عليك رب الجبروت والقهر يا بلوجر بظلمك لي وحذفك لصفحات تدويني يا طالم وغبي .

فوضت أمري الي الله الجبار فيك يا بلوجر هو وحده اللي حيهدَّك باضطهادك لي وحذفك لصفحات مدوناتي ينتقم منك ربنا بظلمك لي يا أرعن يا مُحدث يا ظالم أنصحك أن تعرض نفسك علي طبيب نفسي حاذق ليخضعك لعلاج علة النقص والتعقيد التي أصابتك لا أدري من كم سنة ؟

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 5 فبراير 2024

ج1 وج2. تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك للطبري

 

ج1 وج2. تاريخ الطبري

ج1.   تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك للطبري 

  البداية الجزء الأول

   الحمد لله الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، والدائم بلا زوال، والقائم على كل شيء بغير انتقال، والخالقِ  خلقه من غير أصلٍ ولا مثال فهو الفردُ الواحد من غير عدد، وهو الباقي بعد كل أحد، إلى غير نهاية ولا أمد. له الكبرياءُ والعظمة، والبهاء والعزة، والسلطان والقدرة، تعالى عن أن يكون له شريك في سلطانه أو في وحدانيته نديد، أو في تدبيره مُعين أو ظهير، أو أن يكون له ولد، أو صاحبة أو كُفء أحد، لا تحيط به الأوهام، ولا تحويه الأقطار، ولا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير. أحمده على آلائه، وأشكره على نعمائه، حمد من أفرده بالحمد، وشكر من رجا بالشكر منه المزيد، وأستهديه من القول والعمل لما يقربني منه ويرضيه، وأومنُ به إيمانَ مخلص له التوحيد، ومفرد له التمجيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده النجيب، ورسوله الأمين، اصطفاه لرسالته، وابتعثه بوحيه، داعيًا خلقه إلى عبادته، فصدع بأمره، وجاهد في سبيله، ونصح لأمته، وعبده حتى أتاه اليقين من عنده، غير مقصر في بلاغ، ولا وانٍ في جهاد، صلى الله عليه أفضل صلاة وأزكاها، وسلّم. أما بعد، فإنّ الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، خلقّ خلقه من غير ضرورة كانت به إلى خلقهم، وأنشأهم من غير حاجة كانت به إلى إنشائهم، بل خلق من خصّه منهم بأمره ونهيه، وامتحنه بعبادته، ليعبدوه فيجود عليهم بنعمه، وليحمدوه على نعمه فيزيدهم من فضله ومننه، ويسبغ عليهم فضله وطوله، كما قال عز وجل: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريدُ منهم من رزق وما أريدُ أن يطعمونِ إنَّ الله هوَ الرزاقُ ذو القوةِ المتين ". فلم يزده خلقهُ إياهم - إذ خلقهم - في سلطانه على ما لم يزل قبل خلقه إياهم مثقالَ ذرة، ولا هو إن أفناهم وأعدمهم ينقصه إفناؤه إياهم ميزان شعرة، لأنه لا تغيره الأحوال، ولا يدخلُه الملال، ولا ينقصُ سلطانه الأيام والليال، لأنه خالق الدهور والأزمان، فعم جميعهم في العاجل فضله وجودهُ، وشملهم كرمه وطوله فجعل لهم أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، وخصهم بعقول يصلون بها إلى التمييز بين الحق والباطل، ويعرفون بها المنافع والمضار، وجعل لهم الأرض بساطًا ليسلكوا منها سبُلًا فجاجًا، والسماء سقفًا محفوظًا وبناء مسموكًا، وأنزل لهم منها الغيث بالإدرار، والأرزاق بالمقدار، وأجرى لهم فيها قمر الليل وشمس النهار يتعاقبان بمصالحهم دائبين، فجعل لهم الليل لباسًا، والنهار معاشًا، وخالف - منًّا منه عليهم وتطولًا - بين قمر الليل وشمس النهار، فمحا آية الليل وجعل أية النهار مبصرةً، كما قال جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا أية الليلِ وجعلنا أية النهار مبصرةً لتبتغوا فضلًا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناهُ تفصيلًا ". وليصلوا بذلك إلى العلم بأوقات فروضهم التي فرضها عليهم في ساعات الليل والنهار والشهور والسنين، من الصلوات والزكوات والحج والصيام وغير ذلك من فروضهم، وحين حل ديونهم وحقوقهم، كما قال عز وجل: " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج "، وقال: " هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدرهُ منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلقَ الله ذلك إلا بالحق يفصلُ الآياتِ لقومٍ يعلمونَ. إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقونَ ". إنعامًا منه بكل ذلك على خلقه، وتفضلًا منه به عليهم وتطولا، فشكره على نعمه التي أنعمها عليهم من خلقه خلق عظيم، فزاد كثيرًا منهم من آلائه وأياديه، على ما ابتدأهم به من فضله وطوله، كما وعدهم جل جلاله بقوله: " وإذا تأذنَ ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنِّ عذابي لشديدٌ "، وجمع لهم إلى الزيادة التي زادهم في عاجل دنياهم، الفوز بالنعيم المقيم، والخلود في جنات النعيم، في آجل آخرتهم. وأخر لكثير منهم الزيادة التي وعدهم فمدهم إلى حين مصيرهم إليه. ووقت قدومهم عليه، توفيرًا منه كرامته عليهم يوم تبلى السرائر. وكفر نعمه خلق منهم عظيم، فجحدوا آلاءه وعبدوا سواه، فسلب كثرًا منهم ما ابتدأهم به من الفضل والإحسان، وأحل بهم النقمة المهلكة في العاجل، وذخر لهم العقوبة المخزية في الآجل، ومتع كثيرًا منهم بنعمه أيام حياتهم استدراجًا منه لهم، وتوقيرًا منه عليهم أو زارهم، ليستحقوا من عقوبته في الآجل ما قد أعد لهم. نعوذ بالله من عمل يقرب من سخطه، ونسأله التوفيق لما يدني من رضاه ومحبته. قال أبو جعفر: وأنا ذاكر في كتابي هذا من ملوك كل زمان، من لدن ابتدأ ربنا جلّ جلاله خلق خلقه إلى حال فنائهم، من انتهى إلينا خبره ممن ابتدأه الله تعالى بآلائه ونعمه فشكر نعمه، من رسول له مرسل، أو ملك مسلط، أو خليفة مستخلف، فزاده إلى ما ابتدأه به من نعمه في العاجل نعمًا، وإلى ما تفضل به عليه فضلًا، ومن أخر ذلك له منهم، وجعله له عنده ذخرًا. ومن كفر منهم نعمه فسلبه ما ابتدأه به من نعمه، وعجل له نقمه. ومن كفر منهم نعمه فمتعه فما أنعم به عليه إلى حين وفاته وهلاكه، مقرونًا وذكرُ كل من أنا ذاكره منهم في كتابي هذا بذكر زمانه، وجمل ما كان من حوادث الأمور في عصره وأيامه إذ كان الاستقصاء في ذلك يقصر عنه العمر وتطولُ به الكبت، مع ذكرى مع ذلك مبلغ مدة أكله، وحين أجله، بعد تقديمي أمام ذلك ما تقديمه بنا أولى، والابتداء به قبله أحجى، من البيان عن الزمان: ما هو؟ وكم قدر جميعه، وابتداء أوله، انتهاء آخره؟ وهل كان قبل خلق الله تعالى إياه شيء غيره؟ وهل هو فانٍ؟ وهل بعد فنائه شيء غير وجه المسبح الخلاق، تعالى ذكره؟ وما الذي كان قبل خلق الله إياه؟ وما هو كائن بعد فنائه وانقضائه؟ وكيف كان ابتداء خلق الله تعالى إياه، وكيف يكون فناؤه؟ والدلالة على أن لا قديم إلا الله الواحد القهار، الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى بوجيزٍ من الدلالة غير طويل، إذ لم نقصد بكتابنا هذا قصد الاحتجاج لذلك، بل لما ذكرنا من تأريخ الملوك الماضين وجمل من أخبارهم، وأزمان الرسل والأنبياء ومقادير أعمارهم، وأيام الخلفاء السالفين وبعض سيرهم، ومبالغ ولاياتهم، والكائن الذي كان من الأحداث في أعصارهم، ثم أنا متبع آخر ذلك كله - إن شاء الله أيد منه بعون وقوة - ذكر صحابة نبينا محمد ﷺ وأسمائهم وكناهم ومبالغ أنسابهم ومبالغ أعمارهم، ووقت وفاة كل إنسان منهم، والموضع الذي كانت به وفاته. ثم متبعهم ذكر من كان بعدهم من التابعين لهم بإحسان، على محو ما شرطنا من ذكرهم. ثم ملحق بهم ذكر من كان بعدهم من الخلف لهم كذلك، وزائد في أمورهم للإبانة ممن حمدت منهم روايته، وتقبلت أخباره، ومن رفضت منهم روايته ونبذت أخباره، ومن وهن منهم نقله، وضعف خبره. وما السببُ الذي من أجله نُبذ منهم خبره، والعلة التي من أجلها وهن من وهن منهم نقله. وإلى الله عز وجل أنا راغب في العون ما أقصده وأنويه، والتوفيق لما ألتمسه وأبغيه، فإنه ولي الحول والقوة، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم تسليمًا. وليعلم الناظر في كتابنا هذا أنّ اعتمادي في كلّ ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أبناء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بإخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس. فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا. القول في الزمان ما هو قال أبو جعفر: فالزمانُ هو ساعات الليل والنهار، وقد تعال ذلك للطويل من المدة والقصر منها، والعرب تقول: " أتيتك زمانَ الحجاج أمير، وزمن الحجاج أمير " - تعنى به: إذ الحجاج أمير. وقول: " أتيتك زمان الصرام " وزمن الصرام - تعني به وقت الصرام. ويقولن أيضًا: " أتيتك أزمان الحجاج أمير " فيجمعون الزمان، يريدون بذلك أن يجعلوا كل وقت من أوقات إمارته زمانًا من الأزمنة كما قال الراجز: جاء الشتاء وقميصي أخلاق ** شرازم بضحك منه التواق فجعل القميص أخلاقًا، يريد بذلك وصف كل قطعة منه بالأخلاق، كما يقولون: أرض سباسب، ونحو ذلك. ومن قولهم للزمان: زمن قولُ أعشى بني قيس بن ثعلبة: وكنت أمرأً زمنًا بالعراق ** عفيف المناخ طويل التغن يريد بقوله: زمنًا وزمانًا فالزمان اسم لما ذكرت من ساعات الليل والنهار على ما قد بينت ووصفت. القول في كم قدر جميع الزمان من ابتدائه إلى انتهائه وأوله إلى آخره اختلف السلف قبلنا من أهل العلم في ذلك، فقال بعضهم: قدر جميع ذلك سبعة آلاف سنة. ذكر من قال ذلك حدثنا بان حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا يحيى بن يعقوب، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة، فقد مضى ستة آلاف سنة ومائتا سنة، وليأتين عليها مئون من سنين ليس عليها موحد. وقال آخرون: قدر جميع ذلك ستة آلاف سنة. ذكر من قال ذلك حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن الأعمش، قال: قال كعب: الدنيا ستة آلاف سنة. حدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا سماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بم معقل، أنه سمع وهبًا يقول: قد خلا من الدنيا خمسة آلاف سنة وستمائة سنة، وإني لأعرف كل زمان منها، ما كان فيه من الملوك والأنبياء. قلت لوهب بن منبه: كم الدنيا؟ قال: ستة آلاف سنة. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما دل على صحته الخبر الوارد عن رسول الله ﷺ، وذلك ما حدثنا به محمد بن بشار وعلي بن سهل، قالا: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله ﷺ ويقول: " أجلكم من أجل من كان قبلكم، من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبي ﷺ يقول: " ألا إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس ". حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثني عمار بن محمد، ابن أخت سفيان الثوري، أبو اليقظان، عن ليث بن أبي سليم، عن مغيرة بن حكيم، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: " وما بقي لأمتي من الدنيا إلى كمقدار الشمس إذا صُليت العصر ". حدثني محمد بن عوف، قال: حدثنا أبو نعيم، قال حدثنا شريك، قال: سمعتُ سلمة بن كهيل، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: كنا جلوسًا عند النبي ﷺ والشمس مرتفعة على قعيقعان بعد العصر، فقال: " ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه ". حدثنا ابن بشار ومحمد بن المثنى - قال ابن بشار: حدثني خلف بن موسى، وقال ابن المثنى: حدثنا خلف بن موسى - قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ خطب أصحابه يومًا - وقد كادت الشمس أن تغيب، ولم يبقى منها إلا شق يسير - فقال: " والذي نفس محمد بيده ما بقي من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه، وما ترون من الشمس إلا اليسير ". حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عنيننة، عن علي بن زيد، عن أبي نضر، عن أبي سعيد، قال: قال النبي ﷺ عند غروب الشمس: " إنما مثلُ ما بقي من الدنيا فيما مضى منها كبقية يومكم هذا فيما مضى منه ". حدثنا هناد بن السري وأبو هشام الرفاعي، قالا: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " بعثت أنا والساعة كهاتين " - وأشار بالسبابة والوسطى. حدثنا أبو كريب، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي بنحوه. حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: " بعثت أنا والساعة كهاتين ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة، قالك كأني أنظر إلى إصبعي رسول الله ﷺ - وأشار بالمسبحة والتي تليه - وهو يقول: " بعثت أنا والساعة كهذه من هذه ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثني يحيى بن واضح، قال: حدثنا فطر، عن أبي خالد الوالبي عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " بعثت من الساعة كهاتين " - وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث، قال حدثنا أنس بن مالك، قال رسول الله ﷺ: " بعثت أنا والساعة كهاتين ". قال شعبة: سمعت قتادة يقول في قصصه: كفضل إحداهما على الأخرى، قال: لا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة. حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا النضر بن شميل، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: رسول الله ﷺ: " بعثت أنا والساعة كهاتين ". حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي ﷺ مثله، وزاد في حديثه: وأشار بالوسطى والسبابة. حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا أيوب بن سويد، عن الأوزاعي، قال: حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك، فقال له الوليد: ماذا سمعت رسول الله ﷺ يذكر به الساعة؟ قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: " أنتم والساعة كهاتين " وأشار بإصبعيه. حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيد الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك، فقال له الوليد: ماذا سمعت من رسول الله ﷺ يذكر به الساعة؟ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " أنتم والساعة كتين ". حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمر وبن آبي سلمة، عن الأوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيد الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بين عبد الملك، فذكر مثله. حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: حدثني معبد، حدث أنس، عن رسول الله ﷺ أنه قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، وقال بإصبعيه: هكذا. حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي التياح، عن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: " بعثت أنا والساعة كهاتين ": السبابة والوسطى. قال أبو موسى: وأشار وهب بالسبابة والوسطى. حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي التياح وقتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، وقرن بين إصبعيه. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثنا أبو حازم، قال: حدثنا سهل بن سعد، قال: رأيت رسول الله ﷺ قال بإصبعيه هكذا، الوسطى والتي تلي الإبهام: " بعثت أنا والساعة كهاتين ". حدثنا محمد بن يزيد الآدمي، قال: حدثنا أبو ضمرة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه ولسم قال: " بعثت والساعة كهاتين " - وضم بين إصبعيه الوسطى، والتي تلي الإبهام - وقال: " ما مثلي ومثل الساعة إلى كفرسي رهان "، ثم قال: " ما مثلي ومثل الساعة إلا كمثل رجل بعثه قوم طليعة، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه: أتيتم، أتيتم، أنا ذاك أنا ذاك ". حدثنا أبو كريب، قال حدثنا خالد، عن محمد بن جعفر، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، وجمع بني إصبعيه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ: " بعثت أنا والساعة هكذا " وقرن بين إصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام. حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ: " بعثت أنا والساعة كهاتين " وجمع بين إصبعيه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيم، عن بشير بن المهاجر، قال: حدثني عبد الله بين بريدة، عن أبيه، قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: " بعثت أنا والساعة جميعًا، إن كادت لتسبقني ". حدثني محمد بن عمر بن هياج، قال: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبيدة بن الأسود، عن مجالد، عن قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد الفهري، عن النبي ﷺ أنه قال: " بعثت في نفس الساعة، سبقتُها كما سبقت هذه هذه " لإصبعيه السبابة والوسطى، ووصف لنا أبو عبد الله، وجمعهما. حدثني أحمد بن محمد بن حبيب، قال: حدثنا أبو نصر، قال: حدثنا المسعودي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن أبي جبيرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " بعثتُ مع الساعة كهاتين "، - وأشار بإصبعيه الوسطى والسبابة - " كفضل هذه على هذه ". حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيل، عن شبيل بن عوف، عن أبي جبيرة، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: سمعنا رسول الله ﷺ يقول: " جئت أنا والساعة هكذا " - قال الطبري: وأرانا تميم، وضم السبابة والوسطى وقال لنا: أشار يزيد بإصبعيه السبابة والوسطى وضمهما - وقال: " سبقتُها كما سبقت هذه هذه في نفس من الساعة "، أو في نفس الساعة ". فمعلوم إذ كان اليوم أوله طلوع الفجر وآخره غروب الشمس، وكان صحيحًا عن نبينا ﷺ، ما رويناه عنه قبل، أنه قال بعد ما صلى العصر: " ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلى كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه ". وأنه قال لأصحابه: " بعثت أنا والساعة كهاتين " - وجمع بين السبابة والوسطى - " سبقتها بقدر هذه من هذه "، يعني الوسطى من السبابة، وكان قدر ما بين أوسط أوقات صلاة العصر - وذلك إذا صار ظل كل شيء مثليه - على التحري إنما يكون قدر نصف سبع اليوم، يزيد قليلًا أو ينقص قليلًا، وكذلك فضل ما بين الوسطى والسبابة، إنما يكون نحوًا من ذلك وقريبًا منه. وكان صحيحًا مع ذلك عن رسول الله ﷺ ما حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب قال حدثني معاوية بن صالح بن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه جبير بن نفير، أنه سمع أبا ثعلبة الخشي صاحب النبي ﷺ يقول: إن رسول الله ﷺ قال: " لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم "، وكان معنى قول النبي ذلك أن " لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم " الذي مقداره ألف سنة - كان بينًا أن أولى القولين - اللذين ذكرتُ من مبلغ قدر مدة جميع الزمان، اللذين أحمدهما عن ابن عباس، والآخر منهما عن كعب - بالصواب، وأشبههما بما دلت عليه الأخبار الواردة عن رسول الله ﷺ قولُ ابن عباس، الذي روينا عنه أنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الخبرُ عن رسول الله ﷺ صحيحًا أنه أخبر عن الباقي من ذلك في حيانه أنه نصف يوم، وذلك خمسمائة عام، إذا كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر اليوم الواحد منها ألف عام - كان معلومًا أن الماضي من الدنيا إلى وقت قول النبي ﷺ ما رويناه عن أبي ثعلبة الخشي عنه، كان قدر ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة، أو نحوًا من ذلك وقريبًا منه. والله أعلم. فهذا الذي قلنا - في قدر مدة أزمان الدنيا، من مبدأ أولها إلى منهى آخرها - من أثبت ما قيل في ذلك عندنا من القول، للشواهد الدالة التي بيناها على صحة ذلك، وقد روي عن رسول الله ﷺ خبرٌ يدل على صحة قول من قال: إن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، لو كان صحيحًا سنده لم نعدُ القوم به إلى غيره، وذلك ما حدثني به محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا عبد الصمت ابن عبد الوارث، حدثنا زبان، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: " الحقب ثمانون عامًا، اليوم منها سدس الدنيا ". فبين من هذا الخبر أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، وذلك أن اليوم الذي هو من أيام الآخرة إذا كان مقداره ألف سنة من سني الدنيا، وكان اليوم الواحد من ذلك سدس الدنيا، كان معلومًا بذلك أن جميعها ستة أيام من أيام الآخرة، وذلك ستة آلاف سنة. وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم - على ما في التوراة مما هو فيها من لدن خلق الله آدم إلى وقت الهجرة، وذلك في التوراة التي هي في أيديهم اليوم - أربعة آلاف سنة وستمائة واثنتان وأربعون سنة، وقد ذكروا تفصيل ذلك بولادة رجل رجل، ونبي نبي، وموته من عهد آدم إلى هجرة نبينا محمد ﷺ. وسأذكر تفصيلهم ذلك إن شاء الله، وتفصيل غيرهم ممن فصله من علماء أهل الكبت وغيرهم من أهل العلم بالسير وأخبار الناس إذا انتهيت إليه إن شاء الله. أما اليونانية من النصارى فإنها تزعم أن الذي ادعته اليهود من ذلك باطل، وأن الصحيح من القوم في قدر مدة أيام الدنيا - من لتدن خلق الله آدم إلى وقت هجرة نبينا محمد ﷺ على سياق ما عنهم في التوراة التي هي في أيديهم - خمسة آلاف سنة وتسعمائة سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر. وذكروا تفصيل ما ادعوه من ذلك بولادة نبي نبي، وملك ملك، ووفاته من عهد آدم إلى وقت هجرة رسول الله ﷺ، وزعموا أن اليهود إنما تقصوا ما تقصوا من عدد مسني ما بين تاريخهم وتاريخ النصارى دفعًا منهم لنبوة عيسى بن مريم عليه السلام إذا كانت صفته ووقت مبعثه مثبتة في التوراة، وقالوا: لم يأت الوقت الذي وقت لنا في التوراة أن الذي صفته صفة عيسى يكون فيه، وهم ينتظرون - بزعمهم - خروجه ووقته. وأحسب أن الذي ينتظرونه ويدعون أن صفته في التوراة مثبتة هو الدجال الذي وصفه رسول الله ﷺ لأمته، وذكر لهم أن عامة أتباعه اليهود، فإن كان ذلك هو عبد الله بني صياد، فهو من نسل اليهود. وأما المجوس فإنهم يزعمون أن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرت إلى وقت هجرة نبينا ﷺ ثلاثة آلفة سنة ومائة سنة وتسع وثلاثون سنة، وهم لا يذكرون مع ذلك نسبًا يعرف فوق جيومرت، ويزعمون أنه آدم أبو البشر، صلى الله عليه وسلم وعلى جميع أنبياء الله ورسله. ثم أهلُ الأخبار بعد في أمره مختلفون، فمن قائل منهم فيه مثل قول المجوس، ومن قائل منهم أنه تسمى بآدم بعد أن ملك الأقاليم السبعة، وأنه إنما هو جامر بن يافت بن نوح، كان بنوح لعيه السلام برًا ولخدمته ملازمًا، وعليه حدبًا شفيقًا، فدعا الله له ولذريته نوح - لذلك من بره به وخدمته له - بطول العمر والتمكين في البلاد، والنصر على من ناوأه وإياهم، واتصال الملك له ولذريته، ودوامه له ولهم، فاستجيب له فيه، فأعطى جيومرت ذلك وولده، فهو أبو الفرس، ولم يزل الملك فيه وفي ولده إلى أن زال عنهم بدخول المسلمين مدائن كسرى، وغلبه أهل الإسلام إياهم على ملكهم. ومن قائل غير ذلك، وسنذكر إن شاء الله ما انتهى إلينا من القول فيه إذا انهينا إلى ذكرنا تأريخ الملوك ومبالغ أعمارهم، وأنسابهم وأسباب ملكهم. القول في الدلالة على حدوث الأوقات والأزمان والليل والنهار قد قلنا قبل إن الزمان إنما هو اسم لساعات الليل والنهار، وساعات الليل والنهار إنما هي مقادير من جرى الشمس والقمر في الفلك، كما قال الله عز وجل: " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقرٍ لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابقُ النهار وكل في فلك يسبحون ". فإذا كان الزمان ما ذكرنا من ساعات الليل والنهار، وكانت ساعات الليل والنهار إنما هي قطع الشمس والقمر درجات الفلك، كان بيقين معلومًا أن الزمان محدث والليل والنهار محدثان، وأن محدث ذلك الله الذي تفرد بإحداث جميع خلقه، كما قال: " وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ". ومن جهل حدوث ذلك من خلق الله فإنه لن يجهل اختلاف أحوال الليل والنهار، بأن أحدهما يرد على الخلق - وهو الليل - بسواد وظلمة، وأن الآخر منهما يرد عليهم بنور وضياء، ونسخٍ لسواد الليل وظلمته، وهو النهار. فإذا كان ذلك كذلك، وكان من المحال اجتماعهما مع اختلاف أحوالهما في وقت واحد في جزء واحد - كان معلومًا يقينًا أنه لا بد من أن يكون أحدهما كان قبل الآخر منهما، وأيهما كان منهما قبل صاحبه فإن الآخر منهما كان لا شك بعده، وذلك إبانة ودليل على حدوثهما، وأنهما خلقان لخالقهما. ومن الدلالة أيضًا على حدوث الأيام والليالي أنه لا يوم إلى وهو بعد يوم كان قبله، وقبل يوم كائن بعده، فمعلوم أن ما لم يكن ثم كان، أنه محدث مخلوق، وأن له خالقًا ومحدثًا. وأخرى، أنا الأيام والليالي معدودة، وما عد من الأشياء فغير خارج من أحد العددين: شفع أو وتر، فإن يكن شفعًا فإن أولهما اثنان، وذلك تصحيح القول بأن لها ابتداء وأولًا، وإن كان وترًا فإن أولها واحد، وذلك دليل على أن لها ابتداء وأولًا، وما كان له ابتداء فإنه لا بد له من مبتدئ، وهو خالقه. القول في هل كان الله خلق قبل خلقه الزمان والليل والنهار شيئا غير ذلك من الخلق قد قلنا قبل: إن الزمان إنما هو ساعات الليل والنهار، وإن الساعات إنما هي قطع الشمس والقمر درجات الفلك. فإذا كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا عن رسول الله ﷺ ما حدثنا هناد بن السري، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس - قال هناد: وقرأت سائر الحديث على أبي بكر - أن اليهود أتت النبي ﷺ فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والحراب، فهذه أربعة، ثم قال: " قل أثنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، لمن سأل قال: وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث الساعات الآجال من يحيا ومن يموت، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة، ثم قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت: قالوا: ثم استراح، فغضب النبي ﷺ غضبًا شديدًا، فنزل: " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوبٍ، فاصبر على ما يقولون ". حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي الصدائي، قالا، حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال: " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق أدم بعد العصر من يوم الجمعة، آخر خلق خلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ". حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثني محمد بن زيد، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: أخبرني ابن سلام وأبو هريرة، فذكرا عن النبي ﷺ الساعة التي في يوم الجمعة، وذكرا أنه قالها، قال عبد الله بن سلام: أنا أعلم أي ساعة هي، بدأ الله في خلق السموات والأرض يوم الأحد في آخر ساعة من يوم الجمعة، فهي في آخر ساعة من يوم الجمعة. حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة: أن اليهود قالوا للنبي ﷺ: ما يوم الأحد؟ فقال رسول الله ﷺ: خلق الله فيه الأرض وبسطها، قالوا فالاثنين؟ قال: خلق الله فيه آدم، قالوا: فالثلاثاء؟ قال: خلق فيه الجبال والماء وكذا وكذا وما شاء الله، قالوا: فيوم الأربعاء؟ قال: الأقوات، قالوا: فيوم الخميس؟ قال: خلق السموات، قالوا: فيوم الجمعة؟ قال: خلق الله في ساعتين الليل والنهار، ثم قالوا: السبت - وذكروا الراحة - قال: سبحان الله! فأنزل الله: " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مستا من لغوب ". فقد بين هذان الخبران اللذان رويناهما عن رسول الله ﷺ أن الشمس والقمر خلقا بعد خلق الله أشياء كثيرة من خلقه، وذلك أن حديث ابن عباس عن رسول الله ﷺ بأن الله خلق الشمس والقمر، وكان ذلك كله ولا ليل ولا نهار، إذ كان الليل والنهار إنما هو اسم لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر درج الفلك. إذا كان صحيحًا أن الأرض والسماء وما فيهما، سوى ما ذكرنا، قد كانت ولا شمس ولا قمر - كان معلومًا أن ذلك كله كان ولا ليل ولا نهار. وكذلك حديث أبي هريرة عن رسول الله ﷺ، لأنه أخبر عنه أنه قال: " خلق الله النور يوم الأربعاء " يعني بالنور الشمس إن شاء الله. فإن قال لنا قائل: قد زعمت أن اليوم إنما هو اسم لميقات ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم زعمت الآن أن الله خلق الشمس والقمر بعد أيام من أول ابتدائه خلق الأشياء التي خلقها، فأثبت مواقيتَ، وسميتها بالأيام، ولا شمس ولا قمر، وهذا إن لم تأت ببرهان على صحته، فهو كلام ينقض بعضه بعضًا! قيل: إن الله سمى ما ذكرته أيامًا، فسميته بالاسم الذي سماه به، وكان وجه تسمية ذلك أيامًا، ولا شمس ولا قمر، نظير قوله عز وجل: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا " ولا بكرة ولا عشي هنالك، إذ كان لا ليل في الآخرة ولا شمس ولا قمر، كما قال عز وجل: " ولا يزال الذين كفروا في مريةٍ منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ". فسمى تعالى ذكره يوم القيامة يومًا عقيمًا، إذ كان يومًا لا ليل بعد مجيئه، وإنما أريد بتسمية ما سمي أيامًا قبل خلق الشمس والقمر قدرُ مدة ألف عام من أعوام الدنيا، التي العام منها اثنا عشر شهرًا من شهور أهل الدنيا، التي تعد ساعاتها وأيامها بقطع الشمس والقمر درج الفلك، كما سمي بكرة وعشيًا لما يرزقه أهل الجنة في قدر المدة التي كانوا يعرفون ذلك من الزمان في الدنيا بالشمس ومجراها في الفلك، ولا شمس عندهم ولا ليل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال السلف من أهل العلم. ذكر بعض من حضرنا ذكره ممن قال ذلك حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني الحجاج، عن أبي جريج، عن مجاهد أنه قال: يقضي الله عز وجل أمر كل شيء ألف سنة إلى الملائكة، ثم كذلك حتى يمضي ألف سنة، ثم يقضي أمر كل شيء ألفًا، ثم كذلك أبدًا، قال: " في يوم كان مقداره ألف سنة " قال: اليوم أن يقول لما يقضي إلى الملائكة ألف سنة: " كن فيكون " ولكن سماه يومًا، سماه كما شاء كل ذلك عن مجاهد، قال: وقوله تعالى: " وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون " قال: هو هو سواء. وبنحو الذي ورد عن رسول الله ﷺ من الخبر، بأن الله جل جلاله خلق الشمس والقمر بعد خلقه السموات والأرض وأشياء غير ذلك، ورد الخبر عن جماعة من السلف أنهم قالوه. ذكر الخبر عمن قال ذلك منهم حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا ابن يمان، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن مجاهد، عن ابن عباس: " فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين ". قال: قال الله عز وجل للسموات: " أطلعي شمسي وقمري، وأطلعي نجومي ". وقال للأرض: " شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك "، فقالتا: أتينا طائعين. حدثنا بشر بن معاذ: قال حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " وأوحى في كل سماء أمرها "، خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها. فقد بينت هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله ﷺ وعمن ذكرناها عنه أن الله عز وجل خلق السموات والأرض قبل خلقه الزمان والأيام والليالي، وقبل الشمس والقمر. والله أعلم. القول في الإبانة عن فناء الزمان والليل والنهار وأن لا شيء يبقى غير الله تعالى ذكره والدلالة على صحة ذلك قول الله تعالى ذكره: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " وقوله تعالى: " لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجه " فإن كان كل شيء هالك غير وجهه - كما قال جل وعز - وكان الليل والنهار ظلمة أو نورًا خلقهما لمصالح خلقه، فلا شك أنهما فانيان هالكان، كما أخبر، وكما قال: " إذا الشمس كورت " يعني بذلك أنها عميت فذهب ضوءها، وذلك عند قيام الساعة، وهذا ما لا يحتاج إلى الإكثار فيه، إذ كان مما يدين بالإقرار به جميع أهل التوحيد من أهل الإسلام وأهل التوراة والإنجيل والمجوس، وإنما ينكره قومً من غير أهل التوحيد، لم نقصد بهذا الكتاب قصد الإبانة عن خطأ قولهم. فكل الذين ذكرنا عنهم أنهم مقرون بفناء جميع العالم حتى لا يبقى غير القديم الواحد، مقرون بأن الله عز وجل محييهم بعد فنائهم، وباعثهم بعد هلاكهم، خلا قوم من عبدة الأوثان، فإنهم يقرون بالفناء، وينكرون البعث. القول في الدلالة على أن الله عز وجل القديم الأول قبل شيء وأنه هو المحدث كل شيء بقدرته تعالى ذكره فمن الدلالة على ذلك أنه لا شيء في العالم مشاهد إلا جسم أو قائم بجسم، وأنه لا جسم إلا متفرق أو مجتمع، وأنه لا مفترق منه إلا وهو موهوم فيه الائتلاف إلى غيره من أشكاله، ولا مجتمع منه إلا وهو موهوم فيه الافتراق، وأنه متى عدم أحدهما عدم الآخر معه، وأنه إذا اجتمع الجزءان منه بعد الافتراق، فمعلوم أنّ اجتماعهما حادث فيهما بعد أن لم يكن، وأن الافتراق إذا حدث فيهما بعد الاجتماع، فمعلوم أن الافتراق فيهما حادث بعد أن لم يكن. وإذا كان الأمر فيما في العالم من شيء كذلك، وكان حكم ما لم يشاهد وما هو من جنس ما شاهدنا في معنى جسم أو قائم بجسم، وكان ما لم يخلُ من الحدث لا شك أنه محدث بتأليف مؤلف له إن كان مجتمعًا، وتفريق مفرق له إن كان مفترقًا وكان معلومًا بذلك أن جامع ذلك إن كان مجتمعًا ومفرقه إن كان مفترقًا من لا يشبهه، ومن لا يجوز عليه الاجتماع والافتراق، وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات، الذي لا يشبهه شيء، وهو على كل شيء قدير - فبين بما وصفنا أن بارئ الأشياء ومحدثها كان قبل كل شيء وأن الليل والنهار والزمان والساعات محدثات وأن محدثها الذي يدبرها ويصرفها قبلها، إذ كان من المحال أن يكون شيء يحدث شيئًا إلى ومحدثه قبله، وأن في قوله تعالى ذكره: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت "، لأبلغُ الحجج، وأدل الدلائل - لمن فكر بعقل، واعتبر بفهم - على قدم بارئها، وحدوث كل ما جانسها، وأن لها خالقًا لا يشبهها. وذلك أن كل ما ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه الآية من الجبال والأرض والإبل فإن ابن آدم يعالجه ويدبره بتحويل وتصريف وحفر ونحت وهدم، غير ممتنع عليه شيء من ذلك. ثم إن ابن آدم مع ذلك غير قادر على إيجاد شيء من ذلك من غير أصل، فمعلوم أن العاجز عن إيجاد ذلك لم يحدث نفسه، وان الذي هو غير ممتنع ممن أراد تصريفه وتقليبه لم يوجده من هو مثله، ولا هو أوجد نفسه، وأن الذي أنشأه وأوجد عينه هو الذي لا يعجزه شيء أراده، ولا يمتنع عليه إحداث شيء شاء إحداثه، وهو الله الواحد القهار. فإن قال قائل: فما تنكر أن تكون الأشياء التي ذكرت من فعل قديمين؟ قيل: أنكرنا ذلك لوجودنا اتصال التدبير وتمام الخلق، فقلنا: لو كان المدبر اثنين، لم يخلوا من اتفاق أو اختلاف، فإن كانا متفقين فمعناهما واحد، وإنما جعل الواحد اثنين من قال بالاثنين. وإن كانا مختلفين كان محالًا وجودُ الخلق على التمام والتدبير على الاتصال. لأن المختلفين فعل كل واحد منهما خلاف فعل صاحبه بأن أحدهما إذا أحيا أمات الأخر وإذا أوجد أحدهما أفنى الآخر فكان محالًا وجود شيء من الخلق على ما وجد عليه من التمام والاتصال وفي قول الله عز وجل ذكره: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون "، وقوله عز وجل: " ما انخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون " أبلغ حجة، وأوجز بيان، وأدل دليل على بطول ما قاله المبطلون من أهل الشرك بالله، وذلك أن السموات والأرض لو كان فيها إله غير الله، لم يخلُ أمرهما مما وصفت من اتفاق واختلاف. وفي القول باتفاقهما فساد القول بالتثنية، وإقرار بالتوحيد، وإحالة في الكلام بأن قائله سمي الواحد اثنين. وفي القول باختلافهما، القول بفساد السموات والأرض، كما قال ربنا جل وعز: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " لأن أحدهما كان إذا أحدث شيئًا وخلقه كان من شأن الآخر إعدامه وإبطاله، وذلك أن كل مختلفين فأفعالهما مختلفة، كالنار التي تسخن، والثلج الذي يبرد ما أسخنته النار. وأخرى، أن ذلك لو كان كما قاله المشركون بالله لم يخلُ كل واحد من الاثنين اللذين أثبتوهما قديمين من أن يكونا قويين أو عاجزين، فإن كانا عاجزين فالعاجز مقهور وغير كائن إلهًا. وإن كانا قويين فإن كل واحد منهما بعجزه عن صاحبه عاجز، والعاجز لا يكون إلها. وإن كان كل واحد منهما قويًا على صاحبه، فهو بقوة صاحبه عليه عاجز، تعالى ذكرهُ عما يشرك المشركون! فتبين إذًا أن القديم بارئ الأشياء وصانعها هو الواحد الذي كان قبل كل شيء، وهو الكائن بعد كل شيء، والأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، وأنه كان ولا وقت ولا زمان، ولا ليل ولا نهار، ولا ظلمة ولا نور. إلا نور وجهه الكريم. ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، وأن كل شيء سواه محدث مدبر مصنوع، انفرد بخلق جميعه بغير شريك ولا معين ولا ظهير، سبحانه من قادر قاهر! وقد حدثني علي بن سهل الرملي، قال: حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن جعفر، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: " إنكم تسألون بعدي عن كل شيء، حتى يقول القائل: هذا الله خلق كل شيء فمن ذا خلقه! ". حدثني علي، حدثنا زيد، عن جعفر، قال: قال يزيد بن الأصم حدثني نجبة بن صبيغ، قال: كنت عند أبي هريرة فسألوه عن هذا فكبر وقال: ما حدثني خليلي بشيء إلا قد رأيته - أو أنا أنتظره. قال جعفر: فبلغني أنه قال: إذا سألكم الناس عن هذا فقولوا: الله خالق كل شيء، والله كان قبل كل شيء، والله كائن بعد كل شيء. فإذا كان معلومًا أن خالق الأشياء وبارئها كان ولا شيء غيره، وأنه أحدث الأشياء فدبرها، وأنه قد خلق صنوفًا من خلقه قبل خلق الأزمنة والأوقات، وقبل خلق الشمس والقمر اللذين يجريهما في أفلاكهما، وبهما عرفت الأوقات والساعات، وأرخت التأريخات، وفصل بين الليل والنهار، فلنقل: فيم ذلك الخلق الذي خلق قبل ذلك؟ وما كان أوله؟ القول في ابتداء الخلق ما كان أوله صح الخبر عن رسول الله ﷺ بما حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح - وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح - عن أيوب بن زياد، قال: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: أخبرني أبي، قال: قال أبي عبادة بن الصامت: يا بني سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إن أول ما خلق الله القلم فقال له: أكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن ". حدثني أحمد بن محمد بن حبيب، قال: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: اخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب، عن القاسم بن أبي بزة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله ﷺ قال: " وإن أول شيء خلق الله القلم، وأمره أن يكتب كل شيء ". حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب، عن القاسم بن أبي بزة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن رسول الله ﷺ بنحوه. حدثني محمد بن معاوية الأنماطي، حدثنا عباد بن العوام، حدثنا عبد الواحد بن سليم، قال: سمعت عطاء، قال: سألت الوليد بن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: دعاني فقال: أي بني، اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله، ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده والقدر خيره وشره، إني سمعت رسول الله ﷺ ويقول: " إن أول ما خلق الله عز وجل خلق القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، قال: فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وبما هو كائن إلى الأبد ". وقد اختلف أهل السلف قبلنا في ذلك، فنذكر أقوالهم، ثم نتبع البيان عن ذلك إن شاء الله تعالى. فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي روي عن رسول الله ﷺ فيه. ذكر من قال ذلك حدثني واصل بن عبد الأعلى الأسدي، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: أولُ ما خلق الله من شيء القلم فقال له: اكتب فقال، وما أكتب يا رب؟ قال: أكتب القدر، قال فجري القلم بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات. حدثنا واصل بن عبد الأعلى، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن أبي عباس نحوه. حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: أولُ ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن. حدثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش عن أبي ظبيان - أو مجاهد -، عن ابن عباس بنحوه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، قال: حدثنا معمر، حدثنا الأعمش أن ابن عباس قال: إن أول شيء خلق القلم. حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي الضحا مسلم بن صبيح، عن ابن عباس، قال: إن أول شيء خلق ربي عز وجل القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. وقال آخرون: بل أول شيء خلق الله عز وجل من خلقه النورُ والظلمة. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال ابن إسحاق: كان أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلًا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قولُ ابن عباس، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله ﷺ قبل، أنه قال: أول شيء خلق الله القلم. فإن قال لنا قائل: فإنك قلت: أولى القولين - اللذين أحدهما أن أول شيء خلق الله من خلقه القلم، والآخر أنه النور والظلمة - قولُ من قال: إن أول شيء خلق الله من خلقه القلم، فما وجهُ الرواية عن ابن عباس التي حدثكموها ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، قال: قلت لابن عباس: إن ناسًا يكذبون بالقدر، فقال: إنهم يكذبون بكتاب الله، لآخذن بشعر أجدهم فلأنفضن به، إن الله تعالى ذكره كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فكان أول ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، وإنما يجري الناس على أمر قد فُرغ منه؟. وعن ابن إسحاق، التي حدثكموها ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يقول الله عز وجل: " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، فكان كما وصف نفسه عز وجل، إذ ليس إلا الماء عليه العرش، وعلى العرش ذو الجلال والإكرام، فكان أولُ ما خلق الله النور والظلمة؟ قيل: أما قولُ ابن عباس: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئًا، فكان أول ما خلق الله القلم - إن كان صحيحًا عنه أنه قاله - فهو خبر منه أن الله خلق القلم بعد خلقه عرشه، وقد روى عن أبي هاشم هذا الخبر شعبةُ، ولم يقل فيه ما قال سفيان، من أن الله عز وجل كان على عرشه، فكان أول ما خلق القلم، بل روى ذلك كالذي رواه سائر من ذكرنا من الرواة عن ابن عباس أنه قال: أول ما خلق الله عز وجل القلم. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن المثنى، قال: حدثني عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو هاشم، سمع مجاهدًا قال: سمعت عبد الله - لا يدري ابن عمر أو ابن عباس - قال: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اجرِ، فجرى القلم بما هو كائن، وإنما يعمل الناس اليوم فيما قد فرغ منه. وكذلك قول ابن إسحاق الذي ذكرناه عنه معناه أنّ الله خلق النورَ والظلمة بعد خلقه عرشه، والماء الذي عليه عرشه. وقول رسول الله ﷺ الذي رويناه عنه أولى قول في ذلك بالصواب، لأنه كان أعلم قائل في ذلك قولًا بحقيقته وصحته، وقد روينا عنه عليه السلام أنه قال: " أولُ شيء خلقه الله عز وجل القلم " من غير استثناء منه شيئًا من الأشياء أنه تقدم خلق الله إياه خلق القلم، بل عم بقوله ﷺ: " إن أول شيء خلقه الله القلم " كل شيء، وأن القلم مخلوق قبله من غير استثنائه من ذلك عرشًا ولا ماء ولا شيئًا غير ذلك. فالرواية التي رويناها عن أبي ظبيان وأبي الضحا، عن ابن عباس، أولى بالصحة عن ابن عباس من خبر مجاهد عنه الذي رواه عنه أبو هاشم، إذ كان أبو هاشم قد اختلف في رواية ذلك عنه شعبة وسفيان، على ما قد ذكرت من اختلافهما فيها. وأما ابن إسحاق فإنه لم يسند قولهُ الذي قاله في ذلك إلى أحد، وذلك من الأمور التي لا يدركُ علمها إلى بخير من الله عز وجل، أو خبر من رسول الله ﷺ، وقد ذكرت الرواية فيه عن رسول الله ﷺ. القول في الذي ثنى خلق القلم ثم إن الله جل جلاله خلق بعد القلم - وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة - سحابًا رقيقًا، وهو الغمام الذي ذكره جل وعز ذكره في محكم كتابه فقال: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظللٍ من الغمامِ "، وذلك قبل أن يخلق عرشه، وبذلك ورد الخبر عن رسول الله ﷺ. حدثنا ابن وكيع ومحمد بن هارون القطان، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين، قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: " كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: " في عماء، فوقه هواء، وتحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء ". حدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر بن شميل، قال: حدثنا المسعودي، أخبرنا جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن ابن حصين - وكان من أصحاب رسول الله ﷺ - قال: أتى قوم رسول الله ﷺ فدخلوا عليه، فجعل يبشرهم ويقولون: أعطنا، حتى ساء ذلك رسول الله ﷺ، ثم خرجوا من عنده. وجاء قوم آخرون، فدخلوا عليه فقالوا: جئنا نسلم على رسول الله ﷺ، ونتفقه في الدين، ونسأله عن بدء هذا الأمر، قال: فاقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أولئك الذين خرجوا، قالوا: قبلنا، فقال رسول الله ﷺ: " كان الله لا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر قبل كل شيء، ثم خلق سبع سموات ". ثم أتاني آت فقال: تلك ناقتك قد ذهبت، فخرجتُ ينقطع دونها السراب، ولوددتُ أني تركتها. حدثني أبو كريب، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن جامع ابن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن الحصين، قال: قال رسول الله ﷺ: " اقبلوا البشرى يا بني تميم "، فقالوا: قد بشرتنا فأعطنا، فقال: " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن "، فقالوا " قد قبلنا، فأخبرنا عن هذا الأمر كيف كان؟ فقال رسول الله ﷺ: " كان الله عز وجل على العرش، وكان قبل كل شيء، وكتب في اللوح كل شيء يكون ". قال: فأتاني آت فقال: يا عمران، هذه ناقتك قد حلت عقالها، فقمت، فإذا السراب ينقطع بيني وبينها، فلا أدري ما كان بعد ذلك. ثم اختلف في الذي خلق تعالى ذكره بعد العماء، فقال بعضهم: خلق بعد ذلك عرشه. ذكر من قال ذلك حدثني محمد بن سنان حدثنا أبو سلمة، قال: حدثنا حيان ابن عبيد الله، عن الضحاك بن مزاحم، قال، قال ابن عباس: إن الله عز وجل خلق العرش أول ما خلق، فاستوى عليه. وقال آخرون: خلق الله عز وجل الماء قبل العرش، ثم خلق عرشه فوضعه على الماء. ذكر من قال ذلك حدثنا موسى بن هارون الهمذاني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ - قالوا: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن العرش كان قبل أن يخلق السموات والأرض قبض من صفاة الماء قبضة ثم فتح القبضة فارتفعت دخانًا على الماء، فلما أراد أن يخلق السموات والأرض ثم قضاهن سبع سموات في يومين، ودحا الأرض في يومين، وفرغ من الخلق اليوم السابع. وقد قيل: إن الذي خلق ربنا عز وجل بعد القلم الكرسي، ثم خلق بعد الكرسي العرش، ثم بعد ذلك خلق الهواء والظلمات، ثم خلق الماء، فوضع عرشه عليه. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قولُ من قال: إن الله تبارك وتعالى خلق الماء قبل العرش، لصحة الخبر الذي ذكرتُ قيل عن أبي رزين العقيلي عن رسول الله ﷺ أنه قال حين سئل: أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق خلقه؟ قال: " كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء "، فأخبر ﷺ أن الله خلق عرشه على الماء. ومحال إذا كان خلقه على الماء أن يكون خلقه عليه، والذي خلقه غيرُ موجود، إما أن يكون قبله أو معه فإذا كان كذلك فالعرش لا يخلو من أحد أمرين خلق بعد خلق الله الماء، وإما أن يكون خلق هو والماء معًا، فإما أن يكون خلقه قبل خلق الماء، فذلك غير جائز صحته على ما روي عن أبي رزين، عن النبي ﷺ. وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق عرشه عليه، فإن كان ذلك كذلك، فقد كان الماء والريح خلقًا قبل العرش. ذكر من قال كان الماء على متن الريح حدثني ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس عن قوله عز وجل: " وكان عرشه على الماء ": على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الأعمش عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قوله عز وجل: " وكان عرشه على الماء " على أي شيء كان الماء قال: على متن الريح حدثنا القاسم بن الحسن، حدثنا الحسين بن داود، حدثني حجاج عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. قال: والسموات والأرض وكل ما فيهن من شيء يحيط بها البحار، ويحيط بذلك كله الهيكل، ويحيط بالهيكل - فيما قيل - الكرسي. ذكر من قال ذلك حدثني محمد بن سهل بن عسكر، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد أنه سمع وهبًا يقول - وذكر من عظمته - فقال: إن السموات والأرض والبحار لفي الهيكل، وإن الهيكل لفي الكرسي، وإن قدميه عز وجل لعلى الكرسي، وهو يحمل الكرسي، وقد عاد الكرسي كالنعل قي قدميه. وسئل وهب: ما الهيكل؟ قال شيء من أطراف السموات محدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط. وسئل وهب عن الأرضين: كيف هي؟ قال: هي سبع أرضين ممهدة جزائر، بين كل أرضين بحر، والبحر محيط بذلك كله، والهيكل من وراء البحر. وقد قيل: إنه كان بين خلقه القلم وخلقه سائر خلقه ألف عام. ذكر من قال ذلك حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا مبشر الحلبي، عن أرطاة بن المنذر، قال: سمعتُ ضمرة يقول: إن الله خلق القلم، فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئًا من الخلق، فلما أراد جل جلاله خلق السموات والأرض خلق - فيما ذكر - أيامًا ستة، فسمى كل يوم منهن باسم غير الذي سمى به الآخر. وقيل: إن اسم أحد تلك الأيام الستة أبجد، واسم الآخر منهن هوز، واسم الثالث منهن حطّي واسم الرابع منهم كلمن، واسم الخامس منهن سعفص واسم السادس منهن قرشت. ذكر من قال ذلك حدثني الحضرمي، قال: حدثنا مصرف بن عمر واليامي، حدثنا حفص ابن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من كندة، قال: سمعت الضحاك ابن مزاحم يقول: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، ليس منها يوم إلا له اسم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت. وقد حدث به عن حفص غير مصرف وقال: عنه، عن العلاء بن المسيب، قال حدثني شيخ من كندة قال: لقيت الضحاك بن مزاحم، فحدثني قال: سمعت زيد بن أرقم قال: إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، لكل يوم منها اسم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت. وقال آخرون: بل خلق الله واحدًا فسماه الأحد، وخلق ثانيًا فسماه الاثنين، وخلق ثالثًا فسماه الثلاثاء، ورابعًا فسماه الأربعاء، وخامسًا فسماه الخميس. ذكر من قال ذلك حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب بن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق يومًا واحدًا فسماه الأحد، ثم خلق ثانيًا فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثًا فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعًا فسماه الأربعاء، ثم خلق خامسًا فسماه الخميس. وهذان القولان غير مختلفين، إذ كان جائزًا أن تكون أسماء ذلك بلسان العرب على ما قاله عطاء، وبلسان آخرين، على ما قاله الضحاك بن مزاحم. وقد قيل إن الأيام سبعة لا ستة. ذكر من قال ذلك حدثني محمد بن سهل بن عسكر، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه: يقول: الأيام سبعة. وكلا القولين - اللذين روينا أحدهما عن الضحاك وعطاء، من أن الله خلق الأيام الستة، والآخر منهما عن وهب بن منبه من أن الأيام سبعة - صحيح مؤتلف غير مختلف، وذلك أن معنى قول عطاء والضحاك في ذلك كان أن الأيام التي خلق الله فيهن الخلق من حين ابتدائه في خلق السماء والأرض وما فيهن إلى أن فرغ من جميعه ستة أيام، كما قال جل ثناؤه: " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام "، وأن معنى قول وهب بن منبه في ذلك كان أن عدد الأيام التي هي أيام الجمعة سبعة أيام لا ستة. واختلف السلف في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل فيه في خلق السموات والأرض، فقال بعضهم: ابتدأ في ذلك يوم الأحد. ذكر من قال ذلك حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن الشيباني، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قال عبد الله بن سلام: إن الله تبارك وتعالى ابتدأ الخلق، فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين. حدثني المثنى بن إبراهيم، حدثني عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله عز وجل بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب، قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين. حدثني محمد بن أبي منصور الآملي، حدثنا علي بن الهيثم، عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله تعالى: " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام " قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره ألف سنة، أبتدأ الخلق يوم الأحد. حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد، قال: بدأ الخلق يوم الأحد. وقال آخرون: اليوم الذي ابتدأ الله فيه في ذلك يوم السبت. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد ابن أبي إسحاق، قال: يقول أهل التوراة: ابتدأ الله الخلق يوم الأحد: وقال أهل الإنجيل: أبتدأ الله الخلق يوم الاثنين. ونقول نحن المسلمون فيما انتهى إلينا من رسول الله ﷺ: ابتدأ الله الخلق يوم السبت. وقد روى عن رسول الله ﷺ الذي قال كل فريق من هذين الفريقين اللذين قال أحدهما: ابتدأ الله الخلق في يوم الأحد، وقال الآخر منهما: ابتدأ في يوم السبت، وقد مضى ذكرنا الخبرين، غير أنا نعيد من ذلك في هذا الموضع بعض ما فيه من الدلالة على صحة قول كل فريق منهما. فأما الخبر عنه بتحقيق ما قال القائلون: كان ابتداء الخلق يوم الأحد، فما حدثنا به هناد بن السري قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس - قال هناد: وقرأت سائر الحديث - أن اليهود أتت النبي ﷺ فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: " خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين ". وأما الخبر عنه بتحقيق ما قاله القائلون من أن ابتداء الخلق كان يوم السبت، فما حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه بيدي، فقال: " خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد ". وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: اليوم الذي ابتدأ الله تعالى ذكره فيه خلق السموات والأرض يوم الأحد، لإجماع السلف من أهل العلم على ذلك. فأما ما قال ابن إسحاق في ذلك، فإنه إنما استدل - بزعمه - على أن ذلك كذلك، لأن الله عز ذكره فرغ من خلق جميع خلقه يوم الجمعة، وذلك اليوم السابع، وفيه استوى على العرش، وجعل ذلك اليوم عيدًا للمسلمين، ودليله على ما زعم أنه استدل به على صحة وقوله فيما حكينا عنه من ذلك هو الدليل على خطئه فيه، وذلك أن الله تعالى أخبر عباده في غير موضع من محكم تنزيله، أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، فقال " الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ". وقال تعالى ذكره: " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم ". ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن اليومين اللذين ذكرهما الله تبارك وتعالى في قوله: " فقضاهن سبع سموات في يومين " داخلان في الأيام الستة اللاتي ذكرهن قبل ذلك، فمعلوم إذا كان الله عز وجل إنما خلق السموات والأرضين وما فيهن في ستة أيام، وكانت الأخبار مع ذلك متظاهرة عن رسول الله ﷺ بأن آخر ما خلق الله من خلقه آدم، وأن خلقه إياه كان في يوم الجمعة، أن يوم الجمعة الذي فرغ فيه من خلق خلقه داخل في الأيام الستة التي أخبر الله تعالى ذكره أنه خلق خلقه فيهن لأن ذلك لو لم يكن داخلًا في الأيام الستة كان إنما خلق خلقه في سبعة أيام، لا في ستة، وذلك خلاف ما جاء به التنزيل، فتبين إذًا - إذا كان الأمر كالذي وصفنا في ذلك - أن أول الأيام التي ابتدأ الله فيها خلق السموات والأرض وما فيهن من خلقه يوم الأحد، إذ كان الآخر يوم الجمعة، وذلك ستة أيام، كما قال ربنا جل جلاله. فأما الأخبار الواردة عن رسول الله ﷺ وعن أصحابه بأن الفراغ من الخلق كان يوم الجمعة، فسنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى. القول فيما خلق الله في كل يوم من الأيام الستة التي ذكر الله في كتابه أنه خلق فيهن السموات والأرض وما بينهما اختلف السلف من أهل العلم في ذلك: فقال بعضهم ما حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام، أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقواتَ والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة. حدثني موسى بن هارون، حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ قالوا: جعل - يعنون ربنا تبارك وتعالى - سبع أرضين في يومين: الأحد والاثنين، وجعل فيها رواسي أن تميد بكم، وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها، وشجرها وما ينبغي لها في يومين: في الثلاثاء والأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين: الخميس والجمعة. حدثنا تميم بن المنصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب ابن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: خلق الله الأرض في يومين. والأحد والاثنين. ففي قول هؤلاء خلقت الأرض قبل السماء، لأنها خلقت عندهم في الأحد والاثنين. وقال آخرون: خلق الله عز وجل الأرض قبل السماء بأقواتها من غير أن يدحوها، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك. ذكر من قال ذلك حدثني علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله عز وجل حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله تعالى: " والأرض بعد ذلك دحاها ". حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها " يعني أنه خلق السموات والأرض، فلما فرغ من السماء قبل أن يخلق أقوات الأرض بث أقوات الأرض فيها بعد خلق السماء، وأرسى الجبال - يعني بذلك دحوها - ولم تكن تصلح أقواتُ الأرض ونباتها إلا بالليل والنهار، فذلك قوله عز وجل: " والأرض بعد ذلك دحاها "، ألم تسمع أنه قال: " أخرج منها ماءها ومرعاها "؟ قال أبو جعفر: والصوابُ من القول في ذلك عندنا ما قاله الذين قالوا: إن الله خلق الأرض يوم الأحد، وخلق السماء يوم الخميس، وخلق النجوم والشمس والقمر يوم الجمعة لصحة الخبر الذي ذكرنا قبل عن ابن عباس، عن رسول الله ﷺ بذلك. وغير مستحيل ما روينا في ذلك عن ابن عباس من القول، وهو أن يكون الله تعالى ذكره خلق الأرض ولم يدحها، ثم خلق السموات فسواهن، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، بل ذلك عندي هو الصواب من القول في ذلك، وذلك أن معنى الدحو غير معنى الخلق، وقد قال الله عز وجل: " أأنتم أشد خلقًا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها مرعاها والجبال أرساها ". فإن قال قائل فإنك قد علمت أن جماعة من أهل التأويل قد وجهت قول الله: " والأرض بعد ذلك دحاها " إلى معنى " مع ذلك دحاها " فما برهانك على صحة ما قلت، من أن ذلك بمعنى بعد التي هي خلاف قبل؟ قيل: المعروف من معنى بعد في كلام العرب هو الذي قلنا من أنها بخلاف معنى قبل لا بمعنى مع ولا بمعنى مع، وإنما توجه معاني الكلام إلى الأغلب عليه من معانيه المعروفة في أهله، لا إلى غير ذلك. وقد قيل: إن الله خلق البيت العتيق على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحته. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: وضع البيت على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر، قال: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، ومنه دحيت الأرض. وإذا كان الأمر كذلك كان خلق الأرض قبل خلق السموات، ودحو الأرض وهو بسطها بأقواتها ومراعيها ونباتها، بعد خلق السموات، كما ذكرنا عن ابن عباس. وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثني مهران، عن أبي سنان، عن أبي بكر قال: جاء اليهود إلى النبي ﷺ فقالوا: يا محمد أخبرنا: ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟ فقال: خلق الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السموات والملائكة يوم الخميس، إلى ثلاث ساعات بقين من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث ساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم. قالوا: صدقت إن أتممت، فعرف النبي ﷺ ما يريدون، فغضب، فأنزل الله تعالى: " وما مسنا من لغوبٍ، فاصبر على ما يقولون ". فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من أن الله تعالى خلق الأرض قبل السماء، فما معنى قول ابن عباس الذي حدثكموه واصل ابن عبد الأعلى الأسدي، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله تعالى من شيء القلم، فقال له: أكتب، فقال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكبت القدر، قال: فجرى القلم بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات، ثم خلق النون، فدحيت الأرض على ظهره، فاضطرب النون، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض. حدثني واصل، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان عن ابن عباس نحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السموات، ثم خلق النون، فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرك النون، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض. قال: وقرأ: " ن والقلم وما يسطرون ". حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان - أو مجاهد - عن ابن عباس بنحوه، إلا أنه قال: ففتقت منه السموات. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله تعالى القلم فقال: اكبت، فقال: ما أكبت؟ قال: اكبت القدر، قال: فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. ثم خلق النون، ورفع بخار الماء ففتقت منه السماء وبسطت الأرض على ظهر النون، فاضطرب النون، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، قال: فإنها لتفخر على الأرض. حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن ابن عباس قال: أول شيء خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكبت، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ثم خلق النون فوق الماء، ثم كبس الأرض عليه. قيل: ذلك صحيح على ما روى عنه وعن غيره من معنى ذلك مشروحًا مفسرًا غير مخالف شيئًا مما رويناه عنه في ذلك. فإن قال: وما الذي روى عنه وعن غيره من شرح ذلك الدال على صحة كل ما رويت لنا في هذا المعنى عنه؟ قيل له: حدثني موسى بن هارون الهمذاني وغيره، قالوا: حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سمواتٍ " قال: إن الله تعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانًا فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسماه سماءً، ثم أيبس الماء، فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت - والحوت هو النون الذي ذكر الله عز وجل في القرآن: " ن والقلم " - والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة، والصخرة على الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى: " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ". قال أبو جعفر: فقد أنبأ قولُ هؤلاء الذين ذكرتُ: إن الله تعالى أخرج من الماء دخانًا حين أراد أن يخلق السموات والأرض، فسما عليه - يعنون بقولهم: فسما عليه علا على الماء، وكل شيء كان فوق شيء عاليًا عليه فهو له سماء - ثم أيبس بعد ذلك الماء، فجعله أرضًا واحدة أن الله خلق السماء غير مسواة قبل الأرض، ثم خلق الأرض. وإن كان الأمر كما قال هؤلاء، فغير محال أن يكون الله تعالى أثار من الماء دخانا فعلّاه على الماء، فكان له سماء، ثم أيبس الماء فصار الدخان الذي سما عليه أرضًا، ولم يدحها، ولم يقدر فيها أقواتها، ولم يخرج منها ماءها ومرعاها، حتى استوى إلى السماء، التي هي الدخان الثائر من الماء العالي عليه، فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض التي كانت ماء فيبسه ففتقه، فجعلها سبع أرضينن، وقدر فيها أقواتها، و " أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها "، كما قال عز وجل. فيكون كل الذي روي عن ابن عباس في ذلك - على ما رويناه - صحيحًا معناه. وأما يوم الاثنين فقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما خلق فيه، وما روي في ذلك عن رسول الله ﷺ قبل. وأما ما خلق في يوم الثلاثاء والأربعاء فقد ذكرنا أيضًا بعض ما روي فيه، ونذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر منه قبل. فالذي صح عندنا أنه خلق فيهما ما حدثني به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم: وخلق الجبال فيها - يعني في الأرض - وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين: في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول الله عز وجل: " قل أئنكم لتفكرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين "، يقول: من سأل. فهكذا الأمر، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صلاح، قال: حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام، قال: إن الله تعالى خلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء. حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب بن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: إن الله تعالى خلق الجبال يوم الثلاثاء. فذلك قول الناس: هو يوم ثقيل. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما رويناه عن النبي ﷺ، قال: " إن الله تعالى خلق يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من المنافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر، والماء، والمدائن، والعمران، والخراب. حدثنا بذلك هناد، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ. وقد روي عن النبي ﷺ أن الله خلق الجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، حدثني به القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ. والخبرُ الأولُ أصح مخرجًا، وأولى بالحق، لأنه قول أكثر السلف. وأما يوم الخميس فإنه خلق فيه السموات، ففتقت بعد أن كانت رتقًا، كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان "، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس وجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة. وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض " وأوحى في كل سماء أمرها " قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائك، والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لم يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظًا، تحفظ من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش. فذلك حين يقول: " خلق السموات والأرض في ستة أيام "، ويقول " كانتا رتقًا ففتقناهما ". حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح، قال: حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام، قال: إن الله تعالى خلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها أدم على عجل، فتلك الساعةُ التي تقوم فيها الساعة. حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب بن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: إن الله تعالى خلق مواضع الأنهار والشجر يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحوش والهوام والسباع يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، ففرغ من خلق كل شيء يوم الجمعة. وهذا الذي قاله من ذكرنا قوله، من أن الله عز وجل خلق السموات والملائكة وآدم في يوم الخميس والجمعة، هو الصحيح عندنا، للخبر الذي حدثنا به هناد بن السري قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ - قال: هناد، وقرأت سائر الحديث - قال: وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث ساعات الآجال، من يحيا ومن يموت، وفي الثاني ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود وأخرجه منها في آخر ساعة. حدثني القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب ابن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال: " وبث فيها - يعني في الأرض - الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر خلق في آخر ساعة، من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ". فإذا كان الله تعالى ذكره خلق الخلق من لدن ابتداء خلق السموات والأرض إلى حين فراغه من خلق جميعهم في ستة أيام، وكان كل يوم من الأيام الستة التي خلقهم فيها مقدارهُ ألف سنة من أيام الدنيا، وكان بين ابتدائه في خلق ذلك القلم الذي أمره بكتابة كل ما هو كائن إلى قيام الساعة ألف عام، وذلك يوم من أيام الآخرة التي قدر اليوم الواحد منها ألف عام من أيام الدنيا - كان معلومًا أن قدر مدة ما بين أول ابتداء ربنا عز وجل في خلق ما خلق من خلقه إلى الفراغ من آخرهم سبعة آلاف عام. يزيد إن شاء الله شيئًا أو ينقص شيئًا، على ما قد روينا من الآثار والأخبار التي ذكرناها، وتركنا ذكر كثير منها كراهة إطالة الكتاب بذكرها. وإذا كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا أن مدة ما بين فراغ ربنا تعالى ذكره - من خلق جميع خلقه إلى وقت فناء جميعهم بما قد دللنا قبل، واستشهدنا من الشواهد، وبما سنشرح فيما بعد - سبعة آلاف سنة، تزيد قليلًا أو تنقص قليلًا - كان معلومًا بذلك أن مدة ما بين أول خلقٍ خلقه الله تعالى إلى قيام الساعة وفناء جميع العالم، أربعة عشر ألف عام من أعوام الدنيا، وذلك أربعة عشر يومًا من أيام الآخرة، سبعة أيام من ذلك - وهي سبعة آلاف عام من أعوام الدنيا - مدة ما بين أول ابتداء الله جل وتقدس في خلق أول خلقه إلى فراغه من خلق آخرهم - وهو آدم أبو البشر صلوات الله عليه، وسبعة أيام أخر، وهي سبعة آلاف عام من أعوام الدنيا، من ذلك مدة ما بين فراغه جل ثناؤه من خلق آخر خلقه - وهو آدم - إلى فناء آخرهم وقيام الساعة، وعود الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يكون غير القديم البارئ الذي له الخلقُ الأمر الذي كان قبل كل شيء فلا شيء كان قبله، والكائن بعد كل شيء فلا شيء يبقى غير وجهه الكريم. فإن قال قائل: وما دليلك على أن الأيام الستة التي خلق الله فيهن خلقه كان قدر كل يوم منهن قدر ألف عام من أعوام الدنيا دون أن يكون ذلك كأيام أهل الدنيا التي يتعارفونها بينهم، وإنما قال الله عز وجل في كتابه: " الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام "، فلم يعلمنا أن ذلك كما ذكرت، بل أخبرنا أنه خلق ذلك في ستة أيام، والأيام المعروفة عند المخاطبين بهذه المخاطبة هي أيامهم التي أول اليوم منها طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومن قولك: إن خطاب الله عباده بما خاطبهم به في تنزيله إنما هو موجه إلى الأشهر والأغلب عليه من معانيه، وقد وجهتَ خبرَ الله في كتابه عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام إلى غير المعروف من معاني الأيام، وأمرُ الله عز وجل إذا أراد شيئًا أن يكونه أنفذُ وأمضى من أن يوصف بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، مقدارهن ستة آلاف عام من أعوام الدنيا، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، وذلك كما قال ربنا تبارك وتعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ". قيل له: قد قلنا فيما تقدم من كتابنا هذا إنا إنما نعتمد في معظم ما نرسمه في كتابنا هذا على الآثار والأخبار عن نبينا ﷺ وعن السلف الصالحين قبلنا دون الاستخراج بالعقول والفكر، إذ أكثره خبرٌ عما مضى من الأمور، وعما هو كائن من الأحداث، وذلك غير مدرك علمه بالاستنباط الاستخراج بالعقول. فإن قال: فهل من حجة على صحة ذلك من جهة الخبر؟ قيل: ذلك ما لا نعلم قائلًا من أئمة الدين قال خلافه. فإن قال: فهل من رواية عن أحد منهم بذلك؟ قيل: علم ذلك عند أهل العلم من السلف كان أشهر من أن يحتاج فيه إلى رواية منسوبة إلى شخص منهم بعينه، وقد روي ذلك عن جماعة منهم مسمين بأعيانهم. فإن قال: فاذكرهم لنا. قيل: حدثنا ان حميد، قال حدثنا حكام: عن عنبسة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، فكل يوم من هذه الأيام كألف سنة مما تعدون أنتم. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: " في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " قال: الستة الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. حدثنا عبدة، حدثني الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: " في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ": يعني هذا اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيهن السموات والأرض وما بينهما. حدثني المثنى، حدثنا علي، عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ". قال: من أيام الآخرة، كل يوم كان مقداره ألف سنة، ابتدأ في الخلق يوم الأحد، واجتمع الخلق يوم الجمعة. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح: عن كعب، قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفرغ منها يوم الجمعة، قال: فجعل مكان كل يوم ألف سنة. حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد، قال: يوم من الستة الأيام، كألف سنة مما تعدون. فهذا هذا. وبعد، فلا وجه لقول قائل: وكيف يوصف الله تعالى ذكره بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام قدر مدتها من أيام الدنيا ستة آلاف سنة، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، لأنه لا شيء يتوهمه متوهم في قول قائل ذلك إلا وهو موجود في قول قائل: خلق ذلك كله في ستة أيام مدتها مدة ستة أيام من أيام الدنيا، لأن أمره جل جلاله إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. القول في الليل والنهار أيهما خلق قبل صاحبه وفي بدء خلق الشمس والقمر وصفتهما إذ كانت الأزمنة بهما تعرف قد قلنا في خلق الله عز ذكره ما خلق من الأشياء قبل خلقه الأوقات والأزمنة، وبينا أن الأوقات والأزمنة إنما هي ساعات الليل والنهار، وأن ذلك إنما هو قطع الشمس والقمر درجات الفلك فلنقل الآن: بأي ذلك كان الابتداء، بالليل أم بالنهار؟ إذ كان الاختلاف في ذلك موجودًا بين ذوي النظر فيه، بأن بعضهم يقول فيه: خلق الله الليل قبل النهار، ويستشهد على حقيقة قوله ذلك بأن الشمس إذا غابت وذهب ضوءها الذي هو نهار هجم الليل بظلامه، فكان معلومًا بذلك أن الضياء هو المتورد على الليل، وأن الليل إن لم يبطله النهار المتورد عليه هو الثابت، فكان بذلك من أمرهما دلالة على أن الليل هو الأول خلقًا، وأن الشمس هو الآخر منهما خلقًا، وهذا قولٌ يروي عن ابن عباس. حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سئل: هل الليل كان قبل النهار؟ قال: أرأيتم حين كانت السموات والأرض رتقًا، هل كان بينهما إلا ظلمة! ذلك لتعلموا أن الليل كان قبل النهار. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الليل قبل النهار، ثم قال: " كانتا رتقًا ففتقناهما ". حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد ابن عبد الله اليزني، قال: لم يكن عقبة بن عامر إذا رأى الهلال - هلال رمضان - يقوم تلك الليله حتى يصوم يومها، ثم يقوم بعد ذلك. فذكرتُ ذلك لابن حجيرة فقال: الليل قبل النهار أم النهار قبل الليل؟ وقال آخرون: كان النهار قبل الليل، واستشهدوا لصحة قولهم هذا بأن الله عز ذكره كان ولا ليل ولا نهار ولا شيء غيره، وأن نوره كان يضيء به كل شيء خلقه بعدما خلقه حتى خلق الليل. ذكر من قال ذلك حدثني علي بن سهل، حدثنا الحسن بن بلال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله الفهري أن ابن مسعود قال: إن ربكم ليس عنده ليلٌ ولا نهار، نور السموات من نور وجهه، وإن مقدار كل يوم من أيامكم هذه عنده اثنتا عشرة ساعة. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: كان الليل قبل النهار، لأن النهار هو ما ذكرتُ من ضوء الشمس، وإنما خلق الله الشمس وأجراها في الفلك بعد ما دحا الأرض فبسطها، كما قال عز وجل: " أأنتم أشد خلقًا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها "، فإذا كانت الشمس خلقت بعد ما سمكت السماء، وأغطش ليلها، فمعلوم أنها كانت - قبل أن تخلق الشمس، وقبل أن يخرج الله من السماء ضحاها - مظلمة لا مضيئة. وبعد، فإن في مشاهدتنا من أمر الليل والنهار ما نشاهده دليلًا بينًا على أن النهار هو الهاجم على الليل لأن الشمس متى غابت فذهب ضوءها ليلًا أو نهارًا أظلم الجو، فكان معلومًا بذلك أن النهار هو الهاجم على الليل بضوئه ونوره. والله أعلم. فأما القول في بدء خلقهما فإن الخبر عن رسول الله ﷺ بوقت خلق الله الشمس والقمر مختلف. فأما ابن عباس فروي عنه أنه قال: خلق الله يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، حدثنا بذلك هناد بن السري، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ. وروي أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " خلق الله النور يوم الأربعاء "، حدثني بذلك القاسم بن بشر والحسين بن علي، قالا: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ. وأي ذلك كان، فقد خلق الله قبل خلقه إياهما خلقًا كثيرًا غيرهما، ثم خلقهما عز وجل لما هو أعلم به من مصلحة خلقه، فجعلهما دائبي الجرى، ثم فصل بينهما، فجعل إحداهما آية الليل، والأخرى آية النهار، فمحا آية الليل، وجعل آية النهار مبصرة. وقد روي عن رسول الله ﷺ في سبب اختلاف حالتي آية الليل وآية النهار أخبار أنا ذاكر منها بعض ما حضرني ذكره. وعن جماعة من السلف أيضًا نحو ذلك. فمما روي عن رسول الله ﷺ في ذلك، ما حدثني محمد بن أبي منصور الآملي، حدثنا خلف بن واصل، قال: حدثنا عمر بن صبح أو نعمي البلخي، عن مقاتل بن حيان، عن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبي ذر الغفاري، قال: كنتُ آخذ بيد رسول الله ﷺ ونحنُ نتماشى جميعًا نحو المغرب، وقد طفلت الشمس، فما زلنا ننظر إليها حتى غابت، قال: قلتُ: يا رسول الله، أين تغربُ؟ قال: تغرب في السماء، ثم ترفع من سماء إلى سماء حتى ترفع إلى السماء السابعة العليا، حتى تكون تحت العرش، فتخر ساجدة، فتسجد معها الملائكة الموكلون بها، ثم تقول: يارب، من أين تأمرني أن أطلع، أمن مغربي أم من مطلعي؟ قال: فذلك قوله عز وجل: " والشمس تجري لمستقرٍ لها " حيث تحبس تحت العرش، " ذلك تقديرُ العزيز العليم " قال: يعني بذلك صنع الرب العزيز في ملكه العليم بخلقه. قال: فيأتيها جبرئيل بحلة ضوء من نور العرش، على مقادير ساعات النهار، في طوله في الصيف، أو قصره في الشتاء، أو ما بين ذلك في الخريف والربيع. قال: فتلبس تلك الحلة كما يلبس أحدكم ثيابه، ثم تنطلق بها في جو السماء حتى تطلع من مطلعها، قال النبي ﷺ: فكأنها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثم لا تكسى ضوءًا، وتؤمر أن تطلع من مغربها، فذلك قوله عز وجل: " إذا الشمس كورت ". قال: والقمر كذلك في مطلعه ومجراه في أفق السماء ومغربه وارتفاعه إلى السماء السابعة العليا، ومحبسه تحت العرش وسجوده واستئذانه، ولكن جبرائيل عليه السلام يأتيه بالحلة من نور الكرسي. قال: فذلك قوله عز وجل: " جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا ". قال أبو ذر: ثم عدلت مع رسول الله ﷺ فصلينا المغرب. فهذا الخبر عن رسول الله ينبئ أن سبب اختلاف حالة الشمس والقمر إنما هو أن ضوء الشمس من كسوة كسيتها من ضوء العرش، وأن نور القمر من كسوة كسيها من نور الكرسي. فأما الخبر الآخر الذي يدل على غير هذا المعنى، فما حدثني محمد ابن أبي منصور، قال: حدثنا خلف بن واصل، قال: حدثنا أبو نعيم، عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل، فقال: يا بن عباس، سمعتُ العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر. قال: وكان متكئًا فاحتفز ثم قال: وما ذاك؟ قال: زعم أنه يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران، فيقذفان في جهنم. قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شقة ووقعت أخرى غضبًا، ثم قال: كذب كعب! كذب كعب! كذب كعب! ثلاث مرات، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام، الله أجل وأكرم من أن يعذب على طاعته، ألم تسمع لقول الله تبارك وتعالى: " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين "، وإنما يعني دؤبهما في الطاعة، فكيف يعذب عبدين يثني عليهما، إنهما دائبان في طاعته! قاتل الله كعب الحبر وقبح حبريته! ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله! قال: ثم استرجع مرارًا، وأخذ عويدًا من الأرض، فجعل ينكته في الأرض، فظل كذلك ما شاء الله، ثم إنه رفع رأسه، ورمى بالعويد فقال: ألا أحدثكم بما سمعتُ من رسول الله ﷺ، يقول في الشمس والقمر وبدء خلقهما ومصير أمرهما؟ فقلنا: بلى رحمك الله! فقال: إن رسول الله ﷺ سئل عن ذلك، فقال: إن الله تبارك وتعالى لما أبرم خلقه إحكامًا فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسين من نور عرشه، فأما ما كان في سابق علمه أنه يدعها شمسًا، فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها، وأما ما كان في سابق علمه أنه يطمسها ويحولها قمرًا، فإنه دون الشمس في العظم، ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض. قال: فلو ترك الله الشمسين كما كان خلقهما في بدء الأمر لم يكن يعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، وكان لا يدري الأجير إلى متى يعمل، ومتى يأخذ أجره. ولا يدري الصائم إلى متى يصوم، ولا تدري المرأة كيف تعتد، ولا يدري المسلمون متى وقت الحج، ولا يدري الديان متى تحل ديونهم، ولا يدري الناس متى ينصرفون لمعايشهم، ومتى يسكنون لراحة أجسادهم. وكان الرب عز وجل. أنظر لعباده وأرحم بهم، فأرسل جبرئيل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر - وهو يومئذ شمس - ثلاث مرات، فطمس عنه الضوء، وبقي فيه النور، فذلك قوله عز وجل: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا أية النهار مبصرة ". قال: فالسواد الذي ترونه في القمر شبه الخطوط فيه فهو أثرُ المحو. ثم خلق الله للشمس عجلة من ضوء نور العرش لها ثلثمائة وستون عروة، ووكل بالشمس وعجلتها ثلثمائة وستين ملكًا من الملائكة من أهل السماء الدنيا، قد تعلق كل ملك منهم بعروة من تلك العرا، ووكل بالقمر وعجلته ثلثمائة وستين ملكًا من الملائكة من أهل السماء، قد تعلق بكل عروة من تلك العرا ملك منهم. ثم قال: وخلق الله لهما مشارق ومغارب في قطري الأرض وكنفى السماء ثمانين ومائة عين في المغرب، طينة سوداء، فذلك قوله عز وجل: " وجدها تغربُ في عين حمئةٍ " إنما يعني حمأة سوداء من طين، وثمانين ومائة عين في المشرق مثل ذلك طينة سوداء تفور غليًا كغلي القدر إذا ما اشتد غليها. قال: فكل يوم وكل ليلة لها مطلعٌ جديد، ومغرب جديد ما بين أولها مطلعًا، وآخرها مغربًا أطول ما يكون النهار في الصيف إلى آخرها مطلعًا، وأولها مغربًا أقصر ما يكون النهار في الشتاء، فذلك قوله تعالى: " رب المشرقين ورب المغربين " يعني آخرها هاهنا وآخرها ثم، وترك ما بين ذلك من المشارق والمغارب، ثم جمعهما فقال: " برب المشارق والمغارب "، فذكر عدة تلك العيون كلها. قال: وخلق الله بحرًا، فجرى دون السماء مقدار ثلاث فراسخ، وهو موج مكفوف قائم في الهواء بأمر الله عز وجل لا يقطر منه قطرة، والبحار كلها ساكنة، وذلك البحر جارٍ في سرعة السهم ثم انطلاقه في الهواء مستويًا، كأنه حبل ممدود ما بين المشرق والمغرب، فتجري الشمس والقمر والخنس في لجة غمر ذلك البحر، فذلك قوله تعالى: " كل في فلك يسبحون "، والفلك دوران العجلة في لجة غمر ذلك البحر. والذي نفس محمد بيده، لو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت كل شيء في الأرض، حتى الصخور والحجارة، ولو بدا القمر في ذلك لافتتن أهلُ الأرض حتى يعبدوه من دون الله، إلا من شاء الله أن يعصم من أوليائه. قال ابن عباس: فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يأبى أنت وأمي يا رسول الله! ذكرت مجرى الخنس مع الشمس والقمر، وقد أقسم الله بالخنس في القرآن إلى ما كان من ذكرك، فما الخنس؟ قال: يا علي، هن خمسة كواكب، البرجيس، وزحل وعطارد، وبهرام، والزهرة، فهذه الكواكب الخمسة الطالعات الجاريات، مثل الشمس والقمر، العاديات معهما، فأما سائر الكواكب فمعلقات من السماء كتعليق القناديل من المساجد، وهي تحوم مع السماء دورانًا بالتسبيح والتقديس والصلاة لله، ثم قال النبي ﷺ: فإن أحببتم أن تستبينوا ذلك، فانظروا إلى دوران الفلك مرة هاهنا ومرة هاهنا، فذلك دوران السماء، ودوران الكواكب معها كلها سوى هذه الخمسة، ودورانها اليوم كما ترون، وتلك صلاتها، ودورانها إلى يوم القيامة في سرعة دوران الرحا من أهوال يوم القيامة وزلازله، فذلك قوله عز وجل: " يوم تمور السماء مورًا، وتسيرُ الجبالُ سيرًا، فويل يومئذٍ للمكذبين ". قال: فإذا طلعت الشمس فإنها تطلع من بعض تلك العيون على عجلتها ومعها ثلثمائة وستون ملكًا ناشري أجنحتهم، يجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله على قدر ساعات الليل وساعات النهار ليلًا كان أو نهارًا، فإذا أحب الله أن يبتلي الشمس والقمر فيرى العباد آية من الآيات فيستعتبهم رجوعًا عن معصيته وإقبالًا على طاعته، خرت الشمس من العجلة فتقع في غمر ذلك البحر وهو الفلك، فإذا أحب الله أن يعظم الآية ويشدد تخويف العباد وقعت الشمس كلها فلا يبقى منها على العجلة شيء، فذلك حين يظلم النهار وتبدو النجوم، وهو المنهى من كسوفها. فإذا أراد أن يجعل أية دون آية وقع منها النصف أو الثلث أو الثلثان في الماء ويبقى سائر ذلك على العجلة، فهو كسوف دون كسوف، وبلاء للشمس أو للقمر، وتخويف للعباد، واستعتاب من الرب عز وجل، فأي ذلك كان صارت الملائكة الموكلون بعجلتها فرقتين: فرقة منها يقبلون على الشمس فيجرونها نحو العجلة، والفرقة الأخرى يقبلون على العجلة فيجرونها نحو الشمس، وهم في ذلك يقرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله على قدر ساعات النهار أو ساعات الليل، ليلًا كان أو نهارًا، في الصيف كان ذلك أو في الشتاء، أو ما بين ذلك في الخريف والربيع، لكيلا يزيد في طولهما شيء، ولكن قد ألهمهم الله علم ذلك، وجعل لهم تلك القوة، والذي ترون من خروج الشمس أو القمر بعد الكسوف قليلًا قليلًا من غمر ذلك البحر الذي يعلوهما، فإذا أخرجوها كلها اجتمعت الملائكة كلهم، فاحتملوها حتى يضعوها على العجلة، فيحمدون الله على ما قواهم لذلك، ويتعلقون بعرا العجلة، ويجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله حتى يبلغوا بها المغرب، فإذا بلغوا بها المغرب أدخلوها تلك العين، فتسقط من أفق السماء في العين. ثم قال النبي ﷺ، وعجب من خلق الله: وللعجب من القدرة فيما لم نر أعجب من ذلك، وذلك قول جبرئيل عليه السلام لسارة " أتعجبين من أمر الله " وذلك أن الله عز وجل خلق مدينتين: إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب، أهل المدينة التي بالمشرق من بقايا عاد من نسل مؤمنيهم، وأهل التي بالمغرب من بقايا ثمود من نسل الذين آمنوا بصالح، اسم التي بالمشرق بالسريانية مرقيسيا وبالعربية جابلق واسم التي بالمغرب بالسريانية برجيسيا وبالعربية جابرس ولكل مدينة منهما عشرة آلاف باب، ما بين كل بابين فرسخ، ينوب كل يوم على كل باب من أبواب هاتين المدينتين عشرة آلاف رجل من الحراسة، عليهم السلاح، لا تنوبهم الحراسة بعد ذلك إلى يوم ينفخ في الصور، فوالذي نفس محمد بيده، لولا كثرة هؤلاء القوم وضجيج أصواتهم لسمع الناس من جميع أهل الدنيا هدة وقعة الشمس حين تطلع وحين تغرب، ومن ورائهم ثلاثة أمم: منسك، وتافيل، وتاريس، ومن دونهم يأجوج ومأجوج. وإن جبرئيل عليه السلام انطلق بي إليهم ليلة أسرى بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فدعوتُ يأجوج ومأجوج إلى عبادة الله عز وجل فأبوا أن يجيبوني، ثم انطلق بي إلى أهل المدينتين، فدعوتهم إلى دين الله عز وجل وإلى عبادته فأجابوا وأنابوا، فهم في الدين إخواننا، من أحسن منهم فهو مع محسنكم، ومن أساء منهم فأولئك مع المسيئين منكم. ثم انطلق بي إلى الأمم الثلاث، فدعوتهم إلى دين الله وإلى عبادته فأنكروا ما دعوتهم إليه، فكفروا بالله عز وجل وكذبوا رسله، فهم مع يأجوج ومأجوج وسائر من عصى الله في النار، فإذا ما غربت الشمس رفع بها من سماء إلى سماء في سرعة طيران الملائكة، حتى يبلغ بها إلى السماء السابعة العليا، حتى تكون تحت العرش فتخر ساجدة، وتسجد معها الملائكة الموكلون بها، فيحدرُ بها من سماء إلى سماء، فإذا وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الفجر، فإذا انحدرت من بعض تلك العيون، فذاك حين يضئ الصبح، فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذاك حين يضيء النهار. قال: وجعل الله عند المشرق حجابًا من الظلمة على البحر السابع، مقدار عدة الليالي منذ يوم خلق الله الدنيا إلى يوم تصرم، فإذا كان عند الغروب أقبل ملك قد وكل بالليل فيقبض قبضة من ظلمة ذلك الحجاب، ثم يستقبلُ المغرب، فلا يزال يرسل من الظلمة من خلل أصابعه قليلًا قليلًا وهو يراعي الشفق فإذا غاب الشفق أرسل الظلمة كلها ثم ينشر جناحيه، فيبلغان قطري الأرض وكنفي السماء، ويجاوزان ما شاء الله عز وجل خارجًا في الهواء، فيسوق ظلمة الليل بجناحيه بالتسبيخ والتقديس والصلاة الله حتى يبلغ المغرب، فإذا بلغ المغرب انفجر الصبح من المشرق، فضم جناحيه، ثم يضم الظلمة بعضها إلى بعض بكفيه، ثم يقبض عليها بكف واحدة نحو قبضته إذا تناولها من الحجاب بالمشرق، فيضعها عند المغرب على البحر السابع من هناك ظلمة الليل. فإذا ما نقل ذلك الحجاب من المشرق إلى المغرب نفخ في الصور، وانقضت الدنيا، فضوء النهار من قبل المشرق، وظلمة الليل من قبل ذلك الحجاب، فلا تزال الشمس والقمر كذلك من مطالعهما إلى مغاربهما إلى ارتفاعهما، إلى السماء السابعة العليا، إلى محبسهما تحت العرش، حتى يأتي الوقت الذي ضرب الله لتوبة العباد، فتكثر المعاصي في الأرض ويذهب المعروف، فلا يأمر به أحد، ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد. فإذا كان ذ لك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش، فكلما سجدت وأستأذنت: من أين تطلع؟ لم يحر إليها جواب، حتى يوافيها القمر ويسجد معها، ويستأذن: من أين يطلع؟ فلا يحار إليه جواب، حتى يحبسهما قدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض، وهم حينئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين، في هوان من الناس وذلة من أنفسهم، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام قبلها من الليالي، ثم يقوم فيتوضأ ويدخل مصلاه فيصلي ورده، كما كان يصلي قبل ذلك، ثم يخرج فلا يرى الصبح، فينكر ذلك ويظن فيه الظنون من الشر ثم يقول: فلعلي خففت قراءتي، أو قصرت صلاتي، أو قمت قبل حيني! قال: ثم يعود أيضًا فيصلي ورده كمثل ورده، الليلة الثانية، ثم يخرج فلا يرى الصبح، فيزيده ذلك إنكارًا، ويخالطه الخوف، ويظن في ذلك الظنون من الشر ثم يقول: فلعلي خففت قراءتي، أو قصرت صلاتي، أو قمت من أول الليل! ثم يعود أيضًا الثالثة وهو وجل مشفق لما يتوقع من هول تلك الليلة، فيصلي أيضًا مثل ورده، الليلة الثالثة، ثم يخرج فإذا هو بالليل مكانه والنجوم قد استدارت وصارت إلى مكانها من أول الليل. فيشفق عند ذلك شفقة الخائف العارف بما كان يتوقع من هول تلك الليلة فيستلحمه الخوف، ويستخفه البكاء، ثم ينادي بعضهم بعضًا، وقبل ذلك كانوا يتعارفون ويتواصلون، فيجتمع المتهجدون من أهل كل بلدة إلى مسجد من مساجدها، ويجأرون إلى الله عز وجل بالبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، والغافلون في غفلتهم، حتى إذا ما تم لهما مقدارُ ثلاث ليال للشمس وللقمر ليلتين، أتاهما جبرئيل فيقول: إن الرب عز جل يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منها، وأنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور. قال: فيبكيان عند ذلك بكاء يسمعه أهل سبع سموات من دونهما وأهل سرادقات العرش وحملة العرش من فوقهما، فيبكون لبكائهما مع ما يخالطهم من خوف الموت، وخوف يوم القيامة. قال: فبينا الناس ينتظرون طلوعهما من المشرق إذا هما قد طلعا خلف أقفيهم من المغرب أسودين مكورين كالغرارتين، ولا ضوء للشمس ولا نور للقمر، مثلهما في كسوفهما قبل ذلك، فيتصايح أهلُ الدنيا وتذهل الأمهات عن أولادها، والأحبة عن ثمرة قلوبها، فتشتغل كل نفس بما أتاها. قال: فأما الصالحون والأبرار فإنه ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك لهم عبادة. وأما الفاسقون والفجار فإنه لا ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك عليهم خسارة. قال: فيرتفعان مثل البعيرين القرينين، ينازع كل واحد منهما صاحبه استباقًا، حتى إذا بلغا سرة السماء - وهو منصفها - أتاهما جبرئيل فأخذ بقرونهما ثم ردهما إلى المغرب، فلا يغربهما في مغاربهما من تلك العيون، ولكن يغربهما في باب التوبة. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فما باب التوبة؟ قال: يا عمر، خلق الله عز وجل بابًا للتوبة خلف المغرب، مصراعين من ذهب، مكللًا بالدر والجوهر، ما بني المصراع إلى المصراع الآخر مسيرة أربعين عامًا للراكب المسرع، فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما، ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحًا من لدن آدم إلى صبيحة تلك الليلة إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب، ثم ترفع إلى الله عز وجل. قال معاذ بن جبل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما التوبة النصوح؟ قال: إن يندم المذنب على الذنب الذي أصابه فيعتذر إلى الله ثم لا يعود إليه، كما لا يعود اللبن إلى الضرع. قال: فيرد جبرئيل بالمصراعين فيلأم بينهما ويصيرهما كأنه لم يكن فيما بينهما صدع قط، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل بعد ذلك توبة، ولم ينفع بعد ذلك حسنة يعملها في الإسلام إلا من كان قبل ذلك محسنًا، فإنه يجري لهم وعليهم بعد ذلك ما كان يجري قبل ذلك، قال فذلك قوله عز وجل: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفعُ نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ أو كسبت في إيمانها خيرًا ". فقال أبي بن كعب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك! وكيف بالناس والدنيا! فقال: يا أبي، إن الشمس والقمر بعد ذلك يكسيان النور والضوء، ويطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس فإنهم نظروا إلى ما نظروا إليه من فظاعة الآية، فيلحون على الدنيا حتى يجروا فيها الأنهار، ويغرسوا فيها الشجر، ويبنوا فيها البنيان. وأما الدنيا فإنه لو أنتج رجل مهرًا لم يركبه من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى يوم ينفخ في الصور. فقال حذيفة بن اليمان: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فكيف هم عند النفخ في الصور! فقال: يا حذيفة، والذي نفس محمد بيده، لتقومن الساعة ولينفخن في الصور والرجل قد لط حوضه فلا يسقى منه، ولتقومن الساعة والثوب بين الرجلين فلا يطويانه، ولا يتبايعانه. ولتقومن الساعة والرجل قد رفع لقمته إلى فيه فلا يطعمها، ولتقومن الساعة الرجل قد انصرف بلبن لقحته من تحتها فلا يشربه، ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: " وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ". فإذا نفخ في الصور، وقامت الساعة، وميز الله بين أهل الجنة وأهل النار ولما يدخلوهما بعد، إذ يدعو الله عز وجل بالشمس والقمر، فيجاء بهما أسودين مكورين قد وقعا في زلزال وبلبال، ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم ومخافة الرحمن، حتى إذا كانا حيال العرش خرا لله ساجدين، فيقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا ودؤبنا في عبادتك، وسرعتنا للمضي في أمرك أيام الدنيا، فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا، فإنا لم ندع إلى عبادتنا، ولم نذهل عن عبادتك! قال: فيقول الرب تبارك وتعالى: صدقتما، وإني قضيت على نفسي أن أبدئ وأعيد، وإني معيدكما فيما بدأتكما منه، فارجعا إلى ما خلقتما منه، قالا: إلهنا، ومم خلقتنا؟ قال: خلقتكما من نور عرشي، فارجعا إليه. قال: فيلتمع من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نورًا، فتخلط بنور العرش فذلك قوله عز وجل: " يبديء ويعيد ". قال عكرمة: فقمت مع النفر الذين حدثوا به، حتى أتينا كعبًا فأخبرناه بما كان من وجد ابن عباس من حديثه، وبما حدث عن رسول الله ﷺ، فقام كعب معنا حتى أتينا ابن عباس، فقال: قد بلغني ما كان من وجدك من حديثي، وأستغفر الله وأتوب إليه، وإني إنما حدثت عن كتاب دارسٍ قد تداولته الأيدي، ولا أدري ما كان فيه من تبديل اليهود، وإنك حدثت عن كتاب جديد حديث العهد بالرحمن عز وجل وعن سيد الأنبياء وخير النبيين، فأنا أحب أن تحدثني الحديث فأحفظه عنك، فإذا حدثت به كان مكان حديثي الأول. قال عكرمة: فأعاد عليه ابن عباس الحديث، وأنا أستقريه في قلبي بابًا بابًا، فما زاد شيئًا ولا نقص، ولا قدم شيئًا ولا أخر، فزادني ذلك في ابن عباس رغبة، وللحديث حفظًا. ومما روى عن السلف في ذلك ما حدثناه ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل، قال: قال ابن الكواء لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال: ويحك! أما تقرأ القرآن " فمحونا آية الليل "! فهذه محوه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طلق، عن زائدة عن عاصم، عن علي بن ربيعة، قال: سأل ابن الكواء عليًا عليه السلام فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال علي: " فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرةً "، هو المحو. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيد بن عمير، قال: كنت عند علي عليه السلام، فسأله ابن الكواء عن السواد الذي في القمر فقال: ذاك آية الليل محيت. حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا عمران بن حدير، عن رفيع، أبي كثيرة، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سلوا عما شئتم، فقال ابن الكواء فقال: ما السواد الذي في القمر، فقال: قاتلك الله! هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك! ثم قال ذاك محو الليل. حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قال: حدثنا ابن عفير، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن حيّي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رجلًا قال لعلي رضي الله عنه: ما السوادُ الذي في القمر؟ قال: إن الله يقول: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ". حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل "، قال: هو السواد بالليل. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار، " فمحونا آية الليل "، السواد الذي في القمر. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: ذكر ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: " وجعلنا الليل والنهار آيتين "، قال: الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، " فمحونا آية الليل "، قال: السواد الذي في القمر، كذلك خلقه الله. حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: " وجعلنا الليل والنهار آيتين "، قال: ليلًا ونهارًا كذلك خلقهما الله عز وجل. قال ابن جريج: وأخبرنا عبد الله بن كثير، قال: " فمحونا آية الليل جعلنا آية النهار مبصرة "، قال: ظلمة الليل وسد ف النهار. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، قوله عز وجل: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل "، كنا نحدث أن محو آية الليل سوادُ القمر الذي فيه، " وجعلنا آية النهار مبصرة "، منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم. حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وجعلنا الليل والنهار آيتين "، قال: ليلًا ونهارًا، كذلك جعلهما الله عز وجل. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره خلق شمس النهار وقمر الليل آيتين، فجعل آية النهار التي هي الشمس مبصرة يبصر بها، ومحا آية الليل التي هي القمر بالسواد الذي فيه. وجائز أن يكون الله تعالى ذكره خلقهما شمسين من نور عرشه، ثم محا نور القمر بالليل على نحو ما قاله من ذكرنا قوله، فكان ذلك سبب اختلاف حالتيهما. وجائز أن يكون إضاءة الشمس للكسوة التي تكساها من ضوء العرش، ونور القمر من الكسوة التي يكساها من نور الكرسي. ولو صح سند أحد الخبرين اللذين ذكرتهما لقلنا به، ولكن في أسانيدهما نظرا فلم نستجز قطع القول بتصحيح ما فيهما من الخبر عن سبب اختلاف حال الشمس والقمر، غير أنا بيقين نعلم أن الله عز وجل خالف بين صفتيهما في الإضاءة لما كان أعلم به من صلاح خلقه باختلاف أمريهما، فخالف بينهما، فجعل أحدهما مضيئًا مبصرًا به، والأخر ممحو الضوء. وإنما ذكرنا قدر ما ذكرنا من أمر الشمس والقمر في كتابنا هذا، وإن كنا قد أعرضنا عن ذكر كثير من أمرهما وأخبارهما، مع إعراضنا عن ذكر بدء خلق الله السموات والأرض وصفة ذلك، وسائر ما تركنا ذكره من جميع خلق الله في هذا الكتاب، لأن قصدنا في كتابنا هذا ذكرُ ما قدمنا الخبر عنه أنا ذاكروه فيه من ذكر الأزمنة وتأريخ الملوك والأنبياء والرسل، على ما قد شرطنا في أول هذا الكتاب، وكانت التأريخات والأزمنة إنما توقث بالليالي والأيام التي إنما هي مقادير ساعات جري الشمس والقمر في أفلاكهما على ما قد ذكرنا في الأخبار التي رويناها عن رسول الله ﷺ، وكان ما كان قبل خلق الله عز ذكره إياهما من خلقه في غير أوقات ولا ساعات ولا ليل ولا نهار. وإذ كنا قد بينا مقدار مدة ما بين أول ابتداء الله عز وجل في إنشاء ما أراد إنشاءه من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعهم من سني الدنيا ومدة أزمانها بالشواهد التي استشهدنا بها من الآثار والأخبار، وأتينا على القول في مدة ما بعد أن فرغ من خلق جميعه إلى فناء الجميع بالأدلة التي دللنا بها على صحة ذلك من الأخبار الواردة عن رسول الله ﷺ وعن الصحابة وغيرهم من علماء الأمة، وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما قد بينا أنا ذاكروه من تأريخ الملوك الجبابرة العاصية ربها عز وجل والمطيعة ربها منهم، وأزمان الرسل والأنبياء، وكنا قد أتينا على ذكر ما به تصح التأريخات، وتعرف به الأوقات والساعات، وذلك الشمس والقمر اللذان بأحدهما تدرك معرفة ساعات الليل وأوقاته، وبالآخر تدرك علم ساعات النهار وأوقاته. فلنقل الآن في أول من أعطاه الله ملكًا، وأنعم عليه فكفر نعمته، وجحد ربوبيته، وعنا على ربه واستكبر، فسلبه الله نعمته، وأخزاه وأذله. ثم نتبعه ذكر من استن في سنته، واقتفى فيه أثره، فأحل الله به نقمته، وجعله من شيعته، وألحقه به في الخزي والذل. ونذكر من كان بإزائه أو بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها، أو من الرسل والأنبياء إن شاء الله عز وجل. فأولهم وإمامهم في ذلك ورئيسهم وقائدهم فيه إبليس لعنه الله. وكان الله عز وجل قد أحسن خلقه وشرفه وكرمه وملكه على سماء الدنيا والأرض فيما ذكر، وجعله مع ذلك من خزان الجنة، فاستكبر على ربه وادعى الربوبية، ودعا من كان تحت يده فيما ذكر إلى عبادته، فمسخه الله تعالى شيطانًا رجيمًا، وشوه خلقه، وسلبه ما كان حوله، ولعنه وطرده عن سمواته في العاجل، ثم جعل مسكنه ومسكن أبتاعه وشيعته في الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله من غضبه، ومن عمل يقرب من غضبه، ومن الحور بعد الكور. ونبدأ بذكر جمل من الأخبار الواردة عن السلف بما كان الله عز وجل أعطاه من الكرامة قبل استكباره عليه، وادعائه ما لم يكن له ادعاؤه، ثم نتبع ذلك ما كان من الأحداث في أيام سلطانه وملكه إلى حين زوال ذلك عنه، والسبب الذي به زال عنه ما كان فيه من نعمة الله عليه، وجميل آلائه وغير ذلك من أموره، إن شاء الله مختصرًا. ذكر الأخبار الواردة عن إبليس بأنه كان له ملك السماء الدنيا والأرض وما بين ذلك حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن صالح مولى التوءمة وشريك بن أبي نمر - أحدهما أو كلاهما - عن ابن عباس، قال: إن من الملائمة قبيلة من الجن وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين السماء والأرض. حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: جعل إبليس على سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنًا. حدثني عبدان المروزي، حدثني الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال: أخبرنا عبيد الله بن سليمان، قال: سمعت الضحاك ابن مزاحم يقول في قوله عز وجل: " فسجدوا إلا إبليس كان من الجن "، قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن صالح مولى التوءمة، عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلا يقال لهم الجن، فكان إبليس منهم، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فعصى، فمسخه الله شيطانًا رجيمًا. ذكر الخبر عن غمط عدو الله نعمة ربه واستكباره عليه وادعائه الربوبية حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: " ومن يقل منهم إني إله من دونه " قال: قال، ابن جريج: من يقل من الملائكة إن إله من دونه، فلم يقله إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه الآية في إبليس. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين "، وإنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس لما قال ما قال، لعنه الله وجعله رجيمًا، فقال: " فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: " ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم "، قال: هي خاصة لإبليس. القول في الأحداث التي كانت في أيام ملك إبليس وسلطانه والسبب الذي به هلك وادعى الربوبية فمن الأحداث التي كانت في ملك عدو الله - إذ كان لله مطيعًا - ما ذكر لنا عن ابن عباس في الخبر الذي حدثناه أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازنًا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت، قال: وخلق الإنسان من طين، فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضًا، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذين يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، وقال: قد صنعت شيئًا لم يصنعه أحد، قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، قال: فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقتلهم، فكانت الدماء وكان الفساد في الأرض. ذكر السبب الذي به هلك عدو الله وسولت له نفسه من أجله الاستكبار على ربه عز وجل اختلف السلف من الصحابة والتابعين في ذلك، وقد ذكرنا أحد الأقوال التي رويت في ذلك عن ابن عباس، وذلك ما ذكر الضحاك عنه، أنه لما قتل الجن الذين عصوا الله، وأفسدوا في الأرض وشردهم، أعجبته نفسه ورأى في نفسه أن له بذلك من الفضيلة ما ليس لغيره. والقول الثاني من الأقوال المروية في ذلك عن ابن عباس، أنه كان ملك سماء الدنيا وسائسها، وسائس ما بينها وبين الأرض، وخازن الجنة، مع اجتهاده في العبادة، فأعجب بنفسه، ورأى أن له بذلك الفضل، فاستكبر على ربه عز وجل. ذكر الرواية عنه بذلك حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ، قال: لما فرغ الله عز وجل من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنًا، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيةٍ، هكذا حدثني موسى بن هارون. وحدثني به أحمد بن أبي خيشمة، عن عمرو بن حماد، قال: لمزية لي على الملائكة. فلما وقع ذلك الكبر في نفسه أطلع الله عز وجل على ذلك منه، فقال الله للملائكة: " إني جاعل في الأرض خليفة ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن خلاد بن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، فذلك الذي دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنًا. وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد بن عطاء، عن طاوس - أو مجاهد أبي الحجاج - عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا أنه قال: كان ملكًا من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض وعمارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون الجن من بين الملائكة. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا سلام ابن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. والقول الثالث من الأقوال المروية عنه أنه كان يقول: السبب في ذلك أنه كان من بقايا خلق خلقهم الله عز وجل، فأمرهم بأمر فأبوا طاعته. ذكر الرواية عنه بذلك حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقًا فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا لا نفعل، قال: فبعث الله عليهم نارًا تحرقهم، ثم خلق خلقًا آخر فقال: إني خالق بشرًا من طين فاسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث الله عليهم نارًا فأحرقهم، قال: ثم خلق هؤلاء فقال: ألا تسجدوا لآدم! قالوا: نعم، قال: وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم. وقال آخرون: بل السبب في ذلك أنه كان من بقايا الجن الذين كانوا في الأرض، فسفكوا فيها الدماء، وأفسدوا فيها، وعصوا ربهم، فقاتلتهم الملائكة. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثني سوار بن الجعد اليحمدي، عن شهر بن حوشب، قوله: " كان من الجن "، قال: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء. حدثني علي بن الحسن، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد ابن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس، وكان صغيرًا، وكان مع الملائكة يتعبد معهم، فلما أمروا أن يسجدوا لآدم سجدوا وأبى إبليس، فلذلك قال الله عز وجل: " إلا إبليس كان من الجن ". قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال كما قال الله عز وجل: " وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه "، وجائز أن يكون فسوقه عن أمر ربه كان من أجل أنه كان من الجن، وجائز أن يكون من أجل إعجابه بنفسه لشدة اجتهاده كان في عبادة ربه، وكثرة علمه، وما كان أوتى من ملك السماء الدنيا والأرض وخزن الجنان. وجائز أن يكون كان لغير ذلك من الأمور، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبرٍ تقوم به الحجة، ولا خبر في ذلك عندنا كذلك، والاختلاف في أمره على ما حكينا ورويناه. وقد قيل: إن سبب هلاكه كان من أجل أن الأرض كان فيها قبل آدم الجن، فبعث الله إبليس قاضيًا يقضي بينهم، فلم يزل يقضي بينهم بالحق ألف سنة حتى سمى حكمًا، وسماه الله به، وأوحى إليه اسمه، فعند ذلك دخله الكبر، فتعظم وتكبر، وألقى بين الذين كان الله بعثه إليهم حكمًا البأس والعداوة والبغضاء، فاقتتلوا عند ذلك في الأرض ألفي سنة فيما زعموا، حتى إن خيولهم تخوض في دمائهم، قالوا: وذلك قول الله تبارك وتعالى: " أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد "، وقول الملائكة: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "! فبعث الله تعالى عند ذلك نارًا فأحرقتهم، قالوا: فلما رأى إبليس ما نزل بقومه من العذاب عرج إلى السماء، فأقام عند الملائكة يعبد الله في السماء مجتهدًا لم يعبده شيء من خلقه مثل عبادته، فلم يزل مجتهدًا في العبادة حتى خلق الله آدم، فكان من أمره ومعصيته ربه ما كان. القول في خلق آدم عليه السلام وكان مما حدث في أيام سلطانه وملكه خلق الله تعالى ذكره أبانا آدم أبا البشر، وذلك لما أراد جل جلاله أن يطلع ملائكته على ما قد علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة، وأراد إظهار أمره لهم حين دنا أمره للبوار، وملكه وسلطانه للزوال، فقال عز ذكره لما أراد ذلك للملائكة: " إني جاعل في الأرض خليفة "، فأجابوه بأن قالوا له: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "! فروي عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك كذلك للذين قد كانوا عهدوا من أمر الجن الذين كانوا سكان الأرض قبل ذلك، فقالوا لربهم جل ثناؤه لما قال لهم: " إني جاعل في الأرض خليفة " أتجعلُ فيها من يكون فيها مثل الجن الذين كانوا فيها، فكانوا يسفكون فيها الدماء ويفسدون فيها ويعصونك، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، فقال الرب تعالى ذكره لهم: " إني أعلم ما لا تعلمون "، يقول: أعلم ما لا تعلمون من انطواء إبليس على التكبر، وعزمه على خلافه أمري، وتسويل نفسه له بالباطل واغتراره، وأنا مبدٍ ذلك لكم منه لتروا ذلك منه عيانًا. وقيل أقوال كثيرة في ذلك، قد حكينا منها جملًا في كتابنا المسمى: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، فكرهنا إطالة الكتاب بذكر ذلك في هذا الموضع. فلما أراد الله عز وجل أن يخلق آدم عليه السلام أمر بتربته أن تؤخذ من الأرض، كما حدثنا أبو كريب، قال حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: ثم أمر - يعني الرب تبارك وتعالى - بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازب اللزج الطيب - من حمأ مسنون، منتن، قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب، قال: فخلق منه آدم بيده. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ، قال: قالت الملائكة: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " يعني من شأن إبليس، فبعث الله جبرئيل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني شيئًا وتشيني، فرجع ولم يأخذ، وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها. فرجع، فقال كما قال جبرئيل، فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع، ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو أدم مختلفين، فصعد به فبل التراب حتى عاد طينًا لازبًا - واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض - ثم ترك حتى تغير وأنتن، وذلك حين يقول: " من حمأ مسنونٍ "، قال منتن. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعث رب العزة عز وجل إبليس، فأخذ من أديم الأرض، من عذبها وملحها، فخلق منه آدم، ومن ثم سمي آدم، لأنه خلق من أديم الأرض، ومن ثم قال إبليس: " أأسجد لمن خلقت طينًا "، أي هذه الطينة أنا جئت بها. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض. حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: خلق آدم من أديم الأرض فسمي آدم. حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه، قال: إن آدم خلق من أديم الأرض، فيه الطيب والصالح والرديء، فكل ذلك أنت راء في ولده الصالح والرديء. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن عوف - وحدثنا محمد بن بشار وعمر بن شبة، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عوف. وحدثنا ابن بشار، قال حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب الثقفي، قالوا: حدثنا عوف. وحدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدثنا عنبسة، عن عوف الأعرابي - عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله ﷺ: " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوا آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر، والأسود، والأبيض، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب، ثم بلت طينته حتى صارت طينًا لازبًا، ثم تركت حتى صارت حمأ مسنونًا، ثم تركت حتى صارت صلصالًا كما قال الله تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون ". وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خلق آدم من ثلاثة: من صلصال، ومن حمأ، ومن طين لازب. فأما اللازب فالجيد، وأما الحمأ فالحمئة، وأما الصلصال فالتراب المدقق، ويعني تعالى ذكره بقوله: " من صلصالٍ "، من طين يابس له صلصلة، والصلصلة: الصوت. وذكر أن الله تعالى ذكره لما خمر طينة آدم تركها أربعين ليلة، وقيل أربعين عامًا جسدًا ملقى. ذكر من قال ذلك حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أمر الله تبارك وتعالى بتربة آدم فرفعت، فخلق آدم من طين لازب من حمأ مسنون. قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب، قال: فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقى، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله، فيصلصل فيصوت، قال: فهو قول الله تبارك وتعالى: " من صلصال كالفخار "، يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت، قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل في دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئًا للصلصلة، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ، قال الله للملائكة: " إني خالق بشرًا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين "، فخلقه الله عز وجل بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه ليقول حين يتكبر تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه! فخلقه بشرًا، فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم فزعًا إبليس، فكان يمر به فيضر به فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصلة، فذلك حين يقول: " من صلصال كالفخار "، ويقول: لأمر ما خلقت. ودخل من فيه وخرج من دبره، فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربك صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكته. وحدثنا عن الحسن بن بلال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سلميان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، قال: خمر الله تعالى طينة آدم عليه السلام أربعين يومًا، ثم جمعه بيديه، فخرج طيبه بيمينه، وخبيثه بشماله، ثم مسح يديه إحداهما على الأخرى، فخلط بعضه ببعض، فمن ثم يخرج الطيب من الخبيث، والخبيث من الطيب. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يقال - والله أعلم: خلق الله آدم، ثم وضعه ينظر إليه أربعين يومًا قبل أن ينفخ فيه الروح، حتى عاد صلصالًا كالفخار، ولم تمسه نار، قال: فلما مضى له من المدة مامضى وهو طين صلصال كالفخار، وأراد عز وجل أن ينفخ فيه الروح، تقدم إلى الملائكة فقال لهم: إذا نفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فلما نفخ فيه الروح أتته الروح من قبل رأسه، فيما ذكر عن السلف قبلنا أنهم قالوه. ذكر من قال ذلك حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: فلما بلغ الحين الذي أراد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من روحي فاسجدوا له قلما نفخ فيه الروح في رأسه عطس فقالت: الملائكة: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله عز وجل له: رحمك ربك، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول: " خلق الإنسان من عجل "، " فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون في الساجدين "، " أبى واستكبر وكان من الكافرين "، فقال الله له: " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " لما خلقتُ بيدي، قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، قال الله له: " فاهبط منها فما يكون لك " - يعني ما ينبغي لك - " أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين "، والصغار الذل. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال قلما نفخ الله عز وجل فيه - يعني في آدم - من روحه أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحمًا ودمًا، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر فهو قول الله عز وجل " خلق الإنسان من عجل "، قال: ضجرًا لا صبر له على سراء ولا ضراء، قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، بإلهام الله، فقال: يرحمك الله يا آدم، ثم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم، فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر، لما كان حدث به نفسه من كبره واغتراره، فقال: لا أسجد، وأنا خير منه وأكبر سنًا، وأقوى خلقًا، " خلقتني من نار وخلقته من طين "، يقول إن النار أقوى من الطين، قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله تعالى، أيئسه من الخير كله، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبة لمعصيته. حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فيقال - والله أعلم -: إنه لما أنتهى الروح إلى رأسه عطس فقال: الحمد لله، قال: فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقعت الملائكة حين استوى سجودًا له، حفظًا لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به، وقام عدو الله إبليس من بينهم، فلم يسجد متكبرًا متعظمًا بغيًا وحسدًا، فقال: " يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي " إلى قوله: " لأملأن جهنم منكَ وممن تبعك منهم أجمعين "، قال: فلما فرغ الله تعالى من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية أوقع الله عليه اللعنة، وأخرجه من الجنة. حدثني محمد بن خلف، قال: حدثنا آدم بن أبي أياس، قال: حدثنا أبو خالد سليمان بن حيان، قال: حدثني محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي، عليه السلام، قال أبو خالد: وحدثني الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ. قال أبو خالد: وحدثني داود بن أبي هند عن الشعبي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله لعيه وسلم. قال أبو خالد: وحدثني ابن أبي ذباب الدوسي، قال: حدثني سعيد المقبري، ويزيد بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " خلق الله عز وجل آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملأ من الملائكة فسجدوا له، فجلس فعطس فقال: الحمد لله، فقال له ربه: يرحمك ربك، إيت أولئك الملأ من الملائكة فقل لهم: السلام عليكم. فأتاهم فقال: السلام عليك، فقالوا له: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه عز وجل فقال له: هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم. فلما أظهر إبليس من نفسه ما كان له مخفيًا فيها من الكبر والمعصية لربه، وكانت الملائكة قد قالت لربها عز وجل حين قال لهم: إني جاعل في الأرض خليفة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. فقال لهم ربهم: إني أعلم ما لا تعلمون، تبين لهم ما كان عنهم مستترًا، وعلموا أن فيهم من منه المعصية لله عز وجل والخلاف لأمره. ثم علم الله عز وجل آدم الأسماء كلها، واختلف السلف من أهل العلم قبلنا في الأسماء التي علمها آدم: أخاصًا من الأسماء عُلم، أم عامًا؟ فقال بعضهم: علم اسم كل شيء. ذكر من قال ذلك حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر ابن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: علم الله تعالى آدم الأسماء كلها، وهي الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. حدثني احمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك، عن عاصم بن كليب، عن الحسن بن سعد، عن ابن عباس، في قوله: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: علمه اسم كل شيء، حتى الفسوة والفسية. حدثني علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجرمي، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن معبد، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها " قال: علمه اسم كل شيء حتى الهنة والهنية، والفسوة والضرطة. حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى ابن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها " قال: ما خلق الله تعالى كله. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد: " وعلم آدم الأسماء كلها " قال: علمه اسم كل شيء. حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: علمه اسم كل شيء، حتى البعير والبقرة والشاة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: علمه اسم كل شيء: هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا، وهذا كذا، لكل شيء، ثم عرضهم على الملائكة، فقال: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ". حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها " حتى بلغ " إنك أنت العليم الحكيم "، قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه وألجأه إلى جنسه. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة، قالا: علمه اسم كل شيء، هذا الخيل، وهذه البغال، والإبل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شيء برسمه. وقال آخرون: بل إنما علم اسمًا خاصًا من الأسماء، قالوا: والذي علمه أسماء الملائكة. ذكر من قال ذلك حدثني عبدة المروزي، قال: حدثنا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: أسماء الملائكة. وقال آخرون مثل قول هؤلاء في أن الذي علم آدم من الأسماء اسمًا خاصًا من الأشياء، غير أنهم قالوا الذي علم من ذلك أسماء ذريته. ذكر من قال ذلك حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: أسماء ذريته، فلما علم الله آدم الأسماء كلها عرض الله عز وجل أهل الأسماء على الملائكة، فقال لهم: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين "، وإنما قال ذلك عز وجل للملائكة - فيما ذكر - لقولهم إذ قال لهم: " إني جاعل في الأرض خليفة ": " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " فعرض - بعد أن خلق آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح، وعلمه أسماء كل شيء - مما خلق من الخلق - عليهم، فقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أني إن جعلت منكم خليفتي في الأرض أطعتموني وسبحتموني وقدسمتموني ولم تعصوني، وإن جعلته من غيركم أفسد فيها وسفك، فإنكم إن لم تعلموا ما أسماؤهم وأنتم مشاهدوهم ومعاينوهم، فأنتم بألا تعلموا ما يكون من أمركم - إن جعلتُ خليفتي في الأرض منكم، أو من غيركم إن جعلته من غيركم، فهم عن أبصاركم غيب لا ترونهم ولا تعاينونهم ولم تخبروا بما هو كائن منكم ومنهم - أحرى. وهذا قول روي عن جماعة من السلف ذكر بعض من روى ذلك عنه حدثني موسى بن هارون، قال حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود - وعن ناسٍ من أصحاب النبي ﷺ: " إن كنتم صادقين " أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " إن كنتم صادقين "، إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة. وقد قيل: إن الله جل جلاله قال ذلك للملائكة لأنه جل جلاله لما ابتدأ في خلق آدم قالوا فيما بينهم: ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلم منه، وأكرم عليه منه، فلما خلق آدم عليه السلام وعلمه أسماء كل شيء عرض الأشياء التي علم آدم أسماءها عليهم، فقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في قيلكم: إن الله لم يخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه، وأكرم عليه منه. ذكر من قال ذلك حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: " وإذ قال ربك الملائكة إني جاعل في الأرض خليفة "، فاستشار الملائكة في خلق آدم عليه السلام فقالوا " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "، وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكرهُ إلى الله عز وجل من سفك الدماء والفساد في الأرض، " ونحن نسبح بحمدك ونقدسُ لك قال إني أعلمُ مالا تعلمون " فكان في علم الله عز وجل أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله تعالى بخالق خلقًا أكرم عليه منا، ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم عليه السلام - وكل خلق مبتلى، كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة - فقال الله تعالى: " ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين ". حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: قال الله عز وجل للملائكة: " إني جاعل في الأرض خليفة " قال لهم: إني فاعل، فعرضوا برأيهم، فعلمهم علمًا وطوى منهم علمًا علمه لا يعلومونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " - وقد كانت الملائكة علمت من علم الله تعالى أنه لا ذنب عند الله تعالى أعظم من سفك الدماء - " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون "، فلما أخذ تعالى في خلق آدم عليه السلام همست الملائكة فيما بينهم، فقالوا: ليخلق ربنا عز وجل ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلم منه، وأكرم عليه منه، فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه، فنحن أعلم منه، لأنا كنا قبله، وخلقت الأمم قبله، فلما أعجبوا بعلمهم ابتلوا، فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء، إن كنتم صادقين أتى لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالا: ففزع القوم إلى التوبة، وإليها يفزع كل مؤمن، فقالوا: " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ". لقولهم: ليخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرم عليه منا، ولا أعلم منا، قال: علمه أسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال، والإبل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة، قال: " ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "، قال: أما ما أبدوا فقولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "، وأما ما كتموا فقولهم بعضهم لبعض: نحن خير منه وأعلم. حدثنا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: " ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " إلى قوله: " إنك أنت العليم الحكيم "، قال: وذلك حين قالوا: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " إلى قوله " ونقدس لك ". قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله تعالى خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم عليه، فأراد الله تعالى أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم أدم، وعلمه الأسماء كلها، وقال للملائكة: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " إلى " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "، فكان الذي أبدوا حين قالوا: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربنا خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم، فعرفوا أن الله عز وجل فضل عليهم آدم في العلم والكرم. فلما ظهر للملائكة من استكبار إبليس ما ظهر، ومن خلافه أمر ربه ما كان مستترًا عنهم من ذلك، عاتبه ربه على ما أظهر من معصيته إياه لعنه بتركه السجود لآدم، فأصر على معصيته، وأقام على غيه وطغيانه - لعنه الله - فأخرجه من الجنة، وطرده منها، وسلبه ما كان أتاه من ملك السماء الدنيا والأرض، وعزله عن خزن الجنة فقال له جل جلاله: " فأخرج منها "، يعني من الجنة " فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين "، وهو بعد في السماء لم يهبط إلى الأرض. وأسكن الله عز وجل حينئذ آدم جنته، كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ: فأخرج إبليس من الجنة حين لعن وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشيًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي، فقال الله تعالى: " يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله تعالى من معاتبة إبليس أقبل على آدم عليه السلام وقد علمه الأسماء كلها، فقال: " يا آدم أنبئهم بأسمائهم " إلى " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "، قال: ثم ألقى السنة على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم - عن عبد الله بن العباس وغيره، ثم أخذ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانها لحمًا، وآدم عليه السلام نائم لم يهب من نومته، حتى خلق الله تعالى من ضلعه تلك زوجه حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشف عنه السنة وهب من نومته رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجي، فسكن إليها، فلما زوجه الله عز وجل وجعل له سكنًا من نفسه، قال له قبلًا: " يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ". حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجبح، عن مجاهد في قوله عز وجل: " وخلق منها زوجها ". قال: حواء من قصيري آدم، وهو نائم فاستيقظ فقال أثا بالنبطية، امرأة. حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " وخلق منها زوجها " يعني حواء، خلقت من آدم من ضلع من أضلاعه. القول في ذكر امتحان الله تعالى أبانا آدم عليه السلام وابتلائه إياه بما امتحنه به من طاعته، وذكر ركوب آدم معصية ربه بعد الذي كان أعطاه من كرامته وشريف المنزلة عنده، ومكنه في جنته من رغد العيش وهنيئه، وما أزال ذلك عنه، فصار من نعيم الجنة ولذيذ رغد العيش إلى نكد عيش أهل الأرض وعلاج الحرائة والعمل بالمساحي والزراعة فيها. فلما أسكن الله عز وجل آدم عليه السلام وزوجه أطلق لهما أن يأكلا كل ما شاء أكله من كل ما فيها من ثمارها، غير ثمر شجرة واحدة ابتلاءً منه لهما ذلك، وليمضي قضاء الله فيهما وفي ذريتهما، كما قال عز وجل: " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلًا منها رغدًا حيثُ شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين "، فوسوس لهما الشيطان حتى زين لهما أكل ما نهاهما ربهما عن أكله من ثمر تلك الشجرة، وحسن لها معصية الله في ذلك، حتى أكلا منها، فبدت لهما من سوأتهما ما كان موارى عنهما منها. فكان وصول عدو الله إبليس إلى تزيين ذلك لهما ما ذكر في الخبر الذي حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن أناس من أصحاب النبي ﷺ، قال: لما قال الله عز وجل لآدم: " اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين "، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة فمنعه الخزنة، فأتى الحية، وهي دابة لها أربع قوائم، كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب فكلمها أن تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فمها، فمرت الحية على الخزنة فدخلت وهم لا يعلمون، لما أراد الله عز وجل من الأمر، فكلمه من فمها ولم يبال كلامه، فخرج إليه فقال: " يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى "، يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت ملكًا مثل الله تبارك وتعالى أو تكونا من الخالدين فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين، وإنما أراد بذلك أن يبدي لهما ما تواري عنهما من سوءاتهما بهتك لباسهما، وكان قد علم أن لهما سوءة لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك، وكان لباسهما الظفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كل، فإني قد أكلتُ، فلم يضرني، فلما أكل بدت لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث ابن أبي سليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دواب الأرض: أيها تحمله حتى تدخل به الجنة حتى يكلم آدم وزوجه، فكل الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلم الحية، فقال لها: أمنعك من بني آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني الجنة، فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به، فكلمهما من فمها وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله تعالى وجعلها تمشي على بطنها، قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها، وأخفروا ذمة عدو الله فيها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مهرب، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله تعالى آدم وزوجته الجنة، ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكان للحية أربع قوائم، كأنها بختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء، فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم، فقالت: أنظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوأتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: يا آدم، أين أنت؟ قال: أنا هذا يا رب قال: ألا تخرج قال: أستحي منك يا رب ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة حتى يتحول ثمارها شوكًا! قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كانت أفضل من الطلح والسدر. ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملًا إلا حملته كرهًا، فإذا أردت أن تصغي ما في بطنك حتى غر عبدي، قال: أشرفت على الموت مرارًا وقال: للحية أنت التي دخل الملعون في بطنك حتى غر عبدي ملعونة أنت لعنة حتى تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذتٍ بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك. قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله تعالى آدم وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رغدًا حيث شاءا، فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس إلى آدم فقال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " قال: فقطعت حواء الشجرة فدميت الشجرة، وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، " وطفقا يخصفانِ عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين " لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء، قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية، قال للحية: لم أمرتها؟ قالت أمرني إبليس، قال: ملعون مدحور! أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين في كل هلال، وأما أنتِ يا حية، فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وجهك، وسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر، اهبطوا بعضكم لبعض عدو. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدث أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يرى أنه البعير، قال: فلعن، فسقطت قوائمه فصار حية. حدثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: وحدثني أبو العالية، قال: إن من الإبل ما كان أولها من الجن. قال: فأبيحت له الجنة كلها - يعني آدم - إلا الشجرة، وقبل لهما: " لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين "، قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: نهيتما عن شيء؟ قالت: نعم، عن هذه الشجرة، فقال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ". قال فبدت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرة، من أكل منها أحدث، قال: لا ينبغي أن يكون في الجنة حدث، قال: " فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه "، قال: فأخرج آدم من الجنة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم أن آدم عليه السلام حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة، وما أعطاه الله منها، قال: لو أنا خلدنا! فاغتمز فيها من الشيطان لما سمعها منه، فأتاه من قبل الخلد. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثت أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح عليهما نياحة أخزنتهما حين سمعاها، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟ وقال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين "، أي تكونا ملكين أو تخلدان، أي إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة فلا تموتان يقول الله عز وجل: " فدلاهما بغرور ". حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله سبحانه وتعالى: " فوسوس ": وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسنها في عين آدم، قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت لا: إلا أن تأتي ها هنا، فلما أتى قالت: لا، إلا أن تأكل من هذه الشجرة، قال: فأكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما. قال: وذهب آدم هاربًا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم، أمني تفر؟ قال: لا يا رب، ولكن حياءً منك، قال: يا آدم، أني أتيت؟ قال: من قبل حواء يا رب، فقال الله عز وجل: فإن لها على أن أدميها في كل مرة، كما أدمت هذه الشجرة، وأن أجعلها سفيهة، وقد كنت خلقتها حيلة وأن أجعلها تحمل كرهًا وتضع كرهًا، وقد كنت جعلتها تحمل يسرًا وتضع يسرًا. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حواء لكان نساء أهل الدنيا لا يحضن، ولكن حليمات، ولكن يحملن يسرًا ويضعن يسرًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها، فأكل منها. فلما واقع آدم وحواء الخطيئة، أخرجهما الله تعالى من الجنة وسلبهما ما كانا فيه من النعمة والكرامة، وأهبطهما وعدوهما إبليس والحية إلى الأرض، فقال لهم ربهم: اهبطوا بعضكم لبعض عدو. وكالذي قلنا في ذلك قال السلف من أهل العلم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: " اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدو "، قال: آدم وحواء وإبليس والحية. حدثنا سفيان بن وكيع، وموسى بن هارون، قالا: حدثنا عمرو ابن حماد، عن أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو "، فلعن الحية فقطع قوائمها، وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب، وأهبط إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عز وجل: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو "، قال: آدم وحواء وإبليس والحية. القول في قدر مكث آدم في الجنة ووقت خلق الله عز وجل إياه ووقت إهباطه إياه من السماء إلى الأرض قد تظاهرت الأخبار عن رسول الله ﷺ بأن الله عز وجل خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة، وأنه أخرجه فيه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض فيه، وأنه فيه تاب عليه، وفيه قبضه. ذكر الأخبار عن رسول الله ﷺ بذلك حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عمرو بن شرحبيل عن سعيد بن سعد بن عبادة، عن سعد بن عبادة، عن رسول اله ﷺ، قال: " إن في الجمعة خمس خلال فيه خلق آدم، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها ربه شيئًا إلا أعطاه الله إياه، ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة، وفيه: تقوم الساعة، وما من ملك مقرب، ولا سماء ولا جبل ولا أرض ولا ريح، إلا مشفق من يوم الجمعة ". حدثني محمد بن بشار ومحمد بن معمر، قالا: حدثنا أبو عامر، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن أبي لبابة بن عبد المنذر، أن البني ﷺ قال: " سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها وأعظم عند الله من يوم الفطر ويوم النحر، وفيه خمس خلال: خلق الله تعالى فيه آدم، وآهبطه فيه إلى الأرض، وفيه توفي الله تعالى آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله العبد شيئًا إلا أعطاه إياه ما لم يكن حرامًا. وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبال ولا رياح ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة، أن تقوم فيه الساعة ". واللفظ لحديث ابن بشار. حدثنا محمد بن معمر، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا زهير ابن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن عبادة، أن رجلًا أتى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن يوم الجمعة، ماذا فيه من الخير: فقال: " فيه خلق آدم، وفيه أهبط آدم، وفيه توفي آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئًا إلا أعطاه الله إياه، ما لم يسأل مأثمًا أو قطيعة، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبال ولا ريح إلا هن يشفقن من يوم الجمعة ". حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا أبو زرعة، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: " خير يوم طلعت الشمس عليه يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة وأخرج منها ". حدثني بحر بن نصر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " سيد الأيام يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة ". حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا شعيب بن الليث، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، أنه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: " لم تطلع الشمس على يوم مثل يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أخرج من الجنة، وفيه أعيد فيها ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور ومغيرة، عن زياد بن كليب أبي معشر، عن إبراهيم، عن القرثع الضي - وكان القرثع من القراء الأولين - قال: قال سلمان: قال لي رسول الله ﷺ: " يا سلمان، أتدري ما يوم الجمعة؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، يقولها ثلاثًا: " يا سلمان، أتدري ما يوم الجمعة؟ فيه جمع أبوك "، أو " أبوكم ". حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة أنه سمع أبا هريرة يحدث أنه سمع كعبًا يقول: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه دخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة. حدثني الحسين بن يزيد الأدمي، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، قال: إن أول يوم طلعت فيه شمسه يوم الجمعة، وهو أفضل الأيام: فيه خلق الله تعالى ذكره آدم، خلقه على مثل صورته، فلما فرغ عطس آدم فألقى الله تعلى عليه الحمد، فقال الله: يرحمك ربك. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن أبي كدينة، عن مغيرة، عن زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن القرثع، عن سلمان، قال: قال رسول الله ﷺ: " أتدري ما يوم الجمعة؟ هو يوم جمع فيه أبوك "، أو " أبوكم آدم " عليه السلام. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن أبي الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال سلمان. قال لي رسول الله ﷺ: " يا سلمان، أتدري ما يوم الجمعة؟ " مرتين أو ثلاثًا، قال: " هو اليوم الذي جمع فيه أبوكم آدم "، أو " جمع فيه أبوكم ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا قيس، عن الأعمش، عن إبراهيم. عن القرثع، عن سلمان، قال: قال رسول الله ﷺ: " أتدري ما الجمعة "؟ أو قال: كذا، " فيها جمع أبوكم آدم ". حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن منصور، عن إبراهيم، عن القرثع، عن سلمان، قال: قال لي رسول الله ﷺ: " أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: لا، قال: " فيه جمع أبوك ". ذكر الوقت الذي فيه خلق آدم عليه السلام من يوم الجمعة والوقت الذي أهبط إلى الأرض اختلف في ذلك، فروي عن عبد الله بن سلام وغيره في ذلك ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا بن إدريس، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة - يقللها - لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيرًا إلا آتاه الله إياه "، فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أي ساعة هي، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، قال الله عز وجل: " خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي وعبدة بن سلمان وأسد بن عمرو، عن محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ نحوه، وذكر فيه كلام عبد الله بن سلام بنحوه. حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله عز وجل: " خلق الإنسان من عجل "، قال: قول آدم حين خلق بعد كل شيء آخر النهار من يوم الجمعة، خلق الخلق، فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم يبلغ أسفله، قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: " خلق الإنسان من عجل "، قال: آدم حين خلق بعد كل شيء، ثم ذكره نحوه، غير أنه قال في حديثه: استعجل بخلقي، قد غربت الشمس. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " خلق الإنسان من عجل، قال: على عجل خلق آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين - يريد يوم الجمعة وخلقه على عجلة وجعله عجولًا. وقد زعم بعضهم أن الله عز وجل أسكن آدم وزوجته الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة، وقيل لثلاث ساعات مضين منه، وأهبطه إلى الأرض لسبع ساعات مضين من ذلك اليوم، فكان مقدار مكثهما في الجنة خمس ساعات منه. وقيل: كان ذلك ثلاث ساعات. وقال بعضهم: أخرج آدم عليه السلام من الجنة الساعة التاسعة أو العاشرة. ذكر من قال ذلك قال أبو جعفر: قرأتُ على عبدان بن محمد المروزي، قال: حدثنا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أنس عن أبي العالية، قال: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فقال لي: نعم، لخمسة أيام مضين من نيسان. فإن كان قائل هذا القول أراد الله أو تبارك وتعالى أسكن أدم وزوجته الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من أيام أهل الدنيا التي هي على ما هي به اليوم، فلم يبعد قوله من الصواب في ذلك، لأن الأخبار إذا كانت واردة عن السلف من أهل العلم، بأن آدم خلق في آخر ساعة من اليوم السادس من الأيام التي مقدار اليوم الواحد منها ألف سنة وسنيننا. فمعلوم أن الساعة الواحدة من ساعات اليوم الواحد منها ألف سنة من سنينا. فمعلوم أن الساعة الواحدة من ساعات ذلك اليوم ثلاثة وثمانون عامًا من أعوامنا، وقد ذكرنا أن آدم بعد أن خمر ربنا عز وجل طينته بقي قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين عامًا، وذلك لا شك أنه عني به من أعوامنا وسنيننا، ثم من بعد أن نفخ فيه الروح إلى أن تناهى أمره، وأسكن الفردوس، وأهبط إلى الأرض - غير مستنكر أن يكون كان مقداره من سنيننا قدر خمس وثلاثين سنة. فإن كان أراد أنه أسكن الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من الأيام التي مقدار اليوم الواحد منها ألف سنة من سنيننا، فقد قال غير الحق، وذلك أن جميع من حفظ له قول من ذلك من أهل العلم، فإنه كان يقول إن آدم نفخ فيه الروح في آخر النهار من يوم الجمعة قبل غروب الشمس من ذلك اليوم. ثم الأخبار عن رسول الله ﷺ متظاهرة بأن الله تبارك وتعالى أسكنه الجنة فيه، وفيه أهبطه إلى الأرض. فإن كان ذلك صحيحًا. فمعلوم أن آخر ساعة من نهار يوم من أيام الآخرة ومن الأيام التي اليوم الواحد منها مقداره ألف سنة من سنيننا، إنما هي ساعة بعد مضي إحدى عشرة ساعة. وذلك ساعة من اثنتى عشرة ساعة، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر من سنيننا، فآدم صلوات الله عليه إذ كان الأمر كذلك، إنما خلق لمضي إحدى عشرة ساعة من نهار يوم الجمعة من الأيام التي اليوم الواحد منها ألف سنة من سنينا، فمكث جسدًا ملقى لم ينفخ فيه الروح أربعين عامًا من أعوامنا. ثم نفخ فيه الروح. فكان مكثه في السماء بعد ذلك ومقامه في الجنة، إلى أن أصاب الخطيئة وأهبط إلى الأرض ثلاثًا وأربعين سنة من سنيننا وأربعة أشهر، وذلك ساعة من ساعات يوم من الأيام الستة التي خلق الله تعالى فيها الخلق. وقد حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: خرج آدم من الجنة بين الصلاتين: صلاة الظهر وصلاة العصر، فأنزل إلى الأرض وكان مكثه في الجنة نصف يوم يوم من أيام الآخرة، وهو خمسمائة سنة، من يوم كان مقداره اثنتى عشرة ساعة، واليوم ألف سنة مما يعد أهل الدنيا، وهذا أيضًا قول خلاف ما وردت به الأخبار عن رسول الله ﷺ، وعن السلف من علمائنا. القول في الموضع الذي أهبط آدم وحواء إليه من الأرض حين أهبط إليها ثم إن الله عز وجل أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه وذلك يوم الجمعة - من السماء مع زوجته، وأنزل آدم - فيما قال علماء سلف أمة نبينا ﷺ - بالهند. ذكر من حضرنا ذكره ممن قال ذلك منهم حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: أهبط الله عز وجل آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند. حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عمران بن عيينة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إن أول ما أهبط الله تعالى آدم أهبطه بدهنا أرض الهند. حدثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: أهبط آدم إلى الهند. حدثني ابن سنان، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أطيب أرضٍ في الأرض ريحًا أرض الهند، أهبط بها آدم، فعلق شجرها من ريح الحنة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، فجاء في طلبها حتى اجتمعا، فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، وتعارفا بعرفات، فلذلك سميت عرفات، واجتمعا بجمع فلذلك سميت جمعًا. قال: وأهبط آدم على جبل بالهند يقال له بوذ. حدثنا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القتّ، قال: قال لي مجاهد: لقد حدثنا عبد الله بن عباس آن آدم نزل حين نزل بالهند. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وأما أهل التوراة فإنهم قالوا: أهبط آدم بالهند على جبل يقال له واسم، عند واد يقال له بهيل بين الدهنج والمندل: بلدين بأرض الهند. قالوا: وأهبطت حواء بجدة من أرض مكة. وقال آخرون: بل أهبط آدم بسر نديب، على جبل يدعى بوذ، وحواء بجدة من أرض مكة، وإبليس بميسان، والحية بأصبهان. وقد قيل: أهبطت الحية بالبرية، وإبليس بساحل بحر الأبلة. وهذا مما لا يوصل إلى علم صحته إلى بخبر يجيئ مجيء الحجة، ولا يعلم خبرٌ في ذلك ورد كذلك، غير ما ورد من خبر هبوط آدم بأرض الهند، فإن ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام وأهل التوراة والإنجيل، والحجة قد ثبتت بأخبار بعض هؤلاء. وذكر أن الجبل الذي أهبط عليه آدم عليه السلام ذروته من أقرب ذرًا جبال الأرض إلى السماء، وأن آدم حين أهبط عليه كانت رجلاه عليه ورأسه في السماء يسمع دعاء الملائكة وتسبيحهم، فكان آدم يأنس بذلك، وكانت الملائكة تهابه، فنقص من طول آدم لذلك. ذكر من قال ذلك حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار ختن عطاء، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله عز وجل آدم من الجنة كان رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله تعالى في دعائها وفي صلاتها، فخفضه إلى الأرض، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى عز وجل في دعائه وصلاته، فوجه إلى مكة فصار موضع قدمه قرية، وخطوته مفازة، حتى انتهى إلى مكة، وأنزل الله تعال ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله تعالى الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث الله تعالى إبراهيم الخليل عليه السلام فبناه، فذلك قوله تعالى " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ". حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم، فكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعًا، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله، فقال الله: يا آدم، إني أهبط لك بيتًا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي. فانطلق إليه آدم عليه السلام، فخرج ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوة مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك، فأتى آدم عليه السلام البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما خط من طول آدم عليه السلام إلى ستين ذراعا أنشأ يقول: رب، كنتُ جارك في دارك، ليس لي رب غيرك ولا رقيب دونك، آكل فيها رغدًا، وأسكن حيث أحببت، فأهبطتني إلى هذا الجبل المقدس، فكنت أسمع أصوات الملائكة، وأراهم كيف يحفون بعرشك، وأجد ريح الجنة وطيبها، ثم أهبطتني إلى الأرض، وحططتني إلى ستين ذراعًا، فقد انقطع عني الصوت والنظر، وذهب عني ريح الجنة، فأجابه الله عز وجل: لمعصيتك يا آدم فعلتُ ذلك بك، فلما رأى الله تعالى عري آدم حواء أمره أن يذبح كبشًا من الضأن من الثمانية الأزواج التي أنزل من الجنة، فأخذ كبشًا فذبحه، ثم أخذ صوفه فغزلته حواء، ونسجه هو وحواء، فنسج أدم جبة لنفسه، وجعل لحواء درعًا وخمارًا، فلبسا ذلك وأوحى الله تعالى إلى آدم إن لي حرمًا بحيال عرشي، فانطلق فابن لي فيه بيتًا ثم حف به كما رأيت ملائكي يحفون بعرشي، فهنالك أستجيبُ لك ولولدك، من كان منهم في طاعتي، فقال آدم: أي رب، فكيف لي بذلك، لست أقوى عليه ولا أهتدي له! فقيض الله له ملكًا، فانطلق به نحو مكة، فكان آدم إذ أمر بروضة ومكان يعجبه قال للملك: انزل بنا ها هنا، فيقول له الملك: مكانك، حتى قدم مكة، فكان كل مكان نزل به صار عمرانًا، وكل مكان تعداه صار مفاوز وقفارًا، فبنى البيت من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتون ولبنان والجودي، وبنى قواعده من حراء، فلما فرغ من بنائه خرج به الملكُ إلى عرفات، فأراه المناسك كلها التي تفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكة، فطاف بالبيت أسبوعًا، ثم رجع إلى أرض الهند، فمات على بوذ. حدثنا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حدثني زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القت، قال: قال لي مجاهد: لقد حدثني عبد الله ابن عباس أن آدم عليه السلام نزل حين نزل بالهند، ولقد حج منها أربعين حجة على رجليه، فقلت له: يا أبا الحجاج، ألا كان يركب؟ قال: فأي شيء كان يحمله! فوالله إن خطوه مسيرة ثلاثة أيام، وإن كان رأسه ليبلغ السماء، فاشتكت الملائكة نفسه، فهمزه الرحمن همزة، فتطأطأ مقدار أربعين سنة. حدثني صالح بن حرب أبو معمر مولى بني هاشم، قال: حدثنا ثمامة بن عبيدة السلمى، قال: أخبرنا أبو الزبير، قال: قال نافع: سمعت ابن عمر، يقول: إن الله تعالى أوحى إلى أدم عليه السلام وهو ببلاد الهند: أن حج هذا البيت. فحج أدم من بلاد الهند، فكان كلما وضع قدمه صار قرية، وما بين خطوتيه مفازة، حتى انتهى إلى البيت فطاف به، وقضى المناسك كلها، ثم أراد الرجوع إلى بلاد الهند فمضى، حتى إذا كان بمأزمى عرفات، تلقته الملائكة، فقالوا: برحجك يا آدم! فدخله من ذلك عجب، فلما رأت الملائكة ذلك منه قالوا: يا آدم، إنا قد حججنا هذا البيت قبل أن تخلق بألفي سنة، قال: فتقاصرت إلى آدم نفسه. وذكر أن آدم عليه السلام أهبط إلى الأرض، وعلى رأسه إكليل من شجر الجنة، فلما صار إلى الأرض، ويبس الإكليل، تحات ورقه فنبت منه أنواع الطيب. وقال بعضهم: بل كان ذ لك ما أخبر الله عنهما، أنهما جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة، فلما يبس ذلك الورق الذي خصفاه عليهما تحات فنبت من ذلك الورق أنواع الطيب. والله أعلم. وقال آخرون: بل لما علم آدم أن الله عز وجل مهبطه إلى الأرض، جعل لا يمر بشجرة من شجر الجنة إلا أخذ غصنًا من أغصانها فهبط إلى الأرض وتلك الأغصان معه، فلما يبس ورقها تحات، فكان ذلك أصل الطيب. ذكر من قال ذلك حدثنا أبو همام، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القتّ قال: قال لي مجاهد: لقد حدثني عبد الله ابن عباس، أن آدم حين خرج من الجنة كان لا يمر بشيء إلا عبث به، فقيل للملائكة: دعوه فليتزود منها ما شاء، فنزل حين نزل بالهند، وإن هذا الطيب الذي يجاء به من الهند مما خرج به آدم من الجنة. ذكر من قال كان على رأس آدم عليه السلام حين أهبط من الجنة إكليل من شجر الجنة حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: خرج آدم من الجنة، فخرج منها ومعه عصا من شجر الجنة، وعلى رأسه تاج أو إكليل من شجر الجنة، قال: فأهبط إلى الهند، ومنه كل طيب بالهند. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: هبط آدم عليه - يعني على الجبل الذي هبط عليه - ومعه ورق من ورق الجنة، فبثه في ذلك الجبل، فمنه كان أصل الطيب كله، وكل فاكهة لا توجد إلا بأرض الهند. وقال آخرون: بل زوده الله من ثمار الجنة، فثمارنا هذه من تلك الثمار. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن قسامة بن زهير، عن الأشعري، قال: إن الله تبارك وتعالى لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة، وعلمه صنعة كل شيء، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير. وقال آخرون: إنما علق بأشجار الهند طيب ريح آدم عليه السلام. ذكر من قال إنما صار الطيب بالهند لأن آدم حين أهبط إليها علق بأشجارها طيب رحيه حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: نزل آدم عليه السلام معه ريح الجنة، فعلق بشجرها وأوديتها وامتلأ ما هنالك طيبًا، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح الجنة. وقالوا: أنزل معه من طيب الجنة. وقال: أنزل معه الحجر الأسود، وكان أشد بياضًا من الثلج، وعصا موسى، وكان من آس الجنة، طولها عشرة أذرع على طول موسى، ومر ولبان، ثم أنزل عليه بعد ذلك العلاة والمطرقة والكلبتان، فنظر آدم حين أهبط على الجبل إلى قضيب من حديد نابت على الجبل، فقال: هذا من هذا، فجعل يكسر أشجارًا قد عتقت ويبست بالمطرقة، ثم أوقد على ذلك الغصن حتى ذاب، فكان أول شيء ضربه مدية، فكان يعمل بها ثم ضرب التنور، وهو الذي ورثه نوح، وهو الذي فار بالعذاب بالهند. وكان آدم حين هبط يمسح رأسه السماء، فمن ثم صلع، وأورث ولده الصلع ونفرت من طوله دواب البر، فصارت وحشًا من يومئذ، وكان آدم عليه السلام وهو على ذلك الجبل قائم يسمع أصوات الملائكة، ويجد ريح الجنة، فحط من طوله ذلك إلى ستين ذراعًا، فكان ذلك طوله إلى أن مات. ولم يجمع حسنُ آدم عليه السلام لأحد من ولده إلا ليوسف عليه السلام. وقيل: إن من الثمار التي زود الله عز وجل آدم عليه السلام حين أهبط إلى الأرض ثلاثين نوعًا: عشرة منها في القشور وعشرة لها نوى، وعشرة لا قشور لها ولا نوى. فأما التي في القشور منها فالجوز، واللوز، والفستق، والبندق، والخشخاش، والبلوط، والشاهبلوط، والرانج، والرمان، والموزُ. وأما التي لها نوى منها فالخوخ، والمشمش، والإجاص، والرطب، والغبيراء، والنبق، والزعرور، والعناب، والمقل، والشاهلوج. وأما التي لا قشور لها ولا نوى فالتفاح، والسفرجل، والكمثرى، والعنب، والتوت، والتين، والأترج، والخرنوب، والخيار، والبطيخ. وقيل: كان مما أخرج آدم معه من الجنة صرة من حنطة، وقيل: إن الحنطة إنما جاءه بها جبرئيل عليه السلام بعد أن جاع آدم، واستطعم ربه، فبعث الله إليه مع جبرئيل عليه السلام بسبع حبات من حنطة، فوضعها في يد آدم عليه السلام، فقال آدم لجبرئيل: ما هذا؟ فقال له جبرئيل: هذا الذي أخرجك من الجنة، وكان وزن الحبة منها مائة ألف درهم وثمانمائة درهم، فقال آدم ما أصنع بهذا؟ قال: انثره في الأرض ففعل، فأنبته الله عز وجل من ساعته، فجرت سنة في ولده البذر في الأرض، ثم أمره فحصده، ثم أمره فجمعه وفركه بيده، ثم أمره أن يذريه، ثم أتاه بحجرين فوضع أحدها على الآخر فطحنه، ثم أمره أن يعجنه، ثم أمره أن يخبزه ملةً، وجمع له جبرئيل عليه السلام الحجر والحديد فقدحه، فخرجت منه النار، فهو أول من خبز الملة. وهذا القول الذي حكيناه عن قائل هذا القول، خلاف ما جاءت به الروايات عن سلف أمة نبينا ﷺ، وذلك أن المثنى بن إبراهيم حدثني أن إسحاق حدثه، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، وعن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته السنبلة، فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما، وكان الذي وارى عنهما من سوءاتهما أضفارهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ورق التين يلصقان بعضها إلى بعض، فانطلق آدم موليًا في الجنة، فأخذت برأسه شجرة من الجنة فناداه: يا آدم، أمني تفر؟ قال: لا، ولكني استحيتك يا رب، قال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة عما حرمتُ عليك! قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبتُ أن أحدًا يحلف بك كاذبًا، قال - وهو قول الله تبارك وتعالى: " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " - قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، فلا تنال العيش إلا كدًا. قال: فأهبط من الجنة، وكانا يأكلان فيها رغدًا، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب، فعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصده، ثم داسه، ثم ذراه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، ثم أكله، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحدث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو الذي قال الله عز وجل: " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى "، فكان ذلك شقاؤه. فهذا الذي قاله هؤلاء هو أولى بالصواب، وأشبه بما دل عليه كتاب ربنا عز وجل، وذلك أن الله عز ذكره لما تقدم إلى آدم وزوجته حواء بالنهي عن طاعة عدوهما، قال لآدم: " يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى "، فكان معلومًا أن الشقاء الذي أعلمه أنه يكون إن أطاع عدوه إبليس، هو مشقة الوصول إلى ما يزيل الجوع والعري عنه، وذلك هي الأسباب التي بها يصل أولاده إلى الغذاء، من حراثة وبذر وعلاج وسقي، وغير ذلك من الأسباب الشاقة المؤلمة. ولو كان جبرئيل أتاه بالغذاء الذي يصل إليه ببذره دون سائر المؤن غيره، لم يكن هناك من الشقاء الذي توعده به ربه على طاعة الشيطان ومعصية الرحمن كبير خطب، ولكن الأمر كان - والله أعلم - على ما روينا عن ابن عباس وغيره. وقد قيل: إن أدم عليه السلام نزل معه السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة. ثم إن الله عز ذكره فيما ذكر أنزل آدم من الجبل الذي أهبطه عليه إلى سفحه، وملكه الأرض كلها، وجميع ما عليها من الجن والبهائم والدواب والوحش والطير وغير ذلك، وأن آدم عليه السلام لما نزل من رأس ذلك الجبل، وفقد كلام أهل السماء، وغابت عنه أصوات الملائكة، ونظر إلى سعة الأرض وبسطتها، ولم ير فيها أحدًا غيره، استوحش فقال: يا رب، أما لأرضك هذه عامر يسبحك غيري! فأجيب بما حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد ابن معقل، أنه سمع وهبًا يقول: إن آدم لما أهبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحدًا غيره قال: يا رب، أما لأرضك هذه عامر يسبح بحمدك ويقدس لك غيري! قال الله: إني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي ويقدسني، وسأجعل فيها بيوتًا ترفع لذكري، ويسبح فيها خلقي، ويذكر فيها أسمي، وسأجعل من تلك البيوت بيتًا أخصه بكرامتي، وأوثره باسمي، وأسميه بيتي أنطقه بعظمتي، وعليه وضعت جلالي. ثم أنا مع ذلك في كل شيء ومع كل شيء، أجعل ذلك البيت حرمًا آمنًا يحرمُ بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه، فمن حرمه بحرمتي استوجب بذلك كرامتي، ومن أخاف أهله فيه فقد أخفر ذمتي، وأباح حرمتي. أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركًا، يأتونه شعثًا غبرًا على كل ضامر، من كل فج عميق، يرجون بالتلبية رجيجًا، ويثجون بالبكاء ثجيجًا، ويعجون بالتكبير عجيجًا، فمن اعتمده ولا يريد غيره فقد وفد إلي وزارني وضافني، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يسعف كلًا بحاجته. تعمره يا آدم ما كنت حيًا، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة، وقرنًا بعد قرن. ثم أمر آدم عليه السلام - فيما ذكر - أن يأتي البيت الحرام الذي أهبط له إلى الأرض، فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول عرش الله، وكان ذلك ياقوتة واحدة، أو درة واحدة كما حدثني الحسن ين يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبان، أن البيت أهبط ياقوتة واحدة أو درة واحدة، حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه وبقي أساسه، فبوأه الله عز وجل لإبراهيم فبناه، وقد ذكرتُ الأخبار الواردة بذلك فيما مضى قبل. فذكر أن آدم عليه السلام بكى واشتد بكاؤه على خطيئته، وندم عليها، وسأل الله عز وجل قبول توبته، وغفران خطيئته، فقال في مسألته إياه: ما سأل من ذلك، كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " قال: أي رب، ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال أي رب، ألم تنفح في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن تبتُ وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى، قال: فهو قوله تعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات ". حدثني بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله تعالى " فتلقى آدم من ربه كلمات " ذكر لنا أنه قال: يا رب: أرأيت إن أنا تبتُ وأصلحت! قال: إذا أرجعك إلى الجنة، قال: وقال الحسن: إنهما قالا: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ". حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وقيس، عن خصيف، عن مجاهد، في قوله عز وجل: " فتلقى آدم من ربه كلمات " قال: قوله: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ". حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد، قال: أخبرنا أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباسن قال: أنزل آدم معه حين أهبط من الجنة الحجر الأسود، وكان أشد بياضًا من الثلج، وبكى آدم وحواء على ما فاتهما - يعني من نعيم الجنة - مائتي سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يومًا، ثم أكلا وشربا، وهما يؤمئذ على بوذ، الجبل الذي أهبط عليه آدم ولم يقرب حواء مائة سنة. حدثنا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حدثني زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القت، قال: قال لي مجاهد، ونحن جلوس في المسجد: هل ترى هذا؟ قلتُ: يا أبا الحجاج، الحجر؟ قال: كذلك تقول؟ قلت: أو ليس حجرًا؟ قال: فوالله لحدثني عبد الله بن عباس أنها ياقوتة بيضاء خرج بها آدم من الجنة، كان يمسح بها دموعه، وأن آدم لم ترقأ دموعه منذ خرج من الجنة حتى رجع إليها ألفي سنة، وما قدر منه إبليس على شيء، فقلت له: يا أبا الحجاج، فمن أي شيء اسود؟ قال: كان الحيض يلمسنه في الجاهلية، فخرج آدم عليه السلام من الهند يؤم البيت الذي أمره الله عز وجل بالمصير إليه، حتى أتاه، فطاف به، ونسك المناسك، فذكر أنه ألتقى هو وحواء بعرفات، فتعارفا بها، ثم ازدلف إليها بالمزدلفة، ثم رجع إلى الهند مع حواء، فاتخذا مغارة يأويان إليها في ليلهما ونهارهما، وأرسل الله إليهما ملكًا يعلمهما ما يلبسانه ويستتران به، فزعموا أن ذلك كان من جلود الضأن والأنعام والسباع. وقال بعضهم: إنما كان ذلك لباس أولادهما، فأما آدم وحواء فإن لباسهما كان ما كانا خصفًا على أنفسهما من ورق الجنة. ثم إن الله عز ذكره مسح ظهر آدم عليه السلام بنعمان من عرفة، وأخرج ذريته، فنثرهم بين يديه كالذر، فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، كما قال عز وجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ". وقد حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ، قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلًا، وقال: " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة " إلى قوله: " بما فعل المبطلون ". حدثني عمران بن موسى القزاز، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى "، قال: مسح ربنا ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذه - وأشار بيده - فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. حدثنا ابن وكيع ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا ابن علية، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله عز وجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى "، قال: مسح ظهر آدم فخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان، هذا الذي وراء عرفة، وأخذ ميثاقهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، واللفظ لحديث يعقوب. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أهبط آدم حين أهبط فمسح الله ظهره، فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم تلى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم "، فجف القلم من يومئذ بما هو كائن إلى يوم القيامة. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم "، قال: لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام أخذ ذريته من ظهره مثل الذر، فقبض قبضتين، فقال لأصحاب اليمين: أدخلوا الجنة بسلام، وقال للآخرين: ادخلوا النار ولا أبالي. حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا روح بن عبادة وسعد بن عبد الحميد بن جعفر عن مالك بن أنس عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار الجهني، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم "، فقال عمر: سمعت رسول الله ﷺ قال: " إن الله خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه واستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العلم؟ قال: " إن الله تبارك وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عملٍ من عمل أهل الجنة فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعملٍ أهل النار حتى يموت على عملٍ من عمل أهل النار فيدخله النار ". وقيل: إنه أخذ ذرية آدم عليه السلام من ظهره بدحنا. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس: " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " قال: لما خلق الله عز وجل آدم مسح ظهره بدحنا فأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قال: فيرون يومئذ، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقال بعضهم: أخرج الله ذرية آدم من صلبه في السماء قبل أن يهبطه إلى الأرض، وبعد أن أخرجه من الجنة. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى "، قال: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه من السماء، ثم إنه مسح من آدم صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرية كهيئة الذر بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم: أدخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه كهيئة الذر سودًا، فقال: أدخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول: " أصحاب اليمين " و " أصحاب الشمال ". ثم أخذ الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا بلى، فأعطاه طائفة طائعين، وطائفة على وجه التقية. ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم عليه السلام بعد أن أهبط إلى الأرض فكان أول ذلك قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل، وأهل العلم يختلفون في اسم قابيل، فيقول بعضهم: هو قين بن آدم، ويقول بعضهم: هو قايين ابن آدم. ويقول بعضهم: هو قاين: ويقول بعضهم: هو قابيل. واختلفوا أيضا في السبب الذي من أجله قتله فقال بعضهم في ذلك ما حدثني به موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ، قال: كان لا يولد لآدم مولودٌ إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان، يقال لهما قابيل وهابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت أحسن من أخت هابيل، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوجها، فأمره أبوه أن يزوجها هابيل، فأبى. وإنهما قربا قربانًا إلى الله أيهما أحق بالجارية، وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما وأتى مكة ينظر إليها، قال الله لآدم: يا آدم، هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض؟ قال: اللهم لا، قال: فإن لي بيتًا بمكة فأته، فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال: فأبت، فقال لقابيل، فقال نعم، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك، فلما انطلق آدم قربا قربانًا، وكان قابيل يفخر عليه فيقول: أنا أحق بها منك هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصي والدي، فلما قربا، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل فغضب، وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل: " إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت لي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك "، إلى قوله: " فطوعت له نفسه قتل أخيه "، فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمه في جبل وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه، فمات وتركه بالعراء، لا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه قال: " يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي "، فهو قوله عز وجل: " فبعث الله غرابًا يبحثُ في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه ". فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل آخاه، فذلك حين يقول الله عز وجل: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال " - إلى آخر الآية - " إنه كان ظلومًا جهولًا ". يعني قابيل حين حمل أمانة آدم، ثم لم يحفظ له أهله. وقال آخرون: كان السبب في ذلك أن آدم كان يولد له من حواء في كل بطن ذكر وأنثى فإذا بلغ الذكر منهما زوج منه ولده الأنثى التي ولدت مع أخيه الذي ولد في البطن الآخر، قبله أو بعده. فرغب قابيل بتوءمته عن هابيل. كما حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجمرة، وهو متقنع متوكئ على يدي، حتى إذا وازينا بمنزل سمرة الصواف، وقف يحدثني عن ابن عباس، قال: نهى أن تنكح المرأة أخاها توءمها، وينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد في كل بطن رجل وامرأة، فولدت امرأة وسيمة وولدت امرأة قبيحة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي، قال: لا، أنا أحق بأختي، فقربا قربانًا فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله، فلم يزل ذلك الكبش محبوسًا عند الله عز وجل حتى أخرجه في فداء إسحاق، فذبحه على هذا الصفا، في ثبير، عند منزل سمرة الصواف، وهو على يمينك حين ترمي الجمار. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأول، أن آدم عليه السلام كان يغشي حواء في الجنة قبل أن تصيب الخطيئة، فحملت له بقين بن آدم وتوءمته، فلم تجد عليهما وحمًا لا وصبًا، ولم تجد عليهما طلقًا حين ولدتهما، ولم تر معهما دمًا لظهر الجنة، فلما أكلا من الشجرة وأصابا المعصية، وهبطا إلى الأرض واطمأنا بها تغشاها، فحملت بهابيل وتوءمته، فوجدت عليهما الوحم والوصب، ووجدت حين ولدتهما الطلق ورأت معهما الدم، وكانت حواء - فيما يذكرون - لا تحمل إلا توءمًا ذكرًا وأنثى، فولدت حواء لآدم أربعين ولدًا لصلبه من ذكر وأنثى في عشرين بطنًا، وكان الرجل منهم أي أخواته شاء تزوج إلا توءمته التي تولد معه، فإنها لا تحل له، وذلك أنه لم يكن نساء يومئذ إلا أخواتهم وأمهم حواء. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول أن آدم أمر ابنه قينًا أن ينكح توءمته هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توءمته قينا، فسلم لذلك هابيل ورضي وأبى ذلك قين وكره تكرمًا عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال، نحن ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي - ويقول بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأول: بل كانت أخت قين من أحسن الناس، فضن بها عن أخيه، وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان - فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك فأبى قين أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه يا بني فقرب قربانًا، ويقرب أخوك هابيل قربانًا فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها، وكان قين على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قين قمحًا، وقرب هابيل أبكارًا من أبكار غنمه - وبعضهم يقول: قرب بقرة - فأرسل الله جل وعز نارًا بيضاء، فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قين. وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله الله عز وجل، فلما قبل الله قربان هابيل - وكان في ذلك القضاء له بأخت قين - غضب قين، وغلب غليه الكبر واستحوذ عليه الشيطان، فاتبع أخاه هابيل، وهو في ماشيته فقتله، فهما اللذان قص الله خبرهما في القرآن على محمد ﷺ، فقال: " واتل عليهم " يعني أهل الكتاب " نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما " إلى آخر القصة، قال: فلما قتله سقط في يديه، ولم يدر كيف يواريه، وذلك أنه كان - فيما يزعمون - أول قتيل من بني آدم: " فبعث الله غرابًا يبحثُ في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي " إلى قوله: " ثم إن كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ". قال: ويزعم أهل التوراة أن قينًا حين قتل أخاه هابيل، قال الله له: أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا، فقال الله له: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض! الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها، فتلقت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض، فقال قين: عظمت خطيئتي من أن تغفرها، قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض وأتوارى من قدامك، وأكون فزعًا تائهًا في الأرض، وكل من لقيني، قتلني. فقال الله عز وجل: ليس ذلك كذلك، فلا يكون كل من قتل قتيلًا يجزى بواحد سبعة، ولكن من قتل قينًا يجزى سبعة، وجعل الله في قين آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قين من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة. وقال آخرون في ذلك: إنما كان قتل القاتل منهما أخاه أن الله عز وجل أمرهما بتقريب قربان، فتقبل قربان أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، فبغاه الذي لم يتقبل قربانه فقتله. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو، قال إن ابني آدم اللذين قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر كان أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، وأنهما أمرا أن يقربا قربانًا، وأن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها، طيبة بها نفسه، وأن صاحب الحرث قرب، شر حرثه: الكوزر والزوان، غير طيبة بها نفسه، وأن الله عز وجل تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه وقال: إيم الله، إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن ينبسط إلى أخيه. وقال آخرون بما حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس، قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا: لو قربنا قربانًا! وكان الرجلُ إذا قرب قربانًا فرضية الله عز وجل أرسل إليه نارًا فأكلته، وإن لم يكن رضيه الله خبت النار، فقربا قربانًا، وكان أحدهما راعيًا والآخر حراثًا، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها، وقرب الآخر بعض زرعه، فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتمشي في الناس، وقد علموا أنك قربت قربانًا فتقبل منك ورد علي قرباني! فلا والله لا ينظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني، فقال: لأقتلنك، فقال له أخوه ما ذنبي! إنما يتقبل الله من المتقين. وقال آخرون: لم تكن قصة هذين الرجلين في عهد آدم، ولا كان القربان في عصره، وقالوا: إنما كان هذان رجلين من بني إسرائيل، وقالوا: إن أول ميت مات في الأرض آدم عليه السلام، لم يمت قبله أحد. ذكر من قال ذلك حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو، عن الحسن، قال: كان الرجلان اللذان في القرآن قال الله عز وجل فيهما: " واتل عليهما نبأ ابني آدم بالحق " من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كانا القربان من بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات. وقال بعضهم: إن آدم غشي حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة، فولدت له قابيل وتوءمته قليمًا في بطن واحد، ثم هابيل وتوءمته في بطن واحد، فلما شبوا أراد آدم عليه السلام أن يزوج أخت قابيل التي ولدت معه في بطن واحد من هابيلن فامتنع من ذلك قابيل، وقربا بهذا السبب قربانًا فتقبل قربان هابيل، ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده قابيل، فقتله عند عقبة حرى ثم نزل قابيل من الجبل، آخذًا بيد أخته قليما، فهرب بها إلى عدن من أرض اليمن. حدثني بذلك الحارس، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما قتل قابيل أخاه هابيل أخذ بيد أخته ثم هبط بها من جبل بوذ إلى الحضيض، فقال آدم لقابيل: اذهب فلا تزال مرعوبًا لا تأمن من تراه، فكان لا يمر به أحد من ولده إلا رماه، فأقبل ابن لقابيل أعمى، ومعه ابن له، فقال للأعمى ابنه: هذا أبوك قابيل، فرمى الأعمى أباه قابيل فقتله، فقال ابن الأعمى: قتلت يا أبتاه أباك، فرفع الأعمى يده، فلطم ابنه فمات ابنه، فقال الأعمى: ويل لي! قتلت أبي برميتي، وقتلت ابني بلطمتي! وذكر في التوراة أن هابيل قتل وله عشرون سنة، وأن قابيل كان له يوم قتله خمس وعشرون سنة. والصحيح من القول عندنا أن الذي ذكر الله في كتابه أنه قتل أخاه من ابني آدم هو ابن آدم لصلبه، لنقل الحجة أن ذلك كذلك، وأن هناد بن السري حدثنا، قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع جميعًا عن الأعمش. - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير وأبو معاوية عن الأعمش - عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال النبي ﷺ: " ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها "، وذلك لأنه أول من سن القتل. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي - وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي - جميعًا عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن البني ﷺ نحوه. فقد بين هذا الخبر عن رسول الله ﷺ صحة قول من قال: إن اللذين قص الله في كتابه قصتهما من ابني آدم كانا ابنيه لصلبه، لأنه لا شك أنهما لو كانا من بني إسرائيل - كما روي عن الحسن - لم يكن الذي وصف منهما بأنه قتل أخاه أول من سن القتل، إذ كان القتل في بني آدم قد كان قبل إسرائيل وولده. فإن قال قائل: فما برهانك على أنهما ولدا آدم لصلبه، وأن لم يكونا من بني إسرائيل؟ قيل: لا خلاف بين سلف علماء أمتنا في ذلك، إذا فسد قول من قال: كانا من بني إسرائيل. وذكر أن قابيل لما قتل أخاه هابيل بكاه آدم عليه السلام فقال - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لما قتل ابن آدم آخاه بكاه آدم، فقال: تغيرت البلاد ومن عليها ** فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي طعم ولون ** وقل بشاشة الوجه المليح قال: فأجيب آدم عليه السلام: أبا هابيل قد قتلا جميعًا ** وصار الحي كالميت الذبيح وجاء بشرةٍ قد كان منها ** على خوفٍ فجاء بها يصيح وذكر أن حواء ولدت لآدم عليه السلام عشرين ومائة بطن، أولهم قابيل وتوءمته قليما، وآخرهم عبد المغيث وتوءمته أمة المغيث. وأما ابن إسحاق فذكر عنه ما قد ذكرتُ قبل، وهو أن جميع ما ولدته حواء لآدم لصلبه أربعون من ذكر وأنثى في عشرين بطنًا، وقال: قد بلغنا أسماء بعضهم ولم يبلغنا بعض. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فكان من بلغنا اسمه خمسة عشر رجلًا وأربع نسوة، منهم قين وتوءمته، وهابيل وليوذا وأشوث بنت آدم وتوءمتها، وشيث وتوءمته، وحزورة وتوءمها، على ثلاثين ومائة سنة من عمره. ثم أباد بن آدم وتوءمته، ثم بالغ بن آدم وتوءمته، ثم أثاثى بن أدم وتوءمته، ثم توبة بن آدم وتوءمته، ثم بنان ابن آدم وتوءمته، ثم شبوبة بن آدم وتوءمته، ثم حيان بن آدم وتوءمته، ثم ضرابيس بن آدم وتؤءمته، ثم هدز بن آدم وتوءمته، ثم يحود بن آدم وتوءمته، ثم سندل بن آدم وتوءمته، ثم بارق بن آدم وتوءمته، كل رجل منهم تولد معه امرأة في بطنه الذي يحمل به فيه. وقد زعم أكثر علماء الفرس أن جيو مرت هو أدم، وزعم بعضهم أنه ابن آدم لصلبه من حواء. وقال فيه غيرهم أقوالًا كثيرة، يطول بذكر أقوالهم الكتاب، وتركنا ذكر ذلك إذ كان قصدنا من كتابنا هذا ذكر الملوك وأيامهم، وما قد شرطنا في كتابنا هذا أنا ذاكروه فيه، ولم يكن ذكرُ اختلاف المختلفين في نسب ملك من جنس ما أنشأنا له صنعة الكتاب، فإن ذكرنا من ذلك شيئًا فلتعرف من ذكرنا، ليعرفه من لم يكن به عارفًا، فأما ذكر الاختلاف في نسبة فإنه غير المقصود به في كتابنا هذا. وقد خالف علماء الفرس فيما قالوا من ذلك آخرون من غيرهم ممن زعم أنه آدم، ووافق علماء الفرس على اسمه وخالفه في عينه وصفته، فزعم أن جيومرت الذي زعمت الفرس أنه آدم عليه السلام إنما هو جامر بن يافث ابن نوح، وأنه كان معمرًا سيدًا نزل جبل دنباوند من جبال طبرستان من أرض المشرق، وتملك بها وبفارس، ثم عظم أمره وأمر ولده، حتى ملكوا بابل وملكوا في بعض الأوقات الأقاليم كلها، وأن جيومرت منع من البلاد ما صار إليه، وابتنى المدن والحصون وعمرها، وأعد السلاح، واتخذ الخيل، وأنه تجبر في آخر عمره، وتسمى بآدم، وقال: من سماني بغير هذا الاسم ضربتُ عنقه، وأنه تزوج ثلاثين امرأة، فكثر منهن نسله، وأن ماري ابنه وماريانة أخته ممن كان ولد له في آخر عمره، فأعجب بهما وقدمهما، فصار الملوك بذلك السبب من نسلهما، وأن ملكه اتسع وعظم. وإنما ذكرت من أمر جيومرت في هذا الموضوع ما ذكرت، لأنه لا تدافع بين علماء الأمم أن جيومرت هو أبو الفرس من العجم، وإنما اختلفوا فيه: هل هو آدم أبو البشر على ما قاله الذين ذكرنا قولهم أم هو غيره؟ ثم مع ذلك فلأن ملكه وملك أولاده لم يزل منتظمًا على سياق، متسقًا بأرض المشرق وجبالها إلى أن قتل يزد جرد بن شهريار من ولد ولده بمرور - أبعده الله - أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتأريخ ما مضى من سنى العالم على أعمار ملوكهم أسهل بيانًا، وأوضح منارًا منه على أعمار ملوك غيرهم من الأمم، إذ لا تعلم أمة من الأمم الذين ينتسبون إلى آدم عليه السلام دامت لها المملكة، واتصل لهم الملك، وكانت لهم ملوك تجمعهم، ورؤس تحامى عنهم من ناوأهم، وتغالب بهم من عازَّهم، وتدفع ظالمهم عن مظلومهم، وتحملهم من الأمور على ما فيه حظهم على اتصال ودوام ونظام، يأخذ ذلك آخرهم عن أولهم، وغابرهم عن سالفهم سواهم، فالتأريخ على أعمار ملوكهم أصحّ مخرجًا، وأحسن وضوحًا. وأنا ذاكر ما انتهى إلينا من القول في عمر آدم عليه السلام وأعمار من كان بعده من ولده الذين خلفوه في النبوة والملك، على قول من خالف قول الفرس الذين زعموا أنه جيومرت، وعلى قول من قال: إنه هو جيومرت أبو الفرس، وذاكر ما اختلفوا فيه من أمرهم إلى الحال التي اجتمعوا عليها، فاتفقوا على من ملك منهم في زمان بعينه أنه كان هو الملك في ذلك الزمان إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم سائق ذلك كذلك إلى زماننا هذا. ونرجع الآن إلى الزيادة في الإبانة عن خطأ قول من قال: إن أول ميت كان في أول الأرض آدم، وإنكاره الذين قص الله نبأهما في قوله: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا "، أن يكونا من صلب آدم من أجل ذلك. فحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام قال: " كانت حواء لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش لها ولد لتسمينه عبد الحارث، فعاش لها ولد فسمته عبد الحارث، وإنما كان ذلك عن وحي الشيطان ". وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت حواء تلد لآدم فتعبدهم الله عز وجل وتسميهم: عبد الله، وعبيد الله، ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاها إبليس وآدم عليه السلام، فقال: إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش، فولدت له ذكرًا فسمياه عبد الحارث، ففيه أنزل الله عز ذكره، يقول الله عز وجل: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة "، إلى قوله: " جعلا له شركاء فيما آتاهما " إلى آخر الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن سعيد بن جبير: " فلما أثقلت دعوا الله ربهما " إلى قوله: " فتعالى الله عما يشركون ". قال: ولما حملت حواء في أول ولد ولدته حين أثقلت أتاها إبليس قبل أن تلد فقال: يا حواء، ما هذا في بطنك؟ فقالت: ما أدري من؟ فقال: أين يخرج؟ من أنفك؟ أو من عينك؟ أو من أذنك؟ قالت: لا أدري، قال: أرأيت إن خرج سليمًا أمطيعتي أنت فيما آمرك به؟ قالت: نعم، قال: سميه عبد الحارث - وقد كان يسمى إبليس لعنه الله الحارث - فقالت: نعم، ثم قالت بعد ذلك لآدم: أتاني آت في النوم فقال لي: كذا وكذا، فقال: إن ذاك الشيطان فاحذريه، فإنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة، ثم أتاها إبليس لعنه الله فأعاد عليها، فقالت: نعم، فلما وضعته أخرجه الله سليمًا فسمته عبد الحارث، فهو قوله: " جعلا له شركاء فيما آتاهما " إلى قوله: " فتعالى الله عما يشركون ". حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير وابن فضيل، عن عبد الملك، عن سعيد بن جبير، قال: قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أن آدم عليه السلام أشرك! ولكن حواء لما أثقلت أتاها إبليس فقال لها: من أين يخرج هذا؟ من أنفك، أو من عينك، أو من فيك؟ فقنطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سويًا - قال ابن وكيع: زاد ابن فضيل: " لم يضرك ولم يقتلك " - أتطيعيني؟ قالت: نعم، قال: فسميه عبد الحارث، ففعلت - زاد جرير: فإنما كان شركه في الاسم. حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: فولدت - يعني حواء - غلامًا، فأتاها إبليس فقال: سموه عبدي، وإلا قتلته، قال له آدم: قد أطعتك وأخرجتني من الجنة، فأبى أن يطيعه، فسماه " عبد الرحمن " فسلط عليه إبليس لعنه الله فقتله، فحملت بآخر فلما ولدته، قال: سميه عبدي وإلا قتلته، قال له آدم عليه السلام: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة. فأبى فسماه صالحًا، فقتله، فلما كان الثالث قال لهما: فإذ غلبتموني فسموه عبد الحارث، وكان اسم إبليس الحارث، - وإنما سمي إبليس حين أبلس تحير - فذلك حين يقول الله عز وجل: " جعلا له شركاء فيما آتاهما " - يعني في الأسماء. فهؤلاء الذين ذكرت الرواية عنهم بما ذكرت، من أنه مات لآدم وحواء أولاد قبلهما، ومن لم نذكر أقوالهم ممن عددهم أكثر من عدد من ذكرت قوله والرواية عنه، قالوا خلاف قول الحسن الذي روى عنه أنه قال: أول من مات آدم عليه السلام. وكان آدم مع ما كان الله عز وجل قد أعطاه من ملك الأرض والسلطان فيها قد نبأه، وجعله رسولًا إلى ولده، وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة كتبها آدم عليه السلام بخطه، علمه إياها جبرئيل عليه السلام. وقد حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمي، قال: حدثني الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله ﷺ جالس وحده، فجلست إليه فقال لي: " يا أبا ذر، إن للمسجد تحية وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما "، فلما ركعتهما جلست إليه فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة؟ قال: " خيرُ موضوع، استكثر أو استقل "، ثم ذكر قصة طويلة قال فيها: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا "، قال: قلت: يا رسول الله، كم المرسل من ذلك؟ قال " ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًا غفيرًا "، يعني كثيرًا طيبًا، قال: قلت يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: " آدم "، قال: قلت يا رسول الله، وآدم نبي مرسل؟ قال: " نعم خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلًا ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة، عن أبي ذر قال: قلت، يا نبي الله، أنبيًا كان آدم؟ قال: " نعم، كان نبيًا، كلمه الله قبلا ". وقيل: إنه كان مما أنزل الله تعالى على آدم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة. ذكر ولادة حواء شيثا ولما مضى لآدم ﷺ من عمره مائة وثلاثون سنة، وذلك بعد قتل قابيل هابيل بخمس سنين، ولدت له حواء ابنه شيثًا، فذكر أهل التوراة أن شيثًا ولد فردًا بغير توأم، وتفسير شيث عندهم هبة الله ومعناه أنه خلف من هابيل. حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرنا هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولدت حواء لآدم شيئًا وأخته عزورا، فسمى هبة الله، اشتق له من هابيل، قال لها جبرئيل حين ولدته: هذا هبة الله بدل هابيل، وهو بالعربية شِث، وبالسريانية شاث، وبالعبرانية شيث، وإليه أوصى آدم، وكان آدم يوم ولد له شيث ابن ثلاثين ومائة سنة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، قال: لما حضرت آدم الوفاة - فيما يذكرون والله أعلم - دعا ابنه شيثًا فعهد إليه عهده، وعلمه ساعات الليل والنهار، وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منهن، فأخبره أن لكل ساعة صنفًا من الخلق فيها عبادته، وقال له: يا بني إن الطوفان سيكون في الأرض يلبث فيها سبع سنين. وكتب وصيته، فكان شيث - فيما ذكر - وصى أبيه آدم عليه السلام، وصارت الرياسة من بعد وفاة آدم لشيث، فأنزل الله عليه فيما روي عن رسول الله ﷺ خمسين صحيفة. حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمي، قال: حدثنا الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قلت: يا رسول الله، كم كتاب أنزل الله عز وجل؟ قال: " مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة ". وإلى شيث أنسابُ بني آدم كلهم اليوم، وذلك أن نسل سائر ولد آدم غير نسل شيث، انقرضوا وبادوا فلم يبقى منهم أحد، فأنساب الناس كلهم اليوم إلى شيث عليه السلام. وأما الفرس الذين قالوا إن جيومرت هو آدم، فإنهم قالوا: ولد الجيومرت ابنه ميشى، وتزوج ميشى أخته ميشانه فولدت له سيامك بن ميشى، وسيامي ابنة ميشى، فولد لسيامك بن ميشى بن جيومرت أفرواك، وديس، وبراسب، وأجوب، وأوراش بنو سيامك، وأفري، ودذي، ويرى وأوراشى بنات سيامك، أمهم جميعًا سيامي بنت ميشى، وهي أخت أبيهم. وذكروا أن الأرض كلها سبعة أقاليم، فأرض بابل وما يوصل إليه مما يأتيه الناس برًا أو بحرًا فهو إقليم واحد، وسكانه نسل ولد أفرواك بن سيامك وأعقابهم، وأما الأقاليم الستة الباقية التي لا يوصل إليها اليوم برًا أو بحرًا فنسلُ سائر ولد سيامك، من بنيه وبناته. فولد لأفرواك بن سيامك من أفري بنت سيامك هوشنك بيشداذ الملك، وهو الذي خلف جده جيومرت في الملك، وأول من جمع له ملك الأقاليم السبعة، وسنذكر أخباره إن شاء الله إذا أنتهينا إليه. وكان بعضهم يزعم أن أوشهنج هذا، هو ابن آدم لصلبه من حواء. وأما هشام الكلبي فإنه فيما حدثتُ عنه قال: بلغنا والله أعلم - أول ملك ملك الأرض أو شهنق بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. قال: والفرس تدّعيه وتزعم أنه كان بعد وفاة آدم بمائتي سنة، قال: وإنما كان هذا الملك فيما بلغنا بعد نوح بمائتي سنة، فصيره أهل فارس بعد آدم بمائتي سنة، ولم يعرفوا ما كان قبل نوح. وهذا الذي قاله هشام قول لا وجه له، لأن هوشهنك الملك في أهل المعرفة بأنساب الفرس أشهر من الحجاج بن يوسف في أهل الإسلام، وكل قوم فهم بآبائهم وأنسابهم ومآثرهم أعلم من غيرهم، وإنما يرجع في كل أمر التبس إلى أهله. وقد زعم بعض نسابة الفرس أن أوشهنج بيشداذ الملك هذا هو مهلائيل، وأن أباه فرواك هو قينان أبو مهلائيل، وأن سيامك هو أنوش أبو قينان، وأن ميشى هو شيث أبو أنوش، وأن جيومرت هو آدم ﷺ. فإن كان الأمر كما قال، فلا شك أن أوشهنج كان في زمان آدم رجلًا، وذلك أن مهلائيل فيما ذكر في الكتاب الأول كانت ولادة أمه دينة ابنة براكيل ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم إياه بعد ما مضى من عمر آدم ﷺ ثلاثمائة سنة وخمس وتسعون سنة، فقد كان له حين وفاة آدم ستمائة سنة وخمس سنين، على حساب ما روي عن رسول الله ﷺ في عمر آدم أنه كان عمره ألف سنة. وقد زعمت علماء الفرس أن ملك أوشهنج هذا كان أربعين سنة. فإن كان الأمر في هذا الملك كالذي قاله النسابة الذي ذكرت عنه ما ذكرت فلم يبعد من قال: إن ملكه كان بعد وفاة آدم ﷺ بمائتي سنة. ذكر وفاة آدم عليه السلام اختلف في مدة عمره، وابن كم كان يوم قبضه الله عز وجل إليه. فأما الأخبار عن رسول الله ﷺ فإنها واردة بماحدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو خالد سليمان بن حيان، قال: حدثني محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن البني ﷺ 0 قال أبو خالد: وحدثني الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ. قال أبو خالد: وحدثني داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ. قال أبو خالد: وحدثني ابن أبي ذباب الدوسي، قال: حدثنا سعيد المقبري ويزيد بن هرمز، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ - أنه قال: " خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فجلس فعطس فقال: الحمد الله، فقال له ربه: يرحمك ربك، إيت أولئك الملأ من الملائكة فقل لهم: السلام عليكم، فأتاهم فقال لهم: السلام عليكم قالوا له: وعليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربه فقال له: هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم، ثم قبض له يديه، فقال له: خذ واختر، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين، ففتحها له، فإذا فيها صورة آدم وذريته كلهم، فإذا كل رجل مكتوب عنده أجله، وإذا آدم قد كتب له عمر ألف سنة، وإذا قوم عليهم النور، فقال: يا رب من هؤلاء الذين عليهم النور، فقال: هؤلاء الأنبياء والرسل الذين أرسل إلى عبادي، وإذ فيهم رجل هو أضوءهم نورًا، ولم يكتب له من العمر إلا أربعون سنة، فقال: يا رب ما بال هذا، من أضوئهم نورًا ولم يكتب له من العمر إلا أربعون سنة؟ فقال: ذاك ما كتب له، فقال: يا رب، أنقص له من عمري ستين سنة ". فقال رسول الله ﷺ فلما أسكنه الله الجنة ثم أهبط إلى الأرض كان يعد أيامه، فلما أتاه ملك الموت ليقبضه قال له آدم: عجلت علي يا ملك الموت! فقال: ما فعلت، فقال: قد بقي من عمري ستون سنة، فقال له ملك الموت: ما بقي من عمرك شيء، قد سألت ربك أن يكتبه لابنك داود، فقال: ما فعلت ". فقال: رسول الله ﷺ: " فنسي آدم، فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته، فيومئذ وضع الله الكتاب، وأمر بالشهود ". حدثني ابن سنان، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله ﷺ: " إن أول من جحد آدم عليه السلام ثلاث مرات، وإن الله تبارك وتعالى لما خلقه مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة، فجعل يعرضهم على آدم، فرأى فيهم رجلًا يزهر، فقال: أي رب، أي نبي هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي رب، زده في عمره، قال: لا، إلا أن تزيده أنت من عمرك، وكان عمر آدم آلف سنة، فوهب له من عمره أربعين عامًا، فكتب الله عليه بذلك كتابًا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم أتته الملائكة لتقبض روحه، قال: إنه قد بقي من عمري أبعون سنة، قالوا: إنك قد وهبتها لأبنك داود، قال: ما فعلت ولا وهبت له شيئًا، فأنزل الله عليه الكتاب وأقام عليه الملائكة شهودًا، فأكمل لآدم ألف سنة، وأكمل لداود مائة سنة ". حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله عز وجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " إلى قوله: " قالوا بلى شهدنا "، قال ابن عباس: إن الله عز وجل لما خلق آدم مسح ظهره، وأخرج ذريته كلهم كهيئة الذر، فأنطقهم فتكلموا، وأشهدهم على أنفسهم، وجعل مع بعضهم النور، وأنه قال لآدم: هؤلاء ذريتك أخذ عليهم الميثاق: أني أنا ربهم لئلا يشركوا بي شيئًا، وعلى رزقهم. قال آدم: فمن هذا الذي معه النور؟ قال: هو داود، قال: يا رب، كم كتبت له من الآجل؟ قال: ستين سنة، قال: كم كتبت لي؟ قال: ألف سنة، وقد كتبت لكل إنسان منهم: كم يعمر، وكم يلبث، قال: يا رب زده، قال: هذا الكتاب موضوع فأعطه إن شئت من عمرك، قال: نعم، وقد جف القلم عن سائر بني آدم، فكتب له من أجل آدم أربعين سنة فصار أجله مائة سنة، فلما عمر تسعمائة سنة وستين سنة جاءه ملك الموت، فلما آن رآه آدم قال: مالكَ؟ قال له: قد استوفيت أجلك، قال له آدم: إنما عمرت تسعمائة سنة وستين سنة، وبقي لي أربعون سنة، فلما قال ذلك للملك، قال الملك: قد أخبرني بها ربي، قال: فارجع إلى ربك فسله، فرجع الملك إلى ربه فقال: مالك؟ قال: يا رب رجعتُ إليك لما كنت أعلم من تكرمتك إياه، قال الله عز وجل: أرجع فأخبره، أنه قد أعطى ابنه داود أربعين سنة. حدثنا بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم "، قال: أخرجهم من ظهر آدم، وجعل لآدم عمر ألف سنة، قال: فعرضوا على آدم، فرأى رجلًا من ذريته له نور، فأعجبه فسأله عنه فقال: هو داود، وقد جعل عمره ستين سنة فجعل له من عمره أربعين سنة فلما احتضر أدم عليه السلام جعل يخاصمهم في الأربعين السنة، فقيل له: إنك قد أعطيتها داود قال: فجعل يخاصمهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله عز وجل: " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " قال: أخرج ذريته من ظهره في صورة كهيئة الذر، فعرضهم على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم، قال: فعرض عليه روح داود في نور ساطع، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذريتك، نبي خلقته، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: زيدوه من عمري أربعين سنة، قال: والأقلام رطبة تجري، وأثبتت لداود عليه السلام الأربعون، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما استكملها إلا الأربعين سنة بعث إليه ملك الموت قال: يا آدم أمرتُ أن أقبضك، قال: ألم يبقى من عمري أربعون سنة؟ قال: فرجع ملك الموت إلى ربه عز وجل فقال: إن آدم يدعي من عمره أربعين سنة، قال: أخبر آدم أنه جعلها لابنه داود. والأقلام رطبة، وأثبتت لداود الأربعون. حدثنا ابن وكيع، قال حدثنا أبو داود، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، بنحوه. وذكر أن آدم عليه السلام مرض قبل موته أحد عشر يومًا، وأوصى إلى ابنه شيث عليه السلام وكتب وصيته، ثم دفع كتاب وصيته إلى شيث، وأمره أن يخفيه من قابيل وولده، لأن قابيل قد كان قتل هابيل حسدًا منه حين خصه آدم بالعلم، فاستخفى شيث وولده بما عندهم من العلم، ولم يكن عند قابيل وولد ه علم ينتفعون به. ويزعم أهل التوراة أن عمر آدم عليه السلام كله كان تسعمائة سنة وثلاثين سنة. وحدثنا الحارث قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام ابن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان عمر آدم تسعمائة سنة وستًا وثلاثين سنة، والله أعلم. والأخبار الواردة عن رسول الله ﷺ والعلماء من سّلفنا ما قد ذكرت، ورسول الله ﷺ كان أعلم الخلق بذلك. وقد ذكرت الأخبار الواردة عنه أنه قال: كان عمره ألف سنة، وأنه بعد ما جعل لأبنه داود من ذلك ما جعل له، أكمل الله له عدة ما كان أعطاه من العمر قبل أن يهب لداود ما وهب له من ذلك، ولعل ما كان جعل من ذلك آدم عليه السلام لداود عليه السلام لم يُحسب من عمر آدم في التوراة، فقيل: كان عمره تسعمائة وثلاثين سنة. فإن قال قائل: فإن الأمر وإن كان كذلك، فإن آدم إنما كان جعل لأبنه داود من عمره أربعين سنة، فكان ينبغي أن يكون في التوراة تسعمائة سنة وستون، ليوافق ذلك ما جاءت به الأخبار عن رسول الله ﷺ. قيل: قد روينا عن رسول الله ﷺ في ذلك أن الذي كان جعل آدم لأبنه داود من عمره ستون سنة، وذلك في رواية لأبي هريرة عنه، وقد ذكرناها قبل، فإن يكن ذلك كذلك، فالذي زعموا أنه في التوراة من الخبر عن مدة حياة آدم عليه السلام موافق لما روينا عن رسول الله ﷺ في ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: لما كتب آدم الوصية مات صلوات الله عليه، واجتمعت عليه الملائكة من أجل أنه كان صفى الرحمن، فقبرته الملائكة، وشيث وإخوته في مشارق الفردوس، عند قرية هي أول قرية كانت في الأرض، وكسفت عليه الشمس والقمر سبعة أيام ولياليهن، فلما اجتمعت عليه الملائكة وجمع الوصية، جعلها في معراج، ومعها القرن الذي أخرج أبونا آدم من الفردوس، لكيلا يغفل عن ذكر الله عز وجل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، قال: سمعته يقول: بلغني أن آدم عليه السلام حين مات بعث الله إليه بكفنه وحنوطه من الجنة، ثم وليت الملائكة قبره ودفنه حتى غيبوه. حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا روح بن أسلم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن الحسن، عن النبي ﷺ قال: " لما توفي آدم غسلته الملائكة بالماء وترًا، وألحدوا له، وقالت هذه سنة آدم في ولده ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن ذكوان، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي ابن كعب، قال: قال رسول الله ﷺ: " إن أباكم آدم كان طوالا كالنخلة السحوق، ستين ذراعًا، كثير الشعر، مواري العورة، وأنه لما أصاب الخطيئة بدت له سوءته فخرج هاربًا من الجنة فتلقاه شجرة، فأخذت بناصيته، وناداه ربه: أفرارًا مني يا آدم! قال: لا والله يا رب ولكن حياءً منك مما قد جنيت، فأهبطه الله إلى الأرض، فلما حضرته الوفاة بعث الله إليه بحنوطه وكفنه من الجنة، فلما رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل دونهم إليه، فقال: خلي عني وعن رسل ربي، فإني ما لقيت ما لقيتُ إلا منك، ولا أصابني ما أصابني إلا فيك. فلما قبض غسلوه بالسدر والماء وترًا، وكفنوه في وتر من الثياب، ثم لحدوا له فدفنوه، ثم قالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده. حدثني أحمد بن المقدام، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: قال أبي: - وزعم قتادة عن صاحب له حدث عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: " كان آدم رجلًا طوالا كأنه نخلة سحوق ". حدثنا الحارث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام بن محمد قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لما مات آدم عليه السلام قال شيث لجبرئيل صلى الله عليهما: صلّ على آدم، قال: تقدم أنت فصل على أبيك، وكبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأما خمس فهي الصلاة، وأما خمس وعشرون فتفضيلًا لآدم ﷺ. وقد اختلف في موضع قبر آدم عليه السلام، فقال ابن إسحاق ما قد مضى ذكره، وأما غيره فإنه قال: دفن بمكة في غار أبي قبيس، وهو غار يقال له غار الكنز. وروي عن ابن عباس في ذلك، ما حدثني به الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا هشام قال: أخبرنا أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لما خرج نوح من السفينة دفن آدم عليه السلام ببيت المقدس وكانت وفاته يوم الجمعة، وقد مضى ذكرنا الرواية بذلك، فكرهنا إعادته. وروي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: مات آدم عليه السلام على بوذ - قال أبو جعفر يعني الجبل الذي أهبط عليه - وذكر أن حواء عاشت بعده سنة ثم ماتت رحمهما الله، فدفنت مع زوجها في الغار الذي ذكرت، وأنهما لم يزالا مدفونين في ذلك المكان، حتى كان الطوفان، فاستخرجهما نوح، وجعلهما في تابوت، ثم حملهما معه في السفينة، فلما غاضت الأرض الماء ردهما إلى مكانهما الذي كانا فيه قبل الطوفان، وكانت حواء قد عزلت - فيما ذكر - ونسجت وعجنت وخبزت، وعملت أعمال النساء كلها. ونرجع الآن إلى قصة قابيل وخبره وأخبار ولده وأخبار شيث وخبر ولده - إذا كنا قد أتينا من ذكر آدم وعدوه إبليس وذكر أخبارهما، وما صنع الله بإبليس إذ تجبر وتعظم وطغى على ربه عز وجل فأشر وبطر نعمته التي أنعمها الله عليه، وتمادى في جهله وغيه، وسأل ربه النظرة، فأنظره إلى يوم الوقت المعلوم، وما صنع الله بآدم صلوات الله عليه إذ خطئ ونسي عهد الله من تعجيل عقوبته له في خطيئته، ثم تغمده إياه بفضله ورحمته، إذ تاب إليه من زلته فتاب عليه وهداه، وأنقذه من الضلالة والردى - حتى تأتي على ذكر من سلك سبيل كل واحد منهما، ثم تابع آدم عليه السلام على منهاجه وشيعة إبليس والمقتدين به في ضلالته، إن شاء الله، وما كان من صنع الله تبارك وتعالى بكل فريق منهم. فأما شيث عليه السلام فقد ذكرنا بعض أمره، وأنه كان وصي أبيه آدم عليه السلام في مخلفيه بعد مضيه لسبيله، وما أنزل الله عليه من الصحف. وقيل: إنه لم يزل مقيمًا بمكة بحج ويعتمر إلى أن مات، وأنه كان جمع ما أنزل الله عز وجل عليه من الصحف إلى صحف أبيه آدم عليه السلام، وعمل بما فيها، وأنه بنى الكعبة بالحجارة والطين. وأما السلف من علمائنا فإنهم قالوا: لم تزل القبة التي جعل الله لآدم في مكان البيت إلى أيام الطوفان، وإنما رفعها الله عز وجل حين أرسل الطوفان. وقيل: إن شيثًا لما مرض أوصى ابنه أنوش ومات، فدفن مع أبويه في غار أبي قبيس، وكان مولده لمضي مائتي سنة وخمس وثلاثين سنة، من عمر آدم عليه السلام. وكانت وفاته وقد أتت له تسعمائة سنة واثنتا عشرة سنة وولد لشيث أنوش، بعد أن مضى من عمره ستمائة سنة وخمس سنين، فيما يزعم أهل التوراة. وأما ابن إسحاق، فإنه قال فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عنه: نكح شيث بن آدم أخته حزورة ابنة آدم، فولدت له يانش بن شيث، ونعمة ابنة شيث، وشيث يومئذ ابن مائة سنة وخمس سنين، فعاش بعد ما ولد له يانش ثمانمائة سنة وسبع سنين. وقام أنوش بعد مضي أبيه شيث لسبيله بسياسة الملك، وتدبير من تحت يديه من رعيته مقام أبيه شيث، ولم يزل - فيما ذكر - على منهاج أبيه، لا يوقف منه على تغيير ولا تبديل. وكان جميعُ عمر أنوش - فيما ذكر أهل التوراة - تسعمائة سنة وخمس سنين. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولد شيث أنوش ونفرًا كثيرًا، وإليه أوصى شيث، ثم ولد لأنوش بن شيث بن آدم ابنه قينان من أخته نعمة ابنة شيث بعد مضي تسعين سنة من عمر أنوش، ومن عمر آدم ثلثمائة سنة وخمس وعشرين سنة. وأما ابن إسحاق فإنه قال فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: نكح يانش بن شيث أخته نعمة ابنة شيث، فولدت له قينان، ويانش يومئذ ابن تسعين سنة، فعاش يانش بعدما ولد له قينان ثمانمائة سنة وخمس عشرة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش يانش تسعمائة سنة وخمس سنين. ثم نكح قينان بن يانش - وهو ابن سبعين سنة - دينة ابنه براكيل بن محويل بن خنوح بن قين بن آدم، فولدت له مهلائيل بن قينان، فعاش قينان بعد ما ولد له مهلائيل ثمانمائة سنة وأربعين سنة، فكان كل ما عاش قينان تسعمائة سنة وعشر سنين. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولد أنوش قينان، ونفرًا كثيرًا، وإليه الوصية، فولد قينان مهلائيل ونفرًا معه، وإليه الوصية، فولد مهلائيل نرد - وهو اليارد - ونفرًا معه، وإليه الوصية، فولد يرد أخنوخ وهو إدريس النبي ﷺ ونفرًا معه، فولد أخنوخ متوشلخ ونفرًا معه وإليه الوصية، فولد متوشلخ لمك ونفرًا معه وإليه الوصية. وأما التوراة فما ذكر أهل الكتاب أنه فيها أن مولد مهلائيل بعد أن مضت من عمر آدم ثلاثمائة سنة وخمس وتسعون سنة، ومن عمر قينان سبعون سنة. ونكح مهلائيل بن قينان - وهو ابن خمس وستين سنة وفيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - خالته سمعن ابنة براكيل ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له يرد بن مهلائيل، فعاش مهلائيل بعد ما ولد له يرد ثمانمائة سنة وثلاثين سنة، فولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش مهلائيل ثمانمائة سنة وخمسًا وتسعين سنة، ثم مات. وأما التوراة فإنه ذكر أن فيها أن يرد ولد لمهلائيل بعد ما مضي من عمر آ دم أربعمائة سنة وستون سنة، وأنه كان على منهاج أبيه قينان، غير أن الأحداث بدت في زمانه. ذكر الأحداث التي كانت في أيام بني آدم من لدن ملك شيث بن آدم إلى أيام يرد ذكر أن قابيل لما قتل هابيل وهرب من أبيه آدم إلى اليمن، أتاه إبليس، فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار، لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك. فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: إن قينًا نكح أخته أشوث بن آدم، فولدت له رجلًا وامرأة: خنوخ بن قين، وعذب بنت قين، فنكح خنوخ بن قين أخته عذب بنت قين، فولدت له ثلاثة نفر وامرأة: عيرد بن خنوخ ومحويل بن خنوخ وأنوشيل بن خنوخ، وموليث بنت خنوخ، فنكح أنوشيل بن خنوخ موليث ابنة خنوخ، فولدت لأنوشيل رجلًا اسمه لامك، فنكح لامك امرأتين: اسم إحداهما عدي واسم الآخر صلى، فولدت له عدي تولين بن لامك، فكان أول من سكن القباب، واقتنى المال، وتوبيش، وكان أول من ضرب بالونج والنج، وولدت رجلًا اسمه توبلقين، فكان أول من عمل النحاس والحديد، وكان أولادهم جبابرة وفراعنة، وكانوا قد أعطوا بسطة في الخلق، كان الرجل فيما يزعمون يكون ثلاثين ذراعًا. قال: ثم انقرض ولد قين، ولم يتركوا عقبًا إلا قليلًا، وذرية آدم كلهم جهلت أنسابهم وانقطع نسلهم، إلا ما كان من شيث بن آدم فمنه كان النسل، وأنسابُ الناس اليوم كلهم إليه دون أبيه آدم، فهو أبو البشر، إلا ما كان من أبيه وإخوته ممن لم يترك عقبًا. قال: ويقول أهل التوراة: بل نكح قين أشوث، فولدت له خنوخ، فولد لخنوخ عيرد، فولد عيرد محويل، فولد محويل أنوشيل، فولد أنوشيل، لامك، فنكح لامك عدي وصلى، فولدتا له من سميتُ، والله أعلم. فلم يذكر ابن إسحاق من أمر قابيل وعقبه إلا ما حكيتُ. وأما غيره من أهل العلم بالتوراة فإنه ذكر أن الذي اتخذ الملاهي من ولد قابين رجل يقال له توبال، اتخذ في زمان مهلائيل بن قينان آلات اللهو من المزامير والطبول والعيدان والطنابير والمعازف، فانهمك ولد قاين في اللهو، وتناهى خبرهم إلى من بالجبل من نسل شيث، فهو منهم مائة رجل بالنزول إليهم، وبمخالفة ما أوصاهم به آباؤهم، وبلغ ذلك يارد، فوعظهم ونهاهم، فأبوا إلا تماديًا، ونزلوا إلى ولد قاين، فأعجبوا بما رأوا منهم، فلما أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوة سبقت من آبائهم، فلما أبطئوا بمواضعهم، ظن من كان في نفسه زيغ ممن كان بالجبل أنهم أقاموا اعتباطًا، فتساللوا ينزلون عن الجبل، ورأوا اللهو فأعجبهم، ووافقوا نساء من ولد قايين متسرعات إليهم، وصرن معهم، وانهمكوا في الطغيان، وفشت الفاحشة وشرب الخمر. قال أبو جعفر: وهذا القول غير بعيد من الحق، وذلك أن قول قد روي عن جماعة من سلف علماء أمة نبينا ﷺ نحو منه، وإن لم يكونوا بينوا زمان من حدث ذلك في ملكه، سوى ذكرهم أن ذلك كان فيما بين آدم ونوح صلى الله عليهما وسلم. ذكر من روي ذلك عنه حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا داود - يعني ابن أبي الفرات - قال: حدثنا علباء بن أحمر، ابن عكرمة عن ابن عباس، أنه تلا هذه الآية: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ". قال: كانت فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم، كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحًا وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صباحًا وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلًا من أهل السهل في صورة غلام فآجر نفسه منه، وكان يخدمه، واتخذ إبليس لعنه الله شيئًا مثل الذي يزمر فيه الرعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوا عيدًا يجتمعون إليه في السنة، فتتبرج النساء للرجال، قال: وينزل الرجال لهن. وإن رجلًا من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهن، فنزلوا عليهن، فظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله عز وجل: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ". حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن أبي غنيمة، عن أبيه، عن الحكم: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى "، قال: كان بين آدم ونوح ثمانمائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء، ورجالهم حسان، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها، فأنزلت هذه الآية: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ". حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفًا ببوذ. ورأى آدم فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد، فأوصى ألا يناكح بنو شيث بني قابيل، فجعل بنو شيث آدم في مغارة، وجعلوا عليه حافظًا، لا يقربه أحد من بني قابيل، وكان الذين يأتونه ويستغفر لهم من بني شيث، فقال مائة من بين شيث صباح: لو نظرنا إلى ما فعل بنو عمنا! يعنون بني قابيل، فهبطت المائة إلى نساء صباح من بني قابيل، فاحتبس النساء والرجال، ثم مكثوا ما شاء الله، ثم قال مائة آخرون: لو نظرنا ما فعل إخوتنا! فهبطوا من الجبل إليهم، فاحتبسهم النساء، ثم هبط بنو شيث كلهم، فجاءت المعصية، وتناكحوا واختلطوا، وكثر بنو قابيل ملئوا الأرض، وهم الذين غرقوا أيام نوح. وأنا نسابو الفرس فقد ذكرت ما قالوا في مهلائيل بن قينان، وأنه هو أوشهنج الذي ملك الأقاليم السبعة، وبينت قول من خالفهم في ذلك من نسابي العرب. فإن كان الأمر فيه كالذي قاله نسابو الفرس، فإني حدثت عن هشام ابن محمد بن السائب، أنه هو أول من قطع الشجر، وبنى البناء، وأول من استخرج المعادن وفطن الناس لها، وأمر أهل زمانه باتخاذ المساجد، وبين مدينتين كانتا أول ما بني على ظهر الأرض من المدائن، وهما مدينة بابل التي بسواد الكوفة، ومدينة السوس. وكان ملكه أربعين سنة. وأما غيره فإنه قال: هو أول من استنبط الحديد في ملكه، فاتخذ منه الأدوات للصناعات، وقدر المياه في مواضع المنافع، وحض الناس على الحراثة والزراعة والحصاد واعتمال الأعمال، وأمر بقتل السباع الضارية، واتخاذ الملابس من جلودهم والمفارش، وبذبح البقر والغنم والوحش والأكل من لحومها، وأن ملكه كان أربعين سنة، وأنه بنى مدينة الري. قالوا وهي أول مدينة بنيت بعد مدينة جيومرت التي كان يسكنها بدنباوند من طبرستان. وقالت الفرس: إن أوشهنج هذا ولد ملكًا، وكان فاضلًا محمودًا في سيرته وسياسة رعيته، وذكروا أنه أول من وضع الأحكام والحدود، وكان ملقيًا بذلك، يدعي فيشداذ ومعناه بالفارسية أولُ من حكم بالعدل، وذلك أن فاش معنا أول، وأن داذ عدل وقضاء، وذكروا أنه نزل الهند، وتنقل في البلاد، فلما استقام أمره واستوثق له الملك عن جده جيومرت، وإنه عذاب ونقمة على مردة الإنس والشياطين. وذكروا أنه قهر إبليس وجنوده، ومنعهم الاختلاط بالناس، وكتب عليهم كتابًا في طرس أبيض أخذ عليهم فيه المواثيق ألا يعرضوا لأحد من الإنس، وتوعدهم على ذلك، وقتل مردتهم وجماعة من الغيلان، فهربوا من خوفه إلى المفاوز والجبال والأودية، وأنه ملك الأقاليم كلها، وأنه كان بين موت جيومرت إلى مولد أوشهنج وملكه مائتا سنة وثلاث وعشرون سنة. وذكروا أن إبليس وجنوده فرحوا بموت أوشهنج، وذلك أنهم دخلوا بموته مساكن بني آدم، ونزلوا إليهم من الجبال والأودية. ونرجع الآن إلى ذكر يرد - وبعضهم يقول هو يارد - وفولد يرد لمهلائيل من خالته سمعن ابنة باركيل بن محويل بن خنوخ بن قين، بعد ما مضي من عمر آدم أربعمائة وستون سنة، فكان وصى أبيه وخليفته فيما كان والد مهلائيل أوصى إلى مهلائيل، واستخلفه عليه بعد وفاته، وكانت ولادة أمه إياه بعد ما مضى من عمر أبيه مهلائيل - فيما ذكروا - خمس وستون سنة، فقام من بعد مهلك أبيه من وصية أجداده وآبائه بما كانوا يقومون به أيام حياتهم. ثم نكج يرد - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، وهو ابن مائة سنة واثنتين وستين سنة - بركنا ابنة الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم. فولدت له أخنوخ بن يرد - وأخنوخ إدريس النبي، وكان أول بني آدم أعطي النبوة - فيما زعم ابن إسحاق - وخط بالقلم، فعاش يرد بعد ما ولد له أخنوخ ثمانمائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش يرد تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة ثم مات. وقال غيره من أهل التوراة: ولد ليرد أخنوخ - وهو إدريس - فنبأه الله عز وجل، وقد مضى من عمر آدم ستمائة سنة واثنتان وعشرون سنة، وأنزل عليه ثلاثون صحيفة. وهو أول من خط بعد آدم وجاهد في سبيل الله، وقطع الثياب وخاطها، وأول من سبى من ولد قابيل، فاسترق منهم، وكان وصي والده يرد فيما كان آباؤه أوصوا به إليه، وفيما أوصى به بعضهم بعضًا، وذلك كله من فعله في حياة آدم. قال: وتوفي آدم عليه السلام بعد أن مضى من عمر أخنوخ ثلاثمائة سنة وثماني سنين، تتمةُ تسعمائة وثلاثين سنة التي ذكرنا أنها عمر آدم. قال: ودعا أخنوخ قومه ووعظهم، وأمرهم بطاعة الله عز وجل ومعصية الشيطان، وألا يلابسوا ولد قابيل، فلم يقبلوا منه، وكانت العصابة بعد العصابة من ولد شيث تنزل إلى ولد قايين. قال: وفي التوراة: إن الله تبارك وتعالى رفع إدريس بعد ثلاثمائة سنة وخمس وستين سنة مضت من عمره، وبعد خمسمائة سنة وسبع وعشرين سنة مضت من عمر أبيه، فعاش أبوه بعد ارتفاعه أربعمائة وخمسًا وثلاثين سنة تمام تسعمائة واثنتين وستين سنة، وكان عمر يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة، وولد أخنوخ وقد مضت من عمر يارد مائة واثنتان وستون سنة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: في زمان يرد عملت الأصنام، ورجع من رجع عن الإسلام. وقد حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي، قال: حدثني الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قال لي رسول الله ﷺ: " يا أبا ذر "، أربعة - يعني من الرسل - سريانيون: أدم، وشيث، ونوح، وأخنوخ، وهو أول من خط بالقلم، وأنزل الله تعالى على أخنوخ ثلاثين صحيفة ". وقد زعم بعضهم أن الله بعث إدريس إلى جميع أهل الأرض في زمانه، وجمع له علم الماضين، وأن الله عز وجل زاده مع ذلك ثلاثين صحيفة، وقال: فذلك قول الله عز وجل: " إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ". وقال: يعني بالصحف الأولى الصحف التي أنزلت على ابن آدم هبة الله وإدريس عليهما السلام. وقال بعضهم: ملك بيوراسب في عهد إدريس، وقد كان وقع إليه كلام من كلام آدم صلوات الله عليه، فاتخذه، في ذلك الزمان سحرًا، وكان بيوراسب يعمل به، وكان إذا أراد شيئًا من جميع مملكته أو أعجبته دابة أو امرأة نفخ بقصبة كانت له من ذهب، وكان يجيء إليه كل شيء يريده، فمن ثم تنفخ اليهود في الشبورات. وأما الفرس فإنهم قالوا: ملك بعد موت أو شهنج طهمورث بن ويونجهان ابن خبانداذ بن خيايذار بن أوشهنج. وقد اختلف في نسب طهمورث إلى أوشهنج، فنسبه بعضهم النسبة التي ذكرت. وقال بعض نسابة الفرس: هو طهمورث بن أيونكهان بن أنكهد ابن أسكهد بن أوشهنج. وقال هشام بن محمد الكلبي - فيما حدثتُ عنه: ذكر أهل العلم أن أول ملوك بابل طهمورث، قال: وبلغنا - والله أعلم - أن الله أعطاه من القوة ما خضع له إبليس وشياطينه، وأنه كان مطيعًا لله، وكان ملكه أربعين سنة. وأما الفرس فإنها تزعم أن طهمورث ملك الأقاليم كلها، وعقد على رأسه تاجًا، وقال يوم ملك: نحن دافعون بعون الله عن خليقته المردة الفسدة. وكان محمودًا في ملكه، حدبًا على رعيته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها، وتنقل في البلدان، وأنه وثب بإبليس حتى ركبه، فطاف عليه في أداني الأرض وأقاصيها، وأفزعه ومردة أصحابه حتى تطايروا وتفرقوا عليه، وأنه أول من اتخذ الصوف والشعر للباس والفرش، وأول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير، وأمر باتخاذ الكلاب لحفظ المواشي وحراستها من السباع والجوارح للصيد، وكتب بالفارسية، وأن بيوراسب ظهر في أول سنة من ملكه، ودعا إلى ملة الصابئين. ثم رجعنا إلى ذكر أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام. ثم نكح - فيما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أخنوخ بن يرد هدانة - ويقال: أدانة - ابنة باويل ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن خمس وستين سنة، فولدت له متوشلخ بن أخنوخ، فعاش بعد ما ولد له متوشلخ ثلاثمائة سنة. وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش أخنوخ ثلاثمائة سنة وخمسًا وستين سنة ثم مات. وأما غيره من أهل التوراة فإنه قال فيما ذكر عن التوراة: ولد لأخنوخ بعد ستمائة سنة وسبع سنين وثمانين سنة خلت من عمر آدم متوشلخ، فاستخلفه أخنوخ على أمر الله، وأوصاه ببيته قبل أن يرفع، وأعلمهم أن الله عز وجل سيعذب ولد قابين ومن خالطهم ومال إليهم ونهاهم عن مخالطتهم، وذكر أنه كان أول من ركب الخيل، لأنه اقتفى رسم أبيه في الجهاد، وسلك في أيامه في العلم بطاعة الله طريق آبائه. وكان عمر أخنوخ إلى أن رفع ثلاثمائة سنة وخمسًا وستين سنة. وولد له متوشلخ بعد ما مضي من عمره خمس وستون سنة. ثم نكح - فيما حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق - متوشلخ بن أخنوخ عربا ابنة عزرائيل بن أنوشيل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن مائة سنة وسبع وثلاثين سنة. فولدت له لمك بن متوشلخ، فعاش بعدما ولد له لمك سبعمائة سنة، فولد له بنون وبنات، وكان كل ما عاش متوشلخ تسعمائة سنة وتسع عشرة سنة. ثم مات ونكح لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بتنوس ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم عليه السلام. وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة فولدت له نوحًا النبي ﷺ فعاش لمك بعدما ولد نوح خمسمائة سنة وخمسًا وتسعين سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش سبعمائة سنة وثمانين سنة، ثم مات، ونكح نوح ابن لمك عمذرة ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قيم بن آدم، وهو ابن خمسمائة سنة، فولدت له بنيه: سام، وحام، ويافث، بني نوح. وقال أهل التوراة: ولد لمتوشلخ بعد ثمانمائة سنة وأربع وسبعين سنة من عمر آدم لمك، فأقام على ما كان عليه أباؤه: من طاعة الله وحفظ عهوده. قالوا: فلما حضرت متوشلخ الوفاة استخلف لمك على أمره، وأوصاه بمثل ما كان آباؤه يوصون به. قالوا: وكان لمك يعظ قومه، وينهاهم عن النزول إلى ولد قايين فلا يتعظون، حتى نزل جميع من كان في الجبل إلى ولد قايين. وقيل: إنه كان لمتوشلخ ابن آخر غير لمك، يقال له صابئ - وقيل: إن الصابئين به سموا صابئين - وكان عمر متوشلخ تسعمائة وستين سنة، وكان مولد لمك بعد أن مضى من عمر متوشلخ مائة وسبع وثمانون سنة. ثم ولد لمك نوحًا بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، وذلك لألف سنة وست وخمسين سنة مضت من يوم أهبط الله عز وجل آدم إلى مولد نوح عليه السلام، فلما أدرك نوح قال له لمك: قد علمت أنه لم يبق في هذا الموضع غيرنا، فلا تستوحش ولا تتبع الأمة الخاطئة، فكان نوح يدعو إلى ربه، ويعظ قومه فيستخفون به، فأوحى الله عز وجل إليه أنه قد أمهلهم، فانظرهم ليراجعوا ويتوبوا مدة، فانقضت المدة قبل أن يتوبوا وينيبوا. وقال أخرون غير من ذكرت قوله: كان نوح في عهد بيوراسب، وكان قومته يعبدون الأصنام، فدعاهم إلى الله عز وجل تسعمائة وستة وخمسين سنة، كلما مضى قرن تبعهم قرن، على ملةٍ واحدة من الكفر، حتى أنزل الله عليهم العذاب فأفناهم. حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولد متوشلخ لمك ونفرًا معه، وإليه الوصية، فولد لمك نوحًا، وكان للمك يوم ولد نوح اثنتان وثمانون سنة، ولم يكن أحد في ذلك الزمان ينهى عن منكر، فبعث الله إليهم نوحًا، وهو ابن أربعمائة سنة وثمانين سنة، ثم دعاهم في نبوته مائة وعشرين سنة، ثم أمره بصنعة السفينة فصنعها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ثم مكث بعد السفينة ثلاثمائة سنة وخمسين سنة. وأما علماء الفرس فإنهم قالوا: ملك بعد طهمورث جم الشيذ - والشيذ معنا عندهم الشعاع، لقبوه بذلك فيما زعموا لجماله - وهو جم بن ويونجهان، وهو أخو طمهورث. وقيل إنه ملك الأقاليم السبعة كلها، وسخر له ما فيها من الجن والإنس، وعقد على رأسه التاج. وقال حين قعد في ملكه: إن الله تبارك وتعالى قد أكمل بهاءنا وأحسن تأييدنا، وسنوسع رعيتنا خيرًا. وإنه ابتدع صنعة السيوف والسلاح، ودل على صنعة الإبريسم والقز وغيره مما يغزل، وأمر بنسج الثياب وصبغها، ونحت السروج والأكف وتذليل الدواب بها. وذكر بعضهم أنه توارى بعد ما مضى من ملكه ستمائة سنة وست عشرة سنة وستة أشهر، فخلت البلادُ من سنة، وأن أمر لمضي سنة من ملكه إلى سنة خمس منه بصنعة السيوف والدروع والبيض وسائر صنوف الأسلحة وآلة الصناع من الحديد. ومن سنة خمسين من ملكه إلى سنة مائة بعزل الإبريسم والقز والقطن والكتان وكل ما يستطاع غزله وحياكة ذلك وصبغته ألوانًا وتقطيعه أنواعًا ولبسه. ومن سنة مائة إلى سنة خمسين ومائة صنف الناس أربع طبقات: طبقة مقاتلة، وطبقة فقهاء، وطبقة كتابًا وصناعًا وحراثين، واتخذ طبقة منهم خدمًا، وأمر كل طبقة من تلك الطبقات بلزوم العلم الذي ألزمها إياه. ومن سنة مائة وخمسين إلى سنة خمسين ومائتين حارب الشياطين والجن وأثخنهم وأذلهم وسخروا له وانقادوا لأمره. ومن سنة خمسين ومائتين إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة وكل الشياطين بقطع الحجارة والصخور من الجبال، وعمل الرخام والجص والكلس، والبناء بذلك، وبالطين البنيان والحمامات، وصنعة النورة، والنقل من البحار والجبال والمعادن والفلوات كل ما ينتفع به الناس، والذهب والفضة وسائر ما يذاب من الجواهر، وأنواع الطيب والأدوية فنفذوا في كل ذلك لأمره. ثم أمر فصنعت له عجلة من زجاج، فصفد فيها الشياطين وركبها، وأقبل عليها في الهواء من بلده، من دنبساوند إلى بابل في يوم واحد، وذلك يوم هرمزأز فروردين ماه، فاتخذ الناس للأعجوبة التي رأوا من إجرائه ما أجرى على تلك الحال نوروز، وأمرهم باتخاذ ذلك اليوم وخمسة أيام بعده عيدًا، والتنعم والتلذذ فيها، وكتب إلى الناس اليوم السادس، وهو خرداذوروز يخبرهم أنه قد سار فيهم بسيرة ارتضاها الله، فكان من جزائه إياه عليهم أن جنبهم الحر والبرد والأسقام والهرم الحسد، فمكث الناس ثلاثمائة سنة بعد الثلاثمائة والست عشرة سنة التي خلت من ملكه، لا يصيبهم شيء مما ذكر أن الله جل وعز وجنبهم إياه. ثم إن جمًا بطر بعد ذلك نعمة الله عنده، وجمع الإنس والجن، فأخبرهم أنه وليهم ومالكهم والدافع بقوته عنهم الأسقام والهرم والموت، وجحد إحسان الله عز وجل إليه، وتمادى في غيه فلم يحر أحد ممن حضره له جوابًا، وفقد مكانه بهاءه وعزه، وتخلت عنه الملائكة الذين كان الله أمرهم بسياسة أمره، فأحس بذلك بيوراسب الذي يسمى الضحاك فابتدر إلى جم لنتهسه فهرب منه، ثم ظفر به بيوراسب بعد ذلك، فامتلخ أمعاءه واشترطها ونشره بمنشاره وقال بعض علماء النفس: إن جمًا لم يزل محمود السيرة إلى أن بقي من ملكه مائة سنة فخلط حينئذ، وادعى الربوبية، فلما فعل ذلك اضطرب عليه أمره، ووثب عليه أخوه اسفتور وطلبه ليقتله، فتوارى عنه، وكان في تواريه ملكًا ينتقل من موضع إلى موضع، ثم خرج عليه بيوراسب فغلبه على ملكه، ونشره بالمنشار. وزعم بعضهم أن ملك جم كان سبعمائة سنة وست عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرين يومًا. وقد ذكرت عن وهب بن منبه، عن ملك من ملوك الماضين قصة شبيهة بقصة جم شاذ الملك، ولولا أن تاريخه خلاف تاريخ جم لقلت إنها قصة جم. وذلك ما حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، أنه قال: إن رجلًا ملك وهو فتى شاب، فقال: إني لأجد للملك لذة طعمًا، فلا أدري: أكذلك كل الناس أم أنا وجدته من بينهم؟ فقيل له بل الملك كذلك، فقال: ما الذي يقيمه لي؟ فقيل له: يقيمه لك أن تطيع الله فلا تعصيه. فدعا ناسًا من خيار من كان في ملكه فقال لهم: كونوا بحضرتي في مجلسي، فما رأيتم أنه طاعة الله عز وجل فأمرني أن أعمل به، وما رأيتم أنه معصية لله فازجروني عنه أنزجر، ففعل ذلك هو وهم، واستقام له ملكه بذلك أربعمائة سنة مطيعًا لله عز وجل. ثم إن إبليس انتبه لذلك فقال: تركت رجلًا يعبد الله ملكًا أربعمائة سنة! فجاء فدخل عليه فتمثل له برجل، ففزع منه الملك، فقال: من أنت؟ قال إبليس: لا ترع، ولكن اخبرني من أنت؟ قال الملك: أنا رجل من بين آدم، فقال له إبليس: لو كنت من بني آدم لقدمت كما يموت بنو آدم ألم تر كم مات من الناس وذهب من القرون! لو كانت منهم لقد مت كما ماتوا، ولكنك إله. فادع الناس إلى عبادتك. فدخل ذلك في قلبه. ثم صعد المنبر، فخطب الناس فقال: أيها الناس، إن قد كنت أخفيت عنكم أمرًا بان لي إظهاره، لكم تعلمون أني ملكتكم منذ أربعمائة سنة، ولو كنت من بني آدم لقد مت كما ماتوا، ولكني إله فاعبدوني. فأرعش مكانه، وأوحى الله إلى بعض من كان معه فقال: أخبره أني قد استقمت له ما استقام لي، فإذا تحول عن طاعتي إلى معصيتي فلم يستقم لي، فبعزتي حلفتُ لأسلطن عليه بخت ناصر، فليضربن عنقه، وليأخذن ما في خزائنه، وكان في ذلك الزمان لا يسخط الله على أحد إلا سلط عليه بخت ناصر، فلم يتحول الملك عن قوله، حتى سلط الله عليه بخت ناصر، فضرب عنقه، وأوقر من خزائنه سبعين سفينة ذهبًا. قال أبو جعفر: ولكن بين بخث ناصر وجم دهر طويل، إلا أن يكون الضحاك كان يدعي في ذلك الزمان بخت ناصر. وأما هشام بن الكلبي فإني حدثت عنه أنه قال: ملك بعد طهمورث جم، وكان أصبح أهل زمانه وجهًا، وأعظمهم جسمًا، قال: فذكروا أنه غير ستمائة سنة تسع عشرة سنة مطيعًا لله مستعليًا أمره مستوثقه له البلاد. ثم إنه طغى وبغى، فسلط الله عليه الضحاك، فسار إليه في مائتي ألف، فهرب جم منه مائة سنة، ثم إن الضحاك ظفر به فنشره بمنشار. قال: فكان جميع ملك جم، منذ ملك إلى أن قتل سبعمائة وستع عشرة سنة. وقد روي عن جماعة من السلف أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على ملة الحق، وأن الكفر بالله إنما حدث في القرن الذين بعث إليهم نوح عليه السلام، وقالوا: إن أول نبي أرسله الله إلى قوم بالإنذار والدعاء إلى توحيده نوح عليه السلام. ذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا " حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: قوله عز وجل: " كان الناس أمة واحدة "، قال: كانوا على الهدى جميعًا فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أول نبي بعث نوح عليه السلام. ذكر الأحداث التي كانت في عهد نوح عليه السلام قد ذكرنا اختلاف المختلفين في ديانة القوم الذي أرسل إليهم نوح عليه السلام، وأن منهم من يقول: كانوا قد أجمعوا على العمل بما يكرهه الله، من ركوب الفواحش وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله عز وجل، وأن منهم من يقول: كانوا أهل طاعة بيوراسب، وكان بيوراسب أول من ظهر القول بقول الصابئين، وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم نوح عليه السلام، وسأذكر إن شاء الله خبر بيوراسب فيما بعد. فأما كتاب الله فإنه ينبئ عنه أنهم كانوا أهل أوثان، وذلك أن الله عز وجل يقول مخبرًا عن نوح: " قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا. ومكروا مكرًا كبارًا، وقالوا لا تدرن آلهتكم ولا تذرن ودًا ولا سواعًا، ولا يغوثُ ويعوق نسرًا، وقد أضلوا كثيرًا ". فبعث الله إليهم نوحًا مخوفهم بأسه، ومحذرهم سطوته، وداعيًا لهم إلى التوبة والمراجعة إلى الحق، والعمل بما أمر الله به رسله وأنزله في صحف آدم وشيث وأخنوخ. ونوح يوم ابتعثه الله نبيًا إليهم - فيما ذكر - ابن خمسين سنة. وقيل أيضًا ما حدثنا به نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا نوح بن قيس، قال: حدثنا عون بن أبي شداد، قال: إن الله تبارك وتعالى أرسل نوحًا إلى قومه وهو إبن خمسين وثلاثمائة سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلى خمسين عامًا، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: بعث الله نوحًا إليهم وهو ابن أربعمائة سنة وثمانين سنة، ثم دعاهم في نبوته مائة وعشرين سنة، وركب السفينة وهو ابن ستمائة سنة، ثم مكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة. قال أبو جعفر: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا كما قال الله عز وجل يدعوهم إلى الله سرًا وجهرًا، يمضي قرن بعد قرن، فلا يستجيبون له، حتى مضى قرون ثلاثة على ذلك من حاله وحالهم، فلما أراد الله عز وجل إهلاكهم دعا عليهم نوح عليه السلام فقال: " رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا "، فأمر الله تعالى ذكره أن يغرس شجرة فغرسها، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم أمره بقطعها من بعد ما غرسها بأربعين سنة، فيتخذ منها سفينة، كما قال الله له: " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا "، فقطعها وجعل يعملها. وحدثنا صالح بن مسمار المروزي والمثنى بن إبراهيم، قالا: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا موسى بن يعقوب، قال: حدثني فائد مولى عبيد الله ابن علي بن أبي رافع، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة، أخبره أن عائشة زوج النبي ﷺ أخبرته أن رسول الله ﷺ: قال " لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي "، قال رسول الله ﷺ: " كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلى خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله عز وجل، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها، ثم جعل يعمل سفينة فيمرون فيسألونه فيقول: أعملها سفينة، فيسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة في البر فكيف تجري! فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم الصبي عليه - وكانت تحبه حبًا شديدًا - فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغث ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيدها، حتى ذهب به الماء، فلو رحم الله منهم أحدًا الرحمن أم الصبي ". حدثني ابن أبي منصور، قال: حدثنا علي بن الهيثم، عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك، قال: قال سلمان الفارسي: عمل نوح السفينة أربعمائة سنة، وأنتب الساج أربعين سنة، حتى كان طوله ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب. فعمل نوح بوحي الله إليه، وتعليمه إياه، عملها فكانت إن شاء الله كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعًا، وطولها في السماء ثلاثون دراعًا، وبابها في عرضها. حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن مفضل بن فضالة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال الحواريون العيسى بن مريم: لو بعثت لنا رجلًا شهد السفينة فحدثنا عنها! فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفًا من ذلك التراب بكفه، قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا قبر حام بن نوح، قال: فضرب الكثيب بعصاه وقال: ثم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، وقد شاب، فقال له عيسى عليه السلام: هكذا هلكت؟ قال: لا، ولكني مت وأنا شاب، ولكني ظننت أنها الساعة، فمن ثم شبتُ. قال: حدثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس وطبقة فيها الطير، فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث، فلما وقع الفار يخرز السفينة يقرضه، أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد، فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفأر، فقال له عيسى: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت، قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت. قال: ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غرقت. قال: فطوقها الخضرة التي في عنقها، دعا لها أن تكون من أنس وأمان، فمن ثمن تألف البيوت. قال: فقالت الحواريون: يا رسول الله، ألا تنظلق به إلى أهلنا، فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لارزق له؟ قال: فقال له: عد بإذن الله، فعاد ترابًا. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: اخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: نجر نوح السفينة بجبل بوذ، من ثم تبدى الطوفان، قال: وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع بذراع جد أبي نوح، وعرضها خمسين ذراعًا، وطولها في السماء ثلاثين ذراعًا، وخرج منها من الماء ستة أذرع، وكانت مطبقة، وجعل لها ثلاثة أبواب، بعضها أسفل من بعض. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن عبيد بن عمير الليثي، أنه كان يحدث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به - يعني قوم نوح بنوح - فيخنقونه حتى يغشي عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. قال ابن إسحاق: حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول عليه وعليهم الشأن، واشتد عليهم منه البلاء، وانتظر النجل بعد النجل، فلا يأتي قرن إلا كانت أخبث من الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا، هكذا مجنونًا! لا يقبلون منه شيئًا، حتى شكا ذلك منأمرهم نوح إلى الله عز وجل، فقال كما قص الله عز وجل علينا في كتابه: " رب إني دعوت قومي ليلًا ونهارًا، فلم يزدهم دعائي إلى فرارًا " إلى أخر القصة، حتى قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا "، إلى آخر القصة. فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله عز وجل واستنصره عليهم أوحى الله إليه أن " اصنع الفلك بأعييننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ". فأقبل نوح على عمل الفلك، ولها عن قومه، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد، ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلا هو، وجعل قومه يمرون به، وهو في ذلك من عمله، فيسخرون منه، ويستهزئون به فيقول: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ". قال: ويقولون - فيما بلغني -: يا نوح قد صرت نجارًا بعد النبوة! قال: وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم. قال: ويزعم أهل التوراة أن الله عز وجل أمره أن يصنع الفلك خشب الساج، وأن يصنعه أزور، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعًا وعرضه خمسين ذراعًا، وطوله في السماء ثلاثين ذراعًا، وأن يجعله ثلاثة أطباق: سفلا ووسطًا وعلوًا، وأن يجعل فيه كوًا، ففعل نوح كما أمره الله عز وجل، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه: " إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ". وقد جعل التنور آية فيما بينه وبينه، فقال: إذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها في كل زوجين اثنين واركب. فلما فار التنور حمل نوح في الفلك من أمره الله تعالى به - وكان قليلًا كما قال - وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر، ذكرًا وأنثى. فحمل فيه بنية الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناس من كان آمن به فكانوا عشرة نفر: نوح وبنوه وأزواجهم، ثم أدخل ما أمره الله به من الدواب، وتخلف عنه ابنه يام، وكان كافرًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن دينار، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: سمعته يقول: كان أول ما حمل نوح في الفلك من الدواب الذرة، وأخر ما حمل الحمار، فلما أدخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس لعنه الله بذنبه فلم تستقل رجلاه، فجعل نوح يقول: ويحك! ادخل، فينهض فلا يستطيع، حتى قال نوح، ويحك! ادخل وإن كان الشيطان معك، قال كلمة زلت عن لسانه، فلما قالها نوح خلي الشيطان سبيله، فدخل ودخل الشيطان معه، فقال له نوح: ما أدخلك علي يا عدو الله! قال: ألم تقل: " ادخل وإن كان الشيطان معك! " قال: أخرج عني يا عدو الله، فقال: مالك بد من أن تحملني، فكان - فيما يزعمون - في ظهر الفلك، فلما اطمأن نوح في الفلك وأدخل فيه كل من آمن به، وكان ذلك في الشهر من السنة التي دخل فيها نوح بعد ستمائة سنة من عمره لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر، فلما دخل وحمل معه من حمل، تحرك ينابيع الغوط الأكبر، وفتحت أبواب السماء، كما قال الله لنبيه ﷺ: " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر ". فدخل نوح ومن معه الفلك وغطاه عليه وعلى من معه بطبقة، فكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يومًا وأربعون ليلة. ثم احتمل الماء كما يزعم أهل التوراة وكثر واشتد وارتفع، يقول الله عز وجل لنبيه محمد ﷺ: " وجعلناه على ذات ألواح ودسر، تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ". والدسر: االمسامير، مسامير الحديد، فجعلت الفلك تجري به وبمن معه في موج كالجبال، ونادى نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك، وكان في معزل حين رأى نوح من صدق موعود ربه ما رأى، فقال: " يا بني اركب معنا ولا تكن من الكافرين "، وكان شقيًا قد أضمر كفرًا، " قال سأوي إلى جبل يعصمني من الماء "، وكان عهد الجبال وهي حرز من الأمطار إذا كانت، فظن أن ذلك كما كان يكون، قال نوح: " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ". وكثر الماء وطغى، وارتفع فوق الجبال - كما يزعم أهل التوراة - خمسة عشر ذراعًا، فباد ما على وجه الأرض من الخلق من كل شيء فيه الروح أو شجر، فلم يبق شيء من الخلائق إلا نوح ومن معه في الفلك، وإلا عوج بن عنق - فيما يزعم أهل الكتاب - فكان بين أن أرسل الله الطوفان وبين أن غاض الماء ستة أشهر وعشر ليال. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: أرسل الله المطر أربعين يومًا وأربعين ليلة، فأقبلت الوحوش حين أصابها المصر والدواب والطير كلها إلى نوح، وسخرت له، فحمل منها كما أمره الله عز وجل: " من كل زوجين اثنين "، وحمل معه جسد آدم، فجعله حاجزًا بين النساء والرجال، فركبوا فيها لعشر ليال مضين من رجب، وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرم، فلذلك صام من صام يوم عاشوراء. وأخرج الماء نصفين، فذلك قول الله عز وجل " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر "، يقول: منصب، " وفجرنا الأرض عيونًا "، يقول: شققنا الأرض، " فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر " فصار الماء نصفين: نصف من السماء ونصف من الأرض، وارتفع الماء على أطول جبل في الأرض خمسة عشر ذراعًا، فسارت بهم السفينة، فطافت بهم الأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شيء، حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعًا، ورفع البيت الذي بناه آدم عليه السلام، رفع من الغرق، - وهو البيت المعمور والحجر الأسود - على أبي قبيس، فلما دارت بالحرم ذهب في الأرض تسير بهم، حتى انتهت إلى الجودي - وهو جبل بالحضيض من أرض الموصل - فاستقرت بعد ستة أشهر لتمام السبع، فقيل بعد السبعة الأشهر: " بعدًا للقوم الظالمين "، فلما استقرت على الجودي " قيل يا أرض ابلعي ماءك "، يقول: أنشفي ماءك الذي خرج منك، " ويا سماء أقلعي "، يقول: احبسي ماءك، " وغيض الماء " نشفته الأرض، فصار ما نزل من السماء هذه البحور التي ترون في الأرض، فآخر ما بقي من الطوفان في الأرض ماء بحسمي بقي في الأرض أربعين سنة بعد الطوفان ثم ذهب. وكان التنور الذي جعل الله تعالى ذكره آية ما بينه وبني نوح فوران الماء منه تنورا كان لحواء من حجارة، وصار إلى نوح. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن أبي محمد، عن الحسن، قال: كان تنورًا من حجارة، كان لحواء حتى صار إلى نوح، قال: فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وقد اختلف في المكان الذي كان به التنور الذي جعل الله فوران مائة آية، ما بينه وبين نوح، فقال بعضهم: كان بالهند. ذكر من قال ذلك حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الحميد الحماني، عن النضر أبي عمر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس: في " وفار التنور ". قال: فار بالهند. وقال آخرون: كان ذلك بناحية الكوفة. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن ليث، عن مجاهد، قال: نبع الماء من التنور، فعلمت به امرأته فأخبرته، قال: وكان ذلك في ناحية الكوفة. حدثني الحارث، قال: حدثنا القاسم: قال: حدثنا علي بن ثابت، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي، أنه كان يحلف بالله، ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة. واختلف في عدد من ركب الفلك من بنين آدم، فقال بعضهم: كانوا ثمانين نفسًا. ذكر من قال ذلك حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حثنا زيد بن الحباب، قال: حدثين حسين بن واقد الخراسياني، قال: حدثنا أبو نهيك، قال: سمعت ابن عباس يقول: كان في سفينة نوح ثمانون رجلًا، أحدهم جرهم. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريح: قال ابن عباس: حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنسانًا. حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: قال سفيان: كان بعضهم يقول: كانوا ثمانين - يعني القليل الذين قال الله عز وجل: " وما آمن معه إلا قليل ". حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: حمل نوح في السفينة بنيه: سام، وحام، ويافث، وكنائنه، نساء بنيه هؤلاء، وثلاثة وسبعين من بين شيث، ممن آمن به، فكانوا ثمانين في السفينة. وقال بعضهم: بل كانوا ثمانية أنفس. ذكر من قال ذلك حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه لم يتم في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه، ونساؤهم، فجميعهم ثمانية. حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة، قالا: حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنيمة، عن أبيه، عن الحكم: " وما آمن معه إلا قليلٌ "، قال: نوح، وثلاثة بنيه، وأربع كنائنه. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنى حجاج، قال: قال ابن جريح: حدثتُ أن نوحًا حمل معه بنيه الثلاثة وثلاث نسوة لبنيه، وامرأة نوح، فهم ثمانية بأزواجهم، وأسماءُ بنيه: يافث، وحام، وسام. فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح أن تغير نطفته، فجاء بالسودان. وقال آخرون: بل كانوا سبعة أنفس. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثني عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش: " وما آمن معهُ إلا قليل " قال: كانوا سبعة: نوح، وثلاث كنائن، وثلاثة بنين له. وقال آخرون: كانوا عشرة سوى نسائهم. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حمل بنيه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناسي ممن كان آمن به، فكانوا عشرة نفر بنوح وبنيه وأزواجهم. وأرسل الله تبارك وتعالى الطوفان لمضي ستمائة سنة من عمر نوح - فيما ذكره أهل العلم من أهل الكتاب وغيرهم - ولتتمة ألفي سنة ومائتي سنة وست وخمسين من لدن أهبط آدم إلى الأرض. وقيل: إن الله عز وجل أرسل الطوفان لثلاث عشرة خلت من آب، وإن نوحًا أقام في الفلك إلى أن غاض الماء واستوت الفلك على جبل الجودي بقردي، في اليوم السابع عشر من الشهر السادس. فملما خرج نوح منها اتخذ بناحية قردى من أرض الجزيرة موضعًا، وابتنى هناك قرية سماها ثمانين، لأنه كان بنى فيها بيتًا لكل إنسان ممن آمن معه وهم ثمانون فهي إلى اليوم تسمى سوق ثمانين. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثني هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن صالح، عن ابن عباس، قال: هبط نوح عليه السلام إلى قرية، فبنى كل رجل منهم بيتًا، فسميت سوق ثمانين، فغرق بن قابيل كلهم، وما بين نوح إلى آدم من الآباء كانوا على الإسلام. قال أبو جعفر: فصار هو وأهله فيه، فأوحى الله إليه أنه لا يعيدُ الطوفان إلى الأرض أبدًا. وقد حدثني عباد بن يعقوب الأسدي، قال: حدثنا المحاربي، عن عثمان ابن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الغفور، عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ: وفي أول يوم من رجب ركب نوح السفينة، فصام هو وجميع من معه، وجرت بهم السفينة ستة أشهر، فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرًا لله عز وجل ". حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: كانت السفينة أعلاها الطير، ووسطها الناس، وأسفلها السباع. وكان طولها في السماء ثلاثين ذراعًا ودفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر ليال مضين من رجب، وأرست على الجودي يوم عاشوراء، ومرت بالبيت، فطافت به سبعًا، وقد رفعه الله من الغرق، ثم جاءت اليمن، ثم رجعت. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، قال: هبط نوح من السفينة يوم العاشر من المحرم، فقال لمن معه: من كان منكم صائمًا فليتم صومه، ومن كان منكم مفطرًا فليصم. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنها - يعني الفلك - استقلت بهم في عشر خلون من رجب، فكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت على الجودي شهرًا، وأهبط بهم في عشر خلون من المحرم يوم عاشوراء. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: ما كان زمان نوح شبر من الأرض إلا إنسان يدعيه. ثم عاش نوح بعد الطوفان فيما حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: أخبرنا نوح بن قيس، قال: حدثنا عون بن أبي شداد، قال: عاش - يعني نوحًا - بعد ذلك - يعني بعد الألف سنة إلا خمسين عامًا التي لبثها في قومه - ثلاثمائة وخمسين سنة. وأما ابن إسحاق، فإن ابن حميد حدثنا، قال: حدثنا سلمة، عنه، قال: وعمر نوح - فيما يزعم أهل التوراة - بعد أن أهبط من الفلك ثلاثمائة سنة وثمانيًا وأربعين سنة، قال: فكان جميعُ عمر نوح ألف سنة إلا خمسين عامًا، ثم قبضه الله عز وجل إليه. وقيل: إن سامًا ولد لنوح قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة. وقال بعض أهل التوراة: لم يكن التناسل، ولا ولد لنوح ولدٌ إلا بعد الطوفان، وبعد خروج نوح من الفلك. قالوا: إنما الذين كانوا معه في الفلك قوم كانوا آمنوا به واتبعوه، غير أنهم بادوا وهلكوا، فلم يبق لهم عقب، وإنما الذين هم اليوم في الدنيا من بني آدم ولد نوح وذريته دون سائر ولد آدم، كما قال الله عز وجل: " وجعلنا ذريته هم الباقون ". وقيل: إنه كان لنوح قبل الطوفان ابنان هلكا جميعًا، كان أحدهما يقال له كنعان، قالوا: وهو الذي غرق في الطوفان، والآخر منهما يقال له عابر، مات قبل الطوفان. حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولد لنوح سام، وفي ولده بياض وأدمة، وحام وفي ولده سواد وبياض قليل، ويافث وفيهم الشقرة والحمرة، وكنعان وهو الذي غرق، والعرب تسميه يام، وذلك قول العرب: إنما هام عمنا يام، وأم هؤلاء واحدة. فأما فأما المجوس فإنهم لا يعرفون لطوفان ويقولون لم يزل الملك فينا من عهد جيومرت، وقالوا: جيومرت هو آدم بتوارثه آخر من أول إلى عهد فيروز بن يزدجرد بن شهريار، قالوا: ولو كان لذلك صحة كان نسب القوم قد انقطع، وملك القوم قد اضمحل، وكان بعضهم يقر بالطوفان ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه. وأن مساكن ولد جيومرت كانت بالمشرق، فلم يصل ذلك إليهم. قال أبو جعفر: وقد أخبر الله تعالى ذكره من الخبر عن الطوفان بخلاف ما قالوا، فقال وقوله الحق " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون، ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين "، فأخبر عز ذكره أن ذرية نوح هم الباقون دون غيرهم. وقد ذكرتُ اختلاف الناس في جيومرت ومن يخالف الفرس في عينه، ومن هو، ومن نسبه إلى نوح عليه السلام. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي ﷺ في قوله: " وجعلنا ذريته هم الباقين ". وقال: " سام وحام ويافث ". حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: " وجعلنا ذريه هم الباقين "، قال: فالناس كلهم من ذرية نوح. حدثنى علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قلا: حدثني معاوية. عن علي، عن ابن عباس في قوله تعالى: " وجعلنا ذريته هم الباقين ". يقول: لم يبق إلا ذرية نوح. وروي عن علي بن مجاهد، عن ابن إسحاق، عن الزهري. وعن محمد بن صالح، عن الشعبي قالا: لما هبط آدم من الجنة، انتشر ولده أرخ بنوه من هبط آدم، فكان ذلك التاريخ حتى بعث الله نوحًا فأرخوا ببعث نوح، حتى كان الغرق، فهلك من هلك ممن كان على وجه الأرض. فلما هبط نوح وذريته وكل من كان في السفينة إلى الأرض قسم الأرض بين ولده أثلاثًا: فجعل لسام وسطًا من الأرض، ففيها بين المقدس، والنيل، والفرات، ودجلة، وسيحان، وجيحان، فيشون، وذلك ما بني فيشون إلى شرق النيل، وما بين منخر ريح الجنوب إلى منخر الشمال. وجعل لحام فسمة غربي النيل، فما وراءه إلى منخر ريح الدبور. وجعل قسم يافث في فيشون فما وراءه إلى منخر ريح الصبا، فكان التاريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم، ومن نار إبراهيم إلى مبعث يوسف، ومن مبعث يوسف إلى مبعث موسى، ومن مبعث موسى إلى ملك سليمان، ومن ملك سليمان إلى مبعث عيسى بن مريم، ومن مبعث عيسى بن مريم إلى أن بعث رسول الله ﷺ. وهذا الذي ذكر عن الشعبي من التاريخ ينبغي أن يكون على تاريخ اليهود، فأما أهل الإسلام فإنهم لم يؤرخوا إلا من الهجرة، ولم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك، غير أن قريشًا كانوا - فيما ذكر - يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة، كتاريخهم بيوم جبلة، وبالكلاب الأول، والكلاب الثاني. وكانت النصارى تؤرخ بعهد الإسكندر ذي القرنين، وأحسبهم على ذلك من التاريخ إلى اليوم. وأما الفرس فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم، وهم اليوم فيما أعطى يؤرخون بعهد يزدجرد بن شهريار، لأنه كان آخر من كان من ملوكهم له ملك بابل والمشرق. ذكر بيوراسب وهو الأزدهاق والعرب تسميه الضحاك فتجعل الحرف الذي بين السين والزاي في الفارسية ضادًا، والهاء حاءً، والقاف كافًا، وإياه عنى حبيب بن أوس بقوله: ما نال ما قد نال فرعون ولا ** هامان في الدنيا ولا قارون بل كان كالضحاك في سطواته ** بالعالمين، وانت أفريدون وهو الذي افتخر بادعائه أنه منهم الحسن بن هانئ في قوله: وكان منا الضحاك يعبده ال ** خابل والجن في مساربها قال: واليمن تدعيه. حدثت عن هشام بن محمد بن السائب - فيما ذكر من أمر الضحاك هذا - قال: والعجم تدعي الضحاك وتزعم أن جمًا كان زوج أخته من بعض أشراف أهل بيته، وملكه على اليمن، فولدت له الضحاك. قال: واليمن تدعيه، وتزعم أنه من أنفسها، وأنه الضحاك بن علوان بن عبيد بن عويج، وأنه ملك على مصر أخاه سنان بن علوان بن عبيد بن عويج، وهو أول الفراعنة، وأنه كان ملك مصر حين قدمها إبراهيم الخليل الرحمن عليه السلام. وأما الفرس فإنها تنسب الأزدهاق هذا غير النسب الذي ذكر هشام عن أهل اليمن، وتذكر أنه بيوراسب بن أرونداسب بن زينكاو بن ويروشك ابن تاز بن فرواك بن سيامك بن مشا بن جيومرت. ومنهم من ينسبه هذه النسبة، غير أنه يخالف النطق بأسماء آبائه فيقول: هو الضحاك بن أندرماسب بن زنجدار بن وندريسج بن تاج بن فرياك بن ساهمك بن تاذي بن جيومرت. والمجوس تزعم أن تاج هذا هو أبو العرب، ويزعمون أن أم الضحاك كانت ودك بنت ويونجهان، وأنه قتل أباه تقربًا بقتله إلى الشياطين، وأنه كان كثير المقام ببابل، وكان له ابنان يقال لأحدهما: سرهوار، وللآخر نفورا. وقد ذكر عن الشعبي أن كان يقول: هو " قرشت " مسخه الله " ازدهاق ". ذكر الرواية عنه بذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن يحيى بن العلاء، عن القاسم بن سلمان، عن الشعبي، قال: أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، كانوا ملوكًا جبابرة، فتفكر قرشت يومًا، فقال تبارك الله أحسن الخالقين! فمسخه الله فجعله اجدهاق، وله سبعة أرؤس، فهو الذي بد نباوند، وجميع أهل الأخبار من العرب والعجم تزعم أنه ملك الأقاليم كلها، وأنه كان ساحرًا فاجرًا. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: ملك الضحاك بعد جم - فيما يزعمون، والله أعلم - ألف سنة، وتزل السواد في قرية يقال لها نرس في ناحية طريق الكوفة، وملك الأرض كلها، وسار بالجور والعسف، وبسط يده في القتل، وكان أول من سن الصلب والقطع، وأول من وضع العشور، وضرب الدراهم، وأول من تغنى وغنى له، قال: ويقال إنه خرج في منكبه سلعتان فكانتا تضربان عليه، فيشتد عليه الوجع حتى يطليهما بدماغ إنسان، فكان يقتل لذلك في كل يوم رجلين ويطلي سلعتيه بدماغيهما، فإذا فعل ذلك سكن ما يجد، فخرج عليه رجل من أهل بابل فاعتقد لواء، واجتمع إليه بشر كثير، فلما بلغ الضحاك خبره راعه، فبعث إليه: ما أمرك؟ وما تريد؟ قال: ألست تزعم أنك ملك الدنيا، وأن الدنيا لك! قال: بلى، قال: فليكن كلبك على الدنيا، ولا يكونن علينا خاصة، فإنك إنما تقتلنا دون الناس. فأجابه الضحاك إلى ذلك، وأمر بالرجلين اللذين كان يقتلهما في كل يوم أن يقسما على الناس جميعًا ولا يخص بهما مكان دون مكان. قال: فبلغنا أن أهل أصبهان من ولد ذلك الرجل الذي رفع اللواء، وأن ذلك اللواء لم يزل محفوظًا عند ملوك فارس في خزائنهم، وكان فيما بلغنا جلد أسد، فألبسه ملوك فارس الذهب والديباج تيمنًا به. قال: وبلغنا أن الضحاك هو نمرود، وأن إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه ولد في زمانه، وأنه صاحب الذي أراد إحراقه. قال: وبلغنا أن أفريدون - هو من نسل جم الملك الذي كان من قبل الضحاك، ويزعمون أنه التاسع من ولده، وكان مولده بدنباوند، خرج حتى ورد منزل الضحاك وهو عنه غائب بالهند، فحوى على منزله وما فيه، فبلغ الضحاك ذلك، فأقبل وقد سلبه الله قوته، وذهبت دولته، فوثب به أفريدون فأوثقه وصيره بجبال. دنباوند، فالعجم تزعم أنه إلى اليوم موثق في الحديد يعذب هناك. وذكر غيرُ هشام أن الضحاك لم يكن غائبًا عن مسكنه، ولكن أفريدون ابن أثفيان جاء إلى مسكن له في حصن يدعى زرنج ماه مهروز مهر، فنكح امرأتين له: تسمى إحداهما: أروناز والأخرى سنوار. فوهل بيوراسب لما عاين ذلك، وخر مدلها لا يعقل، فضرب أفريدون هامته بجرز له ملتوي الرأس، فزاده ذلك وهلًا وعزوب عقل، ثم توجه به أفريدون إلى جبل دنباوند، وشده هنالك وثاقًا، وأمر الناس باتخاذ مهرماه مهرروز - وهو المهرجان اليوم الذي أوثق فيه بيوراسب - عيدًا، وعلا أفريدون سرير الملك. وذكر عن الضحاك أنه قال يوم ملك وعقد عليه التاج: نحن ملوك الدنيا، المالكون لما فيها. والفرس تزعم أن الملك لم يكن إلا للبطن الذي منه أوشهنج وجم وطهمورث، وأن الضحاك كان غاصبًا وأنه غصب أهل الأرض بسحره وخبثه، وهول عليهم الحيتين اللتين كانتا على منكبيه، وأنه بنى بأرض بابل مدينة سماها حوب، وجعل النبط أصحابه وبطانته، فلقي الناسُ منه كل جهد، وذبح الصبيان. ويقول كثير من أهل الكتب: إن الذي كان على منكبيه كان لحمتين طويلتين ناتئتين على منكبيه، كل واحدة منهما كرأس الثعبان، وأنه كان بخبثه ومكره يسترهما بالثياب. ويذكر على طريق التهويل أنهما حيتان يقتضيانه الطعام، وكانتا تتحركان تحت ثوبه إذا جاع كما يتحرك العضو من الإنسان عند التهابه بالجوع والغضب. ومن الناس من يقول: كان ذلك حيتين، وقد ذكرتُ ما وري عن الشعبي في ذلك، والله أعلم بحقيقته وصحته. وذكر بعضُ أهل العلم بأنساب الفرس وأمورهم أنّ الناس لم يزالوا من بيوراسب هذا في جهد شديد، حتى إذا أراد الله إهلاكه وثب به رجل من العامة من أهل أصبهان يقال له كابي، وبسبب ابنين كانا له أخذهما رسل بيوراسب بسبب الحيتين اللتين كانتا على منكبيه. وقيل: إنه لما بلغ الجزع من كابي هذا على ولده أخذ عصًا كانت بيده، فعلق بأطرافها جرابًا كان معه، ثم نصب ذلك العلم، ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب ومحاربته، فأسرع إلى إجابته خلق كثير، لما كانوا فيه معه من البلاء وفنون الجور، فلما غلب كابي تفاءل الناس بذلك العلم، فعظموا أمره، وزادوا فيه حتى صار عند ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبركون به، وسموه درفش كابيان، فكانوا لا يسيرونه إلا في الأمور العظام، ولا يرفع إلا لأولاد الملوك إذا وجهوا في الأمور العظام. وكان من خبر كابي أنه شخص عن أصبهان بمن تبعه والتف إليه في طريقه، فلما قرب من الضحاك وأشرف عليه، قذف في قلب الضحاك منه الرعب، فهرب عن منازله، وخلي مكانه، وانفتح للأعاجم فيه ما أرادوا، فاجتمعوا إلى كابي وتناظروا، فأعلمهم كابي أنه لا يتعرض للملك، لأنه ليس من أهله، وأمرهم أن يملكوا بعض ولد جم، لأنه ابن الملك الأكبر أو شهنق بن فرواك الذي رسم الملك، وسبق القيام به، وكان أفريدون بن أثفيان مستخفيًا في بعض النواحي من الضحاك، فوافى كابي ومن كان معه، فاستبشر القوم بموافاته، وذلك أنه كان مرشحًا للملك برواية كانت لهم في ذلك، فملكوه، وصار كابي والوجوه لأفريدون أعوانًا على أمره، فلما ملك وأحكم ما احتاج إليه من أمر الملك، واحتوى على منازل الضحاك، اتبعه فأسره بدنباوند في جبالها. بعض المحبوس تزعم أنه جعله جبيسًا في تلك الجبال، موكلًا به قوم من الجن. ومنهم من يقول: إنه قتله، وزعموا أنه لم يسمع من أمور الضحاك شيء يستحسن غير شيء واحد، وهو أن بليته لما اشتدت ودام جوره وطالت أيامه، عظم على الناس ما لقوا منه، فتراسل الوجوه في أمره، فأجمعوا على المصير إلى بابه، فوافى بابه الوجوه والعظماء من الكور والنواحي، فتناظروا في الدخول عليه والتظلم إليه، والتأتي لاستعطافه، فاتفقوا على أن يقدموا للخطاب عنهم كابي الأصبهاني، فلما صاروا إلى بابه أعلم بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا وكان متقدم لهم، فمثل بين يديه، وأمسك عن السلام، ثم قال: أيها الملك، أي السلام أسلم عليك؟ أسلام من يملك هذه الأقاليم كلها، أم سلام من يملك هذا الإقليم الواحد؟ يعني بابل، فقال له الضحاك: بل سلام من يملك هذه الأقاليم كلها، لأني ملك الأرض. فقال له الأصبهاني: فإذا كنت تملك الأقاليم كلها، وكانت يدك تنالها أجمع، فما بالنا قد خصصنا بمؤنتك وتحاملك وإساءتك من بين أهل الأقاليم! وكيف لم تقسم أمر كذا وكذا بيننا وبين الأقاليم؟ وعدد عليه أشياء كان يمكنه تخفيفها عنهم، وجرد له الصدق والقول في ذلك، فقدح في قلب الضحاك قوله، وعمل فيه حتى انخزل وأقر بالإساءة، وتألف القوم ووعدهم ما يحبون، وأمرهم بالإنصراف لينزلوا ويتدعوا، ثم يعودوا ليقضي حوائجهم، ثم ينصرفوا إلى بلادهم. وزعمو أن أمه ودك كانت شرًا منه وأردى، وأنها كانت في وقت معاتبة القوم إياق بالقرب منه تتعرف ما يقولونه، فتغتاظ وتنكره، فلما خرج القوم دخلت مستشيطة منكرة على الضحاك إحتماله القوم، وقالت له، قد بلغني كل ما كان وجرأة هؤلاء القوم عليك حتى قرعوك بكذا، وأسمعوك كذا، أفلا دمرت عليهم ودمدمتهم أوقطعت أيديهم! فلما أكثرت على الضحاك قال لها مع عتوه: يا هذه، إنك لم تفكري في شيء إلا وقد سبقتُ إليه، إلا أن القوم بدهوني بالحق وقرعوني به، فلما هممت بالسطوة بهم والوثوب عليهم تخيل الحق فمثل بيني وبينهم بمنزلة الجبل، فما أمكنني فيهم شيء. ثم سكتها وأخرجها، ثم جلس لأهل النواحي بعد أيام، فوفى لهم بما وعدهم، وردهم وقد لان لهم، وقضى أكثر حوائجهم، ولا يعرف للضحاك - فيما ذكر - فعلة استحسنت منه غير هذه. وقد ذكر أن عمر الأجدهاق هذا كان ألف سنة، وأن ملكه منها كان ستمائة سنة، وأنه كان في باقي عمره شبيهًا بالملك لقدرته ونفوذ أمره. وقال بعضهم: إنه ملك ألف سنة، وكان عمره ألف سنة ومائة سنة، إلى أن خرج عليه أفريدون فقهره وقتله. وقال بعض علماء الفرس: لا نعلم أحدًا كان أطول عمرًا - ممن لم يذكر عمره في التوراة - من الضحاك هذا، ومن جامر بن يافث بن نوح أبي الفرس، فإنه ذكر أن عمره كان ألف سنة. وإنما ذكرنا خبر بيوراسب في هذا الموضع، لأن بعضهم زعم أن نوحًا عليه السلام كان في زمانه، وأنه إنما كان أرسل إليه وإلى من كان في مملكته، ممن دان بطاعته واتبعه على ما كان عليه من العتو والتمرد على الله، فذكرنا إحسان الله وأياديه عند نوح عليه السلام بطاعته ربه وصبره على ما لقي منه من الأذى والمكروه في عاجل الدنيا، بأن نجاه ومن آمن معه واتبعه من قومه، وجعل ذريته هم الباقين في الدنيا، وأبقى له ذكره بالثناء الجميل، مع ما ذخر له عنده في الآجل من النعيم المقيم والعيش الهنئ، وإهلاكه الآخرين بمعصيتهم إياه وتمردهم عليه، وخلافهم أمره، فسلبهم ما كانوا فيه من النعيم، وجعلهم عبرة وعظة للغابرين، مع ما ذخر لهم عنده في الآجل من العذاب الأليم. ونرجع الآن إلى ذكر نوح عليه السلام والخبر عنه وعن ذريته، إذ كانوا هم الباقين اليوم كما أخبر الله عنهم، وكان الآخرون الذين بعث نوح إليهم خلا ولده ونسله قد بادوا وذريتهم، فلم يبق منهم ولا من أعقابهم أحد. قد ذكرنا قبلُ عن رسول الله ﷺ أنه قال في قوله الله عز وجل: " وجعلنا ذريته هم الباقين ": إنهم سام، وحام، ويافث. حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم، وإن حام أبو السودان، وإن يافث أبو الترك وأبو بأجوج ومأجوج، وهو بنو عم الترك. وقيل: كانت زوجة يافث أربسيسة بنت مرازيل بن الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم عليه السلام، فولدت له سبعة نفرا وامرأة. فمن ولدت له من الذكور جومر بن يافث وهو - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - أبو يأجوج ومأجوج، ومارح بن يافث ووائل بن يافث، وحوان بن يافث، وتوبيل بن يافث وهوشل بن يافث، وترس بن يافث، وشبكة بنت يافث. قال: فمن بني يافث كانت يأجوج ومأجوج الصقالية والترك فيما يزعمون. وكانت امرأة حام بن نوح نحلب بنت مارب بن الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم. فولدت له ثلاثة نفر: كوش بن حام بن نوح، وقوط بن حام بن نوح، وكنعان بن حام. فنكح كوش بن حام بن نوح قرنبيل ابنة بتاويل ابن ترس بن يافث، فولده له الحبشة والسند والهند فيما يزعمون. ونكح قوط بن حام بن نوح بخت ابنة بتاويل ابن ترس بن يفاث بن نوخ، فولدت له القبط - قبط مصر - فيما يزعمون ونكح كنعان بن حام بن نوحل أرتيل ابنة بتاويل بن ترس بن يافث بن نوح، فولدت له الأساود: نوبة، وفزان، والزنج، والزغاوة، وأجناس السودان كلها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، في الحديث قال: ويزعم أهل التوراة أن ذلك لم يكن إلا عن دعوة نوح على ابنه حام، وذلك أن نوحا نام فانكشف عن عورته، فرآها حام فلم يغطها، ورآها سام ويافث فألقيا عليها ثوبًا فواريًا عورته، فلما وهب من نومته علم ما صنع حام وسام ويافث، فقال: ملعون كنعان بن حام، عبيدًا يكونون لإخوته، وقال: يبارك الله ربي في سام، ويكون حام عبد أخويه، ويقرض الله يافث، ويحل في مساكن حام ويكون كنعان عبدًا لهم. قال: وكانت امرأة سام ابن نوح صليب ابنة بتاويل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له نفرًا: أرفخشد بن سام، وأشوذ بن سام، ولاوذ بن سام، وعويلم بن سام، وكان لسام إرم بن سام، قال: ولا أدري إرم لأم أرفخشد وإخوته أم لا؟ حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما ضاقت بولد نوح سوق ثمانين تحولوا إلى بابل فبنوها، وهي بين الفرات والصراة، وكانت اثنى عشر فرسخًا في اثني عشر فرسخًا، وكان بابها موضع دوران اليوم، فوق جسر الكوفة يسرة إذا عبرت، فكثروا بها حتى بلغوا مائة ألف، وهم على الإسلام. ورجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، فنكح لاوذ بن سام بن نوح شبكة ابنة يافث بن نوح، فولدت له فارس وجرجان وأجناس فارس، وولد للاوذ مع الفرس طسم وعمليق، ولا أدري أهو لأم الفرس أم لا؟ فعمليق أبو العماليق. كلهم أمم تفرقت في البلاد، وكان أهل المشرق وأهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام، وأهل مصر منهم، ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون، ومنهم كانت الفراعنة بمصر، وكان أهل البحرين وأهل عمان منهم أمة يسمون جاسم، وكان ساكني المدينة منهم، بنوهف وسعد بن هزان، وبنو مطر، وبنو الأزرق. وأهل نجد منهم بديل وراحل وغفار، وأهل تيماء منهم. وكان ملك الحجاز منهم بتيماء أسمه الأرقم، وكانوا ساكني نجد مع ذلك، وكان ساكني الطائف بنو عبد ضخم، حي من عبس الأول. قال: وكان بنو أميم بن لاوذ بن سام بن نوح أهل وبار بأرض الرمل، رمل عالج، وكانوا قد كثروا بها وربلوا، فأصابهم من الله عز وجل نقمة من معصية أصابوها، فهلكوا وبقيت منهم بقية، وهو الذين يقال لهم النسناس. قال: وكان طسم بن لاوذ ساكن اليمامة وما حولها، قد كثروا بها وربلوا إلى البحرين، فكانت طسم والعماليق وأميم وجاسم قومًا عربًا، لسانهم الذي جبلوا عليه لسان عربي. وكانت فارس من أهل المشرق ببلاد فارس، يتكلمون بهذا اللسان الفارسي. قال: وولد إرم بن سام بن نوح عوص بن إرم، وغاثر بن إرم، وحويل بن إرم. فولد عوص بن إرم غاثر بن عوص وعاد بن عوص، وعبيل ابن عوص. وولد غاثر بن إرم ثمود بن غاثر، وجديس بن غاثر. وكانوا قومًا عربًا يتكلمون بهذا اللسان المضري، فكانت العرب تقول لهذه الأمم: العرب العاربة، لأنه لسانهم الذي جبلوا عليه، ويقولون لبني إسماعيل بن إبراهيم: العرب المتعربة، لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أظهرهم. فعاد وثمود والعماليق وأميم وجاسم وجديس وطسم هم العرب، فكانت عاد بهذه الرمل إلى حضرموت واليمن كله، وكانت ثمود بالحجر بني الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، ولحقت جديس بطسم، فكانوا معهم باليمامة وما حولها إلى البحرين، واسم اليمامة إذ ذاك جو، وسكنت جاسم عُمان فكانوا بها. وقال غير ابن إسحاق: إن نوحًا دعا لسام بأن يكون الأنبياء والرسل من ولده، ودعا ليافث بأن يكون الملوك من ولده، وبدأ بالدعاء ليافث وقدمه في ذلك على سام، ودعا على حام بأن يتغير لونه، ويكون ولده عبيدًا لولد سام ويافث. قال: وذكر في الكتب أنه رق على حام بعد ذلك فدعا له بأن يرزق الرأفة من إخوته، ودعا من ولد ولده لكوش بن حام ولجامر بن يافث بن نوح، ذلك أن عدة من ولد الولد لحقوا نوحًا فخدموه، كما خدمه ولده لصلبه، فدعا لعدة منهم. قال: فولد لسام عابر وعليم وأشوذ وأرفخشد ولاوذ وإرم، وكان مقامه بمكة. قال: فمن ولد أرفخشد الأنبياء والرسل وخيار الناس، والعرب كلها، والفراعنة بمصر. ومن ولد يافث بن نوح ملوك الأعاجم كلها من الترك والخزر وغيرهم، والفرس الذي آخرُ من ملك منهم يزدجرد بن شهريار بن أبرويز، ونسبه ينتهي إلى جيومرت بن يافث بن نوح! قال: ويقال إن قومًا من ولد لاوذ بن سام بن نوح وغيره من إخوته نزعوا إلى جامر هذا، فأدخلهم جامر في نعمته وملكه، وأن منهم ماذي بن يافث، وهو الذي تنسب السيوف الماذية إليه. قال: وهو الذي يقال إن كيرش الماذوي قتل بلشصر بن أولمرودخ بن بختنصر من ولده. قال: ولد حام بن نوح، النوبة، والحبشة، وفزان، والهند والسند، وأهل السواحل في المشرق والمغرب. قال: ومنهم نمرود، وهو نمرود بن كوش بن حام. قال: وولد لأرفخشد بن سام ابنة قينان، ولا ذكر له في التوراة، وهو الذي قيل أنه لم يستحق أن يذكر في الكتب المنزلة، لأنه كان ساحرًا، وسمى نفسه إلهًا، فسيقت المواليد في التوراة على ارفخشد بن سام ثم على شالخ بن فقنان بن أرفخشد من غير أن يذكر قينان في النسب، لما ذكر من ذلك. قال: وقيل في شالخ: إنه شالخ بن أرفخشد من ولد لقينان. وولد لشالخ عابر. وولد لعابر ابنان: أحدهما فالغ، ومعناه بالعربية قاسم - وإنما سمي بذلك لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه - وسمي الآخر قحطان. فولد لقحطان يعرب ويقطان ابنا قحطان بن عابر بن شالخ، فنزلا أرض اليمن، وكان قحطان أول من ملك اليمن، وأول من سلم عليه " أبيت اللعن "، كما كان يقال للملوك. وولد لفالغ بن عابر أرغوا - وولد لأرغوا ساروغ، وولد لساروغ ناحورا، وولد لنا حورا تارخ - واسمه بالعربية أزر - وولد لتارخ إبراهيم صلوات الله عليه. وولد لأرفخشد أيضًا نمرود بن أرفخشد، وكان منزله بناحية الحجر. وولد للاوذ بن سام طسم وجديس، وكان منزلهما اليمامة. وولد للاوذ أيضًا عمليق بن لاوذ، وكان منزله الحرم وأكناف مكة، ولحق بعض ولده بالشام، فمنهم كانت العماليق، ومن العماليق الفراعنة بمصر. وولد للاوذ أيضًا أميم بن لاوذ بن سام، وكان كثير الولد، فنزع بعضهم إلى جامر بن يافث بالمشرق. وولد لإرم بن سام عوص بن إرم، وكان منزله الأحقاف. وولد لعوص عاد بن عوص. وأمام حام بن نوح، فولد له كوش ومصرايم وقوط وكنعان، فمن ولد كوش نمرود المتجبر الذي كان ببابل، وهو نمرود بن كوش بن حام، وصارت بقية ولد حام بالسواحل من المشرق والمغرب والنوبة والحبشة وفزان. قال: ويقال: إن مصرايم ولد القبط والبربر، وإن قوطًا صار إلى أرض السند والهند فنزلها، وإن أهلها من ولده. وأما يافث بن نوح فولد له جامر وموعج وموادي وبوان وثوبال وماشج وتيرش. ومن ولد جامر ملوك فارس. ومن ولد تيرش الترك والخزر. ومن ولد ماشج الأشبان. ومن ولد موعج يأجوج ومأجوج، وهم في شرقي أرض الترك والخزر. ومن ولد بوان الصقالبة وبرجان والأشبان، كانوا في القديم بأرض الترك والخزر. ومن ولد بوان الصقالية وبرجان والأشبان، كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع بها من وقع من ولد العيص وغيرهم، وقصد كل فريق من هؤلاء الثلاثة: سام وحام ويافث أرضًا، فسكنوها ودفعوا غيرهم عنها. حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد عن أبيه: قال: الهند والسند بنو توقير بن يقطن بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام بن نوح. ومكران بن البند، وجرهم، اسمه هذرم بن عابر بن سبأ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. وحضرموت بن يقطن بن عابر بن شالخ. ويقطن هو قحطان بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام بن نوح، في قول من نسبة إلى غير إسماعيل. والفرس بنو فارس بن تيرش بن ناسور بن نوح. النبط بنو نبيط بن ماش ابن إرم بن سام بن نوح. وأهل الجزيرة والعال من ولد ماش بن إرم بن سام ابن نوح. وعمليق - وهو عريب - وطسم وأميم بنو لوذ بن سام بن نوح وعمليق هو أبو العمالقة، ومنهم البربر وهم بنو ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لوذ بن سام بن نوح، ما خلا صنهاجة وكتامة، فإنهما بنو فريقيش بن قيس بن صيفي بن سبأ. ويقال: إن عمليق أول من تكلم بالعربية حين ظعنوا من بابل، فكان يقال لهم ولجرهم: العرب العاربة، وثمود وجديس ابنا عابر بن إرم بن سام ابن نوح، وعاد وعبيل ابنا عوص بن إرم بن سام بن نوح، والروم بنو لنطي ابن يونان، وبن يافث بن نوح. ونمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وهو صاحب بين، وهو صاحب إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه. قال: وكان يقال لعاد في دهرهم عادُ إرم، فلما هلكت عاد قيل لثمود إرم، فلما هلكت ثمود قيل لسائر بني إرم: إرمان، فهم النبط، فكل هؤلاء كان على الإسلام وهم ببابل، حتى ملكهم نمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الأوثان ففعلوا، فأمسوا وكلامهم السريانية، ثم أصبحوا وقد بلبل الله ألسنتهم، فجعل لا يعرف بعضهم كلام بعض، فصار لبني سام ثمانية عشر لسانًا، ولبني حام ثمانية عشر لسانًا، ولبني يافث ستة وثلاثون لسانًا، ففهم الله العربية عادًا وعبيل وثمود وجديس وعمليق وطسم وأميم وبني يقطن بنعابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. وكان الذي عقد لهم الألوية ببابل بوناظر بن نوح، وكان نوح فيما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس: تزوج امرأة بني قابيل، فولدت له غلامًا، فسماه بوناظر، فولده بمدينة بالمشرق يقال لها معلون شمسا، فنزل بنو سام المجدل سرة الأرض، وهو ما بين ساتيدما إلى البحر، وما بين اليمن إلى الشام، وجعل الله النبوة والكتاب والجمال والأدمة والبياض فيهم. ونزل بنو حام مجرى الجنوب والد بور، ويقال لتلك الناحية الداروم، وجعل الله فيهم أدمة وبياضًا قليًا، وأعمر بلادهم وسماءهم، ورفع عنهم الطاعون، وجعل في أرضهم الأئل والأراك والعثر والغار والنخل، وجرت الشمس والقمر في سمائهم. ونزل بنو يافث الصفون مجرى الشمال والصبا، وفيهم الحمرة والشقرة، وأخلى الله أرضهم فاشتد بردها، وأخلى سماءهم، فليس يجري فوقهم شيء من النجوم السبعة الجارية، لأنهم صاروا تحت بنات نعش والجدي والفرقدين، فابتلوا بالطاعون. ثم لحقت عاد بالشحر، فعليه هلكوا بواد يقال له مغيث فلحقتهم بعد مهرةُ بالشحر. ولحقت عبيل بموضع يثرب، فأخروجوا منها عبيل، فنزلوا موضع الجحفة، فأقبل السيل فأجتحفهم فذهب بهم فسميت الجحفة. ولحقت ثمود بالحجر وما يليه فهلكوا ثم، ولحقت طسم وجديس باليمامة فهلكوا، ولحقت أميم بأرض أبار فهلكوا بها، وهي بني اليمامة والشحر، ولا يصلُ إليها اليوم أحد، غلبت عليها الجن. وإنما سميت أبار بأبار بن أميم. ولحقت بن يقطن بنو عابر باليمن، فسميت اليمن حيث تيامنوا إليها، ولحق قوم من بني كنعان بالشأم فسميت الشأم حيث تشاءموا إليها، وكانت الشأم يقال لها أرض بني كنعان، ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها، ونفوهم عنها، فكانت الشأم لبني إسرائيل، ثم وثبت الروم على بني إسرائيل فقتلوهم، وأجلوهم إلى العراق إلا قليلًا منهم، ثم جاء العرب فغلبوا على الشأم، وكان فالغ وهو فالغ بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح - هو الذي قسم الأرض بين بني نوح كما سمينا. وأما الأخبار عن رسول الله ﷺ وعن علماء سلفنا في أنساب الأمم التي هي في الأرض اليوم، فعلى ما حدثني أحمد بن بشير بن أبي عبد الله الوراق، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش ". حدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسمل، قال: " ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب، وحام أبو الزنج، ويافث أبو الروم ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش ". حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: حدثني روح، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي ﷺ، قال: " ولد نوح سام وحام ويافث ". قال عبد الله: قال روح: أحفظ يافث، وسمعت مرة يافت. وقد روي هذا الحديث عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة وعمران بن حصين، عن النبي ﷺ. حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ولد نوح ثلاثة، وولد كل واحد ثلاثة: سام، حام، ويافث. فولد سام العرب وفارس والروم، وفي كل هؤلاء خير. وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وليس في واحد من هؤلاء خير، وولد حام القبط والسودان والبربر. وروي عن ضمرة بن ربيعة، عن ابن عطاء، عن أبيه، قال: ولد حام كل أسود جعد الشعر، وولد يافث كل عظيم الوجه صغير العينين، وولد سام كل حسن الوجه حسن الشعر. قال: وعاد نوح على حام ألا يعدو شعر ولده أانهم، وحيثما لقى ولده ولد سام استعبدوهم. وزعم أهل التوراة أن سام ولد لنوح بعد أن مضى من عمره خمسمائة سنة، ثم ولد لسام أرفخشد بعد أن مضى من عمر سام مائة سنة وسنتان، فكان جميع عمر سام - فيما زعموا - ستمائة سنة. ثم ولد لأرفخشد فينان، وكان عمر أرفخشد أربعمائة وثمانيًا وثلاثين سنة. وولد قينان لأفرفخشد بعد أن مضى من عمره خمس وثلاثون سنة، ثم ولد لقينان شالخ بعد أن مضى من عمره تسع وثلاثون سنة، ولم يذكر مدة عمر قينان في الكتب فيما ذكر لما ذكرنا من أمره قبل. ثم ولد لشالخ عابر بعد أن مضى من عمره ثلاثون سنة، وكان عمر شالخ كله أربعمائة سنة وثلاثًا وثلاثين سنة. ثم ولد لعابر فالغ وأخوه قحطان، وكان مولد فالغ بعد الطوفان بمائة وأربعين سنة، فلما كثر الناس بعد ذلك مع قرب عهدهم بالطوفان هموا ببناء مدينة تجمعهم فلا يتفرقون، أو صرح علاٍ يحرزهم من الطوفان إن كان مرة أخرى فلا يغرقون، فأراد الله عز وجل أن يوهن أمرهم، ويخلف ظنهم ويعلمهم أن الحول والقوة له، فبدد شملهم، وشتت جمعهم، وفرق ألسنتهم. وكان عمر عابر أربعمائة سنة وأربعًا وسبعين سنة. ثم ولد لفالغ أرغوا، وكان عمر فالغ مائتين وتسعًا وثلاثين سنة، وولد أرغوا لفالغ وقد مضى من عمره ثلاثون سنة، ثم ولد لأرغوا ساروغ، وكان عمر أرغوا مائتين وتسعًا وثلاثين سنة، ثم ولد لأرغوا ساروغ، وكان عمر أرغوا مائتين وتسعًا وثلاثين سنة، وولد له ساروغ بعد ما مضى من عمره اثنتان وثلاثون سنة. ثم ولد لساروغ ناحور، وكان عمر ساروغ مائتين وثلاثين سنة. وولد له ناحور، وقد مضى من عمره ثلاثون سنة. ثم ولد لناحور تارخ أبو إبراهيم، صلوات الله عليه، وكان هذا الاسم اسمه الذي سماه أبوه، فلما صار مع نمرود قيمًا على خزانة آلهته سماه آزر. وقد قيل: إن أزر ليس باسم أبيه، وإنما هو اسم صنم، فهذا قول يروي عن مجاهد. وقد قيل إنه عيب عابه به بمعنى معوج، بعد ما مضى من عمر ناحور سبع وعشرون سنة، وكان عمر ناحور كله مائتين وثمانيًا وأربعيًا سنة. وولد لتارخ إبراهيم، وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة وتسع وسبعون سنة، وكان بعضُ أهل الكتاب يقول: كان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستون سنة، وذلك بعد خلق آدم بثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة وسبع وثلاثين سنة. وولد لقحطان بن عابر يعرب، فولد يعرب يشجب بن يعرب، فولد يشجب سبأ بن يشجب، فولد سبأ حمير بن سبأ وكهلان بن سبأ وعمرو ابن سبأ، والأشعر بن سبأ وأنمار بن سبأ ومر بن سبأ عاملة بن سبأ. فولد عمرو ابن سبأ عدي بن عمرو، فولد عدي لخم بن عدي وجذام بن عدي. وقد زعم بعض نسابي الفرس أن نوحًا هو أفريدون الذي قهر الأزدهاق، وسلبه ملكه. وزعم بعضهم أن أفريدون هو ذو القرنين صاحب إبراهيم عليه السلام الذي قضى له ببئر السبع، الذي ذكر الله في كتابه. وقال بعضهم: هو سليمان بن داود. وإنما ذكرته في هذا الموضع لما ذكرت فيه من قول من قال: إنه نوح، وإن قصته شبيهة بقصة نوح في أولاد له ثلاثة، وعدله وحسن سيرته، وهلاك الضحاك على يده. وأنه قيل إن هلاك الضحاك كان على يد نوح وأن نوحًا إنما كان أرسل - في قول من ذكرت عنه أنه قال: كان هلاك الضحاك على يدي نوح - حين أرسل إلى قومه، وهم كانوا قوم الضحاك. فأما الفرس فإنهم ينسبونه النسبة التي أنا ذاكرها، وذلك أنهم يزعمون أن أفريدون من ولد جم شاذ الملك الذي قتله الأزدهاق، على ما قد بينا من أمره قبل، وان بينه جم عشرة آباء. وقد حدثت عن هشام بن محمد بن السائب، قال: بلغنا أن أفريدون - وهو من نسل جم الملك الذي كان من قبل الضحاك، قال: ويزعمون أنه التاسع من ولده، وكان مولده بدنباوند - خرج حتى ورد منزل الضحاك، فأخذه وأوثقه، وملك مائتي سنة، ورد المظالم، وأمر الناس بعبادة الله والإنصاف والإحسان، ونظر إلى ما كان الضحاك غصب الناس من الأرضين وغيرها، فرد ذلك كله على أهله، إلا ما لم يجد له أهلًا، فإنه وقفه على المساكين والعامة. قال: ويقال إنه أول من سمي الصوافي، وأول من نظر في الطب والنجوم، وإنه كان له ثلاثين بنين: اسم الأكبر سلم، والثاني طوج، والثالث إبرج، وأن افريدون تخوف ألا يتفق بنوه، وأن يبغي بعضهم على بعض، فقسم ملكه بنيهم ثلاثًا، وجعل ذلك في سهام كتب أسماءهم عليها، وأمر كل واحد منهم فأخذ سهمًا، فصارت الروم وناحية المغرب لسلم، وصارت الترك والصين لطوج، وصارت للثالث - وهو إيرج - العراق والهند، فدفع التاج والسرير إليه، ومات أفريدون، فوثب إيرج أخواه فقتلاه، وملكا الأرض بينهما ثلاثمائة سنة. قال: والفرس تزعم أن لأفريدون عشرة آباء، كلهم يسمي أثفيان باسم واحد. قالوا: وإنما فعلوا ذلك فعلوا ذلك خوفًا من الضحاك على أولادهم، لرواية كانت عندهم، بأن بعضهم يغلب الضحاك على ملكه، ويدرك منه ثأر جم، وكانوا يعرفون ويميزون بألقاب لقبوها، فكان يقال للواحد منهم: أثفيان صاحب البقر الحمر، وأثفيان صاحب البقر البلق، وأثفيان صاحب البقر الكدر. وهو أفريدون بن أثفيان بوكاو - وتفسيره صاحب البقر الكثير - بن أثفيان نيككاو - وتفسيره صاحب البقر الجياد، بن أثفيان سيركاو - وتفسيره صاحب البقر السمان العظام - بن أثفيان بوركاو - وتفسيره صاحب البقر التي بلون حمير الوحش - بن أثفيان أخشين كاو - وتفسيره صاحب البقر الصفر - بن أثفيان سياه كاو - وتفسيره صاحب البقر السود - بن أثفيان اسبيذكاو - وتفسيره صاحب البقر البيض - بن أثفيان كيروكاو - وتفسيره صاحب البقر الرمادية - بن أثفيان رمين - وتفسيره كل ضرب من الألوان والقطعان - بن أثفيان بنفر وسن، بن جم الشاذ. وقيل: إن أفريدون أول من سمي بالكيية فقيل له: كي أفريدون، وتفسير الكيية أنها بمعنى التنزيه، كما يقال: روحاني، يعنون به أن أمره أمر مخلص منزه يتصل بالروحانية. وقيل إن معنى " كي " اي طلب الدخل، ويزعم بعضهم أن " كي " من البهاء، وأن البهاء يغشى أفريدون حين قتل الضحاك، وتذكر العجم من الفرس أنه كان رجلًا جسيمًا وسيمًا بهيًا مجربًا، وأن أكثر قتاله كان بالجرز، وأن جرزه كان رأسه كرأس الثور، وأن ملك ابنه إبرج العراق ونواحيها كان في حياته، وأن أيام إيرج داخله في ملك أفريدون، وأنه ملك الأقاليم كلها، وتنقل في البلدان، وأنه لما جلس على سريره يوم الملك قال: نحن القاهرون بعون الله وتأييده للضحاك، القامعون للشيطان وأحزابه، ثم وعظ الناس، فأمرهم بالتناصف وتعاطي الحق وبذل الخير بينهم، وحثهم على الشكر والتمسك به، ورتب سبعة من القوهياربين - وتفسير ذلك محولو الجبال سبع مراتب - وصير إلى كل واحد منهم ناحية من دنباوند وغيرها على شبيه بالتمليك. قالوا: فلما ظفر بالضحاك قال له الضحاك: لا تقتلني بجدك جم، فقال له أفريدون منكرًا لقوله: لقد سمت بك همتك، وعظمت في نفسك حين قدرتها لهذا، وطمعت لها فيه! وأعلمه أن جده كان أعظم قدرًا من أن يكون مثله كفئًا له في القود، وأعلمه أنه يقلته بثور كان في دار جده. وقيل إن أفريدون أول من ذلل الفيلة وامتطاها، ونتج البغال، واتخذ الإوز والحمام، وعالج الدرباق، وقاتل الأعداء فقتلهم ونفاهم، وأنه قسم الأرض بين أولاده الثلاثة: طوج وسلم وإيزج، فملك طوجًا ناحية الترك والخزر والصين، فكانوا يسمونها صين بغا، وجمع إليها النواحي التي اتصلت بها، وملك سلمًا ابنه الثاني الروم والصقالية والبرجان وما في حدود ذلك، وجعل وسط الأرض وعامرها - وهو إقليم بابل، وكانوا يسمونها خنارث بعد أن جمع إلى ذلك ما اتصل به من السند والهند والحجاز وغيرها - لأيرج وهو الأصغر من بنيه الثلاثة، وكان أحبهم إليه. وبهذا السبب سمي إقليم بابل إيرانشهر، وبه أيضًا نشبت العداوة بين ولد أفريدون وأولادهم بعد، وصار ملوك خنارث والترك والروم إلى المحاربة ومطالبة بعضهم بعضًا بالدماء والترات. وقيل: إن طوجًا وسلمًا لما علما بأن أباهما قد خص إيرج وقدمه عليهما أظهرا له البغضاء، ولم يزل التحاسد ينمي بينهم إلى أن وثب طوج وسلم على أخيمها إيرج. فقتلاه متعاونين عليه، وأن طوجا رماه بوهق فخنقه، فمن أجل ذلك استعملت الترك الوهق، وكان لإيرج ابنان، يقال لهما وندان وأسطوية، وابنة يقال لها خوزك، ويقال خوشك، فقتل سمل وطوج الابنين مع أبيهما، وبقيت الإبنة. وقيل: إن اليوم الذي غلب فيه أفريدون الضحاك كان روزمهر من مهرماه، فاتخذ الناس ذلك اليوم عيدًا لارتفاع بلية الضحاك عن الناس، وسماه المهرجان، فقل: إن أفريدون كان جبارًا عادلًا في ملكه، وكان طوله تسعة أرماح، كل رمح ثلاثة أبواع، وعرض حجرته ثلاثة أرماح، وعرض صدره أربعة أرماح، وأنه كان يتبع من كل بقي بالسودان من آل نمرود والنبط، وقصدهم حتى أتى على وجوههم، ومحا أعلامهم وآثارهم، وكان ملكه خمسمائة سنة. ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم خليل الرحمن عليهما السلام قد ذكرنا قبلُ ما كان من أمر نوح عليه السلام وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده، ومساكن كل فريق منهم، وأي ناحية سكن من البلاد. وكان ممن طغا وعتا على الله عز وجل بعد نوح، فأرسل الله إليهم رسولًا فكذبوه وتمادوا في غيهم، فأهلكهم الله هذان الحيان من إرم بن سام بن نوح: أحدهما عاد ابن عوص بن إرم ابن سام بن نوح، وهي عاد الأولى، الثاني ثمود بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهم كانوا العرب العاربة. فأما عاد فإنّ الله عز وجل أرسل إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. ومن أهل الأنساب من يزعم أن هودًا هو عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكانوا أهل أوثان ثلاثة يعبدونها، يقال لإحداها: صداء، وللآخر صمود، وللثالث الهباء. فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره، وترك ظلم الناس، فكذبوه وقالوا: من أشد منا قوة! فلم يؤمن بهودٍ منهم إلا قليلٍ، فوعظهم هود إذ تمادوا في طغيانهم، فقال لهم: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون، إني أخافُ عليكم عذاب يوم عظيم ". فكان جوابهم له أن قالوا: " سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين ". وقالوا له: " يا هود ما جئتنا ببنيةٍ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعضُ آلهتنا بسوء "، فحبس الله عنهم - فيما ذكر - القطر سنين ثلاثًا، حتى جهدوا، فأوفدوا وفدًا ليستسقوا لهم. فكان من قصتهم ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان البكري، قال: قدمتُ على رسول الله ﷺ: فمررت بامرأة بالربذة، فقالت: هل أنت حاملي إلى رسول الله ﷺ؟ قلتُ: نعم، فحملتها حتى قدمت المدينة، فدخلت المسجد، فإذا رسول الله ﷺ على المنبر، وإذا بلالُ متقلد السيف، وإذا رايات سود، قال: قلت: ما هذا؟ قالوا: عمر بن العاص قدم من غزوته، فلما نزل رسول الله ﷺ عن منبره أتيته فاستأذنته، فأذن لي، فقلتُ. يا رسول الله، إن بالباب امرأة من بني تميم، قد سألتني أن أحملها إليك، قال: يا بلال، ائذن لها، قال: فدخلت، فلما جلست قال لي رسول الله ﷺ: هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم، وكانت الدبرة عليهم، فإن رأيت أن تجعل الدهناء بيننا وبينهم فعلت، قال: تقول المرأة فأين تضطر مضرك يا رسول الله؟ قال: قلت: مثلي مثل معزى حملت حتفًا، قال: قلت: أو حملتك تكونين على خصمًا! أعوذ بالله أن أكون كوفد عاد. قال رسول الله ﷺ: وما وفد عاد؟ قال: قلت: على الخبير سقطت، إن عادًا قحطت، فبعثت من يستسقي لها، فمروا على بكر بن معاوية بمكة يسقيهم الخمر، وتغنيهم الجرادتان شهرًا، ثم بعثوا رجلًا من عنده، حتى أتى جبال مهرة، فدعا، فجاءت سحابات، قال: وكلما جاءت قال: إذهبي إلى كذا، حتى جاءت سحابة فنودي منها: خذها رمادًا رمددا، لا تدع من عاد أحدًا قال: فسمعه وكتمهم حتى جاءهم العذاب. قال أبو كريب: قال أبو بكر بعد ذاك في حديث عاد، قال: فأقبل الذي أتاهم، فأتى جبال مهرة فصعد فقال: اللهم إني لم أجئك لأسير فأفاديه، ولا لمريض أشفيه، فأسق عادًا ما كنت مسقيه! قال: فرفُعت له سحابات. قال: فنودي منها: أختر، فجعل يقول: اذهبي إلى بني فلان اذهبي إلى بني فلان. قال: فمرت آخرها سحابة سوداء، فقال: اذهبي إلى عاد. قال: فنودي منها: خذها رمادًا رمددًا، لا تدع من عاد أحدًا. قال: وكتمهم والقوم عند بكر بن معاوية يشربون. قال: وكره بكر بن معاوية أن يقول لهم من أجل أنهم عنده، وأنهم في طعامه. قال: فأخذ في الغناء وذكرهم. حدثنا أبو كريب، قال حدثنا زيد بن حباب، قال: حدثنا سلام أبو المنذر النحوي، قال، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن يزيد البكري، قال: خرجت لأشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله ﷺ، فمررت بالربذة، فإذا عجوز منقطع بها من بني تميم، فقالت: يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فقدمتُ المدينة - قال أبو جعفر: أظنه أنا قال: " فإذا رايات سود " - قال: قلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث بعمرو بن العاص وجهًا. قال: فجلست حتى فرغ، قال: فدخل منزله - أو قال رحله - فاستأذنتُ عليه، فأذن لي. قال: فدخلت فقعدت، فقال لي رسول الله ﷺ: هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قال: قلت: نعم، وكانت الدبرة عليهم، وقد مررت بالربذة، فإذا عجوز منهم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها رسول الله ﷺ فدخلت، فقلت: يا رسول الله، اجعل بيننا وبين تميم الدهناء حاجزًا، فحميت العجوزُ واستوفزت، وقالت: فأين تضطر مضرك يا رسول الله؟ قال: قلت: أنا كما قالوا: " معزي حملت حتفًا "، حملتُ هذه ولا أشعر أنها كائنة لي خصمًا، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد! قال: وما وافد عاد؟ قلت: على الخبير سقطت، قال: وهو يستطعمني الحديث قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا " قيلًا " وافدًا، فنزل على بكر، فسقاه الخمر شهرًا، وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فخرج إلى جبال مهرة، فنادى: إني لم أجئ لمريض فأدوايه ولا لأسير فأفاديه، اللهم أسق عادًا ما كنت تسقيه! فمرت به سحابات سود، فنودي منها: خذها رمادًا رمددًا، لا تبقي من عاد أحدًا. قال: فكانت المرأة تقول: لا تكن كوافد عاد، فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح يا رسول الله إلا قدر ما يجري في خاتمي. قال أبو وائل: وكذلك بلغني. وأما ابن إسحق فإنه قال كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: أن عادًا لما أصابهم من القحط ما أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفدًا إلى مكة فيستسقوا لكم، فبعثوا قيل بن عتر ولقيم بن هزال بن هزيل بن عتيل ابن صد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير - وكان مسلمًا يكتم إسلامه - وجلهمة بن الخبيري، خال معاوية بن بكر أخا أمه، ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدةُ وفدهم سبعين رجلًا، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجًا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وصهره. وكانت هزيلة ابنة بكر أختَ معاوية بن بكر لأبيه وأمه كلهدة ابنة الخيبري عند لقيم بن هزال بن عتيل بن صد بن عاد الأكبر، فولدت له عبيد بن لقيم بن هزال وعمرو بن لقيم بن هزال وعامر بن لقيم بن هزال وعمير بن لقيم بن هزال، فكانوا في أخوالهم بمكة عند آل معاوية بن بكر، وهم عاد الأخيرة التي بقيت من عاد الأولى. فلما نزل وفد عاد على معاوية بن بكر أقاموا عنده شهرًا بشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية بن بكر - ولكان مسيرهم شهرًا، ومقامهم شرهًا، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه فقال: هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي، وهو ضيق نازلون علي، والله ما أدري: كيف أصنع بهم! أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه، فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدًا وعطشًا، أو كما قال. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرًا نغنيهم به لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم! فقال معاوية بن بكر حين أشارتا عليه بذلك: ألا يا قيلُ، ويحك قم فهينم ** لعل الله يسقينا غمامًا فيسقي أرض عادٍ، إن عادًا ** قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد، فليس نرجو ** به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخيرٍ ** فقد أمست نساؤهم غيامى وإن الوحش تأتيهم جهارًا ** ولا تخشى لعادي سهامًا وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم ** نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفدٍ قومٍ ** ولا لقوا التحية والسلام! فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وأنبتم إليه سقيتم. فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم جلهمة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر حين سمع قوله، وعرف أنه قد تبع دين هود آمن به: أبا سعد فإنك من قبيلٍ ** ذوي كرمٍ وأمك من ثمود فإنا لن نطيعك ما بقينا ** ولسنا فاعلين لما تريدُ أتأمرنا لنترك آل رفدٍ ** وزمل وآل صدٍ والعبود ونترك دين آباء كرم ** ذوي رأي ونتبع دين هود ورفد وزمل وصد قبائل من عاد، والعبود منهم. ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: احبسا عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا. ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد، فلما ولو إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية، حتى أدركهم بها قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له. فلما انتهى إليهم قام يدعو الله، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون. فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي، ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد. وكان قيل بن عتر رأس وفد عاد. وقال وفد عاد: " اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله ". وقد كان تخلف عن وفد عاد لقمان بن عاد، وكان سيد عاد، حتى إذا فرغوا من دعوتهم قال: اللهم إن جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي. وقال قيل بن عتر حين دعا: يا إلهنا، إن كان هود صادقًا فاسقنا فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله سحائب ثلاثًا: بيضاء وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب. فقال: قد اخترتُ السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماءً، فناداه مناد: اخترت رمادًا رمددًا، لا تبقي من عاد أحدًا، لا والدًا تترك ولا ولدًا، إلا جعلته همدًا، إلى بني اللوذية المهدي وبنو اللوذية بنو لقيم بن هزال بن هزيل بن هزيلة ابنة بكر، كانوا سكانًا بمكة مع أخوالهم، لم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد. وساق الله السحابة السوداء فيما يذكرون التي اختار قيل بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيثُ. ولما رأوها استبشروا بها، وقالوا: " هذا عارض ممطرنا "، يقول الله عز وجل: " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر بها "، أي كل شيء أمرت به. فكان أول من أبصر ما فيها أنها ريخ - فيما يذكرون - امرأة من عاد يقال لها مهدد، لما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيت ريحًا فيها كشهبُ النار، أمامها رجال يقودونها. فسخرها الله عليهم " سبع ليال وثمانية أيام حسومًا "، كما قال الله: والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عادٍ أحدًا إلا هلك. فاعتزل هود - فيما ذكر - ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه منها إلا ما تلين عليه الجلود، وتلتذ الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر وأبيه، فنزلوا عليه، فبيناهم عنده، إذا أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة مسى ثالثة من مصاب عاد، فأخبرهم الخبر، فقالوا: فأين فارقت هودا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر، فكأنهم شكوا فيما حدثهم، فقالت هزيلة ابنة بكر: صدق ورب مكة. ومثوب بن يعفر بن أخي معاوية بن بكر معهم. وقد كان قيل - فيما يزعمون والله أعلم - لمرثد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل بن عتر حين دعوا بمكة: قد أعطيتم مناكم فاختاروا لأنفسكم، إلا أنه لا سبيل إلى الخلد، فإنه لا بد من الموت، فقال مرثد بن سعد: يا رب، أعطني برًا وصدقًا، فأعطي ذلك، وقال لقمان بن عاد: أعطني عمرًا، فقيل له: أختر لنفسك، إلا إنه لا سبيل إلى الخلد: بقاء أيعار ضأن عفر، في جبل وعر، لا يلقي به إلا القطر، أم سبعة أنسر إذا مضى نسر حلوت إلى نسر؟ فاختار لقمان لنفسه النسور، فعمر - فيما يزعمون - عمر سبعة أنسر، يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته، فيأخذ الذكر منها لقوته، حتى إذا مات أخذ غيره، فلم يزل يفعل ذلك، حتى أتى على السابع. وكان كل نسر فيما زعموا يعيش ثمانين سنة، فلما لم يبق غير السابع قال ابن أخ للقمان: أي عم، ما بقي من عمرك إلا عمر هذا النسر، فقال له لقمان: أي ابن أخي: هذا لبد - ولبد بلسانهم الدهر - فلما أدرك نسر لقمان، وانقضى عمره، طارت النسور غداةً من رأس الجبل، ولم ينهض فيها لبد، وكانت نسور لقمان تلك لا تغيب عنه، إنا هي بعينه. فلما لم ير لقمان لبدًا نهض مع النسور، نهض إلى الجبل لينظر ما فعل لبد، فوجد لقمان في نفسه وهنًا لم يكن يجده قبل ذلك، فلما انتهى إلى الجبل رأى نسره لبدًا واقعًا من بين النسور، فناداه: انهض لبد، فذهب لبد لينهض فلم يستطع، عريت قوادمه وقد سقطت، فماتا جميعًا. وقيل لقيل بن عتر حين سمع ما قيل له في السحاب: اختر لنفسك كما اختار صاحباك فقال: أختار أن يصيبني ما أصاب قومي، فقيل: إنه الهلاك، قال: لا أبالي، لا حاجة لي في البقاء بعدهم. فأصابه ما أصاب عادًا من العذاب فهلك، فقال مرثد بن سعد بن عفير حين سمع من قول الراكب الذي أخبر عن عاد بما أخبر من الهلاك: عصت عاد رسولهم فأمسوا ** عطاشًا ما تبلهم السماء وسير وفدهم شرهًا ليسقوا ** فأردفهم مع العطش العماء بكفرهم بربهم جهارًا ** على آثار عادهم العفاء ألا نزع الإله حلوم عادٍ ** فإن قلوبهم فقر هواء من الخبر المبين أن يعوه ** وما تغني النصيحة والشفاء فنفسي وابنتاي وأم ولدي ** لنفس نبينا هودٍ فداء أتانا والقلوب مصمدات ** على ظلم، وقد ذهب الضياء لنا صم يقال له صمود ** يقابله صداء والبهاء بأبصرهُ الذين له أنابوا ** وأدرك من يكذبه الشقاء فإني سوف ألحق آل هودٍ ** وإخوته إذا جن المساء وقيل: إن رئيسهم وكبيرهم في ذلك الزمان الخلجان. حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثنا أبي، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن إسحاق، قال: لما خرجت الريحُ على عاد من الوادي، قال سبعة رهط منهم، أحدهم الخلجان: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردها، فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله، ثم ترمي به فتندق عنقه، فتركهم كما قال الله عز وجل: " صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ " حتى لم يبق منهم إلا الخلجان، فمال إلى الجبل، فأخذ بجانب منه، فهزه فاهتز في يده، ثم أنشأ يقول: لم يبق إلى الخلجان نفسه ** نالك من يوم دهاني أمسه بثابت لوط شديد وطسه ** لو لم يجئني جئته أجسه فقال له هود: ويحك يا خلجان! أسلم تسليم، فقال له: وما لي عند ربك إن أسلمت؟ قال: الجنة، قال: فما هؤلاء الذين أراهم في هذا السحاب كأنهم البخت، قال هود: تلك ملائكة ربي، قال: فإن أسلمت أيعيذني ربك منهم؟ قال: ويلك! هل رأيت ملكًا يعيذ من جنده! قلا: لو فعل ما رضيت، قال: ثم جاءت الريح فألحقته بأصحابه، أو كلامًا هذا معناه. قال أبو جعفر: فأهلك الله الخلجان، وأفنى عادًا خلا من بقي منهم، ثم بادوا بعد، ونجى الله هودًا ومن آمن به. وقيل: كان عمر هودٍ مائة سنة وخمسين سنة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: " وإلى عادٍ أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره " إن عادًا أتاهم هود فوعظهم وذكرهم بما قص الله في القرآن، فكذبوه وكفروا، وسألوه أن يأتيهم العذاب فقال له: " إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به "، وإن عادًا أصابهم حين كفروا قحط من المطر، حتى جهدوا لذلك جهدًا شديدًا، وذلك أن هودًا دعا عليهم، فبعث الله عليهم الريح العقيم، وهي الريح التي لا تلقح الشجر، فلما نظروا إليها قالوا: هذا عارض ممطرنا، فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال، تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما رأوها تبادروا إلى البيوت، حتى دخلوا البيوت دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فأصابتهم " في يوم نحس "، والنحس هو الشؤم " مستمر " استمر عليهم بالعذاب. " سبع ليال وثمانية أيام حسومًا "، حسمت لك شيء مرت به، حتى أخرجتهم من البيوت، قال الله تبارك وتعالى: " تنزع الناس " عن البيوت، " كأنهم أعجاز نخل منقعرٍ "، انقعر من أصوله. " خاوية " خوت فسقطت، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرًا سودًا، فنقلتهم إلى البحر، فألقتهم فيه، فذلك قوله عز وجل: " فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ". ولم تخرج الريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ، فإنها عتت على الخزنة فغلبهم، ثم يعلمواكم كان مكيالها؟ فذلك قوله " فأهلكوا بريح صرصرٍ عاتيةٍ ". والصرر: ذات الصوت الشديد. حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهبًا يقول: إن عادًا لما عذبهم الله بالريح التي عذبوا بها، كانت تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم عليهم بيوتهم، فمن لم يكن في بيتٍ هبت به الريح حتى تقطعه بالجبال، فهلكوا بذلك كلهم. وأما ثمود فإنهم عتوا على ربهم، وكفروا به، وأفسدوا في الأرض، فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود ابن جاثر بن إرم بن سام بن نوح، رسولًا يدعوهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة. وقيل: صالح، هو صالح بن أسف بن كماشج بن إرم بن ثمود بن جاثر ابن إرم بن سام بن نوح. فكان من جوابهم له أن قالوا له: " يا صالحُ قد كنت فينا مرجوًا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريبٍ ". وكان الله عز وجل قد مدّ لهم في الأعمار، وكانوا يسكنون الحجر إلى وادي القرى، بين الحجاز الشام، ولم يزل صالح يدعوهم إلى الله على تمردهم وطغيانهم، فلا يزيدهم دعاؤه إياهم إلى الله إلى مباعدة من الإجابة، فلما طال ذلك من أمرهم وأمر صالح قالوا له: إن كنت صادقًا فأتنا بآية. فكان من أمرهم وأمره ما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل، قال: قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين. قال: فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هضبة من الأرض، فإذا هي تتمخص كما تتمخض الحامل، ثم تفرجت فخرجت من وسطها الناقة، فقال صالح عليه السلام: " هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ". " لها شربُ ولكم شربُ يومٍ معلومٍ " فلما ملوها عقروها، فقال لهم: " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ". قال عبد العزيز: وحدثني رجل آخر أن صالحًا قال لهم: إن آية العذاب أن تصبحوا غدًا حمرًا، واليوم الثاني صفرًا، واليوم الثالث سودًا، فصبحهم العذاب، فلما رأوا ذلك تحنطوا واستعدوا. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن خارجة، قال: قلنا له: حدثنا حديث ثمود، قال: أحدثكم عن رسول الله ﷺ عن ثمود. كانت ثمود قوم صالح عمرهم الله عز وجل في الدنيا، فأطال أعمارهم حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فيتهدم والرجل منهم حي، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتًا فرهين، فنحتوها وجابوها وجوفوها، وكانوا في سعة من معايشهم، فقالوا: يا صالح، ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله فدعا ربه، فأخرج لهم الناقة فكان شربها يومًا وشربهم يومًا معلومًا، فإذا كان يوم شربها خلوا عنها وعن الماء، وحلبوهًا لبنًا، ملئوا كل إناء ووعاء وسقاء، فإذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء ولم تشرب منه شيئًا، فملئوا كل إناء ووعاء وسقاء، فأوحى الله عز وجل إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم، فقالوا: ما كنا لنفعل، قال: إلا تعقروها أنتم أو شك أن يولد فيكم مولود يعقرها، قالوا: ما علامةُ ذلك المولود؟ فوالله لا نجده إلى قتلناه، قال: فإنه غلام أشقرُ أزرق أصهب أحمر، قال: فكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، لأحدهما ابن يرغب له عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفئًا، فجمع بينهما مجلس، فقال أحدهما لصاحبه: مايمنعك أن تزوج ابنك؟ قال: لا أجد له كفئًا، قال: فإن ابنتي كفء له، وأنا أزوجك، فزوجه فولد منهما ذلك المولود. وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فلما قال لهم صالح: إنما يعقرها مولودٌ فيكم اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية، وجعلوا معهن شرطًا كانوا يطوفون في القرية، فإذا وجدوا المرأة تمخض نظروا ما ولدها؟ فإن كن غلامًا قتلنه، وإن كانت جارية أعرضن عنها، فلما وجدوا ذتك المولود صرخ النسوة، وقلن: هذا الذي يريد رسول الله صالح، فأراد الشرط أن يأخذوها، فحال جداه بينه وبينهم. وقالوا: إن أراد صالح هذا قتلناه، وكان شر مولود، وكان يشب في اليوم شباب غيره في الجمعة، ويشب في الجمعة شباب غيره في الشهر، ويشب في الشهر شباب غيره في السنة، فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وفيهم الشيخان، فقالوا: استعمل علينا هذا الغلام لمنزلته وشرف جديه، فصاروا تسعة، وكان صالح عليه السلام لا ينام معهم في القرية، بل كان في مسجد يقال له مسجد صالح، فيه يبيت بالليل، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم، فإذا أمسى خرج إلى مسجده فبات فيه. قال حجاج: قال ابن جريج: لما قال لهم صالح عليه السلام: إنه سيولد غلام يكون هلاكهم على يديه، قالوا: فكيف تأمرنا؟ قال: آمركم بقتلهم، فقتلوهم إلا واحدًا، قال: فلما بلغ ذلك المولود قالوا: لو كنا لم نقتل أولادنا لكان لكل واحد منا مثل هذا، هذا عمل صالح! فأثمروا بينهم بقتله، وقالوا: نخرج مسافرين والناس يروننا علانية، ثم نرجع من ليلة كذا وكذا فنرصد عند مصلاه فنقتله، فلا يحسب الناس إلا أنا مسافرون كما نحن. فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصدونه، فأنزل الله عز وجل عليهم الصخرة فرضختهم فأصبحوا رضخًا، فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم، فإذا هم رضخ، فرجعوا يصيحون في القرية: أي عباد الله، أما رضي صالح أن أمرهم أن يقتلوا أولادهم حتى قتلهم! فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة أجمعون، فأحجموا عنها إلا ذلك ابن العاشر. قال أبو جعفر: ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله ﷺ، قال: فأرادوا أن يمكروا بصالح، فمشوا حتى أتوا على سرب على طريق صالح، فاختبأ فيه ثمانية وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله فبيتناهم، فأمر الله عز وجل الأرض فاستوت عليهم، قال: فاجتمعوا ومشوا إلى الناقة، وهو على حوضها قائمة، فقال الشقي لأحدهم: ائتها فاعقرها، فأتاها، فتعاظمه ذلك، فأضرب عن ذلك، فبعث آخر فأعظم ذلك، فجعل لا يبعث أحدًا إلى تعاظمه أمرها، حتى مشى إليها وتطاول فضرب عرقوبيها، فوقعت تركض، فأتى رجلٌ منهم صالحًا فقال: أدرك الناقة فقد عقرت. فأقبل: فخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه: يا نبي الله، إنما عقرها فلان، إنه لا ذنب لنا، قال: انظروا هل تدركون فصيلها! فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب! فخرجوا يطلبونه، فلما رأى الفصيل أمه تضطرب أتى جبلًا - يقال له القارة - قصيرًا فصعده وذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله عز وجل إلى الجبل، فطال في السماء حتى ما تناله الطير، قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه، ثم استقبل صالحًا، فرغا رغوة، ثم رغا أخرى، ثم رغا أخرى، فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم، تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، إلا أن آية العذاب أن اليوم الأول تصبح وجوهكم مصفرة، واليوم الثاني محمرة، واليوم الثالث مسودة، فلما أصبحوا إذا وجوهم كأنما طليت بالخلوق، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يومٌ من الأجل وحضركم العذاب، فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوهم محمرة، كأنما خضبت بالدماء، فصاحوا وضجوا وبكوا وعرفوا أنه العذاب. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: الا قد مضى يومان من الأجل، وحضركم العذاب، فلما أصبحوا اليوم الثالث فإذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فصاحوا جميعًا: ألا قد حضركم العذاب، فتكفنوا وتحنطوا، وكان حنوطهم الصبر والمقسر، وكانت أكفانهم الأنطاع، ثم ألقوا أنفسهم إلى الأرض، فجعلوا يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة، وإلى الأرض مرة، لا يدرون من حيث يأتيهم العذاب، من فوقهم من السماء، أو من تحت أرجلهم من الأرض خشعًا وفرقًا، فلما أصبحوا اليوم الربع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوتٌ في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم فأصبحوا في ديارهم جاثمين. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثت أنه لما أخذتهم الصيحة أهلك الله من بين المشارق والمغارب منهم، إلا رجلًا واحدًا كان في حرم الله، منعه حرم الله من عذاب الله قيل: ومن هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال، وقال رسول الله ﷺ حين أتى على قرية ثمود لأصحابه: " لا يدخلن أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائهم "، وأراهم مرتقى الفصيل، حين ارتقى في القارة قال ابن جريج: وأخبرني موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمران، أن النبي ﷺ حين أتى على قرية ثمود قال: " لا يدخلن على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم ". قال ابن جريج: قال جابر بن عبد الله: إن النبي ﷺ لما أتى على الحجر، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد، فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فتشرب ماءهم يوم وردها ". حدثني إسماعيل بن المتوكل الأشجعي، قال: حدثنا محمد بن كثير، قال: حدثنا عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خشيم، قال: حدثنا أبو الطفيل قال: لما غزا رسول الله ﷺ عزاة تبوك، نزل الحجر فقال: " أيها الناس لا تسألوا نبيكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سالوا نبيهم ان يبعث لهم آية، فبعث الله تعالى ذكره لهم الناقة آية، فكانت تلجُ عليهم يوم وردها من هذا الفج فتشرب ماءهم، ويوم وردهم كانوا يتزودون منه، ثم يحلبونها مثل ما كانوا يتزودون من مائهم قبل ذلك لبنًا، ثم تخرج من ذلك الفج. فعتوا عن أمر ربهم وعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعدًا من الله غير مكذوب، فأهلك الله من كان منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلى رجلًا واحدًا كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله، قالوا: ومن ذلك الرجل يا رسول الله؟ قال: أبو رغال. فأما أهل التوراة فإنهم يزعمون أن لا ذكر لعاد ولا ثمود ولا لهود وصالح في التوراة، وأمرهم عند العرب في الشهرة في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم وقومه. قال: ولولا كراهة إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لذكرت من شعر شعراء الجاهلية الذي قيل في عاد وثمود وأمورهم بعض ما قيل. ما يعلم به من ظن خلاف ما قلنا في شهرة أمرهم في العرب صحة ذلك. ومن أهل العلم من يزعمون أن صالحًا عليه السلام توفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وأنه أقام في قومه عشرين سنة. قال أبو جعفر: نرجع الآن إلى: ذكر إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وذكر من كان في عصره من ملوك العجم إذ كنا قد ذكرنا من بينه وبين نوح من الآباء وتأريخ السنين التي مضت قبل ذلك. وهو إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح. واختلفوا في الموضع الذي كان منه، والموضع الذي ولد فيه، فقال بعضهم: كان مولده بالسوس من أرض الأهواز، وقال بعضهم: كان مولده ببابل من أرض السواد، وقال بعضهم: كان بالسواد بناحية كوثي. وقال بعضهم: كان مولده بالوركاء بناحية الزوابي وحدود كسكر، ثم نقله أبوه إلى الموضع الذي كان به نمرود من ناحية كوئي. وقال بعضهم: كان مولده بحران، لكن أباه تارخ نقله إلى أرض بابل. وقال عامة السلف من أهل العلم: كان مولد إبراهيم عليه السلام في عهد نمرود بن كوش. ويقول عامة أهل الأخبار: كان نمرود عاملًا للازدهاق الذي زعم بعض من زعم أن نوحًا عليه السلام كان مبعوثًا إليه على أرض بابل وما حولها. وأما جماعة من سلف من العلماء فإنما يقولون: كان ملكًا برأسه، واسمه الذي هو اسمه فيما قيل: زرهي بن طهماسلفان. وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق - فيما ذكر لنا والله أعلم - أن آزر كان رجلًا من أهل كوثي، من قرية السواد سواد الكوفة، وكان إذا ذاك ملك المشرق لنمرود الخاطئ، وكان يقال له الهاصر، وكان ملكه - فميا يزعمون - قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها، وكان ببابل، قال: وكان ملكه وملك قومه بالمشرق قبل ملك فارس. قال: ويقال لم يجتمع ملك الأرض ولم يجتمع الناس على ملك واحد إلا على ثلاثة ملوك: نمرود بن أرغوا، وذي القرنين، وسليمان بن داود. وقال بعضهم: نمرود هو الضحاك نفسه. حدثت عن هشام بن محمد، قال: بلغنا والله أعلم أن الضحاك هو نمرود، وأن إبراهيم خليل الرحمن ولد في زمانه، وأنه صاحبه الذي أراد إحرقه. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي صالح وعن أبي مالك، عن ابن عابس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: إن أول ملك ملك في الأرض شرقها وغربها نمرود بن كنعان ابن كوش بن سام بن نوح، وكانت الملوك الذين ملكوا الأرض كلها أربعة: نمرود، وسليمان بن داود، وذو القرنين، وبخت نصر: مؤمنان وكافران. وقال ابن إسحاق فيما حدثين ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل أن يبعث إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن حجة على قومه ورسولًا إلى عباده، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام من نبي قبله إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله تعالى ذكره ما أراد، أتى أصحابُ النجوم نمرود، فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن غلامًا يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم، يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا، فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته، فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم امرأة آزر فإنه لم يعلم بحبلها، وذلك أنها كانت جارية - حدثة فيما يذكر - لم يعرف الحبل في بطنها، فجعل لا تلد امرأة غلامًا في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلًا إلى مغارة كانت قريبًا منها، فولدت فيها إبراهيم عليه السلام، واصلحت من شانه ما يصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل فتجده حيًا يمص إبهامه. ويزعمون - والله أعلم - أن الله جعل رزق إبراهيم عليه السالم فيها ما يجيئه من مصه، وكان آزر فيما يزعمون قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل، فقالت: ولدت غلامًا فمات. فصدقها فسكت عنها، وكان اليوم - فيما يذكرون - على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة، ولم يمكث إبراهيم عليه السلام في المغارة إلى خمسة عشر شهرًا، حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاء، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي، مالي إله غيره، ثم نظر في السماء ورأى كوكبًا، فقال: " هذا ربي "، ثم اتبعه ينظر إلى ببصره حتى غاب " فملا أفل قال لا أحب الآفلين "، ثم اطلع للقمر فرآه بازغًا فقال: " هذا ربي " ثم اتبعه ببصره حتى غاب " فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ". فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس رأى عظم الشمس ورأى شيئًا هو أعظم نورًا من كل شيء رآه قبل ذلك، فقال: " هذا ربي هذا أكبر، فما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين ". ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم يبادهم بذلك، فأخبره أنه ابنه، فأخبرته أم إبراهيم عليه السلام أنه ابنه، فأخبرته بما كانت صنعت في شأنه، فسر بذلك آزر وفرح فرحًا شديدًا، وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدون، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم عليه السلام فيما يذكرون فيقول من يشتري ما يضره ولا ينفعه! فلا يشتريها أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رؤوسها، قال، وقال: اشربي - اتسهزاء بقومه، وبما هم عليه من الضلالة - فشا عيبه إياها، واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته. من غير أن يكون ذلك بلغ نمرود الملك. ثم إنه لما بدا لإبراهيم أن يبادي قومه بخلاف ما هم عليه وبأمر الله والدعاء إليه " نظر نظره في النجوم، فقال إني سقيم "، يقول الله عز وجل: " فتولوا عنه مدبرين " وقوله: " إني سقيم " أن طعين، أو لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم الذي يريد، فلما خرجوا عنه خالف إلى أصنامهم التي كانوا يعبدون من دون الله، فقرب لها طعامًا، ثم قال: ألا تأكلون! مالكم لا تنطقون! تعييرًا في شأنها واستهزاء بها. وقال في ذلك غير ابن إسحاق، ماحدثين موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي صالح، وعن أبي مالك، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن أناس من أصحاب النبي ﷺ: كان من شأن إبراهيم عليه السلام أنه طلع كوكب على نمرود، فذهب بضوء الشمس والقمر، ففزع من ذلك فزعًا شديدًا، فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة، فسألهم عنه، فقالوا: يخرج من ملكك رجل يكون على وجهه هلاكك وهلاك ملكك - وكان مسكنه ببابل الكوفة - فخرج من قريته إلى قرية أخرى، فأخرج الرجال وترك النساء، وأمر ألا يولد مولود ذكر إلا ذبحه، فذبح أولادهم. ثم إنه بدت له حاجة في المدينة لم يأمن عيها إلا آزر أبا إبراهيم، فدعاه فأرسله. فقال له: انظر لا تواقع أهلك، فقال له آزر: أنا أضن بديني من ذلك، فلما دخل القرية نظر إلى أهله فلم يملك نفسه أن وقع عليها، فقربها إلى قرية بين الكوفة والبصرة، يقال لها أور، فجعلها في سرب، فكان يتعاهدها بالطعام والشراب وما يصلحها. وإن الملك لما طال عليه الأمر قال: قول سحرة كذابين، ارجعوا إلى بلدكم، فرجعوا. وولد إبراهيم فكان في كل يوم يمر كأنه جمعة، والجمعة كالشهر، والشهر كالسنة من سرعة شبابه، ونسي الملك ذلك، وكبر إبراهيم ولا يرى أنّ أحدًا من الخلق غيره وغير أبيه وأمه، فقال أبو إبراهيم لأصحابه: إن لي ابنًا قد خبأته، أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به؟ قالوا: لا، فأت به. فانطلق فأخرجه، فلما خرج الغلام من السرب نظر إلى الدواب والبهائم والخلق، فجعل يسأله أباه: ما هذا؟ فيخبره عن البعير أنه بعير، وعن البقرة أنها بقرة، وعن الفرس أنه فرس، وعن الشاة أنها شاة، فقال: ما لهؤلاء الخلق بد من أن يكون لهم ربّ، وكان خروجه حين خرج من السرب بعد غروب الشمس، فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري، فقال: " هذا ربي "، فلم يلبث أن غاب، فقال " لا أحب الآفلين "، أي لا أحب ربًا يغيب. قال ابن عباس: وخرج في آخر الشهر، فلذلك لم ير القمر قبل الكواكب، فلما كان آخر الليل رأى القمر بازغًا قد طلع، فقال: " هذا ربي، فلما أفل " يقول: غاب، " قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين "، فلما أصبح ورأى الشمس بازغة، قال: " هذا ربي هذا أكبر "، فلما غابت قال الله له: أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين. ثم أتى قومه فدعاهم فقال: " يا قوم إني بريء مما تشركون لرب العالمين. إني وجهت وجهي للذي فطر المسوات والأرض حنيفًا ". يقول مخلصًا: فجعل يدعو قومه وينذرهم. وكان أبوه يصنع الأصنام فيعطيها ولده فيبيعونها، وكان يعطيه فينادي: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ فيرجع إخوته وقد باعوا أصنامهم، ويرجع إبراهيم بأصنامه كما هي، ثم دعا أباه فقال: " يا أبتِ لم تعبدُ ما لا يسمعُ ولا يبصرُ ولا يغني عنك شيئًا " قال: " أراغب أنت عن آلهي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليًا ". قال: أبدًا، ثم قال له أبوه: يا إبراهيم، إن لنا عيدًا لو قد خرجت معنا لأعجبك ديننا، فلما كان يوم العيد فخرجوا إليه خرج معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال " إني سقيم "، يقول: أشتكي رجلي، فتوظئوا رجليه، وهو صريع، فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقى ضعفي الناس: " تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، فإذا هو في بهو عظيم، مستقل باب البهو صنم عظمي إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد صنعوا طعامًا فوضعوه بني يدي الآلهة، قالوا: إذا كان حينُ نرجع رجعنا، وقد باركت الآلهة في طعامنا فأكلنا. فلما نظر إليه إبراهيم عليه السلام، وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال: ألا تأكلون؟ فلما لم تجبه قال: ما لكم لا تنطقون! فراغ عليهم ضربًا باليمين، فأخذ حديدة فبقر كل صنم في حافتيه، ثم علق الفأس في عنق الصنم الأكبر، ثم خرج فلما جاء القوم إلى طعامهم، ونظروا إلى آلهتهم، قالوا: " ومن فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ". قال أبو جعفر: رجع الحديث إلى حديث إسحاق. ثم أقبل عليهم كما قال الله عز وجل: " ضربًا باليمين ". ثم جعل يكسرهن بفأس في يده، حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده، ثم تركهن، فلما رجع قومه رأوا ما صنع بأصنامه، فراعهم ذلك، فأعظموه وقالوا: من فعل بألهتنا إنه لمن الظالمين. ثم ذكروا فقالوا: " قد سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " يعنون فتى يسبها ويعيبها ويستهزئ بها، لم نسمع أحدًا يقول ذلك غيره، وهو الذي نظن صنع هذا بها. وبلغ ذلك نمرود وأشراف قومه، فقالوا: " فأتوا به على أعين الناس لعلم يشهدون "، أي ما يصنع به. فكان جماعة من أهل التأويل، فمنهم قتادة والسدي يقولون في ذلك لعلهم يشهدون عليه أنه هو الذي فعل ذلك، وقالوا: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: فلما أى به فاجتمع له قومه عند ملكهم نمرود، قالوا: " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون "، غضب من أن يعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها، فكسرهن، فارعووا ورجعوا عنه فيما ادعوا عليه من كسرهن إلى أنفسهم فيما بينهم، فقالوا: لقد ظلمناه وما نراه إلا كما قال. ثم قالوا وعرفوا أنها لا تضر ولا تنفع ولا تبطش: طعلمت ما هؤلاء ينطقون "، أي لا يتكلمون فيخبرونا: من صنع هذا بها، وما تبطش بالأيدي فنصدقك، يقول الله عز وجل: " ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون "، اي نكسوا رؤسهم في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم، فقال عند ذلك إبراهيم حين ظهرت الحجة عليهم بقولهم: " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون، قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئًا ولا يضركم أفٍ كم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " قال: وحاجة قومه عند ذلك في الله جل ثناؤه يستوصفونه إياه ويخبرونه أن آلهتم خير مما يعبد، فقال: " أتحاجوني في الله وقد هدانِ "، إلى قوله: " فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون " يضرب لهم الأمثال، ويصرف لهم العبر، ليعلموا أن الله هو أحق أن يخاف ويعبد مما يعبدون من دونه. قال أبو جعفر: ثم إن نمرود - فيما يذكرون - قال لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكره من قدرته التي تعظمه بها على غيره ما هو؟ " قال إبراهيم ربي الذي يحيى ويميتُ "، فقال نمرود: فأنا " أحيى وأميتُ "، فقال له إبراهيم: كيف تحيى وتميت؟ قال: آخذ الرجلين قد استوجبا القتل في حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عن الآخر فأتركه فأكون قد أحييته، فقال له إبراهيم عند ذلك: " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب "، فعرف أنه كما يقول، فبهت عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئًا، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول الله عز وجل: " فبهت الذي كفر "، يعني وقعت عليه الحجة. قال: ثم إن نمرود وقومه أجمعوا في إبراهيم فقالوا: " حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر، فقال: أتدري يا مجاهد، قال: تلوتُ هذه الآية على عبد الله بن عمر، فقال: أتدري يا مجاهد، من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار؟ قال: قلت: لا، قال: رجل من أعراب فارس، قال: قلت: يا أبا عبد الرحمن، وهل للفرس أعراب؟ قال: نعم، الكردُ هم أعراب فارس، فرجل منهم هو الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار. حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله: " حرقوه وانصروا آلهتكم " قال: قالها رجل من أعراب فارس - يعني الأكراد. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي، قال: إن اسم الذي قال حرقوه " هينون "، فخسف الله به الأرض. فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ثم رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فأمر نمرود، بجمع الحطب، فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب، حتى أن كانت المرأة من قرية إبراهيم - فيما يذكر - لتنذر في بعض ما تطلب مما تحب أن تدرك: لئن أصابته لتحطبن في نار إبراهيم التي يحرق بها احتسابًا في دينها، حتى إذا أرادوا أن يلقوه فيها قدّموه وأشعلوا في كل ناحية من الحطب الذي جمعوا له، حتى إذا اشعلت النار، واجتمعوا لقذفه فيها، صاحت السماء والأرض وما فيها من الخلق إلا الثقلين - فيما يذكرون - إلى الله عز وجل صيحة واحدة: أي ربنا! إبراهيم ليس في أرضك أحدٌ يعبدك غيره، يحرق بالنار فيك! فأذن لنا في نصرته، فيذكرون - والله أعلم - أن الله عز وجل حين قالوا ذلك قال: إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، فإن لم يدعُ غيري فأنا وليه، فخلو بيني وبينه، فأنا أمنعه، فلما ألقوه فيها قال: " يا نارُ كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم "، فكانت كما قال الله عز وجل. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: " قالوا ابنوا له بنيانًا فألقوهُ في الجحيم "، قال: فحبسوه في بيت، وجمعوا له خطبًا حتى أن كانت المرأة لتمرض فتقول لئن عافاني الله لأجمعن حطبًا لإبراهيم، فلما جمعوا له وأكثروا من الحطب حتى أن كان الطير ليمر بها فيحترق من شدة وهجها وحرها، فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان، فرفع إبراهيم رأسه إلى السماء، فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربنا! إبراهيم حين رفع رأسه إلى المساء: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل! فقذفوه في النار، فناداها فقال: " يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم ". وكان جبرئيل هو الذي ناداها. وقال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلامًا لمات إبراهيم من بردها، فلم تبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت، ظنت أنها تعنى. فلما طفئت النار نظروا إلى إبراهيم فإذا وهو ورجل آخر معه، وإذ رأس إبراهيم في حجره يمسح عن وجهه العرق، وذكر أن ذلك الرجل ملك الظلّ، وأنزل الله نارًا وانتفع بها بنو آدم، فأخرجوا إبراهيم، فأدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه. ثم رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وبعث الله عز وجل ملك الظل في صورة إبراهيم، فقعد فيها إلى جنبه يؤنسه، فمكث نمرود أيامًا لا يشك إلا أن النار قد أكلت إبراهيم وفرغت منه، ثم ركب فمر بها وهي تحرق ما جمعوا لها من الحطب، فنظر إليها، فرأى إبراهيم جالسًا فيها إلى جنبه رجلٌ مثله، فرجع من مركبه ذلك، فقال لقومه: لقد رأيتُ إبراهيم حيًا في النار، ولقد شبه علي، ابنوا لي صرحًا يشرف بي على النار حتى أشتثبت، فبنوا له صراحًا، فأشرف عليه فاطلع منه إلى النار، فرأى إبراهيم جالسًا فيها، ورأى الملك قاعدًا إلى جنبه في مثل صورته، فناداه نمرود: يا إبراهيم، كبيرٌ إلهك الذي بلغت قدرته وعزته أن حال بين ما أرى وبينك، حتى لم تضرك يا إبراهيم، هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟ قال: لا، قال: فقم واخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلما خرج إليه قال: يا إبراهيم، من الرجل الذي رأيتُ معك في مثل صورتك قاعدًا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظل، أرسله إلى ربي ليكون معي فيها ليؤنسني، وجعلها علي بردًا وسلامًا. فقال نمرود - فيما حدثت -: يا إبراهيم، إني مقرّب إلى إلهك قربانًا لما رأيت من عزته وقدرته، ولما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده، إني ذابح له أربعة آلاف بقرة. فقال له إبراهيم: إذًا لا يقبل الله منك ما كنتَ على شيء من دينك هذا حتى تفارقه إلى ديني! فقال: يا إبرهيم، لا أستطيع ترك ملكي، ولكني سوف أذبحها له، فذبحها نمرود، ثم كف عن إبراهيم، ومنعه الله عز وجل منه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الحارث، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار وحده يرشحُ جبينه، فقال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا معتمر بن سليمان التيمي، عن بعض أصحابه قال: جاء جبرئيل إلى إبراهيم عليه السلام وهو يوثق، ويقمط ليلقى في النار، قال: يا إبراهيم، ألك حاجة قال: أما إليك فلا. حدثني أحمد بن المقدام، قال: حدثني المعتمر، قال: سمعت أبي قال: حدثنا قتادة، عن إبي سليمان، قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه. قال أبو جعفر: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: واستجاب لإبراهيم عليه السلام رجالٌ من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود وملئهم، فآمن له لوط - وكان ابن أخيه - وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناحور بن تارخ، فهاران أبو لوط، وناحور أبو بتويل، وبتويل أبو لابان، وربقا ابنة بتويل امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب، وليا وراحيل زوجتا يعقوب ابنتا لابان. وآمنت به سارة هي ابن عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم، وكانت لها أخت يقال لها ملكا امرأة ناحور. وقد قيل: إن سارة كانت ابنة ملك حرّان. ذكر من قال ذلك حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: انطلق إبراهيم ولوط قبل الشأم، فلقي إبراهيم سارة، وهي ابنة ملك حرّان، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على ألا يغيرها، ودعا إبراهيم أباه آزر إلى دينه، فقال له: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا؟ فأبى أبوه الإجابة إلى ما دعاه إليه. ثم إن إبراهيم ومن كان معه من أصحابه الذين اتبعوا أمره أجمعوا لفراق قومهم، فقالوا: " إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم "، أيها المعبودون من دون الله " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا " أيها العابدون " حتى تؤمنوا بالله وحده ". ثم خرج إبراهيم مهاجرًا إلى ربه وخرج معه لوط مهاجرًا وتزوج سارة ابنة عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه، والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران، فمكث بها ما شاء الله أن يمكث، ثم خرج منها مهاجرًا حتى قدم مصر، وبها فرعون من الفراعنة الأولى. وكانت سارة من أحسن الناس فيما يقال، وكانت لا تعصى إبرهيم شيئًا، وبذلك أكرمهم الله عز وجل، فلما وصفت لفرعون ووصف له حسنها وجمالها أرسل إلى إبراهيم، فقال: ما هذه المرأة التي معك؟ قال: هي أختي وتخوف إبراهيم إن قال هي أمرأتي أن يقتله عنها. فقال لإبراهيم: زينها، ثم أرسلها إلي حتى أنظر إليها، فرجع إبراهيم إلى سارة وأمرها فتهيأت، ثم أرسلها إليه، فأقبلت حتى دخلت عليه، فلما قعدت إليه تناولها بيده، فيبست إلى صدره، فلما رأى ذلك فرعون أعظم أمرها، وقال: ادعي الله أن يطلق عني، فوالله لا أريبك ولأحسن إليك، فقالت: اللهم إن كان صادقًا فأطلق يده، فأطلق الله يده، فردها إلى إبراهيم، ووهب لها هاجر، جارية كانت له قبطية. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ: قال: " لم يكذب إبراهيم عليه السلام غير ثلاث: ثنتين في ذات الله، قوله: " إني سقيم "، وقوله: " بل فعله كبيرهم هذا ". وبينا هو يسير في الأرض جبار من الجبابرة، إذا نزل منزلًا، فأتى الجبار رجل فقال: إن في أرضك - أول قال: ها هنا - رجلًا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فجاء فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: هي أختي، قال: اذهب فأرسل بها إلي، فانطلق إلى سارة، فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده، فإنك اختي في كتاب الله، فإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، قال: فانطلق بها وقام إبراهيم عليه السلام يصلي قال: فلما دخلت عليه فرآها أهوى إليها وذهب يتناولها، فأخذ أخذًا شديدًا، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له فأرسل فأهوى إليه فذهب يتناولها فأخذ أخذا شديدًا، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له فأرسل، ثم فعل ذلك الثالثة، فأخذ، فذكر مثل المرتين فأرسل. قال: فدعا ادنى حجابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان، ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فأخرجت وأعطيت هاجر، فأقبلت بها، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته، فقال: مهيم فقالت: كفى الله كيد الفاجر الكافر! وأخدم هاجر ". قال محمد بن سيرين: فكان أبو هريرة إذا حدث هذا الحديث يقول: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " لم يقل إبراهيم شيئًا قط " لم يكن " إلا ثلاثًا: قوله " إني سقيم " لم يكن به سقم، وقوله: " بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون "، وقوله لفرعون حين سأله عن سارة فقال: من هذه المرأة معك؟ قال: أختي، قال: فما قال إبراهيم عليه السلام شيئًا قط " لم يكن إلا ذلك ". حدثني سعيد بن يحيى الأموي. قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد ابن إسحاق، قال: حدثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث.. " ثم ذكر نحوه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: " لم يكذب إبراهيم غير ثلاث: ثنتين في ذات الله، قوله: " إني سقيم "، وقوله: " بل فعله كبيرهم هذا "، وقوله في سارة: هي أختي ". حدثني ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن المسيب بن رافع، عن أبي هريرة قال: ما كذب إبراهيم عليه السلام غير ثلاث كذبات: قوله: " إني سقيم "، وقوله: " بل فعله كبيرهم هذا "، وإنما قال موعظة، وقوله حين سأله الملك فقال: أختي - لسارة - وكانت امرأته. حدثني يعقوب، قال: حدثني ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات: ثنتان في الله، وواحدة في ذات نفسه، وأما الثنتان فقوله: " إني سقيم "، وقوله: " بل فعله كبيرهم هذا " وقصته في سارة. وذكر قصتها وقصة الملك. قال أبو جعفر: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وكانت هاجر جارية ذات هيئة، فوهبتها سارة لإبراهيم، وقالت: إني أراها امرأة وضيئة فخذها، لعل الله يرزقك منها ولدًا، وكانت سارة قد منعت الولد فلا تلد لإبراهيم حتى أسنّت، وكان إبراهيم قد دعا الله أن يهبَ له من الصالحين، وأخرت الدعوة حتى كبر إبراهيم وعقمت سارة، ثم إن إبراهيم وقع على هاجر، فولدت له إسماعيل عليهما السلام. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، قال: قال: رسول الله ﷺ: " إذا فتحتم مصر فاستوصوا باهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق قال: سألت الزهري: ما الرحم التي ذكر رسول الله ﷺ ولهم؟ قال: كانت هاجر أم إسماعيل منهم. فيزعمون - والله أعلم - أن سارة حزنت عند ذلك على ما فاتها من الولد حزنًا شديدًا، وقد كان إبراهيم خرج من مصر إلى الشأم، وهاب ذلك الملك الذي كان بها، واشفق من شره حتى قدمها، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برية الشأم، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة. وأقرب من ذلك، فبعثه الله عز وجل نبيًا، وأقام إبراهيم فيما ذكر لي بالسبع، فاختفر به بئرًا واتخذ به مسجدًا، فكان ماء تلك البئر معينًا طاهرًا فكانت غنمه تردها. ثم إن إهلها آذوه فيها ببعض الأذى، فخرج منها حتى نزل بناحية من أرض فلسطين بين الرملة وإيليا، ببلد يقال له قط - أوقط - فلما خرج من بين أظهرهم نضب الماء فذهب. واتبعه أهل السبع، حتى أدركوه وندموا على ماصنعوا، وقالوا: اخرجنا من بين أظهرنا رجلًا صالحًا، فسألوه أن يرجع إليهم، فقال: ما أنا براجع إلى بلد أخرجت منه، قالوا له: فإن الماء الذي كنت تشرب منه ونشرب معك منه قد نضب فذهب، فأعطاهم سبع أعنز من غنمه، فقال: اذهبوا بها معكم، فإنكم لو قد أوردتموها البئر، قد ظهر الماء، حتى يكون معينًا طاهرًا كما كان، فاشربوا منها، فلا تغترفن منها امرأة حائض، فخرجوا بالأعنز، فلما وقفت على البئر ظهر إليها الماء، فكانوا يشربون منها وهي على ذلك حتى أتت امرأة طامث، فاغترفت، فنكص ماؤها إلى الذي هو عليه اليوم، ثم ثبت. قال: وكان إبراهيم يضيف من نزل به، وكان الله عز وجل قد أوسع عليه، وبسط له في الرزق والمال والخدم، فلما أراد الله عز وجل هلاك قوم لوط، بعث إليه رسله يأمرونه بالخروج من بين أظهرهم، وكانوا قد عملوا من الفاحشة ما لم يسبقهم به أحدٌ من العالمين، مع تكذيبهم نبيهم، وردّهم عليه ما جاءهم به من النصيحة من ربهم، وأمرت الرسل أن ينزلوا على إبراهيم، وأن يبشروه وسارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فلما نزلوا على إبراهيم وكان الضيف قد حبس عنه خمس عشرة ليلة حتى شق ذلك عليه - فيما يذكرون - لا يضيفه أحد، ولا يأتيه، فلما رآهم سر بهم رأى ضيفًا لم يضفه مثلهم حسنًا وجمالًا، فقال: لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلا أنا بيدي، فخرج إلى أهله، فجاء كما قال الله عز وجل: " بعجل سمين " قد حنذه - والحناذ: الإنضاج يقول الله جل ثناؤه: " جاء بعجل حنيذٍ " وقرّبه غليهم، فأمسكوا أيديهم عنه، " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم واوجس منهم خيفة " حين لم يأكلوا من طعامه، " قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط. وامرأته " سارة " قائمة فضحكت " لما عرفت من أمر الله عز وجل، ولما تعلم من قوم لوط، فبشروها " بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " بابن، وبابن ابن، فقالت - وصكت وجهها، يقال ضربت على جبينها: " يا ويلتي أألد وأنا عجوز " إلى قوله: " إنه حميدٌ مجيدٌ ". وكانت سارة يومئذ - فيما ذكر لي بعض أهل العلم - ابنة تسعين سنة، وإبراهيم ابن عشرين ومائة سنة، فلما ذهب عن إبراهيم الورع وجاءته البشرى بإسحاق ويعقوب ولد من صلب إسحاق وأمنَ ما كان يخاف، قال: " الحمد الله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميعُ الدُّعاء ". حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي، قال: ألقى إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي ابنة تسعين سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي ابنة تسعين سنة، وكان مذبحه من بيت إيليا على ميلين، فلما دعت سارة بما أراد بإسحاق مرضت يوميت وماتت اليوم الثالث، وقيل: مات سارة وهي ابنة مائة وسبع وعشرين سنة. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط، فأقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا على إبراهيم، فتضيفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلهم، فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين فذبحه، ثم شواه في الرضف وهو الحنيذ حين شواه، وأتاهم فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم، فذلك حين يقول جل ثناؤه: " وامرأته قائمة وهو جالس " في قراءة ابن مسعود، فلما قربه إليهم قال: ألا تأكلون! قالوا: إبراهيم إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن قال: فإن لهذا ثمن قالوا: وماثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره، فنظر جبرئيل إلى ميكائيل، فقال: حق لهذا أن يتخذه به خليلًا، " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه " يقول: لا تأكلون، " نكرهم وأوجس منهم خيفة "، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا! هؤلاء إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهو لا يأكلون طعامنا!. ذكر أمر بناء البيت قال: ثم إن الله عز وجل أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق - فيما ذكر - ببناء بيت له يعبد فيه، ويذكر. فلم يدر إبراهيم في أي موضع يبنى، إذ لم يكن بيّن له ذلك، فضاق بذلك ذرعًا، فقال بعض أهل العلم: بعث الله إليه السكينة لتدله على موضع البيت فمضت به السكينة، ومع إبراهيم هاجر زوجته وابنه إسماعيل، وهو طفل صغير. وقال بعضهم: بل بعث الله إليه جبرئيل عليه السلام، حتى دله على موضعه وبني له ما ينبغي أن يعمل. ذكر من قال الذي بعثه الله إليه لذلك السكينة حدثنا هناد بن السري، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة: أن رجلًا قام إلى علي بن أبي طالب، فقال: ألا تخبرني عن البيت، أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا، ولكنه أو بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا، وإن شئت أنبأتك كيف بني. إن الله عز وجل أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الأرض فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا، فأرسل عز وجل السكينة، وهي ريح خجوج ولها رأسان، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة فتطوت على موضع البيت كتطوي الحية، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام بنني شئيًا، فقال إبراهيم: أبغني حجرًا كما أمرك، فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا، فأتاه به، فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، فقال: يا أبت، من أتاك بهذا الحجر؟ فقال: أتابي به من لم يتكل على بنائك، أتابي به جبرئيل من السماء. فأتماه. حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: حثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي عليه السلام قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر، فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الراس، فكلمه، وقال: يا إبراهيم ابن على ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ قال إلى الله، قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا، قال: فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا، فصعدت هاجر الصفا، فنظرت فلم تر شيئًا، ثم أتت المردة فنظرت فلم تر شيئًا ثم رجعت إلى الصفا، فنظرت فلم تر شيئًا.. حتى فعلت ذلك سبع مرات، فقالت: يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش، فناداها جبرائيل، فقال: من أنتِ؟ قالت: أنا هاجر، أم ولد إبراهيم، قال: إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله، قال: وكلكما إلى كافٍ، قال: ففحص الغلام الأرض بإصبعه، فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء، فقال: دعيه، فإنها رواء. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل: أن طهرا بيتي للطائفين، انطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل، وأخذ المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله عز وجل ريحًا يقال لها ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة على أساس البيت الأول، وابتعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، فذلك حين يقول عز وجل: " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ". وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عم سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه كان يقول: لما أمر الله إبراهيم بعمارة البيت والآذان بالحج في الناس خرج من الشأم ومعه ابنه إسماعيل، وأم إسماعيل هاجر، وبعث الله معه السكينة، وهي ريح لها لسان تكلم به، يغدو معها إبراهيم إذا غدت، ويروح معها إذا راحت، حتى انتهت به إلى مكة، فلما أتت موضع البيت استدارت به، ثم قالت لإبراهيم: ابن علي، ابن علي، ابن علي، فوضع إبراهيم الأساس ورفع البيت هو وإسماعيل، حتى انتهيا إلى موضع الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني، ابغ لي حجرًا أجعله علمًا للناس، فجاءه بحجر، فلم يرضه وقال: ابغي غير هذا، فذهب إسماعيل ليلتمس له حجرًا، فجاءه وقد أتى بالركن، فوضعه في موضعه، فقال: يا أبت، من جاءك بهذا الحجر؟ قال: من لم يكلني إليك يا بني. وقال آخرون: إن الذي خرج مع إبراهيم من الشام لدلالته على موضع البيت جبرئيل عليه السلام، وقالوا: كان إخراجه هاجر وإسماعيل إلى مكة لما كان من غيرة سارة بسبب ولادة هاجر منه إسماعيل. ذكر من قال ذلك حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي قد ذكرناه أن سارة قالت لإبراهيم: تسر هاجر، فقد أنذت لك فوطئها، فحملت بإسماعيل، ثم إنه وقع على سارة فحملت بإسحاق، فلما ولدته وكبر اقتتل هو وإسماعيل، فغضبت سارة على أم إسماعيل، وغارت عليها، فأخرجتها، ثم إنها دعتها فأدخلتها. ثم غضبت أيضًا فأخرجتها ثم أدخلتها، وحلفت لتقطعن منها بضعة، فقالت أقطع أنفها، أقطع أذنها فيشينها ذلك، ثم قالت: لا بل أخفضها، فقطعت ذلك منها، فاتخذت هاجر عند ذلك ذيلا تعفى به عن الدم، فلذلك خفضت النساء، واتخذت ذيولًا ثم قالت: لا تساكني في بلد. وأوحى الله إلى إبرهيم أن يأتي مكة، وليس يومئذ بمكة بيت، فذهب بها إلى مكة وابنها فوضعهما، وقالت هاجر: إلى من تركتنا ها هنا؟ ثم ذكر خبرها، وخبر ابنها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم أن الله عز وجل لما بوأ لإبراهيم مكان البيت ومعالم الحرم، فخرج وخرج معه جبرئيل يقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: بهذه أمرت يا جبرئيل؟ فيقول: جبرئيل امضه، حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمرُ، وبها أناس يقال لهم العماليق، خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبرئيل: أها هنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر، فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشًا فقال: " ربنا إن أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم " إلى " لعلهم يشكرون ". ثم انصرف إلى أهله بالشأم وتركهما عند البيت، قال: فظمئ إسماعيل ظمأ شديدًا، فالتمست له أمه ماء فلم تجده، فاستسمعت: هل تسمع صوتًا؟ لتلتمس له شرابًا، فسمعت كالصوت عند الصفا، فأقبلت حتى قامت عليه فلم تر شيئًا، ثم سمعت صوتًا نحو المروة، فأقبلت حتى قامت عليه فلم تر شيئًا، ويقال: بل قامت على الصفا تدعوا الله وتستغيثه لإسماعيل، ثم عمدت إلى المروة ففعلت ذلك. ثم إنها سمعت أصوات سباع الوادي نحو إسماعيل حيث تركته، فأقبلت إليه تشتد، فوجدته يفحص الماء بيده من عين قد انفجرت من تحت يده، فشرب منهأن وجاءتها أم إسماعيل فجعلتها حسيًا، ثم استقت منها في قربتها تذخره لإسماعيل، فلولا الذي فعلت ما زالت زمزم معينًا طاهرًا ماؤها أبدًا. قال مجاهد: ولم نزل نسمع أن زمزم هزمة جبرئيل بعقبه لإسماعيل حين ظمئ. حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسن بن محمد، قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، قال: نبئتُ عن سعيد بن جبير أنه حدث عن ابن عباس أن أول من سعى بين الصفا والمروة لأم إسماعيل، وأن أول من أحدث من نساء العرب جر الذيول لأم إسماعيل. قال: لما فرّت من سارة أرخت ذيلها لتعفى أثرها، فجاء بها إبراهيم ومعها إسماعيل حتى انتهى بهما على موضع البيت، فوضعهما ثم رجع، فاتبعته فقالت: إلى أي شيء تكلنا؟ إلى طعام تكلنا؟ إلى شراب تكلنا؟ لا يرد عليها شيئًا، فقالت الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا، قال: فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء، أقبل على الوادي فقال: " ربنا إن أسكنت من ذريتي بوادٍ غير زرع عند بيتك المحرم.. " الأية. قال: ومع الإنسانة شنةٌ فيها ماء، فنفذ الماء، فعطشت فانقطع لبنُها، فعطش الصبى فنظرت: أي الجبال أدنى إلى الأرض، فصعدت الصفا فتسمعّت: هل تسمع صوتًا، أو ترى. أنيسًا؟ فلم تسمع شئيًا فانحدرت، فلما أتت على الوادي سعت - وما تريد السعي - كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي، فنظرت أي الجبال أدنى إلى الأرض، فصعدت المروة، فتسمعت: هل تسمع صوتًا أو ترى أنيسًا؟ فسمعت صوتًا، فقالت كالإنسان الذي يكذب سمعه: صه! حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك فأغثني، فقد هلكت وهلك من معي، فجاء الملك بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم، فضرب بقدمه ففارت عينًا، فعجلت الإنسانة تفرغ في شنتها، فقال رسول الله ﷺ: " رحم الله أم إسماعيل، لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينًا معينًا ". وقال لها الملك: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد، فإنها عين يشرب ضيفان الله منها، وقال: إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتًا هذا موضعه. قال: ومرت رفقة من جرهم تريد الشأم، فرأو الطير على الجبل، فقالوا: إن هذا الطير لعائف على ماء، فهل علمتم بهذا الوادي من ماء؟ فقالوا: لا فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة، فأتوها فطلبوا إليها أن ينزلوا معها، فأذنت لهم، قال: وأتى عليها ما يأتي على هؤلاء الناس من الموت، فماتت وتزوج إسماعيل امرأة منهم، فجاء إبراهيم فسأل عن منزل إسماعيل حتى دل عليه فلم يجده، ووجد امرأة له فظة غليظة، فقال لها: إذا جاء زوجك فقولي له: جاء ها هنا شيخ من صفته كذا وكذا، وأنه يقول لك: إني لا أرضى لك عتبة بابك فحولها، وانطلق. فلما جاء إسماعيل أخبرته فقال: ذلك أبي، وأنت عتبة بابي. فطلقها، وتزوج امرأة أخرى منهم، وجاء إبراهيم حتى انتهى إلى منزل إسماعيل فلم يجده ووجد امرأة له سلهة طليقة فقال لها: أين انطلق زوجك؟ فقالت: انطلق إلى الصيد، قال: فما طعامكم؟ قالت اللحم والماء، قال: اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم، ثلاثًا. وقال لها: إذا جاء زوجك فأخبريه، قولي له جاء ها هنا شيخ من صفته كذا وكذا، وإنه يقول لك: قد رضيتُ لك عتبة بابك، فأثبتها، فلما جاء إسماعيل أخبرته، قال: ثم جاء الثالثة، فرفعا القواعد من البيت. حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا يحيى بن عباد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سيعد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء إبراهيم نبي الله بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكة في موضع زمزم، فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم، إنما أسألك ثلاث مرات: من أمرك أن تضعني بأرض ليس فيها زرع ولا ضرع ولا أنيس ولا ماء ولا زاد؟ قال: ربي أمرني، قال: فإنه لن يضيعنا، قال: فلما قفا إبراهيم قال: " ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن " يعني من الحزن " وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ". فلما ظمئ إسماعيل جعل يدحض الأرض بعقبه فذهبت هاجر حتى علت الصفا، والوادي يومئذ لاخٍ - يعني عمبق - فصعدت الصفا، فأشرفت لتنظر: هل ترى شيئًا؟ فلم تر شيئًا، فانحدرت فبلغت الوادي، فسعت فيه حتى خرجت منه، فاتت المروة فصعدت فاستشرفت: هل ترى شيئًا؟ فلم تر شيئًا، ففعلت ذلك سبع مرات، ثم جاءت من المروة إلى إسماعيل، وهو يدحض الأرض بعقبه، وقد نبعت العين وهي زمزم، فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء، وكلما اجتمع ماء أخذته بقدحها، فأقرغته في سقائها، قال: فقال النبي ﷺ: " يرحمها الله! لو تركتها لكانت عينًا سائحة تجري إلى يوم القيامة ". قال: وكانت جرهم يومئذ بواد قريب من مكة، قال: ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي، قالوا. ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاءوا إلى هاجر، فقالوا: لو شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك، قالت: نعم! فكانوا معها حتى شب إسماعيل وماتت هاجر، فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم، قال: فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له، وشرطت عليه ألا ينزل، وقدم إبراهيم - وقد ماتت هاجر - إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ليس ها هنا، ذهب يتصيد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيتصيد، ثم يرجع، فقال إبراهيم هل عندك ضيافة؟ هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: ليس عندي وما عندي أحد، قال إبراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له، فليغير عتبة بابه، وذهب إبراهيم وجاء إسماعيل، فوجد ريح أبيه فقال لامرآته: هل جاءك أحد؟ قالت: جائني شيخ صفته كذا - وكذا المتسخفة بشأنه - قال: فما قال لك؟ قالت قال لي أقرئي زوجك السلام. وقولي له: فليغير عبتة بابه، فطلقها وتزوج أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل، فأذنت له واشترطت عليه ألا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد ويجيء الآن إن شاء الله، فانزل يرحمك الله! قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، قال: هل عندك خبرا او بر أو شعير أو تمر؟ قال: فجاءت باللبن واللحم، فدعا لهما بالبركة، فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله برًا وشعيرًا وتمرًا، فقالت: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه فبقي أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر، فغسلت شقه الأيسر، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك. فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم شيخ أحسن الناس وجهًا وأطيبهم ريحًا، فقال لي: كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه على المقام، قال: وما قال لك؟ قالت: قال لي: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، قال ذلك إبراهيم، فلبث ما شاء الله أن يلبث وأمره الله عز وجل ببناء البيت، فبناه هو وإسماعيل، فلما بنياه قيل: " أذن في الناس بالحج "، فجعل لا يمر بقوم إلا قال: يا أيها لاناس، إنه قد بني لكم بيت فحجوه، فجعل لا يسمعه أحد، لا صخرة ولا شجرة ولا شيء إلا قال: لبيك اللهم لبيك. قال: وكان بين قوله: " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم "، وبين قوله: " الحمد الله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق " كذا وكذا عامًا، لم يحفظ عطاء. حدثني محمد بن سنان، قال: حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد أو علي الحنفي، قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع، قال: سمعت كثير بن كثير يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جاء - يعني إبراهيم - فوجد إسماعيل يصلح نبلا له من وراء زمزم، فقال إبراهيم: يا إسماعيل، إن ربك قد أمرني أن أبني له بيتًا، فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك، فقال إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه قال: إذًا أفعل: قال: فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان " ربنا تقبل منا إنك أنت السميعُ العليم "، فلما ارتفع النبيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر، وهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله ويقولان: " تقبل منا إنك أنت السميع العليم ". فلما فرغ إبراهيم من بناء البيت الذي أمره الله عز وجل ببنائه، أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج، فقال له: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كال ضامر يأتين من كل فج عميقٍ ". فقال إبراهيم - فيما ذكر لنا - ما حدثنا به ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ، فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، قال: فسمعه ما بين السماء والأرض: أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون. حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان الضبي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما بنى إبراهيم البيتَ أوحى الله عز وجل إليه: أن أذن في الناس بالحج، قال: فقال إبراهيم: الا إن ربكم قد اتخذ بيتًا، وأمركم أن تحجوه، فاستجاب له ما سمعه من شيء، من حجر أو شجر أو أكمة أو تراب أو شيء: لبيك الله لبيك! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين ابن واقد، عن أبي الزبير، عن مجاهد، عن ابن عباس، قوله: " وأذن في الناس بالحج "، قال: قام إبراهيم عليه السلام خليل الله على الحجر فنادى: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك! حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مجاهد، قال: قيل لإبراهيم: أذن في الناس بالحج، فقال: يا ربّ، كيف أقول؟ قال: لبيك اللهم لبيك، قال: فكانت أول التلبية. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمر ابن عبد الله بن عروة، أنّ عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف بلغك أن إبراهيم دعا إلى الحج؟ قال: بلغني أنه لما رفع هو وإسماعيل قواعد البيت، وانتهى إلى ما أراد الله من ذلك، وحضر الحج استقبل اليمن، قدعا إلى الله وإلى حج بيته فأجيب: أن لبّيك اللهمّ لبيك! ثم استقبل المشرق فدعا إلى الله وإلى حج بيته فأجيب: أن لبيك اللهم لبيك! ثم إلى المغرب فدعا إلى الله وإلى حج بيته، فأجيب: أن لبيك اللهم لبيك! ثم إلى الشأم فدعا إلى الله عز وجل وإلى حج بيته فأجيب أن لبيك اللهم لبيك، ثم خرج بإسماعيل وهو معه يوم التروية، فنزل به منى ومن معه من المسلمين، فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم بات بهم حتى أصبح، فصلى بهم صلاة الفجر، ثم غدا بهم إلى عرفة، فقال بهم هنالك، حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين: الظهر والعصر، ثم راح بهم إلى الموقف من عرفة، فوقف بهم على الأراك، وهو الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام يريه ويعلمه، فلما غرب الشمس دفع به وبمن معه حتى أتى المزدلفة، فجمع فيها بين الصلاتين، المغرب والعشاء الآخرة، ثم بات بها وبمن معه، حتى إذا طلع الفجر صلى بهم صلاة الغداة، ثم وقف به على قزح من المزدلفة فيمن معه، وهو الموقف الذي يقف به الإمام حتى أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع، حتى رمى الجمرة الكبرى، وأراه المنحر من منى، ثم نحر وحلق، ثم أفاض به من منى ليريه كيف يطوف، ثم عاد به إلى منى ليريه كيف يرمي الجمار، حتى فرغ له من الحج وأذن في الناس. قال أبو جعفر: وقد روي عن رسول الله ﷺ وعن بعض أصحابه أن جبرئيل هو الذي كان يري إبراهيم المناسك إذا حج. ذكر الرواية بذلك عن رسول الله حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى - وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى - قال: أخبرنا ابن أبي ليلى، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال: أتى جبرئيل إبراهيم يوم التروية فراح به إلى منى، فصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر بمنى، ثم غدا به إلى عرفات، فأنزله الأراك - أو حيث ينزل الناس - فصلى به الصلاتين جميعًا: الظهر والعصر، ثم وقف به حتى إذا كان كأعجل ما يصلي أحدٌ من الناس المغرب، أفاض حتى فاض أتى به جميعًا، فصلى به الصلاتين جميعًا المغرب والعشاء، ثم أقام حتى إذا كان كأعجل ما يصلي أحد من الناس الفجر صلى به، ثم وقف حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين الفجر أفاض به إلى منى، فرمى الجمرة، ثم ذبح وحلق، ثم أفاض إلى البيت، ثم أوحى الله عز وجل إلى محمد ﷺ: " أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله ﷺ نحوه. ثم إن لله تعالى ذكره ابتلى خليله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه واختلف السلف من علماء أمة نبينا ﷺ في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه، فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، وقال بعضهم: هو إسماعيل بن إبراهيم، وقد روي عن رسول الله ﷺ كلا القولين، لو كان فيهما صحيح لم نعدهُ إلى غيره، غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه ﷺ أنه قال: " هو إسحاق " أوضح وأبين منه على صحة الأخرى. والرواية التي رويت عنه أنه قال: " هو إسحاق " حدثنا بها أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي ﷺ في حديث ذكر فيه: " وفديناه بذبح عظيمٍ " قال: " هو إسحاق ". وقد روي هذا الخبر عن غيره من وجه أصلح من هذا الوجه، غير أنه موقوف على العباس غير مرفوع إلى رسول الله ﷺ. ذكر من قال ذلك حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان، عن مبارك، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب: " وفديناه بذبحٍ عظيم " قال: " هو إسحاق " وأما الرواية التي رويت عنه أنه هو إسماعيل، فما حدثنا محمد بن عمار الرازي، قال: حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، قال: حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي، عن عبد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان، عن أبيه، قال: حدثنا عبد الله بن سعيد، عن الصنابحي، قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا الذبيح: إسماعيل أو إسحاق؟ فقال: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله ﷺ، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، عد على مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسمل، فقيل له: وما الذبيحان يا رسول الله؟ فقال: " إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمز نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده "، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا: افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل وإسماعيل الثاني. ونذكر الآن من قال من السلف إنه إسحاق، ومن قال إنه إسماعيل. ذكر من قال هو إسحاق حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن مبارك، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب: " وفديناه بذبح عظيم " قال: هو إسحاق. حدثنا الحسين بن يزيد الطحان، قال: حدثنا ابن إدريس، عن داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الذي أرم بذبحه إبراهيم هو إسحاق. حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: الذبيح هو إسحاق. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: " وفديناه بذبح عظيم " قال: هو إسحاق. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شبعة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: افتخر رجل عند ابن مسعود، فقال: أنا فلان ابن فلان ابن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق، ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، قال: حدثنا محمد ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن الزهري، عن العلاء بن جارية الثقفي، عن أبي هريرة، عن كعب، في قوله: " وفديناه بذبح عظيم " قال: من ابنه إسحاق. حدثنا ابن حيمد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، حليف بني زهرة، عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار، أن الذي أمر بذبحه إبراهيم من ابنيه إسحاق. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي، أخبره أن كعبًا قال لأبي هريرة: ألا أخبرك عن إسحاق بن إبراهيم النبي؟ قال أبو هريرة: بلى، قال كعب: لما أري إبراهيم ذبح إسحاق، قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن أحدًا منهم أبدًا، فتمثل الشيطان لهم رجلًا يعرفونه، فأقبل حتى إذا خرج إبراهيم غاديًا بإسحاق؟ قالت: غدا لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما لذلك غدا به، قالت سارة: فلم غدا به؟ قال: غدا به ليذبحه، قالت سارة: ليس من ذلك شيء، لم يكن ليذبح ابنه، قال الشيطان: بلى والله، قالت سارة: فلم يذبحه؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك، قالت سارة: فهذا حسن بأن يطيع ربه إن كان أمره بذلك. فخرج الشيطان من عند سارة حتى أدرك إسحاق وهو يمشي على أثر أبيه، فقال له: أي أصبح أبوك غاديًا بك؟ قال: غدا بي لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله، ما غدا بك لبعض حاجته، ولكنه غدا بك ليذبحك. قال إسحاق: ما كان أبي ليذبحني، قال: بلى، قال: لم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك، قال إسحاق: فوالله لئن أمره بذلك ليطيعنه، فتركه الشيطان وأسرع إلى إبراهيم، فقال: أي أصبحت غاديًا بابنك؟ قال: غدوت به لبعض حاجتي، قال: أما والله ما غدوت به إلى لتذبحه، قال: لم أذبحه؟ قال: زعمت أن ربك أمرك بذلك، قال: فوالله لئن كان أمرني ربي لأفعلن، قال: فلما أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه وسلم إسحاق أعفاه الله، وفداه بذبح عظيم. قال إبراهيم لإسحاق: قم أي بني، فإن الله قد أعفاك، فأوحى الله إلى إسحاق: إني أعطيك دعوة أستجيب لك فيها، قال إسحاق: اللهم فإني أدعوك أن تستجيب لي: أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئًا فأدخله الجنة. حدثني عمرو بن علي، قال، حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، قال: قال موسى: يا ربّ، يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فيم قالوا ذلك؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئًا قط إلا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما ذدتُه بلاء زادني حسن ظن. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن زيد ابن أسلم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه قال: قال موسى: اي رب بم أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما أعطيتهم؟ فذكر نحوه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن ابن سابط، قال: هو إسحاق. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان عن سفيان، عن أبي سنان الشيباني، عن ابن أبي الهذيل، قال: الذبيح هو إسحاق. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفيان بن عقبة، عن حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: قال يوسفُ للملك في وجهه ترغب أن تأكل معي، وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله! حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع عن سفيان، عن أبي سنان، عن ابن الهذيل، قال: قال يوسف للملك، فذكره نحوه. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ، أن إبراهيم عليه السلام أري في المنام فقيل له: أوف نذرك الذي نذرت: إن رزقك الله غلامًا من سارة أن تذبحه. حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا زكرياء وشعبة عن أبي إسحاق، عن مسروق في قوله: " وفديناه بذبح عظيمٍ " قال هو إسحاق. ذكر من قال هو إسماعيل حدثنا أبو كريب وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن إسرائيل، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: الذبيح إسماعيل. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا بيان، عن الشعبي، عن ابن عباس: " وفديناه بذبح عظيم "، قال: إسماعيل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو حمزة محمد بن ميمون السكري عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن الذي أمر بذبحه إبراهيم إسماعيل. حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن علي بن زيد، عن عمار مولي بني هاشم، وعن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: هو إسماعيل، يعني: " وفديناه بذبح عظيم ". حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا داود، عن الشعبي، قال: قال ابن عباس: وهو إسماعيل. وحدثي به يعقوب مرة أخرى، قال: حدثنا ابن علية، قال: سئل داود بن أبي هند: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فزعم أن الشعبي قال: قال: ابن عباس: هو إسماعيل. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن بيان، عن الشعبي، عن ابن عباس، أنه قال: في الذي، فداه الله بذبح عظيم، قال: هو إسماعيل. حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا ليث، عن مجاهد عن ابن عباس، قوله: " وفديناه بذبح عظيم "، قال: هو إسماعيل. وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس، أنه قال: المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود. وحدثني محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن مبارك، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: الذي فداه الله عز وجل قال: هو إسماعيل. حدثني محمد بن سنان، قال: حدثنا حجاج، عن حماد، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس مثله. حدثني إسحاق بن شاهين، قال: حدثني خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه إسماعيل. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثني عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عامر أنه قال في هذه الآية " وفديناه بذبح عظيم "، قال: هو إسماعيل، قال: وكان قرنا الكبش منوطين بالكعبة. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، قال: رأيتُ قرني الكبش في الكعبة. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، قال: هو إسماعيل. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هو إسماعيل. حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عون، عن الحسن: " وفديناه بذبح عظيم " قال: هو إسماعيل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول: إن الذي أمر الله عز وجل إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجدُ ذلك في كتاب الله عز وجل في قصة الخبر عن إبراهيم وما أمر به من ذبح ابنه، أنه إسماعيل، وذلك أن الله عز وجل يقول حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: " وبشرناه بإسحاق نبيًا من الصاحلين " ويقول: " فبشرناها بإسحاق من وراء إسحاقَ يعقوب "، يقول: بابن وابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق، وله فيه من الله من الموعود ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن يريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز، وهو خليفة إذ كان معه بالشآم، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديًا فأسلم، فحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء اليهود. فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك، قال محمد بن كعب القرظي: وأنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أي انبي إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل، والله يا أمير المؤمنين، إن يهود لتعلم بذلك، ولكنها يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره على ما أمر به، فهو يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد، عن الحسن بن أبي الحسن البصري، أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول ذلك كثيرًا. وأما الدلالة من القرآن التي قلنا إنها على أن ذلك إسحاق أصح، فقوله تعالى مخبرًا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرًا إلى ربه إلى الشام مع زوجته سارة، فقال: " إني ذاهب إلى ربي سيهدين. رب هب لي من الصالحين "، وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن تصير له أم إسماعيل، ثم أتبع ذلك ربنا عز وجل الخبر عن إجابته دعاءه، وتبشيره إياه بغلام حليم، ثم عن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي، ولا يعلم في كتاب ذكر لتبشير إبراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق، وذلك قوله: " وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " وقوله: " فأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليمٍ. فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم " ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام، فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة، فالواجب أن يكون ذلك في قوله: " فبشرناه بغلام حليم " نظير ما في سائر سور القرآن من تبشيره إياه من زوجته سارة. وأما اعتلال من اعتل بأن الله لم يكن يأمر إبراهيم بذبح إسحاق، وقد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته وولادة يعقوب منه من بعده، فإنها علة غير موجبة صحةً ما قال، وذلك أن الله إنما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي. وجائز أن يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه، وكذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقًا في الكعبة، وذلك غيرُ مستحيل أن يكون حمل من الشأم إلى الكعبة فعلق هنالك. ذكر الخبر عن صفة فعل إبراهيم وابنه الذي أمر بذبحه فيما كان أمر به من ذلك والسبب الذي من أجله أمر إبراهيم بذبحه والسبب في امر الله عز وجل إبراهيم بأنه الذي أمره بذبحه فيما ذكر أنه إذ فارق قومه هاربًا بدينه مهاجرًا إلى ربه متوجهًا إلى الشأم من أرض العراق دعا الله أن يهب له ولدًا ذكرًا صالحًا من سارة فقال: " رب هب لي من الصالحين " يعني بذلك ولدًا صالحًا من الصالحين كما أخبر الله تعالى عنه فقال: " وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين. رب هب لي من الصالحين ". فلما نزل به أضيافه من الملائكة الذين كانوا أرسلوا إلى المؤتفكة قوم لوط بشروه بغلام حليم عن أمر الله تعالى إياهم بتبشيره، فقال إبراهيم إذ بشر به: هو إذًا لله ذبيحٌ. فلما ولد الغلام وبلغ السعي قيل له: أوفٍ بنذرك الذي نذرت لله. ذكر من قال ذلك حدثني موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك. وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن عبد الله - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ قال: قال جبرئيل عليه السلام لسارة: أبشرى بولد اسمه إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فضربت جبينها عجبًا، فذلك قوله: " فصكت وجهها ". وقالت: " أألدُ وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخًا إن هذا لشيء عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ". قالت سارة لجبرائيل: ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عودًا يابسًا فلواه بين أصابعه فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هو إذًا لله ذبيح، فلما كبر إسحاق أتى إبراهيم في النوم فقيل له: أوف بنذرك الذي نذرت، إن رزقك الله غلامًا من سارة أن تذبحه. فقال لإسحاق: انطلق فقرب قربانًا إلى الله. وأخذ سكينًا وحبلًا، ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام: يا أبت، أين قربانك؟ قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى. قال: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، قال له إسحاق: اشدد رباطي حتى لا أضطرب واكفف عن ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فتراه سارة فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي، وإذا أتيتَ سارة فاقرأ عليها السلام. فأقبل عليه إبراهيم عليه السالم يقبله وقد ربطه وهو يبكي، وإسحاق يبكي، حتى استنفع الدموع تحت خد إسحاق، ثم إنه جر السكين على حلقه فلم يحك السكين، وضرب الله عز وجل صفيحة من نحاس على حلق إسحاق، فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه، وحز في قفاه قوله عز وجل " فلما أسلما وتله للجبينٍ ". يقول: سلما لله الأمر، فنودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا بالحق. التفت، فإذا بكبش، فأخذه وخلي عن ابنه، فأكب على ابنه يقبله وهو يقول: يا بني اليوم وهبت لي، فذلك قوله عز وجل: " وفديناه بذبح عظيم ". فرجع إلى سارة فأخبرها الخبر، فجزعت سارة وقالت: يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان إبراهيم فيما يقال إذا زارها - يعني هاجر - حمل على البراق يغدو من الشأم فيقبل بمكة، ويروح من مكة، فيبيت عند أهله بالشأم، حتى إذا بلغ معه السعي، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته أرى في المنام أن يذبحه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن إبراهيم حين أمر بذبح ابنه قال له: يا بني خذ الحبل والمدية، ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب ليحطب أهلك منه، قبل أن يذكر له شيئًا مما أمر به. فملا وجه على الشعب اعترضه عدو الله إبليس ليصده عن أمر الله في صورة رجل، فقال: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أيد هذا الشعب لحاجة لي فيه، فقال: والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك، فأمرك بذبح بنيك هذا، فأنت تريد ذبحه، فعرفه إبراهيم، فقال: إليك عني، أي عدوّ الله، فوالله لأمضينّ لأمر ربي فيه، فلما يئس عدو الله إبليس من إبراهيم اعترض إسماعيل وهو وراء إبراهيم يحمل الحبل والشفرة، فقال له: يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: يحطب أهلنا من هذا الشعب، قال: والله ما يريد إلا أن يذبحك، قال: لم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك، قال: فليفعل ما أمره به ربه، فسمعًا وطاعة. فلما امتنع منه الغلام ذهب إلى هاجر أم إسماعيل وهي في منزلها، فقال لها: يا أم إسماعيل، هل تدرين أين ذهب إبراهيم بإسماعيل؟ قالت: ذهب به يحطبنا من هذا الشعب، قال: ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت: كلا هو أرحمُ به وأشد حبًا له من ذلك، قال: إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت: إن كان ربه أمره بذلك فتسليمًا لأمر الله. فرجع عدوّ الله بغيظه لم يصب من آل إبراهيم شيئًا مما أراد، وقد امتنع منه إبراهيم وآل إبراهيم بعون الله، وأجمعوا لأمر الله بالسمع والطاعة. فلما خلا إبراهيم بابنه في - الشعب وهو فيما يزعمون شعب ثبير - قال له: يا بني، إني أرى في المنام أني أذبحك قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين. قال ابن حميد: قال سلمة: قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم: إن إسماعيل قال له عند ذلك: يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك مني شيء فينقص أجري، إن الموت شديد، وإني لا آمن أن أضطرب عنده إذا وجدت مسه، واشحذ شفرتك حتى تجهز علي فتريحني، وإذا أنت أضجعتني لتذبحني فكبني لوجهي على جبيني ولا تضجعني لشقي، فإني أخشى إن أنت نظرت في وجهي أن تدركك رقة تحولُ بينك وبين أمر الله في، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فإنه عسى أن يكون هذا أسلى لها عني، فافعل. قال: يقول له إبراهيم: نعم العونُ أنت يا بني على أمر الله. قال: فربطه كما أمره إسماعيل فأوثقه، ثم شحذ شفرته ثم تله للجبين واتقى النظر في وجهه، ثم أدخل الشفرة لحلقه فقلبها الله لقفاها في ديه، ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها دونه، يقول الله عز وجل، " فلما أسلما وتله للجبين "، وإنما تتل الذبائح على خدودها، فكان مما صدق عندنا هذا الحديث عن إسماعيل في إشارته على أبيه بما أشار إذ قال: كبني على وجهي قوله: " وتلهُ للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبينُ. وفديناه بذبح عظيم ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة بن دعامة، عن جعفر بن إياس، عن عبد الله بن عباس، قال: خرج عليه كبش من الجنة قد رعاها قبل ذلك أربعين خريفًا، فأرسل إبراهيم إليه فاتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات، فأفلته عنده، فجاء الجمرة الوسطى، فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات، ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات، فأخرجه عندها، ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه، فو الذي نفس ابن عباس بيده، لقد كان أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، وقد وخش - يعني قد يبس. حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: حدثني حجاج، عن حماد، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، قال: قال ابن عباس: إن إبراهيم لما أمر بالمناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه، فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبرئيل عليه السلام إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم تله للجبين، وعلى إسماعيل قميص أبيض، فقال له: يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غير هذا فاخله عني، فأكفني فيه، فالتفت إبراهيم عليه السلام فإذا هو بكبش أعين أبيض أقرن فذبحه، فقال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبع هذا الضرب من الكباش. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثني أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: " وتله للجبين "، قال: وضع وجهه للأرض قال: لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني، فلا تجهز علي، أربط يدي إلى رقبتي، ثم ضع وجهي للأرض. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن علي عليه السلام: " وفديناه بذبح عظيم "، قال: كبش أبيض أقرن أعين مربوط بسمر في ثبير. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: اخبرني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: " وفديناه بذبح عظيم "، قال: كبش قال عبيد بن عمير: ذبح بالمقام، وقال مجاهد: ذبح بمنى في المنحر. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن خشيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: " وفديناه بذبحٍ عظيم "، قال: كان الكبش الذي ذبحه إبراهيم رعى في الجنة أربعين سنة، وكان كبشًا أملح، صوفه مثل العن الأحمر. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن رجل، عن أبي صالح، عن ابن عباس: " وفديناه بذبحٍ عظيم "، قال: كان وعلًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو ابن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول: ما فدي إسماعيل إلا بتيس كان من الأروى، أهبط عليه من ثبير، وما يقول الله: " وفديناه بذبح عظيم " لذبيحته فقط، ولكنه الذبح على دينه، فتلك السنة إلى يوم القيامة، فاعلموا أن الذبيحة تدفع ميتة السوء، فضحوا عباد الله. وقد قال أمية بن أبي الصلت في السبب الذي من أجله أمر إبراهيم بذبح ابنه شعرًا، ويحقق بقيله ما قال في ذلك الرواية التي رويناها عن السدي، وأن ذلك كان من إبراهيم عن نذرٍ منه، فأمره الله بالوفاء به، فقال: ولإبراهيم الموفى بالنذ ** ر احتسابًا وحامل ابكره لم يكن ليصبر عنه ** أو يراهُ في معشر أقيال أي بني إني نذرتك لل ** ه شحيطًا فاصبر فدى لك خالي واشدد الصفد لا أحيدُ عن الس ** كين حيد الأسير ذي الأغلال وله مدية تخايل في اللح ** م جذام حنية كالهلال بينما يخلع السرابيل عنه ** فكهُ ربه بكبشٍ جلال فخذن ذا فأرسل ابنك إني ** للذي قد فعلتما غير قال والد يتقي وآخرُ مولو ** د فطارا منه بسمع فعالِ ربما تجزعُ النفوس من الأم ** ر له فرجةُ كحل العقالِ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين - يعني ابن واقد - عن زيد -، عن عكرمة: قوله عز وجل: " فلما أسلما ": قال: أسلما جميعًا لأمر الله، رضي الغلام بالذبح ورضى الأب بأن يذبحه. قال: يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر إلي فترحمني، وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع، ولكن أدخل الشفرة من تحتي، وامض لأمر الله، فذلك قوله تعالى: " فلما أسلما وتلهُ للجبين "، فلما فعل ذلك ناديناه " أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ". ذكر ابتلاء الله إبراهيم بكلمات وكان ممن امتحن الله به إبراهيم عليه السلام وابتلاه به - بعد ابتلائه إياه بما كان من أمره وأمر نمرود بن كوش، ومحاولته إحراقه بالنار وابتلائه بما كان من أمره إياه بذبح ابنه، بعد أن بلغ مع السعي ورجا نفعه ومعونته على ما يقربه من ربه عز وجل ورفعه القواعد من البيت، ونسكه المناسك - ابتلاؤه جل جلالهُ بالكلمات التي أخبر الله عنه أنه ابتلاه بهن فقال: " وإذا ابتلى إبرهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن ". وقد اختلف السلف من علماء الأمة في هذه الكلمات التي ابتلاه الله بهن فأتمهنّ، فقال بعضهم: ذلك ثلاثون سهمًا، وهي شرائع الإسلام. ذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة: عن ابن عباس في قوله تعالى: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات "، قال: قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم عليه السلام، ابتلاه الله تعالى بكلمات فأتمهن، قال: فكتب الله تعالى له البراءة فقال: " وإبراهيم الذي وفى ": عشر منها في الأحزاب، وعشر منها في براءة، وعشر منها في المؤمنين، وسأل سائل، وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهمًا. حدثنا إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم عليه السلام، ابتلى بالإسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال: " وإبراهيم الذي وفى "، فذكر عشرًا في براءة " التائبون العابدون الحامدون " وعشر في الأحزاب: " إن المسلمين والمسلمات.. " وعشرًا في سورة " المؤمنين " إلى قوله تعالى: " والذين هم على صلواتهم يحافظون "، وعشرًا في سأل سائل: " والذين هم على صلاتهم يحافظون ". وحدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا خارجة بن مصعب، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الإسلام ثلاثون سهمًا، وما ابتلى أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم، قال الله تعالى: " وإبراهيم الذي وفى "، فكتب الله له براءة من النار. وقال آخرون: ذلك عشر خصال من سنن الإسلام، خمس منهن في الرأس وخمس في الجسد. ذكر من قال ذلك حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: " وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات "، قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة: خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وعسر أثر الغائط والبول بالماء. حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر عن الحكم بن أبان، عن القاسم بن أبي بزة، عن ابن عباس بمثله، غير أنه لم يذكر أثر البول. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلميان بن حرب، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة في قوله تعالى: " وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال: ابتلاه بالختان، وحلق العانة وغسل القبل والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة. حدثني عبدان المروزي، قال: حدثنا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن مطر، عن أبي الجلد، قال: ابتلي إبراهيم عليه السلام بعشرة اشياء هن في الإنسان سنة: المضمضة والاستنشاق وقص الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وغسل البراجم والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج. وقال آخرون نحو قول هؤلاء، غير أنهم قالوا: ست من العشر من جسد الإنسان، وأربع منهن في المشاعر. ذكر من قال ذلك حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا محمد بن حرب، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس في قوله عز وجل: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن "، قال: ست في الإنسان وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان: حلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة، وأربع في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفاء والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. وقال آخرون: بل ذلك قوله: " إني جاعلك للناس إمامًا "، ومناسك الحج ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح: قوله: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " منهن إني جاعلك للناس إمامًا آيات المنسك حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس قال: سمعت إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، مولى أم هانئ في قوله: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات "، قال: منهن " إني جاعلك للناس إمامًا "، ومنهن آيات النسك " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ". حدثني محمد بن عمرو، قال: أخبرنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قال: قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إمامًا، قال: نعم، " قال ومن ذريتي قال لا ينالُ عهدي الظالمين "، قال: تجعل البيت مثابة للناس، قال: نعم، قال: وتجعل هذا البلد أمنًا، قال: نعم، قال: وتجعلنا مسملين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، قال: نعم، قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم؟ قال: نعم. حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن نجيح، عن مجاهد: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بلكمات فأتمهن "، قال: ابتلي بالآيات التي بعدها: " إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينالُ عهدي الظالمين ". حدثني المثنى بن إبراهيم، قلا: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، قال: أخبرني به عكرمة، قال: فعرضته على مجاهد فلم ينكره. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم: " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم ". حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات " قال الكلمات: " إني جاعلك للناس إمامًا "، وقوله: " وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا "، وقوله: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقوله: " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل. " الأية، وقوله: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت.. " الآية. قال فذلك كله من الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله تعالى: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن "، قال: منهن " إني جاعلك للناس إمامًا "، ومنهن: " وإذ يرفعُ إبراهيم القواعد من البيتِ "، ومنهن الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكن البيت، ومحمد ﷺ بعث في ذريتهما. وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلم بن قتيبة، قال: حدثنا عمر بن نبهان، عن قتادة، عن ابن عباس في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال: مناسك الحج. حدثت بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان ابن عباس يقول في قوله: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات قال: هي المناسك. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم في المناسك. حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا إسرائيل، عن إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس قوله: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن "، قال: مناسك الحج. حدثني ابن المثنى، قال: حدثني الحماني، قال: حدثنا شريك، عن إبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال: ابن عباس: أبتلاه بالمناسك. وقال آخرون: بل ابتلاه بأمور، منهن الختان. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلم بن قتيبة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات "، قال: منهن الختان. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، قال: سمعتُ الشعبي يقول.. فذكر مثله. حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، قال: سمعتُ الشعبي - وسأله أبو إسحاق عن قوله عز وجل: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات " - قال: منهن الختان يا أبا إسحاق. وقال آخرون: ذلك الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلى بهن أجمع فصبر عليهن. ذكر من قال ذلك حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: قلتُ للحسن: " وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن "، قال: ابتلاه بالكوكب فرضى عنه، وابتلاه بالقمر فرضى عنه، وابتلاه بالشمس فرضى عنه، وابتلاه بالنار فرضى عنه، وابتلاه بالهجرة، وابتلاه بالختان. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسنُ يقول: إن الله ابتلاه بأمرٍ فصبر عليه، ابتلاه بالكواكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أنه ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين، وابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى الله تعالى، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك، وابتلاه بذبح ابنه والختان، فصبر على ذلك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن يقول في قوله: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات "، قال: ابتلاه بذبح ولده، وبالنارو بالكوكب، وبالمشمس، وبالقمر. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلم بن قتيبة، قال: حدثنا أبو هلال عن الحسن: " وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات "، قال: ابتلاه بالكوكب، وبالشمس وبالقمر، فوجده صابرًا. حدثنا أحمد بن إسحاق بن المختار، قال: حدثني غسان بن الربيع، قال: حدثنا عبد الرحمن - وهو ابن ثوبان - عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " اختتن إبراهيم بعد ثمانية سنة بالقدوم ". وقد روي عن النبي ﷺ في الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم خبران: أحدهما: ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الحسن بن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ﷺ: " وإبراهيم الذي وفى " قال: " أتدرون ما وفى؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " وفي عمل يومه أربع ركعات في النهار ". والآخر منهما ما حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا رشدين بن سعد، قال: حدثنا زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، قال: كان النبي ﷺ يقول: " ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله " الذي وفى "؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.. " حتى ختم الآية. فلما عرف الله تعالى من إبراهيم الصبر على كل ما ابتلاه به، والقيام بكل ما ألزمه من فرائضه، وإيثاره طاعته على كل شيء سواها، اتخذه خليلًا، وجعله لمن بعده من خلقه إمامًا، واصطفاه إلى خلقه رسولًا، وجعل في ذريته النبوة والكتاب والرسالة، وخصهم بالكتب المنزلة، والحكم البالغة، وجعل منهم الأعلام والقادة والرؤساء والسادة، كلما مضى منهم نجيبٌ خلفه سيد رفيع، وأبقى لهم ذكرًا في الآخرين، فالأمم كلها تتولاه وتثنى عليه، وتقول بفضله إكرامًا من الله له بذلك في الدنيا، وما ادخر له في الآخرة من الكرامة أجل وأعظم من أن يحيط به وصف واصف. أمر نمرود بن كوش بن كنعان ونرجع الآن إلى الخبر عن عدو الله وعدو إبراهيم الذي كذب بما جاء به من عند الله، وردَّ عليه النصيحة التي نصحها له جهلًا منه، واغترارًا بحلم الله تعالى عنه، نمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وما آل إليه أمره في عاجل دنياه حين تمرد على ربه، مع إملاء الله إياه، وتركه تعجيل العذاب له على كفره به، ومحاولته إحراق خليله بالنار حين دعاه إلى توحيد اللهو البراءة من الآلهة والأوثان، وأن نمرود لما تطاول عتوه وتمرده على ربه مع إملاء الله تعالى له - فيما ذكر - أربعمائة عام، لا تزيده حجج الله التي يحتج بها عليه، وعبره التي يريها إياه إلا تماديًا في غيه، عذبه الله - فيما ذكر - في عاجل دنياه قدر إملائه إياه من المدة بأضعف خلقه، وذلك بعوضة سلطها عليه توغلت في خياشيمه فمكث أربعمائة سنة يسب بها في حياته الدنيا. ذكر الأخبار الواردة عنه بما ذكرت من جهله وما أحل الله به من نقمته حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم، أن أول جبار كان في الأرض نمرود، وكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتارُ مع من يمتارُ، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت، حتى مرّ به إبراهيم، قال: من ربك؟ قال: " ربي الذي يحيى ويميتُ قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ". قال: فرده بغير طعام، قال: فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب أعفر، فقال: هلا أخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم! فأخذ منه، فأتي أهله. قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه أحدٌ، فصنعت له منه، فقربته إليه - وكان عهد أهله ليس عندهم طعام - فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعلم أن الله قد رزقه، فحمد الله. ثم بعث إلى الجبار ملكًا: أن آمن بي وأتركك على ملكك، قال: فهل رب غيري؟ فجاءه الثانية فقال له ذلك، فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك على ثلاثة أيام، فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك، ففتح عليه بابًا من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء، فبعث الله عليه بعوضة فدخله في منخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه المطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه. وكان جبارًا أربعمائة عام فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه وأماته الله، وهو الذي بنى صرحًا إلى السماء، فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: " فأتى الله بنيانهم من القواعد " حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ، قال: أمر الذي حاج إبراهيم في ربه بإبراهيم، فأخرج - يعني من مدينته - قال: فأخرج فلقي لوطًا على باب المدينة - وهو ابن أخيه - فدعاه فآمن به، وقال: " إني مهاجر إلى ربي "، وحلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم، فأخذ أربعة أفرخُ من فراخ النسور، فرباهن باللحم والخمر، حتى إذا كبرن وغلظن واستعلجن، قرنهن بتابوت، وقعد في ذلك التابوت، ثم رفع رجلًا من لحم لهنّ، فطرن به، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض، فرأى الجبال تدب كدبيب النمل، ثم ربع لهن اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطًا بها بحر كأنها فلكة من ماء، ثم رفع طويلًا فوقع في ظلمة، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته، ففزع فألقى اللحم فاتبعته منقضات، فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضاتٍ وسمعن حفيفهن فزعت الجبال، وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن، وذلك قوله عز وجل: " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لنزول منه الجبال "، وهي في قراءة ابن مسعود: " وإن كاد مكرهم " فكان طيرانهن به من بيت المقدس، ووقوعهن في جبل الدخان، فلما رأى أنه لا يطيق شيئًا أخذ في بناء الصرح، فبنى حتى إذا أسنده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر - يزعمه - إلى إله إبراهيم، فأحدث ولم يكن يحدث، وأخذ الله بنيانه من القواعد: " فخر عليهم السقفُ من فوقهم وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون "، يقول: من مأمنهم، وأخذهم من أساس الصرح، فنتفض بهم. ثم سقط فتبلبلت ألسن الناس، من يومئذ من الفزع، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانًا، فلذلك سميت بابل، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك السريانية. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو داود الحفري، عن يعقوب، عن حفص بن حيمد - أبو جعفر - عن سعيد بن جبير: " وإن كان مكرهم لنزول منه الجبالُ "، قال: نمرود صاحب النسور، أمر بتابوت فجعُل وجعل معه رجلًا، ثم أمر بالنسور فاحتملته، فلما صعد قال لصاحبه: اي شيء ترى؟ قال: أرى الماء والجزيرة - يعني الدنيا - ثم صهد وقال لصاحبه: أي شيء ترى؟ قال: ما نزداد من السماء إلا بعدًا، قال: اهبط، وقال غيره: نودي: أيها الطاغية، أين تريد؟ فسمع الجبال حفيف النسور، وكانت ترى أنه أمر من السماء فكادت تزول، فهو قوله تعالى: " وإن كان مكرهم لنزول منه الجبال ". حثدنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن دانيل، أن عليًا عليه السلام قال في هذه الآية: " وإن كان مكرهم لنزول منه الجبال "، قال: أخذ ذلك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين، فرباهما حتى استغلطا واستعلما فشبا، قال: فأوثق رجل كل واحد منهما بوتر إلى تابوت، وجوعهما وقعد هو ورجل آخر في التابوت، قال: ورفع في التابوت عصًا على رأسه اللحم، فطارا، وجعل يقول لصاحبه: أنظر ماذا ترى؟ قال: أرى كذا وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كأنها ذباب، فقال: صوب، فصوبها، فهبطا. قال فهو قوله عز وجل: " وإن كان مكرهم لنزول منه الجبال ". قال أبو إسحاق: ولذلك هي في قراءة عبد الله: " وإن كاد مكرهم ". فهاذ ما ذكر من خبر نمرود بن كوش بن كنعان. وقد قال جماعة: إن نمرود بن كوش بن كنعان هذا ملك مشرق الأرض ومغربها، وهذا قول يدفعه أهل العلم بسير الملوك وأخبار الماضين، وذلك أنهم لا يدفعون ولا ينكرون أن موالد إبراهيم كان في عهد الضحاك بن أندرماسب الذي قد ذكرنا بعض أخباره فيما مضى، وأن ملك شرق الأرض وغربها يومئذ كان الضحاك. وقد قال بعض من أشكل عليه أمر نمرود ممن عرف زمان الضحاك وأسبابه فلم يدر كيف الأمر في ذلك مع سماعه ما انتهى إليه من الأخبار عمن روي عنه قال: ملك الأرض كافران ومؤمنان، فأما الكافران فنمرود وبختنصر، وأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين. وقول القائلين من أهل الأخبار إن الضحاك كان هو ملك شرق الأرض وغربها في عهد إبراهيم نمرود: هو الضحاك. وليس الأمر في ذلك عند أهل العلم بأخبار الأوائل، والمعرفة بالأمور السوالف، كالذي ظن، لأن نسب نمرود في النبط معروف، ونسب الضحاك في عجم الفرس مشهور، ولكن ذوي العلم بأخبار الماضين وأهل المعرفة بأمور السالفين من الأمم ذكروا أن الضحاك كان ضم إلى نمرود السواد وما اتصل به يمنة ويسرة، وجعله وولده عماله على ذلك، وكان هو ينتقل في البلاد، وكان وطنه الذي هو وطنه ووطن أجداده دنباوند، من جبال طبرستان، وهنالك رمي به أفريدون حين ظفر به وقهره موثقًا بالحديد. وكذلك بختنصر كان أصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة من قبل لهراسب، وذلك أن لهراسب كان مشتغلًا بقتال الترك، مقيمًا بإزائهم ببلخ، وهو بناها - فيما قيل - لما تطاول مكثه هنالك لحرب الترك، فظن من لم يكن عالمًا بأمور القوم بتطاول مدة ولايتهم أمر الناحية لمن ولوا له أنهم كانوا هم الملوك. ولم يدع أحدٌ من أهل العلم بأمور الأوائل وأخبار الملوك الماضية وأيام الناس فيما نعلمه أن أحدًا من النبط كان ملكًا برأسه على شبر من الأرض، فيكف يملكُ شرق الأرض وغربها! ولكن العلماء من أهل الكتاب وأهل المعرفة بأخبار الماضين ومن قد عانى النظر في كبت التأريخات، يزعمون أن ولاية نمرود إقليم بابل من قبل الأزدهارق بيوراسب دامت أربعمائة سنة، ثم لرجل من نسله من بعد هلاك نمرود، يقال له نبط بن قعود مائة سنة، ثم لداوص بن نبط من بعد نبط ثمانين سنة، ثم من بعد داوص بن نبط لبالش بن داوص مائة وعشرين سنة، ثم لنمرود بن بالش من بعد بالش سنة وأشهرًا. فذلك سبعمائة سنة وسنة وأشهر، وذلك كله في أيام الضحاك، فلما ملك أفريدون وقهر الأزدهاق قتل نمرود بن بالش وشر النبط وطردهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، لما كان منهم من معاونتهم بيوراسب على أموره، وعمل نمرود وولده له. وقد زعم بعض أهل العلم أن بيوراسب قد كان قبل هلاكه تنكر لهم. وتغير عما كان لهم عليه. ذكر لوط بن هاران وقومه ونعود الآن إلى ذكر الخبر عن بقية الأحداث التي كانت في أيام إبراهيم ﷺ وكان من الكائن أيام حياته من ذلك ما كان من أمر لوط بن هاران ابن تارخ، ابن أخي إبراهيم عليهما السلام وأمر قومه من سدوم. وكان مع أمره فيما ذكر أنه شخص من أرض بابل مع عمه إبراهيم خليل الرحمن، مؤمنًا به، متبعًا له على دينه، مهاجرًا إلى الشام، ومعهما سارة بنت ناحور. وبعضهم يقول: هي سارة بنت هيبال بن ناحور. وشخص معهم - فيما قيل - تارخ أبو إبراهيم مخالفًا. لإبراهيم في دينه، مقيمًا على كفره حتى صاروا إلى حران، فمات تارخ وهو آزر أبو إبراهيم بحران على كفره. من فراعنتها، ذكر أنه كان سنان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح. وقد قيل إن فرعون مصر يومئذ كان آخا للضحاك، كان الضحاك وجهه إليها عاملًا عليها من قبله - وقد ذكرتُ بعض قصته مع إبراهيم فيما مضى قبل - ثم رجعوا عودًا على بدئهم إلى الشأم. وذكر أن إبراهيم نزل فلسطين وأنزل ابن أخيه لوطًا الأردن، وأن الله تعالى أرسل لوطًا إلى أهل سدوم، وكانوا أهل كفرٍ بالله وركوب فاحشة، كما أخبر الله عن قوم لوط: " إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين. أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ". وكان قطعهم السبيل - فيما ذكر إتيانهم الفاحشة إلى من ورد بلدهم. ذكر من قال ذلك حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: " وتقطعون السبيل "، قال: السبيل طريق المسافر إذا مرّ بهم، وهو ابن السبيل قطعوا به وعملوا به ذلك العلم الخبيث. وأما إتيانهم ما كانوا يأتونه من المنكر في ناديهم، فإن أهل العلم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: كانوا يحذفون من مر بهم. وقال بعضهم: كانوا يتضارطون في مجالسهم. وقال بعضهم: كان بعضهم ينكح بعضًا فيها. ذكر من قال كانوا يحذفون من مر بهم حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عمر ابن أبي زائدة، قال: سمعتُ عكرمة يقول في قوله: " وتأتون في ناديكم المنكر "، قال: كانوا يؤذون أهل الطريق، يحذفون من مر بهم. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عمر بن أبي زائدة، قال: سمعت عكرمة، قال: الحذف. حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ: " وتأتون في ناديكم المنكر "، قال: كانوا كل من مر بهم خذفوه، وهو المنكر. ذكر من قال كانوا يتضارطون في مجالسهم حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي، قال: حدثنا محمد بن ربيعة، قال: حدثنا روح بن غطيف الثقفي، عن عمرو بن مصعب، عن عروة بن مصعب، عن عروة ابن الزبير، عن عائشة في قوله تعالى: " ويأتون في ناديكم المنكر "، قالت: الضراط. ذكر من قال كان يأتي بعضهم بعضًا في مجالسهم حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: " وتأتون في ناديكم المنكر "، قال: كان بعضهم يأتي بعضًا في مجالسهم. حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا ثابت بن محمد الليثي، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد في قوله: " وتأتون في ناديكم المنكر "، قال: كان يجامع بعضهم بعضًا في المجالس. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد مثله حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: كانوا يجامعون الرجال في مجالسهم. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وتأتون في ناديكم المنكر "، قال: المجالس، والمنكر إتيانهم الرجال. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله " وتأتون في ناديكم المنكر "، قال: كانوا يأتون الفاحشة في ناديهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " وتأتون في ناديكم المنكر " قال: ناديهم المجالس، والمنكر عملهم الخبيث الذي كانوا يعلمونه، كانوا يعترضون الراكب فيأخذونه فيركبونه، وقرأ: " أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون " وقرأ: " ما سبقكم بها من أحد من العالمين ". وقد حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيج، عن عمرو بن دينار: قوله: " ما سبقكم بها من أحد من العالمين "، ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عند قول من قال: عني بالمنكر الذي كانوا يأتونه في ناديهم في هذا الموضع حذفهم من مر بهم وسخريتهم منه، للخبر الوارد بذلك عن رسول الله ﷺ، الذي حدثناه أبو كريب وابن وكيع، قالا: حدثنا أبو أسامة، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن أم هانئ عن رسول الله ﷺ في قوله تعالى: " وتأتون في ناديكم المنكر "، قال: كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم، وهو المنكر الذي كانوا يأتونه. حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: حدثنا سليمان بن حيان، قال أخبرنا أبو يونس القشيري، عن سماك بن حرب، عن أبي صالح، عن أم هانئ، قالت: سألت النبي ﷺ عن قوله: " وتأتون في ناديكم المنكر "، قال: كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم. حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا سعيد بن زيد، قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة، قال: حدثنا سماك بن حرب، عن باذام أبي صالح، مولى أم هانئ، عن أم هانئ، قالت: سألت النبي ﷺ عن هذه الآية: " وتأتون في ناديكم المنكر "، فقال: كانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم، فكان لوط عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم بأمر الله إياه عن الأمور التي كرهها الله تعالى لهم من قطع السبيل وركوب الفواحش وإتيان الذكور في الأدبار، ويتوعدهم - على إصرارهم على ما كانوا عليه مقيمن من ذلك وتركهم التوبة منه - العذاب الأليم فلا يزجرهم عن ذلك وعيده ولا يزيدهم وعظه إلا تماديًا وعتوًا واستعجالًا لعذاب الله، إنكارًا منهم وعيده، ويقولون له: " ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين "، حتى سأل لوط ربه عز وجل النصرة عليهم لما تطاول عليه أمره وأمرهم وتماديهم في غيهم، فبعث الله عز وجل لما أراد خزيهم وهلاكهم ونصرة رسوله لوط عليهم جبرائيل عليه السلام وملكين آخرين معه. وقد قيل: إن الملكين الآخرين كان أحدهما ميكائيل والآخر إسرافيل فأقبلوا - فيما ذكر - مشاةً في صورة رجال شباب. ذكر بعض من قال ذلك حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: وبعث الله الملائكة لتُهلك قوم لوط، فأقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فكان من أمرهم وأمر إبراهيم ما قد مضى ذكرنا إياه في خبر إبراهيم وسارة. فلما ذهب عن إبراهيم الروع جاءته البشرى، وأطلعته الرسل على ما جاءوا له، وأنّ الله أرسلهم لهلاك قوم لوط ناظرهم وحاجهم في ذلك كما أخر الله عنه فقال: " فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ". وكان جداله إياهم في ذلك - فيما بلغنا - ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، قال: حدثنا جعفر، عن سعيد " يجادلنا في قوم لوط " قال: لما جاءه جبرئيل ومن معه، قالوا لإبراهيم: " إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ". قال لهم إبراهيم: أتهلكون قرية فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا لا، قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها مائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قريةً فيها أربعة عشر مؤمنًا؟ قالوا: لا، وكان إبراهيم يعدهم عشر بأمرأة لوط، فسكت عنهم، واطمأنت نفسه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال الملك لإبراهيم: إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: " يجادلنا في قوم لوط " قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: إن كان فيهم خمسون لن نعذبهم، قال: وأربعون؟ قالوا: وأربعون، قال: وثلاثون؟ قالوا: وثلاثون، حتى بلغ عشرة، قالوا: وإن كانوا عشرة؟ قال: ما من قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير، فلما علم إبراهيم حال قوم لوط بخبر الرسل قال للرسل: " إن فيها لوطًا " إشفاقًا منه عليه، فقالت الرسل: " نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ". ثم مضت رسل الله نحو أهل سدوم، قرية قوم لوط، فلما انتهوا إليها ذكر أنهم لقوا لوطًا في أرض له يعلم فيها، وقيل إنهم لقوا عند نهرها ابنة لوط تستقي الماء. ذكر من قال لقوا لوطا حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة أنه لما جاءت الرسل لوطًا أتوه وهو في أرض له يعمل فيها، وقد قيل لهم - والله أعلم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط، قال: فأتوه فقالوا: إنا مضيفوك الليلة. فانطلق بهم فلما مشى ساعة التفت فقال: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسًا أخبث منهم. قال: فمضى معهم ثم قال الثانية مثل ما قال، فانطلق بهم، فلما بصرت بهم عجوز السوء امرأته انطلقت فأنذرتهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو ابن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: أتت الملائكة لوطًا وهو في مزرعة له، وقال الله تعالى: إن شهد لوط عليهم أربع شهادات، فقد أذنت لكم في هلكتهم، فقالوا: يا لوط، إنا نريد أن نضيفك الليلة، قال: وما بلغكم أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ فقال: أشهد بالله أنها لشر قرية في الأرض عملًا، يقول ذلك أربع مرّات، فشهد عليهم لوط أربع شهادات، فدخلوا معه منزله. ذكر من قال إنما لقيت الرسل أول ما لقيت حين دنت من سدوم ابنة لوط دون لوط حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عيه وسلم، قال: لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها - وكانت له ابنتان: اسم الكبرى ريثا واسم الصغرى رعزيا - فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل؟ قالت: نعم فإنكم لا تدخلوا حتى أتيكم فرقت عليه من قومها، فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه، أرادك فتيان على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم، لا يأخذهم قوم فيفضحوهم - وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلًا - فقالوا له: خل عنا فلنضف الرجال، فجاء بهم فلم يعلم أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها فقالت: إن في بيت لوط رجالًا ما رأيت مثلهم ومثل وجوههم حسنًا قط، فجاءه قومه يهرعون إليه. قال أبو جعفر: فلما أتوه قال لهم لوط: يا قوم اتقوا الله " ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد "، هؤلاء بناتي هن أطهر لكم مما تريدون. فقالوا له: أو لم ننهك أن تضيف الرجال! لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد! فلما لم يقبلوا منه شيئًا مما عرضه عليهم قال: " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديدٍ ". يقول عليه السلام: لو أن لي أنصارًا ينصرونني عليكم أو عشيرة تمنعني منكم، لحُلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه من أضيافي! حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبًا يقول: قال لوط له: " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد "، فوجد عليه الرسل وقالوا: إن ركنك لشديد، فلما يئس لوط من إجابتهم إياه إلى شيء مما دعاهم إليه وضاق بهم ذرعًا، قالت الرسل له حينئذ " يا لوط إنا رسل ربك لئن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطعٍ من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم "، فذكر أن لوطًا لما علم أن أضيافه رسل الله وأنها أرسلت بهلاك قومه قال لهم: أهلكوهم الساعة. ذكر من روي ذلك عنه أنه قال من أهل العلم حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: مضت الرسل من عند إبراهيم إلى لوط، فلما أتوا لوطًا وكان من أمرهم ما ذكر الله قال جبرئيل للوط: يا لوط، إنا مهلكو أهل هذه القرية، إن أهلها كانوا ظالمين. فقال لهم لوط: أهلكوهم الساعة، فقال جبرئيل عليه السلام: " إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريبٍ " فأنزلت على لوط " أليس الصبح بقريب ". قال: وأمره أن يُسري بأهله بقطع من الليل ولا يلتفت منهم أحدٌ إلا امرأته، قال: فسار فلما كانت الساعة التي أهلكوا فيها أدخل جبرئيل جناحه في أرضهم فقلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، فجعل عاليها سافلها، وأمر عليهم حجارة من سجيل، قال: وسمعت امرأة لوط الهدة فقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال: كان لوط أخذ على امرأته ألا تذيع شيئًا من سر أضيافه، قال: فلما دخل عليه جبرئيل ومن معه ورأتهم في صورة لم تر مثلها قط انطلقت تسعى إلى قومها، فأتت النادي فقالت بيدها هكذا، فأقبلوا يهرعون مشيًا بن الهرولة والجمز، فلما انتهوا إلى لوط قال لهم لوط ما قال الله تعالى في كتابه. قال جبرئيل: يا ولط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، قال: فقال بيده، فطمس أعينهم، قال: فجعلوا يطلبونهم، يلتمسون الحيطان وهم لا يبصرون. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة، قال: لما بصرت بهم - يعني بالرسل - عجوز السوء، امرأته، انطلقت فأنذرتهم فقالت: قد تضيف لوطًا قومٌ ما رأيت قومًا أحسن منهم وجوهًا - قال: ولا أعلمه إلا قالت: وأشد بياضًا وأطيب ريحًا منهم - قال: فأتوه " يهرعون إليه "، كما قال الله عز وجل، فأصفق لوط الباب. قال: فجعلوا يعالجونه، قال: فاستأذن جبرئيل ربه عز وجل في عقوبتهم، فأذن له، فصفقهم بجناحه، فتركهم عميانًا يترددون في أخبث ليلة، ليلة أنت عليهم قط، فأخبروه إنا رسل بك، فأسر بأهلك بقطعٍ من الليل، قال: ولقد ذكر لنا أنه كانت مع لوط حين خرج من القرية امرأته، ثم سمعت الصوت فالتفتت، فأرسل الله تعالى عليها حجرًا فأهلكها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو ابن قيس المائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: انطلقت امرأته - يعني امرأة لوط - حين رأتهم - يعني حين رأت الرسل - إلى قومها فقالت: إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلهم قط أحسن وجوهًا، ولا أطيب ريحًا. فجاءوا يهرعون إليه فبادرهم لوط إن أن يزحمهم على الباب فقال: " هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين "، فقالوا: " أو لم ننهك عن العالمين "، فدخلوا على الملائكة فتناولتهم الملائكة، فطمست أينهم فقالوا: يا لوط جئتنا بقوم سحرة، سحرونا كما أنت حتى نصبح. قال: فاحتمل جبرئيل قريات لوط الأربع، في كل قرية مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض حتى سمع أهل السماء الدنيا أصوات ديكتهم ثم قلبهم، فجعل الله عاليها سافلها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، جميعًا عن معمر، عن قتادة، قال: قال: حذيفة: لما دخلوا عليه ذهبت عجوزه، عجوز السوء، فأتت قومها فقالت: قد تضيف لوطًا الليلة قومًا قط أحسن وجوهًا منهم، قال: فجاءوا يهرعون إليه، فقام ملك فلز الباب - يقول: فسده - فاستأذن جبرئيل في عقوبتهم، فأذن له، فضربهم جبرئيل بجناحه، فتركهم عميانًا، فباتوا بشر ليلة، ثم قالوا: إن رسل ربك لن يصلوا إليك، فأسر بأهلك بقطع من الليل، ولا يلتفت منكم أحدًا إلا امرأتك، قال: فبلغنا أنها سمعت صوتًا، فالتفتت فأصابهم حجر وهي شاذة من القوم معلوم مكانها. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه: لما قال لوط: " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركنٍ شديد "، بسط حينئذ إسرائيل جناحه ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضهم في آثار بعض عميانًا، يقولون: النجاء النجاء! فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض، فذلك قوله تعالى: " ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم " وقالوا للوط: " إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد "، يقول: سر بهم فامضوا حيث تؤمرون، فأخرجهم الله تعالى إلى الشأم. وقال لوط: أهلكوهم الساعة. فقالوا: إنا لم نؤمر إلا بالصبح، أليس الصبح بقريب! فلما كان السحر خرج لوط وأهله معه إلا امرأته، وذلك قوله تعالى: " إلا آل لوطٍ نجيناهم بسحرٍ ". حدثنا المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان أهل سدوم الذين فيهم لوط قوم سوء قد استغنوا عن النساء بالرجال، فلما رأى الله ذلك منهم بعث الملائكة ليعذبوهم، فأتوا إبراهيم، فكان من أمره وأمرهم ما ذكره الله تعالى في كتابه، فلما بشروا سارة بالولد قاموا، وقام معهم إبراهيم يمشي، فقال: أخبروني لم بعثتم؟ وما خطبكم؟ قالوا: إنا أرسلنا قوم سدوم لندمرها فإنهم قوم سوء، قد استغنوا بالرجال عن النساء. قال إبراهيم: أرأيتم إن كان فيهم خمسون رجلًا صالحًا؟ قالوا: إذًا لا نعذبهم، فلم يزل ينقص حتى قال أهل البيت، قالوا: فإن كان فيهم بيت صالح، قال: فلوط وأهل بيته، قالوا: إن امرأته هواها معهم، فلما يئس إبراهيم انصرف ومضوا إلى أهل سدوم فدخلوا على لوط، فلما رأتهم امرأته أعجبها حسنهم وجمالهم، فأرسلت إلى أهل القرية أنه قد نزل بنا قومٌ لم نر قومًا قطّ أحسن منهم ولا أجمل، فتسامعوا بذلك، فغشوا دار لوط من كل ناحية، وتسوروا عليه الجدران، فلقيهم لوط فقال: يا قوم لا تفضحون في ضيفي وأنا أزوجكم بناتي فهن أطرُ لكم.، قالوا: لو كنا نريد بناتك لقد عرفنا مكانهن، فقال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، فوجد عليه الرسل فقالوا: إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود، فمسح أحدهم أعينهم بجناحه، فطمس أبصارهم، فقالوا: سحرنا، انصرفوا بنا حتى نرجع إليه، فكان من أمرهم ما قد قص الله تعالى في القرآن، فأدخل ميكائيل وهو صاحب العذاب جناحيه حتى بلغ أسفل الأرضين، فقلبها فنزلت حجارة من السماء، فتتبعت من لم يكن منهم في القرية حيث كانوا فأهلكهم الله، ونجى لوطًا وأهله إلا امرأته. حدثنا أبو كريب، قلا: حدثنا جابر بن نوح، قال: حدثنا الأعمش، عن مجاهد، قال: أخذ جبرئيل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم كفأها. وحدثنا أبو كريب مرة أخرى، عن مجاهد، فقال: أدخل جبرئيل جناحيه تحت الأض السفلى من قوم لوط، ثم أخذهم بالجناح الأيمن وأخذهم من سرحهم ومواشيهم ثم رفعها. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان يقول: " فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها، قال: لما أصبحوا غدا جبرئيل على قريتهم ففتقها من أركانها ثم أدخل جناحيه، ثم حملها على خوافي جناحيه. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، قال: وحدثني هذا ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر، قال: ولم يسمعه ابن أبي نجيح من مجاهد قال: فحملها على خوافي جناحيه بما فيها، ثم صعتد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها، فكان أول ما سقط منها شرافها، فذلك قوله تعالى: " فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل " حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: بلغنا أن جبرئيل عليه السلام أخذ بعروة القرية الوسطى ثم ألوى بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم، ثم دمر بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعتهم الحجارة. قال قتادة: وبلغنا أنهم كانوا أربعة آلاف ألف. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: وذكر لنا أن جبرئيل أخذ بعروتها الوسطى، ثم ألوى بها إلى جو السماء حتى سمعت الملائكة ضواغي كلابهم ثم دمر بعضها على بعض، ثم أبتع شذان القوم صخرًا، قال: وهي ثلاث قرى يقال لها سدوم، وهي بين المدينة والشأم، قال: وذكر لنا أنه كان فيها أربعة آلاف ألف، قال: وذكر لنا أن إبراهيم كان يشرف ثم يقول: سدوم يومًا هالك. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي قد ذكرناه: لما أصبحوا - يعني قوم لوط - نزل جبرئيل عليه السلام واقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ بها السماء الدنيا، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وأصوات ديوكهم، ثم قلبها فقتلهم، فذلك حين يقول: " والمؤتفكة أهوى "، المنقلبة حيت أهوى بها جبرئيل عليه السلام الأرض فاقتلعها بجناحيه، فمن لم يمت حين أسقط الأرض أمطر الله تعالى عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذًا في الأرض، وهو قول الله تعالى: " فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل "، ثم تتبعهم في القرى، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله، فذلك قوله تعالى: " وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن الله تعالى بعث جبرئيل إلى المؤتفكة قرية قوم لوط التي كان لوط فيهم، فاحتملها بجناحيه ثم أصعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها وأصوات دجاجها، ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها الله عز وجل بالحجارة، يقول الله تعالى: " فجعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل "، فأهلكها الله تعالى وما حولها من المؤتفكات، وكن خمس قريات: صبعة، وصعرة وعمرة، ودوما، وسدوم هي القرية العظمى، ونجى الله تعالى لوطًا ومن معه من أهله، إلا امرأته كانت فيمن هلك. ذكر وفاة سارة بنت هاران وهاجر أم إسماعيل وذكر أزواج إبراهيم عليه السلام وولده قد ذكرنا فيما مضى قبل ما قيل في مقدار عمر سارة أم إسحاق، فأما موضع وفاتها فإنه لا يدفع أهلُ العلم من العرب والعجم أنها كانت بالشأم. وقيل: إنها ماتت بقرية الجبابرة من أرض كنعان في حبرون، فدفنت في مزرعة اشتراها إبراهيم. وقيل إن هاجر عاشت بعد سارة مدة. فأما الخبر فبغير ذلك ورد. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، بالإسناد الذي قد ذكرناه قبل. ثم إن إبراهيم اشتاق إلى إسماعيل، فقال لسارة: ائذني لي أنطلق إلى ابني فأنظر إليه، فأخذت عليه عهدًا ألا ينزل حتى يأتيها، فركب البراق، ثم أقبل وقد ماتت أم إسماعيل، وتزوج إسماعيل امرأة من جرهم. وإن إبراهيم عليه السلام كثر ماله ومواشيه. وكان سبب ذلك فيما حدثنا به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي قد ذكرناه قبل، أن إبراهيم عليه السلام احتاج - وقد كان له صديق يعطيه ويأتيه - فقالت له سارة: لو أتيت خلتك فأصبت لنا منه طعامًا! فركب حمارًا له، ثم أتاه، فلما أتاه تغيب منه، واستحيا إبراهيم أن يرجع إلى أهله خائبًا، فمر على بطحاء، فلما منها خرجه، ثم أرسل الحمار إلى أهله، فأقبل الحمار وعليه حنطة جيدة، ونام إبراهيم عليه السلام فاستيقظ، وجاء إلى أهله، فوجد سارة قد جعلت له طعامًا، فقالت: ألا تأكل؟ فقال: وهل من شيء؟ فقالت: نعم من الحنطة التي جئت بها من عند خليلك، فقال: صدقت من عند خليلي جئت بها، فزرعها فنبتت له، وزكا زرعه وهلكت زروع الناس، فكان أصلُ ماله منها، فكان الناس يأتونه فيسألونه فيقول: من قال: لا إله إلا الله فليدخل فليأخذ، فمنهم من قال فأخذ، ومنهم من أبى فرجع، وذلك قوله تعالى: " فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرًا ". فلما كثر مال إبراهيم ومواشيه احتاج على السعة في المسكن والمرعى، وكان مسكنه ما بين قرية مدين - فيما قيل - والحجاز إلى أرض الشأم، وكان ابن أخيه لوط نازلًا معه، فقاسم ماله لوطًا، فأعطى لوطًا شطره فيما قيل، وخيره مسكنًا يسكنه ومنزلًا ينزله غير المنزل الذي هو به نازل، فاختار لوط ناحية الأردن فصار إليها، وأقام إبراهيم عليه السلام بمكانه، فصار ذلك فيما قيل سببًا لآثاره بمكة وإسكانه إياها إسماعيل، وكان ربما دخل أمصار الشأم. ولما ماتت سارة بن هاران زوجة إبراهيم تزوج إبراهيم بعدها - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - قطورا بنت يقطن، امرأة من الكنعانيين، فولدت له ستة نفر: يقسان بن إبراهيم، وزمران بن إبراهيم، ومديان بن إبراهيم، ويسبق بن إبراهيم، وسوح بن إبراهيم، وبسر بن إبراهيم، فكان جميع بني إبراهيم ثمانية بإسماعيل وإسحاق، وكان إسماعيل يكره أكبر ولده. قال: فنكح يقسان بن إبراهيم رعوة بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر، فولدت له البربر ولفها. وولد زمران بن إبراهيم المزامير الذين لا يعقلون. وولد لمديان أهل مدين قوم شعيب بن ميكائيل النبي، فهو وقومه من ولده بعثه الله عز وجل إليهم نبيًا. حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، قال: كان أبو إبراهيم من أهل حران، فأصابته سنة من السنين، فأتى هرمز جرد بالأهواز، ومعه امرأته أم إبراهيم، واسمها توتا بنت كرينا بن كوثي، من بني أرفخشد بن سام بن نوح. وحدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر الأسلمي عن غير واحد من أهل العلم قال: اسمها أنموتا من ولد أفراهم بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. وكان بعضهم يقول: اسمها انمتلي بنت يكفور. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد، عن أبيه، قال: نهر كوثي كراه كرينا جد إبراهيم من قبل أمه، وكان أبوه على أصنام الملك نمرود، فولد إبراهيم بهر مزجرد، ثم انتفل إلى كوثي من أرض بابل، فلما بلغ إبراهيم وخالف قومه، دعاهم إلى عبادة الله، وبلغ ذلك الملك نمرود فحبسه في السجن سبع سنين، ثم بني له الحير بجص، وأوفد له الحطب الجزل، وألقى فيه، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل! فخرج منها سليمًا لم يكلم. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما هرب إبراهيم من كوثي، وخرج من النار ولسانه يومئذ سرياني، فلما عبر الفرات من حران غير الله لسانه فقيل: عبراني، أي حيث عبر الفرات، وبعث نمرود في أثره، وقال: لا تدعوا أحدًا يتكلم بالسريانية إلا جئتموني به، فلقوا إبراهيم عليه السلام فتكلم بالعبرانية، فتركوه ولم يعرفوا لغته. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا هشام، عن أبيه قال: فهاجر إبراهيم من بابل إلى الشأم فجاءته سارة، فوهبت له نفسها فتزوجها، خرجت معه وهو يومئذ ابن سبع وثلاثين سنة، فأتى حران، فأقام بها زمانًا، ثم أتى الأردن فأقام بها زمانًا، ثم خرج إلى مصر فأقام بها زمانًا، ثم رجع إلى الشأم فنزل السبع أرض بين إيليا وفلسطين واحتفر بئرًا، وبنى مسجدًا. ثم إن بعض أهل البلد آذاه فتحول من عندهم، فنزل منزلًا بني الرملة وإيليا، فاحتفر به بئرًا أقام به، وكان قد وسع عليه من المال والخدم، وهو أول من أضاف الضيف، وأول من ثرد الثريد، وأول من رأى الشيب. قال: وولد لإبراهيم عليه السلام إسماعيل وهو أكبر ولده - وأمه هاجر وهي قبطية، وإسحاق، وكان ضرير البصر، وأمه سارة ابنة بتويل بن ناخور بن ساروع بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح - ومدن، ومدين، ويقسان، وزمران، وأسبق، وسوح، وأمهم قنطورا بنت مقطور من العرب العاربة. فأما يقسان فلحق بنوه بمكة، وأقام مدن ومدين بأرض مدين، فسميت به، ومضى سائرهم في البلاد وقالوا لإبراهيم: يا أبانا أنزلت إسماعيل وإسحاق معك، وأمرتنا أن ننزل أرض الغربة والوحشة! فقال: بذلك أمرت، قال: فعلمهم اسمًا من أسماء الله تبارك وتعالى، فكانوا يستسقون به ويستنصرون، فمنهم من نزل خراسان، فجاءتهم الخرز فقالوا: ينبغي للذي علمكم هذا أن يكون خير أهل الأرض، أو ملك الأرض، قال: فسموا ملوكهم خاقان. قال أبو جعفر: ويقال في يسبق: يسباق، وفي سوح: ساح. وقال بعضهم: تزوج إبراهيم بعد سارة امرأتين من العرب، إحدهما قنطورا بنت يقطان، فولدت له ستة بنين، وهو الذين ذكرنا، والأخرى منهما حجور بنت أرهير، فولدت له خمسة بنين: كيسان، وشورخ، وأميم، ولوطان، ونافس. ذكر وفاة إبراهيم عليه السلام فلما أراد الله تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم ﷺ، أرسل إليه ملك الموت في صورة شيخ هرم. فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي ذكرته قبل: كان إبراهيم كثير الطعام يطعم الناس، ويضيفهم، فبينا هو يطعم الناس إذا هو بشيخ كبير يمشي في الحرة، فبعث إليه بحمار، فركبه حتى إذا أتاه أطعمه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه، فيدخلها عينه وأذنه ثم يدخلها فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره. وكان إبراهيم قد سأل ربه عز وجل ألا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت، فقال الشيخ حين رأى من حاله ما رأى: بالك يا شيخ تصنع هذا؟ قال: يا إبراهيم، الكبر، قال: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر إبراهيم سنتين، قال إبراهيم: إنما بيني وبينك سنتان، فإذا بلغت ذلك صرت مثلك! قال: نعم، قال إبراهيم: الله أقبضني إليك قبل ذلك، فقام الشيخ فقبض روحه، وكان ملك الموت. ولما مات إبراهيم عليه السلام - وكان موته وهو ابن مائتي سنة، وقيل ابن مائة وخمس وسبعين سنة - دفن عند قبر سارة في مزرعة حبرون. وكان مما أنزل الله تعالى على إبراهيم عليه السلام من الصحف فيما قيل عشر صحائف، كذلك حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: أخبرني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قلت: يا رسول الله، كم كتاب أنزل الله؟ قال: مائة كتاب وأربع كتب: أنزل الله عز وجل على آدم عليه السلام عشر صحائف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل جل وعز التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالًا كلها. أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها وإن كانت من كافر. وكانت فيها أمثال: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدم وأخر، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال في المطعم والمشرب. على العاقل ألا يكون ظاعنًا إلا في ثلاث: تزود لمعاده، ومرمة لمعاشه، ولذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه. ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وكان لإبراهيم - فيما ذكر - أخوان يقال لأحدهما هاران - وهو أبو لوط، وقيل إن هاران هو الذي بنى مدينة حران، وإليه نسبت - والآخر منهما ناحورا وهو أبو بتويل وبتويل هو أبو لابان ورفقا ابنة بتويل، ورفقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب ابنة بتويل، وليًا وراحيل امرأتا يعقوب ابنتا لابان. ذكر خبر ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام قد مضى ذكرنا سبب مصير إبراهيم بابنه إسماعيل، وأمه هاجر إلى مكة وإسكانه إياهما بها. ولما كبر إسماعيل تزوج امرأة من جرهم، فكان من أمرها ما قد تقدم ذكره، ثم طلقها بأمر أبيه إبراهيم بذلك، ثم تزوج أخرى يقال لها السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، وهي التي قال لها إبراهيم إذا قدم مكة، وهي زوجة إسماعيل: قولي لزوجك إذا جاء: قد رضيتُ لك عتبة بابك. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولد لإسماعيل ابن إبراهيم اثنا عشر رجلًا، وأمه السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي: نابت بن إسماعيل، وقيدر بن إسماعيل، أدبيل بن إسماعيل، ومبشا بن إسماعيل، ومسمع بن إسماعيل، ودوما بن إسماعيل، وماس بن إسماعيل، وأدد بن إسماعيل، ووطور بن إسماعيل، ونفيس بن إسماعيل، وطما بن إسماعيل، وقيدمان بن إسماعيل. قال: وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون ثلاثين ومائة سنة، ومن نابت وقيدر نشر الله العرب، ونبأ الله عز وجل إسماعيل، فبعثه إلى العماليق - فيما قيل - وقبائل اليمن. وقد ينطق أسماء أولاد إسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت عن ابن إسحاق، فيقول بعضهم في قيدر:، قيدار، وفي أدبيل: أدبال، وفي مبشا: مبشام، وفي دما: ذوما ومسا، وحداد، وتيم، ويطور، ونافس، وقادمن. وقيل: إن إسماعيل لما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق وزوج ابنته من العيص بن إسحاق، وعاش إسماعيل فيما ذكر مائة وسبعًا وثلاثين سنة، ودفن في الحجر عند قبر أمه هاجر. حدثني عبدة بن عبد الله الصفار، قال: حدثنا خالد بن عبد الرحمن المخزومي، عن مبارك بن حسان صاحب الأنماط، عن عمر بن عبد العزيز، قال: شكا إسماعيل إلى ربه تبارك وتعالى حر مكة فأوحى الله تعال إليه: إني فاتح لك بابًا من الجنة يجري عليك روحها إلى يوم القيامة، وفي ذلك المكان تدفن. ونرجع الآن إلى: ذكر إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام وذكر نسائه وأولاده إذا كان التأريخ غيرَ متصل على سياق معروف لأمة بعد الفرس غيرهم؛ وذلك أن الفرس كان مُلْكهم متصلًا دائمًا من عهد جيومرت الذي قد وصفت شأنه وخبره، إلى أن زال عنهم بخير أمة أخرجت للناس، أمة نبينا محمد ﷺ. وكانت النبوة والملك متصلين بالشأم ونواحيها لولد إسرائيل بن إسحاق إلى أن زال عنهم بالفرس والروم بعد يحيى بن زكرياء وبعد عيسى بن مريم عليهما السلام. وسنذكر إذا نحن انتهينا إلى الخبر عن يحيى وعيسى عليهما السلام سبب زوال ذلك عنهم إن شاء الله. فأما سائر الأمم غير الفرس، فإنه غير ممكن الوصول إلى علم التأريخ بهم؛ إذ لم يكن لهم ملك متَّصل في قديم الأيام وحديثه إلا ما لا يمكن معه سياق التأريخ عليه وعلى أعمار ملوكهم، إلا ما ذكرنا من ولد يعقوب إلى الوقت الذي ذكرت، فإن ذلك وإن كانت مدته انقطعت بزواله عنهم؛ فإن قدر مدة زواله عنهم إلى غايتنا هذه معلوم مبلغه. وقد كان لليمن ملوك لهم ملْك، غير أنه كان غيرَ متصل، وإنما كان يكون منهم الواحد بعد الواحد، وبين الأول والآخر فترات طويلة، لا يقِف على مبلغها العلماء، لقلة عنايتهم كانت بها ومبلغ عمر الأول منهم والآخر، إذا لم يكن من الأمر الدائم، فإن دام منه شيء فإنما يدوم لمن دام له منهم بأنه عامل لغيره في الموضع الذي هو به لا يملكه بنفسه، وذلك كدوامه لآل نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم؛ فإنهم كانوا على فرْج ثغر العرب للفرس من الحيرة إلى حدّ اليمن طولًا وإلى حدود الشأم وما اتصل بذلك عرضًا، فلم يزل ذلك دائمًا لهم من عهد أردشير بابكان إلى أن قتل كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان النعمانَ بن المنذر، فنقل عنهم ما كان إليهم من العمل على ثغر العرب إلى إياس بن قَبيصة الطائي. فحدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: نكح إسحاق بن إبراهيم رفقا بنت بتويل بن إلياس، فولدت له عيص بن إسحاق، ويعقوب بن إسحاق، يزعمون أنهما كانا تَوْءَمَيْن وأن عيصًا كان أكبرهما. ثم نكح عيص بن إسحاق ابنةَ عمه بسمة ابنة إسماعيل بن إبراهيم، فولدت له الروم بن عيص، فكل بني الأصفر من ولده. وقال: وبعض الناس يزعم أن الأشبان من ولده، ولا أدري أمن ابنة إسماعيل أم لا. ونكح يعقوب بن إسحاق - وهو إسرائيل - ابنة خاله ليّا ابنة لبان بن بتويل بن إلياس، فولدت له روبيل بن يعقوب، وكان أكبَر ولده، وشمعون بن يعقوب، ولاوى بن يعقوب، ويهوذا بن يعقوب، وزبالون بن يعقوب، ويسحر بن يعقوب، ودينة ابنة يعقوب. وقد قيل في يسحر إن اسمه " يشحر ". ثم توفيت ليا بنت لبان فخلف يعقوب على أختها راحيل بنت لبان بن بتويل بنت إلياس، فولدت له يوسف بن يعقوب، وبنيامين بن يعقوب - وهو بالعربية شداد - وولد له من سُرِّيَّتيْن؛ اسم إحداهما زلفة، واسم الأخرى بلهة، أربعة نفر: دان بن يعقوب، ونفثالى بن يعقوب، وجاد بن يعقوب، وأشر بن يعقوب، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلًا. وقد قال بعض أهل التوراة إن رفقا زوجة إسحاق هي ابنة ناهر بن آزر عمّ إسحاق، وإنها ولدت له ابناه عيصًا ويعقوب في بطن واحد، وإن إسحاق أمر ابنه يعقوب ألّا امرأةً من الكنعانيين، وأمره أن ينكح امرأة من بنات خاله لبان بن ناهر، وأن يعقوب لما أراد النكاح مضى إلى خاله لبان ابن ناهر خاطبًا، فأدركه الليل في بعض الطريق، فبات متوسِّدًا حجرًا، فرأى فيما يرى النائم أن سلمًا منصوبًا إلى باب من أبواب السماء عند رأسه، والملائكة تنزل وتعرج فيه، وأن يعقوب صار إلى خاله فخطب إليه ابنته راحيل، وكانت له ابنتان: ليا وهي الكبرى، وراحيل وهي الصغرى، فقال له: هل من مال أزوجك عليه؟ فقال يعقوب: لا، إلا أني أخدُمك أجيرًا حتى تستوفيَ صداق ابنتك، فإنّ صداقها أن تخدمني سبع حجج. قال يعقوب: فزوجني راحيل وهي شرطي، ولها أخدُمك، فقال له خاله: ذلك بيني وبينك، فرعَى له يعقوب سبع سنين، فلما وفّى له شرطه دفع إليه ابنته الكبرى ليا، وأدخلها عليه ليلًا، فلما أصبح وجد غير ما شرط، فجاءه يعقوب وهو في نادي قومه فقال له: غررتّني وخدعتني واستحللت عملي سبع سنين، ودلّست علي غير امرأتي، فقال له خاله: يا ابن أختي، أردت أن تُدخِل على خالك العار والسُّبَّة، وهو خالُك ووالدك، ومتى رأيتَ يزوّجون الصغرى قبل الكبرى! فهلمَّ فاخدُمني سبع حجج أخرى، فأزوّجك أختَها - وكان الناس يومئذ يجمعون بين الأختين إلى أن بعث موسى عليه السلام وأنزل عليه التوراة - فرعى له سبعًا، فدفع إليه راحيل، فولدت له ليا أربعة أسباط: روبيل، ويهوذا، وشمعان، ولاوى. وولدت له راحيل يوسف وأخاه بنيامين وأخوات لهما، وكان لابان دفع إليه ابنتيه حين جهزهما إلى يعقوب أمَتَيْن فوهبتا الأمتين ليعقوب، فولدت كلُّ واحدة منهما له ثلاثة رهط من الأسباط، وفارق يعقوب خاله، وعاد حتى نازل أخاه عيصًا. وقال بعضهم: ولد ليعقوب دان ونفثالى من زلفة جارية راحيل؛ وذلك أنها وهبتها له وسألته أن يطلب منها الولد حين تأخر الولد عنها، وأن ليا وهبت جاريتها بلهة ليعقوب منافسة لراحيل في جاريتها، وسألتْه أن يطلب منها الولد، فولدن له جاد. وأشير، ثم ولد له من راحيل بعد اليأس يوسف وبنيامين، فانصرف يعقوب بولده هؤلاء وامرأتيه المذكورتين إلى منزل أبيه من فلسطين على خوف شديد من أخيه العيص، فلم ير منه إلا خيرًا، وكان العيص فيما ذكر لحق بعمه إسماعيل، فتزوج إليه ابنته بسمة وجملها إلى الشام، فولدت له عدة أولاد فكثروا حتى غلبوا الكنعانيين بالشأم، وصاروا إلى البحر وناحية الإسكندرية ثم إلى الروم. وكان العيص فيما ذكر يسمَّى آدم لأدْمته. قال: ولذلك سمى ولد الأصفر، وكانت ولادة رفقا بنت بتويل لإسحاق بن إبراهيم ابنيه العيص ويعقوب - بعد أن خلا من عمر إسحاق ستون سنة - توءمين في بطن واحد، والعيص المتقدم منهما خروجًا من بطن أمه، فكان إسحاق فيما ذكر يختص العيص، وكانت رفقا أمهما تميل إلى يعقوب، فزعموا أن يعقوب ختل العيص في قربان قرّباه بأمر أبيهما بعدما كبرت سنُّ إسحاق، وضعف بصره، فصار أكثر دعاء إسحاق ليعقوب، وتوجهت البركة نحوه بدعاء أبيه إسحاق له، فغاظ ذلك العيص وتوعّده بالقتل، فخرج يعقوب هاربًا منه إلى خاله لابان ببابل، فوصله لابان زوّجه ابنيته ليا وراحيل، وانصرف بهما وبجاريتهما وأولاده الأسباط الاثني عشر وأختهم دينا إلى الشأم إلى منزل آبائه، وتألف أخاه العيص حتى نزل له البلاد وتنقل في الشأم، حتى صار إلى السواحل. ثم عبر إلى الروم فأوطنها، وصار الملوك من ولده وهم اليونانية - فيما زعم هذا القائل. حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرنا أسباط، عن السدي، قال: تزوج إسحاق امرأة فحملت بغلامين في بطن، فلما أرادت أن تضعهما اقتتل الغلامان في بطنها، فأراد يعقوب أن يخرج قبل عيص، فقال عيص: والله لئن خرجتَ قبلي لأعترضنّ في بطن أمي لأقتلنّها، فتأخر يعقوب، وخرج عيص قبله، وأخذ يعقوب بعقب عيص، فخرج فسمى عيصًا لأنه عصى، فخرج قبل يعقوب، وسمى يعقوب لأنه خرج أخذًا بعقِب عيص، وكان يعقوب أكبرهما في البطن، ولكنَّ عيصًا خرج قبله، وكبر الغلامان، فكان عيص أحبَّهما إلى أبيه، وكان يعقوب أحبهما إلى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فلما كبر إسحاق وعمي، قال لعيص: يا بني أطْعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلًا أشعر، وكان يعقوب رجلًا أجْرَد، فخرج عيص يطلب الصيد، وسمعت أمه الكلام فقالت ليعقوب: يا بني، اذهب إلى الغنم فاذبح منها شاة ثم اشوه، والبس جلده وقدمه إلى أبيك، وقل له: أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كُلْ، قال: مَنْ أنت؟ قال: أنا ابنك عيص، قال: فمسَّه، فاقل: المسُّ مسُّ عيص، والريح ريح يعقوب، قالت أمه: هو ابنك عيص فادع له، قال: قدم طعامك، فقدّمه فأكل منه، ثم قال ادن مني، فدنا منه، فدعا له أن يجعل في ذريته الأنبياء والملوك، وقام يعقوب، وجاء عيص فقال: قد جئتك بالصيد الذي أمرتني به، فاقل: يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب عيص وقال: والله لأقتلنّه، قال: يا بني قد بقيت لك دعوة، فهلم أدع لك بها، فدعا له فقال: تكونَ ذريتُك عددًا كثيرًا كالتراب ولا يملكهم أحدٌ غيرهم، وقالت أم يعقوب ليعقوب: الحق بخالك فكن عنده خشية أن يقتلك عيص، فانطلق إلى خاله، فكان يسري بالليل ويكمن بالنهار، ولذلك سمى إسرائيل، وهو سري الله، فأتى خالَه وقال عيص: أما إذ غلبتني على الدعوى فلا تغلبني على القبر، أن أدفّن عند آبائي " إبراهيم وإسحاق، فقال: لئن فعلتَ لتُدفننّ معه. ثم إن يعقوب عليه السلام هوى ابنَة خاله - وكانت له ابنتان - فخطب إلى أبيهما الصغرى منهما، فأنكحهما إياه على أن يَرعى غنمه إلى أجل مسمّى، فلما انقضى الأجل زفّ إليه أختها ليا، قال يعقوب: إنما أردت راحيل، فقال له خاله: إنا لا ينكح فينا الصغير قبل الكبير، ولكن ارعَ لنا أيضًا وانكحها، ففعل. فلما انقضى الأجل زوّجه راحيل أيضًا، فجمع يعقوب بينهما، فذلك قول الله: " وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قّدْ سَلَفَ ". يقول: جمع يعقوب بين ليا وراحيل، فحملت ليا فولدت يهوذا، وروبيل وشمعون. وولدت راحيل يوسف، وبنيامين، ماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، يقول: من وجع النفاس - الذي ماتت فيه -. وقطع خال يعقوب ليعقوب قطيعًا من الغنم، فأراد الرجوع إلى بيت المقدس، فلما ارتحلوا لم يكن له نفقة، فقالت امرأة يعقوب ليوسف: خذ من أصنام أبي لعلنا نستنفق منه فأخذ، وكان الغلامان في حجْر يعقوب، فأحبهما وعطف عليهما ليُتْمهما من أمهما، وكان أحبَّ الخلق إليه يوسف عليه السلام، فلما قدموا أرض الشأم، قال يعقوب لراع من الرعاة: إن أتاكم أحدٌ يسألكم: مَنْ أنتم؟ فقولوا نحن ليعقوب عبد عيص، فلقيهم عيص فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فكفّ عيص عن يعقوب، ونزل يعقوب ورأى يوسف في المنام كأنّ أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رآهم ساجدين له، فحدث أباه بها فقال: " يا بُني لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخوتِك فيكِيْدُوا لكَ كيدًا إنّ الشيطان لِلإنسانِ عَدُوٌ مُبين ". ذكر أيوب عليه السلام ومن ولده - فيما قيل - أيوب بني بالله؛ وهو فيما حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمّن لا يُتّهم، عن وهب بن منبّه، أن أيوب كان رجلًا من الروم، وهو أيوب بن موص بن رازح بن عيص إسحاق بن إبراهيم. وأما غير ابن إسحاق فإنه يقول: هو أيوب بن موص بن رغويل بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم. وكان بعضهم يقول: هو أيوب بن موص بن رعويل. ويقول: كان أبوه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام يوم أحرقه نمرود، وكانت زوجته التي أمر بضربها بالضِّعْث ابنةً ليعقوب بن إسحاق، يقال: لها ليا؛ كان يعقوب زوّجها منه. وحدثني الحسين بن عمرو بن محمد، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرنا غياث بن إبراهيم، قال: ذكر - والله أعلم - أن عدوّ الله إبليس لقِيَ امرأة أيوب - وذكر أنها كانت ليا بنت يعقوب - فقال: يا ليا ابنة الصدّيق وأخت الصدّيق. وكانت أم أيوب ابنة للوط بن هاران؟ وقيل: إن زوجته التي أمِر بضربها بالضِّعْث هي رحمة بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب، وكانت لها البَثَنيَّة من الشام كلها بما فيها، وكان - فيما ذكر - عن وهب بن منبه في الخبر الذي حدثنيه محمد بن سهل بن عسكر البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم أبو هشام، قال: حدثني عبد الصمد ابن معقل، قال: سمعت وهب بن منبّه يقول: إن إبليس لعنه الله سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله تعالى وأثنى عليه، فأدركه البغيُ والحسد، فسأل الله أن يسلِّطه عليه ليفتنه عن دينه، فسلَّطه الله على ماله دون جسده وعقله، وجمع إبليس عفاريت الشياطين وعظماءهم، وكان لأيوب البَثَنيَّة من الشام كلّها بما فيها بين شرقها وغربها، وكان بها ألف شاة برعاتها، وخمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، ويحمل آلة كل فدّان أتان، لكل أتان ولد؛ بين اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك. فلما جمعهم إبليس، قال: ماذا عنكم من القوة والمعرفة؟ فإنّي قد سُلِّطت على مال أيوب؛ فهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال. فقال كلُّ مَنْ عنده قوة على إهلاك شيء ما عنده. فأرسلهم فأهلَكوا ماله كلّه، وأيوب في كلّ ذلك يحمد الله ولا يَثنيه شيء أصيب به من ماله عن الجدّ في عبادة الله تعالى والشكر له على ما أعطاه، والصبر على ما ابتلاه به. فلما رأى ذلك من أمره إبليس لعنه الله سأل الله تعالى أن يسلّطه على ولده، فسلّطه عليهم، ولم يجعل له سلطانًا على جسده وقلبه وعقله، فأهلك ولده كلّهم، ثم جاء إليه متمثلًا بمعلّمهم الذي كان يعلمهم الحكمة جريحًا مشدوخًا يُرقِّقه حتى رقّ أيوب فبكى، فقبض قبضة من تراب فوضعها على رأسه، فسُرّ بذلك إبليس، واغتنمه من أيوب عليه السلام. ثم إنّ أيوب تاب واستغفر، فصعدت قرناؤه من الملائكة بتوبة فبدروا إبليس إلى الله عز وجل. فلما لم يثن أيوب عليه السلام ما حلّ به من المصيبة في ماله وولده عن عبادة ربه، والجدّ في طاعته، والصبر على ما ناله، سأل الله عز وجل إبليسُ أن يسلِّطه على جسده، فسلطه على جسده خلا لسانَه وقلبه وعقله؛ فإنه لم يجعل له على ذلك منه سلطانًا، فجاءه وهو ساجد، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، فصار من جملة أمره إلى أن أنتن جسده، فأخرجه أهلُ القرية من القرية إلى كُناسة خارج القرية لا يقربه أحد إلا زوجته. وقد ذكرت اختلاف الناس في اسمها ونسبها قبل. ثم رجع الحديث إلى حديث وهب بن منبّه: وكانت زوجته تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، وكان قد أتبعه ثلاثة نفر على دينه، فلما رأوا ما نزل به من البلاء رفضوه واتهموه من غير أن يتركوا دينه؛ يقال لأحدهم بلدد، وللآخر اليفز وللثالث صافر. فانطلقوا إليه وهو في بلائه فبكّتوه، فلما سمع أيوب عليه السلام كلامّهم أقبل على ربِّه يستغيثه ويتضرّع إليه، فرحمه ربّه ورفع عنه البلاء، وردَّ عليه أهله ومَاله ومثلهم معهم، وقال له: " ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَاْبٌ "؛ فاغتسل به فعاد كهيئته قبل البلاء في الحسن والجمال. فحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا فُضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: لقد مكث أيوب عليه السلام مطروحًا على كُناسة لبني إسرائيل سَبع سنين وأشهرًا، ما يسأل الله عز وجل أن يكشف ما به، قال: فما على وجه الأرض أكرم على الله من أيوب، فيزعمون أن بعض الناس قال: لو كان لربِّ هذا فيه حاجة ما صنع به هذا! فعند ذلك دعا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني ابن عُلَيّة، عن يونس، عن الحسن، قال: بقي أيوب عليه السلام على كُناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرًا اختلف فيها الرواة. فهذه جملة من خبر أيوب ﷺ، وإنما قدمنا ذكر خبره وقصته قبل خبر يوسف وقصته لما ذكر من أمره، وأنه كان نبيًَّا في عهد يعقوب أبي يوسف عليهم السلام. وذُكر أن عُمْر أيوب كان ثلاثًا وتسعين سنة، وأنه أوصى عند موته إلى ابنه حومل، وأن الله عز وجل بعث بعده ابنه بشر بن أيوب نبيًّا، وسماه ذا الكفل وأمره بالدعاء إلى توحيده، وأنه كان مقيمًا بالشأم عُمْرَه حتى مات، وكان عمرُه خمسًا وسبعين سنة، وأن بشرًا أوصى إلى ابنه عبدان، وأن الله عز وجل بعث بعده شُعَيْبَ بن صيفون بن عيفا بن نابت بن مدين ابن إبراهيم إلى أهل مدين. وقد اختُلف في نسب شُعَيْب فنسبه أهل التوراة النسب الذي ذكرت. وكان ابن إسحاق يقول: هو شعيب بن ميكائيل من ولد مدين، حدثني بذلك ابن حُميد، عن ابن إسحاق. وقال بعضهم: لم يكن شعيب من لد إبراهيم، وإنما هو من ولد بعض مَنْ كان آمن بإبراهيم واتبعه على دينه، وهاجر معه إلى الشأم، ولكنه ابن بنت لوط؛ فجده شعيب ابنة لوط. ذكر خبر شعيب عليه السلام وقيل إن اسم شعيب يزون، وقد ذكرت نسبه واختلاف أهل الأنساب في نسبه، وكان - فيما ذكر - ضرير البصر. حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي، قال: حدثنا أسيد بن زيد الجصاص، قال: أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جُبَيْر في قوله: " وَإِنَّا لَنَراكَ فِيْنَا ضَعِيْفًا "، قال: كان أعمى. حدثنا أحمد بن الوليد الرَّملي، قال: حدثنا إبراهيم بن زياد وإسحاق ابن المنذر وعبد الملك بن يزيد، قالوا: حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، مثله. حدثني أحمد بن الوليد، قال: حدثنا عمرو بن عون ومحمد بن الصباح، قالا: سمعنا شريكًا يقول في قوله: " وإنَّا لَنَرَاكَ فينَا ضَعِيْفًا "، قال: أعمى. حدثني أحمد بن الوليد، قال: حدثنا سعدويه، قال: حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثني المثنى، قال: حدثنا الحِمّاني قال: حدثنا عبّاد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: " وإنَّا لَنَرَاكَ فينَا ضَعِيْفًا "، قال: كان ضرير البصر. حدثني العباس بن أبي طالب، قال: حدثنا إبراهيم بن مهدي المِصيصي، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير: " وإنَّا لَنَرَاكَ فينَا ضَعِيْفًا "، قال: كان ضعيف البصر. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعَيْم، قال: حدثنا سفيان، قوله تعالى: " وإنَّا لَنَرَاكَ فينَا ضَعِيْفًا "، قال: كان ضعيف البصر. قال سفيان: وكان يقال له خطيب الأنبياء، وإن الله تبارك وتعالى بعثه نبيًّا إلى أهل مدين، وهم أصحاب الأيكة - والأيكة الشجر الملتف - وكانوا أهل كفر بالله وبخس للناس في المكاييل والموازين وإفساد لأموالهم، وكان الله عز وجل وسَّع عليهم في الرزق، وبسط لهم في العيش استدراجًا منه لهم، مع كفرهم به، فقال لهم شعيب عليه السلام: " يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إله غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُضُوا المِكْيَالَ وَالمِيْزَانَ إنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإنِّي أَخَاْفُ عَلَيْكُمْ عَذَاْبَ يَوْمٍ مُحِيْطٍ ". فكان من قول شعيب لقومه وجواب قومه له ما ذكره الله عز وجل في كتابه. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: فكان رسول الله ﷺ - فيما ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة - إذا ذكره قال: " ذاك خطيب الأنبياء "، لحسْن مراجعته قومَه فيما يرادّهم به. فلما طال تماديهم في غَيِّهم وضلالهم، ولم يردّهم تذكير شُعيب إياهم، وتحذيرهم عذاب الله - لهم - وأراد الله تبارك وتعالى هلاكهم، سلط عليهم - فيما حدثني الحارث - قال: حدثنا الحسن بن موسى الأشيب، قال: حدثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد، قال: حدثنا حاتم بن أبي صَغيرة، قال: حدثني يزيد الباهلي، قال: سألتُ عبد الله بن عباس عن هذه الآية: " فَأخَذَهُمْ عَذَاْبُ يَوْم الظُّلَّةِ إنَّهُ كَانَ عَذَاْبَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ "، فقال عبد الله بن عباس: بعث الله وَبَدةً وحرًَّا شديدًا، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت، فدخل عليهم أجواف البيوت فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هرّابًا إلى البرّية فبعث الله عز وجل سحابة، فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردًا ولذة، فنادى بعضُهم بعضًا، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارًا، قال عبد الله ابن عباس: فذاك عذابُ يوم الظلة؛ " إنَّهُ كَانَ عَذَاْبَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ ". حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني جرير بن حازم أنه سمع قتادة يقول: بُعث شعيب إلى أمتين: إلى قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة، وكانت الأيكة من شجر ملتفّ، فلما أراد الله عز وجل أن يعذّبهم بعث عليهم حرًَّا شديدًا، ورفع لهم العذاب كأنه سحابة، فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بَرْدها، فلما كانوا تحتها أمطرت عليهم نارًا، قال: فذلك قوله تعالى: " فَأخَذَهُمْ عَذَاْبُ يَوْم الظُّلَّةِ ". حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو سفيان، عن معمَر بن راشد، قال: حدثني رجل من أصحابنا عن بعض العلماء، قال: كانوا - يعني قوم شعيب - عطَّلوا حدًَّا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطَّلوا حدًَّا فوسع الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلما عطَّلوا حدًَّا وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا أراد الله هلاكهم سلَّط عليهم حرًَّا لا يستطيعون أن يتقارُّوا، ولا ينفعهم ظل ولا ماء، حتى ذهب ذاهب منهم فاستظل تحت ظلة فوجد روْحًا، فنادى أصحابَه: هلمُّوا إلى الرُّوح، فذهبوا إليه سراعًا؛ حتى إذا اجتمعوا ألهبها الله عليهم نارًا، عذاب يوم الظلة. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن معاوية في قوله تعالى " " فَأخَذَهُمْ عَذَاْبُ يَوْم الظُّلَّةِ "، قال: أصابهم حرُّ قلقلهم في بيوتهم، فنشأت سحابة كهيئة الظُّلَّةِ فابتدروها، فلما ناموا تحتها أخذتهم الرجفة. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله: " عَذَاْبُ يَوْم الظُّلَّةِ "، قال: ظلال العذاب. حدثني القاسم، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: " فَأخَذَهُمْ عَذَاْبُ يَوْم الظُّلَّةِ "، قال: أظلّ العذابُ قوم شُعيب. قال ابن جريج: لما أنزل الله تعالى عليهم أول العذاب أخذهم منه حرٌّ شديد، فرفع الله لهم غمامة، فخرج إليها طائفة منهم ليستظلوا بها، فأصابهم منها برد ورَوْح وريح طيبة، فصبّ الله عليهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابًا، فذلك قوله: " عَذَاْبُ يَوْم الظُّلَّةِ إنَّهُ كَانَ عَذَاْبَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ ". حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " فَأخَذَهُمْ عَذَاْبُ يَوْم الظُّلَّةِ إنَّهُ كَانَ عَذَاْبَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ "، قال: بعث الله عز وجلّ إليهم ظلة من سحاب، وبعث الله إلى الشمس فأحرقت ما على وجه الأرض، فخرجوا كلهم إلى تلك الظلة؛ حتى إذا اجتمعوا كلُّهم كشف الله عنهم الظلة، وأحمَى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المِقْلّى. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تُمَيْلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عامر، قال: مَنْ حدثك من العلماء، ما عذاب يوم الظلة، فكذّبه. حدثني محمود بن خداش، حدثنا حماد بن خالد الخياط، قال، حدثنا داوود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قوله عز وجل: " أصَلَاتكَ تَأْمُرُكَ أنْ تَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِيْ أمْوَالِنَا مَا نَشَاء "، قال: كان مما ينهاهم عنه حذف الدراهم - أو قال: قطع الدراهم، الشكّ من حماد. حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا ابن أبي فُدَيْك، عن أبي مودود قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني أن قومَ شعيب عذَّبوا في قطع الدراهم، ثم وجدت ذلك في القرآن: " أصَلَاتكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِيْ أمْوَالِنَا مَا نَشَاء ". حدثنا انن وكيع، قال: حدثنا زيد بن حُبَاب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: عذب قوم شعيب في قطعهم الدراهم، فقلوا: " يا شعيبُ أصَلَاتكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِيْ أمْوَالِنَا مَا نَشَاء ". ونرجع الآن إلى: ذكر يعقوب وأولاده ذكروا والله أعلم أن إسحاق بن إبراهيم عاش ما بعد ما ولد له العيص ويعقوب مائة سنة، ثم توفي وله مائة وستون سنة فقبّره ابناه: العيص ويعقوب عند قبر أبيه إبراهيم في مزرعة حَيْرون، وكان عمر يعقوب بن إسحاق كله مائة وسبعًا وأربعين سنة، وكان ابنه يوسف قد قُسِم له ولأمِّه من الحسن ما لم يقسم لكثير من أحد من الناس. وقد حدثني عبد الله بن محمد وأحمد بن ثابت الرازيان، قالا: حدثنا عفان بن مسلم، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت - البناني - عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: " أعطى يوسف وأمّه شَطْر الحسن ". وأن أمه راحيل لما ولدتْه دفعه زوجها يعقوب إلى أخته تحضنه، فكان من شأنه وشأن عمّته التي كانت تحضنه ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها صارت مِنْطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكِبَر، فكان من اختانها مَن وليها كان له سلَمًا لا ينازَع فيه، يصنع فيه ما شاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد كان حضنْته عمته، فكان معها وإليها، فلم يجب أحد شيئًا من الأشياء حبَّها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات، ووقعت نفس يعقوب عليه، فقال: يا أخيَّة سلِّمي إلى يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: والله ما أنا بتاركته؛ قال: فوالله ما أنا بتاركه. قالت: فدعه عندي أيامًا أنظر إليه وأسكن عنه، لعل ذلك يسلّيني عنه - أو كما قالت - فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى مِنطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت مِنطقة إسحاق، فانظروا مِنْ أخذها ومن أصابها، فالتُمست ثم قالت: كَشَّفوا أهل البيت، فكشَّفوهم فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لي لَسَلَم أصنع فيه ما شئت. قال: وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذاك، إن كان فعل ذلك فهو سَلمَ لك، ما أستطيع غير ذلك فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت. قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: " إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ". قال أبو جعفر: فلما رأت إخوة يوسف شدة حبّ والدهم يعقوب إياه في صباه وطفولته وقلّة صبره عنه حسدوه على مكانه منه، وقال بعضهم لبعض: " لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحبُّ إلَى أَبِيْنا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ ". يعنون بالعصبة الجماعة، وكانوا عشرة: " إنَّ أَبَانَا لَفِيْ ضَلَالٍ مُبِيْنٍ ". ثم كان من أمره وأمر يعقوب ما قد قصَّ الله تبارك وتعالى في كتابه من مسألتهم إياه إرساله إلى الصحراء معهم، ليسعى وينشط ويلعب، وضمانِهم له حفظَه، وإعلام يعقوب إياهم حزنَه بمغيبه عنه، وخوفه عليه من الذئب، وخداعهم والدهم بالكذب من القول والزور عن يوسف، ثم إرساله معهم وخروجهم به وعزمهم حين برزوا به إلى الصحراء على إلقائه في غيابة الجب، فكان من أمره حينئذ - فيما ذكر - ما حدثنا ابنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، عن أسباط، عن السدي قال: أرسله - يعني يعقوبُ يوسفَ - معهم، فأخرجوه وبه عليهم كرامة، فلما برزوا إلى البريّة أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيمًا، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب! لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء! فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقًا ألا تقتلوه! فانطلقوا به إلى الجبّ ليطرحوه، فجعلوا يُدْلونه في البئر فيتعلق بشفيرها، فربطوا يديه، ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردُّوا علي قميصي أتوارى به في الجبّ! فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبًا تؤنسك، قال: إني لم أر شيئًا، فدلُّوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادةَ أن يموت، فكان في البئر ماء، فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فيها، فقام عليها، فلما ألقَوْه في الجبّ جعل يبكي، فنادوْه، فظنّ أنّها رحمة أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فقام يهوذا، فمنعهم وقال: قد أعطيتموني موثِقًا ألّا تقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. ثم خبره تبارك وتعالى عن وحيه إلى يوسف عليه والسلام وهو في الجب ليُنبَشِّنَّ إخوته الذين فعلوا به ما فعلوا بفعلهم ذلك وهم لا يَشعُرونَ بالوحي الذي أوحى إلى يوسف. كذلك روى ذلك عن قتادة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: " وَأَوْحَيْنا إليه لَنُنَبِّنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذَا "، قال: أوحي إلى يوسف وهو في الجبّ أن ينبّئهم بما صنعوا به " وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ " بذلك الوحي. حدثني المثنّى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بنحوه، إلا أنه قال: أن سينبِّئهم. وقيل معنى ذلك: وهم لا يشعرون أنه يوسف، وذلك قول يروى عن ابن عباس؛ حدثني بذلك الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي، عن أبيه، قال: سمعت ابن عباس يقول ذاك، وهو قول ابن جريج. ثم خبره تعالى عن إخوة يوسف ومجيئهم إلى أبيه عشاءً يبكون، يذكرون له أن يوسف أكله الذئب، وقول والدهم: " بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيْلٌ ". ثم خبّره جلاله عن مجيء السيارة، وإرسالهم واردهم، وإخراج الوارد يوسف وإعلامه أصحابه به بقوله: " يَا بُشْراي هَذَا غُلَامٌ " يبشرهم. حدثنا بشْر بن مُعًاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: " يَا بُشْراي هَذَا غُلَامٌ "، تباشروا به حين أخرجوه - وهي بئر بأرض بيت المقدس معلوم مكانها. وقد قيل: إنما نادى الذي أخرج يوسف من البئر صاحبًا له يسمى بُشْرى، فناداه باسمه الذي هو اسمه. كذلك ذكر عن السُّدِّي. حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا خلف بن هشام، قال: يحيى بن آدم، عن قيس بن الربيع، عن السدي في قوله: " يَا بُشْراي "، قال: كان اسم صاحبه بشرى. حدثني المثنّى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي في قوله: " يَا بُشْراي هَذَا غُلَامٌ "، قال: اسم الغلام بشرى، كما تقول: يا زيد. ثم خبره عز وجل عن السيارة وواردهم الذي استخرج يوسف من الجبّ إذ اشتروه من إخوته " بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودةٍ "، على زُهْد فيه وإسرارهم إياه بضاعة، خيفة ممن معهم من التجار مسألتهم الشركة فيه، إن هم علموا أنهم اشتروه. كذلك قال في ذلك أهل التأويل: حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: " وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً "، قال: صاحب الدلو ومن معه قالوا لأصحابهم: إنا استبضعناه خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا بثمنه، وتبعهم إخوته يقولون للمُدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبَق، حتى وقفوه بمصر فقال: مَن يبتاعني ويبشّر! فاشتراه الملك، والملك مُسلم. حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد بنحوه؛ غير أنه قال: خيفة أن يستشركوهم إن علموا به، واتبعهم إخوته، يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر. حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي: " وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً "، قال: لما اشتراه الرجلان فرِقوا من الرفقة أن يقولوا: اشتريناه فيسْألونَهم الشركة فيه فقالوا: إن سألونا: ما هذا؟ قلنا: بضاعة، استبضعناه أهل الماء، فذلك قوله: " وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ". فكان بيعهم إياه ممن باعوه منه بثمن بخس، وذلك الناقص القليل من الثمن الحرام. وقيل إنهم باعوه بعشرين درهمًا، ثم اقتسموها - وهم عشرة - درهَمين درهمين، وأخذوا العشرين معدودة بغير وزن؛ لأن الدراهم حينئذ - فيما قيل - إذا كانت أقلَّ من أوقية وزنها أربعون درهمًا لم تكن توزن، لأن أقلّ أوزانهم يومئذ كانت أوقية. وقد قيل: إنهم باعوه بأربعين درهمًا. وقيل: باعوه باثنين وعشرين درهمًا. وذكر أن بائعه الذي باعه بمصر كان مالك بن دعر بن يوبب ابن عفقان بن مديان بن إبراهيم الخليل عليه السلام. حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وأما الذي اشتراه بها وقال: " لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ "؛ فإن اسمه - فيما ذكر عن ابن عباس - قُطْفير. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان اسم الذي اشتراه قطفير. وقيل إن اسمه أطفير، بن رُوحيب، وهو العزيز، وكان على خزائن مصر، والملك يومئذ الرَّيان بن الوليد، رجل من العماليق، كذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. فأما غيره فإنه قال: كان يومئذ الملك بمصر وفرعونها الرَّيان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح. وقد قال بعضهم: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتَّبع يوسف على دينه، ثم مات ويوسف بعدُ حيٍّ، ثم ملك بعده قابوس بن مُصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وكان كافرًا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل. وذكر بعضُ أهل التوراة أن في التوراة: أن الذي كان من أمر يوسف وإخوته والمصير به إلى مصر، وهو ابن سبع عشرة سنة يومئذ، وأنه قام في منزل العزيز الذي اشتراه ثلاث عشرة سنة، وأنه لما تمّتْ له ثلاثون سنة استوزره فرعون مصر؛ الوليد بن الريان، وأنه مات يوم مات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين وأوصى إلى أخيه يهوذا، وأنه كان بين فراقه يعقوب واجتماعه معه بمصر اثنتان وعشرون سنة، وأم مقام يعقوب معه بمصر بعد موافاته بأهله سبع عشرة سنة، وأن يعقوب ﷺ أوصى إلى يوسف عليه السلام. وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانًا من أهله، فلما اشترى أطفير يوسف، وأتى به منزله، قال لأهله واسمها - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - راعيل: " أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا " فيكفينا إذا هو بلغ وفهم الأمور بعضَ ما نحن بسبيله من أمورنا: " أَوَ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "، وذلك أنه كان - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق - رجلًا لا يأتي النساء، وكانت امرأته راعيل حسناء ناعمة في مُلك ودنيا، فلما خلا من عمْر يوسف عليه السلام ثلاث وثلاثون سنة أعطاه الله عز وجل الحكم والعلم. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: " آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ": قال: العقل والعلم قبل النبوة. " وَرَاوَدَتْهُ " حين بلغ من السنّ أشدّه: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ " - وهي راعيل امرأة العزيز أطفير - " وَغَلَّقَتِ اْلأَبْوَابَ " عليه وعليها للّذي أرادت منه، وجعلت - فيما ذكر - تذكر ليوسف محاسنه تشوقه بذلك إلى نفسها. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا "، قال: قالت له يا يوسف: ما أحسن شعرَك! قال: هو أول ما ينتثر من جسدي، يا يوسف ما أحسن عينيك! قال: هي أولُ ما يسيل إلى الأرض من جَسدي، قالت: يا يوسف ما أحسنَ وجهك! قال: هو للتراب يأكله، فلم تزل حتى أطعمته فهمّت به وهمّ بها. فدخلا البيتَ وغلقت الأبواب، وذهب ليحلّ سراويله فإذا هو بصورة يعقوب قائمًا في البيت قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها، فإنما مثَلُك ما لم تواقعها مثلُ الطير في جوِّ السماء لا يطاق، ومثلك إن واقعتَها مثَله إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثَلك ما لم تواقعها مثل الثور الصَّعْب الذي لا يعمل عليه، ومثَلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. فربط سراويله، وذهب ليخرج يشتدّ، فأدركته فأخذت بمؤخر قميصه من خلْفه فخرقته حتى أخرجته منه، وسقط وطرحه يوسف، واشتدّ نحو الباب. وقد حدثنا أبو كريب وابن وكيع وسهل بن موسى، قالوا: حدثنا ابن عيينة عن عثمان بن أبي سليمان، عن ابن أبي مليْكة، عن ابن عباس: سئل عن همّ يوسف ما بلغ؟ قال: حلّ الهيمان، وجلس منها مجلس الحائز. حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن أبي مُلَيكة، قال: قلت لابن عباس: ما بلغ من همّ يوسف؟ قال: استلقتْ له وجلس بين رجليها ينزع ثيابَه، فصرف الله تعالى عنه ما كان همّ به من السوء بما رأى من البرهان الذي أراه الله، فذلك - فيما قال بعضُهم - صورة يعقوب عاضًّا على إصبعه. وقال بعضهم: بل نودي من جانب البيت: أتزني فتكون كالطير وقع ريشه، فذهب يطير ولا ريش له! وقال بعضهم: رأى في الحائط مكتوبًا: " وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وِسَاءَ سَبِيلًا " فقام حين رأى بُرْهان ربه هاربًا يريد باب البيت، فرارًا مما أرادته، واتبعته راعيل فأدركتْه قبل خروجه من الباب، فجذبته بقميصه من قِبَل ظهره، فقدّت قميصَه وألفى يوسف وراعيل سيّدها - وهو زوجها أطفير - جالسًا عند الباب، مع ابن عمّ لراعيل. كذلك حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي،: " وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ ". قال: كان جالسًا عند الباب وابن عمها معه، فلما رأته قالت: " مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَاْدَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إلَّا أنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ "؛ إنه راودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي فأبيت فشققت قميصه. قال يوسف: بل هي رَاوَدَتني عَنْ نَفْسي، فأبيت وفررت منها، فإن كان القميص " قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبين "، وإن كان القميص " قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ "، فأتى بالقميص، فوجده قدّ من دبر، قال: " إنَّهُ مِنْ كَيْدَكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيْمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ مِنَ الْخَاطِئِيْنَ ". حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا شيبان، عن أبي إسحاق، عن نوْف الشامي، قال: ما كان يوسف يريد أن يذكره حتى قالت: " مَا جَزَاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عذابٌ ألِيْمٌ "، قال: فغضب وقال: " هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ". وقد اختلف في الشاهد الذي شهد من أهلها " إنْ كَانَ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبين "، فقال بعضهم، ما ذكرت عن السدي. وقال بعضهم: كان صبيّا في المهد، وقد روى في ذلك عن رسول الله ما حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: " تكلم أربعة وهم صغار "، فذكر فيهم شاهد يوسف. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تكلّم أربعة وهم صغار: ابنُ ماشطة ابنة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم. وقد قيل إن الشاهد كان هو القميص وقدّه من دبره. ذكر بعض من قال ذلك حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ". قال: قميصه مشقوق من دُبره فتلك الشهادة، فلما رأى زوجُ المرأة قميص يوسف قُدَّ من دبر قال لراعيل زوجته: " إنَّهُ مِنْ كَيْدَكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيْمٌ "، ثم قال ليوسف: أعرض عن ذكر ما كان منها من مراودتها إياك عن نفسها فلا تذكره لأحد، قال لزوجته: " اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ مِنَ الْخَاطِئِيْنَ ". وتحدث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز بمِصر ومراودتها إياه على نفسها فلم ينكتم، وقلن: " امْرَأَةُ الْعَزِيْزِ تُرَاْوِدُ فتاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًَّا "، قد وصل حبّ يوسف إلى شغاف قلبها فدخل تحته حتى غلب على قلبها. وشغاف القلب: غلافه وحجابه. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: " قَدْ شَغَفَهَا حُبًَّا "، قال: والشغاف جلْدة على القلب يقال لها لسان القلب؛ يقول: دخل الحبّ الجلد حتى أصاب القلب، فلما سمعت امرأة العزيز بمكرهنّ وتحدُّثهن بينهنّ بشأنها وشأن يوسف، وبلغها ذلك أرسلت إليهنّ وأعتدت لهن مُتكأ يتَّكئن عليه إذا حضرنها من وسائد. وحضرنها فقدّمت إليهنّ طعامًا وشرابًا وأترُجا، وأعطتْ كُلَّ واحدة منهن سكينًا تقطع به الأترجّ. حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كُدَيْنةَ، عن حُصَيْن، عن مجاهد، عن ابن عباس: " وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيْنًا "، قال: أعطتهن أترُجًّا، وأعطت كل واحدة منهن سكينًا. فلما فعلت امرأةُ العزيز ذلك بهنَّ، وقد أجلست يوسف في بيت ومجلس غير المجلس الذي هنَّ فيه جلوس، قالت ليوسف: " اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ "، فخرج يوسف عليهنّ، فلما رأينه أجللنه وأكبرنه وأعظمنه، وقطَّعن أيديهن بالسكاكين التي في أيديهنّ، وهن يحسبن أنهنّ يقطعن بها الأترجّ، وقلن: معاذ الله ما هذا إنس، " إنْ هَذا إلَّا مَلَكٌ كَرِيْمٌ ". فلما حلّ بهنّ ما حلَّ من قطع أيديهن من أجل نظرة نظرنها إلى يوسف وذهاب عقولهنّ، وعرفتهن خطأ قيلهنَّ: " امْرَأَةُ العزِيْزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ "، وإنكارهن ما أنكرن من أمرها أقرّت عند ذلك لهنّ بما كان من مراودتها إياه على نفسها، فقالت: " فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّني فِيْهِ ولَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَن نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ "، بعدما حلّ سراويله. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: " قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّني فِيْهِ ولَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَن نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ "، تقول: بعدما حلّ السراويل استعصم، لا أدري ما بدا له ثم قالت لهنّ: " وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ " منْ إتْيانهَا " لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونا مِنَ الصَّاغِرِيْنَ "، فاختار السجن على الزنا ومعصية ربه، فقال: " رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلّيَّ مِمَّا يّدْعُونَنِي إلَيْهِ ". حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلّيَّ مِمَّا يّدْعُونَنِي إلَيْهِ " من الزنا، واستغاث بربه عز وجل فقال: " وإلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ من الجَاْهِلِيْنَ ". فأخبر الله عز وجل أنه استجاب له دعاءه، فصرّف عنه كيدهنّ ونجاه من ركوب الفاحشة، ثم بدا للعزيز من بَعْد ما رأى من الآيات ما رأى من قَدّ القميص من الدُّبر، وخمش في الوجه، وقطع النسوة أيديهنّ وعلمه ببراءة يوسف مما قُرف به في ترك يوسف مطلقًا. وقد قيل: إن السبب الذي من اجله بدا له في ذلك، ما حدثنا به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط عن السدي: " ثم بّدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حّتَّى حِيْنٍ "، قال: قالت المرأة لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضَحني في الناس يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فذلك قول الله عز وجل: " ثُمَّ بّدّا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رأوا الآيات ليسجنُنه حَتَّى حين " فذكر أنهم حبسوه سبع سنين. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي، عن داود، عن عكرمة: " لَيَسْجُنُنَّهُ حّتَّى حِيْنٍ "، قال: سبع سنين؛ فلما حبس يوسف في السجن صاحبه العزيز، أُدخِل معه السجن الذي حبس فيه فتيان من فتيان الملك صاحب مصر الأكبر؛ وهو الوليد بن الريَّان؛ أحدهما كان صاحب طعامه، والآخر كان صاحب شرابه. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: حبسه الملك، وغضب على خبّازه؛ بلغه أنه يريد أن يَسُمَّه فحبسه، وحبس صاحب شرَابه؛ ظن أنه مالأه على ذلك، فحبسهما جميعًا، فذلك قول الله عز وجل: " وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ". فلما دخل يوسف قال فيما حدثني به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما دخل يوسف السجن، قال: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هَلُمَّ فلنجرّب هذا العبد العبراني، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئًا، فقال الخباز: " إنِّي أرَانِي أحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِيْ خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ "، وقال الآخر: " إنِّي أرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا، " نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إنَّا نَرَاك مِنَ المُحْسِنِيْنَ ". فقيل: كان إحسانه ما حدثنا به إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: سأل رجل الضحاك عن قوله: " إنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِيْنَ ": ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان وَسَّع له، فقال لهما يوسف: " لَا يَأْتِيكُما طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ " في يومكما هذا " إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ " في اليقظة. فكرة صلى الله عليه أن يعبِّر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير الذي سألا عنه لما في عبارة ما سألا عنه من المكروه على أحدهما فقال: " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أأرْبَابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ ". وكان اسم أحد الفتيين اللذين أدخلا السجن محلب - وهو الذي ذكر أنه رأى فوق رأسه خبزًا - واسم الآخر نبو، وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرًا، فلم يَدَعاه والعدول عن الجواب عما سألاه عنه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه فقال: " أمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا " - وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرًا، " وَأَمَّا اْلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ". فلما عبّر لهما ما سألاه تعبيره، قالا: ما رأينا شيئًا. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن عمارة - يعني ابن القعقاع - عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، في الفتيين اللذين أتيا يوسف في الرؤيا إنما كانا تحالما ليختبراه، فلما أوّل رؤياهما قالا: إنما كنا نلعب، فقال: " قُضِيَ اْلأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْيَانِ " ثم قال لنبو - وهو الذي ظن يوسف أنه ناج منهمَا: " اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ " يعني عند الملك، وأخبره أني محبوس ظلمًا، " فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ "، غفلة عرضت ليوسف من قبَل الشيطان. فحدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن بسطام بن مسلم، عن مالك بن دينار، قال: قال يوسف للساقي: " اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ "، قال: قيل: يا يوسف، اتخذتَ من دوني وكيلًا؟ لأطيلنَّ حبسَك. فبكى يوسف وقال: يا ربّ أنسى قلبي كثرة البلوى فقلت كلمة، فويل لإخوتي! حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال النبي ﷺ: " لو لم يقل يوسف - يعني الكلمة التي قال - ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله عز وجل ". فلبث في السجن، فيما حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمران أبو الهُدَيل الصنعاني، قال: سمعت وهبًا يقول: أصاب أيوب البلاء سبعَ سنين، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين، وعّذب بختنصَّر فحوّل في السباع سبع سنين. ثم إن ملك مصر رأى رؤيا هالته. فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي، قال: إن الله عز وجل أرىَ الملك في منامه رؤيا هالتْه، فرأى: " سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٌ وَأُخَرَ يَابِساتٍ "، فجمع السحرة، والكهنة والحازة والقافة، فقصّها عليهم، فقالوا " أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وما نحنُ بتأويل الأحلام بعالمين، وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا " من الفتيين وهو نبو، " وادَّكَر " حاجة يوسف " بعد أمَّةٍ "، يعني بعد نسيان: " أَنا أنبِّئكم بتتأوِيلِهِ فأرْسِلُونِ "، يقول فأطلقون. فأرسلوه فأتى يوسف فقال: " أيها الصِّديق أَفْتِنَا فِيْ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٌ وَأُخَرَ يَابِساتٍ "؛ فإن الملك رأى ذلك في نومه. فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: قال ابن عباس: لم يكن السجنُ في المدينة، فانطلق الساقي إلى يوسف، فقال: " أَفْتِنَا فِيْ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ.. " الآيات. فحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، " أَفْتِنَا فِيْ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ " فالسمان المخاصيب، والبقرات العجاف هُنَّ السنون المحول الجدوب. قوله: " وسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٌ وَأُخَرَ يَابِساتٍ " أما الخضر فهنّ السنون المخاصيب، وأما اليابسات فهن الحدون المحول. فلما أخبر يوسف نبو بتأويل ذلك، أتى نبو الملك، فأخبره بما قال له يوسف، فعلم الملك أن الذي قال يوسف من ذلك حقّ، قال: ائتوني به. فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما أتى الملك رسوله فأخبره، قال: ائتوني به، فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك أبى يوسف الخروج معه، وقال: " ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ إنَّ رّبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ". قال السدي: قال ابن عباس: لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ما زالت في نفس العزيز منه حاجة، يقول: هذا الذي راود امرأتي. فلما رجع الرسول إلى الملك من عند يوسف جمع الملك أولئك النسوة، فقال لهنّ: ما خطبكن إذ راودتنّ يوسف عن نفسه! قلن - فيما حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي قال: لما قال الملك لهنّ: " مَا خَطْبُكُنَّ إذ رَاوَدتُنَّ يوسفَ عَن نفسِهِ قُلْنَ حَاشَ لله ما عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوء "؛ ولكن امرأة العزيز أخبرتنا أنها راودته عن نفسه، ودخل معها البيت، فقالت امرأة العزيز حينئذ: " الآنَ حَصْحَصَ الحقُّ أنا رَاوَدتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ ". فقال يوسف: ذلك هذا الفعل الذي فعلت من ترديدي رسول الملك بالرسالات التي أرسلت في شأن النسوة، ليعلم أطفير سيدي " أنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغَيْبِ " في زوجته راعيل، " وأنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدِ الْخَائِنِيَنَ ". فلما قال ذلك يوسف قال له جَبْرئيل: ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما جمع الملك النسوة، فسألهنّ: هل راودتنّ يوسفَ عن نفسه؟ " قُلْنَ حَاشَ لله ما عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوء قالتِ امرأةُ العزيز الآنَ حَصْحَصَ الحقُّ أنا رَاوَدتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ " قال يوسف: " ذلك ليعلمَ أنِّي لم أخُنْهُ بالغيب وأنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدِ الْخَائِنِيَنَ ". قال: فقال له جَبْرئيل: ولا يوم هممت بها؟ فقال: " وَمَا أُبرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأمَّارةٌ بالسُّوء ". فلما تبين للملك عذرُ يوسف وأمانته قال: " ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لنفسِي فَلَمَّا " أُتِي به " كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيوْمَ لديْنَا مَكينٌ أمين ". فقال يوسف للملك: " اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأَرْضِ ". فحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ " قال: كان لفرعون خزائن كثيرة غير الطعام، فسلّم سلطانه كلَّه إليه، وجعل القضاء إليه أمره، وقضاؤه نافذ. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن شيبة الضبي في قوله: " اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ "، قال: على حفظ الطعام. " إنِّي حَفِيْظٌ عَليمٌ " يقول: إني حفيظ لما استودعتني، علم بسني المجاعة، فولاه الملك ذلك. وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قال يوسف للملك: " اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيْظٌ عَليمٌ " قال الملك: قد فعلت، فولاه - فيما يذكرون - عمل إطفير، وعزّل إطفير عما كان عليه، يقول الله تبارك وتعالى: " وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يتبوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ برَحْمًتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيْعَ أجْرَ المحسنِين " قال: فذُكر لي - والله أعلم - أن إطفير هلك في تلك الليالي، وأن الملك الريان بن الوليد زوّج يوسف امرأة إطفير راعيل، وأنها حين دخلت عليه قال: أليس هذا خيرًا مما كنت تريدين! قال: فيزعمون أنها قالت: أيها الصدّيق لا تلمني، فإني كنت امرأةً - كما ترى - حسناء جميلة ناعمة، في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنتَ كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبَتْني نفسي على ما رأيت. فيزعمون أنه وجدها عذراء، وأصابها فولدت له رجلين: أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: " وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يتبوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ " قال: استعمله الملك على مصر، وكان صاحبَ أمرها، وكان يلي البيع والتجارة وأمرها كله، فذلك قوله: " وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يتبوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ". فلما وليَ يوسف للملك خزائن أرضِه واستقرَّ به القرار في عمله، ومضت السنون السبع المخصبة التي كان يوسف أمرَ بترك ما في سنبل ما حصدوا من الزرع فيه، ودخلت السنون المجدبة وقَحط الناس، أجدبت بلاد فلسطين فيما أجدب من البلاد، ولحق مكروه ذلك آل يعقوب في موضعهم الذي كانوا فيه، فوجه يعقوب بنيه. فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: أصاب الناس الجوع حتى أصاب بلاد يعقوب التي هو بها، فبعث بنيه إلى مصر، وأمسك أخا يوسف بنيامين، فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون، فلما نظر إليهم قال: أخبروني: ما أمرُكم؟ فإني أنكر شأنكم! قالوا: نحن قوم من أرض الشأم، قال: فما جاء بكم؟ قالوا: جئنا نمتار طعامًا، قال: كذبتم، أنتم عيون! كم أنتم؟ قالوا: عشرة، قال: أنتم عشرة آلاف، كلُّ رجل منكم أمير ألف. فأخبروني خبركم، قالوا: إنا إخوة، بنو رجل صدِّيق، وإنا كنا اثني عشر، وكان أبونا يحب أخًا لنا، وإنه ذهب معنا إلى البريّة فهلك فيها، وكان أحبَّنا إلى أبينا. قال: فإلى مَنْ سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه. قال: فكيف تخبرونني أن أباكم صدِّيق وهو يحب الصغير منكم دون الكبير! ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه: " فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ، قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإنَّا لَفَاْعِلُونَ ". قال: فضعوا بعضَكم رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان يوسف حين رأى ما أصاب الناس من الجهد قد آسى بينهم، فكان لا يحمّل للرجل إلا بعيرًا واحدًا، ولا يحمّل الواحد بعيريْن تقسيطًا بين الناس، وتوسيعًا عليهم، فقدم عليه إخوته قدِم عليه من الناس يلتمسون الميرة من مصر، فعرفهم وهم له منكرون لما أراد الله تعالى أن يبلغ بيوسف فيما أراد. ثم أمر يوسف بأن يوقِر لكلّ رجل من إخوته بعيرَه، فقال لهم: ائتوني بأخيكم من أبيكم، لأحمَّل لكم بعيرًا آخر، فتزدادوا به حمل بعير: " ألا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِ الْكَيْلَ " فلا أبخسه أحدًا، " وأَنَا خَيْرُ المُنْزِلِينَ ". وأنا خيرُ من أنزل ضيفًا على نفسه بهذه البلدة، فأنا أضيفكم " فإِنْ لَمْ تَأْتُونِي " بأخيكم من أبيكم فلا طعامَ لكم عندي أكيله، ولا تقربوا بلادي. وقال لفتيانه الذين يكيلون الطعام لهم: " اجْعَلوا بضَاعَتَهُمْ " - وهي ثمن الطعام الذي اشتروه به - " في رِحَالِهِمْ ". حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " اجْعَلوا بضَاعَتَهُمْ في رِحَالِهِمْ "، أي ورقهم، فجعلوا ذلك في رحالهم وهم لا يعلمون. فلما رجع بنو يعقوب إلى أبيهم، قالوا: ما حدثنا به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا، إن ملكَ مصر أكرمنا كرامةً؛ لو كان رجلًا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته، وإنه ارتهن شمعون وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عطف عليه أبوكم بعد أخيكم الذي هلك؛ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربوا بلادي أبدًا. قال يعقوب: " هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ ". قال: فقال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملِك مصر فأقرءوه مني السلام وقولوا له: إن أبانا يصلِّي عليك، ويدعو لكَ بما أوليتَنا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرجوا حتى إذا قدموا على أبيهم، وكان منزلهم - فيما ذكر لي بعض أهل العلم - بالعربات من أرض فلسطين بغَوْر الشأم. وبعضهم يقول: بالأولاج من ناحية الشِّعب أسفل من حِسْمي فلسطين، وكان صاحب بادية، له إبل وشاء. فلما رجع إخوة يوسف إلى والدهم يعقوب قالوا له: يا أبانا مُنع منا الكيل فوق حمل أباعرنا، ولم يكل لكلِّ واحد منا إلا كيل بعير، فأرسل معنا أخانا بنيامين يكتَلْ لنفسه، وإنا له لحافظون، فقال لهم يعقوب: " هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ ". ولما فتح ولد يعقوب الذين كانوا خرجوا إلى مصر للميرة متاعَهم الذي قدموا به من مصر، وجدوا ثمن طعامهم الذي اشتروه به رُدَّ إليهم، فقالوا لوالدهم: " يَا أبَانَا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إليْنا وَنَمِيرُ أهْلَنَا وَنَحْفَظُ أخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيْرٍ " أخر على أحمال إبلنا. وقد حدثني الحارث، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، " وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيْرٍ "، قال لكل رجل منهم حمل بعير، فقالوا أرسل معنا أخانا نزداد حمل بعير. قال ابن جريج: قال مجاهد: كيل بعير حمل بعير حمار. قال: وهي لغة؛ قال الحارث: قال القاسم: يعني مجاهد أن الحمار يقال له في بعض اللغات " بعير ". فقال يعقوب: " لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونَ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأتُنَّني بِهِ إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ " يقول: إلا أن تهلكوا جميعًا، فيكون حينئذ ذلك لكم عذرًا عندي، فلما وثقوا له بالأيمان قال يعقوب: " اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيْلٌ ". ثم أوصاهم بعد ما أذن لأخيهم من أبيهم بالرحيل معهم، ألا تدخلوا من باب واحد من أبواب المدينة خوفًا عليهم من العين، وكانوا ذوي صورة حسنة، وجمال وهيئة، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة، كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: " وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ "، قال: كانوا قد أوتوا صورة وجمالًا، فخشي عليهم الناس، فقال الله تبارك وتعالى: " وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوْهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا "، - وكانت الحاجة التي في نفس يعقوب فقضاها - ما تخوف على أولاده أعين الناس لهيئتهم وجمالهم. ولما دخل إخوة يوسف على يوسف ضمّ إليه أخاه لأبيه وأمه، فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: " وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ أوَى إلَيْهِ أَخَاهُ "، قال: عرف أخاه، قال: وأنزلهم منزلًا، وأجرى عليهم الطعام والشراب، فلما كان الليل جاءهم بمثل فَقال: ليَنَمْ كلّ أخوين منكم على مِثال، فلما بقي الغلام وحده قال يوسف: هذا ينام معي في على فراشي، فبات معه، فجعل يوسفَ يَشمُّ ريحه، ويضمه إليه حتى أصبح؛ وجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا إن نجونا منه. وأما ابن إسحاق فإنه ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما دخلوا - يعني ولد يعقوب - على يوسف قالوا: هذا أخونا الذي أمرَتنا أن نأتيَك به، قد جئناك به. فذكر لي أنه قال لهم: قد أحسنتم وأصبتم، وستجدون جزاء ذلك عندي، أو كما قال. ثم قال: إني أراكم رجالًا، وقد أردت أن أكرمكم، فدعا صاحب ضيافته فقال: أنزل كلَّ رجلين على حدة، ثم أكرمْهما وأحسنْ ضيافَتَهما. ثم قال: إني أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثانٍ، فسأضمه إلي فيكون منزله معي، فأنزلهم رجلين رجلين إلى منازل شتى، وأنزل أخاه معه فأواه إليه، فلما خلا به قال: إني أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بشيء فعلوه بنا فيما مضى؛ فإن الله قد أحسن إلينا فلا تعلمهم مما أعلمتك؛ يقول الله عز وجل: " وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ أوَى إلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إنِّي أَنَا أخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بما كانوا يعملون "، يقول له: " فَلَا تَبْتَئِسْ "، فلا تحزن. فلما حمّل يوسف إبل إخوته ما حمَّلها من الميرة وقضى حاجتهم ووفّاهم كيلهم، جعل الإناءَ الذي كان يكيل به الطعام - وهو الصُّواع - في رحل أخيه بنيامين. حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا عبد الواحد، عن يونس، عن الحسن أنه كان يقول: الصُّواع والسقاية سواء، هما الإناء الذي يشرب فيه، وجعل ذلك في رَحْل أخيه، والأخ لا يشعر فيما ذكر. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: " فَلَمَّا جّهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيْهِ "، والأخ لا يشعر، فلما ارتحلوا أذّن مؤذن قبل أن ترتحلوا العير: " إنَّكُمْ لَسَارقُونِ ". حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حمّل لهم بعيرًا بعيرًا، وحمل لأخيه بنيامين بعيرًا باسمه كما حمل لهم، ثم أمر بسقاية الملك - وهو الصُّواع - وزعموا أنها كانت من فضة، فجُعلت في رحل أخيه بنيامين، ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من القرية، أمر بهم فأدرِكوا واحتُبِسوا، ثم نادى منادٍ: أيتها العير إنكم لسارقون، قفوا. وانتهى إليهم رسوله فقال لهم - فيما يذكرون -: ألم نكرم ضيافتكم، ونوفِّكم كيلَكم، ونحسن منزلَكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم، وأدخلناكم علينا في بيوتنا، وصار لنا عليكم حرمة! أو كما قال لهم. قالوا: بلى، وما ذاك؟ قال: سقاية الملك فقدناها، ولا يُتَّهموا عليها غيركم. قالوا: " تَاللهِ لقدْ علِمْتُمْ ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اْلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِين ". وكان مجاهد يقول. كانت العير حميرًا. حدثني بذلك الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، قال: أخبرَني رجل، عن مجاهد: وكان فيما نادى به منادي يوسف: مَنْ جاء بصُواع الملك فله حمْلُ بعير من الطعام، وأنا بإيفائه ذلك زعيم - يعني " كفيل " - وإنما قال القوم: " لقدْ علِمْتُمْ ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اْلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِين "، لأنهم ردوا ثمن الطعام الذي كان كيل لهم المرة الأولى في رحالهم. فردوه إلى يوسف، فقالوا: لو كنا سارقين لم نردد ذلك إليكم - وقيل إنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، فلذلك قالوا ذلك - فقيل لهم: ما جزاء من كان سرق ذلك؟ فقالوا: جزاؤه في حُكمنا بأن يسلِّم لفعله ذلك إلى مّنْ سرقه حتى يسترقّه. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: " قالوا فما جَزَاؤه إن كنتمْ كاذِبين، قالوا جزاؤه مَنْ وُجدَ فِي رَحْلِهِ فهوَ جزاؤه " تأخذونه، فهو لكم. فبدأ يوسف بأوعية القوم قبل وعاء أخيه بنيامين، ففتّشها ثم استخرجها من وعاء أخيه لأنه أخّر تفتيشه. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثّمًا مما قَرفَهم به، حتى بقيَ أخوه - وكان أصغر القوم - قال: ما أرى هذا أخذ شيئًا. قالوا: بلى فاستبرئه، ألَا وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم. " ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعاءِ أخيه كذلك كِدْنا ليوسفَ ما كانَ لِيأخُذَ أخاه في دِينِ المَلِكِ ". يعني في حكم الملك، ملك مصر، وقضائه لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يُسْترَقّ السارق بما سرق، ولكنّه أخذه بكيد الله له حتى أسلمه رفقاؤه وإخوته بحكمهم عليه وطيب أنفسهم بالتسليم. حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: قوله: " ما كانَ لِيأخُذَ أخاه في دِينِ المَلِكِ " إلا بعلَّة كادها الله له، فاعتلَّ بها يوسف، فقال إخوة يوسف حينئذ: " إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ " - يعنون بذلك يوسف. وقد قيل إن يوسف كان سرق صنمًا لجده أبِي أمّه، فكسره، فعيّروه بذلك. ذكر من قال ذلك حدثني أحمد بن عمرو البصري، قال: حدثنا الفيض بن الفضل، قال: حدثنا مسْعَر، عن أبي حَصِين، عن سعيد بن جبير: " إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ "، قال: سرق يوسف صنمًا لجده أبي أمه فكسره وألقاه في الطريق، فكان إخوته يعيبونه بذلك. وقد حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي قال: كان بنو يعقوب على طعام، إذ نظر يوسف إلى عَرْق فخبأه فعيّروه بذلك " إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ "، فأسرّ في نفسه يوسف حين سمع ذلك منهم، فقال: " أنتم شَرٌّ مَكَانًا والله أعلمُ بما تَصِفون " به أخا بنيامين من الكذب، ولم يُبْدِ ذلك لهم قولًا. فحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما استخرِجت السرِقة من رحْل الغلام انقطعت ظهورُهم، وقالوا: يا بنَي راحيل، ما يزال لنا منكم بلاء! متى أخذتَ هذا الصواع؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البريّة، وَضَع هذا الصُّواع في رَحْلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. فقالوا: لا تذكر الدراهم فتؤخذ بها. فلما دخلوا على يوسف دعا بالصُّواع، فنقر فيه ثم أدناه من أذنه، ثم قال: إن صُواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلًا، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه. فلما سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف ثم قال: أيها الملك، سل صُواعك هذا عن أخي أين هو؟ فنقره، ثم قال: هو حي، وسوف تراه. قال: فاصنع بي ما شئت، فإنه إن علم بي فسوف يستنقذني. قال: فدخل يوسف فبكى ثم توضأ، ثم خرج فقال بنيامين: أيها الملك، إني أريد أن تضرب صواعك هذا فيخبرك بالحقِّ من الذي سرقه فجعله في رحلي. فنقره، فقال: إن صواعي هذا غضبان، وهو يقول: كيف تسأَلني: مَنْ صاحبي؟ فقد رأيتَ مع من كنت! قالوا: وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يُطاقوا، فغضب روبيل وقال: أيها الملك، والله لتتركنا أو لأصيحنَّ صيحة لا تبقى بمصر حامل إلا ألقتْ ما في بطنها، وقامت كل شعرة في جسد روبيل، فخرجت من ثيابه. فقال يوسف لابنه: قم إلى جنب روبيل فمسّه - وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم فمسَّه الآخر ذهب غضبه - فقال روبيل: مِنْ هذا؟ إن في هذا البلد لَبَزرًا من بزْر يعقوب، فقال يوسف: من يعقوب؟ فغضب روبيل وقال: أيها الملك، لا تذكر يعقوب فإنه إسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل الله. قال يوسف: أنت إذن كنت صادقًا. قال: ولما احتبس يوسف أخاه بنيامين، فصار بحكم إخوته أولى به منهم، ورأوا أنه لا سبيلَ لهم إلى تخليصه صاروا إلى مسألته تخليتَه ببذل منهم يعطونه إياه، فقالوا: " يَا أَيُّهَا الْعَزِيْزُ إنَّ لَهُ أبًا شَيخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنا مَكَانَهُ إنا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِيْنَ " في أفعالك. فقال لهم يوسف: " مَعَاذَ الله أن نَأْخُذَ إلَّا مِنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إنَّا إذًا لَظَالِمونَ " أن نأخذ بريئًا بسقيم! فلما يئس إخوة يوسف من إجابة يوسف إياهم ما سألوا من إطلاق أخيه بنيامين وأخذ بعضهم مكانه، خلّصوا نجيًّا لا يفترق منهم أحد، ولا يختلط بهم غيرهم. فقال كبيرهم: - وهو روبيل، وقد قيل إنه شمعون -: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقًا من الله أن نأتيه بأخينا بنيامين إلّا أن يحاط بنا أجمعين! ومن قبل هذه المرة ما فرطتم في يوسف " فَلَنْ أَبْرَحَ اْلأَرْضَ " التي أنا بها " حَتَّى يَأذَنَ لِي أبِي " في الخروج منها وترك أخي بنيامين بها " أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاْكِمِيْنَ " - وقد قيل معني ذلك: أو يحكم الله لي بحرب مَنْ منعني من الانصراف بأخي - " ارجعوا إلى أبيكم فقُولُوا يَا أَبَانَا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ "، فأسلمناه بجريرته، " وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بما علمنا "؛ لأن صُواع الملك لم يوجد إلا في رحله، " وما كنا للغيب حافظين "، يعنون بذلك أنا إنما ضمّنا لك أن نحفظه مما لنا إلى حفظه سبيل، ولم نكن نعلم أنه يسرق فيُستَرقّ بسرقته، واسأل أهل القرية التي كنا فيها فسرق ابنك فيها، والقافلة التي كنا فيها مقبلة من مصر معنا عن خبر ابنك، فإنك تخبر بحقيقته ذلك. فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه خبر بنيامين، وتخلُّف روبيل قال لهم: بل سوَّلتْ لكم أنفسكم أمرًا أردتموه، فصبرٌ جميل لا جزع فيه على ما نالني منْ فقد ولدي، عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا بيوسف وأخيه وروبيل. ثم أعرض عنهم يعقوب وقال: " يا أسَفًا عَلَى يُوسُفَ " يقول الله عز وجل: " وابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيْم "، مملوء من الحزن والغيظ. فقال له بنوه الذين انصرفوا إليه من مصر حين سمعوا قوله ذلك: تالله لا تزال تذكر يوسف فلا تفتر، من حبّه وذكره حتى تكون دنفَ الجسم، مخبُولَ العقل من حبّه وذكره، هرِمًا باليًا أو تموت! فأجابهم يعقوب فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله لا إليكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون من صدق رؤيا يوسف؛ أنَّ تأويلها كائن، وأني وأنتم سنسجد له. وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكّام، عن عيسى بن يزيد، عن الحسن، قال: قيل: ما بلغ وَجْد يعقوب على ابنه؟ قال وجْد سبعين ثَكْلى، قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، قال: وما ساء ظنّه بالله ساعة قطّ من ليل ولا نهار. وحدثنا ابن حميد مرّة أخرى، قال: حدثنا حَكّام، عن أبي معاذ، عن يونس، عن الحسن، عن النبي ﷺ مثله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن المبارك بن مجاهد، عن رجل من الأزد، عن طلحة بن مُصرِّف اليامي، قال: أنبئت أن يعقوب ابن إسحاق دخل عليه جار له فقال: يا يعقوب، مالي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السنّ ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف وذكره. فأوحى الله عز وجل إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي! قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. قال: فإني قد غفرت لك، فكان من ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون. حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِي، حدثنا أبو أسامة، عن هشام عن الحسن، قال: كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى أن رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره. قال الحسن: والله ما عَلى الأرض خليفةٌ أكرم على الله من يعقوب. ثم أمر يعقوب بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع إليها وتحسّس الخبر عن يوسف وأخيه، فقال لهم: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله، يفرج به عنا وعنكم الغمَّ الذي نحن فيه. فرجعوا إلى مصر فدخلوا على يوسف فقالوا له حين دخلوا عليه: " أيُّها العزيزُ مَسَّنَا وأهلَنا الضُّرُّ وجِئْنَا ببضاعةٍ مُزْجَاةٍ فأوفِ لَنَا الكَيْلَ وَتَصَدَّقْ علينا إنّ اللهَ يجزِي المتصدِّقين ". وكانت بضاعتهم المزجاة التي جاؤوا بها معهم - فيما ذكر - دراهم رديّة زُيوفًا لا تؤخذ إلا بوضيعة. وكان بعضهم يقول: كانت حلَق الغرارة والحبل ونحو ذلك. وقال بعضهم: كانت سمنًا وصوفًا. وقال بعضهم: كانت صنوبرًا وحبة الخضراء. وقال بعضهم: كانت قليلة دون ما كانوا يشترون به قبل، فسألوا يوسف أن يتجاوز لهم ويُوفِيَهم بذلك من كيل الطعام مثل الذي كان يعطيهم في المرتين قبل ذلك، ولا ينقصهم. فقالوا له: " فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ وتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إنَّ اللهَ يَجْزِي المتصدِّقينَ ". حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: " وتَصَدَّقْ عَلَيْنَا "، قال: بفضل ما بين الجياد والرديّة. وقد قيل: إن معنى ذلك: وتصدق علينا برد أخينا إلينا " إنَّ اللهَ يَجْزِي المتصدِّقينَ ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ذكر أنهم لما كلّموه بهذا الكلام، غلبتْه نفسه فارفضّ دمعُه باكيًا، ثم باح لهم بالذي كان يكتم منهم، فقال: " هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأخِيهِ إذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ". ولم يعن بذكر أخيه ما صنعه هو فيه حين أخذه، ولكن التفريق بينه وبين أخيه إذ صنعوا بيوسف ما صنعوا. فلما قال لهم يوسف ذلك قالوا له: ها أنت يوسف! قال: " أَنَا يُوسُفُ وهذا أخي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا " بأن جمع بيننا بعد تفريقكم بيننا، " إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبرْ فَإنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أجْرَ المُحْسِنِيْنَ ". حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما قال لهم يوسف: " أَنَا يُوسُفُ وهذا أخِي " اعتذروا وقالوا: " تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإنْ كُنَّا لَخَاطِئِيْنَ ". قال لهم يوسف: " لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ ". فلما عرّفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: قال يوسف: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: لما فاته بنيامين عميَ من الحزن فقال: " اذْهَبُوا بِقَمِيْصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أجْمَعِيْنَ، ولَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ " عِير بني يعقوب، قال يعقوب: " إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ". فحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن شريح، عن أبي أيوب الهوزني، حدثه، قال: استأذنت الريح بأن تأتيَ يعقوب بريح يوسف حين بعث بالقميص إلى أبيه قبل أن يأتيَه البشير، ففعلت، فقال يعقوب: " إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن ابن سنان، عن ابن أبي الهذيل، عن ابن عباس في " ولَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قال أبوهُم إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ " قال: هاجت ريحٌ فجاءت بريح يوسف من مسيرة ثمان ليال، فقال: " إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ". حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد: عن قتادة، عن الحسن، قال: ذُكِر لنا أنه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخًا، يوسف بأرض مصر ويعقوب بأرض كنعان، وقد أتى زمان طويل. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج. قوله: " إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ " وقد كان فارقه قبل ذلك سبعًا وسبعين سنة. ويعني قوله " " لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ " لولا أن تسفّهوني فتنسبوني إلى الهرم وذهاب العقل. فقال له مَنْ حضره من ولده حينئذ: تالله إنك من ذكر يوسف وحبّه " لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيْمِ " - يعنون في خطئك القديم. " فلما أن جَاءَ الْبَشِيْرُ " - يعني البريد الذي أبرده يوسف إلى يعقوب - يبشر بحياة يوسف وخبره، وذكر أن البشير كان يهوذا بن يعقوب. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدي، قال: قال يوسف: " اذْهَبُوا بِقَمِيْصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أجْمَعِيْنَ ". قال يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطّخًا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص فأخبره بأنه حي، فأقرّ عينه كما أحزنته؛ فهو كان البشير. فلما أن جاء البشيرُ يعقوبَ بقميص يوسف ألقاه على وجهه، فعاد بصيرًا بعد العمى، فقال لأولاده: " ألم أَقُلْ لَكُمْ إنَّي أعلمُ من اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ". وذلك أنه كان قد علم - من صدق تأويل رؤيا يوسف التي رآها أنّ الأحد عشر كوكبًا والشمس والقمر ساجدون - ما لم يكونوا يعلمون. فقالوا ليعقوب: " يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِيْنَ ". فقال لهم يعقوب: " سوفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ". قيل: إنه أخّر الدعاء لهم إلى السَّحَر. وقيل إنه أخّر ذلك إلى ليلة الجمعة. حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء وعكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: " قال يعقوب: " سوفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي "، يقول حتى تأتيَ ليلة الجمعة ". فلما دخل يعقوب وولده وأهاليهم على يوسف آوى إليه أبويه، وكان دخولهم عليه قبل دخولهم مصر - فيما قيل - لأن يوسف تلقاهم. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: حملوا إليه أهليهم وعيالهم، فلما بلغوا مصر كلّم يوسف الملك الذي فوقه فخرج هو والملك يتلقونهم، فلما بلغوا مصر قال: " ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ الله آمِنِين ". فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه. حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن فرقد السبَخي، قال: لما ألقِيَ القميص على وجهه ارتدَّ بصيرًا، وقال: ائتوني بأهلكم أجمعين، فحمل يعقوب وإخوة يوسف، فلما دنا يعقوب أخبرَ يوسف أنه قد دنا منه، فخرج يتلقاه. قال: وركب معه أهلُ مصر - وكانوا يعظَِمونه - فلما دنا أحدهما من صاحبه - وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من وَلده، يقال له يهوذا - قال: فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال: يا يهوذا، هذا فرعون مصر، فقال: لا، هذا ابنك يوسف، قال: فلما دنا واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فمنع ذلك، وكان يعقوب أحقَّ بذلك منه وأفضل. فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، فلما أن دخلوا مصر رفه أبويه على السرير وأجلسهما عليه. وقد اختلف في اللذين رفعهما يوسف على العرش، وأجلسهما عليه، فقال بعضهم: كان أحدهما أبوه يعقوب، والآخر أمه راحيل. وقال آخرونَ: بلْ كان الآخر خالته ليا وكانت أمه قد كانت ماتت قبل ذلك. وخرّ له يعقوب وأمه وولده يعقوب سجَّدًا. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: " وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا " قال: كانت تحية الناس أن يسجد بعضهم لبعض، وقال يوسف لأبيه: " يا أبت هذا تأويلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًَّا:، يعني بذلك: هذا السجود منكم، يدل على تأويل رؤياي التي رأيتها من قبل، صنع إخوتي بي ما صنعوا، وتلك الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر " قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًَّا ". يقول: قد حقق الرؤيا بمجيء تأويلها. وقيل كان بين أن أرِيَ يوسف رؤياه هذه ومجيء تأويلها أربعون سنة. ذكر بعض من قال ذلك حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتَمر، عن أبيه، قال: حدثنا أبو عثمان، عن سلمان الفارسي، قال: كان بين رؤيا يوسف إلى أن رأى تأويلها أربعون سنة. وقال بعضهم: كان بين ذلك ثمانون سنة. ذكر بعض من قال ذلك حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: حدثنا هشام، عن الحسن، قال: كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة، لم يفارق الحزنُ قلبَه ودموعُه تجري على خدَّيه، وما على الأرض يومئذ أحبُّ إلى الله عز وجل من يعقوب. حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا داود بن مِهْران، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، وكان بين ذلك وبين لقائه يعقوب ثمانون سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثًا وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة. حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبارك بن فَضَالة، عن الحسن، قال: ألْقيَ يوسف في الجبّ، وهو ابن سبع عشرة سنة، فغاب عن أبيه ثمانين سنة، ثم عاش بعد ما جمع الله شمله، ورأى تأويل رؤياه ثلاثًا وعشرين سنة، فمات وهو ابن عشرين ومائة سنة. وقال بعض أهل الكتاب: دخل يوسف مصر وله سبع عشرة سنة، فأقام في منزل العزيز ثلاث عشرة سنة، قلما تمت له ثلاثون سنة استوزره فرعون ملك مصر، واسمه الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وأنّ هذا الملك آمن، ثم مات، ثم ملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو ابن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح. وكان كافرًا، فدعاه يوسف إلى الإيمان بالله فلم يستجب إليه، وأن يوسفَ أوصّى إلى أخيه يهوذا، ومات وقد أتت له مائة وعشرون سنة، وأنّ فِراق يعقوب إياه كان اثنتين وعشرين سنة، وأن مقام يعقوب معه بمصر كان بعد موافاته بأهله سبع عشرة سنة، وأن يعقوب لما حضرتْه الوفاة أوصى إلى يوسف - وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانًا من أهله. وتقدم إلى يوسف عند وفاته أن يحمّل جسده حتى يدفنه بجنب أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك به ومضى به حتى دفته بالشأم، ثم انصرف إلى مصر، وأوصى يوسف أن يحمَل جسده حتى يدفَن إلى جنب آبائه، فحمل موسى تابوت جسده عند خروجه من مصر معه. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ذُكر لي - والله أعلم - أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثمانيَ عشرة سنة. قال: وأهلُ الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها، وأنّ يعقوب بَقيَ مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة، ثم قبضه الله إليه. قال: وقبر يوسف - كما ذكر لي في - صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء. وقال بعضهم: عاش يوسف بعد موت أبيه ثلاثًا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. قال: وفي التوراة أنه عاش مائة سنة وعشرين سنين. وولد ليوسف أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف، فولد لإفراييم نون، فولد لنون إفراييم يوشع بن نون وهو فتى موسى، وولد لمنشا موسى بن منشا. وقيل: إن موسى بن منشا نبّئ قبل موسى بن عمران. ويزعم أهل التوراة أنه الذي طلب الخضر. قصة الخضر وخبره وخبر موسى وفتاه يوشع عليهم السلام قال أبو جعفر: كان الخضر ممن كان في أيام أفريدون الملك بن أثفيان في قول عامّة أهل الكتاب الأوّل، وقبل موسى بن عمران ﷺ. وقيل إنه كان على مقدمة ذي القَرْنين الأكبر، الذي كان أيام إبراهيم خليل الرحمن ﷺ، وهو الذي قضى له ببئر السبع - وهي بئر كان إبراهيم احتفرها لماشيته في صحراء الأردنّ - وإنّ قومًا من أهل الأردنّ ادّعوا الأرض التي كان احتفر بها إبراهيم بئره، فحاكمهم إبراهيم إلى ذي القرنين الذي ذكر أن الخَضِر كان على مقدمته أيامَ سَيْره في البلاد، وإنه بلغ مع ذي القرنين نهرَ الحياة، فشرب من مائه وهو لا يعلم، ولا يعلم به ذو القرنين ومن معه، فخلِّد، فهو حي عندهم إلى الآن. وزعم بعضهم أنه من ولد مَن كان آمن بإبراهيم خليل الرحمن، واتبعه على دينه، وهاجر معه من أرض بابل حين هاجر إبراهيم منها. وقال: اسمه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قال: وكان أبوه ملكًا عظيمًا. وقال: آخرون ذو القرنين الذي كان على عهد إبراهيم ﷺ هو أفريدون بن أثفيان، قال: وعلى مقدمته كان الخضر. وقال عبد الله بن شوذب فيه ما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال: حدثنا محمد بن المتوكل، قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن عبد الله بن شَوْذب، قال: الخضر من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل، يلتقيان في كلّ عام بالموسم. وقال ابن إسحاق فيه ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: بلغني أنه استخلف الله عز وجل في بني إسرائيل رجلًا منهم، يقال له ناشية بن أموص، فبعث الله عز وجل لهم الخضر نبيًَّا. قال: واسم الخضر - فيما كان وهب بن منبّه يزعم عن بني إسرائيل - أو رميا بن خلقيا، وكان من سبْط هارون بن عمران. وبين هذا الملك الذي ذكره ابن إسحاق وبين أفريدون أكثر من ألف عام. وقول الذي قال: إن الخضر كان في أيام أفريدون وذي القرنين الأكبر وقبل موسى بن عمران أشبه بالحق إلا أن يكون الأمر كما قاله مًنْ قال إنه كان على مقدمة ذي القرنين صاحب إبراهيم، فشرب ماء الحياة، فلم يبعث في أيام إبراهيم ﷺ نبيًّا، وبعث أيام ناشية بن أموص؛ وذلك أنّ ناشية بن أموص الذي ذكر ابن إسحاق أنه كان ملكًا على بني إسرائيل، كان في عهد بشتاسب بن لهراسب، وبين بشتاسب وبين أفريدون من الدهور والأزمان ما لا يجهله ذو علم بأيام الناس وأخبارهم، وسأذكر مبلغ ذلك إذا انتهينا إلى خبر بشتاسب إن شاء الله تعالى. وإنما قلنا: قول من قال: كان الخضر قبل موسى بن عمران ﷺ أشبهُ بالحق من القول الذي قاله ابن إسحاق وحكاه عن وهب بن منبّه، للخبر الذي رَوَىَ عن رسول الله ﷺ أبي بن كعب، أنّ صاحب موسى بن عمران - وهو العالم الذي أمره الله تبارك بطلبه إذ ظن أنه لا أحدَ في الأرض أعلم منه - هو الخضر، ورسول الله ﷺ كان أعلمَ خلق الله بالكائن من الأمور الماضية، والكائن منها الذي لم يكن بعد. والذي روى أبي بن كعب في ذلك عنه ﷺ ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد، قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى، فقال كذبَ عدو الله، حدثنا أبي بن كعب عن رسول الله ﷺ قال: إن موسى قام في بني إسرائيل خطيبًا فقيل: أي الناس أعلم. فقال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إليه، فقال: بل عبدٌ لي عند مجمع البحرين، فقال: يا ربّ، كيف به؟ قال: تأخذ حوتًا فتجعله في مكْتل فحيث تفقده فهو هناك. قال: فأخذ حوتًا فجعله في مكتل، ثم قال لفتاه: إذا فقدتَ هذا الحوت فأخبرني. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا صخرة، فرقّد موسى فاضطرب الحوت في المكتل، فخرج فوقع في البحر، فأمسك الله عنه جَرْية الماء فصار مثل الطاق، فصار للحوت سرَبًا، وكان لهما عجبًا. ثم انطلقا، فلما كان حين الغذاء قال موسى لفتاه: " آتِنَا غَذَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هذَا نَصَبًا " قال: ولم يجد موسى النصَب حتى جاوز حيث أمَره الله، قال: فقال: " أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ فإني نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أذْكُرَهُ وَاُتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبًا " قال: فقال: " ذَلكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ". قال: يقّصان آثارهما. قال: فأتيا الصخرة فإذا رجل نائم مسجَّى بثوبه، فسلّم عليه موسى فقال: وأنَّى بأرضنا السلام! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: يا موسى، إني على علْم من علم الله، علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه، قال: فإني أتبعك على أن تعلمني ممَّا عُلمْتَ رُشْدًا. " قال فَإِنِ اُتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ". فانطلقا يمشيان على الساحل، فإذا بملاح في سفينة، فعرف الخضر، فحمله بغير نَوْل، فجاء عصفور فوقع على حرفها فنقر - أو فنقد - في الماء، فقال الخضر لموسى: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله إلا مقدار ما نقر - أو نقد - هذا العصفور من البحر. قال أبو جعفر: أنا أشكُّ، وهو في كتابي هذا " نقر " قال: فبينما هم في السفينة لم يُفجأ موسى إلا وهو يتد وتدًا أو ينزع تخْتًا منها، فقال له يا موسى: حمَلنا بغير نَوْل وتخرقها لتُغْرقَ أهْلها! " لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا، قَالَ أَلَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْرًا لَا تُؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ " - قال: فكانت الأولى من موسى نسيانًا - قال: ثم خرجا فانطلقا يمشيان، فأبصرا غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ برأسه فقتله، فقال له موسى: " أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا، أَلَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذرًا ". فانطلقا حتى أتيا أهلَ قرية استطعما أهلها، فلم يجدا أحدًا يطعمهم ولا يسقيهم، فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقضّ فأقامه بيده - قال: مسحه بيده - فقال له موسى: لم يُضيفونا ولم ينزلونا، " لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا ". " قَالَ هذا فِراقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ " قال: فقال رسول الله ﷺ: " لوددت أنه كان صبَر حتى يقصّ علينا قصصهم ". حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس: أنه تمارى هو والحُرّ بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى عليه السلام الذي سأل السبيلَ إلى لقائه، فهل سمعت رسول الله يذكر شأنه؟ قال: نعم إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: " بينا موسى عليه السلام في ملأِ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد اعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى إلى موسى: بَلى عبدنا الخَضِر، فسأل موسى السبيلَ إلى لقائه، فجعل الله الحوت آية، وقال له: إذا افتقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت، - في البحر فقال فتى موسى لموسى: " أرأيْت إذْ أوَيْنا إلى الصخرةِ فإني نسيتُ الحوتَ " -، وقال موسى: " ذلك ما كُنّا نَبْغِ فارتدَّا على آثارهما قصَصًا "، فوجدا الخضر، فكان من شأنهما ما قصّ الله في كتابه ". حدثني محمد بن مرزوق قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا عبد الله بن عمر النيمري، عن يونس بن يزيد، قال: سمعت الزهري يحدث قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس: أنه تمارى هو والحُرّ بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فذكر نحو حديث العباس عن أبيه. حدثنا محمد بن مسعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس؛ قوله: " وإذْ قال موسى لفتاهُ لا أبْرَحُ حتى أبْلُغَ مجْمَعَ البحرينِ.. " الآية، قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر نزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار، أنزل الله عز وجل عليه: أن ذكِّرهم بأيام الله. فخطب قومه، فذكَر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكَّرهم إذ أنجاهم الله من آل فرعون، وذكّرهم هلاك عدوهم، وما استخلفهم الله في الأرض، فقال: وكلم الله موسى نبيكم تكليمًا، واصطفاني لنفسه، وأنزل على محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه، فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرؤون التوراة. فلم يترك نعمة أنعمها الله عليهم إلا ذكرها وعرّفها إياهم، فقال له رجل من بني إسرائيل: هو كذلك يا نبي الله، وقد عرفْنا الذي تقول، فهل على الأرض أحدٌ أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا، فبعث الله عز وجل جبرئيل عليه السلام إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول: وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى إن على شطّ البحر رجلًا أعلم منك - قال ابن عباس: هو الخضر - فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى الله إليه أن ائت البحر، فإنك تجد على شط البحر حوتًا فخذه فادفعه إلى فتاك ثم الزم شطّ البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك، فثمّ تجد العبد الصالح الذي تطلب. فلما طال سفر موسى نبي الله ﷺ ونصب فيه، سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه: " أرأيت إذْ أويْنا إلى الصخرةِ فإني نسيت الحوتَ، وما أنسانيه إلا الشيطانُ أنْ أذكُره " لك. قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربًا. فأعجب ذلك موسى فرجع حتى أتي الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدّم عصاه يفرج بها عنه الماء، يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئًا من الماء إلا يبس حتى يكون صخرة، فجعل نبي الله صلى الله عليه يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر بها، فسلّم عليه، فقال الخضر: وعليك السلام، وأنى يكون هذا السلام بهذه الأرض! ومن أنت؟ قال: أنا موسى، فقال له: الخضر صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم، فرحَّب به وقال: ما جاء بك؟ جئت على أن تعلّمني مما علمت رشدًا، قال: " إنك لن تستطيعَ معيَ صبرًا "، يقول: لا تطيق ذلك، قال موسى: " ستجدُني إنْ شاء اللهُ صابرًا ولا أعصي لك أمرًا ". قال: فانطلق به، وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه، فذلك قوله: " حتى أُحْدِثَ لك منه ذِكْرًا ". فركبا في السفينة يريدان أن يتعديا إلى البرّ، فقال الخضر، فخرق السفينة فقال له موسى: أخرقْتَها لتُغرِقَ أهلها لقد جئتَ شيئًا إمْرًا ".. ثم ذكر بقية القصّة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّي، عن هارون بن عنترة عن أبيه، عن ابن عباس قال: سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل فقال: أي ربّ؛ أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال أي ربٍّ، أيُّ عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علْم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى، أو تردّه عن ردّي، قال: ربّ فهل في الأرض أحد - قال أبو جعفر أظنه قال: أعلم مني؟ قال: نعم، قال: ربّ، فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أطلبه؟ قال: على الساحل، عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال: فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكره الله عز وجل وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلّم كلُّ واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أريد أن تستصحبني، قال: لن تطيق صحبتي، قال: بلى، قال: فإن صحبتي " فلا تسألني عن شيء حتى أحْدِثَ لك منه ذِكْرًا، فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقَها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمْرًا، قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا، قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا تُرهقْني من أمري عُسْرًا، فانطلقا حتى إذا لقيا غُلامًا فقتله قال أقتلْتَ نَفْسًا زاكيةً بغير نفْسٍ لقد جئت شيئًا نُكْرًا "، إلى قوله: " لاتّخذت عليه أجرًا ". قال: فكان قول موسى في الجدار لنفسه " لاتّخذت عليه أجرًا " ولطلب شيء من الدنيا، وكان قوله في السفينة وفي الغلام لله عز وجل. " قال هذا فراق بيني وبينك سأُنبِّئك بتأويلِ ما لم تستطعْ عليه صبرًا "، فأخبره بما قال الله: " أما السفينة فكانت لمساكينَ.. " الآية، " وأما الغلام.. " الآية، " وأما الجدارُ.. " الآية. قال: فسار به في البحر حتى انتهى به إلى مجمع البحرين، وليس في الأرض مكان أكثر ماءً منه، قال: وبعث ربك الخُطّاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى: كم ترى هذا الخُطّاف رزأ من هذا الماء؟ قال: ما أقلّ ما رزأ! قال: يا موسى فإنّ علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخُطّاف من هذا الماء. وكان موسى عليه السلام قد حدث نفسه أنه ليس أحدُ أعلمَ منه، أو تكلم به؛ فمن ثَمّ أمِر أن يأتي الخضر. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عُمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، قال: جلست عند ابن عباس وعنده نفرٌ من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا العباس إن نَوْفًا ابن امرأة كعب، ذكر عن كعب أن موسى النبي عليه السلام الذي طلب العالم إنما هو موسى بن منشا. قال سعيد: فقال ابن عباس: أنوْفٌ يقول هذا؟ قال سعيد: فقلت له: نعم، أنا سمعت نوْفًا يقول ذلك، قال: أنت سمعته يا سعيد؟ قال: قلت: نعم، قال: كذب نوْف. ثم قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب عن رسول الله ﷺ أن موسى نبي إسرائيل سأل ربه تبارك وتعالى فقال: أي رب، إن كان في عبادك أحدٌ أعلم مني فادللني عليه، فقال له: نعم في عبادي مٍنْ هو أعلم منك، ثم نعَت له مكانه، وأذن له في لقائه، فخرج موسى عليه السلام ومعه فتاه، ومعه حوت مليح قد قيل له: إذا حَيِيَ هذا الحوت في مكان فصاحبك هنالك، وقد أدركتَ حاجتهم. فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه ذلك الحوت يحملانه، فسار حتى جهده السير، وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء وذلك الماء، ماء الحياة، مَنْ شرب منه خُلِّد، ولا يقاربه شيء ميت إلا أدركته الحياة وحيي. فلما نزلا منزلًا ومسّ الحوتُ الماء حيي، فاتخذ سبيله في البحر سربًا، فانطلق فلما جاوزا بمنقلة قال موسى لفتاه: " آتِنا غَذاءَنا لقد لَقَينا منْ سفرِنا هذا نصَبًا ". قال الفتى وذكر: " أرأيت إذ أويْنا إلى الصخرة فإني نسيتُ الحوتَ وما أنسانيه إلا الشيطان أنْ أذكُرَه واتخذ سبيلَه في البحر عجبًا ". قال ابن عباس: وظهر موسى على الصخرة حتى انتهيا إليه، فإذا رجل متلفّف في كساء له، فسلم عليه موسى، فرد عليه السلام، ثم قال له: ومنْ أنت؟ قال: أنا موسى ابن عمران، قال: صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم أنا ذلك، وما جاء بك إلى هذه الأرض؛ أنْ لك في قومك لشُغْل! قال له موسى: جئتك لتعلّمني مما عُلّمت رشدًا، قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا، وكان رجلًا يعمل على الغيب قد علم ذلك، فقال موسى: بلى، قال: " وكيف تصبر على ما لم تُحط به خُبْرًا "، أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ولم تُحط من علم الغيب بما أعلم. " قال ستجدني إنْ شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمْرًا " وإن رأيتُ ما يخالفني. قال: " فإن اتَّبعْتَني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحْدِثَ لك منه ذِكْرًا "، أي فلا تسألني عن شيء وإن أنكرته حتى أحدث لك منه ذكرًا، أي خبرًا. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرّضان الناس، يلتمسان منْ يحملهما حتى مرّت بهما سفينة جديدة وثيقة، لم يمرّ بهما شيء من السفن أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها، فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما، فلما اطمأنّا فيها، ولجّجت بهما مع أهلها، أخرج منقارًا ومطْرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها، ثم أخذ لوحًا فطبّقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها، قال له موسى: فأي أمر أفظع من هذا! " أخرقتها لتُغرِق أهلها لقد جئت شيئًا إمْرًا "! حملونا وآوونا إلي سفينتهم، وليس في البحر سفينة مثلها، فلم خرقتها! قال: " ألم أقلْ إنك لن تستطيعَ معيَ صبْرًا، قال لا تؤاخذْني بما نسيت "، أي بما تركت من عهدك " ولا ترهِقْني منْ أمْري عُسرًا ". ثم خرجا من السفينة، فانطلقا حتى أتيا أهلَ قرية، فإذا غلمان يلعبون، فيهم غلامٌ ليس في الغلمان غلام أظرفُ ولا اترفُ ولا أوضأ منه، فأخذ بيده وأخذ حجرًا فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله. قال: فرأى موسى أمرًا فظيعًا لا صبْرَ عليه، صبي صغير قتله بغير جناية ولا ذنب له! فقال: " أقتلت نفْسًا زاكية بغير نفسٍ "، أي صغيرة بغير نفس، " لقد جئت شيئًا نُكرًا، قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معيَ صبرًا، قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تُصاحبْني قد بلغتَ منْ لدُنِّي عُذرًا "، أي قد أعذرت في شأني. " فانطلقا حتى أتيا أهلَ قرية استطعما أهلَها فأَبْوا أن يُضيفوهما فوَجَدا فيها جدارًا يريدُ أن ينقضَّ فأقامه:، فهدمه ثم قعد يبينه، فضجر موسى مما رآه يصنع من التكلف لما ليس عليه صبر، فقال: " لو شئت لاتخذت عليه أجرًا " أي قد استطعمناهم فلم يُطعمونا، واستضفناهم فلم يُضيفونا، ثم قعدت تعمل في غير صنيعة، ولو شئت لأعطيت عليه أجرًا في عمله " قال هذا فِراقٌ بيني وبينكً سأُنبِّئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا، أما السفينة فكانت لمساكينَ يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملِكٌ يأخذ كل سفينةٍ - وفي قراءة أبي بن كعب: كلَّ سفينة صالحة - غصبًا "، وإنما عبتها لأردّه عنها، فسلمتْ منه حين رأى العيب الذي صنعتُ بها. " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخَشَيْنا أن يُرهقَهما طُغيَانًا وكُفْرًا، فأردنا أن يُبْدِلُهُما ربُّهُما خيرًا منهُ زكاةً وأقربَ رُحْمًا، وأما الجدارُ فكان لغُلامين يتيمين في المدينةِ وكان تحته كنزٌ لهُما وكان أبُهُما صالحًا " - إلى - " ما لم تستطع عليه صبرًا ". فكان ابن عباس يقول: ما كان الكنز إلا علمًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عُمارة، عن أبيه، عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه! فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى، قال: شرب الفتى من ماء الخلد فخلِّد، فأخذه العالم فطابق به سفينة، ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن شعبة، عن قتادة، قوله: " فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتَهما "، ذُكر لنا أن نبي الله موسى لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون، جمع بني إسرائيل فخطبهم فقال: أنتم خيرُ أهل الأرض وأعلمُهم قد أهلك الله عدوكم، وأقطعكم البحر وأنزل عليكم التوراة، قال: فقيل له: إن ها هنا رجلًا هو أعلم منك قال: فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه، فتزودا مملوحة في مكتل لهما، وقيل لهما: إذا نسيّمًا ما معكما لقيتما رجلًا عالمًا يقال له الخضر، فلما أتيا ذلك المكان، رد الله إلى الحوت روحَه فسرَّب له من الجُدّ حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فجعل لا يسلك فيه طريقًا إلا صار ماء جامدًا، قال: ومضى موسى وفتاه، يقول الله عز وجل: فلما جاوزوا قال لفتاه آتنا غَذاءنا لقد لقِينا من سفرنا هذا نصَبًا " - إلى قوله -: " وعلّمناه منْ لدُنّا عِلمًا "، فلقيا رجلًا عالمًا يقال له الخِضر، فذُكر لنا أن نبي الله قال: إنما سمي الخِضر خضرًا لأنه قعد على فروة بيضاء فاهتزّت به خضراء. فهذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله ﷺ وعن السلف من أهل العلم تنبئ عن أن الخِضرَ كان قبل موسى وفي أيامه، ويدلّ على خطأِ قول من قال: إنه أورميا بن خلقيا، لأن أورميا كان في أيام بختنصّر، وبين عهدي موسى وبختنصّر من المدة ما لا يشكل قدرها على أهل العام بأيام الناس وأخبارهم؛ وإنما قدمنا ذكره وذكر خبره لأنه كان في عهد أفريدون فيما قيل؛ وإن كان قد أدرك على هذه الأخبار التي ذكرت من أمره وأمر موسى وفتاه أيام منُوشهر وملكه، وذلك أن موسى إنما نُبّئ في عهد منوشهر، وكان ملك منوشهر بعد ما ملك جده أفريدون، فكلّ ما ذكرنا من أخبار مَن ذكرنا أخباره من عهد إبراهيم إلى الخبر عن الخضر عليهما السلام، فإن ذلك كله - فيما ذكر - كان في ملك بِيُورَاسب وأفريدون، وقد ذكرنا فيما مضى قبل أخبارَ أعمارهما ومبلغهما ومدة كل واحد منهما. ونرجع الآن إلى الخبر عن منوشهر وأسبابه والحوادث الكائنة في زمانه ثم ملك بعد أفردون بن أثفيان بركاو مِنوشِهر، وهو من ولد ابرَج بن أفريدون. وقد زعم بعضهم أن فارس سميت بمنوشهر هذا، وهو منوشهر كيازيه - فيما يقول نسابة الفرس - بن منشخورنر بن منشخوا ربغ ابن ويرك بن سروشنك بن أبوك بن بتك بن فرزشك بن زشك ابن فركوزك بن كوزك بن إيرَح بن أفريدون بن أثفيان بركاو. وقد ينطق بهذه الأسماء بخلاف هذه الألفاظ. وقد يزعم بعض المجوس أن أفريدون وطئ ابنةً لابنه أيرَح، يقال لها كوشك، فولدت له جارية يقال لها فركوشك، ثم وطئ فركوشك هذه فولدت له جارية يقال لها زوشك، ثم وطئ زوشك هذه، فولدت له جارية يقال لها بيتك، ثم وطئ بيتك هذه فولدت له جارية يقال هل إيرك، ثم وطئ إيرك فولدت له إيزك، ثم وطئ إيزك فولدت له ويرك، ثم وطئ ويرك فولدت له منشخرفاغ. ويقول بعضهم: منشخواربغ وجارية يقال لها: منشجرك، وأن منشخرفاغ وطئ منشجرك فولدت له منشخرنر، وجارية يقال لها منشراروك، وأن منشخرنر وطئ منشراروك فولدت له منوشهر. فيقول بعضهم كان مولده بدُنْباوند. ويقول بعض: كان مولده بالرّي، وإن منشخرنر ومنشراروك لما ولد لهما منوشهر أسرّا أمره خوفًا من طوج وسَلْم عليه، وإن منوشهر لما كبر صار إلى جده أفريدون، فلما دخل عليه توسّم فيه الخير، وجَعل له ما كان جعل لجده إيرج من المملكة، وتوجّه بتاجه. وقد زعم بعض أهل الأخبار أن منوشهر هذا هو منوشهر بن منشخرنر ابن أفريقيس بن إسحاق بن إبراهيم؛ وأنه انتقل إليه الملك بعد أفريدون وبعد أن مضى ألف سنة وتسعمائة سنة واثنتان وعشرون سنة، من عهد جيومرت، واستشهد لحقيقة ذلك بأبيات لجرير بن عطية، وهو قوله. وأبناءُ إسحاقَ اللُّيوثُ إذا ارْتدَوا ** حمائل موتٍ لابسين السَّنوَّرا إذا انتسبوا عدوًّا الصبهبذ منهمُ ** وكسرى وعدوًا الهُرمُوانَ وقَيْصَرا وكان كتابٌ فيهِمُ ونُبُوةٌ ** وكانوا بإصْطخْرَ الملوكَ وتُستَرا فيجمعُنا والغُرَّ أبناء فارس ** أبٌ لا نُبالي بعْدَه مَنْ تأخّرا أبُونا خليلُ اللهِ، واللهُ ربُّنا ** رضينا بما أعطى الإلهُ وقدّرا وأما الفرس فإنها تنكر هذا النسب، ولا تعرف لها مُلْكًا إلا في أولاد أفريدون، ولا تقرُّ بالملك لغيرهم، وترى أن داخلًا إن كان دخل عليهم في ذلك من غيرهم في قديم الأيام - قبل الإسلام -، فإنه دخل فيه بغير حق. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: مَلك طوج وسلْمِ الأرضَ بينهما بعد قتلهما أخاهما إبرَج ثلاثمائة سنة، ثم ملك منوشهر بن إيرَج بن أفريدون مائة وعشرون سنة، ثم إنه وثب به ابن لابن طوج التركي - على رأس ثمانين سنة - فنفاه عن بلاد العراق اثنتي عشرة سنة، ثم أديل منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه، وملك بعد ذلك ثمانيًا وعشرين سنة. قال: وكان منوشهر يُوصف بالعدل والإحسان، وهو أول من خَندق الخنادق، وجمع آلة الحرب، وأول مَنْ وضع الدهقنة فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها له خَولًا وعبيدًا، وألبسهم لباس المذلّة، وأمرهم بطاعته. قال: ويقال إن موسى النبي ﷺ ظهر في سنة ستين من ملكه. وذكر غير هشام أن منوشهر لما ملك تُوِّج بتاج الملك وقال يوم ملك: نحن مقوّون مقاتلينا، ومُعدّوهم للانتقام لأسلافنا، ودفع العدو عن بلادنا. وأنه سار نحو بلاد الترك طالبًا بدم جده إيرَج بن أفريدون، فقتل طوج بن أفريدون وأخاه سَلْمًا، وأدرك ثأره وانصرف، وأن فرَاسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك - الذي تنسب إليه الأتراك، بن شهراسب. ويقال: ابن إرشسب بن طوج بن أفريدون الملك. وقد يقال لفشك فشنج بن زاشمين - حارب منوشهر، بعد أن مضى لقتله طوجًا وسَلْمًا سنوت سنة، وحاصره بطبرِستان. ثم إن منوشهر وفَراسياب اصطلحا على أن يجعلا حدَّ ما بين مملكتيهما منتهى رمْية سهم رجل من أصحاب منوشهر يدعى أرِشبّاطير - وربما خفف اسمه بعضهم فيقول: إيرش - فحيث ما وقع سهمه من موضع رميته تلك مما يلي بلاد الترك فهو الحدُّ بينهما لا يجاوز ذلك واحد منهما إلى الناحية الأخرى. وإن أرشباطير نزع بسهم في قوسه، ثم أرسله - وكان قد أعطى قوة وشدة - فبلغت رميته من طبرِستان إلى نهر بلْخ ووقع السهم هنالك، فصار نهر بلْخ حدَّ ما بين الترك وولد طوج وولد إيرج وعمل الفرس، فانقطع بذلك من رمية أرشباطير حروب ما بين فراسياب ومنوشهر. وذكروا أن منوشهر اشتقّ من الصراة ودِجلة ونهر بلْخ أنهارًا عظامًا. وقيل إنه هو الذي كرا الفُرات الأكبر، وأمر الناس بحراثة الأرض وعمارتها، وزاد في مهنة المقاتِلة الرمي، وجعل الرئاسة في ذلك لأرشباطير لرميتِه التي رماها. وقالوا: إن منوشهر لما مضى من ملكه خمس وثلاثون سنة تناولت الترك من أطراف رعيته، فوبّخ قومه وقال لهم: أيها الناس، إنكم لم تلدوا الناس كلهم، وإنما الناس ناسٌ ما عقلوا من أنفسهم ودفعوا العدو عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم، وليس ذلك إلا من ترككم جهاد عدوكم، وقلة المبالاة، وإن الله تبارك وتعالى أعطانا هذا الملك ليبلوَنا أنشكرُ فيزيدنا، أم نكفر فيعاقبنا! ونحن أهل بيت عز ومعدن الملك لله؛ فإذا كان غدًا فاحضروا، قالوا: نعم واعتذروا، فقال: انصرفوا، فلما كان من الغد أرسلَ إلى أهل المملكة وأشراف الأساورة، فدعاهم وأدخل الرؤساء من الناس، ودعا موْبذ موبذان، فأقعد على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره، وقام أشراف أهل بيت المملكة وأشراف الأساورة على أرجلهم، فقال: اجلسوا فإني إنما قمت لأسمِعَكم كلامي. فجلسوا فقال: أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنه لا أضعف من مخلوق طالبًا كان أو مطلوبًا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، وإن التفكّر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، وقد ورد الأول ولا بد للآخر من اللحاق بالأول، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء بعد ذهاب أصله! وإن الله عز وجل أعطانا هذا الملك فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإن للملك على أهل مملكته حقًّا، ولأهل مملكته عليه حقًا، فحق الملك على أهل المملكة أن يُطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقهم على الملك أن يعطيَهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتَمد لهم على غيرها، وإنها تجارتهم، وحق الرعية على الملك أن ينظر لهم، ويرفُق بهم، ولا يحملهم على ما لا يطيقون، وإن أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم من آفة من السماء أو الأرض أن يُسقط عنهم خراج ما نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوّضهم ما يقوّيهم على عماراتهم، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، وأمْر الجند للملك بمنزله جناحي الطائر، فهم أجنحة الملك متى قُص من الجناح ريشة كان ذلك نقصانًا منه؛ فكذلك الملك إنما هو بجناحه وريشه. ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أولها أن يكون صدوقًا لا يكذب، وأن يكون سخيًا لا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب؛ فإنه مسلَّط ويده مبسوطة، والخراج يأتيه، فيبتغي ألا يستأثر عن جنده ورعيته بما هم أهل له، وأن يكثر العفو؛ فإنه لا ملكَ أبقى من ملك فيه العفو، ولا أهلَك من ملك فيه العقوبة. ألا وإن المرء إن يخطئ في العفو فيعفو، خير من أن يخطئ في العقوبة. فينبغي للملك أن يتثبّت في الأمر الذي فيه قتل النفس وبوارها. وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة فلا ينبغي له أن يحابيَه، وليجمع بينه وبين المتظلّم؛ فإن صحّ عليه للمظلوم حتى خرج إليه منه، وإن عجز عنه أدى عنه الملكُ وردّه إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد؛ فهذا لكم علينا. ألا ومَن سفك دمًا بغير حق، أو قطع يدًا بغير حق، فإني لا أعفو عن ذلك إلا أن يعفُوَ عنه صاحبُه فخذوا هذا عني. وإن الترك قد طعمت فيكم فاكفونا، فإنما تكفون أنفسكم، وقد أمرت لكم بالسلاح والعدة وأنا شريككم في الرأي، وإنما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم. ألا وإن الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف فذلك مملوك ليس بملك. ومهما بلغنا من الخِلاف فإنا لا نقبله من المبُلِغ له حتى نتيقّنه، فإذا صحت معرفة ذلك وإلا أنزلناه منزلة المخالف. ألَا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الأخْذ بالصبر والراحة إلى اليقين؛ فمن قُتِل في مجاهدة العدوّ رجوتُ له الفوز برضوان الله. وأفضل الأمور التسليم لأمر الله والراحة إلى اليقين والرضا بقضائه، وأين المَهْرب مما هو كائن! وإنما يتقلّب في كفّ الطالب، وإنما هذه الدنيا سَفٍر لأهلها لا يحلّون عّقْد الرحال إلا في غيرها؛ وإنما بُلغتهم فيها بالعواري، فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم لمن القضاءُ له! ومن أحقّ بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربًا إلا إليه، ولا معوّلًا إلا عليه! فثقوا بالغلَبة إذا كانت نياتكم أن النصر من الله، وكونوا على ثقة من دَرَك الطلِبة إذا صحت نياتكم. واعلموا أن هذا الملك لا يقوم إلا بالاستقامة وحسن الطاعة وقمع العدوّ وسدّ الثغور والعدل للرعية وإنصاف المظلوم فشفاؤكم عندكم، والدواءُ الذي لا داء فيه الاستقامة، والأمر بالخير والنهي عن الشرّ، ولا قوّة إلا بالله. انظروا للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيها رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبين في زيادة أرزاقكم، وإذا حِفْتم على الرعية زهدوا في العمارة، وعطّلوا أكثر الأرض فنقص ذلك من خراجكم، وتبيّن في نقص أرزاقكم، فتعاهدوا الرعية بالإنصاف؛ وما كان من الأنهار والبثوق مما نَفقة ذلك من السلطان فأسرعوا فيه قبل أن يكثر، وما كان من ذلك على الرعيّة فعجزوا عنه فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا حان أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غَلّاتهم على قدر ما لا يجحف ذلك بهم، رُبْع في كلّ سنة أو ثلث أو نصف، لكيلا يشقّ ذلك عليهم. هذا قولي وأمري يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وخذ في هذا الذي سمعت في يومك؛ أسمعتم أيها الناس! فقالوا: نعم، قد قلت فأحسنت، ونحن فاعلون إن شاء الله: ثم أمر بالطعام فوضع فأكلوا وشربوا، ثم خرجوا وهم له شاكرون. وكان مُلكه مائة وعشرين سنة. كم عندكم، والدواءُ الذي لا داء فيه الاستقامة، والأمر بالخير والنهي عن الشرّ، ولا قوّة إلا بالله. انظروا للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيها رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبين في زيادة أرزاقكم، وإذا حِفْتم على الرعية زهدوا في العمارة، وعطّلوا أكثر الأرض فنقص ذلك من خراجكم، وتبيّن في نقص أرزاقكم، فتعاهدوا الرعية بالإنصاف؛ وما كان من الأنهار والبثوق مما نَفقة ذلك من السلطان فأسرعوا فيه قبل أن يكثر، وما كان من ذلك على الرعيّة فعجزوا عنه فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا حان أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غَلّاتهم على قدر ما لا يجحف ذلك بهم، رُبْع في كلّ سنة أو ثلث أو نصف، لكيلا يشقّ ذلك عليهم. هذا قولي وأمري يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وخذ في هذا الذي سمعت في يومك؛ أسمعتم أيها الناس! فقالوا: نعم، قد قلت فأحسنت، ونحن فاعلون إن شاء الله: ثم أمر بالطعام فوضع فأكلوا وشربوا، ثم خرجوا وهم له شاكرون. وكان مُلكه مائة وعشرين سنة. وقد زعم هشام بن الكلبي فدا حدِّثت عنه أن الرائش بن قيس بن صيفي ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان كان من ملوك اليمن بعد يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ وإخوته، وأن الرائش كان ملكه باليمن أيام ملك منوشهر، وإنه إنما سمي الرائش - واسمه الحارث بن أبي شدد - لغنيمة غنمها من قوم غزاهم فأدخلها اليمن، فسُمي لذلك الرائش، وأنه غزا الهند فقتل بها وسبى وغنم الأموال، ورجع إلى اليمن ثم سار منها، فخرج على جبلَيْ طيئ ثم على الأنبار، ثم على الموصل، وأنه وجّه منها خيله وعليها رجل من أصحابه، يقال له: شمر بن العطاف، فدخل على الترك أرض أذْرَبيجان وهي في أيديهم يومئذ، فقتل المقاتلة وسبى الذريّة، وزَبَر ما كان من مسيره في حجَريْن، فهما معروفان ببلاد أذربيجان. قال: وفي ذلك يقول امرؤ القيس: ألم يُخبرْك أنّ الدهرَ غولٌ ** خَتورُ العهدِ يلتقِمُ الرجالا أزالَ عنِ المصانع ذا ريَاش ** وقد ملك السُّهولةَ والجِبالا وأنشب في المخالب ذا منارٍ ** وللزّرّاد قد نصب الحِبالا قال: وذو منار الذي ذكره الشاعر هو ذو منار بن رائش، الملك بعد أبيه، واسمه أبْرهة بن الرائش، وإنما سمّى ذا منار لأنه غزا بلاد المغرب فوغل فيها برًا وبحرًا، وخاف على جيشه الضلال عند فقوله، فبنى المنار ليهتدوا بها. قال: ويزعم أهلُ اليمن أنه كان وجّه ابنه العبد بن أبرهة في غزوته هذه إلى ناحية من أقاصي بلاد المغرب، فغنم وأصاب مالًا وقدم عليه بَنسْناس لهم خِلَق وحشيّة منكرة، فذعر الناس منهم، فسموه ذا الأذعار. قال: فأبرهة أحدُ ملوكهم الذين توغلوا في الأرض؛ وإنما ذكرتُ منْ ذكرت من ملوك اليمن في هذا الموضع لما ذكرت من قول من زعم أن الرائش كان ملكًا باليمن أيام منوشهر، وأن ملوك اليمن كانوا عمالًا لملوك فارس بها، ومن قبَلهم كانت ولايتهم بها. ذكر نسب موسى بن عمران وأخباره وما كان في عهده وعهد منوشهر بن منشخورنر الملك من الأحداث قد ذكرنا أولاد يعقوب إسرائيل الله وعددهم وموالدهم. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم أن لاوى بن يعقوب نكح نابتة ابنة ماري بن يشخر، فولدت له عَرشون بن لاوى ومرزي بن لاوى - ومردي بن لاوى - وقاهث ابن لاوى. فنكح قاهث بن لاوى فاهى ابنة مسين بن بتويل بن إلياس. فولدت له يصهر بن قاهث، فتزوج يصهر شميث ابنة بتاديت بن بركيا ابن يقسان بن إبراهيم. فولدت له عمران بن يصهر، وقارون بن يصهر، فنكح عمران يحيب ابنة شمويل بن بركيا ين يقسان بن إبراهيم؟ فولدت له هارون بن عمران وموسى بن عمران. وقال غير ابن إسحاق: كان عمرُ يعقوب بن إسحاق مائة وسبعًا وأربعين سنة، وولد لاوى له، وقد مضى من عمره تسع وثمانون سنة، وولد للاوى قاهث بعد أن مضى من عمر لاوى ست وأربعون سنة، ثم ولد لقاهث يصهر، ثم ولد ليصهر عمرم - وهو عمران - وكان عمر يصهر مائة وسبعًا وأربعين سنة، وولد له عمران بعد أن مضى من عمره ستون سنة، ثم ولد لعمران موسى، وكانت أمه يوخابد - وقيل: كان اسمها باختة - وامرأته صفورا ابنة يترون، وهو شعيب النبي ﷺ. وولد موسى جرشون وإبيليعازر، وخرج إلى مدين خائفًا وله إحدى وأربعون سنة، وكان يدعو إلى دين إبراهيم، وتراءى الله بطور سيناء، وله ثمانون سنة. وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته آسية ابنة مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، فرعون يوسف الأول. فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب قد مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان أعتى من قابوس وأكفر وأفجر، وأمِر بأن يأتيَه هو وأخوه هارون بالرسالة. قال: ويقال إن الوليد تزوج آسية ابنة مزاحم بعد أخيه وكان عمر عمران مائة سنة وسبعًا وثلاثين سنة، وولد موسى وقد مضى من عمر عمران سبعون سنة، ثم صار موسى إلى فرعون رسولًا مع هارون، وكان من مولد موسى إلى أن خرج ببني إسرائيل عن مصر ثمانون سنة، ثم صار إلى التيه بعد أن عبّر البحر، فكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة، فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته في التيه مائة وعشرين سنة. وأما ابن إسحاق فإنه قال فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قبض الله يوسفَ، وهلَك الملك الذي كان معه الريان بن الوليد، وتوارثت الفراعنة من العماليق ملْك مصر، فنشر الله بها بني إسرائيل، وقبر يوسف حين قبض - كما ذكر لي - في صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء، فلم يزل بنو إسرائيل تحت أيدي الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم شرعوا فيهم من الإسلام، متمسّكين؛ به حتى كان فرعون موسى الذي بعثه الله إليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى منه على الله ولا أعظم قولًا ولا أطول عمرًا في ملكه منه. وكان اسمه - فيما ذكروا لي - الوليد بن مصعب، ولم يكن من الفراعنة فرعون أشدّ غلظة، ولا أقسى قلبًا، ولا أسوأ ملكة لبني إسرائيل منه، يعذّبهم فيجعلهم خدَمًا وخولًا، وصنّفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يحرِثون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومَنْ لم يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية، فسامهم كما قال الله: " سوءَ العذابِ "، وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم لا يريدون فراقَه، وقد استنكح منهم امرأة يقال لها آسية ابنة مزاحم، من خيار النساء المعدودات، فعمِّر فيهم وهم تحت يديه عمرًا طويلًا يسومهم سوء العذاب، فلما أراد الله أن يفرج عنهم وبلغ موسى الأشُدّ أعطى الرسالة. قال: وذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجّمو فرعون وحُزاته إليه، فقالوا: تعلّم أنا نجد في علمنا أو مولودًا من بني إسرائيل قد أظلّك زمانه الذي يُولد فيه، يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدّل دينك. فلما قالوا له ذلك أمر بقتل كلّ مولود يولد من بني إسرائيل من الغِلمان وأمر بالنساء يُستحْيًين، فجمع القوابل من نساء أهل مملكته فقال لهن: لا يسقطنَّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلا قتلتموه، فكنّ يفعلن ذلك، وكان يذبح مَنْ فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذَّبن حتى يطرحن ما في بطونهنّ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: لقد ذُكر لي أنه كان يأمر بالقصب فيُشقّ حتى يجعل أمثال الشفار، ثم يصفّ بعضه إلى بعض، ثم يأتي بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحزّ أقدامهنّ، حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع بين رجليها، فتظلَّ تطؤُه تَتَّقِي به حزّ القصب عن رجليها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك، وكاد يُفنيهم، فقيل له: أفنيتَ الناس، وقطعت النَّسل، وإنهم خَولك وعُمَّالك. فأمر أن يقتَل الغلمان عامًا ويستحيوا عامًا، فولد هارون في السنة التي يَستَحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يُقتلون، فكان هارون أكبرَ منه سنة. وأما السدي فإنه قال ما حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ أنه كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه أن نارًا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القِبْط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة، فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت المقدس - رجل يكون على وجهه هلاكُ مصر. فأمر ببني إسرائيل ألّا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا يولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجًا فأدخلوهم واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم وأدخلوا غلمانهم، فذلك حين يقول الله: " إنّ فرعون علا في الأرضِ " يقول " تجبَّر في الأرض، " وجعل أهلها شيعًا " - يعني بني إسرائيل حين جعلهم في الأعمال القذرة - " يَسْتضعفُ طائفةً منهمْ يُذَبِّحُ أبناءَهُم "، فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، فلا يكبر الصغير، وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموتَ، فأسرع فيهم، فدخل رؤوس القبط على فرْعون فكلّموه، فقالوا: إن هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت، فيوشِك أن يقع العمل على غلماننا نذبح أبناءهم فلا يبلغ الصغار، ويفنى الكبار، فلو أنك تبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة؛ فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون فترك، فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت أم موسى بموسى فلما أرادت وضعَه حزنت من شأنه، فأوحى الله إليها: " أن أرضعيه فإذا خِفْتِ عليه فألقيه في اليمِّ " وهو النيل، " ولا تخافِيْ ولا تحزَني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه مِنَ المُرْسلين ". فلما وضعته أرضعته، ثم دعت له نجارًا فجعل له تابوتًا وجعل مفتاح التابوت من داخل، وجعلته فيه وألقته في اليم، " وقالتْ لأختِهِ قُصِّيهِ " تعني قُصِّي أثره " فبصُرَت به عن جُنُب وهمْ لا يشْعُرونَ "، أنها أخته. فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة، ويخفضه أخرى، حتى أدخله بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن، فوجدن التابوت فأدخلته إلى آسية، وظنن أن فيه مالًا، فلما نظرت إليه آسية وقعت عليه رحمتُها وأحبته. فلما أخبَرت به فرعون أراد أن يذبحه، فلم تزل آسية تكلِّمه حتى تركه لها، قال: إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، فذلك قول الله تعالى: " فالتقطَه آلُ فِرعونَ ليكونَ لهُمْ عدوًّا وحَزَنًا ". فأرادوا له المرضعات، فلم يأخذْ من أحد من النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع، فأبى أن يأخذ، فذلك قول الله: " وحرَّمْنا عليهِ المراضِعَ مِنْ قبْلُ فقالتْ " أخته " هل أدلُّكُم على أهل بيتٍ يَكْفَلُونَهُ لكُم وهُمْ لهُ ناصِحون "، فأخذوها، وقالوا: إنكِ قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت: ما أعرفه، ولكني إنما قلت: هم للملك ناصحون. ولما جاءت أمه أخذ منها ثديها فكادت أن تقول: هو ابني! فعصمها الله، فذلك قول الله: " إن كادتْ لَتُبْدي بهِ لولا أن ربطْنا على قلبِها لِتكونَ مِنَ المؤمنين "، وإنما سُمِّي موسى لأنهم وجدوه في ماء وشجر، والماء بالقبطة " مو " والشجر " شا " فذلك قول الله عز وجل: " فرددناه إلى أمّه كي تقرَّ عينُها ولا تخزّن ". فاتخذه فرعون ولدًا فدعيَ ابن فرعون. فلما تحرك الغلام أرته أمه آسية صبيًّا، فبينما هي ترقّصه وتلعب به إذ ناولته فرعون، وقالت: خذه قرة عين لي ولك، قال فرعون: هو قرة عين لك ولا لي. قال عبد الله بن عباس: لو أنه قال وهو لي قرة عين إذًا لآمن به؛ ولكنه أبى، فلما أخذه إليه أخذ موسى بلحيته فنتفها، فقال فرعون: علي بالذباحين، هذا هو! قالت آسية: " لا تقتلوه عسى أنْ ينفَعَنا أوْ نتَّخِذه ولدًا "، إنما هو صبي لا يعقل؛ وإنما صنع هذا من صباه، وقد علمت أنه لي سفي أهل مصر امرأة أحلى مني؛ أنا أضع له حليًا من الياقوت، وأضع له جمرًا، فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه، وإن أخذ الجمر فإنما هو صبي، فأخرجت له ياقوتها فوضعت له طستًا من جمر، فجاء جبرئيل فطرح في يده جمرة فطرحها موسى في فيه فأحرق لسانه، فهو الذي يقول الله عز وجل: " واحلًلْ عُقْدَةً من لساني، يفقهوا قَوْلِي ". فزالت عن موسى من أجل ذلك. وكبر موسى فكان يركب مراكب فرعون، ويلبس مثل ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى بن فرعون. ثم إن فرعون ركب مركبًا وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها مَنْف، فدخلها نصف النهار، وقد تغلقت أسواقها، وليس في طرقها أحد، وهو قول الله عز وجل: " ودخلَ المَديْنةَ على حِيْنِ غَفْلةٍ مِنْ أهلها فوجدَ فيها رجُلينِ يقتتلان هذا من شيعته " يقول: هذا من بني إسرائيل، " وهذا منْ عدوّه " يقول: من القبط " فاستغاثه الذي من شيعتِه على الذي من عدوِّه فوكزَهُ موسى فقضيَ عليهِ قال هذا من عملِ الشيطانِ إنّه عدوٌ مضِلٌ مُبينٌ، قال ربِّ إنّي ظَلمْتُ نفسِي فاغفرْ لي فغَفَرَ له إنه هوَ الغفور الرحيمُ، قال ربِّ بما أنعمت علي فلنْ أكونَ ظهيرًا للمُجْرمينَ، فأصبح في المدينة خائفًا يترقب " خائفًا أن يؤخذ، " فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه " يقول: يستغيثه " قال له موسى إنّك لغويٌ مبينٌ ". ثم أقبل موسى لينصره، فلما نظر إلى موسى قد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الإسرائيلي، قال الإسرائيلي وفرِق من موسى أن يبطش به من أجل أنه أغلظ الكلام - يا موسى " أتريدُ أنْ تقتلَني كما قتلت نفْسًا بالأمسِ إنْ تريدُ إلا أن تكونَ جبّارًا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ". فتركه وذهب القبطي، فأفشى عليه أن موسى هو الذي قتل الرجل، فطلبه فرعون وقال: خذوه فإنه صاحبنا، وقال للذين يطلبونه: اطلبوه في بُنيّات الطريق، فإن موسى غلام لا يهتدي إلى الطريق، وأخذ موسى في بنيّات الطريق وجاءه الرجل وأخبره " إنّ الملأَ يأتمرون بك ليقتلوكَ فاخْرج إنّي لك من الناصحين، فخرجَ منها خائفًا يترقب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين ". فلما أخذ موسى في بنيات الطريق جاءه ملك على فرس بيده عنزةٌ، فلما رآه موسى سجد له من الفرق؛ فقال: لا تسجد لي، ولكن اتبعني، فاتبعه فهداه نحو مدين، وقال موسى وهو متوجه نحو مدين " عسى ربي أنْ يهديَني سواءَ السبيل "، فانطلق به الملك حتى انتهى به إلى مدين حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا أصبع بن زيد الجُهني، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني سعيد ابن جبير، قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله لموسى: " وفتنّاك فُتُونًا "، فسألته عن الفتون ما هي؟ فقال لي: استأنف النهار يا بن جبير، فإن لها حديثًا طويلًا، قال: فلما أصبحت عذوت على ابن عباس لأنتجز منه فأوعدني. قال: فقال ابن عباس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيم من أن يجعلَ في ذريته أنبياء وملوكأً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكّون، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم، قال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فائتمروا بينهم، وأجمعوا أمرَهم على أن يبعث رجالًا معهم الشِّفار، يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يُذبحون قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كلّ مولود ذكر، فيقلّ أبناؤهم؛ ودعوا عامًا لا تقتلوا منهم أحدًا، فيشبّ الصغار مكان مَنْ يموت من الكبار؛ فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يقلّوا بمن تقتلون. فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى فوقع في قلبها الهمّ والحزن - وذلك من الفُتون يا ابن جبير - مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها: " ألا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليكِ وجاعلوه من المرسَلين ". وأمرَها إذا ولدته أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليمّ. فلما ولدته فعلت ما أمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني؟ لو ذبح عندي فواريته وكفّنته كان أحبّ إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابّه. فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فُرضة مستَقى جواري آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهنّ لبعض: إن في هذا مالًا؛ وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئًا حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه الغلام، فألقى عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس، " وأصبحَ فُؤادُ أمِّ موسى فارِغًا " من ذكر كلّ شيء، إلا من ذكر موسى. فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بسفارهم يريدون أن يذبحوه - وذلك من الفتُون يا بن جبير - فقالت: للذباحين: انصرفوا، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، فآتي فرعون فاستوهبه إياه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم. فلما أتت به فرعون قالت: " قُرّة عينٍ لي ولك لا تقتُلوه "، قال فرعون: يكون لكِ، فأما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله ﷺ: " والذي يُحْلَف به، لو أقرّ فرعون أن يكونَ له قرة عين كما أقرت به لهداه الله به، كما هدى امرأته، ولكن الله حرمه ذلك ". بآجالهم، وأن الصغار يُذبحون قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كلّ مولود ذكر، فيقلّ أبناؤهم؛ ودعوا عامًا لا تقتلوا منهم أحدًا، فيشبّ الصغار مكان مَنْ يموت من الكبار؛ فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يقلّوا بمن تقتلون. فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى فوقع في قلبها الهمّ والحزن - وذلك من الفُتون يا ابن جبير - مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها: " ألا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليكِ وجاعلوه من المرسَلين ". وأمرَها إذا ولدته أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليمّ. فلما ولدته فعلت ما أمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني؟ لو ذبح عندي فواريته وكفّنته كان أحبّ إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابّه. فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فُرضة مستَقى جواري آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهنّ لبعض: إن في هذا مالًا؛ وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئًا حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه الغلام، فألقى عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس، " وأصبحَ فُؤادُ أمِّ موسى فارِغًا " من ذكر كلّ شيء، إلا من ذكر موسى. فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بسفارهم يريدون أن يذبحوه - وذلك من الفتُون يا بن جبير - فقالت: للذباحين: انصرفوا، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، فآتي فرعون فاستوهبه إياه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم. فلما أتت به فرعون قالت: " قُرّة عينٍ لي ولك لا تقتُلوه "، قال فرعون: يكون لكِ، فأما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله ﷺ: " والذي يُحْلَف به، لو أقرّ فرعون أن يكونَ له قرة عين كما أقرت به لهداه الله به، كما هدى امرأته، ولكن الله حرمه ذلك ". فأرسلت إلى مَنْ حولها من كلّ أنثى لها لبن لتختار له ظئرًا، فجعل كلّما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموتَ، فحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق، مجمع الناس ترجو أن تُصيب له ظئرًا يأخذ منها، فلم يقبل من أحد، وأصبحت أمّ موسى فقالت لأخته قصّيه واطلبيه هل تسمعين له ذكرًا! أحي ابني أم قد أكلتْه دوابّ البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها، فبصُرت به أخته عن جُنب وهم لا يشعرون، فقالت من الفرح حين أعياهم الظئورات: " هل أدلّكم على أهل بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون ". فأخذوها فقالوا: وما يدريكِ ما نصحهم له! هل تعرفينه؟ حتى شكّوا في ذلك - وذلك من الفتون يا ابن جبير - فقالت: نصحُهم له، وشفقتهم عليه، ورغبتُهم في ظئورة الملك، ورجاءُ منفعته. فتركوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، فانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أنْ قد وجدنا لابنك ظئرًا، فأرسلت إليها فأتيت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي عندي تُرضعين ابني هذا فإني لم أحبّ حبَّه شيئًا قطّ. قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابتْ نفسُك أن تعطينيه فأذهب إلى بيتي، فيكون معي لا آلوه خيرًا فعلت، وإلا فإني غيرُ تاركة بيتي وولدي. وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده، فرجعت بابنها إلى بيتها منْ يومها، فأنبته الله نباتًا حسنًا، وحفظه لما قضي فيه، فلم تزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسُّخَر التي كانت فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريد أن تريني موسى، فوعدتها يومًا تريها إياه فيه، فقالت لحواضنها وظئورها وقهارمتها: لا يبقينّ أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة، ليرى ذلك، وأنا باعثة أمينة تحصى ما يصنع كلّ إنسان منكم. فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها بجّلته وأكرمته وفرحت به وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه، وقالت: انطلقن به إلى فرعون فليبجّله وليكرمه. فلما دخلن به على فرعون وضعنَه في حجره، فتناول موسى لحية فرعون حتّى مدها، فقال: عدو من أعداء الله! ألا ترى ما وعدَ الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك! فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه - وذلك من الفتون يا بن جبير - بعد كلِّ بلاء ابتلى به وأريد به. فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبتَه لي؟ قال: ألا ترينه يزعم أنه سيصرعني ويعلُوني! فقالت: اجعل بيني وبينك أمرًا يعرف فيه الحق؛ أئت بجمرتين ولؤلؤتين فقرّبهن إليه، فإنْ بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت انه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين فاعلم أن أحدًا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرّب ذلك إليه فتناول الجمرتين فنزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى! فصرفه الله عنه بعد ما كان قد همّ به، وكان الله بالغًا فيه أمره، فلما بلغ أشدّه وكان من الرجال لم يكن أحدٌ من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كلّ امتناع، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان؛ أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتد غضبُه لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قبل الرضاعة غير أم موسى؛ إلا أن يكون الله عز وجل أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز الفرعوني فقتله، وليس يراهما إلا الله عز وجل والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: " هذا مِنْ عملِ الشيطان إنه عدوٌّ مضِلٌ مبينٌ "، ثم قال: " رب إني ظلمْت نفْسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ". فأصبح في المدينة خائفًا يترقب الأخبار، فأتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلًا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا، ولا ترخّص لهم في ذلك، فقال: ابغوني قاتله، ومن يشهد عليه؛ لأنه لا يستقيمُ أن نقضي بغير بيّنة ولا ثبت. فطلبوا ذلك، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذ مرّ موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيًا، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندِم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: " إنّك لغويٌ مبينٌ ". فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له: " إنك لغوي مبين "، أن يكون إياه أراد - ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني - فخاف الإسرائيلي فحاجز الفرعوني، وقال: يا موسى " أتريد أنْ تقتُلَني كما قتلْتَ نفْسًا بالأمسِ "! وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا، فانطلق الفرعوني إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر، حين يقول: " أتريد أن تقتلني كما قتلْت نفْسًا بالأمْسِ "! فأرسل فرعون الذباحين، وسلك موسى الطريق الأعظم وطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجلٌ من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر؛ وذلك من الفتون يا بن جبير. ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيًا، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندِم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: " إنّك لغويٌ مبينٌ ". فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له: " إنك لغوي مبين "، أن يكون إياه أراد - ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني - فخاف الإسرائيلي فحاجز الفرعوني، وقال: يا موسى " أتريد أنْ تقتُلَني كما قتلْتَ نفْسًا بالأمسِ "! وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا، فانطلق الفرعوني إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر، حين يقول: " أتريد أن تقتلني كما قتلْت نفْسًا بالأمْسِ "! فأرسل فرعون الذباحين، وسلك موسى الطريق الأعظم وطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجلٌ من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر؛ وذلك من الفتون يا بن جبير. ثم رجع الحديث إلى حديث السدي. قال: " فلما وردَ ماء مدْينَ وجدَ عليهِ أمَّهُ من الناس يسقُونَ " يقول: كثرة من الناس يسقون. وقد حدثنا أبو عمار المروزي، قال: حدثنا الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: خرج موسى من مصر إلى مدين، وبينهما مسيرة ثمان ليال - قال: وكان يقال نحو من الكوفة إلى البصرة - ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فخرج حافيًا، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه. حدثنا أبو كريب، حدثنا عثّام، قال: حدثنا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بنحوه. رجع الحديث إلى حديث السدي. " ووجد من دونهمُ امرأتين تذودانِ " يقول: تحبسان غنمهما، فسألهما: " ما خطبُكما قالتا لا نسقي حتى يُصدِر الرِّعاءُ وأبونا شيخٌ كبيرٌ "، فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة على البئر، كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها، فسقى لهما موسى دلوًا فأروتا غنمهما، فرجعتا سريعًا، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض، ثم تولّى موسى إلى ظلّ شجرة من السَّمُر فقال: " رب إني لِما أنْزلْتَ إليَّ من خيرٍ فقيرٌ "، قال: قال ابن عباس: لقد قال موسى، ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خُضْرة أمعائه من شدة الجوع ما يسأل الله إلا أكلة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكّام بن سلْم، عن عنبسة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله عز وجل: " ولمّا وردَ ماءَ مدْينَ "، قال: ورد الماء وإنه ليتَراءى خضرة البقل في بطنه من الهُزال فقال: " ربّ إني لِما أنزلْتَ إلي من خيرٍ فقيرٌ " قال: شبْعة. رجع الحديث إلى حديث السدي. فلما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعًا، سألهما فأخبرتاه خبر موسى، فأرسل إحداهما فأتته " تمشي على استحياءٍ " - وهي تستحيي منه -، " قالت إنّ أبي يدعوكَ ليجزيَك أجْر ما سقيتَ لَنا " فقام معها، وقال لها: امضي، فمشتْ بين يديه، فضربتْها الريح فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت، فلما أتى الشيخ " وقصَّ عليه القَصَصَ قال لا تخفْ نجوْتَ من القوْمِ الظَّالمينَ، قالت إحداهما يا أبتِ استأجرْه إنّ خيرَ من استأجرْتَ القويُّ الأمينُ ". وهي الجارية التي دعته. قال الشيخ: هذه القوة قد رأيت حين اقتلع الصخرة، أرأيت أمانته ما يدريك ما هي؟ قالت: إني مشيت قدامه فلم يحبّ أن يخونني في نفسي، وأمرني أن أمشيَ خلفه، قال له الشيخ: " إني أريدُ أن أنكحك إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجُرَني " - إلى - " أيَّما الأجلين قضيْتَ "، إما ثمانيًا وإما عشرًا، " واللهَ على ما نقولُ وكيل ". قال ابن عباس: الجارية التي دعته هي التي تزوج بها. فأمر إحدى ابنتيه أن تأتيَه بعصا فأتته بعصا، كانت تلك العصا عصا استودعها إياه ملَك في صورة رجل، فدفعها إليه. فدخلت الجارية فأخذت العصا فأتته بها، فلما رآها الشيخ قال لها: لا، ائتيه بغيرها، فألقتها، فأخذت تريد أن تأخذ غيرَها فلا يقع في يدها إلا هي، وجعل يرددها، فكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها، فلما رأى ذلك عمد إليها فأخرجها معه، فرعى بها. ثم إن الشيخ قدم وقال: كانت وديعة. فخرج يتلقى موسى فلما لقيه قال: أعطني العصا، فقال موسى: هي عصاي، فأبى أن يعطيَه، فاختصما بينهما ثم تراضيا أن يجعل بينهما أولَ رجُل يلقاهما، فأتاهما ملك يمشي فقضى بينهما فقال: ضعاها في الأرض فمن حمَلها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، وأخذها موسى بيده فرفعها، فتركها له الشيخ، فرعى له عشر سنين. قال عبد الله بن عباس: كان موسى أحقّ بالوفاء. حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا الحُميدي عبد الله ابن الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ قال: " سألت جبرئيل: أي الأجلين قّضّى موسى؟ قال أتمهما وأكملهما ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني اين إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي يهودي بالكوفة - وأنا أتجهز للحج -: إني أراك رجلًا يتبع العلم، أخبرني أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم وأنا الآن قادم على حَبْر العرب - يعني ابن عباس - فسأسأله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول البهودي، فقال ابن عباس: قضى أكثرَهما وأطيبَهما؛ إن النبي إذا وعد لم يُخلف. قال سعيد: فقدمت العراق فلقيت اليهودي فأخبرته، فقال: صدق، وما أنزل الله على موسى هذا. والله العالم. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبع بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: سألني رجل من أهل النصرانية: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم - وأنا يومئذ لا أعلم - فلقيت ابن عباس، فذكرت له الذي سألني عنه النصراني، فقال: أما كنت تعلم أن ثمانيًا واجبة عليه، لم يكن نبي لينقص منها شيئًا، وتعلم أن الله كان قاضيًا عن موسى عدتَه التي وعده، فإنه قضى عَشر سنين. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان الذماري، عن شعيب الجَبَاني قال: اسم الجاريتين ليا وصفورة، وامرأة موسى ابنة يترون، كاهن مدين، والكاهن حَبْر. حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو ابن مرّة، عن أبي عُبيدة، قال: كان الذي استأجر موسى يترون، ابن أخي شعيب النبي. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن أبي جمْرة، عن ابن عباس، قال: الذي استأجر موسى اسمه يثرى صاحب مدين. حدثني إسماعيل بن الهيثم أبو العالية، قال: حدثنا أبو قتيبة، عن حماد بن سلمة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: اسم أبي امرأة موسى يثرى. رجع الحديث إلى حديث السدي. " فلما قضَى مُوسى الأجَلَ وسار بأهله " فضلّ الطريق. قال عبد الله بن عباس: كان في الشتاء، ورفعت له نار، فلما ظن أنها نار 0وكانت من نور الله - " قال لأهله امكُثوا إنّي آنستُ نارًا لعلِّي آتيكمْ منها بخبرِ "، فإن لم أجد خبرًا أتيتُكم منها بشهاب قَبَس، " لعلّكم تصطَلون " - قال: من البرد - فلما أتاها نُودِيَ من شاطئِ الوادي الأيْمن في البُقْعَةِ المُبارَكة من الشجرة ". " أَنْ بُورِك مِنْ في النَّار ومَنْ حولها ". فلما سمع موسى النداء فزع وقال: الحمد لله رب العالمين. فنودي: " يا موسى إني أنا اللهُ ربّ العالمين ". وما تلك بيمينك يا موسى، قال هيَ عصايَ أتوكأ عليْها وأهُشُّ بها على غنمي "، يقول أضرب بها الورق، فيقع للغنم من الشجر " وليَ فيها مآرِبُ أُخْرى "، يقول: حوائج أخرى أحمل عليها المزود والسقاء، فقال له: " ألقِها يا موسى، فألقاها فإذا هيَ حيّةٌ تسْعى ". " فلما رآها تهتزُّ كأنّها جانٌ ولَّى مُدْبِرًا ولم يعقّب "، يقول: لم ينتظر. فنودي: " يا موسى لا تخف إني لا يخافُ لديَّ المرسَلون ". " أقْبِل ولا تخَفْ إنّك من الآمنين "، " واضمُم إليكَ جَناحَك من الرَّهْبِ فذانِكَ بُرهانانِ مِنْ ربِّك " العصا واليد آيتان، فذلك حين يدعو موسى ربه، فقال: " ربّ إني قتلْت منهُم نفسًا فأخاف أنْ يقتُلونِ، وأخي هارون هو أفصح منّي لسانًا فأرسله معيَ رِدءًا يُصَدِّقُني "، يقول: كما يصدقني " إني أخافُ أن يكذّبونِ " قال " " ولهم علي ذنبٌ فأخافُ أن يقتلونِ " - يعني بالقتيل - " سنشُدُّ عَضُدَكَ بأخيك ونجعلُ لكُما سلْطانًا " - والسلطان الحجة - " فلا يَصِلُونَ إليكما بآياتنا ومَنْ اُتَّبعَكُما الغالِبونَ "، " فاْتيا فرعونَ فقولا إنّا رسولُ الله ربِّ العالمينَ ". حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة: " فلمّا قضَى موسى الأجَلَ "، خرج - فيما ذكر لي ابن إسحاق، عن وهب بن منبّه اليماني - فيما ذكر له - عنه، ومعه غنم له، ومعه زند له وعصاه في يده يهشّ بها على غنمه نهاره، فإذا أمسى اقتدح بزنده نارًا، فبات عليها هو وأهله وغنمه، فإذا أصبح إذا بأهله وبغنمه يتوكأ على عصاه، وكانت - كما وُصف لي عن وهب بن منبّه - ذات شعبتين في رأسها، ومحجن في طرفها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عمن لا يتّهم من أصحابه، أن كعب الأحبار قدم مكة وبها عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال كعب: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم فإنه عالم، سلوه عن شيء من الجنة وضعه الله للناس في الأرض، وسلوه ما أول ما وضع في الأرض؟ وما أول شجرة غرست في الأرض؟ فسئل عبد الله عنها فقال: أما الشيء الذي وضعه الله للناس في الأرض من الجنة فهو هذا الركن الأسود، وأما أول ما وضع في الأرض فبرهوت باليمن يردُه هام الكفار، وأما أول شجرة غرسها الله في الأرض فالعوسجة التي اقتطع منها موسى عصاه. فلما بلغ ذلك كعبًا قال: صدق الرجل، عالم والله! قال: فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامَته، وابتدأه فيها بنبوته وكلامه، أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، فأخرج زنده ليقدح نارًا لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح، ويعلم وجه سبيله، فأصلد عليه زنده فلا يورى له نارًا، فقدح حتى إذا أعياه لاحت النار فرآها، " فقال لأهله امكُثوا إني آنست نارًا لعلي أتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدىً "، بقبس تصطلون، وهدى: عن علم الطريق الذي أضللنا بنعت من خبير. فخرج نوها، فإذا هي في شجرة من العُلَّيق. وبعض أهل الكتاب يقول: في عوْسجة، فلما دنا استأخرت عنه، فلما رأى استئخارها رجع عنها، وأوجس في نفسه منها خيفة، فلما أراد الرجعة منتْ منه، ثم كلّم من الشجرة، فلما سمع الصوت استأنس، وقال الله: يا موسى " اخلعْ نعليك إنك بالوادِ المقدَّس طُوىً ". فألقاهما ثم قال: " ما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهُشُّ بها على غنمي ولي فيها مآربُ أخرى "، أي منافع أخرى، " قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى " قد صار شعبتاها فمها وصار محجنها عُرفًا لها، في ظهر تهتز، لها أنياب، فهي كما شاء الله أن تكون. فرأى أمرًا فظيعًا فولى مدبرًا ولم يعقّب، فناداه ربه: أن يا موسى أقبل ولا تخف، " سنعيدها سيرتَها الأولى "، أي سيرتها عصا كما كانت. قال: فلما أقبل قال: " خذها ولا تخف "، وأدخل يدك في فمها، وعلى موسى جبّة من صوف، فلفّ يده بكمّه وهو لها هائب، فنودي أن ألق كمك عن يدك، فألقاه عنها، ثم أدخل يده بين لحيَيْها، فلما أدخلها قبض عليها فإذا هي عصاه في يده، ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها، ومحجنها بموضعه الذي كان لا ينكر منها شيئًا. ثم قيل: " أدخلْ يدَك في جيبك تخرُجْ بيضاءَ من غير سوء " أي من غير بَرَص - وكان موسى عليه السلام رجلًا آدم أقنى جَعْدًا طُوالًا - فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردّها في جيبه، فخرجت كما كانت على لونه، ثم قال: " فذانِكَ بُرهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوْمًا فاسقين، قال رب إني قتلت منهم نفسًا فأخاف أنْ يقتلونِ، وأخي هارون هو أفصح منّي لسانًا فأرسله معيَ رداءً يُصدِّقني "، أي يبين لهم عني ما أكلّمهم به، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون. " قال سنشدُّ عَضُدَكَ بأخيكَ ونجعلُ لكما سلطانًا فلا يَصِلون إليكما بآياتنا أنتما ومَنِ اتبعَكُما الغالبون ". رجع الحديث إلى حديث السُّدي. فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلًا، فتضيّف على أمه وهو لا يعرفهم، فأتاهم في ليلة كانوا يأكلون الطَّفَيْشَل، فنزل في جانب الدار، فجاء هارون فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف، فدعاه معه فأكل معه، فلما قعدا تحدثا، فسأله هارون: منْ أنت؟ قال: أنا موسى، فقام كلّ واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه، فلما أن تعارفا قال له موسى: يا هارون انطلق معي إلى فرعون، إن الله قد أرسلنا إليه، فقال هارون: سمعٌ وطاعة، فقامت أمّهما فصاحت وقالت: أنشدكما الله ألّا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا. فانطلقا إليه ليلًا، فأتيا الباب فضرباه ففزع فرعون، وفزع البواب، وقال فرعون: مَنْ هذا الذي يضرب بابي في هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب، فكلّمهما، فقال له موسى: " إني رسولُ ربّ العالمين " ففزع البواب فأتى فأخبره فقال: إن ها هنا إنسانًا مجنونًا يزعم أنه رسول ربّ العالمين، قال: أدخله، فدخل فقال: إني رسول رب العالمين؛ أن أرسل معي بني إسرائيل، فعرفه فرعون فقال: " ألم نربّك فينا وليدًا ولبِثْت فينا من عُمُرِكَ سنين، وفعلْت فَعْلَتك التي فعلت وأنت مِنَ الكافرين ". معنا على ديننا هذا الذي تعيب! " قال فعلْتُها إذًا وأنا من الضالّين، ففرَرْتُ منكم لمّا خِفْتُكُم فوهبَ لي ربّي حُكمًا " - والحكم النبوة - " وجعلني مِنَ المرسَلين، وتلك نِعْمةٌ تمِنُّها عليَّ أن عبَّدْتَ بني إسرائيل " وربيتني قبل وليدًا! " قال فرعونُ وما رب العالمينَ ". " فمَنْ ربُّكما يا موسى، قال ربُّنا الَّذي أعطى كلَّ شيء خلْقَهُ ثمَّ هدى ". يقول: أعطى كل دابة زوجها ثم هدى للنكاح، ثم قال له: " إنْ كنْت جِئْتَ بآيةٍ فأت بها إنْ كنت من الصادقينَ "، وذلك بعدما قال له من الكلام ما ذكر الله تعالى. قال موسى: " أوَ لوْ جئتك بشيءٍ مبينٍ، قال فأت به إن كنْتَ من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثُعبانٌ مبينٌ " - والثعبان الذكر من الحيّات - قاتحة فاها، واضعة لحْيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رآها ذعر منها ووثب، فأحدث - ولم يكن يُحدث قبل ذلك - وصاح: يا موسى خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل. فأخذها موسى فعادت عصا، ثم نزع يده وأخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء للناظرين. فخرج موسى من عنده على ذلك، وأبى فرعون أن يؤمن به، أو يرسل معه بني إسرائيل، وقال لقومه: " يا أيها الملأُ ما علمْتُ لكم مِنْ إلهٍ غيري فأوقِدْ لِيَ يا هامان على الطين فاجعلْ لي صَرْحًا لعلِّي أطَّلعُ إلى إله موسى ". فلما بني له الصرح ارتقى فوقه؛ فأمر بنُشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه، وهي ملطخة دمًا، فقال: قد قتلت إله موسى. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فأوقد لي يا هامان على الطينِ "، قال: كان أول مَنْ طبخ الآجرّ يبني به الصرح. وأما ابن إسحاق، فإنه قال ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرج موسى لما بعثه الله عز وجل حتى قدم مصر على فرعون هو وأخوه هارون، حتى وقفا على باب فرعون يلتمسان الإذن عليه، وهما يقولان: إنا رسولا رب العالمين، فآذنوا بنا هذا الرجل. فمكثا - فيما بلغنا - سنتين يغدوان على بابه، ويروحان لا يعلم بهما، ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما، حتى دخل عليه بطّال له يلعّبه ويضحكه، فقال له: أيها الملك، إنّ على الباب رجلًا يقول قولًا عجيبًا، يزعم أن له إلهًا غيرُك، قال: أدْخلوه، فدخل ومعه هارون أخوه، وبيده عصاه، فلما وقف على فرعون قال له: إني رسول رب العالمين، فعرفه فرعون فقال: " ألم نربِّك فينا وليدًا ولبِثْت فينا من عُمُرك سنين، وفعلْتَ فَعْلَتَكَ التي فعلْتَ وأنْتَ من الكافرين، قال فَعْلتُها إذًا وأنا من الضالّين " أي خطأ لا أريد ذلك. ثم أقبل عليه موسى ينكر عليه ما ذكر من يده عنده، فقال: " وتلك نِعمةٌ تمُنُّها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل "! أي اتخذتهم عبيدًا تنزع أبناءهم من أيديهم، فتسْترقّ منْ شئت، وتقتل من شئت. إني إنما صيّرني إلى بيتك وإليك ذلك. " قال فرعون وما رب العالمين "، أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، أي ما إلهك هذا! " قال رب السموات والأرض وما بينهما إنْ كنْتُم موقِنين، قال لمن حولَهُ " مٍنْ ملئه " ألا تَسْمعونَ " أي إنكارًا لما قال: ليس له إله غيري. " قال ربُّكم وربُّ آبائكم الأوّلين " الذي خلق آباءكم الأولين وخلفكم من آبائكم. قال فرعون: " إن رسولَكم الذي أُرسِل إليكُم لمجنونٌ "، أي ما هذا بكلام صحيح إذ يزعم أن لكم إلهًا غيري، " قال ربُّ المشْرِق والمغْرب وما بينَهُما إنْ كُنْتُم تعقِلون " أي خالق المشرق والمغرب وما بينهما من الخلق إن كنتم تعقلون. " قال لئِن اُتَّخذْت إلهًا غيري " لتعبد غيري وتترك عبادتي " لأجعلنَّك مِنَ المسجونين، قال أو لوْ جئتُك بشيء مبينٌ "، أي بما تعرف بها صدقي وكذبك وحقي وباطلك! " قال فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاهُ فإذا هي ثُعبانٌ مُبينٌ "، فملأت ما بين سَماطَي فرعون، فاتحة فاها، قد صار محجنها عرْفًا على ظهرها. فارفضّ عنها الناس، وحال فرعون عن سريره يُنشده بربه. ثم أدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها كهيئتها، وأدخل موسى يده في جيبه فصارت عصا في يده، يده بين شعبتيها، ومحجنها في أسفلها كما كانت، وأخذ فرعون بطنه، وكان فيما فرعون يمكث الخمس والست ما يلتمس المذهب - يريد الخلاء - كما يلتمسه الناس، وكان ذلك مما زيّن له أن يقول ما يقول: إنه ليس من الناس بشبه. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمَة، عن ابن إسحاق، قال: حدِّثت عن وهب بن منبّه اليماني، قال: فمشى بضعًا وعشرين ليلة، حتى كادت نفسه أن تخرج، ثم استمسك فقال لملئه: " إنّ هذا لساحرٌ عليمٌ " أي ما ساحر أسحر منه، " يريد أن يخرِجَكم من أرضكم بسحره فماذا تأمُرُون " أقتله؟ فقال مؤمن من آل فرعون - العبد الصالح وكان اسمه فيما يزعمون حبرك: " أتقتلون رجلًا أَنْ يقولَ ربيَ الله وقد جاءَكم بالبيّنات من ربّكم " بعصاه ويده! ثم خوّفهم عقاب الله وحذرهم ما أصاب الأمم قبلهم، وقال: " يا قومِ لكمُ المُلْكُ اليومَ ظاهرين في الأرض فمَنْ يًنصُرنا من بأس اللهِ إنْ جاءَنا قال فرعون ما أرِيكم إلا ما أرى وما أهديُكم إلا سبيلَ الرَّشادِ ". وقال الملأ من قومه - وقد وهنهم من سلطان الله وما وهَنهم: " أرْجِهْ وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوكَ بكلِّ سحّارٍ عليمٍ "، أي كاثِرْه بالسحرة لعلك أن تجد في السحرة من جاء بمثل ما جاء به. وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما أراهم، وبعث فرعون مكانه في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحرًا إلا أتى به؛ فذكر لي - والله أعلم - أنه جمع خمسةَ عشرَ ألف ساحر، فلما اجتمعوا إليه أمرهم أمره، فقال لهم: قد جاءنا ساحر ما رأينا مثله قطّ، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضّلتكم وقرّبتكم على أهل مملكتي، قالوا: إن لنا ذلك عليك إن غلَبْناه! قال؟: نعم، قالوا: فعدْ لنا موعدًا نجتمع نحن وهو، فكان رؤوس السحرة الذين جمع فرعون لموسى: ساتور، وعادور، وحطحط، ومصفى؛ أربعة، وهم الذين آمنوا حين رأوا ما رأوا من سلطان الله، فآمنت السحرة جميعًا وقالوا لفرعون حيت توعدهم القتلَ والصلب: " لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا فاْقضِ ما أنت قاضٍ ". فبعث فرعون إلى موسى: أن اجعل " بيننا وبينك موعدًا لا تُخْلِفه نحن ولا أنت مكانًا سُوىً، قال موعدكم يومُ الزينة "، يوم عيد كان فرعون يخرج إليه، " وأن يُحْشرَ الناسُ ضحىً "، حتى يحضروا أمري وأمرك، فجمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة فقال: " ائتوا صفًا وقد أفلح اليومَ مَنِ استعلى "، أي قد أفلح من استعلى اليوم على صاحبه. فصف خمسة عشر ألف ساحرًا، مع كلّ ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى ومعه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه ومعه أشراف أهل مملكته، وقد استكفَّ له الناس، فقال موسى للسحرة حين جاءكم: " ويلكم لا تَفتروا على الله كذِبًا فيُسحِتَكم بعذابٍ وقد خاب منِ افترى "، فترادّ السحرة بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، ثم قالوا وأشار بعضهم إلى بعض بتناجٍ: " إنْ هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكمُ المُثلى ". ثم قالوا: " يا موسى إما أن تلقيَ وإما أن نكون أوّلَ مَنْ ألقى، قال بلْ ألقًوا فإذا حبالهم وعِصيُّهُم يُخَّل إليه من سحرهم أنها تسعى ". فكان اول ما اختطفوا بسحرهم بصرَ موسى وبصرَ فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كلُّ رجل منهم ما في يده من العصي والحبال، فإذا هي حيّات كأمثال الجبال، قد ملأت الواديَ يركب بعضها بعضًا. " فأوجسَ في نفْسِه خَيفةً موسى "، وقال: والله إن كانت لعصيًّا في أيديهم، ولقد عادت حيّات، وما تعدو عصايَ هذه - أو كما حدث نفسه - فأوحى الله إليه: " وألقِ ما في يمينك تلْقفْ ما صنعوا إنما صنعوا كيدُ ساحرٍ ولا يفلح الساحر حيثُ أنى ". وفُرج عن موسى فألقى عصاه من يده، فاستعرضت ما ألْقوا من حبالهم وعصيهم - وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى - فجعلت تلقفها، تبتلعها حية حية، حتى ما يُرى في الوادي قليل ولا كثير مما ألْقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصاه في يده كما كانت، ووقع السَّحرة سجدًا " قالوا آمنا برب هارونَ وموسى "، لو كان هذا سحرًا ما غلَبنا. قال لهم فرعون - وأسف ورأى الغلبة البيّنة: " آمنتم له قبل أن آذنَ لكم إنه لكبيرٌكم الذي علّمكمُ السِّحرَ "، أي لعظيم السَّحّار الذي علمكم " فلأقطِّعنّ أيديَكم وأرجُلَكُم مِنْ خلاف " - إلى قوله - " فاقض ما أنت قاضٍ "، أي لن نؤثرك على الله وعلى ما جاءنا من الحجج مع نبيه فاقض ما أنت قاض، أي فاصنع ما بدا لك، " إنّما تقضي هذه الحياةَ الدنيا " التي ليس لك سلطان إلا فيها، ثم لا سلطان إلا فيها، ثم لا سلطان لك بعدها، " إنّا آمنّا بربّنا ليغفرَ لنا خَطايانا وما أكرهْتَنا عليه من السِّحر والله خيرٌ وأبقى "، أي خير منك ثوابًا، وأبقى عقابًا. فرجع عدوُّ الله مغلوبًا وملعونًا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان. ما أكرهْتَنا عليه من السِّحر والله خيرٌ وأبقى "، أي خير منك ثوابًا، وأبقى عقابًا. فرجع عدوُّ الله مغلوبًا وملعونًا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان. رجع الحديث إلى حديث السدي. وأما السدي فإنه قال في خبره: ذُكِرَ أن الآيات التي ابتلى الله بها قوم فرعون كانت قبل اجتماع موسى والسحرة، وقال: لما رجع إليهم ملطخًا بالدم قال: قد قتلنا إله موسى. ثم إن الله أرسل عليهم الطوفان - وهو المطر - فغرق كل شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفْ عنا، ونحن نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل. فكشفه الله عنهم، ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرّنا أنا لم نُمْطَر. فبعث الله عليهم الجراد فأكل حروثهم، فسألوا موسى أن يدعوَ ربَّه فيكشفه ويؤمنوا به، فدعا فكشفه، وقد بقي من زروعهم بقية، فقالوا: لن نؤمن وقد بقي لنا من زروعنا بقية، فبعث الله عليهم الدبا - وهو القُمّل -، فلحس الأرض كلَّها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضّه، وكان أحدُهم يأكل الطعام فيمتلئ دبًا حتى إنّ أحدهم ليبني الأسطوانة بالجصّ والآجرّ فيُزلقها حتى لا يرتقي فوقها شيء من الذباب، ثم يرفع فوقها الطعام؛ فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دبًا، فلم يصبهم بلاء كان أشدّ عليهم من الدبا؛ وهو الرِّجز الذي ذكره الله في القرآن أنه وقع عليهم. فسألوا موسى أن يدعوَ ربه فيكشفه عنهم ويؤمنوا به، فلما كُشف عنهم أبوّا أن يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فكان الإسرائيلي يأتي هو والقبطي فيستقيان من ماء واحد، فيخرج ماء هذا القبطي دمًا، ويخرج للإسرائيلي ماء. فلما اشتدّ ذلك عليهم سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به فكُشف ذلك عنهم، فأبوا أن يؤمنوا، فذلك حين يقول الله: " فلمّا كشفْنا عنهمُ العذابَ إذا همْ يَنْكُثُون " ما أعطوْا من العهود، وهو حين يقول: " ولقد أخذْنا آل فرعون بالسنين " - وهو الجوع - " ونقصٍ من الثَّمرات لعلّهم يذّكّرون ". ثم إن الله عز وجل أوحى إلى موسى وهارون أن " قُولَا قولًا ليِّنًا لعلّه يتذَكّرُ أو يخشى "، فأتياه فقال له موسى: هل لك يا فرعون في أن أعطيَك شبابك ولا تهرم، وملكك ولا ينزع منك، ويردّ إليك لذّة المناكح والمشارب والركوب، فإذا متّ دخلت الجنة؟ تؤمن بي! فوقعت في نفسه هذه الكلمات، وهي اللينة، فقال: كما أنت حتى يأتي هامان. فلما جاء هامان قال له: أشعرت أن ذلك الرجل أتاني؟ قال: من هو؟ - وكان قبل ذلك إنما يسميه الساحر، فلما كان ذلك اليوم لم يسمّه الساحر - قال فرعون: موسى، قال: وما قال لك؟ قال: قال لي: كذا وكذا، قال هامان: وما رددت عليه؟ قال: قلت: حتى يأتيَ هامان فأستشيره، فعجّزه هامان وقال: قد كان ظنّي بك خيرًا من هذا، تصير عبدًا يعبد بعد أن كنتَ ربًا يُعبد! فذلك حين خرج عليهم فقال لقومه وجمعهم فقال: " أنا ربُّكُمُ الأعلى ". وكان بين كلمته " ما علمت لكم من إلهٍ غيري " وبين قوله: " أنا ربُّكُمُ الأعلى " أربعون سنة. وقال لقومه: " إنّ هذا لساحرٌ عليمٌ، يريد أن يُخرجَكُم من أرضِكم بسحرِهِ فماذا تأمرون، قالوا أرْجِهِ وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحّار عليم ". قال فرعون: " أجئتنا لتُخرجَنا من أرضنا بسحرك يا موسى، فلنأتينك بسحرٍ مثلَه فاجعل بيننا وبينك موعدًا لا تُخلفه نحن ولا أنت مكانا سُوىً " - يقول: عدلًا، قال موسى: " موعدكم يومُ الزينة وان يُحشرَ الناس ضُحىً " - وذلك يوم عيد لهم - " فتولّى فرعون فجمع كيده ثم أتى ". وأرسل فرعون في المدائن حاشرين؛ فحشَروا عليه السحرة، وحشروا الناس ينظرون، يقول: " هل أنتم مجتمِعون، لعلّنا نتبع السحرة إنْ كانوا همُ الغالبين " - إلى قوله: " أئن لنا لأجْرًا إنْ كنّا نحن الغالبين " - يقول: عطية تعطينا - " قال نعمْ وإنّكم إذًا لمِنَ المقرّبين ". فقال لهم موسى: " ويلكم لا تفتروا على الله كذِبًا فيُسْحِتكُم بعذابٍ "، يقول: يهلككم بعذاب. " فتنازعوا أمرَهم بينهم وأسرّوا النجوى "، من دون موسى وهارون، وقالوا في نجواهم: " إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضِكم بسحرهما ويذهبا بطريقتِكمُ المثلى "، يقول: يذهبا بأشراف قومكم. فالتقى موسى وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال: نعم، قال الساحر: لآتينّ غدًا بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومننّ بك، ولأشهدنّ أنك على حق - وفرعون ينظر إليهما - وهو قول فرعون: " إنْ هذا لمكرٌ مكرتُموه في المدينةِ "، إذ التقيتما لتتظاهرا " لتُخرجوا منها أهلها " فقالوا: " يا موسى إما أن تُلقيَ وإما أن نكون نحن المُلقينَ "، قال لهم موسى: ألقوا فألقوا حبالهم وعصيَّهم - وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم إلا ومعه حبل وعصا - " قلما ألقوا سحروا أعينَ الناس واسترهبهم " يقول: فرّقوهم. " فأوجَسَ في نفسِهِ خيفةً موسى "، فأوحى الله إليه: ألا تخف، " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ". فألقى موسى عصاه فأكلت كلَّ حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: " آمنا برب العالمين موسى وهارون ". قال فرعون: " فلأقطِّعنّ أيديكم وأرجلكم من خِلافٍ ولأصلّبنّكم في جُذوع النخل " فقتلهم وقطَّعهم - كما قال عبد الله بن عباس - حين قالوا: " ربّنا أفرغْ علينا صَبْرًا وتوفّنا مسلمين ". قال: كانوا في أول النهار سَحرة، وفي آخر النهار شهداء. ثم أقبل على بني إسرائيل فقال له قومه: " أتذَرُ موسى وقوْمَهُ ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك "، وآلهتُه - فيما زعم ابن عباس - كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلًا بقرة. ثم إن الله تعالى ذكره أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال: " أنْ أسْر بعبادي " ليلًا " إنّكم متّبَعون ". فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط، وامر ألا ينادي إنسان صاحبَه، وأن يُسرجوا في بيوتهم حتى الصبح، وأنّ من خرج إذا قال: موسى، قال: " عمرو " وأمر من خرج يلطخ بابه بكفّ من دم حتى يعلم أنه قد خرج. وإن الله أخرج كل ولد زنا في القبْط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وأخرج كلّ ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، حتى أتوْا آباءهم. ثم خرج موسى ببني إسرائيل ليلًا والقبط لا يعلمون، وقد دعوا قبْل ذلك على القبط، فقال موسى: " ربنا إنك آتيْتَ فرعون وملأه زينةً وأمْوالًا في الحياة الدُّنيا " إلى قوله: " حتى يروا العذاب الأليم "، فقال الله تعالى: " قد أُجِيبت دعْوتُكما " فزعم السدي أن موسى هو الذي دعا وأمّن هارون، فذلك حين يقول الله: " قد أُجِيبت دعْوتُكما ". وقوله: " ربّنا اطْمِسْ على أموالِهم " فذكِرَ أم طمْس الأموال أنه جعل دراهمهم ودنانيرهم حجارة، ثم قال لهما استقيما، فخرجا في قومهما، وألفِّيَ على القبط الموتَ، فمات كل بِكْر رجل، فأصبحوا يَدفنونهم، فشُغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس؛ فذلك حين يقول الله: " فأَتبَعوهم مُشرِفينَ ". وكان موسى على سَاقه بني إسرائيل، وكان هارون أمامَهم يقدمهم، فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله، أين أمِرت؟ قال: البحر، فأراد أن يقتحم فمنعه موسى. وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يُعدُّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لِكبَره، وإنما عدّوًا ما بين ذلك سوى الذريّة، وتبعهم فرعون، وعلى مقدمته هامان، في ألف ألف وسبعمائة حصان، ليس فيها ماذيانة، وذلك حين يقول الله: " فأرْسلَ فرعون في المدائنِ حاشرينَ، إن هؤلاء لشرذمةٌ، وإنهم لنا لغائظون " - يعني بني إسرائيل - " وإنا لجميعٌ حاذرون " -، يقول: قد حذرنا فأجمعنا أمرنا، " فلمّا تراءى الجمعان "، فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم، قالوا: " إنا لمدرِكون ". قالوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا، كانوا يذبّحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا! إنا لمدركون، البحر من بين أيدينا وفرعون من خلفنا، قال موسى: " كلَّا إنّ معيَ ربي سيهدينِ "، يقول: سيكفيني، " قال عسى ربُّكم أن يُهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرضِ فينظُرَ كيف تعملون ". فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح، وقال: مَنْ هذا الجبّار الذي يضربني! حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد، وضربه، " فانْفَلَقَ فكانَ كُلُّ فِرقٍ كالطُّودِ العظيمِ "، يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقًا، في كل طريق سِبط، وكأن الطرق إذا انفلقت بجدران. فقال كلّ سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان، فنظر أخرُهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعًا؛ ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقًا قال: ألا ترون البحر فرق مني، وقد تفتّح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك قول الله: " وأزلفنا ثمّ الآخرين "، يقول: قرّبنا ثمَّ الآخرين؛ هم آل فرعون. فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيلُه أن تقتحم، فنزل جبرئيل على ماذيانة، فشمّت الحُصْن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا همّ أوّلُهم أن يخرج ودخل آخرُهم، أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم، وتفرد جبرئيل بفرعون بمَقْلةٍ من مَقل البحر، فجعل يُدسُّها فيه، فقال حين أدركه الغرق: " آمنتُ أنه لا إله إلا الذي أمنتْ بنو إسرائيل وأنا من المُسلمين "، فبعث الله إليه ميكائيل يعيّره، قال: " آلآن وقد عصيْتَ قبلُ وكنت من المُفْسِدين ". فقال جبرئيل: يا محمد، ما أبغضت أحدًا من الخلق ما أبغضتُ رجلين: أما أحدهما فمن الجنّ وهو إبليس حين أبى أن يسجد لآدم، وأما الآخر فهو فرعون حين قال: " أنا ربُّكُمُ الأعلى "، ولو رأيتني يا محمد، وأنا آخذ مَقْل البحر فأدخله في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها! وقالت بنو إسرائيل: لم يغرق فرعون، الآن يدركنا فيقتلنا، فدعا الله موسى: فأخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفًا، عليهم الحديد فأخذته بنو إسرائيل يمثّلون به، وذلك قول الله لفرعون: " فاليوم ننجّيك ببدَنك لتكون لمن خلفَك آية "؛ يقول: لبني إسرائيل آية. فلما أرادوا أن يسيروا ضُرب عليهم تيهٌ، فلو يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل فسألهم: ما بالُنا؟ فقالوا له: إن يوسف لما مات بمصر أخذ على إخوته عهدًا ألّا تخرجوا من مصر حتى تخرجوني معكم، فذلك هذا الأمر، فسألهم: أين موضع قبره؟ فلم يعلموا، فقام موسى ينادي: أنشِد الله كلَّ منْ كان يعلم أين موضع قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمَّتْ أذناه عن قولي! وكان يمرّ بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز لهم فقالت: أسأل ربي، فأمره الله عز وجل أن يعطيَها، فأتاها فأعطاها، فقالت: إني أريد ألا تنزلَ غُرْفة من الجنة إلا نزلتُها معك، قال: نعم، قالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع أن أمشِيَ فاحملْني، فلما دنا من النيل، قالت: إنه في جوف الماء، فادعُ الله أن يُحسِر عنه الماء، فدعا الله فحسر الماء عن القبر، فقالت: احفره، ففعل فحمل عظامه، ففتح لهم الطريق، فساروا، " فأَتَوْا على قومٍ يعْكفُون على أصنامٍ لهُم قالوا يا موسى اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ قال إنّكم قومٌ تَجْهَلون، إنّ هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه " - يقول: مهلك ما هم فيه - " وباطلٌ ما كانوا يَعمَلون ". فأما ابنُ إسحاق، فإنه قال: - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن سلمة عنه - فتابع الله عليه بالآيات - يعني على فرعون - وأخذه بالسنين إذ أبى أن يؤمن بعد ما كان من أمره وأمر السحرة ما كان، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمَّل، ثم الضفادع، ثم الدم آيات مفصّلات، أي آية بعد آية، يتبع بعضُها بعضًا، فأرسل الطوفانَ وهو الماء، ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا، ولا يعملوا شيئًا، حتى جهدوا جوعًا. فلما بلغهم ذلك قالوا: يا موسى ادع لنا ربك، " لئن كشَفْتَ عنّا الرِّجْزَ لنَومِننَّ لكَ ولنُرسِلنَّ مَعَكَ بني إسرائيل ". فدعا موسى ربع فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر - فيما بلغني حتى أنه كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشفه عنهم فلم يفوا لي بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمّل. فذكر لي أن موسى أمِر أن يمشيَ إلى كثيب فيضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيَل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قمَّلًا حتى غلب على البيوت والأطعمة، ومعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربّه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلا يكشف أحد منهم ثوبًا ولا طعامًا ولا إناء إلا وجدَ فيه الضفادع قد غلبتْ عليه، فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفُوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دمًا، لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عادت دمًا عبيطًا. حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدث أن المرأة من آل فرعون كانت تأتِي المرأةَ من بني إسرائيل حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك، فتغرف لها من جَرتها أو تصُبّ لها من قربتها، فيعود في الإناء دمًا، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مجّيه في في، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجّته في فمها صار دمًا، فمكثوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: " ادْعُ لنا ربّك بما عهِد عندَك لئن كشفت عنا الرِّجْزَ لنؤمننّ لك ولنُرسِلنّ معك بني إسرائيل ". فلما كشِف عنهم الرجز نكثوا ولم يفُوا بشيء مما قالوا، فأمر الله موسى أن يسير، وأخبره أنه منجيه ومن معه، ومهلك، فرعون وجنوده، وقد دعا موسى عليهم بالطَّمْسة؛ فقال: " ربنا إنك آتيْتَ فرعون ومَلأَهُ زينةً وأموالًا في الحياة الدنيا ربنا ليضلّوا عن سبيلك " - إلى - " ولا تتَّبعانَّ سبيل الذين لا يعلمون ". فمسخ الله أموالهم حجارة: النخل والرقيق والأطعمة، فكانت إحدى الآيات التي أراهنَّ الله فرعون. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بُرَيدة ابن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع الآيات التي أراهنّ الله فرعون، فقلت: الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، عصاه، ويده والطمسة، والبحر. فقال عمر: فأنّى عرفت أن الطمسة إحداهنّ؟ قلت: دعا عليهم موسى وأمّن هارون، فمسخ الله أموالهم حجارة، فقال: كيف يكون الفقه إلا هكذا! ثم دعا بخريطة فيها أشياء مما كان أصيب لعبد العزيز بن مروان بمصر؛ إذ كان عليها من بقايا أموال آل فرعون، فأخرج البيضة مقْشورة نصفين؛ وإنها لحجر، والجوزة مقشورة وإنها لحجر، والحمُصة، والعدسة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد، عن رجل من أهل الشأم كان بمصر، قال: قد رأيت النخلة مصروعة، وإنها لحجّر، وقد رأيت إنسانًا ما شككت أنه إنسان وإنه لحجر، من رقيقهم، فيقول الله عز وجل: " ولقد أتيْنا موسى تسع آياتٍ بيّناتٍ " إلى قوله " مثبورًا " يقول: شقيًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، أن الله حين أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمرَه أن يحتمل يوسفَ معه حتى يضعه بالأرض المقدسة، فسأل موسى عمّن يعرف موضعَ قبره، فما وجد إلا عجوزًا من بني إسرائيل، فقالت: يا نبي الله، أنا أعرف مكانه. إن أنت أخرجتني معك، ولم تخلفني بأرض مصر دللتك عليه قال: أفعل، وقد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف، ففعل، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه موسى صندوقًا من مرمر، فاحتمله معه. قال عروة: فمن ذلك تحمِل اليهود موتاها من كل أرض إلى الأرض المقدسة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان - فيما ذُكر لي - أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله به: استعيروا منهم المتعة والحُلي والثياب فإني منفِّلكم أموالَهم مع هلاكهم؛ فلما أذّن فرعون في الناس كان مما يحرّض به على بني إسرائيل أن قال حين ساروا: لم يرضُوا أن خرجوا بأنفسهم حتى ذهبوا بأموالكم معهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد ابن كعب القرظي، عن محمد عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لقد ذكِرَ لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفًا دُهم الخيل سوى ما في جنده من شيات الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف طلع فرعون في جنده من خلفهم، " فلمّا تراءى الجمْعانِ قال أصحابُ موسى إنّا لمدركون، قال كلَّا إن معيَ ربي سيهدينِ "، أي للنجاة، وقد وعدني ذلك ولا خُلف لموعوده. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: فأوحى الله تبارك وتعالى - فيما ذكر لي - إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانْفلق له، فبات البحر يضربُ بعضه بعضًا فرَقًا من الله وانتظارًا لأمره، فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه، " فانفلق فكان كلُّ فِرقِ كالطُّودِ العظيم "، أي كالجبل على نَشَز من الأرض. يقول الله لموسى عليه السلام: " فاضرب لهم طريقًا في البحر يبسًا لا تخافُ دّرَكًا ولا تخشى ". فلما استقرّ له البحر على طريق قائمة يبسَ سلك فيه موسى ببني إسرائيل، واتبعه فرعون بجنوده. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليْثي، قال: حُدّثت أنه لما دخلتْ بنو إسرائيل فلم يبق منهم أحدٌ أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر وهو قائم على حاله، فهاب الحصان أن يتقدم، فغرض له جبرئيل على فرس أنثى وديق، فقرّبها منه فشمّها الفحل، ولما شمّها قدمها، فتقدم معه الحصان عليه فرعون، فلما رأى جند فرعون أن فرعون قد دخل دخلوا معه، وجبرئيل أمامه، فهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس خلف القوم يشحذهم يقول: الحقوا بصاحبكم، حتى إذا فصل جبرئيل من البحر ليس أمامه أحدٌ، ووقف ميكائيل على الناحية الأخرى ليس خلفه أحد، طبّق عليهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله وقدرته ما رأى، وعرف ذلّه وخذلته نفسه، نادى: أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو داود البصري، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: جاء جبرئيل إلى النبي عليه السلام فقال: يا محمد، لقد رأيتني وأنا أدسّ من حمأِ البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة! يقول الله: " آلآن وقد عصيْت قبلُ وكنتَ من المفسِدين، فاليوم ننجّيك ببدنِك "، أي سواءٌ لم يذهب منك شيء، " لتكون لمن خلْفَكَ آيةً " أي عبرة وبينة. فكان يقال: لو لم يخرجه الله ببدنه حتى عرفوه لشطَّ فيه بعضُ الناس. ولما جاوز ببني إسرائيل البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، " قالوا يا موسى اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنّكم قومٌ تجْهَلون، إن هؤلاء متبَّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون، قال أغيرَ الله أبغيكم إلهًا وهو فضّلكم على العالمين ". ووعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومَه ونجاه وقومَه ثلاثين ليلة. رجع الحديث إلى حديث السدي. ثم إن جبرئيل أتى موسى يذهب به إلى الله عز وجل فأقبل على فرس فرآه السامري فأنكره، ويقال: إنه فرس الحياة، فقال حين رآه: إن لهذا لشأنًا، فأخذ من تربة الحافِر الفرس، فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر، فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل، إنّ الغنيمة لا تحلّ لكم، وإن القِبْط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعًا فاحفروا لها حفرة فادفنوها فيها، فإن جاء موسى فأحلّها أخذتموها، وإلا كان شيئًا لم تأكلوه، فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة، وجاء السامري بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحلي عجلًا له خُوار، وعدّت بنو إسرائيل موعدَ موسى، فعدوا الليلة يومًا واليوم يومًا، فلما كان العشر خرج لهم العجلُ فلما رأوه قال لهم السامري: هذا إلهُكُم وإلهُ موسى فنسِيَ ". يقول: ترك موسى إلهه ها هنا، وذهب يطلبه فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي، فقال لهم هارون: " يا بنِي إسرائيل إنّما فُتنتم به " يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل، " وإنّ ربَّكم الرحمنُ فاتّبعوني وأطيعوا أمري "، فأقام هارون ومن معَه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه، فلما كلّمه قال له: " وما أعجلَك عنْ قومِكَ يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجِلْتُ إليك ربّ لترضى، قال فإنا فد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السامري ". فلما أخبره خبرهم قال موسى: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل، أرأيت الروحَ منْ نفخها فيه؟ قال الربّ: أنا. قال: رب أنت إذًا أضللتهم. ثم أن موسى لما كلمه ربّه أحبّ أن ينظر إليه، " قال ربِّ أرِنِي أنظُر إليكَ قال لن تراني ولكن انظُر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني "، فحَفّ حول الجبل الملائكة، وحُفّ حول الملائكة بنار، وحُفّ حول النار بملائكة، وحول الملائكة بنار، ثم يتجلّى ربه للجبل. فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، قال: حدثني السدي، عن عكْرمة، عن ابن عباس، أنه قال: تجلّى منه مثل طَرف الخنِصر، فجعل الجبلَ دكًّا وخرّ موسى صعقًا، فلم يزل صَعِقًا ما شاء الله، ثم أنه أفاق فقال: " سبحانك تُبت إليكَ وأنا أوّل المؤمنين "، يعني أول المؤمنين من بني إسرائيل، فقال: " يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن مِنَ الشاكرين، وكتبْنا له في الألواح من كُلِّ شيءٍ موْعِظَةً وتفصيلًا لكل شيء " من الحلال والحرام " فخذها بقوةٍ "، يعني بجدّ واجتهاد " وأْمُرْ قومك يأخذوا بأحسنِها " أي بأحسن ما يجدون فيها. فكان موسى بعد ذلك لا يستطيع أحدَ أن ينظر في وجهه، وكان يُلْبِس وجهه بحريرة، فأخذ الألواح ثم رجع إلى مومه " غضبانَ أَسِفًا " يقول: حزينًا " قال يا قومِ ألم يعدْكم ربُّكم وعدًا حسنًا " - إلى - " قالوا ما أخلفْنا موعدَك بملكِنا " يقولون: بطاقتنا، " ولكنّا حُمّلنا أوزارًا من زينةِ القوم " يقول: من حُلي القبط " فقذفناها فكذلك ألقَى السامريُّ "، ذلك حين قال لهم هارون: احفِروا لهذا الحلْي حُفرة، واطْرحوه فيها، فطرحوه فقذف السامري تربته، فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، " قال يا بن أمَّ لا تأخذْ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقولَ فرّقتَ بين بني إسرائيل ولم ترقُب قولي ". فترك موسى هارون، ومال إلى السامري، فقال: " فما خطْبُكَ يا سامريُّ "، قال السامري: " بصُرتُ بما لم يبْصِروا به " إلى: " في اليمِّ نسْفًا ". ثم أخذه فذبحه، ثم حرفَهُ بالمبرد ثم ذراه في البحر، فلم يبق بحر يجري إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب، فلذلك حين يقول: " وأُشرِبوا في قلوبِهِم العِجْلَ بكُفرهم ". قلما سُقِط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى " ورأوا أنهُم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمْنا ربُّنا ويفغِرْ لنا لنكوننّ من الخاسرين ". فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهُمْ حين عبدوا العجل، فقال لهم موسى: " يا قومِ إنكم ظَلمْتم أنفُسَكم باتِّخاذِكُمُ العجلَ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفُسُكُم "، فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم سبعون ألفًا، حتى دعا موسى وهارون: رَبّنا هلكتْ بنو إسرائيل! ربّنا البقية البقية! فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم، فكان من قُتِل كان شهيدًا، ومن بقيَ كان مُكفَّرًا عنه، فذلك قوله: " فتاب عليكم إنه هو التوّاب الرحيم ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان السامري رجلًا من أهل باجَرْما، وكان من قوم يعبدون البقر، فكان حبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد اظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلما فصل هارون في بني إسرائيل، وفصل موسى معهم إلى ربه تبارك وتعالى قال لهم هارون: إنكم قد تحمّلتم أوزانًا من زينة القوم آل فرعون، وأمتعة وحليًّا، فتطهّروا منها فإنها نجس، وأوقد لهم نارًا، وقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها، قالوا: نعم، فجعلوا يأتون بما كان فيهم من تلك الحلي وتلك الأمتعة فيقذفون به فيها، حتى انكسرت الحلي فيها، رأى السامري أثر فرس جَيْرَئيل، فأخذ ترابًا من أثر حافره، ثم أقبل إلى الحفرة فقال لهارون: يا نبي الله، ألقى ما في يدك؟ قال: نعم، ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من تلك المتعة والحلي، فقذفه فيها، وقال: كن عجلًا جسدًا له خوار، فكان للبلاء والفتنة، فقال: هذا إلهُكم وإله موسى، فعكفوا عليه وأحبوه حبًا لم يحبوا مثله شيئًا قطّ، فقال الله عز وجل " " فنسي "، أي ترك ما كان عليه من الإسلام؛ - يعني السامري - " أفلا يرون ألَّا يرجِعُ إليهم قولًا ولا يملك لهم ضَرًا ولا نفعًا ". قال: وكان اسم السامري موسى بن ظفر، فوقع في أرض مصر، فدخل في بني إسرائيل، فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: " يا قومِ إنّما فُتنْتم به " - إلى قوله - " حتى يرجِع إلينا موسى ". فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام مَنْ يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: " فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقُبْ قولي "، وكان هائبًا له مطيعًا، ومضى موسى ببني إسرائيل إلى الطور، وكان الله عز وجل وعد بني إسرائيل حين أنجاهم واهلك عدوّهم جانب الطور الأيمن، وكان موسى حين سار ببني إسرائيل من البحر قد احتاجوا إلى الماء، فاستسقى موسى لقومه، فأمِر أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سِبْط عين يشربون منها قد عرفوها، فلما كلم الله موسى طمع في رؤيته، فسأل ربه أن ينظر إليه، فقال له: إنك " لن تَراني ولكنِ انظر إلى الجبل " إلى قوله: " وأنا أوّل المؤمنين ". ثم قال الله لموسى: " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتُكَ " إلى قوله: " سأُريكم دارَ الفاسقين ". وقال له: " وما أعجلك عن قومك يا موسى " إلى قوله: " فرجَع موسى إلى قومه غضبانَ أسِفًا "، ومعه عهد الله في ألواحه. ولما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل ألقى الألواح من يده، وكانت - فيما يذكرون - من زبرجد أخضر، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته ويقول: " ما منعك إذ رأيْتهم ضلّوا، ألّا تتبعني " إلى قوله: " ولم ترقُب قولي ". فقال: " يا بن أُمَّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تُشْمِتْ بيَ الأعداءَ ولا تجعلْني مع القوم الظالمين "، فارعوي موسى وقال: " رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ". وأقبل على قومه فقال: " يا قومِ ألم يعِدْكم ربُّكم وعدًا حسنًا " إلى قوله: " عجْلًا جَسَدًا له خُوارٌ ". وأقبل على السامري فقال: " فما خطبُكَ يا سامري، قال بصُرتُ بما لم يَبصُرُوا به " إلى قومه: " وسِع كُلَّ شيْء عِلمًا ". ثم أخذ الألواح، يقول الله: " أخذ الألواح. وفي نُسختها هدىً ورحمةٌ للذين همْ لربهم يرهبون ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صدقة ابن يسار، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كان الله تعالى قد كتب لموسى فيها موعظة وتفصيلًا لكلّ شيء وهدى ورحمة، فلما ألقاها رفع الله ستة أسباعها وأبقى سبعًا، يقول الله عز وجل: " وفي نُسختها هدىً ورحمةٌ للذين هم لربهم يَرْهَبون "، ثم أمر موسى بالعجل فأحرِق، حتى رجع رمادًا، ثم أمر به فقذف في البحر. قال ابن إسحاق: فسمعت بعض أهل العلم يقول: إنما كان أحرقه ثم سحله ثم ذرّاه في البحر. والله أعلم. ثم اختار موسى منهم سبعين رجلًا: الخيّر فالخيِّر، وقال: انطلقوا إلى فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهِّروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشّى كلّه، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلّمه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضُرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا، فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا لموسى: " لن نؤْمنَ لك حتى نرى الله جَهْرةً "، " فأخذتْهمُ الرَّجْفَةُ "، وهي الصاعقة، فانفلتت أرواحهم فماتوا جميعًا، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه ويقول: " ربِّ لو شئت أهلكْتهم من قبلُ وإياي " قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا! إن هذا هلاك لهم. اخترت منهم سبعين رجلًا الخيّر فالخير، أرجع إليهم وليس معي رجل واحد، فما الذي يصدقونني به! فلم يزل موسى يناشد ربَّه، ويسأله ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. وقال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله، فأمر موسى مَنْ لم يكن عبد العجل أن يقتل مَنْ عبده، فجلسوا بالأفنية، وأصلتَ عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى وبهش إليه الصبيان والنساء يطلبون العفو عنهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف. وأما السدي فإنه ذكر في خبره الذي ذكرت إسناده قبلُ أن مصير موسى إلى ربه بالسبعين الذين اختارهم من قومه بعد ما تاب الله على عبدة العجل من قومه، وذلك انه ذكر بعد القصة التي قد ذكرتها عنه بعد قوله: " إنه هو التوّاب الرحيم ". قال: ثم إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى قومه سبعين رجلًا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلم أتوا ذلك المكان قالوا: " لأن نؤمن لك حتى نرى الله جَهْرة "، فإنك قد كلّمته فأرِناه، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله يقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارَهم! رب لو شئت أهلكتَهم من قبل إياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا! فأوحى الله عز وجل إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممّن اتّخذ العجل، فذلك حين يقول موسى: " إن هِيَ إلّا فِتنتُك تُضِلُّ بها من تشاء وتهذي من تشاء " إلى قوله: " إنا هُدْنا إليك "، يقول تبنا إليك، وذلك قوله تعالى: " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن حتى نرى الله جَهرة فأخذتكُمُ الصاعقة "، والصاعقة نار. ثم إن الله أحياهم، فقاموا وعاشوا رجلًا رجلًا، ينظر بعضُهم إلى بعض: كيف يحيَوْن؟ فقالوا: يا موسى، أنتَ تدعو الله فلا تسأله شيئًا إلا أعطاك، فادعُه يجعلنا أنبياء، فدعا الله فجعلهم أنبياء، فذلك قوله: " ثم بعثناكم من بعد موتِكم "، ولكنّه قدّم حرفًا وأخّر حرفًا. ثم أمرهم بالسير إلى أرِيحا، وهي ارض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريبًا منها بعث موسى اثني عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبّارين، فلقيَهم رجل من الجبارين يقال له عاج، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حُجْزته وعلى رأسه حملة حطب، فانطلق به إلى امرأته فقال: انظري إى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنُهم برجلي! فقالت امرأته: لا، بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومَهم بما رأوْا، ففعل ذلك، فلما خرج القومُ قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنكم أخبرتُم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدّوا عن نبي الله، ولكن اكتموهم وأخبروا نبيَّ الله، فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه، ثم رجعوا فانطلق عشرة فنكثوا العهد، فجعل الرجل منهم يخبر أخاه وأباه بما رأوا من أمر عاج، وكتَم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون فأخبرهما الخبر، فذلك حين يقول الله: " ولقد أخذ اللهُ الميثاق بني إسرائيل وبعثْنا منهمُ اثني عشر نقيبًا ". فقال لهم موسى: " يا قوم اذْكُروا نِعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ وجعلَكم مُلُوكًا " يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله. " يا قومِ ادخلوا الأرضَ المقدَّسة الني كتبَ الله لكم "، يقول: التي أمركم الله بها " ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا " مما سمعوا من العشرة: " إن فيها قومًا جبّارين وإنا لن ندخلَها حتى يخرجوا منها فإنْ يَخرجوا منها فإنا داخِلون، قال رجُلانِ من الذين يخافون أنعم الله عليهما "، وهما اللذان كتما، وهما يوشع بن نون فتى موسى وكالوب بن يوفنّة - وقيل: كلاب بن يوفنّة ختن موسى - فقالا: يا قوم " ادخُلوا عليهِمُ الباب ". " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ". فغضب موسى، فدعا عليهم، فقال: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين " وكانت عجَلة من موسى عجِلها، فقال الله: " فأنها محرّمة عليهِمْ أربعين سنة يتيهون في الأرض ". فلما ضُرب عليهم التيه، ندم موسى وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه، فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم أوحى الله عز وجل إليه: ألا تأسَ، أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين. فلم يحزن، فقالوا: يا موسى، فكيف لنا بماء ها هنا؟ أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، فكان يَسقط على الشجر الترنجبين والسلوى - وهو طير يشبه السُّماني - فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سمينًا ذَبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، يشرب كل سِبْط من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب، فأين الظلّ؟ فظلل الله عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظلّ، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: " وظلّلْنا عليهِمُ الغَمامَ وأنزلْنا عليهِمُ المَنَّ والسلوى ". وقوله: " وإذ استسقى موسى لقومه فقُلنا اضرِب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كلُّ أناسٍ مشربَهُم "، فأجمعوا ذلك، فقالوا: " يا موسى لن نصبِر على طعام واحدٍ فادع ربك يُخرِجْ لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومِها " - وهي الحنطة - " وعدسها وبصلها ". قال: " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ اهبِطوا مصْرًا " من الأمصار، " فإنّ لكم ما سألتم ". فلما خرجوا من التيه رفع المن والسلوى، وأكلوا البقول، والتقى موسى وعاج فنزا موسى في السماء عشرة أذرع، وكانت عصاه أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عاج فقتله. حدثنا ابن بشار، حدثنا مُؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوْف، قال: كان طول عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ثم وثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجًا فأصاب كعبه فسقط ميتًا، فكان جِسْرًا للناس يمرّون عليه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: أخبرنا قيس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبتُه عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسرًا لأهل النيل. وقيل إن عوج عاش ثلاثة آلاف سنة. ذكر وفاة موسى وهارون ابني عمران عليهما السلام حدثنا موسى بن هارون الهمْذاني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: ثم إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى، أنى مُتَوفٍّ هارون فأت به جبل كذا وكذا. فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هما بشجرة لم يرَ مثلها، وإذا هما ببيت مبني، وإذا هما فيه بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريحٌ طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، فقال: يا موسى إني لأحب أن أنام على هذا السرير، قال له موسى: فنمْ عليه، قال: إني أخاف أن يأتي ربُّ هذا البيت فيغضب علي، قال له موسى: لا ترهب أنا أكفيك ربُّ هذا البيت فنم؛ قال: يا موسى بل نم معي، فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جميعًا، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال: يا موسى خدعتني، فلما قُبِض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورُفع السرير إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل، وليس معه هارون قالوا: فإن موسى قتلَ هارون وحسده لحبّ بني إسرائيل له، وكان هارون أكفّ عنهم وأليَن لهم من موسى، وكان في موسى بعضُ الغلظ عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم! كان أخي أفتروْنني أقتله! فلما أكثروا عليه قلم فصلى ركعتين ثم دعا إلى الله فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدّقوه. ثم إن موسى بينما هو يمشي ويوشع فتاه إذا أقبلت ريح سوداء، فلما نظر يوشع إليها ظنّ أنها الساعة والتزم موسى، وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله، فاستُلّ موسى من تحت القميص وترك القميص في يد يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل، وقالوا: قتلت نبي الله! قال: لا والله ما قتلتُه، ولكنه استُلَّ مني، فلم يصدّقوه وأرادوا قتله. قال: فإذا لم تصدقوني فأخّروني ثلاثة أيام، فدعا الله فأتِي كل رجل ممن كان يحرسه في المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وأنا قد رفعناه إلينا، فتركوه ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبّارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان صفيُّ الله قد كره الموت وأعظمه، فلما كرهه أراد الله تعالى أن يحبِّب إليه الموت ويكرّه إليه الحياة، فحوّلت النبوّة إلى يوشع بن نون، فكان يغدو عليه ويروح، فيقول له موسى: يا نبي الله، ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع بن نون: يا نبي الله، ألمْ أصحبْك كذا وكذا سنة، فهل كنتُ أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ فلا يذكر له شيئًا، فلما رأى موسى ذلك كرِه الحياة وأحبّ الموت. قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: وكان صفي الله - فيما ذكر لي وهب بن منبّه - إنما يستظلّ في عريش ويأكل ويشرب في نقير من حجَر؛ إذا أراد أن يشرب بعد ان أكل كرع كما تكرع الدابة في ذلك النقير، تواضعًا لله حين أكرمه الله بما أكرمه به من كلامه. قال وهب: فذكر لي أنه كان من أمر وفاته أنه صفي الله خرج يومًا من عريشه ذلك لبعض حاجته لا يعلم به أحدٌ من خلق الله، فمرّ برهط من الملائكة يحفِرون قبرًا فعرفهم وأقبل إليهم، حتى وقف عليهم، فإذا هم يحفرون قبرًا لم ير شيئًا قط أحسنَ منه، ولم ير مثل ما فيه من الحضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكةَ الله لمن تحفرون هذا القبر؟ قالوا: نحفره لعبد كريم على ربّه، قال: إن هذا العبد من الله المنزل! ما رأيت مضجعًا ولا مدخلًا! وذلك حين حضر من أمر الله ما حضر من قبضه، فقالت له الملائكة: يا صفي الله، أتحبّ أن يكون لك؟ قال: وددت قالوا: فانزل فاضطجع فيه، وتوجه إلى ربك، ثم تنفس أسهل تنفس تنفسته قط. فنزل فاضطجع فيه، وتوجّه إلى ربه، ثم تنفس فقبض الله تعالى روحه، ثم سوّت عليه الملائكة، وكان صفي الله زاهدًا في الدنيا راغبًا فيما عند الله. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، مولى بني هاشم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: " إن ملَك الموت كان يأتي الناس عِيانًا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه، قال: فرجَع فقال: يا ربّ، إن عبدَك موسى فقأ عيني، ولولا كرامَته لشققت عليه، فقال: ائت عبدي موسى، فقل له: فليضع كفه على متن ثور، فله بكل شعرة وارت يدُه سنة؛ وخيّره بين ذلك وبين ان يموت الآن، قال: فأتاه فخيّره، فقال له موسى: فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فالآن إذًا، فشمّه شمة قبض روحه. قال: فجاء بعد ذلك إلى الناس خُفية ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبي سنان الشيباني، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: مات موسى وهارون جميعًا في التيه، مات هارون قبل موسى، وكانا خرجا جميعًا في التيه إلى بعض الكهوف، فمات هارون، فدفنه موسى، وانصرف إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قال: مات، قالوا: كذبت ولكنك قتلته لحبنا إياه، وكان محببًا في بني إسرائيل، فتضرع موسى إلى ربه، وشكا ما لقي من بني إسرائيل، فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى موضع قبره، فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتًا ولم تقتله. قال: فانطلق بهم إلى قبر هارون، فنادى: يا هارون، فخرج من قبره ينفض رأسه، فقال: انا قتلتك؟ قال: لا والله، ولكني متّ، قال: فعد إلى مضجعك، وانصرفوا. فكان جميع مدة عمر موسى عليه السلام كلها مائة وعشرين سنة، عشرون من ذلك في ملك أفريدون، ومائة منها في ملك منوشهر، وكان ابتدأه من لدن بعثه الله نبيًا إلى أن قبضه إليه في ملك منوشهر. ذكر يوشع بن نون عليه السلام ثم ابتعث الله عز وجل بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبيًّا، وأمره بالمسير إلى أريحا لحرب مَنْ فيها من الجبارين. فاختلف السلفُ من أهل العلم في ذلك، وعلى بد مَنْ كان ذلك؟ ومتى سار يوشع إليها؟ في حياة موسى بن عمران كان مسيره إليها أم بعد وفاته؟ فقال بعضهم: لم يسِرْ يوشع إلى أريحا، ولا أمِر بالمسير إليها إلّا بعد موت موسى، وبعد هلاك جميع من كان أبى المسيرَ إليها مع موسى بن عمران، حين أمرهم الله تعالى مَنْ فيها من الجبارين، وقالوا: مات موسى وهارون جميعًا في التيه قبل خروجهما منه. ذكر من قال ذلك حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان، قال: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال الله تعالى: لما دعا موسى - يعني بدعائه قوله: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافْرق بيننا وبين القومِ الفاسقين، قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ". قال: فدخلوا التيه، فكل من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنة مات في التيه، قال: فمات موسى في التيه، مات هارون قبله. قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، وناهض يوشعُ بمن معه مدينة الجبّارين فافتتح يوشع المدينة. حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة. قال: قال الله تعالى: " إنها محرَّمة عليهم أربعين سنة.. " الآية، حرّمت عليهم القرى، فكانوا لا يهبطون قرية، ولا يقدرون على ذلك أربعين سنة. وذكر لنا أنّ موسى مات في الأربعين سنة، ولم يدخل بيتَ المقدس منهم إلا أبناؤهم، والرجلان اللذان قالا ما قالا. حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في الخبر الذي ذكرت إسناده فيما مضى: لم يبق أحدٌ ممن أبى أن يدخل مدينة الجبّارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح. ثم إن الله عز وجل لما انقضت الأربعون سنة بعث يوشع بن نون نبيًا فأخبرهم أنه نبي وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، فهزم الجبارين، واقتحموا عليهم، فقتلوهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنُق الرجل يضربونها لا يقطعونها. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سليمان بن حرب، عن هلال، عن قتادة في قول الله تعالى: " فإنها محرّمة عليهم "، قال: أبدًا. حدثني المثنّى قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن هارون النحوي، عن الزبير بن الخرّيت، عن عكرمة في قوله: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض "، قال: التحريم التِّيه. وقال آخرون: إنما فتح أريحا موسى؛ ولكن يوشع كان علة مقدمة موسى حين سار إليهم. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما نشأت النواشي من ذراريّهم - يعني من ذراري الذين أبوا قتال الجبارين مع موسى - وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُبّهوا فيها؛ سار بهم موسى ومعه يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنّة، وكان فيما يزعمون على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، فكان لهم صهرًا، فلما انتهوا إلى أرض كنعان، وبها بلعم بن باعور العروف، وكان رجلًا قد آتاه الله علمًا، وكان فيما أوتي من العلم اسم الله الأعظم - فيما يذكرون - الذي إذا دعِي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سالم أبي النضْر، أنه حدث أن موسى لما نزل أرض بني كنعان من أرض الشأم، وكان بلعم ببالعة - قرية من قرى البلْقاء - فلما نزل موسى ببني إسرائيل ذلك المنزل، أتى قومُ بلعم إلى بلعم، فقالوا له: يا بلعم، هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويُحلّها بني إسرائيل، ويسكنها، وإنا قومك وليس لنا منزلٌ، وأنت رجل مُجابُ الدعوة، فاخرج فادعُ الله عليهم، فقال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون! كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم! قالوا: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرقّقونه، ويتضرعون إليه حتى فتنوه، فافتتن فركب حمارة له متوجهًا إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حُسبان، فما سار عليها غير قليل، حتى ربضت به، فنزل عليها فضربها حتى أذلقها فقامت فركبها، فلم تسرْ به كثيرًا حتى ربضت به، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها، فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها الله أذن لها فكلمتْه حُجّة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم! أين تذهب! ألا ترى الملائكة أمامي تردّني عن وجهي هذا! أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم! فلم ينزع عنها يضربها، فخلّى الله سبيلَها حين فعل بها ذلك، فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حُسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، فلا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غَلب الله عليه، واندلع لسانه فرفع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمّلوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهنّ فلا تمنع امرأة نفسَها من رجل أرادها؛ فإنه إن زنى رجل واحد منهم كُفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العساكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها كسّى ابنة صور - رأس أمته وبني أبيه من كان منهم في مديّن، هو كان كبيرهم - برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمري بن شلوم، رأس سِبْط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالُها، ثم أقبل حتى وقف بها على موسى، فقال: إني أظنك ستقول: هذه حرام عليك! قال: أجلْ هي حرام عليك لا تقربْها، قال: فو الله لا نُطيعك في هذا، ثم دخل بها قبّته فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل. وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى، وكان رجلًا قد أعطِيَ بسطة في الخلق، وقوة في البطش، كان غائبًا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يحوس في بني إسرائيل، فأخبِر الخبر، فأخذ حربته - وكانت من حديد كلّها - ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته - وكان بِكْر العيزار - فجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمَنْ يعصيك! ورُفع الطاعون فحُسب مَنْ يهلك من بني إسرائيل في الطاعون - فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص - فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفًا، والمقلّل لهم يقول: عشرون ألفًا، في ساعة من النهار، فمن هنالك تُعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كل ذبيحة ذبحوها القِبَة والذراع واللَّحْى، لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته، والبِكْر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار، ففي بلعم بن باعور، أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه: " واتل عليهِم نبأَ الذي آتيناه آياتنا فانسلخَ منها " - يعني بلعم بن باعور، " فأتْبعه الشيطانُ " إلى قوله: " لعلهم يتفكرون " يعني بني إسرائيل؛ أنى قد جئتهم بخبر ما كان فيهم مما يخفون عليك لعلهم يتفكرون فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عمّا مضى فيهم إلا نبي يأتيه خبر من السماء. ثم إن موسى قدّم يوشع بن نون إلى أريحا في بني إسرائيل فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، وأصاب من أصاب منهم، وبقيت منهم بقية في اليوم الذي أصابهم فيه، وجنح عليهم الليل، وخشي إن لبسهم الليل أن يُعجزوه، فاستوقف الشمس، ودعا الله أن يحبسها، ففعل الله عز وجل حتى استأصلهم؛ ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم بقبره أحد من الخلائق. فأما السدي في الخبر الذي ذكرت عنه إسناده فيما مضى؛ فإنه ذكر في خبره ذلك أن الذي قاتل الجبارين يوشع بن نون بعد موت موسى وهارون، وقصّ من أمره وأمرهم ما أنا ذاكره، وهو أنه ذكر فيه أن الله بعث يوشع نبيًا بعد أن انقضت الأربعون سنة، فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبي، وأنّ الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدّقوه، وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم - وكان يعلم الاسم الأعظم المكتوم - فكفر وأتى الجبارين، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل؛ فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون؛ فكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء من عظمهنّ، فكان ينكح أتانًا له، وهو الذي يقول الله عز وجل: " واتل عليهم نبأ الذي آتينا آياتنا " أي فبصر " فانسلخ منها فأتْبعه الشيطان فكان من الغاوين " إلى قوله: " ولكنه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثلُهُ كمثِل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث "، فكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب، فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس، وخرج بلعم مع الجبارين على أتانه، وهو يريد أن يلعنَ بني إسرائيل، فكلّما أراد أن يدعو على بني إسرائيل جاء على الجبارين، فقال الجبارون: إنك إنما تدعو علينا، فيقول: إنما أردت بني إسرائيل، فلما بلغ المدينة أخذ ملَك بذنَب الأتان فأمسكها، وجعل يحركها فلا تتحرك، فلما أكثر ضرْبها تكلّمت، فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار! ويل منك! ولو أني أطقت الخروج لخرجت بك؛ ولكن هذا الملَك يحبسني، فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالًا شديدًا حتى أمسوا وغربت الشمس، ودخل السبت. فدعا الله فقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله، اللهم اردد علي الشمس، فردت عليه الشمس، فزيد في النهار يومئذ ساعة، فهزم الجبارين واقتحموا عليهم يقتلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها. وجمعوا غنائمهم، وأمرهم يوشع أن يقرّبوا الغنيمة فقرّبوها، فلم تزل النار تأكلها، فقال يوشع: يا بني إسرائيل إن الله عز وجل عندكم طِلْبة، هلموا فبايعوني، فبايعوه فلصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلمّ ما عندك! فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت والجوهر، كان قد غلّه، فجعله في القربان، وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان. وأما أهل التوراة؛ فإنهم يقولون: هلك هارون وموسى في التَّيه، وإن الله أوحى إلى يوشع بعد موسى، وأمره أن يعبر الأردنّ إلى الأرض التي أعطاها بني إسرائيل، ووعدهم إياهم، وأن يوشع جَدَّ في ذلك ووجّه إلى أريحا من تعرّف خبرها، ثم سار ومعه تابوت الميثاق، حتى عبر الأردنّ، وصار له ولأصحابه فيه طريق، فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر، فلما كان السابع نفخوا في القرون، وضجّ الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فأباحوها واحرقوها، وما كان فيها ما خلا الذهب والفضة وآنية النحاس والحديد، فإنهم أدخلوه بيت المال. ثم إن رجلًا من بني إسرائيل غلّ شيئًا، فغضب الله عليهم وانهزموا، فجزع يوشع جزعًا شديدًا، فأوحى الله إلى يوشع أن يُقرِع بين الأسباط، ففعل حتى انتهت القُرعة إلى الرجل الذي غلّ، فاستخرج غُلوله من بيته، فرجَمه يوشع وأحرق كل ما كان له بالنار، وسمّوا الموضع باسم صاحب الغلول، وهو عاجز فالموضع إلى هذا اليوم غور عاجز. ثم نهض بهم يوشع إلى ملك عايى وشعبه، فأرشدهم الله إلى حربه، وأمر يوشع أن يكمن لهم كمينًا ففعل، وغلب على عايى وصلَب ملكها على خشبة، وأحرق المدينة وقتل مِنْ أهلها اثني عشر ألفًا من الرجال والنساء، واحتال أهلُ عماق وجيعون ليوشع حتى جعل لهم أمانًا، فلما ظهر على خديعتهم دعا الله عليهم أن يكونوا حطّابين وسقائين، فكانزا كذلك، وأن يكون بازق ملك أورشليم يتصدق، ثم أرسل ملوك الأرمانيين، وكانوا خمسة بعضهم إلى بعض، وجمعوا كلمتهم على جيعون، فاستنجد أهل جيعون يوشع، فأنجدهم وهزموا أولئك الملوك حتى حدّروهم إلى هَبْطة حَوران، ورماهم الله بأحجار البرَد، فكان من قتله البرد أكثر ممن قتله بنو إسرائيل بالسيف، وسأل يوشع الشمسَ أن تقف والقمر أن يقوم حتى ينتقم من أعدائه قبل دخول السبت، ففعلا ذلك وهرب الخمسة ملوك فاختفوا في غار، فأمر يوشع فسُدّ باب الغار حتى فرغ من الانتقام من أعدائه، ثم أمر بهم فأخرجوا، فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم من الخشب، وطرحهم في الغار الذي كانوا فيه، وتتبع سائر الملوك بالشأم؛ فاستباح منهم أحدًا وثلاثين ملكًا، وفرق الأرض التي غلب عليها. ثم مات يوشع، فما مات دفن في جبل أفراييم، وقام بعده سِبْطُ يهوذا وسبط شمعون بحرب الكنعانيين، فاستباحوا حريمهم، وقتلوا منهم عشرة آلاف ببازق، وأخذوا ملك بازق فقطعوا إبهامَيْ يديه ورجليه، فقال عند ذلك ملك بازق: قد كان يلقط الخبز من تحت مائدتي سبعون ملكًا مُقطّعي الأباهيم، فقد جزاني الله بصنيعي، وأدخلوا ملك بازق أورشليم، فمات بها. وحارب بنو يهوذا سائر الكنعانيين واستولوا على أرضهم، وكان عُمر يوشع مائة وستًا وعشرين سنة. وتدبيره أمر بني إسرائيل منذ توفي موسى إلى أن توفي يوشع بن نون شبعًا وعشرين سنة. وقد قيل إن أول من ملك من ملوك اليمن، ملك كان لهم في عهد موسى بن عمران من حمير، يقال له: شمير بن الأملول، وهو الذي بنى مدينة ظَفار باليمن، وأخرج مَنْ كان بها من العماليق، وإن شمير بن الأملول الحميري هذا كان من عُمّال ملك الفرس يومئذ على اليمن ونواحيها. وزعم هشام بن محمد الكلبي أن بقية بقيت من الكنعانيين بعد ما قتل يوشع مَنْ قتل منهم، وأن إفريقيس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب ابن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مر بهم متوجهًا إلى إفريقية، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها وقتل ملكها جرجيرا، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم معه من سواحل السام. قال: فهم البرابرة، قال: وإنما سُموا بربرًا، لأن إفريقيس قال لهم: ما أكثر بربرتكم! فسموا بربرًا، وذكر أن إفريقيس قال في ذلك من أمرهم شعرًا، وهو قوله: بربرَتْ كنعانُ لما سُقتها ** من أراضي الهُلْك للعيش العجَب قال: وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكُتامة، فهم فيهم إلى اليوم. ذكر أمر قارون بن يصهر قاهث وكان قارون ابن عم موسى عليه السلام. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: ابن همع، أخي أبيه. فإن: قارون ابن يصفر - هكذا قال القاسم، - وإنما هو يصهر - بن قاهث، وموسى بن عمرر بن قاهث، وعمرر بالعربية عمران؛ هكذا قال القاسم، وإنما هو عمرم. وأما ابن إسحاق فإنه قال ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلَمة، عنه: تزوج يصهر بن قاهث شميت ابنة تباويت بن بركيا بن يقسان بن إبراهيم. فولدت له عمران بن يصهر وقارون بن يصهر، فقارون - على ما قال ابن إسحاق - عم موسى أخو لأبيه وأمه. وأما أهلُ العلم من سلف أمتنا ومن أهل الكتابين فعلى ما قال ابن جريج. ذكر من حضرنا ذكره ممن قال ذلك من علمائنا الماضين حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن إبراهيم في قوله: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: كان ابن عم موسى. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قال: " إن قارون كان من قوم موسى "، كان قارون ابنَ عم موسى. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن سماك، عن إبراهيم: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: كان ابن عمه فبغى عليه. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قال: كان قارون ابن عم موسى. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن ابن أبي خالد، عن إبراهيم، قال: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: كان ابنَ عمه. حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " إن قارون كان من قوم موسى "، كنا نحدث أنه كان ابن عمه أخي أبيه، وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي. حدثني بشر بن هلال الصواف، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن مالك بن دينار، قال: بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عم قارون، وكان الله قد آتاه مالًا كثيرًا، كما وصفه الله عز وجل، فقال: " وآتيناه من الكُنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة "، يعني بقوله: " تنوء " تثقل. وذكر أن مفاتيح خزائنه كانت كالذي حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن خيثمة في قوله: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة " قال: نجد مكتوبًا في الإنجيل: نفاتيح قارون وَقْر ستين بغلًا غرًّا محجلة، ما يزيد مفتاح منها على إصبع؛ لكل مفتاح منها كنز. حدثني أبو كريب، قال: حدثنا هُشيم، قال: اخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة "، قال: كانت مفاتيح خزائنه تحمّل على أربعين بغلًا. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرَنا الأعمش عن خيثمة، قال: كانت مفاتيح قارون تحمَل على ستين بغلًا، كلّ مفتاح منها لباب كنزٍ معلوم، مثل الإصبع، من جلود. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: كانت مفاتيح قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، كل مفتاح على خزانة واحدة على حِدة، فإذا ركب حُمِلت المفاتيح على ستين بغلًا أغرّ محجّل. فبغى عدو الله لما أراه الله به من الشقاء والبلاء على قومه بكثرة ماله. وقيل إن بغيه عليهم كان بأن زاد عليهم في الثياب شبرًا. كذلك حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا حفص ابن غياث، عن ليث، عن شهر بن حَوْشب. فوعظه قومه على ما كان من بغيه ونهوه عنه، وأمروه بإنفاق ما أعطاه الله في سبيله والعمل فيه بطاعته، كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا له فقال: " إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرِحين، وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسِدين ". وعني بقوله: " ولا تنس نصيبك من الدنيا ": لا تنس في دنياك أن تأخذ نصيبك فيها لآخرتك، فكان جوابُه إياهم جهلًا منه، واغترارًا بحلم الله عنه، ما ذكر الله تعالى في كتابه أن قال لهم: إنما أوتيت ما أوتيت من هذه الدنيا على علم عندي قيل: معنى ذلك: على خير عندي، كذلك رُوي ذلك عن قتادة. وقال غيره: عني بذلك: لولا رضاء الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا، قال الله عز وجل مكذّبًا قيله: " أوَ لم يعلم أن الله قد أهلك مِنْ قَبله من القُرون من هو أشدَّ منه قوّة واكثر جمعًا " للأموال. ولو كان الله إنما يُعطى الأموال والدنيا من يعطيه إياها لرضاه عنه، وفضلُه عنده، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال الكثيرة قبله، مع كثرة ما كان أعطاهم منها، فلو يردعه عن جهله، وبغيه على قومه عظة من وعظه، وتذكير من ذكره بالله ونصيحته إياه؛ ولكنه تمادي في غيه وخسارته، حتى خرج على قومه في زينته راكبًا بِرْذَوْنًا أبيض مسرجًا بسرج الأرجُوان، قد لبس ثيابًا معصفرة، قد حمل معه من الجواري بمثل هيئته وزينته على مثل بِرْذَوْنه ثلاثمائة جارية وأربعة آلاف من أصحابه. وقال بعضهم: كان الذين حملهم على مثل هيئته وزينته من أصحابه سبعين ألفًا. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: " فخرج على قومه في زينته "، قال: على بِرْاذيْن بيض، عليها سروج الأرجوان، عليهم المعصفرة. فتمنى أهل الخسار من الذين خرج عليهم في زينته مثل الذي أوتيه، فقالوا: " يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم "، فأنكر ذلك من قوله عليهم أهل العلم بالله فقالوا لهم: ويلكم أيها المتمنّون مثل ما أوتي قارون! اتقوا الله، واعملوا بما أمركم الله به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإن ثواب الله وجزاءه أهل طاعته خيرٌ لمن آمن به وبرسله، وعمل بما أمره به من صالح الأعمال، يقول الله: " ولا يُلقّاها إلا الصابرون "، يقول: لا يلقي مثل هذه الكلمة إلا الذين صبروا عن طلب زينة الحياة الدنيا، وآثروا جزيل ثواب الله على صالح الأعمال على لذات الدنيا وشهواتها، فعلموا له بما يوجب لهم ذلك. فلما عتا الخبيث وتمادى في غيه، وبطر نعمة ربه ابتلاه الله عز وجل من الفريضة في ماله والحق الذي ألزمه فيه ما ساق إليه شحّه به أليم عقابه، وصار به عبرة للغابرين وعظة للباقين. فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، قال: لما نزلت الزكاة أتى قارونُ موسى فصالحه عن كل ألف دينار دينارًا، وعلى كل ألف درهم درهمًا، وعلى كل ألف شيء شيئًا، أو قال: وكل ألف شاة شاةً - قال أبو جعفر الطبري: أنا أشد - قال: ثم أتى بيته فحسبه فوجده كثيرًا فجمع بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل، إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعمتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم. فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فتجعلوا لها جُعلًا فتقذفه بنفسها. فدعوْها فجعلوا لها جُعلًا على أن تقذفه بنفسها، ثم أتى موسى فقال: إن قومك قد اجتمعوا لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض، قال: يا بني إسرائيل، منْ سرق قطعْنا يده، ومن افترى جلَدناه ثمانين، ومن زنى ولي سله امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت - أو قال: رجمناه حتى يموت - قال أبو جعفر أنا أشك - فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. قال: وإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها، فإن قالت فهو كما قالت، فلما أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة، قالت: لبيك! قال: أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، وكذبوا، ولكن جعلوا إلي جُعلًا على أن أقذفك بنفسي، فوثب فسجد وهو بينهم، فأوحى إليه: مُر الأرض بما شئت، قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال: يا أرض خُذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم، قال: فجعلوا يقولون: يا موسى، ويتضرعون إليه، يا أرض خذيهم، فأطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى يقول لك عبادي: يا موسى يا موسى، فلا ترحمهم، أما لو إياي دعوا لوجدوني قريبًا مجيبًا، قال: فذلك قوله: " فخرج على قومه في زينته "، وكانت زينته أنه خرج على دوابّ شُقْر عليها سروج أرجوان، عليها ثياب مصبّغة بالبهرمان،: " قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون " إلى قوله: " لا يُفلح الكافرون ". يا محمد " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون عُلُواّ في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن المنهال، عن رجل، عن ابن عباس بنحوه، وزادني فيه: قال: فأصاب بني إسرائيل بعد ذلك شدة وجوع شديد، فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربك، قال: فدعا لهم فأوحى الله إليه: يا موسى، أتكلمني في قوم قد أظلم ما بيني وبينهم من خطاياهم، وقد دعوك فلم تجبهم أما لو إياي دعوا لأجبتهم. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا علي بن هاشم ابن البريد، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في قوله: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: كان ابن عمه، وكان موسى يقضي في ناحية بني إسرائيل وقارون في ناحية، قال: فدعا بغيّة كانت في بني إسرائيل، فجعل لها جُعلًا على أن ترمي موسى بنفسها، فتركه، حتى إذا كان يوم يجتمع فيه بنو إسرائيل إلى موسى أتاه قارون فقال: يا موسى، ما حدُّ من سرق؟ قال: أن تقطع يده، قال: فإن كنت أنت؟ قال نعم، قال: فما حد من زنا؟ قال: أن يُرجم، قال: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قال: فإنك قد فعلت، قال: ويلك! بمن؟ قال: بفلانة، فدعاها موسى فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة، أصدق قارون؟ قالت: اللهمّ إذ نشدتني، فإني أشهد أنك بريء، وأنك رسول الله، وأن عدو الله قارون جعل لي جُعلًا على أن أرميك بنفسي، قال: فوثب موسى فخرّ ساجدًا، فأوحى الله إليه أن أرفع رأسك فقد أمرت الأرض أن تطيعك، فقال موسى: خذيهم، فأخذتهم حتى بلغوا الحَقْوا، قال: يا موسى، قال: خذيهم فأخذتهم حتى بلغوا الصدور، قال: يا موسى، قال: خذيهم، قال: فذهبوا، قال: فأوحى الله إليه: يا موسى، استغاث بك فلم تُغثه، أما لو استغاثَ بي، لأجبتُه ولأغثته. حدثنا بشر بن هلال الصواف، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، قال: حدثنا علي بن زيد بن جُدعان، قال: خرج عبد الله بن الحارث من الدار، ودخل المقصورة فلما خرج منها جلس وتساند عليها وجلسنا إليه، فذكر سليمان بن داود و " قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " إلى قوله: " إن ربي غنيٌ كريم ". قال: ثم سكت عن حديث سليمان، فقال: " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم "، وكان قد أوتي من الكنوز ما ذكره الله في كتابه: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة ". فقال: إنما أوتيته على علم عندي قال: وعاد موسى وكان مؤذيًا له، فكان موسى يصفح عنه، ويعفو للقرابة حتى بنى دارًا، وجعل باب داره من ذهب، وضرب على جدر داره صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون عليه ويروحون، فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضكحونه، فلم تدعه شقوته والبلاء حتى أرسل إلى امرأة من بني إسرائيل مشهورة بالخنا مشهورة بالسب، فجاءت قال لها: هل لك أن أموّلك وأعطيك وأخلِطك بنسائي، على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي فتقولي: يا قارون أل تنهى عني موسى! قالت: بلى، فلما جلس قارون، وجاءه الملأ من بني إسرائيل أرسل إليها فجاءت، فقامت بين يديه، فقلب الله قلبها، وأحدث لها توْبة، فقالت في نفسها: لا أجد اليوم توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله وأعذب عدو الله، فقالت: إن قارون قال لي: هل لكِ أن أمولك وأعطيك وأخلطك بنسائي على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي، فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني موسى! فلم أجد توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله، وأعذب عدو الله. فلما تكلمت بهذا الكلام سُقط في يدي قارون، ونكس رأسه، وسكت عن الملأِ، وعرف أنه قد وقع في هَلكة، فشاع كلامُها في الناس، حتى بلغ موسى، فلما بلغ اشتد غضبه فتوضأ من الماء وصلى وبكى، وقال: يا رب عدوك لي مؤذٍ، أراد فضيحتي وشيْتني، يا رب سلطني عليه. فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى إلى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجه موسى له، فقال له: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، قال: فاضطربت داره، وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فاضطربت دارُه وساخت، وخُسِف بقارون وأصحابه إلى ركبهم وهو يتضرع إلى موسى: يا موسى، ارحمني! قال: يا أرض خذيهم، فخسف به وبداره وأصحابه، قال: وقيل لموسى: يا موسى، ما أفظك، أما وعزتي لو إياي نادى لأجبتُه! حدثنا بشر بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوْني، قال: بلغني أنه قيل لموسى: لا أعبِّد الأرض لأحد بعدك أبدًا. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، " فخسفنا به وبداره الأرض "، ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يجلجل فيها ولا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة. قال أبو جعفر: فلما نزلت نقمة الله بقارون حمِد الله على ما أنعم به عليهم المؤمنون الذين وعظوه وأنذروه بأمر الله، ونصحوا له من المعرفة بحقّه والعمل بطاعته، وندم الذين كانوا يتمنون ما هو فيه من كثرة المال، والسعة في العيش على أمنيتهم، وعرفوا خطأ أنفسهم في أمنيتها، فقالوا ما أخبر الله عز وجل عنهم في كتابه: " ويكأن الله يبسُط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا "، فصرف عنا ما ابتلى به قارون وأصحابه مما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا كما خسف به وبهم. فنجّى الله تعالى من كل هول وبلاء نبيه موسى والمؤمنين به المتمسكين بعهده من بني إسرائيل، وفتاه يوشع بن نون المتبعين له بطاعتهم ربهم، وأهلك أعداءه وأعداءهم: فرعون وهامان وقارون والكنعانيين بطفرهم وتمردهم عليه وعتوهم، بالغرق بعضًا، وبالخسف بعضًا، وبالسيف بعضًا، وجعلهم عبرًا لمن اعتبر بهم، وعظة لمن اتعظ بهم، مع كثرة أموالهم وكثرة عدد جنودهم، وشدة بطشهم، وعظم خلقهم وأجسامهم، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أجسامهم ولا قواهم ولا جنودهم وأنصارهم عنهم من الله شيئًا؛ إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ويسعوْن في الأرض فسادًا، ويتّخذون عباد الله لأنفسهم خَوَلًا، وحاق بهم ما كانوا منه آمنين؛ نعوذ بالله من عمل يقرّب من سخطه، ونرغب إليه في التوفيق لما يدني من محبته، ويزلف إلى رحمته! وروي عن النبي ﷺ ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمى، قال: حدثني الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخوْلاني، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله ﷺ: " أول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى ". قال: قلت: يا رسول الله، ما كان في صحف موسى؟ قال: كانت عِبرًا كلها، عجبت لمن أيقن بالنار ثم يضحك، عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، عجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم لم يعمل! وكان تدبير يوشع أمر بني إسرائيل من لدن مات موسى، إلى أن توفي يوشع، كله في زمان منوشهر عشرين سنة، وفي زمان فراسياب سبع سنين. ونرجع الآن إلى: ذكر القائم بالملك ببابل من الفرس بعد منوشهر إذ كان التاريخ إنما تدرك صحته على سياق مدة أعمار ملوكهم. ولما هلك منوشهر الملك بن منشخورنر، قهر فراسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك على خنيارث ومملكة أهل فارس وصار - فيما قيل - إلى أرض بابل، فكان يُكثر المقام ببابل وبمِهرجان قذَق، فأكثر الفساد في مملكة أهل فارس. وقيل: إنه قال حين غلب على مملكتهم: نحن مسرعون في إهلاك البريّة، وإنه عظُم جوره وظلمه، وخرّب ما كان عامرًا من بلاد خنيارث، ودفن الأنهار والفتي، وقَحِط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن خرج عن مملكة أهل فارس، ورُدّ إلى بلاد الترك، فغارت المياه في تلك السنين، وحالت الأشجار المثمرة. ولم يزل الناس منه في أعظم البلية، إلى أن ظهر زوّ بن طهْماسب وقد يلفظ باسم " زوّ " بغير ذلك فيقول بعضهم: زاب بن طهْماسفان، ويقول بعضهم: زاغ، ويقول بعضهم: راسب بن طهماسَب بن كانجو بن زاب بن أرفس بن هراسف بن ونديج بن أريج بن نوذ وجوش ابم منسوا - بن نوذر بن منوشهر. وأم زوّ مادول ابنة وامن بن واذرجا بن قود بن سَلْم بن أفريدون. وقيل: إن منوشهر كان وجد في أيام ملكه على طهماسب بسبب جناية جناها، وهو مقيم في حدود الترك لحرب فراسياب، فأراد منوشهر قتله بسبب ذلك، فكلّمه في الصفح عنه عُظماء أهل مملكته. وكان من عدل منوشهر - فيما ذكر - أنه قد كان يسّوي بين الشريف والوضيع، والقريب والبعيد في العقوبة، إذا استوجبها بعض رعيته على ذنب أتاه - فأبى إجابتهم إلى ما سألوه من ذلك، وقال لهم: هذا في الدين وهَنٌ، ولكنكم إذ أبيتم علي، فإنه لا يسكن في شيء من مملكتي، ولا يُقيم به، فنفاه عن مملكته فشخص إلى بلاد الترك، فوقع إلى ناحية وامن، فاحتال لابنته وهي محبوسة في قصر من أجل المنجَمين كانوا ذكروا لوامن أبيها أنها تلد ولدًا يقْتله، حتى أخرجها من القصر الذي كانت محبوسة فيه، بعد أن حملت منه بزوّ. ثم إن منوشهر إذِن لطهماسب بعد أن انقضت أيام عُقوبته في العود إلى خينارث مملكة فارس، فأخرج مادول ابنة وامن بالحيلة منها ومنه في إخراجها من قصرها من بلاد الترك إلى مملكة أهل فارس، فولدت له زواّ بعد العود إلى بلاد إيرانكرد، ثم إن زوًا - فيما ذكر - قتل جدّه، وامّن في بعض مغازيه الترك، وكطرد فراسياب عن مملكة أهل فارس، حتى ردّه إلى الترك بعد حروب جرت بينه وبينه وقتال، فكانت غَلبة فراسياب أهل فارس على إقليم بابل اثنتي عشرة سنة، من لدن توفي منوشهر إلى أن طرده عنه، وأخرجه زوّ بن طهماسب إلى تركستان. وذكر أن طَرْدَ زوّ فراسياب عما كان عليه من مملكة أهل فارس في روزأبان من شهر أبانماه، فاتخذ العجم هذا اليوم عيدًا لما رفع عنهم فيه من شر فراسياب وعَسْفه وجعلوه الثالث من أعيادهم النوروز والمهرجان. وكان زوّ محمودًا في مُلكه، محسنًا إلى رعيته، فأمر بإصلاح ما كان فراسياب أفسد من بلاد خنيارث، ومملكة بابل وبناء ما كان هُدم من حصون ذلك، ونثل ما كان طم وغوّر من الأنهار والقنى، وكرى ما كان اندفن من المياه حتى أعاد كل ذلك - فيما ذكر - إلى أحسن ما كان عليه، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين، ودفعه عنهم، فعمرت بلاد فارس في ملكه، وكثُرت المياه فيها، ودرّت معايش أهلها، واستخرج بالسواد نهرًا سماه الزاب، وأمر فبنيت على حافتيه مدينة وهي التي تسمى المدينة العتيقة، كوّرها كورة، وسماها الزوابي، وجعل لها ثلاثة طَساسيج: منها طسّوج الزاب الأعلى، ومنها طسّوج الزاب الأوسط، ومنها طسّوج الزاب الأسفل؛ وأمر بحمل بُزور الرياحين من الجبال إليها وأصول الأشجار، وبذْر ما يبذر من ذلك، زغرس ما يغرس منه، وكان أولَ من اتُّخذ له ألوان الطبيخ وأمر بها بأصناف الأطعمة، وأعطى جنودَه مما غنِم من الخيل والرّكاب، مما أوْجَف عليه من أموال الترك وغيرهم. وقال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن متقدمون في عمارة ما أخْربه الساحر فراسياب. وكان له كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان بن طورك بن شيراسب بن أروشسب بن طوج بن أفريدون الملك. وقد نسبه بعض نسابي الفرس غير هذا النسب فيقول: هو كرشاسف بن أشنان بن طهموس بن أشك بن ترس بن رحر بن دودسرو بن منوشهر الملك - مؤازرًا على ملكه. ويقول بعضهم: كان زوّ وكرشاسب مشتركين في الملك، والمعروف من أمرهما أن الملْك كان لزو بن طهماسب وأن كرشاسب كان له مؤازرًا وكان كرشاسب عظيم الشأن في أهل فارس، غير أنه لم يملك، فكان جميعُ ملْك زوّ إلى أن انقضى ومات - فيما قيل - ثلاث سنين. ثم ملك بعد زوّ كيقباذ، وهو كيقياذ بن زاغ بن نوحباه بن منشو بن نوذر بن منوشهر. وكان متزوجًا بفرتك ابنة تدرسا التركي، وكان تدرسا من رؤوس الأتراك وعظمائهم، فولدت له كي إفنه، وكي كاوس، وكي أرش، وكيبه أرش، وكيفاشين وكيبية؛ وهؤلاء هم الملوك الجبابرة وآباء الملوك الجبابرة. وقيل إن كيقباذ قال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن مدوّخون بلاد الترك ومجتهدون في إصلاح بلادنا، حدبون عليها، وأنه قدّر مباه الأنهار والعيون لشرب الأرضين، وسمى البلاد بأسمائها، وحدّها بحدودها، كوّر الكُور، وبيّن حير كل كورة منها وحريمها، وأمر الناس باتخاذ الأرض، وأخذ العُشْر عن غَلاتها لأرزاق الجند، وكان - فيما ذكر - كيقباذ يُشبّه في حرثه على العمارة، ومنعه البلاد من العدو، وتكبّره في نفسه بفرعون. وقيل إن الملوك الكيية وأولادهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك وغيرهم حروب كثيرة، وكان مقيمًا في حدّ ما بين مملكة الفرس والترك بالقرب من نهر بلْخ، لمنع الترك من تطرق شيء من حدود فارس، وكان ملكه مائة سنة، والله أعلم. ونرجع الآن إلى: ذكر أمر بني إسرائيل والقوّام الذين كانوا بأمرهم بعد يوشع بن نون والأحداث التي كانت في عهد زوّ وكيقباذ ولا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور الأمم السالفين من أمتنا وغيرهم أن القيّم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كان كال بو يوفنّا، ثم حِزْقيل بن بُوذي من بعده، وهو الذي يقال له ابن العجوز. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: إنما سمي حِزقيل بن بوزي ابن العجوز؛ أنها سألت الله الولد، وقد كبرت وعقِمت، فوهبه الله لها، فبذلك قيل له: ابن العجوز؛ وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب عليه السلام كما بلغنا: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حَذَرَ الموْتِ ". حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد الصمد بن معقل؛ أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسًا من بني إسرائيل بلاءٌ وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا قد مِتنا فاسترحنا مما نحن فيه! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا، وأي راحة لهم في الموت! أيظنون أني لا أقدر على أن أبعثَهم بعد الموت! فانطلقْ إلى جبانة كذا وكذا فإن فيها أربعة آلاف - قال وهب: وهم الذين قال الله تعالى: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حَذَرَ الموت " - فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت؛ فرّقتها الطير والسباع، فناداها حزقيل، فقال: يا أيتها العظام النخرة، إن الله عز وجل بأمرك أن تجتمعي. فاجتمع عظام كل إنسان منهم معًا، ثم نادى ثانية حزقيل فقال: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدًا، فكانت أجسادًا، ثم نادى حزقيل الثالثة فقال: أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك. فقاموا بإذن الله، وكبّروا تكبيرة واحدة. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمْذاني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارِهم وهمْ ألوفٌ حَذَرَ الموت فقال لهمُ الله موتوا ثم أحياهم " كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، فوقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزَم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجنّ معهم. فوقع في قابل فهربوا وهم بضعة وثلاثين ألفًا، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيَح، فناداهم ملَك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه: أن موتوا، فماتوا حتى هلكوا، وبليت أجسادهم، فمر بهم نبيٌّ يقال له هزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم، ييلوي شِدقه وأصابعه، فأوحى الله إليه: يا هزقيل، أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، وإنما كان تفكّره أنه تعجّب من قدرة الله عليهم، فقال: نعم، فقيل له: ناد، فنادى يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض؛ حتى كانت أجسادًا من عظام، ثم أوحى الله أن ناد: يا أيتها العظام؛ إن الله يأمرك أن تكتسي لحمًا فاكتست لحمًا ودمًا وثيابها التي ماتت فيها؛ وهي عليها، ثم قيل له: ناد، فنادى: يا أيتها الأجساد، إن الله بأمُرك أن تقومي، فقاموا. حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، قال: فزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أحْيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت؛ فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنةُ الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبًا إلا عاد دسمًا مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكّام، عن عنبسة، عن أشعث، عن سالم النصري، قال: بينما عمر بن الخطاب يصلي ويهوديان خلفه، وكان عمر إذا أراد أن يركع خوّى، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: فلما انفتل عمر قال: أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ فقالا: إنا نجد في كتابنا قرنًا من حديد يعطى ما أعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن الله، فقال عمر: ما نجد في كتابنا حزقيل، ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى ابن مريم، فقالا: أما تجد في كتاب الله " ورسلًا لم نقصصهم عليك "، فقال عمر: بلى، قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك أن نبي إسرائيل وقه فيهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطًا، حتى إذا بليت عظامُهم بعث الله حزقيل فقام عليهم، فقال: ما شاء الله! فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذَرَ الموت.. "، والآية. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: أن كالب بن يوفنّا لما قبضه الله بعد يوشع؟، خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوذي، وهو ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد ﷺ كما بلغنا: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم.. " الآية. قال ابن حميد: قال سلمة قال ابن إسحاق: فبلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارًا مهن بعض الأوباء من الطاعون، أو من سُقْم كان يصيب الناس حذرًا من الموت وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله: موتوا، فماتوا جميعًا، فعمِد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركزهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيّبوا، فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظامًا نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوذي، فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم، ودخلته رحمة لهم، فقيل له: أتحب التي قد رمّت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه. فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تتواثب يأخذ بعضُها بعضًا، ثم قيل له: قل أيها اللحم والعصَب والجلد، اكسِ العظام بإذن ربك، قال فنظر إليها والعصب يأخذ العظام، ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلْقًا ليست فيهم الأرواح، ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء كرَبَه، حتى غُشِيَ منه، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون: سبحان الله فقد أحياهم الله! فلم يذكر لنا مدة مكْث حزقيل في بني إسرائيل. إلياس واليسع عليهما السلام ولما قبض الله حزقيل كثرت الأحداث - فيما ذكر - في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله الذي عهد إليهم في التوراة، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم فيما قيل: إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق: ثم إن الله عز وجل قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونَسوا ما كان من عهدِ الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فِنْحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيًا؛ وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يُبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. فكان إلياسُ مع ملِك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، وكان اسم امرأته أزبل، وكان يسمع منه ويصدّقه، وكان إلياس يقيم له أمرَه، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنمًا يعبدونه من دون الله، يقال له: بَعْلِ. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعْل إلا امرأة يعبدونها من دون الله يقول الله لمحمد " وإن إلياسَ لمنَ المرسَلين إذ قال لقومه ألا تتقون " - إلى قوله: " الله ربكم وربَّ آبائكُمُ الأولين " - فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئًا إلا ما كان من ذلك الملك، الذي كان إلياس معه، يقوم له بأمره، ويراه على هدى من بين أصحابه يومًا يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلًا، والله ما أرى فلانًا وفلانًا فعد ملوكًا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون، مملَّكين، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل. فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعرُ رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه ففعل ذلك الملك فعل أصحابه؛ عَبَدَ الأوثان، وصنع ما يصنعون. فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك، والعبادة لغيرك، فغيّر ما بهم من نعمتك. أو كما قال. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: ذكر لي أنه أوحى إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك؛ حتى تكون أنت الذي تأمر في ذلك. فقال إلياس: اللهمّ فأمسك عنهم المطر. فحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والدوابّ والهوامّ والشجر، وجَهِد الناس جهدًا شديدًا. وكان إلياس - فيما يذكرون - حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى شفقًا على نفسه منهم، وكان حيث ما كان وضع له رزق، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه، ولقي أهل ذلك المنزل منهم شرًّا. ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل، لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب، به ضُرّ، فآوته وأخفت أمرَه، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضُرّ الذي كان به، واتبع اليسع فآمن به وصدّقه ولزمه، فكان يذهب معه حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسنّ وكبِر، وكان اليسع غلامًا شابًا. فيزعمون - والله أعلم - أن الله أوحى إلى إلياس أنك قد هلكت كثيرًا من الخلق ممن لم يعصِ، سوى بني إسرائيل ممن لم أكن أريد هلاكه بخطايا بني إسرائيل من البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر، بحبس المطر عن بني إسرائيل. فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس قال: أي رب، دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وأكن أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك. قيل له نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل، فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهدًا، وهلكت البهائم والدوابّ والطير والهوام والشجر بخطاياكم، وأنكم على باطل وغرور - أو كما قال لهم - فإنْ كنتم تحبون أن تعلموا ذلك وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، وأن الذي أدعوكم إليه الحق، فاخرُجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه؛ فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء. قالوا: أنصفت، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إلى الله من أحداثهم التي لا يرضى، فدعوها فلم تستجب لهم. ولم تفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، حتى عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل، ثم قالوا لإلياس: يا إلياس؛ إنا قد هلكنا، فادع الله لنا، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه، وأن يُسقَوا، فخرجت سحابة مثل الترس بإذن الله على ظهر البحر، وهم ينظرون، ثم ترامى إليه السحاب، ثم أدجنت، ثم أرسل الله المطر فأغاثهم، فحييت بلادُهم، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فلم ينزعوا ولم يرجعوا وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه. فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم دعا ربه أن يقبِضه إليه فيريحه منهم، فقيل له - فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس، وخرج معه اليسع بن أخطوب حتى إذا كان بالبلد الذي ذكر له في المكان الذي أمر به أقبل فرسٌ من نار، حتى وقف بين يديه فوثب عليه، فانطلق به فناداه اليسع: يا إلياس، يا إلياس، ما تأمرني؟ فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم، والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسيًا مَلكيًا أرضيًا سمائيًا. ثم قام بعد إلياس بأمر بني إسرائيل - يعني في بني إسرائيل - بعده يعني بعد إلياس - اليسع، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه، وخلفت فيهم الخلُوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرًا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزن الله ذلك العدو. والسكينة فيما ذكر ابن إسحاق عن وهب بن منبه عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل رأس هرة ميتة، فإذا صرخَت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر، وجاءهم الفتح. ثم خلف فيهم ملِك يقال له إيلاف، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره، فكان أحدهم - فيما يذكرون - يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ في الحب، فيخرج الله له ما يأكل منه سنة، وهو وعياله، ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكل؛ هو وعيالُه سنة، فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به فقوتلوا حتى استُلب من أيديهم، فأتى ملكهم إيلاف، فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب. فمالت عنقه فمات كمدًاُ عليه، فمرج أمرهم بينهم واختلف ووطئهم عدوهم حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم، فمكثوا على اضطراب من أمرِهم، واختلاف من أحوالهم يتمادون أحيانًا في غيهم وضلالهم، فسلط الله عليهم من ينتقم به منهم، ويراجعون التوبة أحيانًا فيكفيهم الله عند ذلك شر مَنْ بَغَاهم سوءًا؛ حتى بعث الله فيهم طالوت ملكًا، وردّ عليهم تابوت الميثاق. وكانت مدة ما بين وفاة يوشع بن نون - التي كان أمر بني إسرائيل في بعضها إلى القضاة منهم والساسة، وفي بعضها إلى غيرهم ممن يقهرهم فيتملّك عليهم من غيرهم إلى أن ثبت الملك فيهم، ورجعت النبوة إليهم بشمويل بن بالي - أربعمائة سنة وستين سنة. فكان أولَ من سُلِّط عليهم غيما قيل رجل من نسل لوط، يقال له: كوشان، فقهرهم وأذلهم ثمانيَ سنين، ثم تنقّذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل بن قيس - فقام بأمرهم فيما قيل - أربعين سنة، سُلِّط عليهم ملك يقال له جعلون فملكهم ثمانيَ عشرة سنة، ثم تنقّذهم منه - فيما قيل - رجل من سبط بنيامين يقال له أهود بن حيرا الأشلّ اليمنى، فقام بأمرهم ثمانين سنة، ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيين يقال له يا فين، فملكهم عشرين سنة، ثم تنقّذهم - فيما قيل - امرأة نبية من أنبيائهم يقال لها دبورا فدبر أمرهم - فيما قيل - رجل من قِبلها يقال له باراق أربعين سنة، ثم سُلط عليهم قوم من نسل لوط كانت لهم منازل في تخوم الحجاز فملكوهم سبع سنين، ثم تنقّذهم منهم رجل من ولد نفثالي بن يعقوب يقال له جدعون بن يواش، فدبر أمرهم أربعين سنة، ثم دبر أمرهم من بعد جدعون ابنه أبيملك بن جدعون ثلاث سنين، ثم دبرهم من بعد أبيملك تولغ بن فوا بن خال أبيملك. وقيل إنه ابن عمه - ثلاثًا وعشرين سنة، ثم دبر أمرهم بعد تولغ رجل من بني إسرائيل يقال له: ياثير اثنتين وعشرين سنة، ثم ملكهم بنو عمون، وهم قوم من أهل فلسطين ثمانيَ عشرة سنة، ثم قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبرهم من بعده يجشون، وهو رجل من بني إسرائيل سنع سنين، ثم دبرهم بعده ألون عشر سنين، ثم من بعده كيرون - ويسميه بعضهم عكرون - ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملوكهم أربعين سنة، ثم وليهم شمسون وهو من بني إسرائيل عشرين سنة، ثم بقوا بغير رئيس ولا مدبّر لأمرهم بعد شمسون - فيما قيل - عشر سنين، ثم دبر أمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل غزّة وعسقلان على تابوت الميثاق، فلما مضى من وقت قيامه بأمرهم أربعين سنة، بعث سمويل نبيًا فدبر شمويل أمرهم - فيما ذكر - عشر سنين. ثم سألوا شمويل حين نالهم بالذل والهوان بمعصيتهم ربهم أعداؤهم، أن يبعث لهم ملِكًا يجاهدون معه في سبيل الله، فقال لهم شمويل ما قد قصّ الله في كتابه العزيز. ذكر خبر شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهوا بن تهو بن صوف، وطالوت وجالوت كان من خبر شمويل بن بالى أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وأذلتهم الملوك من غيرهم، ووطئت بلادهم، وقتلوا رجالَهم، وسبوا ذراريّهم، وغلبوهم على التابوت الذي فيه السكينة والبقية مم اترك آل موسى وآل هارون، وبه كانوا ينصرون إذا لقوا العدو، ورغبوا إلى الله عز وجل في أن يبعث لهم نبيًا يقيم أمرهم. فحدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ: كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة، وكان ملك العمالقة جالوت، وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتَهم، فكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيًا يقاتلون معه، وكان سِبْط النبوّة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حُبلى فأخذوها فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدِ له بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقَها غلامًا، فولدت غلامًا فسمته سمعون، تقول: الله سمع دعائي. فكبر الغلام فأسلمته يتعلم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائها وتبناه فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيًا، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه أحدًا غَيره فدعاه بلحن الشيخ: يا شمويل، فقام الغلام فزعًا إلى الشيخ، فقال: يا أبتاه، دعوتني! فكره الشيخ أن يقول: لا فيفزع الغلام، فقال: يا بني، ارجع فنم، فرجع الغلام فنام. ثم دعاه الثانية فلباه الغلام أيضًا، فقال: دعوتني! فقال ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر له جبرئيل عليه السلام فقال: اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيًّا. فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوّة ولم يألك وقالوا: إن كنت صادقًا فابعث لنا ملكًا يقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك، قال لهم سمعون: عسى إن كُتِبَ عليكم القتال ألّا تقاتلوا. قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا بأداء الجزية، فدعا الله فأتى بعصًا، تكون مقدارًا على طول الرجل الذي يُبعث فيهم ملكًا، فقال: إن صاحبَكم يكون طوله طولَ هذه العصا، فقاسوا أنفسَهم بها، فلم يكونوا مثلَها، وكان طالوت رجلًا سقّاء يستقي على حمار له، فضلّ حمارُه، فانطلق يطلبه في الطريق، فلما رأوه دعوه فقاسوه بها فكان مثلها؛ وقال لهم نبيهم: " إن الله قد بعثَ لكم طالوتَ ملِكًا " قال القوم: ما كنت قطّ أكذبَ منك الساعة، ونحن من سِبْط المملكة، وليس هو من سِبْط المملكة، ولن يؤتَ أيضًا سعةً من المال فنتبعه لذلك، فقال النبي: " إن اللهَ اصطفاه عليكم وزادَه بَسْطةً في العلم والجسم "، فقالوا: فأن كنت صادقًا فأتنا بآية أنّ هذا ملِك، قال: " إنّ آية مُلْكه أنْ يأتيكُمُ التابوتُ فيه سَكِينةٌ من ربّكم وبقيةٌ مما تَرَكَ أل موسى وأل هارون ". والسكينة طِسْت من ذهب يُغسل فيها قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى، وفيها وضع الألواح، وكانت الألواح - فيما بلغنا - من در وياقوت وزبرجد، وأما البقية فإنها عصا موسى ورُضاضة الألواح، فأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، فآمنوا بنبوّة سمعون، وسلّموا الملك لطالوت. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعتْه عند طالوت. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: نزلت الملائكة بالتابوت نهارًا ينظرون إليه عيانًا، حتى وضعوه بين أظهرهم، قال: فأقرّوا غير راضين، وخرجوا ساخطين. رجع الحديث إلى حديث السدي، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفًا، وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسًا يخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي، فلما خرجوا قال لهم طالوت: " إن الله مبتليكم بنهرٍ فمَنْ شرب منه فليس منّي ومَنْ لم يَطعمْهُ فإنه منّي " وهو نهر فلسطين، فشربوا منه هيبةً من جالوت، فعَبر معه منهم أربعة آلاف ورجَع ستة وسبعون ألفًا، فمن شرب منه عطِش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روى، فلما جاوزه هو والذين أمنوا معه، فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضًا وقالوا: " لا طاقةَ لنا اليومَ بجالوتَ وجُنودِه قال الذين يظنّون أنهم ملاقوا الله "، الذين يستيقنون " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. فرجع عنه أيضًا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وخلص في ثلاثمائة وتسعة عشر عدة أهل بدر. حدثني المثنّى، قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان لعيلى الذي ربى شمويل ابنان شابان، أحدثا في القُرْبان شيئًا لم يكن فيه كان مِسْوَط القُربان الذي كانوا يسوطونه به كلّابَيْن، فما أخرجا كان للكاهن الذي يَسُوطه، فجعله ابناه كلاليب، وكانا إذا جاءت النساء يصلّين في القدس يتشبثان بهنّ. فبينما أشمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلى إذ سمع صوتًا يقول: أشمويل! فوثب إلى عيلى فقال: لبيك، فقال: مالك دعوتني؟ قال: لا! ارجع فنم، فنام، ثم سمع صوتًا آخر يقول: أشمويل! فوثب إلى عيلى أيضًا، فقال: لبيك؛ مالك دعوتني؟ فقال: لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئًا فقل: " لبيك " مكانك، " مرْني فافعل "، فرجع فنام فسمع صوتًا أيضًا يقول: أشمويل، فقال: لبيك، أنا هذا فمرني أفعل، قال: انطلق إلى عيلى، فقل له: منعه حُبّ الولد من ان يرجُر ابنيه أن يُحدثا في قدسي وقُرباني، وأن يعصياني، فلأنزعنّ منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنّه وإياهما، فلما أصبح سأله عيلى فأخبره، ففزِع لذلك فزعًا شديدًا، فسار إليهم عدوٌّ ممن حوله فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدو، فخرجا وأخرجا معهم التابوت الذي فيه الألواح وعصا موسى لينتصروا به. فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم جعل عيلى يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: أنّ ابنيك قد قتلا، وأن الناس قد انهزموا، قال: فما فعل التابوت؟ قال: ذهب به العدو قال فشهِق ووقع على قفاه من كرسيه فمات، وذهب الذين سَبَوُا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم والصنم من فوقه، فأصبح من الغد الصنم تحته، وهو فوق الصنم، ثم أخذوه فوضعوه فوقه، وسمّروا قدميه في التابوت، فأصبح من الغد قد قطعت يد الصنم ورجلاه، وأصبح ملقىً تحت التابوت، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء! فأخرجوه من بيت آلهتكم. فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوتَ وَجعٌ في أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟ فقالت لهم جارية كانت عندهم من سني بني إسرائيل: لا تزالون تروْنَ ما تكرهون! ما كان هذا التابوت فيكم، فأخرجوه من قريتكم. قالوا: كذبت، قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين، لهما أولاد لم يوضع عليهما نِيرٌ قطّ، ثم تضعوا وراءهما العجل، ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيّروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين، حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نِيَرهما، وأقبلتا إلى أولادهما، ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل، كسرتا تِيرهما وأقبلتا إلى أولادهما، ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، ففزع إليه بنو إسرائيل، وأقبلوا إليه فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات، فقال لهم نبيهم أشمويل اعترضوا، فمن آنس من نفسه قوة فليدنُ منه، فعرضوا عليه الناس، فلم يقدِرْ أحد على أن يدنوَ منه؛ إلا رجلان من بني إسرائيل، أذن لهما بأنْ يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة، فكان في بيت أمهما، حتى مَلك طالوت، فصلُح أمر بني إسرائيل مع أشمويل. فقالت بنو إسرائيل لأشمويل ابعث لنا ملكًا يقاتل في سبيل الله، قال: قد كفاكم الله القتال، قالوا إنا نتخوّف مِنْ حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه، فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعثْ لهم طالوت ملكًا وادهُنه بدهن القدس، فضلت حمر لأني طالوت، فأرسله وغلامًا له يطلبانها فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها، فقال إن الله قد بعثك ملكًا على بني إسرائيل، قال: أنا! قال: نعم، قال أو ما علمت أنّ سِبْطي أدنى أسباط بني إسرائيل! قال: بلى، قال: أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سِبْطي! قال: بلى، قال: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قال: بلى، قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حُمرَه، وإذا كنت في مكان كذا وكذا نزل عليك الوحي. فدهنَه بدُهْن القدس، وقال لبني إسرائيل: " إن الله قد بعث لكم طالوت ملِكًا قالوا أنى يكون له المُلْك علينا ونحن أحقُّ بالمُلك منه ولم يؤتَ سَعَةً من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسْطة في العلم والجسم ". رجع الحديث إلى حديث السدي، " ولما برزوا لجالوت وجنودِه قالوا ربّنا أفْرِغ علينا صبرًا " فعبر يومئذ أبو داود فيمن عبر في ثلاثة عشر ابنًا له، وكان داود أصغَر بنيه وإنه أتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذّافتي شيئًا إلا صرعته، قال: أبشر يا بني، إن الله قد جعل رزقك في قذّافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدًا رابضًا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خيرٌ يعطيكه الله، ثم أتاه يومًا آخر، فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبّح فلا يبقى جبل إلا سبّح معي، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خيرٌ أعطاكه الله - وكان داود راعيًا، وكان أبوه خلّفه يأتي إلى أبيه وإلى إخوته بالطعام - فأتى النبي عليه السلام بقرن فيه دُهن وتَنوّر من حديد، فبعث به إلى طالوت، قال: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي حتى يدّهن منه ولا يسيل على وجهه، ويكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه. فدعا طالوت بني إسرائيل، فجرّبهم به فلم يوافقه منهم أحد، فلما فرَغوا قال طالوت لأبي داود: هلْ بقي لك ولد لم يشهدنا؟ قال: نعم، بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام، فلما أتاه داود مرّ في الطريق بثلاثة أحجار فكلّمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، قال: فأخذهنّ وجعلهن في مخلاته، وكان طالوت قد قال: مِنْ قتل جالوت زوّجته ابنتي، وأجربت خاتمه في ملكي، فلما جاء داود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادّهن منه ولبس التنور فملأه، وكان رجلًا مسقامًا مصفارًّا، ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه، فلما لبِسه داود تضايق التنّور عليه حتى تنقضّ، ثم مشى إلى جالوت، وكان جالوت من أجْسَم الناس وأشدَّهم، فلما نظر إلى داود قُذِفَ في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتى، ارجع فإني أرحمك أن أقتلك، فقال داود: لا بل أنا أقتلك. فأخرج الحجارة فوضعها في القَذّافة، كلما رفع منها حجرًا سمّاه، فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل، ثم أدار القذّافة فعادت الأحجار حجرًا واحدًا، ثم أرسلَه فصكّ به بين عيني جالوت فنقبَتْ رأسه، ثم قتلته؛ فلم تزل تقتل كلّ إنسان تصيبه تنفذ فيه، حتى لم يكن بحيالها أحد، فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتَمه في ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبوه. فلما رأى ذلك طالوت وجَد في نفسه وحسده، وأراد قتله، فعلم داود أنه يريده بذلك، فسجّى له زِقَّ خمر في مضجعه، فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزقّ ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقعت قطرة من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود، ما كان أكثر شَربه للخمرّ ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، ثم نزل. فلما استيقظ طالوت بصُر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله داود، هو خيرٌ منّي، ظفرت به فقتلته وظفر بي فكفّ عني! ثم إنه ركب يومًا فوحدهُ يمشي في البريّة، وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داود - وكان داود إذا فزع لم يدرك - فركض على أثره طالوت، ففزع داود، فاشتدّ فدخل غارًا، فأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتًا، فلما انتهى طالوتُ إلى الغار نظر إلى بناء العنكبوت، فقال: لو كان دخل ها هنا لخرَق بيت العنكبوت، فخيّل إليه فتركه. وطعن العلماء على طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحدٌ عن داود إلا قتله، وأغراه الله بالعلماء يقتلهم، فلم يكن يقدر في بني إسرائيل على عالم يُطيق قتله إلا قتله، حتى أُتِيَ بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فأمر الخبّاز أن يقتلها، فرحمها الخباز، وقال: لعلنا نحتاج إلى عالم. فتركها، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي، وينادي: أنشد الله عبدًا علم أن لي توبةً إلا أخبرني بها! فلما أكثر عليهم ليالِيَ ناداه منادي من القبور: أن يا طالوت، أما ترضى أن قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتًا! فازداد بكاء وحزنًا، فرحمه الخباز فكلمه فقال: مالك؟ فقال: هل تعلم لي في الأرض عالمًا أسأله: هل لي من توبة؟ فقال له الخباز: هل تدري ما مثلُك؟ إنما مثلُك مثلُ ملِك نزل قريةً عشاء فصاح الديك، فتطير منه، فقال: لا تتركوا في القرية ديكًا إلا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قال: إذا صاح الديك فأيقظونا حتى نُدْلِج، فقالوا له: وهل تركتَ ديكًا يُسمع صوته! ولكن هل تركتَ عالمًا في الأرض! فازداد حزنًا وبكاء، فلما رأى الخباز منه الجدّ، قال: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله! قال: لا، فتوثق عليه الخباز، فأخبره أن المرأة العالمة عنده، قال: انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكان إنما يعلم ذلك الاسم أهل بيت؛ إذا فنَيت رجالهم علمت النساء، فقال: إنها إن رأتك غُشِيَ عليها، وفزعتْ منك، فلما بلغ الباب خلّفه خلفه، ثم دخل عليها الخباز، فقال لها: ألستُ أعظم الناس منّة عليك؟ أنجيتكِ من القتل، وآويتك عندي. قالت: بلى، قال: فإن لي إليك حاجة، هذا طالوت يسألكِ: هل له من توبة؟ فغشي عليها من الفَرَق، فقال لها: إنه لا يريد قتلك، ولكن يسألك: هل له من توبة؟ قالت: لا، والله ما أعلم لطالوت توبةً، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟ قالوا: نعم هذا قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهما معها إليه، فدعتْ، فخرج يوشع بن نون ينفض رأسه من التراب، فلما نظر إليهم ثلاثتهم قال: ما لكم؟ أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكن طالوت يسألك: هل له من توبة؟ قال يوشع: ما أعلم لطالوت من توبة إلا أن يتخلّى من ملكه، ويخرج هو وولده فيقاتلون بين يديه في سبيل الله، حتى إذا قُتِلوا شدّ هو فقُتل؛ فعسى أن يكون ذلك له توبة، ثم سقط ميتًا في القبر. ورجع طالوت أحزنَ ما كان، رهبة ألا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحَلَ جسمُه، فدخل عليه بنوه وهم ثلاثة عشر رجلًا فكلّموه وسألوه عن حاله، فأخبرهم خبره، وما قيل له في توبته، فسألهم أن يغزوا معه، فجهزهم فخرجوا معه، فشدّوا بين يديه حتى قتلوا، ثم شدّ بعدهم هو فقتل، وملك داود بعد ذلك، وجعله الله نبيًا، فذلك قوله عز وجل: " وآتاه الله الملك والحكمة "؛ قيل: هي النبوة؛ أتاه نبوة شمعون وملك طالوت. واسم طالوت بالسريانية شاول بن قيس بن أبيال بن ضرار بن بحرت بن أفيح بن أيش بن بنيامين ين يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وقال ابن إسحاق: كان النبي الذي بعث لطالوت من قبره حتى أخبره بتوبته اليسع بن أخطوب؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت من أولها إلى أن قتل في الحرب مع ولده كانت أربعين سنة. ذكر خبر داود ابن إيشي بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمى نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وكان داود عليه السلام - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبّه - قصيرًا أزرق قليلَ الشعر، طاهر القلب نقيّه. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد في قول الله: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت " إلى قوله: " والله عليم بالظالمين " قال: أوحى الله إلى نبيّهم أن في ولد فلان رجلًا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن يضعه على رأسه فيفيض ماء، فأتاه فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي أنّ في وَلَدك رجلًا يقتل الله به جالوت. فقال: نعم يا نبي الله، قال: فأخرج له اثني عشر رجلًا أمثال السواري وفيهم رجلًا بارع عليهم، فجعل يعرِضهم على القرْن فلا يرى شيئًا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع، فيردده عليه، فأوحى الله إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صُورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم، قال: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره، فقال: كذب، فقال: إن ربي قد كذبك، وقال: إن لك ولدًا غيرهم. قال: قد صدق يا نبي الله إن لي ولدًا قصيرًا استحييت أن يراه الناس فجعلته في الغنم، قال: فأين هو؟ قال: في شِعْب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا، فخرج إليه فوجد الواديَ قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها. قال: ووجده يحمل شاتين شاتين، يُجيزُ بهما السيل ولا يخوض بهما السيل. فلما رآه قال: هذا هو، لا شك فيه، هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قال: فوضع القرن على رأسه ففاض. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقِل، عن وهب بن منبّه قال: لما سلّمت بنو إسرائيل المُلك لطالوت، أوحى الله إلى نبي بني إسرائيل: أن قل لطالوت: فليغزُ أهلَ مدين، فلا يترك فيها حيًا إلا قتله، فإني سأظهرُه عليهم، فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل مَنْ كان فيها، إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم، فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجبُ من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، فجاء بملكهم أسيرًا، وساق مواشيهم! فالقه فقل له: لأنزعنّ الملك من بيته، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم منْ أطاعني، وأهين من هان عليه أمري. فلقيه فقال له: ما صنعت! لم جئت بملكهم أسيرًا، ولم سقت مواشيهم؟ قال: إنما سقت المواشي لأقرّبها، قال له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك المُلك ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فأوحى الله إلى أشمويل: انطلق إلى إيشى فيعرِض عليك بنيه، فادهُن الذي آمرك بدُهْن القدس، يكُنْ ملكًا على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى، فقال: اعرض علي بنيك، فدعا إيشى أكبرَ ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه، فقال: الحمد لله، إن الله بصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك تبصران ما ظهر، وإني أطّلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، اعرض علي غيره. فعرض عليه ستة، في كل ذلك يقول: ليس بهذا، اعرض علي غيره، فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بلى، لي غلام أمغر وهو راع في الغنم. قال: أرسل إليه، فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر؛ فدهنه بدُهن القدس، وقال لأبيه: اكتم هذا، فإن طالوت لو يطّلع عليه قتله. فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال، فأرسل جالوت إلى طالوت: لم يُقتل قومي وقومُك؟ ابرُز لي، أو أبرِز لي من شئت، فإن قتلتُك كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره صائحًا: من يبرز لجالوت! ثم ذكر قصة طالوت وجالوت وقتل داود إياه، وما كان من طالوت إلى داود. قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر بيان أن داود قد كان الله حوّل الملك له قبل قتله جالوت، وقبل أن يكون من طالوت إليه ما كان من محاولته قتله، وأما سائر من روينا عنه قولًا في ذلك، فإنهم قالوا: إنما مَلك داود بعدما قتل طالوت وولده. وقد حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - فيما ذكر لي بعض أهل العلم - عن وهب بن منبّه قال: لما قتل داودُ جالوت، وانهزم جنده قال الناس: قتل داود جالوت وخلع طالوت، وأقبل الناس على داود مكانه حتى لم يسمع لطالوت بذكْر. قال: ولما اجتمعت بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، وعلّمه صنعة الحديد، وألانَه له، وأمر الجبال والطير أن يسبّحن معه إذا سبّح، ولم يعطِ الله - فيما يذكرون - أحدًا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور - فيما يذكرون - ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وإنها لَمُصِيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء، وكان كما وصفه الله عز وجل لنبيه محمد عليه السلام فقال: " واذكر عبدنا داود ذا الأيدِ إنه أوّابٌ، إنا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعَشيِّ والإشراق، يعني بذلك ذا القوة. وقد حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب "، وقال: أعطيَ قوة في العبادة، وفقهًا في الإسلام. وقد ذُكر لنا أن داود عليه السلام كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر. وكان يحرسه - فيما ذكر - في كل يوم وليلة أربعة آلاف. حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في قوله: " وشددنا ملكَه "، قال: كان يحرسُه كل يوم وليلة أربعة آلاف. وذُكر أنه تمنى يومًا من الأيام على ربه منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه بنحو الذي كان امتحنهم، ويعطيَه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم. فحدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، قال: قال: السدي: كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام: يومًا يقضي فيه بين الناس، ويومًا يخلو فيه لعبادة ربه، ويومًا يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب، قال: يا رب أرى الخير كلّه قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني مثل ما أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم. قال: فأوحى الله إليه أن آباءك ابتُلوا ببلايا لم تبتل بها، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتُلي يعقوب بحزنه على ابنه يوسف، وإنك لم تبتل من ذلك بشيء. قال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما أعطيتهم. قال: فأوحى الله إليه أنك مبتلىً فاحترس. قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلّي، قال: فمد يده ليأخذه فتنحى فتبعه، فتباعدا حتى وقع في كُوّة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة، فنظر أين يقع فيبعث في أثره، قال: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلْقًا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، قال: فزاده ذلك فيها رغبة، قال: فسأل عنها فأخبِر أن لها زوجًا، وأن زوجها غائب بمسلَحة كذا وكذا، قال: فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث أهريا إلى عدوّ كذا وكذا. قال: فبعثه ففتح له، قال: وكتب إليه بذلك، فكتب إليه أيضًا: أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا، أشد منهم بأسًا. قال: فبعثه ففتح له أيضًا، قال: فكتب إلى داود بذلك، قال: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. قال: فبعثه، قال: فقتل المرّة الثالثة، قال: وتزوّج داود امرأته، فلما دخلتْ عليه لم تلبث عنده إلا يسيرًا حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسوّرا عليه المحراب، قال: فما شعُر وهو يصلي إذا هو بهما بين يديه جالسين، قال: ففزع منهما، فقالا: لا تخف، إنما نحن " خصمان بغى بعضُنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط " يقول: لا تحِف، " واهدنا إلى سواء الصراط " إلى عدل القضاء. قال: قُصّا علي قصتكما، قال: فقال: أحدهما: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ". فهو يريد أن يأخذ نعجتي، فيكمّل بها نعاجه مائة، قال: فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعًا وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمّل بها نعاجي مائة، قال: وهو كاره! قال: وهو كاره، قال: إذًا لا ندعك وذاك، قال: ما أنت على ذلك بقادر! قال: فإن ذهبت تَرُوم ذلك أو تريد ذلك، ضربنا منك هذا وهذا - وفسّر أسباط طَرف الأنف والجبهة - فقال: يا داود، أنت أحق أن يُضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة. فلم تزل به تعرّضه للقتل حتى قُتِل، وتزوجت امرأته. قال: فنظر فلم ير شيئًا، قال: فعرف ما قد وقع فيه، وما ابتُلي به، قال: فخرّ ساجدًا فبكى، قال: فمكث يبكي ساجدًا أربعين يومًا لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجدًا يبكي، ثم يدعو حتى نبت العُشب من دموع عينيه، قال: فأوحى الله إليه عز وجل إليه أربعين يومًا: يا داود، ارفع رأسك قد غفرتُ لك، فقال: يا رب، كيف أعلم أنك قد غفرتَ لي وأنت حكَمٌ عدل لا تحيف في القضاء؛ إذا جاء أهريا يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه أو بشماله تشخَبُ أوداجه دمًا في قِبَل عرشك: يقول يا رب، سل هذا فيم قتلني! قال فأوحى الله إليه: إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه، فيهبك لي فأثيبه بذلك الجنة. قال: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي، قال: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياءً من ربه حتى قبض. حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني عطاء الخراساني، قال: نقَش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها؛ فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت. وقد قيل: إن سبب المحنة بما امتُحن به، أن نفسه حدثته أنه يُطيق قطْع يوم من الأيام بغير مقارفة سوء، فكان اليوم الذي عرَض له فيه ما عرض، اليوم الذي ظن أنه يقطعه بغير اقتراف سوء. ذكر من قال ذلك حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، أن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يومًا لنسائه، ويومًا لعبادته، ويومًا لقضاء بني إسرائيل، ويومًا لبني إسرائيل؛ يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه. فلما كان يوم بني إسرائيل، ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يومٌ لا يصيب فيه ذنبًا! فأضمر داود في نفسه أنه سيُطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلّق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكبّ على التوراة، فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذَها، قال: فطارت فوقعت غير بعيد، من غير أن تؤئِسَه من نفسها، قال: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خَلْقها وحسنها، فلما رأت ظلّه في الأرض جلّلت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضًا إعجابًا بها، وكان قد بعث زوجَها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا - مكان إذا سار إليه لم يرجع - قال: ففعل فأصيب، فخطبها فتزوّجها - قال: وقال قتادة بلغنا أنها أم سليمان - قال: فبينما هو في المحراب إذ تسوّر الملَكان عليه، وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوّروا المحراب، فقالوا: " لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض " حتى بلغ: ولا تُشطِطْ " أي ولا تملْ " واهدنا إلى سواء الصراط " أي أعدله وخيره، " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة " - وكان لداود تسع وتسعون امرأة - " ولي نعجة واحدة " قال: وإنما كان للرجل امرأةٌ واحدة " فقال أكفلنيها وعزّني في الخِطاب "، أي ظلمني وقهرني. " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " - إلا " وظن داود "، فعلم أنما أضمِر له، أي عُني بذلك، " فخرّ راكعًا وأناب ". حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثًا يذكر عن مجاهد، قال: لما أصاب داودَ الخطيئة، خر لله ساجدًا أربعين يومًا، حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطّى رأسه، ثم نادى: يا رب قرِح الجبين، وجمدت العين! وداود لم يُرجع إليه من خطيئته شيء. فنودي: أجائع فتطعَم؟ أم مريض فتُشفى؟ أم مظلوم فيُنتصر لك! قال: فنحِب نحْبةً هاج كل شيء كان نبت، فعند ذلك غُفِر له. وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها، وكان يؤتي بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثُلثه أو نصفه، وكان يذكر خطيئته فينتحب النحبة تكاد مفاصله يزول بعضها عن بعض، ثم ما يتم شربه حتى يملأ الإناء من دموعه. وكان يقال: إن دمعة داود تعدل دمعة الخلائق، ودمعة أدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق. قال: وهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفّه فيقول: رب ذنبي ذنبي قدِّمْني! قال: فيقدَّم فلا يأمن، فيقول رب أخرني، قال: فيؤخر فلا يأمن. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فأهمّ، قطَع على بني إسرائيل بعثًا، فأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو فقرّب فلانًا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يَستنصر به من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقُتل زوج المرأة، ونزل الملَكان على داود يقصّان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدًا، حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه، وأكلت الأرض من جبينه، وهو يقول في سجوده - فلم أحص من الرقاشي إلا هؤلاء الكلمات: رب زلّ داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب! ربي إن لم ترحم ضُعف داود، وتغفر ذنبه جعلتَ ذنبه حديثًا في الخُلوف من بعده. فجاءه جبرائيل من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود، إن الله قد غفر لك الهمّ الذي هممتَ به، فقال داود: قد علمتُ أن الله قادر على أن يغفر ليَ الهم الذي هممتُ به، وقد عرفتُ أن الله عدْلٌ لا يمول، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة؛ فقال: يا رب دمي الذي عند داود! فقال جبرئيل: ما سألتُ ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلن، قال: نعم، قال: فعرج جبرئيل وسجد داود، فمكث ما شاء الله ثم نزل، فقال: قد سألتُ الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال: قل له: يا داود، إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول: فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عِوَضًا. ويزعم أهل الكتاب أن داود لم يزل قائمًا بالملك بعد طالوت إلى أن كان من أمره وأمر امرأة أوريا ما كان، فلما واقع ما واقع من الخطيئة اشتغل بالتوبة منها - فيما زعموا - واستخفّ به بنو إسرائيل، ووثب عليه ابن له يقال له إيشى، فدعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهلُ الزيغ من بني إسرائيل، قالوا: فلما تاب الله على داود ثابتْ إليه ثائبة من الناس، فحارب ابنه حتى هزمه، ووجّه في طلبه قائدًا من قواده، وتقدّم إليه أن يتوقى حتفه، ويتلطف لأسره، فطلبه القائد وهو منهزم، فاضطره إلى شجرة فركض فيها - وكان ذا جُمة - فتعلّق بعض أغصان الشجرة بشعرة فحبسه، ولحقه القائد فقتله مخالفًا لأمر داود، فحزِن داود عليه حزنًا شديدًا، وتنكر للقائد، وأصاب بني إسرائيل في زمانه طاعون جارف، فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس يدعون الله ويسألونه كشف ذلك البلاء عنهم، فاستجيب لهم، فاتخذوا ذلك الموضع مسجدًا، وكان ذلك - فيما قيل - لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه. وتوفي قبل أن يستتم بناءه، فأوصى إلى سليمان باستتمامه، وقتْل القائد الذي قتل أخاه، فلما دفنه سليمان نفّذ لأمره في القائد وقتله، واستتم بناء المسجد. وقيل في بناء داود ذلك المسجد في ما حدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثني إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبّه يقول: إن داود أراد أن يعلم عدد بني إسرائيل كم هم؟ فبعث لذلك عُرفاء ونقباء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ عددهم، فعتب الله عليه ذلك، وقال: قد علمت أني وعدتُ إبراهيم أن أبارك فيه وفي ذريته حتى أجعلهم معدد نجوم السماء، وأجعلهم لا يحصى عددُهم، فأردتَ أن تعلم عدد ما قلت: إنه لا يحصى عددهم، فاختاروا بين أن أبتليكم بالجوع ثلاث سنين، أو أسلّط عليكم العدو ثلاثة أشهر، أو الموت ثلاثة أيام! فاستشار داود في ذلك بني إسرائيل فقالوا: ما لنا بالجوع ثلاث سنين صبر، ولا بالعدو ثلاثة أشهر، فليس لهم بقية، فإن كان لا بدّ فالموت بيده ولا بيد غيره. فذكر وهب بن منبه أنه مات منهم في ساعة من نهار ألوف كبيرة لا يدرى ما عددهم، فلما رأى ذلك داود، شق عليه ما بلغه من كثرة الموت، فتبتل إلى الله ودعاه فقال: يا رب، أنا آكل الحُمّاض وبنو إسرائيل يَضرَسون! أنا طلبت ذلك فأمرتُ به بني إسرائيل، فما كان من شيء فبي واعف عن بني إسرائيل. فاستجاب الله له ورفع عنهم الموت، فرأى داود الملائكة سالّين سيوفهم يغمدونها، يرتقون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء، فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يُبنى فيه مسجد، فأراد داود أن يأخذ في بنائه، فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس، وأنك قد صبغت يديك في الدماء، فلست ببانيه، ولكن ابنٌ لك أملّكه بعدك أسميه سليمان، أسلّمه من الدماء. فلما ملك سليمان بناءه وشرّفه، وكان عمر داود - فيما وردت به الأخبار عن رسول الله ﷺ - مائة سنة. وأما بعض أهل الكتب، فإنه زعم أن عمره كان سبعًا وسبعين سنة، وأن مدة ملكه كانت أربعين سنة. ذكر خبر سليمان بن داود عليهما السلام ثم ملك سليمان بن داود بعد أبيه داود أمر بني إسرائيل، وسخر الله له الجن والإنس والطير والريح، وآتاه مع ذلك النبوة وسأل ربه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب الله له فأعطاه ذلك وكان فيما حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الإنس والجن، حتى يجلس على سريره، وكان - فيما يزعمون - أبيض جسيمًا وضيئًا، كثير الشعر يلبس من الثياب البياض، وكان أبوه في أيام ملكه بعد أن بلغ سليمان مبلغ الرجال يشاوره - فيما ذكر - في أموره. وكان من شأنه وشأن أبيه داود الحكم في الغنم التي نفشت في حرث القوم، الذين قص الله في كتابه خبرهم وخبرهما فقال: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكمًا وعلمًا ". فحدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم، قالا: حدثنا المحاربي، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود في قوله: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرْث إذ نفشت فيه غنم القوم "، قال: كَرْم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرْم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله؟ قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرْم فيصيب منها، حتى إذا كان الكرْم كما كان، دفعت الكرْم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها. فذلك قوله: " ففهّمناها سليمان ". وكان رجلًا غَزّاء لا يكاد يعقد عن الغزو، وكان لا يسمع بملِك في ناحية من الأرض إلا أتاه حتى يُذلّه. وكان فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - فيما يزعمون - إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلّت به أمر الرُّخاء فمرّ به شهرًا في روْحته، وشهرًا في غدوته إلى حيث أراد ويقول الله عز وجل: " فسخّرنا له الريحَ تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب "، أي حيث أراد، وقال الله: " ولسليمان الريحَ غُدُوُّها شهرٌ ورَواحُها شهرٌ ". قال: وذكر لي أن منزلًا بناحية دجلة مكتوب فيه: كتاب كتبه بعض أصحاب سليمان، إما من الجن، وإما من الإنس: " نحن نزلناه وما بنيناه، ومبنيًا وجدناه، غدوْنا من اصطخر فقلْناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله، فبائتون بالشام ". قال: وكان - فيما بلغني - لتمرّ بعسكره الريح، والرُّخاء تهوى به إلى ما أراد، وإنها لتمرُّ بالمزرعة فما تحرّكها. وقد حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سرّية، فأمر الريح العاصف فرفعته وأمر الرخاء فسيّرته، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: أنى قد زدتُ في ملكك، أنه لا يتكلم أحدٌ من الخلائق إلا جاءت به الريح وأخبرتك. حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان بن داود يوضَع له ستمائة كرسي، ثم يجيء أشرافُ الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، قال: ثم يدْعو الطير فتظلّهم، ثم يدعو الريح فتحملهم، قال: فتسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر. ذكر ما انتهى إلينا من مغازي سليمان عليه السلام فمن ذلك غزوته التي راسل فيها بلقيس - وهي فيما يقول أهل الأنساب - يلمقة ابنة اليشرح - ويقول بعضهم: ابنة أيلى شرح، ويقول بعضهم: ابنة ذي شرح - بن ذي جَدَن بن أيلى شرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ثم صارت إليه سِلْمًا بغير حرب ولا قتال. وكان سبب مراسلته إياها - فيما ذكر - أنه فَقَد الهدهد يومًا في مسير كان يسيره، واحتاج إلى الماء فلم يعلم منْ حضره بُعْدَه، وقيل له علْم ذلك عند الهدهد، فسأل عن الهدهد فلم يجده وقال بعضهم: بل إنما سأل سليمان عن الهدهد لإخلاله بالنّوبة. فكان من حديثه وحديث مسيره ذلك وحديث بلقيس، ما حدثني العباس بن الوليد الآملي، قال: حدثنا علي بن عاصم، قال: حدثنا عطاء بن السائب، قال: حدثني مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان سليمان بن داود إذا سافر أو أراد سفرًا قَعَد على سريره، ووضعت الكراسي يمينًا وشمالًا، فيأذن للإنس، ثم يأذن للجنّ عليه بعد الإنس، فيكونون خلْف الإنس، ثم يأذن للشياطين بعد الجنّ فيكونون خلْف الجنّ، ثم يرسل إلى الطير فتظلّهم من فوقهم، ثم يرسل إلى الريح فتحملهم وهو على سريره، والناس على الكراسي فتسير بهم، غدوُّها شهر ورواحُها شهر، رخاء حيث أصاب، ليس بالعاصف ولا الليّن، وسطا بين ذلك. فبينما سليمان يسير - وكان سليمان اختار من كل طير طيرًا؛ فجعله رأس تلك الطير، فإذا أراد أن يسائل شيئًا من تلك الطير عن شيء سأل رأسها - فبينما سليمان يسير إذ نزل مفازةً فسأل عن بُعْد الماء ها هنا، فقال الإنس: لا ندري، فسأل الجنّ فقالوا: لا ندري، فسأل الشياطين، فقالوا: لا ندري، فغضب سليمان فقال: لا أبرح حتى أعلم كم بُعْد مسافة الماء ها هنا! فقالت له الشياطين: يا رسول الله لا تغضب، فإن يك شيئًا يُعلم فالهدهد يعلمه، فقال سليمان: علي بالهدهد، فلم يوجدْ، فغضب سليمان فقال: " ما لي لا أرى الهدهدَ أمْ كان من الغائبين، لأعذبنّه عذابًا شديدًا أو لأذبحنّه أو ليأتيَني بسلطانٍ مبينٍ "، يقول: بعذر مبيّن لم غاب عن مسيري هذا؟ وكان عقابُه للطير أن ينتف ريشه ويشمّسه فلا يستطيع أن يطير، ويكون من هوام الأرض إن أراد ذلك، أو يذبحه، فكان ذلك عذابه. قال: ومر الهدهد على قصر بلقيس، فرأى بستانًا لها خلْف قصرها، فمال إلى الخضرة فوقع عليها، فإذا هو بهدهد لها في البستان، فقال هدهد سليمان: أين أنت عن سليمان؟ وما تصنع ها هنا؟ قال له هدهد بلقيس: ومن سليمان؟ فقال: بعث الله رجلًا يقال له سليمان رسولًا، وسخّر له الريح والجنّ والإنس والطير. قال: فقال له هدهد بلقيس: أي شيء تقول! قال: أقول لك ما تسمع، قال: إن هذا لعجب، وأعجبُ من ذاك أن كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة، " أوتيَت من كل شيءٍ ولها عرشٌ عظيم "، جعلوا الشكر لله أن يسجدوا للشمس من دون الله. قال: وذكر الهدهد سليمان فنهض عنه، فلما انتهى إلى العسكر تلقّته الطير وقالوا: توعّدك رسول الله، فأخبروه بما قال. قال: وكان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمّسه فلا يطير أبدًا، فيصير من هوامّ الأرض، أو يذبحه فلا يكون له نسل أبدًا. قال: فقال: الهدهد: أو ما استثنى رسول الله؟ قالوا: بل قال: أو ليأتيني بعذر مبين، قال: فلما أتى سليمانَ، قال: ما غيّبك عن مسيري؟ قال: " أحطْت بما لم تُحط به وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين " حتى بلغ " فانظر ماذا يرجعون ". قال: فاعتلّ له بشيء، وأخبره عن بلقيس وقومها وما أخبره الهدهد، فقال له سليمان: قد اعتللت، " سننظر أصدقْت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم "، قال: فوافقها وهي في قصرها، فألقى إليها الكتاب فسقط في حِجْرها أنه كتاب كريم، وأشفقت منه، فأخذته وألقت عليه ثيابها، وأمرت بسريرها فأخرج، فخرجت فقعدت عليه، ونادت في قومها؛ فقالت لهم: " يأيها الملأ إني أُلقيَ إلي كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين " ولم أكن لأقطع أمرًا حتى تشهدون، " قالوا نحن أولو قوةٍ وأولو بأسٍ شديد والأمر إليكِ فانظري ماذا تأمرين " - إلى - " وإني مرسلةٌ إليهم بهدية "، فإن قبلها فهذا ملك من ملوك الدنيا وأنا أعزّ منه وأقوى، وإن لم يقبْلها فهذا شيء من الله. فلما جاء سليمان الهدية قال لهم سليمان: " أتمدّوننِ بمالٍ فما آتانيَ الله خيرٌ مما آتاكم " - إلى قوله: " وهم صاغرون "، يقول: وهم غير محمودين. قال: بعثت إليه بخرزة غير مثقوبة، فقالت: اثقب هذه، قال: فسأل سليمان الإنس فلم يكن عندهم علم ذاك، ثم سأل الجن فلم يكن عندهم علم ذاك، قال: فسأل الشياطين، فقالوا: ترسل إلى الأرَضة، فجاءت الأرَضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها فنقبتها بعد حين، فلما رجع إليها رسولها خرجت فزِعة في أول النهار من قومها وتبعها قومها. قال ابن عباس: وكان معها ألفَ قيْل. قال ابن عباس: أهل اليمن يسمّون القائد قيْلًا، مع كل قَيْل عشرة آلاف. قال العباس: قال علي: عشرة آلاف ألف. قال العباس: قال علي: فأخبرنا حصين بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: فأقبلت بلقيس إلى سليمان ومعها ثلاثمائة قَيْل واثنا عشر قَيْلًا، مع كل قيل عشرة آلاف. قال عطاء، عن مجاهد، عن ابن عباس: وكان سليمان رجلًا مَهيبًا لا يُبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يُسأل عنه، فخرج يومئذ فجلس على سريره، فرأى رهجًا قريبًا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس يا رسول الله، قال: وقد نزلت منا بهذا المكان! قال مجاهد: فوصف لنا ذلك ابن عباس فحزَرْته ما بين الكوفة والحيرة قدْر فرسخ، قال: فأقبل على جنوده فقال: " أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " الذي أنت فيه إلى الحين الذي تقوم إلى غدائك. قال: قال سليمان: من يأتيني به قبل ذلك؟ " قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفُك "، فنظر إلى سليمان، فلما قطع كلامه ردّ سليمان بصره على العرش، فرأى سريرها قد خرج ونبع من تحت كرسيه، " فلما رآه مستقرًّا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر " إذ أتاني به قبل أن يرتد إلي طرفي " أم أكفُر " إذ جعل من تحت يدي أقدَر على المجيء به منّي. قال: فوضعوا لها عرشها، قال: فلما جاءت قعدتْ إلى سليمان، قيل لها: " أهكذا عرشُكِ "؟ فنظرت إليه فقالت: " كأنه هو "! ثم قالت: لقد تركتُه في حصوني، وتركت الجنود محيطة به، فكيف جيء بهذا يا سليمان! إني أريد أن أسألك عن شيء فأخبرنيه، قال: سلي، قالت: أخبرْني عن ماء رواء، لا من سماء ولا من أرض - قال: وكان إذا جاء سليمان شيء لا يعلمه بدأ فسأل الأنس عنه، فإن كان عند الإنس فيه علم وإلا سأل الجن، فإن لم يكن عند الجن علم به سأل الشياطين: قال: فقالت له الشياطين: ما أهون هذا يا رسول الله! مُرِ الخيل فلتجْر ثم تملأ الآنية من عَرَقها، فقال لها سليمان: عرق الخيل، قالت: صدقت. قالت: أخبرني عن لون الربّ. قال: قال ابن عباس: فوثب سليمان عن سريره فخرّ ساجدًا. قال العباس: قال علي: فأخبرني عمرو بن عبيد، عن الحسن، قال: صعِق فغُشي عليه، فخرّ عن سريره. ثم رجع، إلى حديثه قال: فقامت عنه، وتفرّقت عنه جنوده، وجاءه الرسول فقال: يا سليمان، يقول لك ربك: ما شأنُك؟ قال: سألتني عن أمر يكابرني - أو يكابدني - أن أعيدَه، قال: فإن الله يأمرك أن تعود إلى سريرك فتعقد عليه، وترسل إليها وإلى منْ حضرها من جنودها، وترسِل إلى جميع جنودك الذين حضروا فيدخلوا عليك فتسألها وتسألهم عما سألتك عنه. قال: ففعل، فلما دخلوا عليه جميعًا، قال لها: عم سألتني؟ قالت: سألتك عن ماء رواء، لا من سماء ولا من أرض، قال: قلت لكِ: عرق الخيل، قالت: صدقت، قال: وعن أي شيء سألتِني؟ قالت: ما سألتك عن شيء غير هذا. قال: قال لها سليمان، فلأي شيء خررتُ عن سريري؟ قالت: قد كان ذاك لشيء لا أدري ما هو - قال العباس: قال علي: نسيتْه - قال: فسأل جنودها فقالوا مثل ما قالت، قال: فسأل جنوده من الإنس والجن والطير وكل شيء كان حضره من جنوده، فقالوا: ما سألتك يا رسول الله إلا عن ماء رواء، قال: - وقد كان قال له الرسول: يقول الله لك: عدْ إلى مكانك فإني قد كفيتهم - قال: وقال سليمان: للشياطين: ابنوا لي صرْحًا تدخل علي فيه بلقيس، قال: فرجع الشياطين بعضُهم إلى بعض، فقالوا: سليمان رسول الله سخّر الله ما سخر، وبلقيس ملكة سبأ ينكِحها فتلد له غلامًا، فلا ننفكّ من العبودية أبدًا. قال: وكانت امرأة شَعراء الساقين، فقالت الشياطين: ابنوا له بنيانًا ليرى ذلك منها، فلا يتزوجها، فبنوا له صرحًا من قوارير أخضر، وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنه الماء، وجعلوا في باطن الطوابيق كل شيء يكون من الدوابّ في البحر من السمك وغيره، ثم أطبقوه، ثم قالوا لسليمان: ادخل الصرح، قال: فألقِي لسليمان كرسي في أقصى الصرح، فلما دخله ورأى ما رأى أتى الكرسي، فقعد عليه، ثم قال: أدخلوا علي بلقيس، فقيل لها: ادخلي الصرح، فلما ذهبت تدخله رأت صورة السمك وما يكون في الماء من الدواب، فحسبته لُجّة - حسبته ماء - وكشفت عن ساقيها لتدخل، وكان شعرُ ساقيها ملتويًا على ساقيها، فلما رآها سليمان، ناداها - وصرف بصره عنها: إنه صرح ممرّد من قوارير، فألقت ثوبها فقالت: " رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " قال: فدعا سليمان الإنس فقال: ما أقبح هذا! ما يُذهب هذا؟ قالوا: يا رسول الله الموسى. قال: المواسي تقطع ساقي المرأة. قال: ثم دعا الجن فسألهم فقالوا: لا ندري، ثم دعا الشياطين فقالوا ما يُذهب هذا؟ قالوا مثل ذلك: الموسى، فقال: المواسي تقطع ساقي المرأة. قال: فتلكّؤوا عليه، ثم جعلوا له النُّورة - قال ابن عباس: فإنه لأول يوم رئيت فيه النورة - فاستنكحها سليمان. حدثنا ابن حميد: قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب ابن منبه، قال: لما رجعتِ الرسل إلى بلقيس بما قال سليمان، قالت: قد والله عرفتُ ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئًا، وبعثت إليه أنّى قادمة عليك بملوك قومي حتى انظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك. ثم أمرت بسرير مُلْكها الذي كانت تجلس عليه - وكان من ذهب مفصّص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ - فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض، ثم أقفلت على الأبواب، وكانت إنما تخدُمها النساء، معها ستمائة امرأة تخدُمها. ثم قالت لمن خلّفت على سلطانها: احتفظ بما قبَلك، وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد ولا يرينّه حتى آتيك. ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيْل معها من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن فيأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت جَمَع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يديه، فقال: " يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ". قال: وأسلمتْ فحسُن إسلامها. قال: فزُعم أن سليمان قال لها حين أسلمت وفرغ من أمرها: اختاري رجلًا من قومك أوزّجكه، قالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال، وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان لي! قال: نعم، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك، فقالت، زوجني إن كان لا بد ذا تُبّع ملك همدان، فزوجه إياها، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذي تبع ما استعملك لقومه. قال: فصنع لذي تبّع الصنائع باليمن، ثم لم يزل بها ملكًا يُعمل له فيها ما أراد؛ حتى مات سليمان بن داود عليه السلام. فلما حال الحول وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم، فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجِن، إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديَكم. قال: فعمدت الشياطين إلى حجريْن عظيمين، فكتبوا فيهما كتابًا بالمسند: نحن بنينا سَلْحين، سبعة وسبعين خريفًا، دائبين، وبنينا صِرْواح ومراح وبَينون برحاضة أيْدين، وهندة وهنيدة، وسبعة أمجِلة بقاعة، وتلثوم برَيْدة، ولولا صارخ بتهامة، لتركنا بالبون إمارة. قال: وسَلْحين وصِرْواح ومَراح وبَيْنون وهندة وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن، عملتها الشياطين لذي تبّع، ثم رفعوا أيديهم، ثم انطلقوا، وانقضى ملك ذي تُبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان بن داود عليهما السلام. ذكر غزوته أبا زوجته جرادة وخبر الشيطان الذي أخذ خاتمه حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض العلماء، قال قال وهب بن منبّه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر، يقال لها صيدون، بها ملك عظيم السلطان لم يكن للناس إليه سبيل، لمكانه في البحر، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطانًا لا يمتنع منه شيء في برّ ولا بحر، إنما يركب إليه إذا ركب على الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها واستفاء ما فيها، وأصاب فيما أصاب ابنةٌ لذلك الملك لم يُر مثلُها حسنًا وجمالًا، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبّها حبًا لم يحبه شيئًا من نسائه، ووقعت نفسُه عليها، فكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنُها، ولا يرقأ دمعها، فقال لها، لما رأى ما بها وهو يشق عليه من ذلك ما يرى: ويحكِ ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ! قالت: إن أبي أذكرُه وأذكر ملكَه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، قال: فقد أبدَلك الله به ملكًا هو أعظم من ملكه، وسلطانًا هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك لكذلك؛ ولكني إذا ذكرتُه أصابني ما قد ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين، فصوّروا صورة أبي في داري التي أنا فيها، أراها بكرة وعشية لرجوت أن يُذهب ذلك حزني، وأن يسلّيَ عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشيطان، فقال: مثّلوا لها صورة أبيها في دارها حتى ما تنكر منه شيئًا، فمثّلوه لها حتى نظرت إلى أبيها في نفسه، إلا انه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه لها فأزّرته وقمّصته وعممتْه وردّته بمثل ثيابه التي كان يلبس، مثل ما كان يكون فيه من هيئة، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدن له، كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، لا يعلم سليمان بشيء من ذلك أربعين صَباحًا، وبلغ ذلك آصف بن برخيا - وكان صديقًا، وكان لا يُرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل، حاضرًا كان سليمان أو غائبًا - فأتاه فقال: يا نبي الله، كبِرت سِني، ودق عظمي، ونفِذ عمري، وقد حان مني ذهاب! وقد أحببت أن أقوم مقامًا قبل الموت أذكر فيه مَنْ مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناسَ بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبًا، فذكر مَنْ مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضّله الله به، حتى انتهى إلى سليمان وذكَره، فقال: ما كان أحلمَك في صغرك، وأورعَك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يُكرَه في صغرك! ثم انصرف فوجَد سليمان في نفسه حتى ملأه غضبًا، فلما دخل سليمان دارَه أرسل إليه، فقال: يا آصف، ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيرًا في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتَني جعلت تُثني علي بخيرٍ في صغري، وسكتّ عما سِوى ذلك من أمري في كِبَري، فما الذي أحدثتُ في آخر أمري؟ قال: إن غير الله ليُعبد في دارك منذ أربعين صباحًا في هوى امرأة، فقال: في داري! قال: في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد عرفتُ أنك ما قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان إلى داره فكسّر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الطهرة فأتِيَ بها، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها إلا الأبكار، ولا يغسلها إلا الأبكار، ولا تمسّها امرأة قد رأت الدم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبًا إلى الله حتى جلس على ذلك الرماد، فتمعّك فيه بثيابه تذللًا لله عز وجل وتضرّعًا إليه، يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره، ويقول فيما يقول - فيما ذكر لي والله أعلم: رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرَك، وأن يُقِرّوا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرَك! فلم يزلْ كذلك يومه حتى أمسى، يبكي إلى الله ويتضرّع إليه ويستغفره، ثم رجع إلى داره - وكانت أم ولد له يقال لها: الأمينة، كان إذا دخل مذهبَه، أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهّر، وكان لا يمسّ خاتمه إلا وهو طاهر، وكان ملكُه في خاتمه، فوضعه يومًا من تلك الأيام عندها كما كان يضعه. ثم دخل مذهبه وأتاه الشيطان صاحب البحر - وكان اسمه صخرًا - في صورة سليمان لا تنكر منه شيئًا، فقال: خاتَمي يا أمينة! فناولته إياه، فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكَفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غُيّرت حالته وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة، خاتَمي! فقالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، فقالت: كذبتَ، لست بسليمان بن داود، وقد جاء سليمان فأخذ خاتَمه، وهو ذاك جالس على سريره في ملكه. فعرف سليمانُ أن خطيئته قد أدركته، فخرج يقَف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثّون عليه الترابَ ويسبّونه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، أي شيء يقول! يزعم أنه سليمان بن داود. فلما رأى سليمان ذلك عمَد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيُعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى، فأكلَها، فمكث بذلك أربعين صباحًا، عِدّة ما عُبِد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حُكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين صباحًا، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت! قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهنّ: هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعلانيته؟ فدخل على نسائه فقال: ويحكنّ! هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشدُّه ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! إن هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج إلى بني إسرائيل، فقال ما في الخاصة أعظم مما في العامّة، فلما مضى أربعون صباحًا طار الشيطان عن مجلسه، ثم مرّ بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، وبصر بعض الصيادين فأخذها وقد عمل له سليمان صدرَ يومه ذلك، حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، ثم خرج سليمان بسمكتيه فيبيع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويَها فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجدًا لله، وعكَفَ عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين فقال: ائتوني به، فطلبتْه له الشياطين حتى أخذوه، فأتى به، فجاب له صخرة، فأدخله فيها، ثم سد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به فقذف في البحر. ن صاحب البحر - وكان اسمه صخرًا - في صورة سليمان لا تنكر منه شيئًا، فقال: خاتَمي يا أمينة! فناولته إياه، فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكَفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غُيّرت حالته وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة، خاتَمي! فقالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، فقالت: كذبتَ، لست بسليمان بن داود، وقد جاء سليمان فأخذ خاتَمه، وهو ذاك جالس على سريره في ملكه. فعرف سليمانُ أن خطيئته قد أدركته، فخرج يقَف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثّون عليه الترابَ ويسبّونه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، أي شيء يقول! يزعم أنه سليمان بن داود. فلما رأى سليمان ذلك عمَد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيُعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى، فأكلَها، فمكث بذلك أربعين صباحًا، عِدّة ما عُبِد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حُكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين صباحًا، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت! قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهنّ: هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعلانيته؟ فدخل على نسائه فقال: ويحكنّ! هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشدُّه ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! إن هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج إلى بني إسرائيل، فقال ما في الخاصة أعظم مما في العامّة، فلما مضى أربعون صباحًا طار الشيطان عن مجلسه، ثم مرّ بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، وبصر بعض الصيادين فأخذها وقد عمل له سليمان صدرَ يومه ذلك، حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، ثم خرج سليمان بسمكتيه فيبيع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويَها فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجدًا لله، وعكَفَ عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين فقال: ائتوني به، فطلبتْه له الشياطين حتى أخذوه، فأتى به، فجاب له صخرة، فأدخله فيها، ثم سد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به فقذف في البحر. حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: " ولقد فتنّا سليمان وألقينا على كرسيّه جسدًا "، قال: الشيطان جسدًا "، قال: الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يومًا، قال: كان لسليمان مائة امرأة، وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة، وهي آثر نسائه عنده، وأمنهن عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه، ولا يأتمن عليه أحدًا من الناس غيرها، فجاءته يومًا من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضيَ له إذا جاءك، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتُلي فأعطاها خاتمه، ودخل المحرج فخرج الشيطان في صورته، فقال: هاتي الخاتم، فأعطته، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعد فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قال: لا، وخرج من مكانه تائهًا، قال: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يومًا. قال: فأنكر الناس أحكامه، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم، وجاؤوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان، فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه! قال: فبكى النساء عند ذلك، قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوْه، فأحدقوا به ثم نشروا فقرؤوا التوراة، قال: فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر، قال: وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع، وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: إني أنا سليمان، فقام إليه بعضُهم فضربه بعصًا فشجّه، قال: فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبَهم الذي ضربه وقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته! قال: إنه زعم أنه سليمان، قال: فأعطوه سمكتين مما قد ضُرب عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتى قام على شطّ البحر، فشقّ بطونهما، وجعل يغسلهما، فوجد خاتَمه في بطن إحداهما، فأخذه فلبسه، فرد الله عليه بهاءه ومُلكه، وجاءت الطير حتى حامتْ عليه، فعرف القومُ أنه سليمان، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على عُذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه. قال: فجاء حتى أتى مُلكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به، وسُخّرت له الريح والشياطين يومئذ، ولم تكن سُخّرت له قبل ذلك، وهو قوله: " وهبْ لي مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهّاب ". وبعث إلى الشيطان فأتى به، فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه، وأقفل عليه بقُفل، وختم عليه بخاتَمه، ثم أمر به فألقِيَ في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة، وكان اسمه حبقيق. قال أبو جعفر: ثم لبث سليمان بن داود في ملكه بعد أن ردّه الله إليه، تعمل له الجن ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وغير ذلك من أعماله، ويعذّب من الشياطين من شاء، ويطلق من أحبّ منهم إطلاقه، حتى إذا دنا أجله، وأراد الله قبضه إليه، كان من أمره - فيما بلغني - ما حدثني به أحمد بن منصور قال: حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة قال حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: كان سليمان نبي الله إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا وكذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غُرِست، إن كانت لدواء كتبت فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخُرّوب، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم عمّ على الجن موتى حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصًا، فتوكأ عليها حولًا ميتًا، والجن تعمل، فأكلتها الأرضة فسقط، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. قال: وكان ابن عباس يقرؤها " حولًا في العذاب المهين " قال: فشكرت الجن الأرضة، فكانت تأتيها بالماء. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي في حديث ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس 0وعن مرة الهمذاني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ قال: كان سليمان يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يومُ يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها، فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول لها: لأي شيء نبتّ؟ فتقول نبتّ لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع، فإن كانت نبتت لغرس غرسها، وإن كانت نبتت دواء قالت: نبتّ دواء لكذا وكذا، فيجعلها لذلك، حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة فسألها: ما اسمك؟ قالت: أنا الخروبة، قال: ولأي شيء نبتّ؟ قالت: نبتّ لخراب هذا المسجد. قال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئًا على عصاه فمات، ولا تعلم به الشياطين، وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حولَ المحراب، وكان المحراب له كوىً بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جليدًا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك، فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق - ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فلم يسمع ثم رجع فوقف في البيت فلم يحترق ونظر إلى سليمان قد سقط ميتًا، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه، ووجدوا مِنْسأته - وهي العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرَضة على العصا، فأكلت منها يومًا وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وهي في قراءة ابن مسعود: " فمكثوا يدينون له من بعد موته حولًا كاملًا "، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا موت سليمان، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له، وذاك في قول الله عز وجل: " ما دلّهم على موته إلا دابّة الأرض " - إلى قوله - " في العذاب المُهين " يقول: بيّن أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم. ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنتِ تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين. قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها به الشياطين شكرًا لها! وكان جميع عمر سليمان بن داود فيما ذكر نيفًا وخمسين سنة، وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر. ذكر من ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك الفرس بعد كيقباذ قال أبو جعفر: ونرجع الآن إلى الخبر عمّن ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك الفرس بعد كيقباذ. وملك بعد كيقباذ بن زاغ بن يوجياه كيقاوس بن كيبيه بن كيقباذ الملك. فذُكر أنه قال يوم مَلَكَ: إن الله تعالى إنما خَوّلنا الأرض وما فيها لنسعى فيها بطاعته، وأنه قتل جماعة من عظماء البلاد التي حولَه، وحمى بلاده ورعيّته ممن حواليهم من الأعداء أن يتناولوا منها شيئًا، وأنه كان يسكن بَلْخ، وأنه وُلد له ابن لم يُر مثله في عصره في جماله وكماله وتمام خلْقه، فسمّاه سياوخش، وضمّه إلى رستم الشديد بن دستان بن بريمان بن جودنك بن كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان. وكان إصبهبذ سِجِسْتان وما يليه من قِبَله يربّيه ويكفلُهُ، وأوصاه به فأخذه منه رستم، فمضى به معه إلى موضع عمله سِجِسْتان، فرباه رستَم ولم يزل في حِجره يجمع له وهو طفلٌ الحواضن والمرضعات، ويتخيرهنّ له، حتى إذا ترعرع جمع له المعلّمين، فتخيّر له منهم من اختاره لتعليمه، حتى إذا قدَر على الركوب علّمه الفروسية حتى إذا تكاملت فيه فنون الآداب، وفاق في الفروسية قدم به على والده رجلًا كاملًا، فامتحنه والده كيقاوس، فوجده نافذًا في كلّ ما أراد بارعًا، فسُرّ به، وكان كيقاوس تزوج - فيما ذكر - ابنة فراسياب ملك الترك، وقيل: بل إنها بنتُ ملك اليمن، وكان يقال لها سوذابة، وكانت ساحرةً، فهويت سياوخش، ودعته إلى نفسها، وأنه امتنع عليها، وذكرتْ لها ولسياوخش قصة يطول بذكرها الكتاب، غير أن آخر أمرهما صار في ذلك - فيما ذكر لي - أن سوذابة لم تزل لما رأت من امتناع سياوخش عليها فيما أرادت منه من الفاحشة بأبيه كيقاوس حتى أفسدته عليه، وتغيّر لابنه سياوخش، فسأل سياوخش رستم أن يسأل أباه كيقاوس توجيهه لحرب فراسياب لسبب منعه بعض ما كان ضمن له عنه إنكاحه ابنته إياه، وصلْح جرى بينه وبينه، مريدًا بذلك سياوخش البُعْد عن والده كيقاوس، والتنحي عما تكيد به عنده زوجته سوذابة، ففعل ذلك رستم، واستأذن له أباه فيما سأله، وضم إليه جندًا كثيفًا، فشخص إلى بلاد الترك للقاء فراسياب، فلما صار إليه سياوَخش، جرى بينهما صلح، وكتب بذلك سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين فراسياب من الصلْح، فكتب إليه والده يأمره بمناهضة فراسياب ومناجزته الحرب، إن هو لم يُذْعن له بالوفاء بما كان فارقه عليه، فرأى سياوخش أم في فعله ما كتب به إليه أبوه من محاربة فراسياب بعد الذي جرى بينه وبينه من الصلح والهدنة من غير نقض فراسياب شيئًا من أسباب ذلك عليه عارًا ومنقصة ومأثمًا، فامتنع من إنفاذ أمر أبيه في ذلك، ورأى في نفسه أنه يؤتَى في كل ذلك من زوجة أبيه التي دعته إلى نفسها فامتنع عليها، ومال إلى الهرب من أبيه، فراسل فراسياب في أخذ الأمان لنفسه منه، واللحاق به، وترك والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك - وكان السفير بينهما في ذلك - فيما قيل - رجلًا من الترك من عظمائهم يقال له: فيران بن ويسغان - فلما فعل ذلك سياوخش انصرف عنه مَنْ كان معه من جند أبيه كيقاوس. فلما صار سياوخش إلى فراسياب بوّأه وأكرمه وزوّجه ابنة له يقال لها: وسفافريد، وهي أم كيخسرونَه، ثم لم يزل مُكْرِمًا حتى ظهر له أدب سياوخش وعقله وكماله وفروسيته ونجْدته ما أشفق على ملكه منه، فأفسده ذلك عنده، وزاده فسادًا عليه سعيُ ابنين له وأخ يقال له: كندر بن فشنجان عليه بإفساد أمر سياوخش عنده، حسدًا منهم له، وحذرًا على ملكهم منه، حتى مكّنهم من قتله، فذكر في سبب وصولهم إلى قتله أمرٌ يطول بشرحه الخطْب، إلا أنهم قتلوه ومثّلوا به وامرأته ابنة فراسياب حامل منه بابنه كيخسرونه، فطلبوا الحيلة لإسقاطها ما في بطنها فلم يسقط، وأن فيران الذي سعى في عقد الصلح بين فراسياب وسياوخش لما صح عنده ما فعل فراسياب من قتله سياوخش، أنكر ذلك من فعله، وخوّفه عاقبة الغدر، وحذّره الطلب بالثأر من والده كيقاوس ومن رستَم، وسأله دفع ابنته وسفافريد إليه لتكون عنده إلى أن تضع ما في بطنها ثم يقتله. ففعل ذلك فراسياب، فلما وضعت رقّ فيران لها وللمولود، فترك قتله وستر أمره، حتى بلغ المولود، فوجّه - فيما ذكر - كيقاوس إلى بلاد الترك بي بن جوذرز، وأمره بالبحث عن المولود الذي ولدته زوجة ابنه سياوخش، والتأنّي لإخراجه إليه، إذا وقف على خبرِه مع أمه، وأن بيًّا شخَص لذلك؛ فلم يزل يفحص عن أمر ذلك المولود، متنكرًا حينًا من الزمان فلا يُعرف له خبر، ولا يدلّه عليه أحد. ثم وقف بعد ذلك على خبره، فاحتال فيه وفي أمه حتى أخرجهما من أرض الترك إلى كيقاوس، وقد كان كيقاوس - فيما ذكر - حين اتصل به قتلُ ابنه أشخص جماعة من رؤساء قواده؛ منهم رستَم بن دستان الشديد، وطوس بن نوذران، وكانا ذوَي بأس ونجدة، فأثخنا الترك قتلًا وأسرًا، وحاربا فراسياب حربًا شديدة وأن رستم قتل بيده شهر وشهرة ابني فراسياب وأن طوسًا قتل بيده كندر أخا فراسياب. وذكر أن الشياطين كانت مسخرة لكيقاوس، فزعم بعضُ أهل العلم بأخبار المتقدمين أن الشياطين الذين كانوا سُخّروا له إنما كانوا يُطيعونه عن أمر سليمان بن داود إياهم بطاعته، وأن كيقاوس أمر الشياطين فبنوا له مدينة سماها كنكدر، ويقال قيقذون؛ وكان طولها - فيما زعموا - ثمانمائة فرسخ، وأمرهم فضربوا عليها سورًا من صُفر، وسورًا من شَبَه، وسورًا من نحاس، وسورًا من فخار، وسورًا من فضة، وسورًا من ذهب. وكانت الشياطين تنقلها ما بين السماء والأرض وما فيها من الدواب والخزائن والأموال والناس. وذكروا أن كيقاوس كان لا يُحدث وهو يأكل ويشرب. ثم إن الله تعالى بعث إلى المدينة التي بناها كذلك مَنْ يُخْرّبها، فأمر كيقاوس شياطينه بمنع من قصد لتخريبها، فلم يقدروا على ذلك، فلما رأى كيقاوس الشياطين لا تطيق الدفع عنها، عطف عليها، فقتل رؤساءها. وكان كيقاوس - فيما ذكر - مظفّرًا لا يناوئه أحدٌ من الملوك إلا ظفر عليه وقهره، ولم يزل ذلك أمرُه حتى حدثته نفسُه - لما كان من العز والملك وأنه لا يتناول شيئًا إلا وصل إليه - بالصعود إلى السماء. فحدثت عن هشام بن محمد أنه شخص من خراسان حتى نزل بابل، وقال: ما بقي شيء من الأرض إلا قد ملكتُه، ولا بد من أن أعرف أمر السماء والكواكب وما فوقها، وأن الله أعطاه قوة ارتفع بها ومَنْ معه في الهواء حتى انتهوا إلى السحاب، ثم إن الله سلبَهم تلك القوة فسقطوا فهلكوا، وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ، وفسَد عليه ملكه، وتمزّقت الأرض، وكثرت الملوك في النواحي، فصار يغزوهم ويغزونه، فيظفر مرة ويُنْكَبُ أخرى. قال: فغزا بلاد اليمن - والملك بها يومئذ الأذعار بن أبرهة ذي المنار ابن الرائش - فلما ورد بلاد اليمن خرج عليه ذو الأذعار بن أبرهة وكان قد أصابه الفالج؛ فلم يكن يغزو قبل ذلك بنفسه. قال: فلما أظله كيقاوس ووطئ بلاده في جموعه خرج بنفسه في جموع حِميْر وولد قحطان، فظفر بكيقاوس، فأسره، واستباح عسكره، وحبسه في بئر، وأطبق عليه طبقًا. قال: وخرج من سجستان رجل يقال له رستم، كان جبارًا قويًا فيمن أطاعه من الناس. فزعمت الفرس أنه دخل بلاد اليمن، واستخرج قبوس من محبسه وهو كيقاوس. قال: وزعم أهلُ اليمن أنه لما بلغ ذا الأذعار إقبال رستم خرج إليه في جنوده وعدد، وخندق كل واحد منهما على عسكره، وأنهما أشفقا على جنديهما من البوار، وتخوفا إن تزاحفا إلا تكون لهما بقية، فاصطلحا على دفع كيقاوس إلى رستم، ووضع الحرب، فانصرف رستم بكيقاوس إلى بابل، وكتب كيقاوس لرستم عتقًا من عبودة الملك، وأقطعه سجستان وزابُلستان، وأعطاه قلنسوة منسوجة بالذهب وتوّجه، وأمر أن يجلس على سرير من فضة، قوائمه من ذهب، فلم تزل تلك البلاد بيد رستم حتى هلك كيقاوس وبعده دهرًا طويلًا. قال: وكان ملكه مائة وخمسين سنة. وزعم علماء الفرس أن أول من سوّد لباسه على وجه الحداد شادوس بن جودرز على سياوخش، وأنه فعل ذلك يوم وَرَدَ على كيقاوس نعْيُ ابنه سياوخش وقتْل فراسياب إياه، وغدره به، وأنه دخل على كيقاوس، وقد لبس السواد، فأعلمه أنه فعل ذلك لأن يومه يوم إظلام وسواد. وقد حقق ما ذكر ابن الكلبي من أسْر صاحب اليمن قابوس الحسن بن هانئ في شعر له فقال: وقاظَ قابوسُ في سلاسلنا ** سنين سبعًا وقت لحاسِبِها ثم ملك من بعد كيقاوس ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس بن كيبيه بن كيقباذ. وكان كيقاوس حين صار به وبأمه وسفافريد ابنه فراسياب - وربما قيل وسففره - بي بن جوذرز إليه من بلاد الترك، وملّكه، فلما قام بالملك بعد جدّه كيقاوس، وعقد التاج على رأسه خطب رعيته خطبة بليغة، أعلمهم فيها أنه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب التركي، ثم كتب إلى جوذرز الأصبهبذ - كان - بأصبهان ونواحي خراسان - يأمره بالمصير إليه، فلما صار أعلمه ما عزم عليه من الطلب بثأره من قتْل والده، وأمره بعرض جُنده، وانتخاب ثلاثين ألف رجل منهم، وضمّهم إلى طوس بن نوذران، ليتوجّه بهم إلى بلاد الترك، ففعل ذلك جوذرز، وضمّهم إلى طوس، وكان فيمن أشخص معه برزافره بن كيقاوس، عم كيخسرو وبي بن جوذرز، وجماعة كثيرة من إخوته، وتقدم كيخسرو إلى طوس؛ أن يكون قصده لفراسياب وطراخنته، وألا يمر بناحية من بلاد الترك، وكان فيها أخ له يقال له فروذ بن سياوخش، من امرأة يقال لها برزا فريد، كان سياوخش تزوجها في بعض مدائن الترك أيام سار إلى فراسياب، ثم شخص عنها وهي حُبلى، فولدت فروذ فأقام بموضعه، إلى أن شب فغلط في أمر فروذ - فيما قيل - وذلك أنه لما صار بحِذاء المدينة التي كان فيها فروذ هاج بينه وبينه حربٌ ببعض الأسباب، فهلك فروذ فيها، فلما اتصل خبرُه بكيخسرو كتب إلى برزافره عمّه كتابًا غليظًا، يعلِمه فيه ما ورد عليه من خبر طوس بن نوذران ومحاربته فروذ أخاه، وأمره بتوجيه طوس إليه مقيّدًا مَغلولًا، وتقدّم إليه في القيام بأمر العسكر والنفوذ به لوجهه، فلما وصل الكتاب إلى برزافره، جمع رؤساء الأجناد والمقاتلة، فقرأه عليهم، وأمر بغلّ طوس وتقييده، ووجّهه مع ثقات من رسله إلى كيخسرو، وتولى أمر العسكر، وعبر النهر المعروف بكاسبروذ، وانتهى الخبر إلى فراسياب، فوجّه إلى برزافره جماعة من إخوته وطراخنته لمحاربته، فالتقوا بموضع من بلاد الترك يقال له واشن، وفيهم فيران بن ويسغان وإخوته طراسيف بن جوذرز صهر فراسياب، وهماسف بن فشنجان، وقاتلوا قتالًا شديدًا، وظهر من برزافره في ذلك اليوم فشلٌ لما رأى من شدّة الأمر وكثرة القتلى، حتى انحاز بالعلَم إلى رؤوس الجبال واضطرب على ولد جوذرز أمرُهم، فقتل منهم في تلك الملحمة في وقعة واحدة سبعون رجلًا، وقُتِل من الفريقين بشرٌ كثير، وانصرف برزافره ومن كان معه إلى كيخسرو، وبهم من الغمّ والمصيبة ما تمنوا معه الموت، فكان خوفهم من سطوة كيخسرو أشد، فلما دخلوا على كيخسرو أقبل على برزافره بلائمة شديدة، وقال: أتيتم في وجهكم لترككم وصيتي ومخالفة وصية الملوك، تورد مورد السوء، وتورِث الندامة، وبلغ ما أصيبوا به من كيخسرو حتى رئيت الكآبة في وجهه، ولم يلتذ طعامًا ولا نومًا. فلما مضت لموافاتهم أيام أرسل إلى جوذرز فلما دخل عليه أظهر التوجّع له، فشكا إليه جوذرز برزافره، وأعلمه أنه كان السبب للهزيمة بالعلم وخذلانه ولده، فقال له كيخسرو: إن حقك بخدمتك لآبائنا لازم لنا، وهذه جنودنا وخزائننا مبذولة لك في مطالبة ترتِكَ، وأمره بالتهيؤ والاستعداد والتوجه إلى فراسياب، والعمل في قتله وتخريب بلاده، فلما سمع جوذرز مقالة كيخسرو نهض مبادرًا فقبّل يده، وقال: أيها الملك المظفّر، نحن رعيتك وعبيدك، فإن كانت آفة أو نازلة، فلتكن بالعبيد دوم ملوكها، وأولادي المقتولون فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من مملكة الترك، فلا يغمنّ الملك ما كان، ولا يَدَ عنّ لهوه؛ فإن الحرب دُوَل، وأعلمه أنه على النفوذ لأمره. وخرج من عنده مسرورًا. فلما كان من الغد أمر كيخسرو أن يدخل عليه رؤساء أجناده والوجوه من أهل مملكته، فلما دخلوا عليه أعلمهم ما عزم عليه من محاربة الأتراك، وكتب إلى عمّاله في الآفاق يُعلمهم ذلك، ويأمر بموافاتهم في صحراء تُعرف بشاه أسطون، من كُوره بلْخ، في وقت وقّته لهم. فتوافت رؤساء الأجناد في ذلك الموضع، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذته وأصحابهم، وفيهم برزافره عمّه وأهل بيته، وجوذرز وبقية ولده. فلما تكاملت الملحمة، واجتمعت المرزابة، تولى كيخسرو بنفسه عرْض الجند حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم، ثم دعا بجوذرز بن جشوادغان، وميلاذ بن جرجين وأغص بن بهذان - وأغص ابن وصيفة كانت لسياوخش، يقال لها: شوماهان - فأعلمهم أنه قد أراد إدخال العساكر على الترك من أربعة أوجه، حتى يحيطوا بهم برًّا وبحرًا، وأنه قد قوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، وصيّر مدخله من ناحية خراسان، وجعل فيمن ضم إليه برزافره عمه وبي بم جوذرز وجماعة من الأصبهبذين كثيرة، ودفع إليه يومئذ العلَم الأكبر الذي كانوا يسمّونه درفش كابيان، وزعموا أن ذلك العلَم لم يكن دفعه أحد من الملوك إلى أحد من القوّاد قبل ذلك، وإنما كانوا يسيّرونه مع أولاد الملوك إذا وجّهوهم في الأمور العظام. وأمر ميلاذ بالدخول مما يلي الصين، وضمّ إليه جماعة كثيرة دون مَنْ ضمّ إلى جوذرز، وأمر أغص بالدخول من ناحية الخزر في مثل مَنْ ضمّ إلى ميلاذ، وضمّ إلى شموهان إخوتها وبني عمها وتمام ثلاثين ألف رجل من الجند، وأمرها بالدخول من طريق بين طريق جوذرز وميلاذ. ويقال: إن كيخسرو إنما غزا شومهان لخاصتها بسياوخش، وكانت تذرت أن تطالب بدمه. فمضى جميعُ هؤلاء لوجههم، ودخل جوذرز بلادَ الترك من ناحية خُراسان، وبدأ بفيران بن ويسغان، فالتحمت بينهما حَرْبٌ شديدة مذكورة، وهي الحرب التي قتل فيها بيزن بن بي خُمان بن ويسغان مبارزة، وقتل جوذرز فيران أيضًا، ثم قصد جوذرز فراسياب، وألحّت عليه العساكر الثلاثة، كل عسكر من الوجه الذي دخل منه، واتبع القوم بعد ذلك كيخسرو بنفسه، وجعل قصْده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصيّر مدخله منه، فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن في الترك، وقتل فيران رئيس إصبهبذي فراسياب، والمرشّح للملك من بعده، وجماعة كثيرة من إخوته؛ مثل خُمان، وأوستهن، وجلباد، وسيامق، وبهرام، وفرشخاذ، وفرخلاذ. ومن ولده، مثل روين بن فيران، وكان مقدما عند فراسياب، وجماعة من إخوة فراسياب، مثل: رتدراي، وأندرمان، وأسفخرم، وأخست. وأسَربروا بن فشنجان قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى، وما غنِم من الكُراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفًا، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفًا وستين ألف رجل، ومن الكُراع والورق والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره أو قتيله من الأتراك عند علمه لينظر كيخسرو إلى ذلك عند موافاته. فلما وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة اصطفّت له الرجال، وتلقاه جوذرز وسائر الإصبهبذين، فلما دخل العسكر جعل يمرّ بعلم علم، فكان أول قتيل رآه جثة فيران عند علم جوذرز، فلما نظر إليها وقف ثم قال: أيها الجبل الصعب الذرا المنيع الأركان! ألم أنهك عن هذه المحاربة، وعن نصْب نفسك لنا دون فراسياب في هذه المطالبة؟! ألم أبذل لك نفسي، وأعرِض عليك ملكي فلم تحسِن الاختيار؟ ألست الصدوق اللسان، الحافظَ للإخوان، الكاتم للأسرار؟! ألم أعلمْك مكْر فراسياب وقلة وفائه فلم تفعل ما أمرتُك بل مضيت في نومك حتى احتوشتك الليوث من مقاتلتنا وأبناء مملكتنا؟ ما أغنى عنك فراسياب، وقد فارقت الدنيا وأفنيت آل ويسغان! فويلٌ لحلمك وفهمِك! وويل لسخائك وصدقك! إنا بك اليوم لموجَعون! ولم يزل كيخسرو يرثي فيران حتى صار إلى علْم بي جوذرز، فلما وقف عليه وجد بروا بن فشنجان حيًّا أسيرًا في يدي بي، فسأل عنه فأخبر أنه بروا قاتل سياوخش المائل به عند قتله إياه. فقرّب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسَه بالسجود شكرًا لربه، ثم قال: الحمد لله الذي أمكنني منك يا بروا! أنت الذي قتلت سياوخش، ومثّلت به! وأنت الذي سلبته زينته وتكلّفت من بين الأتراك إبارته، فغرست لنا بفعلك هذه الشجرة من العداوة، وهيّجت بيننا هذه المحاربة، وأشعلت في كلا الفريقين نارًا موقدة! أنت الذي جرى على يديك تبديل صورته، وتوهين قوته! أما تهيّبت أيها التركي جماله! ألا بقيت عليه للنور الساطع على وجهه! أين نجدتُك وقوتك اليوم! وأين أخوك الساحر عن نصرتك! لست أقتلُك لقتلك إياه؛ بل لكلفتك وتوليك ما كان صلاحًا لك ألا تتولاه، وسأقتل مَنْ قتله ببغيه وجرمه. ثم أمر أن تقطع أعضاؤه حيًا ثم يذبح ففعل ذلك به بي، ولم يزل كيخسرو يمر بعلم علَم، وأصبهبذ أصبهبذ؛ فإذا صار إلى الواحد منهم قال له نحو ما ذكرنا، ثم صار إلى مضاربه، فلما استقر فيها دعا ببرافره عمه، فلما دخل عليه أجلسَه عن يمينه، وأظهر له السرور بقتله جلباذ بن ويسغان مبارزة، ثم أجزل جائزته وملّكه على كِرْمان ومُكران ونواحيها، ثم دعا بجوذرز، فلما دخل قال له: أيها الأصبهبذ الرشيد، والكهل الشفيق، إنه مهما كان من هذا الفتح العظيم فمن ربنا عز وجل، وعن غير حيلة منا ولا قوة، ثم برعايتك حقنا، وبذلك نفسك وأولادك لنا، وذلك مذْخور لك عندنا، وقد حبوناك بالمرتبة التي يقال لها " بُزُرْجفر مذار "؛ وهي الوزارة، وجعلنا لك أصبهان وجُرْجان وجبالهما، فأحسِنْ رعاية أهلها. فشكر جوذرز ذلك، وخرَج من عنده بَهِجًا مسرورًا، ثم أمر بالوجوه من أصبهبذته الذين كانوا مع جوذرز ممن حسن بلاؤه، وتولى قتل طراخنة الأتراك، ولد فشنجان وويسغان؛ مثل جرجين بن ميلاذان، وبي، وشادوس ولخام، وجدمير بن جوذرز، وبيزن بن بي، وبرازه بن بيفغان، وفروذه بن فامدان وزنده بن شابريغان، وبسطام بن كزدهمان، وفرته بن تفارغان. فدخلوا عليه رجلًا رجلًا؛ فمنهم من ملّكه على البلدان الشريفة، ومنهم من خصّه بأعمال من أعمال حضرته، ثم لم يلبث أن وردت عليه الكتب من ميلاذ وأغص شومهان بإثخانهم في بلاد الترك، وأنهم قد هزموا فراسياب عسكرًا بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدوا في محاربة القوم، وأن يوافوه بموضع سمّاه لهم من بلاد الترك. فزعموا أن العساكر الأربعة لما أحاطت بفراسياب، وأتاه مِنْ قتل مَنْ قتل، وأسْر مَنْ أسر، وخراب ما خرّب ما أتاه، ضاقت عليه المذاهب، ولم يبق معه من ولده إلا شيده - وكان ساحرًا - فوجّهه نحو كيخسرو بالعدة والعتاد، فلما وافى كيخسرو أعلم أن أباه إنما وجهه للاحتيال عليه، فجمع أصبهبذته وتقدم إليهم في الاحتراس من غلبته. وقيل: إن كيخسرو أشفق يومئذ من شيده وهابه، وظن ألا طاقة له به، وأن القتال اتصل بينهما أربعة أيام، وإن رجلًا من خاصة كيخسرو يقال له جرد بن جرهمان عبّى يومئذ أصحاب كيخسرو، فأحسن تعبيتهم، فكثرت القتلى بينهم واستماتت رجال خنيارث وجدّت، وأيقن شيده ألا طاقة له بهم فانهزم، واتبعه كيخسرو بمن معه، ولحقه جرد فضربه على هامته بالعمود ضربةً خرّ منها ميتًا، ووقف كيخسرو على جيفته، فعاين منها سماجة شنِعة، وغنم كيخسرو ما كانَ من عسكرهم، وبلغ الخبر فراسياب، فأقبل بجميع طراخنته، فلما التقى وكيخسرو، ونشبت بينهما حرب شديدة لا يقال إن مثلها كان على وجه الأرض قبلها، فاختلط رجال خنيارث برجال الترك، وامتدّ الأمر بينهم حتى لم تقع العين يومئذ إلا على الدماء، والأسر من جوذرز ولده وجرجين وجرد بسطام، ونظر فراسياب وهم يحمون كيخسرو كأنهم أسود ضاربة، فانهزم مولّيًا على وجهه هاربًا، فأحصيت القتلى فيما ذكر يومئذ؛ فبلغت عدتهم مائة ألف، وجد كيخسرو وأصحابه في طلب فراسياب، وقد تجرد للهرب فلم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى أتى أذربيجان، فاستتر في غدير هناك يعرف ببئر خاسف، ثم ظُفِر به، فلما أتى كيخسرو استوثق منه بالحديد، ثم أقام للاستراحة بموضِعه ثلاثة أيام، ثم دعاه، فسأله عن عذره في أمر سياوخش، فلم يكن له عذر ولا حُجّة، فأمر بقتله، فقام إليه بي بن جوذرز، فذبحه كما ذبح سياوخش، ثم أتى كيخسرو وبدمه، فغَمس فيه يده، وقال هذا بِتِرة سياوخش، وظُلمكم إياه واعتدائكم عليه. ثم انصرف من أذربيجان ظافرًا غانمًا بهجًا. وذُكر أن عدة من أولاد كيبيه جدّ كيخسرو الكبر وأولادهم كانوا مع كيخسرو في حرب الترك، وأن ممن كان معه كى أرش بن كيبيه، وكان مُمَلّكًا على خوزستان وما يليها من بابل وكى به أرش، وكان مملكًا على كرمان ونواحيها، وكى أوجى بن كيمنوش بن كيفاشين بن كيبيه، وكان مملّكًا على فارس، وكى أوجى هذا هو أبوكى لهراسف الملك؛ ويقال إن أخًا لفراسياب كان يقال له: كى شراسف، صار إلى بلاد الترك بعد قتل كيخسرو أخاه، فاستولى على ملكها، وكان له ابن يقال له خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه، وكان جبارًا عاتيًا، وهو ابن أخي فراسياب ملك الترك الذي كان حارب منوشهر، وجوذرز هو ابن جشواغان بن يسحره بن قرحين بن حبر بن رسود بن أورب بن تاج بن رشيك بن أرس بن وندح بن رعر بن نودراحاع بن مسواغ بن نوذر بن منوشهر. فلما فرغ كيخسرو من المطالبة بوِتْره، واستقرّ في مملكته زهد في الملك، وتنسّك، وأعلم الوجوه من أهله وأهل مملكته أنه على التخلي من الأمر، فاشتد لذلك جزعُهم، وعظمت له وحشتهم، واستغاثوا إليه، وطلبوا وتضرّعوا، وراودوه على المقام بتدبير ملكهم، فلم يجدوا عنده في ذلك شيئًا، فلما يئِسوا قالوا بأجمعهم: فإذا قمتَ على ما أنت عليه فسمّ للملك رجلًا نقلّده إياه، وكان لهراسف حاضرًا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنه خاصته ووصيّه، فأقبل الناس إلى لهراسف، وذلك بعد قَبُوله الوصية. وفُقِد كيخسرو، فبعض يقول: إنه غاب للنسك فلا يدرَى أين مات، ولا كيف كانت منيته، وبعضٌ يقول غيرَ ذلك. وتقلد لهراسف الملك بعده على الرسم الذي رسم له، وولد كيخسرو: جاماس، وأسبهر، ورمى، ورمين. وكان ملك كيخسرو ستين سنة. أمر إسرائيل بعد سليمان بن داود عليهما السلام رجع الحديث إلى الخبر عن أمر بني إسرائيل بعد سليمان بن داود عليهما السلام. ثم ملك بعد سليمان بن داود على جميع بني إسرائيل ابنه رُحُبْعُم بن سليمان، وكان ملكه - فيما قيل - سبع عشرة سنة. ثم افترقت ممالك بني إسرائيل فيما ذكر بعد رُحُبْعُم، فكان أبيًا بن رُحُبْعُم ملك سبط يهوذا وبنيامين، دون سائر الأسباط؛ وذلك أن سائر الأسباط ملّكوا عليهم يوربعم بن نابط، عبد سليمان، لسبب القربان الذي كانت زوجة سليمان قرّبته في داره، وكانت قرّبت فيها جُرادة لصنم، فتوعده الله بإزالة بعضِ المُلك عن ولده، فكان ملك رُحُبْعُم إلى أن تُوفِيَ - فيما ذكر - ثلاث سنين. ثم ملك أسا بن أبيّا أمر السِّبطين اللذيْن كان أبوه يملك أمرهما - وهما سبط يهوذا وسبط بنيامين - إلى أن توفي، إحدى وأربعين سنة. ؟ ذكر خبر أسا بن أبيّا وزرح الهنديّ حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم؛ قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبّه يقول: إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل يقال له أسا بن أبيّا، كان رجلًا صالحًا، وكان أعرجَ، وكان ملك من ملوك الهند يقال له زرح، وكان ملكًا جبارًا فاسقًا يدعو الناس إلى عبادته، وكان أبيّا عابدَ أصنام؛ له صنمان يعبدهما من دون الله، ويدعو الناسَ إلى عبادتهما؛ حتى أضلّ عامة بني إسرائيل، وكان يعبدُ الأصنام حتى توفي. ثم ملك ابنه أسا من بعدِه، فلما ملكهم بعث فيهم مناديًا ينادي: إلا إن الكفر قد مات وأهلُه، وعاش الإيمان وأهله، وانتكست الأصنام وعبادتُها، وظهرت طاعة الله وأعمالُها، فليس كافر من بني إسرائيل يُطلع رأسه بعد اليوم بكُفْر في ولايتي ودهري، إلا أني قاتله. فإن الطوفان لم يُغرِق الدنيا وأهلها، ولم يخسف بالقرى، ولم تمطر الحجارة والنار من السماء إلا بترك طاعة الله، وإظهار معصيته؛ فمن أجل ذلك ينبغي لنا ألا نقرّ لله معصية يُعمَل بها، ولا نترك طاعة لله إلا أظهرناها جهدَنا، حتى نطهّر الأرض من نَجَسها، ونُنقِّبها من دنسها، ونجاهد مَنْ خالفَنا في ذلك بالحرب والنفي من بلادنا. فلما سمع ذلك قومُه ضجّوا وكرهوا، فأتوا أمّ أسا الملك فشكوْا إليها فعل ابنها بهم وبآلهتهم، ودعاءه إياهم إلى مفارقة دينهم، والدخول في عبادة ربِّهم، فتحمّلت لهم أمه أن تكلِّمه وتصرفه إلى عبادة أصنام والده؛ فبينا الملك قاعد وعنده أشراف قومه ورؤوسهم وذوو طاعتهم؛ إذ أقبلت أمّ الملك فقام لها الملك من مجلسه، وأمرَها أن تجلس فيه، معرفةً بحقها وتوقيرًا لها. فأبت عليه وقالت: لستَ ابني إن لم تجبني إلى ما أدعوك إليه، وتضع طاعتك في يدي حتى تفعل ما آمرك به، وتجيبني إلى أمر؛ إن أطعتني فيه رَشَدت وأخذت بحظّك، وإن عصيتَني فحظَّك بخَست، ونفسَك ظلمت. إنه بلغني يا بني أنك بدأت قومك بالعظيم؛ دعوتهم إلى مخالفة دينهم، والكفرِ بآلهتهم، والتحول عما كان عليه آباؤهم، وأحدثت فيهم سنّة، وأظهرت فيهم بدعة؛ أردت بذلك - فيما زعمت - تعظيمًا لوقارك، ومعرفةً بمكانك، وتشديدًا لسلطانك؛ وفي التقصير يا بني دخلت، وبالشَّين أخذت. ودعوت جميعَ الناس إلى حربك، وانتدبت لقتالهم وحدك؛ أردت بذلك أن تُعيد الأحرار لك عبيدًا، والضعيف لك شديدًا؛ سفّهت بذلك رأيَ العلماء، وخالفتَ الحكماء، واتّبعت رأي السفهاء، ولعمري ما حملك على ذلك يا بني إلا كثرة طيشك، وحداثةُ سنك، وقلةُ علمك؛ فإن أنت رددت علي كلامي، ولم تعرف حقي، فلستَ من نسل والدك، ولا ينبغي الملْك لمثلك. يا بني بأي شيء تُدلُّ على قومك؟ لعلك أوتيت من الحروف مثل ما أتى موسى إلى فرعون؛ أن غرّقه وأنجى قومه من الظَّلمة. أو لعلك أوتيت من القوة ما أوتي داود؛ أن قتلَ الأسد لقومه، ولحِق الذئب فشقّ شِدْقه، وقتل جالوت الجبّار وحده. أو لعلك أوتيت من الملك والحكمة أفضلَ مما أوتي سليمان بن داود رأس الحكماء؛ إذ صارت حكمتُه مثلًا للباقين بعده! يا بني إنه ما يأتِك من حسنة فأنا أحظى الناس بها، وإن تكن لأخرى فأنا أشقاهم بشقوتك. فلما سمعها الملك اشتد غضبُه، وضاق صدره، فقال لها: يا أمّه! إنه لا ينبغي أن آكل على مائدة واحدة مع حبيبي وعدوي، كذلك لا ينبغي أن أعبد غير ربي. هلّمي إلى أمر إن أطَعتني فيه رَشدت، وإن تركتِه غويت؛ أن تعبدي الله وتكفري بكل آلهة دونه، فإنه ليس أحد يردّ هذا علي إلا هو لله عدو، وإنا ناصره لأني عبدُه. قالت له: ما كنت لأفارق أصنامي، ولا دينَ آبائي وقومي. ولا أترك ذلك لقولك، ولا أعبد الربّ الذي تدعوني إليه. فقال لها الملك: حينئذ يا أمّه، إن قولَك هذا قد قطع فيما بيني وبينك رحِمي. وأمر بها الملك عند ذلك فأخرجَها وغرّبوها، ثم أوصى إلى صاحب شُرطته وبابه أن يقتلها إن هي ألمّت بمكانه. فلما سمع ذلك منه الأسباط الذين كانوا حوله وقعت في قلوبهم المهابة، فأذعنوا له بالطاعة، وانقطعت فيما بينهم وبينه كل حيلة، وقالوا: قد فعل هذا بأمّه، فأين نقع نحن منه إذا خالفنا في أمره، ولم نجبه إلى دينه! فاحتالوا له كل حيلة، فحفظه الله وأباد مكرَهم. فلما لم يكن لهم عن ذلك صبر، ولا على فراق دينهم قوام؛ ائتمروا بأن يهربوا من بلاده، ويسكنوا بلادًا غيرها؛ فخرجوا متوجّهين إلى زَرْح ملك الهند يطلبون أن يستحملوه على أسا ومن اتبعه؛ فلما دخلوا على زرْح سجدوا له، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيدك، قال: وأي عبيد أنتم؟ قالوا: نحن من أرضك أرضِ الشام، وإنا كنا نعتز بملكك، حتى ظهر فينا ملك صبي حديث السن سفيه، فغيّر ديننا، وسفّه رأينا، وكفّر آباءنا، وهان عليه سخطُنا، فأتيناك لنُعلمك ذلك، فتكون أنت أولى بملكنا؛ ونحن رؤوسهم، وهي أرض كثير مالها، ضعيف أهلها، طيّبة معيشتها، كثيرة أنضارها، وفيهم الكنوز وملْك ثلاثين ملكًا، وهم الذين كان يوشع بن نون خليفة موسى سار بهم في البحر هو وقومه؛ فنحن وأرضنا لك، وبلادنا بلادك، وليس أحدٌ فيها يناصبك، هم دافعون أيديَهم إليك بغير قتال، بأموالهم وأنفسهم مسالمة. قال: لهم زرح: لعمْري، ما كنت لأجيبكم إلى ما دعوتموني إليه، ولا أستجيب إلى مقاتلة قوم لعلّهم أطوعُ لي منكم، حتى أبعثَ إليهم من قومي أمناء، فإن وقع الأمرُ على ما تكلّمتم به قدّامي نفعكم ذلك عندي، وجعلتُكم عليها ملوكًا، وإن كان كلامكم كذبًا فإني منزِل بكم العقوبة التي تنبغي لمن كذَبني. قال القوم: تكلّمت بالعدل، وحكمتَ بالقسط، ونحن به راضون. فأمر عند ذلك بالأرزاق فأجريَت عليهم، واختار من قومه أمناء ليبعثهم جواسيس، فأوصاهم بوصيته، وخوّفهم وحذّرهم بطشه إن هم كذَبوه، ووعدهم المعروف إن هم صدَقوه. وقال زرح: إني مرسلكم لأمانتكم، وشحّكم على دينكم، وحسن رأيكم في قومكم، لتطالعوا لي أرضًا من أرضي، وتبحثوا لي عن شأنها، وتُعلموني علْم أهلها وملِكها وجنودها وعددها وعدد مياههَا، وفِجاجها وطرقها، ومداخلها ومخارجها، وسهولتها وصعوبتها؛ حتى كأني شاهد ذلك وعالمه، وحاضر ذلك وخابره. وخذوا معَكم من الخزائن من الياقوت والمرجان والكسوة ما يفرغون إليه إذا رأوْه، ويشترون منكم إذا نظروا إليه. فأمكنهم من خزائنه حتى أخذوا منها، فجهّزهم لبرّهم وبحرهم، ووصف لهم القوم الذين أتوهم الطرقَ، ودلّوهم على مقاصدها، فساروا كالتجار؛ حتى نزلوا ساحلَ البحر، ثم ركبوا منه حتى أرسوا على ساحل إيلياء، ثم ساروا حتى دخلوها، فخلّفوا أثقالهم فيها، وأظهروا أمتعتهم وبضاعتهم، ودعوا الناس إلى أن يشتروا منهم؛ فلم يُفرغوا لبضاعتهم، وكسدت تجارتُهم، فجعلوا يُعطون بالشيء القليل الكثير؛ لكيلا يخرجوهم من قريتهم، حتى يعلموا أخبارَهم، ويحقّوا شأنهم ويستخرجوا ما أمرهم به ملكهم من أخبارهم. وكان أسا الملك قد تقدّم إلى نساء بني إسرائيل ألا يُقْدّر على امرأة لا زوج لها بهيئة امرأة لها زوج إلا قتلها أو نفاها من بلاده إلى جزائر البحار؛ فإن إبليس لم يدخل على أهل الدين في دينهم بمكيدة هي أشد من النساء؛ فكانت المرأة التي لا زوج لها لا تخرج إلا منتقبة في رِثّة الثياب لئلا تعرف؛ فلما بذل هؤلاء الأمناء بضاعتهم ما ثمنُه مئة درهم بدرهم، جعل نساء بني إسرائيل يشترين خُفية بالليل سرًا، لا يعلم بهنّ أحد من أهل دينهن؛ حتى أنفقوا بضاعتهم واشتروا بها حاجتهم، واستوعبوا خبر مدينتهم وحصونهم، وعدد مياههم، وكانوا قد كتموا رؤوس بضاعتهم ومحاسنها من اللؤلؤ والمرجان والياقوت هديّة للملك، وجعل الأمناء يسألون من رأوا من أهل القرية عن خبر الملك وشأنه إذ لم يشترِ منهم شيئًا، ما شأن الملك لا يشتري منا شيئًا! إن كان غنيًا فإن عندنا من طرائف البضاعات فنعطيه ما شاء مما لم يدخل مثله في خزائنه، وإن كان محتاجًا فما يمنعه أن يشهدّنا فنعطيَه ما شاء بغير ثمن! قال لهم منْ حضرهم من أهل القرية: إن له من الغنى والخزائن وفنون المتاع ما لم يُقْدر على مثله؛ إنه استفرغ الخزائن التي كان موسى سار بها من مصر، والحلي الذي كان بنو إسرائيل أخذوا، وما جمع يوشع بن نون خليفةُ موسى، وما جمع سليمان رأس الحكماء والملوك، من الغنى الكثير والآنية التي لا يقدّر على مثلها. قال الأمناء: فما قتاله؟ وبأي شيء عظمته؟ وما جنوده؟ أرأيتم لو أن ملكًا انحرف عليه ففتق ملكه ما كان إذًا قتالُه إياه؟ وما عدّته وعدد جنوده؟ أم بأي الخيل والفرسان غلبته؟ أم من أجل كثرة جمعه وخزائنه وقعت في قلوب الرجال هيبته! فأجابهم القوم وقالوا: إن أسا قليلةٌ عدّته، ضعيفة قوته، غير أن له صديقًا لو دعاه واستعان به على أن يزيل الجبال أزالها؛ فإذا كان معه صديقه فليس شيء من الخلْق يطيقه. قال لهم الأمناء: ومنْ صديق أسا؟ وكم عدد جنوده؟ وكيف مواجهته وقتالُه؟ وكم عدد عساكره ومراكبه؟ وأين قراره ومسكنه؟ فأجابهم القوم: أما مسكنُه ففوق السموات العلا، مستوٍ على عرشه، لا يحصى عدد جنوده، وكل شيء من الخلق له عبد، لو أمر البحر لطمّ على البر، ولو أمر الأنهار لغارت في عنصرها ولا يُرى ولا يعرف قراره، وهو صديق أسا وناصره. فجعل الأمناء يكتبون كل شيء أخبروا به من أمر أسا وقضية أمره، فدخل بعض هؤلاء الأمناء عليه فقالوا: يأيها الملك، إن معنا هدية نريد أن نهديها لك من طرائف بلادنا، أو تشتري منا فنُرخصه عليك. قال لهم: أئتوني بذلك حتى أنظر إليه، فلما أتوه به قال لهم: هل يبقى هذا لأهله ويبقون له؟ قالوا: بل يفنى هذا ويفنى أهله. قال لهم أسا: لا حاجة لي فيه، إنما طَلِبتي ما تبقى بهجتُه لأهله، لا تزول ولا يزولون عنه. فخرجوا من عنده، وردّ عليهم هديتهم، فساروا من بيت المقدس متوجهين إلى زرح الهندي ملكهم. فلما أتوه نشروا له كتاب خبرهم وأنبئوه بما انتهى إليهم من أمر ملكهم، وأخبروه بصديق أسا. فلما سمع زرح كلامَهم استحلفهم بعزّته، وبالشمس والقمر اللذين يعبدونهما ولهما يصلّون ألا يكتموه من خبر ما رأوا في بني إسرائيل شيئًا. فصدّقوه. فلما فرغوا من خبرهم وخبرُ أسا ملكهم وصديقه، قال لهم زرح: إن بني إسرائيل لما علموا أنكم جواسيس، وأنكم قد اطلعتم على عوراتهم ذكروا لكم صديق أسا وهم كاذبون؛ أرادوا بذلك ترهيبكم. إن صديق أسا لا يطيق أن يأتيَ بأكثر من جندي، ولا بأكمل من عدّتي، ولا بأقسى قلوبًا ولا أجرأ على القتال من قومي؛ إن لقيَني بألف لقيته بأكثر من ذلك. ثم عمد زرح عند ذلك فكتب إلى كل من في طاعته أن يجهّزوا من كل مخلاف جندًا بعدّتهم حتى استمد يأجوج ومأجوج والترك وفارس مَنْ سواهم من الأمم ممن جرت عليه لزرح طاعة، كتب: من زرح الجبار الهندي ملك الأرضين، إلى من بلغته كتبي: أما بعد فإن لي أرضًا قد دنا حصادُها وأينع ثمرُها؛ وأردت أن تبعثوا إلي بعمال أغنّمهم ما حصدوا منها، وهم قوم قصَوْا عني، وغلَبوا على أطراف من أرضي وقهروا مَنْ تحت أيديهم من رقيقي، وقد منحتهم مَنْ نهض إليهم معي، فإن قصّرت بكم قوّة فعندي قوّتكم، فإنه لا تتعطل خزائني. فاجتمعوا إليه من كل ناحية، وأمدّوه بالخيل والفرسان والرجالة والعدة؛ فلما اجتمعوا عنده أمكنهم من السلاح والجهاز من خزائنه، ثم أمر بإحصاء عددهم وتعبيتهم، فبلغ عددهم ألف ألف ومائة ألف سوى أهل بلادهم. وأمر بمائة مركب فقِرن له البغال، كل أربعة أبغُل جميعًا عليها سرير وقبّة، وفي كل قبّة منها جارية، ومع كل مركب عشرة من الخدم، وخمسة أفيال من فيلَته، فبلغ في كل عسكر من عساكره مائة ألف، وجعل خاصته الذين يركبون معه مائة من رؤوسهم، وجعل في كل عسكر عرفاء، وخطبهم وحرّضهم على القتال، فلما نظر إليهم وسار فيهم تعزّز وتعظّم شأنه في قلوب مَنْ حضره، ثم قال زرح: أين صديق أسا؟ هل يستطيع أن يعصمَه مني؟ أو مَنْ يطيق غلبتي؟ فلو أن أسا وصديقه ينظران إلي وإلى جندي ما اجترأ على قتالي؛ لأن عندي بكل واحد من جنده ألفًا من جنودي، ليَدخُلنّ أسا أرضي أسيرًا، ولأقدمنّ سُبِيًّا في جنودي. فجعل زرح ينتقص أسا ويقول فيه ما لا ينبغي، فبلغ أسا صنيعُ زرح وجمعُه عليه، فدعا ربه فقال: اللهم أنت الذي بقوّتك خلقت السموات والأرض ومَنْ فيهنّ حتى صار جميع ذلك في قبضتك، أنت ذو الأناة الرفيقة، والغضب الشديