بالجن ويجعل الصرع نوعين صرعا من الخلط وصرعا من الجن ويقول في بعض الادوية هذا ينفع من الصرع الذي يعالجه الاطباء لا الصرع الذي يعالجه أرباب الهياكل ونقل عنه أنه قال طبنا بالنسبة الى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة الى طبنا وهذه الامور لبسطها موضع آخر وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفى ما لم يعلم نفيه اوجب لهم من الجهل والكفر ما صاروا به اسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى وادعى ابن سينا وموافقوه ان اسباب العجائب في العالم إما قوة فلكية وإما قوة نفسانية وإما قوة طبيعية وأهل السحر منهم والطلسمات يعلمون من وجود الجن ومعاونتهم لهم على الامور العجيبة ما هو متواتر مشهور عندهم فضلا عما يعلمه المسلمون وسائر أهل الملل من ذلك فضلا عن العلم بالملئكة وما وكلهم الله من الامور التي يدبرونها كما قال فيهم المدبرات امرا النازعات وقال ف المقسمات امرا الذاريات وهم الملئكة باتفاق السلف وغيرهم من علماء المسلمين لم يقل أحد من السلف إنها الكواكب الوجه الثالث عشر: طريقهم لا يفرق بين الحق والباطل بخلاف طريقة الانبياء الوجه الثالث عشر ان يقال كون القضية برهانية معناه عندهم انها معلومة للمستدل بها وكونها جدلية معناه كونها مسلمة وكونها خطابية معناه كونها مشهورة او مقبولة او مظنونة وجميع هذه الفروق هى نسب وإضافات عارضة للقضية ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها فضلا عن ان تكون ذاتية لها على أصلهم بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها ومعلوم أن القضية قد تكون حقا والانسان لا يشعر بها فضلا عن أن يظنها او يعلمها وكذلك قد تكون خطابية او جدلية وهى حق في نفسها بل قد تكون برهانية ايضا كما قد سلموا ذلك وإذا كان كذلك فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هى حق في نفسها لا تكون كذبا باطلا قط وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق تلك القضايا ما هو مشترك ينتفع به جنس بني آدم وهذا هو العلم النافع للناس وأما هؤلاء المتفلسفة فلم يسلكوا هذا المسلك بل سلكوا في القضايا الامر النسبى فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل وغير ذلك لم يجعلوه برهانيات وإن علمه مستدل آخر والجدليات ما سلمه المنازع وإن لم يسلمه غيره وعلى هذا فتكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة ما ليس من البرهانيات عند إنسان وطائفة أخرى فلا يمكن ان تحد القضايا العلمية بحد جامع مانع بل تختلف باختلاف احوال من علمها ومن لم يعلمها حتى إن اهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الامر عليه في نفسه ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الادميين بخلاف طريقة الانبياء فانهم اخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب فكل ما ناقض الصدق فهو كذب وكل ما ناقض الحق فهو باطل فلهذا جعل الله ما انزله من الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه وانزل ايضا الميزان وهو ما يوزن به ويعرف به الحق من الباطل ولكل حق ميزان يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون فانه لا يمكن ان يكون هاديا للحق ولا مفرقا بين الحق والباطل ولا هو ميزان يعرف بها الحق من الباطل واما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقا لما جاءت به الانبياء فهو منه وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعا وعقلا فان قيل نحن نجعل البرهانيات اضافية فكل ما علمه الانسان بمقدماته فهو برهاني عنده وان لم يكن برهانيا عند غيره قيل لم يفعلوا ذلك فان من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في اشياء معينة مع امكان علم كثير من الناس لامور اخر بغيرتلك المواد المعينة التي عينوها واذا قالوا نحن لا نعين المواد فقد بطل احد اجزاء المنطق وهو المطلوب الوجه الرابع عشر: فساد جعلهم علوم الانبياء تحصل بواسطة القياس المنطقي الوجه الرابع عشر إنهم لما ظنوا ان طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع ان الامر ليس كذلك وقد علم الناس إما بالحس وإما بالعقل وإما بالاخبار الصادقة علوما كثيرة لا تعلم بطرقهم التي ذكروها ومن ذلك ما علمته الانبياء صلوات الله عليهم من المعلوم فأرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد فقالوا النبي له قوة أقوى من قوة غيره في العلم والعمل وربما سموها قوة قدسية وهو أن يكون بحيث ينال الحد الاوسط من غير تعليم معلم له فاذا تصور طرفي القضية أدراك بتلك القوة القدسية الحد الاوسط الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم لان قوى الانفس في الادراك غير محدودة فجعلوا ما تخبر به الانبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي وهذا في غاية الفساد فان القياس المنطقي إنما يعرف به أمور كلية كما تقدم وهم يسلمون ذلك والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة كما في القرآن من قصة نوح والخطاب والاحوال التي جرت بينه وبين قومه وكذلك هود وصالح وشعيب وسائر الرسل وكذلك ما أخبر به النبي ﷺ - من المستقبلات فعلم بذلك أن ما علمه الرسول لم يكن بواسطة القياس المنطقي بل قد جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته من هذا الباب فانه يعلم نفسه والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فجعل علمه يحصل بهذه الواسطة وهذا يصلح ان يكون دليلا على علمه بمخلوقاته لا ان يكون علمه بمخلوقاته يفتقر الى حد اوسط مع انه لم يعط هذا البرهان موجبه بل انكر علمه بالجزئيات التي في الموجودات الاخرى فان لم يعلم الجزئيات لم يعلم شيئا من المخلوقات مع ان العقول والنفوس والافلاك كلها جزئية ونفسه أيضا معينة ولهذا أراد بعضهم جبر هذا التناقض فقال إنما نفى علمه بالجزئيات في الامور الممتغيرة فيقال التغير من لوازم الفلك فلا يكون الفلك إلا متغيرا وصدور المعلول المتغير عن علة غير متغيرة ممتنع بالضرورة كما قد بسط في موضعه جعلهم معرفة النبي بالغيب مستفادة من النفس الفلكية وبيان فساده من عشرة وجوه فان قيل هم يذكرون لمعرفة النبي بالغيب سببا آخر وهو انهم يقولون إن الحوادث التي في الارض تعلمها النفس الفلكية ويسميها من أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة باللوح المحفوظ كما يوجد في كلام أبى حامد ونحوه وهذا فاسد فان اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعة كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين الف سنة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ﷺ - واللوح المحفوظ لا يطلع عليه غير الله والنفس الفكلية تحت العقول ونفوس البشر عندهم تتصل بها وتنقش في نفوس البشر ما فيها ولهذا يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء إما عن معرفة بأن هذا قولهم وإما عن متابعة منهم لمن قال ذلك من شيوخهم الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة كما يوجد في كلام أبن عربي وابن سبعين والشاذلى وغيرهم يقولون إن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ وأنه يعلم أسماء مريديه من اللوح المحفوظ أو انه يعلم كل ولى كان ويكون من اللوح المحفوظ ونحو هذه الدعاوى التي مضمونها انهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرهم من أتباع الرسل والمقصود هنا أنهم يقولون إن النفس إذا حصل لها تجرد عن البدن إما بالنوم وإما بالرياضة وإما بقوتها في نفسها اتصلت بالنفس الفلكية وانتقش فيها ما في النفس الفلكية من العلم بالحوادث الارضية ثم ذلك العلم العقلى قد تخبر به النفس مجردا وقد تصوره القوة المخيلة في صور مناسبة له ثم تلك الصور تنتقش في الحس المشترك كما أنه إذا احس اشياء بالظاهر ثم تخيلها فانها تنتقش في الحس المشترك فالحس المشترك يرتسم فيه ما يوجد من الحواس الظاهرة وينتقش فيه ما تصوره القوة المتخيلة في الباطن وما يراه الانسان في منامه والمحرور في حال مرضه من الصور الباطنة هو من هذا لكن نفس النبي عليه السلام لها قوة كاملة فيحصل لها تجرد في اليقظة فتعلم وتتخيل وترى ما يحصل لغيرها في النوم قيل هذا الكلام أولا ليس من كلام قدماء الفلاسفة كارسطو واصحابه ولا جمهورهم إنما هو معروف عن ابن سينا وأمثاله وقد انكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموه أن هذا كلام باطل لم يتبع فيه سلفه وثانيا إنه مبنى على أصول فاسدة كثيرة الاول إنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من ابطل الاصول الثاني إثبات العقول والنفوس التي يثبتونها وهو باطل هل منبع الفيض هو النفس الفلكية أو العقل الفعال الثالث إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية فانهم لو سلم لهم ما يذكرونه من أصولهم فعندهم ما يفيض على النفوس إنما هو من العقل الفعال المدبر لكل ما تحت فلك القمر ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الانبياء وغيرهم والعقل الفعال لا يتمثل فيه شئ من الجزئيات المتغيرة بل إنما فيه امر كلى لكنه بزعمهم دائم الفيض فاذا استعدت النفس لان يفيض عليها منه شئ فاض وذلك الفيض لا يكون بجزئي فانه لا جزئى فيه فكيف يقولون هنا إن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية فان قيل هم يقولون إن الجزئيات معلومة للعقول على وجه كلى وللنفوس الفلكية على وجه جزئي قيل العلم بالكلى وهو القدر المشترك بين الجزئيات لا يفيد العلم بشئ من الجزئيات البتة فان علم الانسان بمسمى الوجود أو بمسمى الجسم او بمسمى الحيوان أو الانسان او البياض او السواد لا يفيده العلم قط بموجود معين ولا بجسم معين ولا حيوان معين ولا إنسان معين ولا بياض معين ولا سواد معين ولو كانت الجزئيات تعلم من الكليات لكان من علم مسمى شئ قد علم كل شئ فانها كلها جزئيات هذا المسمى وهذا أيضا مما يدل على فساد قول ابن سينا ومن وافقه على ان الباري يعلم الجزئيات على وجه كلى بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذره في السموات ولا في الارض فان هذا تناقض بين لمن تصور حقيقة الأمر فان من لم يتصور إلا كليا ويمتنع عنده ان يتصور جزئيا معينا إما مطلقا وإما إذا كان متغيرا كان قد عزب عن علمه كل شئ في الوجود إما مطلقا واما إذا كان متغيرا وعلمه الكلى لا يفيده شيئا من معرفة المعينات وهم دائما ما يشبعون انفسهم بالمحال بمثل هذه الكليات ولهذا كان موضوع الفلسفة الاولى والحكمة العليا هو الوجود الكلى المشترك بين الموجودات المنقسم الى جوهر وعرض وعلة ومعلول وهذا الموضوع ليس له وجود في الخارج ولا يعلم بمعرفة الوجود المطلق شئ من الموجودات الثابته في نفس الامر اصلا فان كل موجود فانه موجود خاص متميز عما سواه وصفاته القائمة به إن كانت جوهرا فهى مختصة به وإن كان عرضا فهو عرض معين في محل معين فمن لم يعرف إلا الكلى المشترك لم يعرف شيئا من الموجودات التي هى في نفسها موجودات وانما علم امرا كليا لا يكون كليا إلا في الاذهان لا في الاعيان إن نفس فلك القمر لا تعلم إلا جزءا من الحوادث الرابع إن النفوس عندهم تسعة بعدد الافلاك وحركات الافلاك عندهم هى تسبب الحوادث ومعلوم ان كل نفس تعلم حركة فلكها فنفس فلك القمر لا تعلم ما في نفس الفلك الاطلس وفلك الثوابت وغيره والنفوس البشرية إنما تتصل إن اتصلت بنفس فلك القمر كما أنه إنما يفيض عليها ما يفيض من العقل الفعال وحينئذ فلا تعلم إلا جزءا يسيرا من أسباب الحوادث فمن اين تعلم الحوادث المنفصلة ليست حركة الافلاك علة تامة للحوادث الخامس إنه لو قدر انها تعلم حركات الافلاك كلها وانه لا سبب للحوادث إلا حركة الافلاك فحركة الافلاك ليست علة تامة للحوادث بل تختلف افعالها باختلاف القوابل فتؤثر في كل شئ بحسبه فمن لم يعلم احوال القوابل مع الفواعل لم يعلم الحوادث فلا يكون عالما بها والنفوس الفلكية غايتها ان تعلم حركات أفلاكها لا تعلم ما ليس داخلا فيها وإذا قيل إن حركات العناصر والمتولدات إنما تختلف لاختلاف حركة الافلاك فالعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول قيل تختلف باختلاف القوابل كما تختلف باختلاف الفواعل والعناصر موجودة قبل حركات الافلاك فلا يلزم من العلم بها العلم بنفس العناصر ومقاديرها ليعلم بحركات الافلاك العلم بالحوادث الارضية وقول القائل العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول إنما يستقيم في العلة التامة المستلزمة للمعلول وحركات الافلاك غايتها أن تكون جزءا صغيرا من أسباب الحوادث لا يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الامور السادس إنه بتقدير ان تكون للفلك نفس فلكية متحركة كما تحرك نفس الانسان لبدنه فانها تتصور ما تريد فعله كما يتصور الانسان ما يريد فعله وأما الامور المتولدة الحاصلة بأسباب منفصلة مع فعله فلا يجب أن يكون شاعرا بها فمن أين يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الامور الحاصلة لحركاتها وبأمور اخر فانهم يقولون الفلك إذا تحرك حرك العناصر فامتزجت نوعا من الامتزاج وتحرك العناصر وامتزاجها ليس هو نفس حركة الفلك ولا حركة الفلك تامة له ثم إذا امتزجت فاض عليها من العقل الفعال ما يفيض فبتقدير أن تستعد نفس الانسان لان يفيض عليها من العقل الفعال ما يفيض لا يجب ان تعلم النفس الفلكية ذلك مع ان كلامهم في هذا الموضع قد عرف تناقضه وفساده فان العقل إن كان يفيض عنه ما ليس هو فيه كان في المعلول ما ليس في العلة وإن كان لا يفيض إلا ما فيه فليس فيه إلا الكليات ليس فيه صور جسمانية ولا علم بجزئيات ولا مزاج ولا غير ذلك مما يدعون فيضه عن العقل بيان أن الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية السابع إن النفس الفلكية تحرك الفلك دائما فيلزم أن تعلم كل وقت الحركة التي تريدها وإذا سلم له انها تعلم ما تولد عنها وعن غيرها قيل لهم لا ريب أن ما مضى قبل تلك الحركة المعينة من الجزئيات لا يكون معلوما للنفس على سبيل التفصيل فانه لو كان معلوما للنفس على سبيل التفصيل للزم وجود ما لا نهاية له في آن واحد فان الحوادث الماضية لا نهاية لها فلو كان العلم بكل منها موجودا على سبيل التفصيل في النفس الفلكية للزم وجود أمور لا نهاية لها في آن واحد وهذا ممتنع فان قيل هم يجوزون هذا كما يجوزون وجود نفوس لا نهاية لها في آن واحد فان قاعدتهم في هذا ان ما هو مجتمع وله ترتيب طبيعي كالفلك أو وضعي كالاجسام يمتنع وجود ما لا نهاية فيه فاذا انتفى احد القيدين جوزوا وجود ما لا نهاية له إما بأن لا يكون مجتمعا كالحوادث المتعاقبة وإما ان يكون مجتمعا غير مترتب كالنفوس الفلكية قيل الجواب من وجوه أحدها إن هذا قول طائفة منهم كابن سينا وغيره وقد انكر عليه ذلك إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموا أن هذا ليس هو قول أئمتهم الفلاسفة وبينهم في ذلك مشاجرات ليس هذا موضعها الثاني إن الحركات الفلكية مترتبة كل واحد على ما قبلها فاذا قدر اجتماع العلم المفصل بها كان قد اجتمع حوادث مترتبة والعلوم ايضا مجتمعة في النفس الفلكية والجزئيات عندهم لا تنطبع عندهم إلا في قوى جسمانية فيلزم وجود ما لا يتناهى من الاعراض في صورة جسمانية وهذا هو أعظم ما ينكرونه فان القوة الجسمانية عندهم لا تقوى على أفعال لا تتناهى فضلا عن ان تقوى عى أعراض لا نهاية لها الثالث أن يقال إن قالوا إن جميع ما يحدث لم تزل نفس الفلك عالمة به على التفصيل كان علمها قديما أزليا والحركات حادثة شيئا بعد شئ والحوادث الجزئية لا بد لها من تصورات جزئية حادثة معها وهم يسلمون ذلك وإن قالوا إنها لم تعلمها مفصلة إلا شيئا بعد شئ حصل المقصود ايضا وعلى التقديرين لا بد عندهم للنفس الفلكية من علوم متعاقبه كما يحصل لنفس الانسان وحينئذ فان كانت علومها باقية لم تزل الامور المرتبة تحدث شيئا بعد شئ وهى مجتمعه في محل واحد بل في قوة جسمانية فيلزم وجود أعراض مجتمعة لا نهاية لها في محل واحد بل في قوة جسمانية وهذا من أعظم الامور إحالة عندهم في نفس الامر وإذا كان كذلك تبين ان الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية والانبياء بل وغير الانبياء يخبرون بالحوادث المتقدمة كالاخبار بما جرى في زمن نوح وقبل نوح وبعد نوح فيمتنع ان يكون الخبر بذلك استفادة من النفس الفلكية التي يسميها الملاحدة الذين ينزلون الكتاب والسنة على أصول هؤلاء المشركين المعطلين يسمونها اللوح المحفوظ وهكذا العلم بالحوادث المستقبلة قبل أن تكون بمئين من السنين او بألوف من السنين فان تلك لم تنتقش بعد عندهم في النفس الفلكية وقد يخبر بها الانبياء كما بشر متقدموهم بممحد وكما أخبر محمد بما سيأتي بل ويعلم ايضا بالرؤيا وغير ذلك 18. لا سبيل لنفى كون الارواح تلقى الاخبار في نفوس البشر الوجه الثامن إنه لو قدر ان النفوس الفلكية تعلم الجزئيات فالجزم بكون ما يحدث في نفوس البشر من العلم بالجزئيات هو منها او من العقل الفعال لو قدر وجوده إنما يجوز إذا علم انتفاء سبب آخر وهذا لا سبيل لهم الى العلم بنفيه فلم لا يجوز ان يكون ذلك مما يلقيه الملائكة بل ومما يلقيه الجن أيضا كما تواترت الاخبار عن الانبياء صلوات الله عليهم بأنهم يذكرون أن الملائكة تخبرهم بما تخبرهم به وكما تواتر إخبار الجن لبنى آدم تارة بما يسترقونه من خبر السماء وتارة بغير ذلك والعلم بالمغيبات من هذا الوجه هو مما اتفق عليه الانبياء وأتباعهم المسلمون واليهود والنصارى واتفق عليه جماهير بنى آدم من غير أهل الملل كالمشركين من العرب ومن الهند ومن الكلدانيين وغيرهم كلهم يذكرون ما تخبر به الارواح إما مطلقا وإما إن تعين وقد ذكرنا ان الصابئة نوعان حنفاء ومشركون فالحنفاء هم من المسلمين المؤمنين وأما المشركون كالصابئة الذين بعث الله اليهم الخيل عليه السلام وغيرهم فهؤلاء يقرون بهذا والصابئة الحرانيون لهم نبي على أصلهم يقال له البابا وله مصحف يذكر فيه كثيرا من الاخبار المستقبلة ويذكرون أن سيدته يعنى روحانية الزهرة أخبرته بذلك وكثير منها صحيح كإخبار بدخول المسلمين بلاد حران وغيرها وفتحهم البلاد وإهانتهم لطائفته وكان بحران بئر يقال لها بئر عزون يعظمونها تعظيما كثيرا وكان يذكر ان الارواح تجتمع اليها ويذكر أنواعا من هذه الامور في مصحف له وهو موجود قد قرأته أنا وغيرى وهذه الارواح منهم من يطلق عليها اسم الارواح والروحانيات ولا يفصل ومنهم من يسميها جميعها الملائكة ولا يفرقون بين الجن والملائكة لا سيما وطائفة من أهل الكلام وغيرهم يجعلون الجن والملائكة جنسا واحدا وإنما يفرقون بالاعمال الصالحة والفاسدة كالادميين ومن هذا تنازع العلماء في إبليس هل كان من الملائكة ام لا وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وأما من يعرف حقيقة الامر من علماء المسلمين فيعلمون ان الارواح التي تعين المشركين هى الشياطين ويفرقون بين الملائكة وبين الجن كما هو ثابت بالكتاب والسنة والاجماع بيان كون الغلط في هذه الاخبارات أكثر من الصواب التاسع إنه بتقدير أن يكون سبب الاخبارات هو اتصال النفس بالقوة النفسانية الفلكية أو هو إخبار الارواح كما تقدم فمعلوم ان الغلط في هذا أكثر من الصواب أما على اصلهم فلأن الخيال يصور للحس المشترك ما علمته النفس من الصور المناسبة والخيال يكذب اكثر مما يصدق وأما على قول المسلمين وغيرهم فلأن الجن يكذبون كثيرا في إخبارهم وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ - انه لما ذكر إخبار الكهان قال إنهم يسمعون الكلمة فيكذبون مائة كذبة وهذا امر معلوم بالتجربة والتواتر فان الذين يخبرون بما يخبرون به عن الجن يكثر الكذب في إخبارهم وأما الرؤيا فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ - انه قال الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام ورؤيا من الشيطان فقد بين الصادق المصدوق أن من الرؤيا ما هو من حديث النفس ومنها ما هو من وسوسة الشيطان وقد امرنا سبحانه أن نستعيذ من هذين الواسواسين في قوله قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الناس ولا بد من التمييز بين الصدق والكذب وليس فيما ذكروه ولا فيما يذكره غيرهم ما يميز بين هذا وهذا ولا يميز بين هذا وهذا مطلقا إلا الانبياء ولهذا أمرنا الله ان نؤمن بكل ما جاؤا به الانبياء فانهم معصومون لا يقرون على الخطأ فيما يبلغونهه عن الله باتفاق المسلمين قال تعالى قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا وما انزل الى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما اوتى موسى وعيسى وما اوتى النبيون من ربهم (البقرة) وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر والملئكة والكتب والنبيين (البقرة) ولهذا كان اهل الرياضة والزهد والعبادة من الصوفية وغيرهم يرون اشياء في الباطن يظنونها حقا ويكون باطلا ولهذا يقول من يقول من أهل العلم كأبى القاسم السهيلى وغيره نعوذ بالله من قياس فلسفى وخيال صوفى وهذا مما كان يقوله شيخه ابو بكر بن العربي وكان مع تعظيمه لشيخه ابى حامد الغزالي يقول شيخنا ابو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم اراد ان يخرج منهم فما قدر وكان يذكر عنه انه كان يقول أنا مزجى البضاعة في الحديث وهؤلاء المتفلسفة يقولون إن غاية ما عند النبي قياس من جنس القياس الفلسفي او خيال من جنس الخيال الصوفي فان ما ذكروه للنبي يتصف به آحاد الناس فان اتصال النفوس بالنفس الفلكية وانعقاد الاقيسة العقلية في النفس هو قدر مشترك بين الناس إنما هو بحسب استعداد النفوس ثم هم أعنى ابن سينا وأمثاله يقولون إن النفوس الناطقة متماثلة بحسب الحقيقة وإنما اختلفت باعتبار أبدانها فهى كماء واحد وضعته في آنية مختلفة فاختلف لاختلاف الاوعية واسباب صفات النفس عندهم إما المزاج وإما العادة وإما ما يتبع ذلك ويا ليت شعري كم مقدار ما يوجب التفاوت بين النفوس إن لم يكن التفاوت إلا بهذا السبب فيلزم من هذا ان تكون نفس اخس الناس مشاركة في الحقيقة لنفس ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وانما امتازت عنها بأمور عارضة وأن تكون نفس كثير من الناس قريبة من نفوسهم او افضل وتكون مستعدة لان يحصل لها ما حصل لنفوسهم ولهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة وصار كثير منهم يطلب ان يؤتى مثل ما اوتى رسل الله وأن يؤتى صحفا منشرة كما طلب ذلك غير واحد في زماننا وكما طلبه السهروردي المقتول وابن سبعين وغيرهما وسبب ذلك أن هذه النبوة التي أثبتوها امرها من جنس منامات الناس ولهذا كان عمدتهم في إثبات النبوة هو المنامات ولما أراد ابن سينا وأمثاله ان يقرروا ذلك قالوا التجربة والقياس مطابقان على ان للنفس الانسانية أن تنال من الغيب نيلا ما وقرروا ذلك بأن معرفة المغيبات في النوم ممكنة فوجب ان يكون ايضا في اليقظة ممكنا والمقدمة الاولى معلومة بالتجربة والتواتر وأما الثانية فهو انه لما صح ذلك في النوم لم يمكن القطع باستحالته في اليقظة بل لو قدرنا ان الناس ما جربوا وقوع ذلك في النوم لكان استبعادهم بحصول هذا حال النوم اشد من استبعادهم لحصوله حال اليقظة فانه لو قيل لواحد ان جمعا من الاذكياء مع كمال عقولهم وسلامة حواسهم وذكاء قرائحهم وقوة افكارهم وانظارهم احتالوا بكل حيلة لتحصيل معرفة بعض المغيبات فعجزوا ثم إن واحدا منهم لما صار كالميت وبطلت حركته وإدراكه عرف ذلك المغيب لقيل بأن ذلك محال ولاحتجوا عليه بأنه لما عجز عنه القوى الكامل فالضعيف الناقص أولى بالعجز عنه ولكن وقوع هذا المعنى مرارا كثيرة حال النوم مما ازال الاستبعاد والعناد فثبت ان حصول معرفة المغيبات لما كان ممكنا حال النوم فبأن يكون ممكنا حال اليقظة اولى قالوا ونحن لا نستدل بصحة إحدى الحالين على القطع بالحال الاخرى ولكن على دفع استبعاد المنكر وحصول الرأى الاخلق الاولى قلت فهذه المقدمة التي بنوا عليها معرفة الغيب للانبياء وغيرهم ومعلوم أن النائم تتجرد نفسه عن بدنه نوع تجرد فان النوم أخو الموت وقد كان النبي ﷺ - يقول إذا أوى الى فراشه اللهم أنت خلقت نفسي وانت تتوفاها لك مماتها ومحياها إن امسكتها فارحمها وإن ارسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ويقول ايضا باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك ارفعه إن امسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن ارسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين وكان إذا استيقظ يقول الحمد لله الذي احيانا بعد ما اماتنا واليه النشور وقد قال الله نعالى الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى الى اجل مسمى إن في ذلك لايت لقوم يتفكرون الزمر فأخبر سبحانه أنه يتوفى الانفس حين النوم وحين الموت وأن ما يتوفاه حين النوم منه ما يقضى عليه الموت في نومه ومنه ما يرسله وبسبب تجردها عن البدن يحصل لها من العلم ما يلقيه الله اليها إما بواسطة الملك الذي يريها ويحدثها من الرؤيا وإما بغير ذلك قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا او من ورآء حجاب او يرسل رسولا فيوحى باذنه ما يشاء إنه على حكيم الشورى قال عبادة ابن الصامت رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ - انه قال لم يبق بعدى من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له وقال الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وفي الصحيحن عن عائشة قالت أول ما بدى به رسول الله ﷺ - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد وقد قال تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته (الأنعام) فلا ريب ان ما يجعله الله في النفوس وغيرها يجعله بعد إعدادها لذلك وتسويتها لما يلقى فيها فهذا ونحوه حق يقول به السلف وجمهور المسلمين وإنما ينكر ذلك من ينكر الحكم والاسباب من اهل الكلام والنبي ﷺ - بدى اولا بالرؤيا الصادقة فانه رؤيا الانبياء وحي معصوم كما قال ابن عباس وعبيد بن عمير وغيرهما رؤيا الانبياء وحى وقرأ قول ابراهيم عليه السلام إنى أرى في المنام أنى اذبحك الصافات ثم إن النبي ﷺ - نقل من درجة الى درجة ثم بعد هذا جاءه الملك فخاطبه بالكلام فأحيانا يأتيه في الباطن فيكلمه وأحيانا يتمثل له في صورة رجل فيكلمه ثم عرج به الى ربه ليلة الاسراء فما ادعوه من أن الرؤيا قد يحصل بها معرفة المغيبات حق وهذا يحتج به على من ينكر هذا الجنس مطلقا ولكن لا تجعل النبوة كلها من هذا الجنس فمن الباطل ما ادعوه في النبوة وفي كيفيتها حيث زعموا أنه ليس هناك ملك حى يأتى بالوحى من الله ولا لله كلام يتكلم به يسمعه الملك فينزل به ولا يعرف الله جزئيات الامور حتى يكتبها عنده أو حتى يخبر بها الملك والملك يخبر بها النبي او يخبر بها النبي ابتداء وزعموا انه ليس لله ما يدبر به امر السموات والارض إلا مجرد حركة الفلك وأثبتوا نبوة حال كثير من احوال اوساط المسلمين خير منها فان كثيرا من اوساط المسلمين له من العلم والعمل أعظم مما أثبته هؤلاء للانبياء فانهم جعلوا خواص النبوة نوعين القوة العلمية التي ينال بها العلم إما بواسطة القياس المنطقي وإما بواسطة التجرد الذي هو كتجرد النائم حتى تتصل بالنفس الفلكية والثاني القوة العملية وهو ان تكون نفسه قوية على التصرف في هيولى العالم بحيث تحدث عنه عجائب والنوع الاول يتضمن أمرين أحدهما معرفة العلوم الكلية بالقياس المنطقي والثاني معرفة الجزئيات بهذا الاتصال ثم الخيال يصور المعقولات في الصور المناسبة لها وينقشها في الحس المشترك فيرى الانسان في باطنه صورا ويسمع اصواتا وتلك الصور عندهم ملائكة الله وتلك الاصوات كلام الله ولهذا كان الملاحدة من المتصوفة على طريقهم كابن عربي وابن سبعين وغيرهما قد سلكوا مسلك ملاحد الشيعة كأصحاب رسائل إخوان الصفا واتبعوا ما وجدوه من كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير اهلها وغير ذلك مما يناسب ذلك فصار بعضهم يرى ان باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقه فيقول كما كان ابن سبعين يقول لقد زرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدى او يرى لكونه اشد تعظيما للشريعة أن باب النبوة قد اغلق فيدعى ان الولاية أعظم من النبوة وأن خاتم الاولياء اعلم بالله من خاتم الانبياء وأن خاتم الانبياء بل وجميع الانبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكوة خاتم الاولياء ويقول إنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية لانه يرى الامر على ما هو عليه فلا بد ان يراه هكذا وإنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية لانه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به الى الرسول وهذا بناء على اصول هؤلاء الفلاسفة الكفار الذين هم اكفر من اليهود والنصارى الذين سلك هؤلاء سبيلهم ولكن غيروا عباراتهم فأخذوا عبارات المسلمين الموجودة في كلام الله ورسوله وسلف الامة وعلمائها وعبادها ومن دخل في هؤلاء من الصوفية المتبعين للكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وابي سليمان الداراني ومعروف الكرخى والسري السقطي والجنيد وسهل بن عبدالله وغيرهم اخذوا معانى اولئك الملاحدة فعبروا عنها بالعبارات الموجودة في كلام من هو معظم عند المسلمين فيظن من سمع ذلك ان اولئك المعظمين إنما عنوا بهذه العبارات الموجودة في كلامهم ما أراده هؤلاء الملحدون كما فعلت ملاحدة الشيعة الاسماعيلية ونحوهم فحمد عندهم يأخذ من الملك الذي هو عندهم خيال في نفسه وذلك الخيال يأخذ عن العقل فمحمد عندهم يأخذ عن جبريل وهذا الخيال هو جبريل وجبريل يأخذ عن ما علمه من النفس الفلكية فزعم ابن عربي انه يأخذ من العقل وهو المعدن الذي يأخذ منه جبريل فان ابن عربي وهؤلاء يعظمون طريق الكشف والمشاهدة والرياضة والعبادة ويذمون طريق النظر والقياس وما يدعونه من الكشف والمشاهدة عامتة خيالات في انفسهم ويسمونها حقيقة ولهذا يقول باب ارض الحقيقة وهى ارض الخيال وقد ادعى ان الفتوحات الملكية القاها اليه روح بمكة وإذا كان صادقا فقد القاها اليه شيطان من الشياطين كما كان مسيلمة الكذاب يلقى اليه شيطان وكذلك الاسود العنسى وكذلك غيرهما من المتنبئين الكذابين وكذلك الذين يدعون الولاية بدون متابعة الرسول تنزل عليهم الشياطين وتخبرهم بأشياء وتأمرهم باشياء وربما أحضرت لهم طعاما ونفقة وغيرذلك وربما حملت أحدهم في الهواء الى مكان ونحو ذلك فهم في الاولياء من جنس مسيلمة الكذاب وأمثاله في الانبياء ولهم أحوال شيطانية يظنونها من كرامات اولياء الله وأنما هى من احوال اعداء الله وهؤلاء من جنس كهان العرب الذين كان يكون لاحدهم رئي من الجن من جنس شيوخ العباد الذين للمشركين من الهند والترك والحبشة وغيرهم الكفار أو من جنس شيوخ النصارى فان هؤلاء شيوخ المشركين وأهل الكتاب لهم شياطين تقترن بهم وكذلك للداخل في المشيخة والدين والزهد والعبادة مع الخروج عن الكتاب والسنة ممن يدعى الاسلام ثم إن كانوا كفارا منافقين فجنهم من جنسهم وإن كانوا فساقا فجنهم من جنسهم وإن كانوا أهل جهل وبدعة بلا علم كان جهنم من جنسهم كون الملائكة احياء ناطقين لا صورا خالية الوجه العاشر إنه من المتواتر عن الانبياء صلوات الله عليهم أن الملائكة احياء ناطقون يأتونهم عن الله بما يخبر به ويامر به تارة وينصرونهم ويقاتلون معهم تارة وكانت الملائكة احيانا تأتيهم في صورة البشر والحاضرون يرونهم وقد اخبر الله عن الملائكة في كتاب بأخبار متنوعة وذلك يناقض ما يزعمونه من ان الملك انما هوالصورة الخيالية التي ترتسم في الحس المشترك او انها العقول والنفوس الاخبار المتواترة بمجئ الملائكة في صورة البشر قال الله تعالى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالافق الاعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى فاوحى الى عبده ما اوحى ما كذب الفواد ما رأى أفتمرونه على ما يرى ولقد رآه نزله اخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من أيت ربه الكبرى النجم وفي الصحيحين عن مسروق قال كنت متكئا عند عائشة رضى الله عنها فقالت يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد اعظم على الله الفريه قلت ماهن قالت من زعم ان محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفقرية ومن زعم انه يعلم ما في غد فقد اعظم على الله الفرية ومن أعظم انه كتم شيئا مما اوحى اليه فقد أعظم على الله الفرية قال وكنت متكئا فجلست فقلت يا أم المؤمنين انظري ولا تعجلينى الم يقل الله تعالى ولقد رآه بالافق المبين التكوير ولقد رآه نزله اخرى النجم فقالت أنا أول هذه الامة سأل عن ذلك رسول الله ﷺ - فقال إنما هو جبريل لم اره على صورته التي خلق عليها هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والارض وفي لفظ فقلت فأين قوله عزوجل ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى الى عبده ما اوحى النجم قالت إنما ذاك جبريل عليه السلام كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء وفي الصحيحين ايضا عن الشيباني قال سألت زر بن حبيش عن قول الله فكان قاب قوسين او ادنى قال اخبرني ابن مسعود ان النبي ﷺ - راى جبريل له ستمائة جناح وعن ابن مسعود ايضا قال ما كذب الفؤاد ما راى قال راى جبريل له ستمائة جناح وعنه ايضا لقد راى من ايات ربه الكبرى قال راى جبريل في صورته له ستمائة جناح وقال البخاري في بعض طرقه راى رفرفا اخضر قد سد الافق وعن عبد الله قال لقد راى من ايات ربه الكبرى قال راى رفرفا اخضر قد سد الافق وفي صحيح مسلم عن ابي هريرة ولقد رآه نزلة اخرى قال راى جبريل وقد قال سبحانه انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين وما صاحبكم بمجنون ولقد راه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم التكوير فبين ان الرسول الذي جاء به الى محمد رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين وهذه صفة لا تنطبق على ما في النفس من الخيال ولا على العقل الفعال فانه اخبر انه مطاع والمطاع فوق السموات ليس هذا ولا هذا وكذلك قوله نزول به الروح الامين على قلبك وقوله من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكل فان الله عدو للكفرين (البقرة) وقال تعالى واذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق (النحل) وفي الصحيحين عن عائشة ان الحرث بن هشام سأل رسول الله ﷺ - كيف يأتيك الوحي قال احيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو اشده على فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال واحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعى ما يقول قالت عائشة ولقد رايته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا وفي الصحيحين عن عائشة قالت كان اول ما بدى به رسول الله ﷺ - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب اليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل ان ينزع الى اهله ويتزود لذلك ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجئة الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرا قال ما انا بقارىء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني فقال اقرا قلت ما انا بقارىء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني فقال اقرا قلت ما انا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني فقال اقرا باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرا وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم العلق وذكر الحديث بطوله وذكر فترة الوحي قال جابر في حديثه عن النبي ﷺ - في فترة الوحي قال بينا انا امشي اذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والارض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر المدثر فحمى الوحي وتتابع وقد ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ - من حديث ابي هريرة وهو في الصحيحين ومن حديث عمر وهو في مسلم ومن حديث غيرهما انه جاءه اعرابي شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا احد فسأله عن الاسلام والايمان والاحسان فقال النبي ﷺ - الاسلام ان تشهد ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله وتقيم الصلوة وتؤتي الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت قال صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال وسأله عن الايمان فقال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت وقال في الاحسان ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك وسأله عن الساعة فقال ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأله عن اشراطها فقال ما ذكروه فلما ادبر قال على بالرجل فطلب فلم يوجد فقال هذا جبريل جاءكم يعلمكم امر دينكم وقد استفاض انه كان يأتيه في صورة دحية الكلبي وكان من اجمل الناس صورة وقد اخبر الله في القران ان الملائكة اتوا الى ابراهيم ثم لوطا في صورة رجال فقال تعالى هل اتك حديث ضيف ابراهيم المكرمين اذ دخلوا عليه فقالوا سلما قال سلم قوم منكرون فراغ الى اهله فجاء بعجل سمين فقربه اليهم قال الا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلم عليم فاقبلت امراته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم ايها المرسلون قالوا انا ارسلنا الى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم الذاريات فأخبر انهم دخلوا على ابراهيم وسلموا عليه فرد عليهم وانكرهم لما راى من صورهم العجيبة واتاهم بالعجل السمين ضيافة لهم فلما راهم لا يأكلون او جس منهم خيفة فقالوا له لا تخف واخبروه انهم رسل الله وبشروه بالغلام العليم اسحاق بعد كبره وكبر امراته وذلك من خوارق العادات وقالوا انا ارسلنا الى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين والملائكة ارسلوا الحجارة من السماء على قرى قوم لوط وقد ذكر الله قصتهم في مواضع من القران في سورة هود والحجر والعنكبوت وفي كل موضع يذكر نوعا مما جرى واخبر الله تعالى أنه ارسل الى مريم العذراء البتول ملكا في صورة بشر فقال تعالى واذكر في الكتب مريم اذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونه حجابا فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت اني اعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا قال انما انا رسول ربك لاهب لك غلما زكيا قالت اني يكون لي غلم ولم يمسسني بشر ولم اك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان امرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجآءها المخاض الى جذع النخلة قالت يليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي اليك بجذع النخلة تسقط عليك رطبا جنيا فكلى واشربي وقرى عينا فاما ترين من البشر احدا فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم انسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يمريم لقد جئت شيئا فريا يأخت هرون ما كان ابوك امرا سوء وما كانت امك بغيا فأشارت اليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال اني عبد الله آتني الكتب وجعلني نبيا وجعلني مباركا اين ما كنت واوصني بالصلوة والزكوة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلم على يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حيا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله ان يتخذ من ولد سبحنه اذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون وان الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم مريم وقد ذكر الله النفخ في فرجها من هذا الروح في موضعين اخرين من القران فهذه الاخبار المتواترة من مجيء الملائكة في صورة البشر اخبار نزول الملائكة لنصر الانبياء وتأييدهم واما نزولهم لنصر الانبياء وتأييدهم فقد ذكره الله في غير موضع من كتابه في قصة بدر اذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم اني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله الا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر الا من عند الله ان الله عزيز حكيم الى قوله اذ يوحي ربك الى الملائكة اني معكم فثبتوا الذين امنوا (الأنفال) وقوله ولو ترى اذ يتوفي الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وادبارهم وذوقوا عذاب الحريق (الأنفال) وقوله تعالى في يوم احد اذ تقول للمؤمنين الن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلثة آلف من الملائكة منزلين بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلف من الملائكة مسومين وما جعله الله الا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر الا من عند الله (آل عمران) وقال تعالى في يوم الخندق يأيها الذين امنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا الاحزاب وقال تعالى ويوم حنين اذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وانزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزآء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء التوبة وقال عند خروجه للهجرة الا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وايده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم التوبة انواع اخر من اخبار الملائكة وقد اخبر سبحانه عن الملائكة بقوله اني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صدقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم قال يآدم انبهم اسمائهم فلما انباهم بأسمائهم قال الم اقل لكم اني اعلم غيب السموات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (البقرة) واخبر عنهم سبحانه بقوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحنه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم اني اله من دونه فذلك نجزيه جهنم الانبياء فأين هذا النعت من قول هؤلاء المتفلسفة الذين يدعون ان العقل الاول رب جميع العالمين العلوي والسفلي وكذلك كل عقل حتى ينتهي الى الفعال فيزعمون انه رب لما تحت فلك القمر وقد قال سبحانه وكم من ملك في السموات لا تغني شفعتهم شيئا الا من بعد ان يأذن الله لمن يشاء ويرضى النجم وقال تعالى فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له باليل والنهار وهم لا يسئمون فصلت وقال تعالى وله من في السموات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون اليل والنهار لا يفترون الانبياء وقال ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (الأعراف) وفي الصحيحين عن النبي ﷺ - انه قال الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها قال يسدون الاول فالاول ويتراصون في الصف وهذا موافق لقوله تعالى والصفت صفا فالزجرات زجرا فالتليت ذكرا الصفات ولقوله عنهم وما منآ الا له مقام معلوم وانا لنحن الصافون وانا لحن المسبحون الصافات وقال تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم المؤمن وقال تعالى قوا انفسكم واهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ امرهم ويفعلون ما يؤمرون التحريم وقال تعالى في صفة اهل النار سأصلية سقر ومآ ادراك ما سقر لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا اصحاب النار الا ملائكة وما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين اوتوا الكتب ويزداد الذين امنوا ايمانا ولا يرتاب الذين اوتوا الكتب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا اراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك الا هو وما هي الا ذكرى للبشر المدثر وقال تعالى فليدع ناديه سندع الزبانية العلق قال غير واحد من الصحابة والتابعين كأبي هريرة وعبد الله بن الحارث وعطاء هم الملائكة وقال قتادة الزبانية في كلام العرب الشرط وقال مقاتل هم خزنة جهنم قال اهل اللغة كابن قتية وغيره هو مأخوذ من الزبن وهو الدفع كأنهم يدفعون اهل النار اليها قال ابن دريد الزبن الدفع يقال ناقة زبون اذا زبنت حالبها دفعته برجلها وتزابن القوم تداراوا واشتقاق الزبانية من الزبن وايضا في الصحاح من غير وجه عن النبي ﷺ - انه اخبر ليلة المعراج بما رآه من الملائكة والجنة والنار واخبر عن البيت المعمور انه يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يعودون آخر ما عليهم وما في القران والاحاديث وكلام السلف من ذكر الملائكة واحوالهم يفوق الاحصاء وكذلك عند اهل التوراة والانجيل ونبوات سائر الانبياء بيان كذبهم على الانبياء وان النبوة ليست كما يدعونه وما اخبر به الانبياء يناقض قول من قال عن الانبياء ان الذي راوه من الملائكة انما هو ما يخيل في انفسهم وان الذي سمعوه انما هو ما سمعوه في نفوسهم فان كان مقصوده انهم ارادوا بما اخبروا به هذا فهذا كذب صريح عليهم لا حيلة فيه وان كان مكذبا لهم يقول انهم لم يروا شيئا او انهم غلطوا فيما اخبروا به من ذلك فهذا ليس مقام من يفسر كلامهم ويبين مرادهم كما يزعمه هؤلاء المتفلسفة الذين يتكلمون على النبوة بما يدعون انه تفسير لها والمقصود هنا بيان كذبهم على الانبياء وان النبوة ليست كما يدعونه واما الكذب للانبياء فلخطابه مقام اخر مع ان هذا من اجهل اهل الارض واكفرهم وذلك ان الانبياء عدد كثيرون وهم باجماع العقلاء العلم والعدل في غاية صفات الكمال من العقل والعلم والعدل والصدق والاخلاق الحسنة وكل منهم لم ير الآخر ولم يستمع منه لا سيما محمد ﷺ - فانه لم يكن بمكة على عهده احد يعرف شيئا من كتب الانبياء البتة وكل منهم يخبر عما راى وسمع اخبارا يصدق بعضها بعضا فلو لم تثبت عصمة الانبياء وصدقهم بل كان المخبر بمثل هذا مجهولا لوجب تواتر جنس ما راوه كما ان العدد الكثير اذا اخبر كل منهم انه راى اسود تواتر وجود السودان عند من لم يرهم ولهذا لما اخبر كثير من المصروعين عن وجود الصرع ثبت بهذا وجوده في الجملة ولم يكن تكذيب المصروعين فيما يخبرون به مما يعاينونه بل عامة العقلاء يعلم انهم راوا الجن الاحياء الناطقين وهذا معلوم عند جمهور العقلاء علما ضروريا لا يمكنهم النزاع فيه تدبير الله امر السماء والارض بواسطة الملائكة وايضا فالادلة العقلية تدل على ان الملائكة بهم يدبر الله امر السماء والارض كما قد بسط الكلام على هذا في غير موضعه وبين فيه ان الحركات ثلاثة طبيعية وقسرية وارادية لان المتحرك انما يتحرك بقوة فيه او خارجة عنه والثاني هو المقسور المتحرك قسرا والاول ان لم يكن له شعور فهي الحركة الطبيعية وان كان له شعور فهي الارادية والقسرية تابعة للقاسر فلولا هو لم يتحرك المقسور والطبيعية انما يكون اذا خرج الجسم الطبيعي عن محله فيطلب بطبعه العود الى محله فاذا عاد سكن كالتراب اذا سقط على الارض والماء اذا وصل الى مقره ونحو ذلك فلم يبق هنا متحرك ابتداء الا المتحرك بالحركة الارادية فعلم ان جميع الحركات مبداها حركة ارادية ومعلوم ان الادميين لا يحركون الهواء والسحاب وغير ذلك من الاجسام فالمحرك لها احياء يحركون لها بالارادة وهؤلاء هم الملائكة والملك معناه الرسول واصله ملاك على وزن مفعل ولكن القيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت وهذه المادة معناها الرسالة سواء تقدمت اللام على الهمزة كما في صيغة الملك او تقدمت الهمزة على اللام وهذه الامور لبسطها موضع آخر وانما المقصود ان نعرف ان ما يفسرون به الملائكة والوحي مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول انه مناقض لما جاء به فعلم ان ما يثبتونه من النبوة لا حقيقة له وان ادعاءهم ان علم الانبياء انما يحصل بالقياس المنطقي واما باتصال نفسه بالنفس الفلكية من ابطل الكلام وذلك مما يبين فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طرق العلم مادة وصورة وهو المطلوب في هذا الموضع ويبين انهم اخرجوا من العلوم الصادقة اجل واعظم واكبر مما اثبتوه وان ما ذكروه من الطرق انما يفيد علوما قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة وهذه مرتبة القوم فانهم من اخس الناس علما وعملا وكفار اليهود والنصارى اشرف منهم علما وعملا من وجوه كثيرة كون حصول العلم في قلوب الانبياء من الملائكة ومما يبين ذلك ان يقال ما يحصل في قلوب الانبياء وغيرهم من العلم بأمور معينة اما ان يكون له سبب يقتضى حصول ذلك العلم او يحصل بلا سبب كما يقول ذلك من اهل الكلام من ينكر الاسباب في الوجود فان لم يكن له سبب بطل قولهم ان ذلك من العقل والنفس وان كان له سبب امكن ان يكون ذلك هو ملائكة تعلمهم بذلك او جن تعلم بعض الناس وهم ليس لهم حجة اصلا على نفي ذلك بتقدير ما يقولونه من قدم الافلاك وصدورها عن علة مستلزمة لها كما يقوله ابن سينا او ان العلة تحركها تحريك القدوة للمقتدى به على قول ارسطو واتباعه فعلى قول ارسطو واتباعه وعلى كل قول ليس في العقل حجة تنفي ذلك واذا امكن كون ذلك من الملائكة بطل قولهم بل نقول يجب ان يكون ذلك من الملائكة اذا كان له سبب فان كون ذلك من النفس الفلكية قد ظهر بطلانه فوجب ان يكون ذلك من الملائكة وهو المطلوب وقد اثبت طائفة من نظار المسلمين والفلاسفة وجود الملائكة والجن بهذه الطريق وقالوا نحن نجد امورا تحدث في نفوسنا بغير قصد منا من العلوم والارادات وما هو من جنس العلوم والارادات من الخواطر خواطر الشبهات والشهوات فلا بد لتلك من فاعل يحدثها في قلوبنا والله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء لكن لم يخلق شيئا الا لسبب كما دل على ذلك استقراء خلقه للموجودات ولا يحدث حادثا الا بسبب حادث والانسان يكون قلبه خاليا من اعتقاد الضدين ومن ارادة الضدين فيحدث احدهما في قلبه فلا بد لذلك من سبب حادث اوجب ذلك ولا يجوز اضافة ذلك الى مجرد حركات الفلكية فان نسبة الحركة الفلكية في اليوم المعين الى الاشخاص نسبة واحدة والناس مختلفون في هذه الخواطر اختلافا لا مزيد عليه والشخص الواحد يختلف حاله فتارة يكون مؤمنا وتارة يكون كافرا وتارة برا وتارة فاجرا وتارة عالما وتارة جاهلا وتارة ناسيا وتارة ذاكرا بدون حدوث سبب فلكي يرجح احد هذين الحالين على الآخر واهل الارض الواحدة والبلد الواحد والاقليم الواحد تختلف احوالهم في ذلك مع ان طالع البلد لم يختلف ومع ان المتجدد من الاشكال الفلكية قد يكون متشابه الاحوال واحوالهم مع هذا تختلف وهذا لبسطه موضع اخر فان ظن هؤلاء ان الحوادث التي تحت الفلك ليس سببها الا تغير اشكال الفلك واتصالات الكواكب من افسد الاقوال ولهذا كان اصحاب هذا القول من اكثر الناس جهلا وكذبا وتناقضا وحيرة استطراد: حيرة الفلكيين في امر الكعبة وما لها من التعظيم والمهابة ولهذا حاروا في مكة شرفها الله واي شيء هو الطالع الذي بنيت عليه على زعمهم حتى رزقت هذه السعادة العظيمة وهذا البناء العظيم مع طول الازمان مع انه لم يقصدها احد بسوء الا انتقم الله منه كما فعل بأصحاب الفيل ولم يعل عليها عدو قط والحجاج بن يوسف لم يكن عدوا لها ولا اراد هدمها ولا اذاها بوجه من الوجوه ولا رماها بمنجنيق اصلا ولكن كان محاصرا لابن الزبير وكان ابن الزبير واصحابه في المسجد وكانوا يرمون بالمنجنيق له ولاصحابه لا لقصد الكعبة وإن يهدموا الكعبة ولا وقع فيها شرعي من جهارة الحجاج بل كان ابن الزبير قد بناها على قواعد ابراهيم والصقها بالارض وجعل لها بابين كما اخبرته عائشة عن النبي ﷺ - انه قال لولا قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضة الكعبة والصقتها بالارض وجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه ووصف لعائشة من الحجر ما هو من البيت قريبا من سبعة ازرع موضع انحناء الحجر وكانت القريش قد بنتها فقصرت بها النفقة فتركوا ما تركوه من الحجر ورفعوها، فلما ولي الزبير شاور الناس في ذلك فمنهم من راى ذلك مصلحة ومنهم من اشار عليه بأن لا يفعل وقال هذه الكعبة هي التي كانت على عهد النبي ﷺ - وعليها اسلم الناس وهذا كان راي ابن عباس وطائفة والفقهاء متنازعون في هذه المسئلة منهم من يرى اقرارها كقول ابن عباس وهو قول مالك وغيره ويقال ان الرشيد شاوره ان يفعل كما فعل ابن الزبير فأشار عليه ان لا يفعل وراى ان هذا يفضي الى انتقاض حرمة الكعبة باختلاف الملوك في ذلك هذا يهدمها ليبنيها كما فعل ابن الزبير وهذا يرى أن يعيدها كما كانت ومنهم من يرى تصويب ما فعله ابن الزبير ويقال ان الشافعي يميل الى هذا فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج الى عبد الملك بن مروان يخبره بما فعل ابن الزبير فيخبره بأنهم وجدوا قواعد ابراهيم وانه ارى ذلك لاهل مكة فكتب اليه عبد الملك ان يعيدها كما كانت الا ما زاده من الطول فلا يغيره ويذكر ان ما فعله ابن الزبير لا يعلم اصله ثم ان عبد الملك حدثه بعض الناس بحديث عائشة فقال وددت اني وليت ابن الزبير من ذلك ما تولى والمقصود انه ولله الحمد لم يردها احد من المسلمين بسوء لا الحجاج ولا غيره ولكن قرامطة البحرين بعد ذلك بمدة اخذوا الحجر الاسود وبقي عندهم مدة فانتقم الله منهم وجرت فيهم المثلات فصار هؤلاء الفلكيون حائرين في امرها لما جعل الله لها من العز والمهابة والتعظيم مع المحبة ومع كون الناس من مشارق الارض ومغاربها يأتونها بمحبة ورغبة وذل مع المشاق العظيمة التي تزيد على مشقة عامة الاسفار من الجوع والعطش والخوف والتعب وانه ليس بمكة بساتين ولا انهار ولا غير ذلك مما تطلبه النفوس حتى الجا بعضهم الحيرة الى ان زعم ان تحتها مغارة فيها طلاسم موجهة الى جميع الجهات وانها تبخر في شهر رجب او غيره لتصرف وجوه الناس اليها ونحو هذه الاقوال المكذوبة التي يعلم كل من له علم بمكة انها كذب مختلق وانه لا ينزل احد قط الى اسفل الكعبة ولا مغارة تحتها ونفس التبخير لا يفعله المسلمون عبادة وقربانا كما كان يفعل ذلك من قبلهم بل هو عندهم من جنس الطيب فتقصد رائحته ومن كان قبل المسلمين من اهل الكتاب كانوا يقربون القرابين فتنزل النار تأكله وقد يدخنون بدخن وأما المشركون من عباد الكواكب والأصنام فالتدخين عندهم من اصول العبادات بل وجود مكة مما يدل على القادر المختار وانه يخلق بمشيئته وقدرته وعلمه كما قال تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذلك لتعلموا ان الله يعلم ما في السموات وما في الارض وان الله بكل شيء عليم وقد قال ابن عباس لو ترك الناس الحج سنة واحدة لما نوظروا ولهذا كان حج البيت كل عام فرضا على الكفاية كما ذكر ذلك الفقهاء من اصحاب الشافعي كالقاضي ابي بكر وغيره والمقصود هنا انه اذا علم ما يحدث في النفوس ليس سببه مجرد حركة الفلك مع انه لا بدل منه من سبب دل ذلك على وجود الملائكة والجن وهذا سلف الامة والتابعين لهم بأحسان وائمة المسلمين فأنهم يقولون ان الشياطين توسوس في نفوس بني ادم كالعقائد الفاسدة والامر باتباع الهوى وان الملائكة بالعكس انما تقذف في القلوب الصدق والعدل قال ابن مسعود ان للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك ايعاد بالخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالحق وفي الصحيح عن النبي ﷺ - انه قال ما منكم من احد الا وقد وكل به قرينه من الملائكة ومن الجن قالوا واياك يا رسول الله قال واياي الا ان الله اعانني عليه فأسلم وفي لفظ فلا يأمرني الا بخير قال تعالى قل اعوذ برب الناس ملك الناس اله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الناس والقول الصحيح الذي عليه اكثر السلف ان المعنى من شر الموسوس من الجنة ومن الناس من شياطين الانس والجن وقال وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطان الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا وقال النبي ﷺ - لابي ذر يا ابا ذر تعوذ بالله من شياطين الانس والجن قال يا رسول الله او للانس وشياطين قال نعم شر من شياطين الجن قال تعالى اذا لقوا الذين امنوا قالوا امنا واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزءون وهم شياطينهم من الانس كما قال ذلك عامة السلف وكما يدل عليه سياق القران فان شياطين الجن لم يكونوا يحتاجون الى ان يخلوا بهم و لا هم يقولون لهم انا معكم انما نحن مستهزءون كون الصواب من الهام الملك و الخطا من القاء الشيطان وقد تنازع الناس في العلم الحاصل في القلب عقيب النظر والاستدلال على اقوال فهؤلاء المتفلسفة يقولون ان ذلك من فيض العقل الفعال عند استعداد النفس والمعتزلة يقولون هو حاصل على سبيل التولد والاشعري وغيره يقولون هو حاصل بفعل الله تعالى كما تحصل سائر الحوادث عندهم لا يجعلون لشيء من الحوادث سببا ولا حكمة والذي عليه السلف والائمة ان الله جعل للحوادث اسبابا وحكمة وهذه الحوادث قد تحدث باسباب من الملائكة اومن الجن وان ما يحصل في القلب من العلم والقوة ونحو ذلك قد يجعله الله بواسطة فعل الملئكة كما قال تعالى إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الاخر يوآدون من حاد الله و رسوله و لو كانوا اباءهم او ابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه المجادلة وكما قال النبي ﷺ - من سأل القضاء واستعان عليه وكل اليه ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه انزل الله اليه ملكا يسدده والتسديد هو القاء القول السداد في قلبه وقال تعالى واوحينا الى ام موسى ان ارضعيه قصص وقال تعالى واذ اوحيت الى الحواريين ان آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا المائدة وهؤلاء لم يكونوا انبياء بل ذلك الهام وقد يكون بتوسط الملك كما قال تعالى وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء والاراء والخطا في الراي من القاء الشيطان ولو كان صاحبها مجتهدا معذورا كما قال غير واحد من الصحابة كأبي بكر وابن مسعود في بعض المسائل اقول فيها برأيي فان يكن صوابا فمن الله وان يكن خطا فمني ومن الشيطان والله ورسوله برىء منه وما يكون من الشيطان اذا لم يقدر الانسان على دفعه لا يأثم به كما يراه النائم من اضغاث الشيطان وكاحتلامه في المنام فانه وان كان من الشيطان فقد رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ وكذلك ما يحدث به الانسان نفسه من الشر قد تجاوز الله له عنه حتى يتكلم به او يعمل به وإن كان من الشيطان ففي الصحيحين عن النبي ﷺ - أنه قال إن الله تجاوز لامتي عما حدثت به انفسها ما لم تتكلم به وفي الصحيحين من غير وجه عن ابي هريرة وابن عباس ان النبي ﷺ - ذكر انه اذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة فان عملها كتبت له عشر حسنات واذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه فان عملها فاكتبوها سيتئة وان تركها فاكتبوها له حسنة فانه انما تركها من جرائي وفي الصحيح ان الصحابة سألوا النبي عن الوسوسة التي يكرهها المؤمن وهي ما يلقي في قلبه من خواطر الكفر فقالوا يا رسول الله ان احدنا ليجد في نفسه ما لان يحرق حتى يصير حممة او يخر من السماء الى الارض احب اليه من ان يتكلم به قال ذلك صريح الايمان وفي حديث اخر الحمد لله الذي رد كيده الى الوسوسة وفي الصحيحين عن النبي ﷺ - قال اذا اذن المؤذن ادير الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فاذا قضى التأذين اقبل فاذا اقيمت الصلوة ادبر فاذا قضيت اقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه فيقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل ان يدري كم صلى فاذا وجد ذلك احدكم فليسجد سجدتين فقد اخبر ان الشيطان يوسوس في الصلوة ولم يأمر باعادة الصلوة فالاعتقادات والارادات الفاسدة تحصل بسبب شياطين الانس والجن والاعتقادات الصحيحة والارادات المحمودة قد تحصل بسبب الملائكة وصالحي الانس فان سماع الكلم قد يؤثر في قلب المستمع فالمتكلم فاعل فان كان السامع قابلا انتقش كلامه في قلبه وان لم يكن قابلا لم ينتقش فيه ابطال القول بمعرفة الغيب بدون توسط الانبياء وما يذكره طوائف من الباطنية باطنية الشيعة كأصحاب رسائل اخوان الصفا وباطنية الصوفية كابن سبعين وابن عربي وغيرهما وما يوجد في كلام ابي حامد وغيره من اهل الرياضة وتصفية القلب وتزكية النفس بالاخلاق المحمودة قد يعلمون حقائق ما اخبرت به الانبياء من امر الايمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الاخر ومعرفة الجن والشياطين بدون توسط خبر الانبياء هو بناء على هذا الاصل الفاسد وهو انهم اذا صفوا نفوسهم نزل على قلوبهم ذلك اما من جهة العقل الفعال او غيره كلام في الغزالي قادح فيه وابو حامد يكثر ذكر هذا وهو مما انكره عليه المسلمون وقالوا فيه اقوالا غليظة بهذا السبب الذي اسقط فيه توسط الانبياء في الامور الخبرية وجعل ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة لا يفيد معرفة شيء من الغيب ولا يعرف معنى كلامه وما يتأول منه وما لا يتأول لكن اذا ارتاض الانسان انكشفت له الحقائق فما وافق كشفه اقره وما لم يوافقه تأوله ولهذا قالوا كلامه يقدح في الايمان بالانبياء وذلك ان هذا مأخوذ من اصول هؤلاء الفلاسفة ولهذا كانوا يقولون ابو حامد امرضه الشفاء وانشد فيه ابن العربي الابيات المعروفة عنه حيث قال برئنا الى الله من معشر ... بهم مرض من كتاب الشفا وكم قلت يا قوم انتم على ... شفا جرف من كتاب الشفا فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا الى الله حتى كفى فماتوا على دين رسطالس ... وعشنا على ملة المصطفى وكلامه في مشكوة الانوار وفي كيمياء السعادة هو قول هؤلاء ولهذا يذكر ان صاحب الرياضة قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران عليه السلام وامثال هذه الاقاويل التي انكرها علماء المسلمين العارفين بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة من الطوائف كلها من اصحاب الشافعي ومالك وابي حنيفة واحمد بن حنبل والصوفية المحققين المتبعين للرسول واهل الحديث ونظار اهل السنة وقد انكر عليه طائفة من اهل الكلام والراي كثيرا مما قاله من الحق وزعموا ان طريقة الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم واخطاوا ايضا في هذا النفي بل الحق ان التقوى وتصفية القلب من اعظم الاسباب على نيل العلم لكن لا بد من الاعتصام بالكتاب والسنة في العلم والعمل ولا يمكن ان احدا بعد الرسول يعلم ما اخبر به الرسول من الغيب بنفسه بلا واسطة الرسول ولا يستغني احد في معرفة الغيب عما جاء به الرسول وكلام الرسول مبين للحق بنفسه ليس كشف احد ولا قياسه عيارا عليه فما وافق كشف الانسان وقياسه وافقه وما لم يكن كذلك خالفه بل ما يسمى كشفا وقياسا هو مخالف للرسول فهذا قياس فاسد وخيال فاسد وهو الذي يقال فيه نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي والانسان قد يصفي نفسه ويلقى الشيطان في نفسه اشياء فان لم يعتصم بالذكر المنزل والا اقترن به الشيطان كما قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطنا فهو له قرين الزخرف وقوله فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى طه الفرق بين طرق متكلمي الاسلام وطرق المناطقة الفلاسفة فإن قيل ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم يوجد نحو منه في كلام متكلمي المسلمين بل منهم من يذكره بعينه اما بعباراتهم واما بتغيير العبارة قيل الجواب من وجهين احدهما ان ليس كل ما يقوله المتكلمون حقا بل كل ما جاء به الرسول فهو حق وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يخالف ذلك فهو باطل وقد عرف ذم السلف والائمة لاهل الكلام المحدث المشتمل على الباطل المخالف للكتاب والسنة وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع ومر ان الكلام المذموم الذي ذمه السلف الطيب اتباع الصحابة والتابعين لهم باحسان هو الكلام الباطل وهو المخالف لما جاء به الرسول وهذان وصفان ملازمان فكل ما خالف ما جاء به الرسول فهو باطل وكل كلام في الدين باطل فهو مخالف لما جاء به الرسول وبطلان ذلك قد يعلم بالادلة العقلية مع دلالة الشرع على بطلانه ودلالة الشرع تكون تارة بالاخبار عن الحق والباطل وتارة بالارشاد والهداية الى الادلة التي بها يعرف الحق وينظر العاقل في تلك الادلة التي ارشد الرسول اليها ودل عليها الثاني ان يقال متكلموا الاسلام لم يسلكوا طريق هؤلاء الفلاسفة فانه ليس فيهم احد يحصر طرق العلم حصرا يدخل فيه الانبياء كما فعل هؤلاء حيث جعلوا ما علمه الانبياء داخلا في طريقهم فجعلوا النبوة من جنس ما يكون لبعض الناس اذا كان فيه ذكاء وزهد بل المتكلمون متفقون على ان النبي يعلمه الله بما لا يعلم به غيره بمشيئة الرب وقدرته فانهم متفقون على ان الله يفعل بمشيئته وقدرته وانه يرسل ملكا الى النبي وهو يعلم الملك ويعلم ما يقول وما يقوله للنبي ليس فيهم من يقول ان الله لا يعلم الجزئيات ولا ان الله ليس بقادر مختار ولا ان الافلاك قديمة ازليه ولا من ينكر معاد الابدان ولا من يقول ان ملائكة الله مجرد ما يتخيل في النفوس كما يتخيل للنائم ولا كلام الله مجرد ما يتخيل في النفوس من الاصوات ولا من يقول ان ما يعلمه الانبياء من الغيب انما يفيض على نفوسهم من النفس الفلكية ولا يجعل احدهم اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية، ولا يقول احد منهم ان شيئا غير الله ابدع ما سواه كما يقوله هؤلاء ان العقل الاول ابدع كل ما سواه من الممكنات ويسميه من ينتسب الى الاسلام منهم القلم ويظنون ان الحديث المروي ان اول ما خلق الله العقل قال له اقبل فأقبل ثم قال له ادبر فأدبر هو هذا العقل والحديث لفظه حجة عليهم لا لهم ومع هذا فلو كان حجة لهم لم يجز التمسك به لانه موضوع باتفاق اهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك الدارقطني وابن حبان وابو الفرج ابن الجوزي وغيرهم 19. بطلان جعلهم النبوة جزءا من الفلسفة والمتكلمون اذا حصروا طرق العلم حصروا طرق مثلهم وامثالهم فيذكرون الحسيات والعقليات الضرورية والنظرية سواء كان ذلك الحصر مطابقا او ليس بمطابق لم يقصدوا ان يذكروا الطريق التي بها يعلم النبي ما يوحي اليه بل هذه الطريق خارجة عما يقدرون عليه هم وامثالهم من الطرق وليست من جنسها عندهم بخلاف المتفلسفة فان النبي عندهم من جنس غيره من الاذكياء الزهاد لكنه قد يكون افضل والنبوة عندهم جزء من الفلسفة وهذا هو الضلال العظيم فان الفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل فضلا عن درجتهم قبل ذلك فضلا عن درجة المؤمنين اهل القران كالصحابة والتابعين فضلا عن درجة واحد من الانبياء فضلا عن الرسل فضلا عن اولي العزم منهم بل عامة اذكياء الناس وازهد الناس ان يكون مشبها للتابعين باحسان للسابقين الاولين فأما درجة السابقين الاولين كأبي بكر وعمر فتلك لا يبلغها احد وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ - انه قال قد كان في الامم قبلكم محدثون فان يكن في امتي فعمر وفي حديث اخر ان الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وقال على كنا نتحدث ان السكينة تنطق على لسان عمر وفي الترمذي وغيره لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر ومع هذا فالصديق اكمل منه فان الصديق كمل في تصديقه للنبي فلا يتلقى الا عن النبي والنبي معصوم والمحدث كعمر يأخذ احيانا عن قلبه ما يلهمه ويحدث به لكن قلبه ليس معصوما فعليه ان يعرض ما القي عليه على ما جاء به الرسول فان وافقه قبله وان خالفه رده ولهذا قد رجع عمر عن اشياء وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه فاذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع اليها وترك ما راه والصديق انما يتلقى عن الرسول لا عن قلبه فهو اكمل من المحدث وليس بعد ابي بكر صديق افضل منه ولا بعد عمر محدث افضل منه كون معيار الولايات عند العارفين هو لزوم الكتاب والسنة ولهذا كان الشيوخ العارفون المستقيمون من مشايخ التصوف وغيرهم يأمرون اهل القلوب ارباب الزهد والعبادة والمعرفة والمكاشفة بلزوم الكتاب والسنة قال الجنيد بن محمد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرا القران ويكتب الحديث لا يصلح له ان يتكلم بعلمنا وقال الشيخ ابو سليمان الداراني انه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا اقبلها الا بشاهدين الكتاب والسنة وقال ايضا ليس لمن الهم شيئا من الخير ان يفعله حتى يسمع فيه بأثر وقال ابو عثمان النيسابوري من امر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن امر الهوى على نفسه نطق بالبدعة فان الله يقول وان تطيعوه تهتدوا النور وقال اخر من لم يتهم خواطره في كل حال فلا تعده في ديوان الرجال وقيل لابي يزيد البسطامي قد قدم شيخ من اصحابك فذهب ليزوره فراه قد بصق في القبلة فقال ارجعوا بنا هذا رجل لم يأتمنه الله على ادب من اداب الشريعة فكيف يأتمنه على سره وهذا الذي فعله ابو يزيد يستدل عليه بما في السنن سنن ابي داود وغيره ان رجلا كان اماما في مسجد من مساجد الانصار فان كل قبيلة كان لها مسجد فجاء النبي ﷺ - فراى بصاقا في القبلة فقال من فعل هذا فذكرا الامام فنهاهم ان يصلوا خلفه فلما جاء ليؤمهم منعوه وقالوا ان رسول الله ﷺ - نهانا ان نصلي خلفك فجاء اليه فذكر ذلك له فقال صدقوا انك آذيت الله ورسوله وقال غير واحد من الشيوخ والعلماء لو رايتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الامر والنهي ومثل هذا كثير في كلام المشائخ والعارفين وائمة الهدى وافضل اولياء الله عندهم اكملهم متابعة للانبياء ولهذا كان الصديق افضل الاولياء بعد النبين فما طلعت شمس ولا غربت على احد بعد النبيين والمرسلين افضل من ابي بكر لكمال متابعته وهم كلهم متفقون على انه لا طريق للعباد الى الله الا باتباع الواسطة الذي بينهم وبين الله وهو الرسول ولكن دخل في طريقهم اقوام ببدع وفسوق والحاد وهؤلاء مذمومون عند الله وعند رسوله وعند اوليا الله المتقين وهم صالحوا عباده مثل من يظن ان لبعض الاولياء طريقا الى الله بدون اتباع الرسول او يظن ان من الاولياء من يكون مثل النبي او افضل منه او انه يكون من هو خاتم الاولياء افضل من السابقين الاولين او اعلم بالله من خاتم الانبياء وامثال هذه المقالات التي تقولها من دخل فيهم من الملاحدة الضالين ومن هذا الوجه صار قوم متصوفون يتفلسفون وتكلم ابن سينا في اشاراته على مقامات العارفين وقال الرازي في شرحه هذا الباب اجل ما في الكتاب فانه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه اليه من قبله ولا يلحقه من بعده وهذا الذي قاله الرازي قاله بحسب معرفته فانه لم يكن عارفا بطريق الصوفية العارفين المتبعين للكتاب والسنة ولعله قد راى من صوفية وقته وفيه من الجهالات والضلالات ما راى ان هذا الكلام احسن ما يرتب عليه طريقهم وقد ذكر في مقامات العارفين امر النبوة التي يثبتونها الفناء المذموم والفناء المحمود وآخر ما انتهى إليه العارفون في تسليكه هو الفناء عما سوى الحق الذي أثبته والبقاء به وهذا لو كان سالكه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر ويفعل ما امر الله به وينتهي عما نهى الله عنه فيسلك سلوك اتباع الرسل لكانت هذه الغاية سلوكا ناقصا عند ائمة العارفين فان الفناء الذي اثبته انما هو الفناء عن شهود السوي وكذلك من اتبعه مثل ابن الطفيل المغربي صاحب رسالة حي بن يقظان وامثاله وهذا فناء عن ذكر السوى وشهوده وخطوره بالقلب وهذا حال ناقص يعرض لبعض السالكين ليس هو الغاية ولا شرطا في الغاية بل الغاية الفناء عن عبادة السوي وهو حال ابراهيم ومحمد الخليلين ﷺ - فانه قد ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ - من غير وجه انه قال ان الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا وحقيقة هذا الفناء هو تحقيق الحنيفية وهو اخلاص الدين لله وهو ان يغني يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه والبغض فيه فلا يكون لمخلوق من المخلوقين لا لنفسه ولا لغير نفسه على قلبه شركة مع الله تعالى ولهذا امر ابراهيم الخليل بذبح ابنه فانه كان قد سأل الله ان يهبه اياه ولم يكن له ابن غيره فان الذبيح هو اسمعيل على اصح القولين للعلماء وقول اكثرهم كما دل عليه الكتاب والسنة فقال الخليل رب هب لي من الصلحين الصافات قال الله فبشرنه بغلم حليم الصافات والغلام الحليم اسماعيل واما اسحاق فقال فيه فبشرنه بغلام عليم واسحاق بشرت به سارة ايضا لما غارت من هاجر والله ذكر قصته بعد قصة الذببح فانه لما ذكر قصة الذببح قال بعدها وبشرناه باسحق نبيا من الصلحين والمقصود هنا أن الله امر الخليل بذبح ابنه بكره امتحانا له وابتلاء ليخرج من قلبه محبة ما سوى الله ليتم كونه خليلا بذلك فهذا هو الكمال واما مجرد شهوده الحق من غير فعل ما يحبه ويرضاه فهذا ليس بايمان ينجي من عذاب الله فضلا عن ان يكون هذا غاية العارفين ثم الذي لا يشهد السوي مطلقا ان شهده عين السوي فهذا قول الملاحدة القائلين بوحدة الوجود وان كان ذلك لغيبته واعراضه عن شهود السوي فمن شهد ما سواه مخلوقا له اية له وشهد ما فيه من اياته كان اكمل ممن لم يشهد هذا وهؤلاء قد يبلغ بهم الامر الى ان يروا ان شهود الذات مجردة عين الصفات هو اعلى مقامات الشهود وهذا من جهلهم فان الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج وليس ذاك رب العالمين ولكن هم في انفسهم جردوها عن الصفات وشهدوا مجرد الذات كما يشهد الانسان تارة علم الرب وتارة قدرته فهؤلاء شهدوا مجرد ذات مجردة فهذا في غاية النقص في معرفة الله والايمان به فكيف يكون هذا غاية ومنهم من ينظر هذا شرطا في السلوك وليس كذلك بل السابقون الاولون اكمل الناس ولم يكن مثل هذا يخطر بقلوبهم ولو ذكره احد عندهم لذموه وعابوه الفرق بين شهود الخلق وشهود الشرع ومن جعل من الصوفية هذا الفناء غاية وقال انه يفني عن شهود فعل الرب حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة فهذا غلط عند ائمة القوم واصحاب هذا الفناء يسمون هذا اصطلاما ومحوا وجمعا وكان الجنيد رضي الله عنه لما راى طائفة من اصحابه وصلوا الى هذا امرهم بالفرق الثاني وهو ان يفرقوا بين المأمور والمحظور وما يحبه الله وما يسخطه حتى يحبوا ما احب ويبغضوا ما ابغض والا فاذا شهدوا خلقه لكل شيء ولم يشهدوا الا هذا الجمع استوت الاشياء كلها في شهودهم لشمول الخلق والمشيئة والقدرة لكل شيء وهذا شهود لقدره لا لشرعه ودينه فلم يبق في قلوبهم حب لما يحبه وبغض لما يبغضه وموالاة لما يواليه ومعاداة لما يعاديه وكانوا ممن انكر عليهم سبحانه بقوله ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصلحت كالمفسدين في الارض ام نجعل المتقين كالفجار وقال فيهم ام حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصلحت سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون الجاثية وقال افنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون القلم ونفس ولاية الله مخالفة لعداوته واصل الولاية والعداوة الحب والبغض فأولياء الله هم الذين يحبون ما احب ويبغضون ما ابغض واعداؤه الذين ما يحب ويحبون ما يبغض وقد قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم او ابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه المجادلة وقال تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم المائدة وقال ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم (آل عمران) فمن لم يشهد بقلبه الا خلقه الشامل ومشيئته العامة وربوبيته الشاملة لكل شيء لم يفرق بين وليه وعدوه ولم تتميز عنده الفرائض والنوافل وغيرها وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابي هريرة عن النبي ﷺ - قال يقول الله من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب الى عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب الى بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لاعطينه ولئن استعاذني لاعذته وما ترددت عن شيء انا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولا بد له منه فالناظر الى القدر لا يفرق بين مأمور ومحذور سواء كان فرضا او نفلا وهو مع هذا لا بد لنفسه ان تميل الى شيء وتنفر عن شيء فان خلو الحي عن الارادة مطلقا محال فان لم يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه احب ما تحبه نفسه وابغض ما تبغضه نفسه فيخرج عن الفرق الالهي النبوي الذي هو حقيقة قول لا اله الا الله وحقيقة دين الاسلام الى الفرق النفساني الشيطاني ثم هؤلاء صاروا فرقا اما ابن سينا وامثاله من الملاحدة فانهم يأمرون بهذا مع سائر الحادهم من نفي الصفات وقدم الافلاك وانكار معاد الابدان وجعل النبوة تنال بالكسب كالذكاء والزهد وانما يفيض عليها فيض من العقل الفعال فيخرج من دين المسلمين واليهود والنصارى بل الفناء المحمود عند العارفين هو تحقيق شهادة ان لا اله الا الله فلا يشهد لمخلوق شيئا من الالهية فيشهد انه لا خالق غيره ويشهد انه لا يستحق العبادة غيره ويتحقق بحقيقة قوله اياك نعبد واياك نستعين الفاتحة وقوله فاعبده وتوكل عليه هود والا فاذا شهدت انه المستحق للعبادة مع رؤيتك نفسك لم تشهد حقيقة اياك نستعين واذا شهدت حقيقة انه الفاعل لكل شيء ولم تشهد انه المستحق للعبادة دون ما سواه وان عبادته انما تكون بطاعة رسوله لم تشهد حقيقة اياك نعبد واذا تحققت بقوله اياك نعبد واياك نستعين تحققت بالفناء في التوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه قال الله تعالى واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا اله الا هو فاتخذه وكيلا المزمل وقال تعال فاعبده وتوكل عليه هود وقال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق وقال تعالى قل هو ربي لا اله الا هو عليه توكلت واليه متاب الرعد ولهذا لما سلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما هذه الطريق الفاسدة اورثهم ذلك الفناء عن وجود السوي فجعلوا الموجود واحدا ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق وحقيقة الفناء عندهم ان لا يرى الا الحق وهو الرائي والمرئي والعابد والمعبود والذاكر والمذكور والناكح والمنكوح والامر الخالق هو الامر المخلوق وهو المتصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم وعباد الاصنام ما عبدوا غيره وما ثم موجود مغاير له البتة عندهم وهذا منتهي سلوك هؤلاء الملحدين فحقيقته قول فرعون لان فرعون كان في الباطن عالما بأن ما يقوله باطل وكان جاحدا مريدا للعلو والفساد ولهذا جحد وجود الصانع بالكلية واما هؤلاء فجهال ضلال يحسبون ان ما يقولونه هو حقيقة اثبات الرب وتعظيمه وهو في الحقيقة قول فرعون فان فرعون ما كان ينكر وجود هذا العالم ولا ينكر ان الموجودات تشترك في مسمى الوجود وانما كان ينكر ان لهذا الوجود خالقا مباينا له ولهذا امر ببناء ليكذب موسى بزعمه ان للعالم آلها فوقه قال تعالى وقال فرعون يهامن ابن لي صرحا لعلي ابلغ الاسباب أسباب السموات فأطلع الى اله موسى واني لا ظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء علمه وصد عن السبيل وما كيد فرعون الا في تباب الغافرة وقال تعالى وقال فرعون يأيها الملا ما علمت لكم من اله غيري فأوقد لي يهامن على الطين فاجعل لي صرحا لعلى اطلع الى اله موسى واني لا ظنه من الكذبين واستكبر هو وجنوده في الارض بغير الحق وظنوآ انهم الينا لا يرجعون فأخذنه وجنوده فنبذنهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلنهم ائمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين القصص واكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود يقولون ان فرعون اكمل من موسى وان فرعون صادق في قوله انا ربكم الاعلى لان الوجود فاضل ومفضول والفاضل يستحق ان يكون رب المفضول ومنهم من يقول مات مؤمنا وان تغريقه كان ليغتسل غسل الاسلام فانهم مع قولهم بأن الوجود واحد قد يقولون اما بقول بعضهم ان الثبوت غير الوجود وان ماهيات الممكنات ثابتة وان وجود الحق قاض عليها كما يقول ذلك ابن عربي وغيره واما ان يفرق بين المطلق والمعين كما يقوله صاحبه القونوي وابن سبعين قوله قريب من هذا وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وانما ذكروا هنا لان هؤلاء هم آخر مراتب فلاسفة الصوفية الذين يقولون انهم اهل التحقيق والعرفان وكل من سواهم عندهم ناقص بالنسبة اليهم وقد رايت من هؤلاء غير واحد وهم يرتبون الناس طبقات ادناها عندهم الفقيه ثم المتكلم ثم الفيلسوف ثم الصوفي أي صوفي الفلاسفة ثم المحقق ويجعلون ابن سينا وامثاله من الفلاسفة في الثانية وابا حامد وامثاله من الصوفية من العشرة ويجعلون المحقق هو الواحد ولهذا ذكر ابن عربي في الفتوحات له اربع عقائد الاول عقيدة ابي المعالي وامثاله مجردة عن الحجة ثم هذه العقيدة بحجتها ثم عقيدة الفلاسفة ثم عقيدة المحققين وذلك ان الفيلسوف يفرق بين الوجود والممكن والواجب وهؤلاء يقولون الوجود واحد والصوفي الذي يعظمه هؤلاء هو الصوفي الذي عظمه ابن سينا وبعده المحقق وهؤلاء ليسوا مسلمين ولا يهودا ولا نصارى بل كثير من المشركين احسن حالا منهم وهؤلاء ائمة النظار المتفلسفة وصوفيتهم وشيعتهم كان من اسباب تسلطهم وظهورهم هو بدع اهل البدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة ومن نحا نحوهم في بعض الاصول الفاسدة فان هؤلاء اشتركوا هم واولائك الملاحدة في اصول فاسدة يجعلونها قضايا عقلية صادقة وهي باطلة كاذبة مخالفة للشرع والعقل مقالات للفلاسفة لم يذهب اليها احد من طوائف المسلمين ثم أراد هؤلاء المتكلمون الرد عليهم في إلحادهم الظاهر الذي يظهر فيه فخالفتهم للمسلمين مثل القول بقدم العالم وانكار علم الله بالجزئيات والقول بانكار المعاد وهذه الثلاثة هي التي يكفرهم بها ابو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة وطائفة يقولون ان سائر اقوالهم الباطلة هي البدع التي ذهب اليها بعض اهل الكلام كانكار الصفات وليس الامر كما قاله هؤلاء بل مقالاتهم التي لم يذهب اليها احد من طوائف المسلمين لا اهل البدعة ولااهل السنة كثيرة مثل قولهم في النبوات والملائكة وكلام الله وقولهم في الشفاعة وانكار مشيئة الله وقدرته وليس هذا من لوازم القول بقدم العالم بل في القائلين بذلك من يقول ان الله يفعل بمشيئته وقدرته كأحد القولين الذين ذكرهما ابو البركات واختاره وكذلك ما يقولونه في الملائكة انها مجرد ما يتخيل في النفوس او انها العقول وان الواحد منها ابدع كل ما سواه وان العقل الفعال هو المدبر لكل ما تحت الفلك وان الوحي على الانبياء انما يجيء منه وانه منتهى معاد الانفس فانكارهم لقدرة الله ومشيئته اعظم من انكارهم لعلمه بالجزئيات فان كثير من الناس كان لا يعرف ذلك ولكن يعلم ان الله قادر خلق الاشياء بمشيئته كما في الصحيحين عن ابن معسود قال اجتمع عند البيت ثلثة نفر قرشيان وثقفى او ثقفيان وقرشى كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم أترون الله يسمع ما نقول فقال الثاني يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا فقال الثالث إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا اخفينا فأنزل الله وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولآ ابصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخسرين فصلت وهؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والارض بمشيئته وقدرته وكذلك كان بعض أحداث من المسلمين قد يجهل هذه المسئلة فيقول يا رسول الله مهما يكتم الناس يعلمه الله فيقول له النبي ﷺ - نعم ولم يكن هؤلاء يجهلون أن الله خلق كل شئ بمشيئته وقدرته بل كان هذا من أظهر الأمور وأعرفها عند عامة المسلمين بل وعامة المشركين الذين كانوا يعبدون الاصنام وهم كفار وهم مشركون وهم الذين قاتلهم النبي ﷺ - وهم اول من يتناوله ذم القرآن للمشركين ومع هذا فكانوا مقرين بأن الله خلق السموات والارض وما بينهما وخلق كل شئ بقدرته ومشيئته فكانوا احسن حالا من هؤلاء الفلاسفة في الاقرار بأن الله خالق كل شئ وربه ومليكه وانه خلق الاشياء بمشيئة وقدرته فان هؤلاء حقيقة قولهم أنه لم يخلق شيئا ومتقدموهم كأرسطو وأتباعه على انه علة يتحرك الفلك للتشبه بها فليس هو عندهم لا موجبا بالذات ولا فاعلا بالمشيئة وأما ابن سينا وأمثاله ممن يقول إنه موجب بذاته فهم يقولون ما يعلم جماهير العقلاء أنه مخالف لضرورة العقل إذ يثبتون مفعولا ممكنا يمكن وجوده ويمكن عدمه وهو مع هذا قديم أزلى لم يزل ولا يزال وهو مفعول معلول لعلة فاعلة لم يزل مقارنا لها في الزمان فكل من هذين القولين مما خالفوا فيه جماهير العقلاء من الاولين والاخرين حتى سلفهم كأرسطو ونحوه فانهم لم يقولوا بهذا ولا بهذا بل أولئك يقولون إن الفلك قديم أزلى بنفسه ليس له مبدع ولكن يتحرك للتشبه بالعلة الاولى فهو مفتقر إليها من هذه الجهة لا من جهة أنها مبدعة له وحقيقة قوله أنها شرط في وجود العالم مع وجوبه بنفسه فيجعلون الواجب بنفسه مفتقرا الى غيره وهذا مما ينكره متأخروهم كابن سينا وامثاله وكذلك القائلون بالعلة الموجبة كابن سينا وابن رشد والسهروردى وغيرهم حقيقة قولهم أنه شرط في وجود الممكنات لا مبدع لها ولا فاعل فانهم لا يثبتون للحوادث محدثا اصلا في نفس الامر إذ الفلك عندهم ممكن له مبدع وهو متحرك باختياره كما يتحرك الانسان باختياره وله نفس فلكية كما للانسان نفس وليس عندهم فوقه شئ يحدث عنه شئ وإن قالوا إنه معلول فقولهم في الفلك أقبح من قول القدرية في أفعال الحيوان فان القدرية يقولون إن الله خلق الحيوان بقدرته ومشيئته فجعل له قدرة تصلح للضدين فهو يحدث إرادته وأفعاله بقدرته ومشيئته وهؤلاء لا يجعلون الفلك مخلوقا في الحقيقة وإن قالوا هو معلول ولو جعلوه مخلوقا فعندهم هو متحرك حركة إختيارية نفسانية بمشيئة وقوة فيه وليس فوقه شئ يحدث هذه الحركة ولا يفعلها وإنما الفلك متحرك للتشبه بالاول لاستخراج أيونه وأوضاعه إذ هى غاية كماله وإن قالوا إن حركته تصدر عن الاول فكلام لا حقيقة له فانهم وكل عاقل يعلم أن الشئ البسيط الذي هو على حال واحدة أزلا وأبدا لا يحدث عنه شئ فضلا عن حوادث مختلفة ويعلمون أن المتغيرات لا تصدر عن بسيط ألبتة وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على ان الكفر الذي يوجد فيهم قولا وفعلا أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين هم أول من بعث إليه النبي ﷺ - ونزل فيه القرآن بكفره واستحقاقه النار الشفاعة الشركية المنفية والشفاعة الشرعية الثابتة ومن ذلك ان أولئك المشركين كانوا يجعلون ما يشركون به شفعاء يشفعون لهم الى الله والله يقبل شفاعتهم وهو سؤالهم ودعاؤهم بقدرته ومشيئته كما ذكر الله ذلك في مواضع من كتابه فقال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعآؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض يونس ولهذا نفى الله شفاعة احد إلا باذنه في غير موضع من القرآن بقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه (البقرة) وقوله وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع (الأنعام) وقال وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل اى تحبس وتحبس وتؤخذ وترتهن نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين ابسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (الأنعام) وقال الله الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة ايام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع افلا تتذكرون السجدة وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحنه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظلمين الانبياء وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له سباء وقال تعالى وكم من ملك في السموات لا تغنى شفعتهم شيئا إلا من بعد أن بأذن الله لمن يشاء ويرضى النجم فهذه الشفاعة التي نفاها القرآن تتضمن نفى ما كان يقوله مشركوا العرب وأمثالهم من المشركين وهى من جنس شرك النصارى ونحوهم من الضلال المنتسبين إلى الاسلام حيث يعتقدون في الملائكة او الانبياء أو الشيوخ انهم شفعاء لهم عند الله كما يشفع الشفعاء الى ملوك الدنيا ويضربون لله مثلا فيقولون من أراد أن يتقرب الى ملك عظيم فلا ينبغى له ان يأتيى اليه اولا بل يتقرب الى خاصته وهم يرفعون حوائجه ويقربونه اليه قال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى الزمر أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى ذكر سبحانه هذا بعد قوله تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا انزلنا اليك الكتب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كذب كفار الزمر وقال في هذه السورة أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهدي الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن ارادني الله بضر هل هن كشفت ضرة أو أرادنى برحمة هل هن ممسكت رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون الزمر وقال فيها قل إنى امرت أن اعبد الله مخلصا له الدين وامرت لان اكون اول المسلمين الزمر وقال فيها قل أفغير الله تأمرونى أعبد ايها الجهلون ولقد اوحى اليك وإلى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخسرين بل الله فاعبدوكن من الشكرين الزمر تفسير قوله تعالى اولئك الذين يدعون يبتغون الاية وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا الاسراء روى ابن ابي حاتم وغيره بأسانيد ثابتة عن شعبة عن السدي سمع ابا صالح عن ابن عباس في قول الله أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة هو عيسى وامه وعزير والملائكة وكذلك في تفسير عطية عن ابن عباس قال كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا وعن اسرائيل عن السدي عن ابي صالح عيسى وعزير والملائكة وكذلك في تفسير أسباط عن السدي قال ذكروا انهم اتخذوا الالهة وهو حين عبدوا الملائكة والمسيح وعزيرا قال الله أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن مسعود قال كان ناس من الانس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك الاخرون بعبادتهم فنزلت أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ايهم اقرب ويرجون رحمته الى اخر الاية وكذلك روى ابن ابي حاتم وغيره إن ابن شوذب عن مطر الوراق قال انزلها الله في حى من العرب كانوا يعبدون حيا من الجن وفي تفسير مقاتل إن المشركين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هى تشفع لنا عند الله فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين قيل لهم ادعوا الذين زعمتم والاية تتناول كل من دعى غير الله وذلك المدعو يبتغى الى الله الوسيلة اى القربى والزلفى ويرجو رحمة الله ويخاف عذابه وهذا يدخل فيه الملائكة والانبياء والصالحون الانس والجن وقد قرأ طائفة اولئك الذين تدعون فبين ان الذين يدعونهم المشركون هم يتقربون الى الله ويرجونه ويخافونه فكيف يجوز دعاؤهم وهذا كقوله أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دونى اولياء الكهف حصر اقسام المدعوين من دون الله ونفى كل واحد منهم وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له سبأ فذكر سبحانه الاقسام الممكنة فان المشرك الذي يدعو غير الله ويرجوه ويخافه إما أن يجعله مالكا أو شريكا أو ظهيرا أو شفيعا وهكذا كل من طلب منه امر من الامور إما أن يكون مالكا مستقلا به وإما أن يكون شريكا فيه وإما أن يكون عونا وظهيرا لرب الامر وإما أن يكون سائلا محضا وشافعا الى رب الامر فاذا انتفت هذه الوجوه امتنعت الاستغاثة به ولهذا كان الناس بعضهم مع بعض من الملوك وغيرهم فيما يتسأءلونه لا يخرجون عن هذه الاقسام إما إن يكون لكل منهما ملك متميز عن الاخر فيطلب من هذا ما في ملكه ومن هذا ما في ملكه وإما أن يكون أحدهما شريكا للاخر فيطلب منه ما يطلب من الشريك وإما ان يكون أحدهما من أعوان الاخر وانصاره وظهرانه كأعوان الملوك فهو محتاج اليهم فيطلب منهم ما يحتاج اليه وإذا انتفت هذه الوجوده لم يبق إلا مجرد طلب محض وسؤال من غير حاجة بالمسئول الى السائل الشافع والمشركون بالله كل منهم في نوع من هذه الانواع منهم من اثبت فاعلا مستقلا غير الله لكن لم يثبتوه مماثلا له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في افعاله وهذا كالمجوس الذين أثبتوا قديما شريرا يستقل بفعل الشر وكذلك القائلون منهم انه خلق الشر والقدرية من جميع الامم أثبتوا غير الله يحدث أشياء ينفرد باحداثها دون الله وإن كان الله خالقا له ولهذا قال السلف القدرية مجوس هذه الامة والقائلون بقدم العالم كلهم لا بد لهم من إثبات غير الله فاعلا اما ارسطو وأتباعه فان الفلك عندهم بحركته هو المحدث للحركات وما يتولد عنها ثم من أثبت له شريكا من العقول والنفوس جعله مستقلا باحداث شئ وذاك مستقلا باحداث شئ ومن قال منهم بالعلة المشبهة بها ومن قال بالموجب بالذات فان الطائفتين لا يثبتون في الحقيقة ان الله احدث شيئا ولا خلقه والله سبحانه نفى ان يكون لغير ملك أو شرك في الملك او يكون له ظهير فانه سبحانه هو وحده خالق كل شئ وربه ومليكه وهذا هو مذهب اهل السنة المثبتين للقدر القائلين بأن الله خالق كل شئ بمشيئته وقدرته لكن السلف والائمة وأتباعهم يثبتون قدره العبد وفعله ويثبتون الحكمة والاسباب وجهم ومن اتبعه من اهل الكلام ينفون ذلك كله كما قد بسط في موضعه تفسير قوله تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم الاية ولم يثبت سبحانه إلا الشفاعة لكن اثبت شفاعة مفيدة ليست هي الشفاعة التي يظنها المشركون فقال تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير سبا وقد جاءت الاحاديث الصحيحة والاثار عن الصحابة والتابعين تخبر بما يوافق تفسيرهذه الاية من حال الملائكة مع الله كما وصفهم تعالى في الاية الاخرى فقال بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ففي الحديث الصحيح الذي رواه احمد والبخاري وغيرهما عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابي هريرة يبلغ به النبي ﷺ - قال ان الله اذا قضى الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فاذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير فيسمعها مسترقو السمع وهم هكذا ووصف سفيان بيده فأقامها منحرفة فربما ادرك الشهاب المسترق قبل ان يرمى بها الى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه فيرمى بها الى الذي يليه ثم يرمى بها الى الذي يليه الى الذي يليه ثم يلقيها الى الارض فتلقى على لسان الساحراو لسان الكاهن فيكذب عليها مائة كذبة فيقولون قد اخبر يوم كذا وكذا بكذا وكذا فوجدنا حقا للكلمة التي سمعت من السماء وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن الزهرى عن علي بن الحسين عن عبدالله بن عباس حدثني رجل من الانصار انهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله ﷺ - رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله ﷺ ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية قالوا كنا نقول ولد عظيم او مات عظيم قال فانه لا يرمى بها لموت احد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى امرا سبحه حمله العرش ثم سبحه اهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح اهل السماء الدنيا ثم يقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير فيقولون كذا وكذا فيخبر اهل السموات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر اهل السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيلقونه الى أوليائهم فيلقون الى اوليائهم فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو الحق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون وكذلك في الحديث الاخر المعروف من رواية نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن ابي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان قال قال رسول الله ﷺ - إذا اراد الله ان يوحى بأمره تكلم بالوحي فاذا تكلم اخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة من خوف الله فاذا سمع بذلك اهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون اول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما اراد فيمضي به جبريل على الملئكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ما ذا قال ربنا يا جبريل فيقول قال الحق وهو العلى الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهى جبريل بالوحى إلى حيث امره الله من السماء والارض وقد رواه ابن ابي حاتم والطبري وغيرهما وقوله فزع عن قلوبهم أي ازال عنها الفزع وكذلك قال غير واحد من السلف جلى عن قلوبهم وهذا كما يقال قرد البعير إذا ازال عنه القراد ويقال تحرج وتحوب وتأثم وتحنث إذا أزال عنه الحرج والحوب والاثم والحنث وروى ابن أبي حاتم ثنا الحسن بن محمد الواسطي ثنا يزيد بن هارون عن شريك عن يزيد بن ابي زياد عن مقسم عن ابن عباس في قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم قال كان إذا نزل الوحي كان صوته كوقع الحديد على الصفوان قال فيصعق اهل السماء حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالت الرسل الحق وهو العلى الكبير وقال عن الحادث الدمشقي ثنا أبى عن عن جعفر بن ابي المغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قال تنزل الامر الى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع اهل السموات فيقولون ما ذا قال ربكم ثم يرجعون الى انفسهم فيقولون الحق وهو العلى الكبير ويروى من تفسير عطية عن ابن عباس حتى إذا فزع عن قلوبهم الاية قال لما اوحى الله الى محمد دعا الرسول من الملئكة ليبعثه بالوحي سمعت الملئكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا ان الله لا يقول إلا حقا وانه منجزة قال ابن عباس وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا فلما سمعوه خروا سجدا فلما رفعوا رؤسهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير وباسناده من تفسير قتادة رواية عبد الرزاق عن معمر عنه حتى إذا فزع عن قلوبهم قال لما كانت الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد ﷺ - فنزل الوحى مثل صوت الحديد فأفزع الملئكة ذلك فقال الله حتى إذا فزع الملائكة والنبيين اربابا فهو كافر مع ان المشركين إنما كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بهم الى الله زلفى فاذا كان هؤلاء الذين دعوا مخلوقا ليشفع لهم عند الله كما يشفع المخلوق عند المخلوق فيسأله ويرغب اليه بلا إذنه وقد جعلهم الله مشركين كفارا مأواهم جهنم فكيف بشرك هؤلاء الفلاسفة وما يثبتونه من الشفاعة فانهم يجوزون دعاء الجواهر العلوية الشمس والقمر والكواكب وكذلك الارواح التي يسمونها العقول والنفوس ويسميها من انتسب الى اهل الملل الملائكة وهؤلاء المشركون قد تنزل عليهم أرواح تقضى بعض مطالبهم وتخبرهم ببعض الامور وهم لا يميزون بين الملائكة والجن بل قد يسمون الجميع ملائكة وارواحا ويقولون روحانية الشمس روحانية عطارد روحانية الزهرة وهى الشيطان والشيطانة التي تضل من اشرك بها كما ان لنفس الاصنام وهي التماثيل المصنوعة على اسم الوثن من الانبياء والصالحين او على اسم كوكب من الكواكب أو روح من الارواح والاصنام ايضا لها شياطين تدخل فيها وتكلم أحيانا بعض المشركين وقد تترايا احيانا فيراها بعض الناس من السدنة وغيرهم فالمشركون من الفلاسفة القائلين بقدم العالم هم اعظم شركا وما يدعونه من الشفاعة لالهتم أعظم كفرا من مشركى العرب فانهم لا يقولون إن الشفيع يسأل الله والله يجيب دعوته كما يقوله المشركون الذين يقولون إن الله خالق بقدرته ومشيئته فان هؤلاء عندهم انه لا يعلم الجزئيات ولا يحدث شيئا بمشيئته وقدرته وإنما العالم فاض عنه فيقولون إذا توجه الداعى الى من يدعوه كتوجه الى الموتى عند قبورهم وغير قفبورهم وتوجهه الى الارواح العالية فانه يفيض عليهم ما يفيض من ذلك المعظم الذي دعاه واستغاث به وخضع له من غير فعل من ذلك الشفيع ولا سؤال منه لله تعالى كما يفيض شعاع الشمس على ما يقابلها من الاجسام الصقيلة كالمرآة وغيرها ثم ينعكس الشعاع من ذلك الجسم الصقيل الى حائط أو ما ء وهذا قد ذكره غير واحد من هؤلاء كابن سينا ومن اتبعه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره وهؤلاء يزورون القبور الزيارة المنهى عنه بهذا القصد فان الزيارة الشرعية مقصودها مثل مقصود الصلوة على الجنازة يقصد بها السلام على الميت والدعاء له بالمغفرة والرحمة وأما الزيارة المبتدعة التي هى من جنس زيادة المشركين فمقصودهم بها طلب الحوائج من الميت أو الغائب إما ان يطلب الحاجة منه او يطلب منه ان يطلبها من الله وإما ان يقسم على الله به ثم كثير من هؤلاء يقول إن ذلك المدعو يطلب تلك الحاجة من الله او أن الله يقضيها بمشيئته واختياره للاقسام على الله بهذا المخلوق وأما أولئك الفلاسفة فيقولون بل نفس التوجه الى هذه الروح يوجب ان يفيض منها على المتوجه ما يفيض كما يفيض الشعاع من الشمس من غير ان تقصد هى قضاء حاجة احد ومن غير ان يكون الله يعلم بشئ من ذلك على اصلهم الفاسد فتبين ان شرك هؤلاء وكفرهم اعظم من شرك مشركى العرب وكفرهم وأن اتخاذ هؤلاء الشفعاء الذين يشركون بهم من دون الله اعظم كفرا من اتخاذ اولئك ليس توسط البشر عند الحنفاء كتوسط العلويات عند الفلاسفة ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وانزل به كتبه وما ذمه من الشرك ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال كما ناظرهم الشهر ستانى في كتاب الملل و(النحل) لما ذكر فصلا في المناظرة بين الحنفاء وبين الصابئة المشركين فان الحنفاء يقولون بتوسط البشر وأولئك يقولون بتوسط العلويات فأخذ يبين أن القول بتوسط البشر أولى من القول بتوسط العلويات ومعلوم انه إذا اخذ التوسط على ما يعتقدونه في العلويات كان قولهم اظهر فكان رده عليهم ضعيفا لضعف العلم بحقيقة دين الاسلام، فان الحنفاء ليس فيهم من يقول باثبات البشر وسائط في الخلق والتدبير والرزق والاحياء والاماتة وسماع الدعاء وإجابة الداعي بل الرسل كلهم وأتباع الرسل متفقون على انه لا يعبد إلا الله وحده فهو الذي يسأل ويعبد وله يصلى ويسجد وهو الذي يجيب دعاء المضطرين ويكشف الضر عن المضرورين ويغيث عباده المستغيثين ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده الفاطر وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فاليه تجئرون (النحل) وليس عند الحنفاء ان احدا غير الله يستقل بفعل شئ بل غايته أن يكون سببا والاثر لا يحصل إلا به وبغيره من الاسباب وبصرف الموانع والله تعالى هو الذي يخلق بتأثير الاسباب وبدفع الموانع مع خلقه سبحانه ايضا لهذا السبب لكن المقصود انه ليس في الوجود ما يستقل باحداث شئ ولا ثم شئ يوجب كل اثر إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والرسل هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالاته وامره ونهيه ووعده ووعيده كما قال تعالى وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين (الأنعام) والكهف وقال إنا أرسلناك شهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا الاحزاب فاخبر انه ارسله شاهدا كما قال لكيون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس الحج وقال فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء وقال وكذلك جعلنكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة) ولما دفن النبي ﷺ شهداء احد قال اما انا فشهيد على هؤلاء وقوله مبشرا ونذيرا بالوعد والوعيد وداعيا الى الله باذنه بالامر والنهى وقال تعالى وسئل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن الهه يعبدون الزخرف وقال ولقد بعثنا في كل امة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضللة (النحل) وقال تعالى ومأ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه انه لا اله إلا انا فاعبدون الانبياء وقد اخبر الله عن اول الرسل نوح عليه السلام ومن بعده من الرسل انهم قالوا لقومهم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره (الأعراف) وقال نوح ولا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول غنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله اعلم بما في انفسهم إنى إذا لمن الظالمين هود وكذلك قال لخاتم الرسل قل لا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى الى (الأنعام) فتوسط البشر بالرسالة مثل توسط الملك بالرسالة كما قال تعالى الله يصطفى من الملئكة رسلا ومن الناس الحج وقال تعالى إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم امين التكوير فهذا جبريل ثم قال وما صاحبكم بمجنون التكوير وقوله وما صاحبكم كقوله في الاية الاخرى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى النجم استطراد: الحكمة في إرسال الرسول البشري الى البشر دون الملكى فقوله صاحبكم تنبيه على نعمته على البشر واحسانه اليهم إذ بعث اليهم من يصحبهم ويصحبونه بشرا مثلهم فانهم لا يطيقون الاخذ عن الملك كما قال تعالى وقالوا لولا انزل عليه ملك ولوانزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (الأنعام) وروى ابن ابي حاتم عن ابي زرعة عن منجاب بن الحرث عن بشر بن عمارة عن ابي روق عن الضحاك عن ابن عباس ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر لأهلكناهم ثم لا ينظرون لا يؤخرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا يقول لو اتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لانهم لا يستطيعون النظر الى الملئكة وكذلك قال غيره من المفسرين وللبسنا عليهم قالوا لخلطنا ولشبهنا عليهم ما يخلطون ويشبهون على انفسهم حتى يشكوا فلا يدروا املك هو او ادمى فبين سبحانه انه لو أنزل ملكا لم يمكنهم ان يروه إلا في صورة بشر كما كان جبريل يأتى النبي ﷺ - إذا رآه الناس في صورة دحية الكلبى او في صورة اعرابي لما اتاه وسأله عن الاسلام والايمان والاحسان وكذلك لما اتوا إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقم لوط لم يأتوا إلا في صورة رجال وكذلك لما اتى جبريل مريم علهيا السلام لينفخ فيها اتاها في صورة رجل قال تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلما زكيا مريم وإذا كانوا لا يستطيعون ان يروا الملك إلا في صورة رجل فلو جاءهم لقالوا هذا بشر ليس بملك واشتبه الامر واختلط والتبس الامر عليهم فلم تكن هذه شبهة تنقطع بانزال ملك وهذا كما قال في السورة الاخرى ويسئلونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ولئن شئنا لنذهبن بالذي اوحينا اليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى اكثر الناس إلا كفورا الى قوله وما منع الناس ان يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الارض ملئكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا الاسراء وايضا في قوله صاحبكم بيان انه عربي بعث بلسانهم كما قال ومآ ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ابراهيم وقد قال تعالى لقد جآءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم التوبة قيل المراد من انفس العرب فالخطاب لهم وقيل من انفس بني ادم فهو بشر لا ملك ولا جني لان الخطاب لجميع الخلق الذين ارسل اليهم لا سيما وهذه في سورة براءة وهي من اخر القران نزولا وقيل ان هذه الاية اخر ما نزل وقد نزلت بعد دعوة الروم والفرس والقبط وهو بالمؤمنين من هؤلاء كلهم رؤف رحيم ولا ريب انه ﷺ من الانس ومن العرب افضل الانس ومن قريش افضل العرب ومن بني هاشم افضل قريش والانفس يراد بهم جنس الانسان كما قال تعالى لولآ اذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنت بأنفسهم خيرا النور فقوله صاحبكم مثل قوله من انفسكم ومثل قوله اكان للناس عجبا ان اوحينآ الى رجل منهم ان انذر الناس يونس وقوله سبحاني ربي هل كنت الا بشرا رسولا الاسراء لم يقصد بهذا اللفظ تفضيل الملك عليه كما توهمه بعض الناس كما ان قوله ان اوحينا الى رجل منهم وقوله سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا لم يقصد به ان غيره افضل منه استطراد آخر: كون الرسول مبلغا للقرآن عن الله لا محدثا له وقال سبحانه وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطن رجيم التكوير فالرسول هنا هو الرسول الملكي جبريل وقال في السورة الاخرى انه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من احد عنه حجزين الحاقة فالرسول هنا محمد ﷺ وأضافه الى هذا الرسول تارة والى هذا تارة لان كلا من الرسولين بلغه واداه ولفظ الرسول يتضمن مرسلا ارسله فكان في اللفظ ما يبين ان الرسول مبلغ له عن غيره لا ان الرسول احدث شيئا منه كما توهمه بعض الناس وظن ان اضافته الى رسول يقتضى انه هو الذي احدث القران العربي فانه قد اضافه الى هذا تارة والى هذا تارة فلو كان المراد الاحداث لتناقض الخبران ولانه اضافه اليه باسم رسول لم يقل انه لقول ملك ولا قول بشر بل قد كفر من قال انه قول البشر في قوله ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا الى قوله انه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم ادبر واستكبر فقال ان هذا الا سحر يؤثر ان هذا الا قول البشر ساصليه سقر المدثر والكلام الذي توعد بسقر من قال انه قول البشر هو الكلام الذي اضافه الى رسول من البشر تارة والى رسول من الملئكة تارة لان المراد هناك انه بلغه والذي كفره قال انه انشأه وانه كلام نفسه سواء كان المراد المعنى او اللفظ او كلاهما فان الذي لعنه الله هو الذي قال ان هذا الا قول البشر فمن قال ان هذا القران قول البشر فهو من جنس قوله من بعض الوجوه ولهذا قال تعالى وان احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه التوبة فأخبر ان ما يسمعه المستجير هو كلام الله والمستجير يسمعه بصوت القارىء والصوت صوت القارى والكلام كلام الباري كما قال النبي ﷺ - زينوا القران بأصواتكم وقال لله اشد اذنا الى الرجل الحسن الصوت بالقران من صاحب القينة الى قينته وكذلك ذكر في غير موضع ان الصوت المسموع من العبد هو صوت العبد كما قال تعالى يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض الحجرات وقال ان الذين يغضون اصواتهم عند رسول الله اولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى الحجرات وقال لقمن لابنه واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان انكر الاصوات لصوت الحمير لقمان وفي سنن ابي داود عن جابر ان النبي ﷺ - كان يقول في الموسم الا رجل يحملني الى قومه لابلغ كلام ربي فان قريشا قد منعوني ان ابلغ كلام ربي فرسل الله وسائط في تبليغ رسالاته كما قال تعالى يأيها الرسول بلغ مآ انزل اليك من ربك المائدة وقال تعالى الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربهم الجن وقال تعالى عن نوح ولكني رسول من رب العلمين ابلغكم رسلات ربي (الأعراف) وكذلك قال هود (الأعراف) وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ - انه قال بلغوا عني ولو اية وحدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوا مقعده من النار وفي السنن عن زيد بن ثابت وابن مسعود ان النبي ﷺ - قال نضر الله امرا سمع منا حديثا فبلغه الى من يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه الى من هو افقه منه وفي الصحيحين عن النبي ﷺ - انه قال في حجة الوداع ليبلغ الشاهد الغائب فرب من مبلغ اوعى من سامع والمقصود هنا ان الحنفاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له وهم مسلمون وجميع الانبياء واممهم كانوا مسلمين مؤمنين ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه (آل عمران) لان الدين عند الله الاسلام (آل عمران) في كل زمان ومكان وقد اخبر الله عن نوح وابراهيم واسرائيل وغيرهم الى الحواريين انهم كانوا مسلمين ونوح اول رسول بعث الى اهل الارض كما ثبت ذلك في الحديث المتفق على صحته حديث الشفاعة عن النبي ﷺ فمن جعل ما يثبته الحنفاء من توسط البشر او توسط الملئكة من جنس ما يثبته المشركون واخذ يفاضل بين البشر والملئكة لم يكن عارفا بدين الاسلام بل قول الحنفاء هو ما قاله الله تعالى في كتابه حيث قال ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربايين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم ان تتخذوا الملئكة والنبين اربابا ايأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون (آل عمران) فمن اتخذ هؤلاء او هؤلاء اربابا كما يقول من يجعلهم وسائط في العبادة والدعاء ونحو ذلك فهو كافر وصاحب الكتب المضنون بها قد جعل الملئكة والنبيين وسائط وجعل هذه شفاعتهم موافقة للفلاسفة كما تقدم من ان هذا القول شر من قول مشركي العرب وجاء بعده صاحب كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم فذكر فيه الشرك الصريح من عبادة الكواكب والجن والشياطين ودعواتها وبخورها وخواتيمها واصنامها التي تجعل لها على مذهب المشركين الكلدانيين والكشدانيين الذين بعث اليهم ابراهيم الخليل وبنى على ذلك القول بقدم العالم وان لا سبب لحدوث الحوادث الا مجرد حركة الفلك كما يقوله هؤلاء القائلون بقدم العالم الذين هم شر من مشركي العرب وكذلك ذكر في تفسير حديث المعراج ما هو مبني على اصول هؤلاء الذين هم اكفر الكفار كقوله ان الانبياء الذين رآهم النبي ﷺ - هم الكواكب فآدم القمر ويوسف الزهرة ونحو هذا الهذيان وان المعراج انما هو رؤية قلبه الوجود كما يذكر ابن عربي وغيره مثل هذا المعراج ويثبتون لانفسهم اسراء ومعراجا وهذه خيالات تلقيها الشياطين مناسبة لما يعتقدونه من الالحاد على عادة الشياطين في إضلال بني آدم فانما يضلونهم بما يقبلونه منهم وما يوافق اهواءهم والحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج11. فهرست تاريخ الطبري

  فهرست تاريخ الطبري    فهرست تاريخ الطبري فهرس رئيسي الزمان | بدء الخلق | خلق آدم | آدم في الأرض | نوح | قصة عيسى ومريم | ملوك الفرس |...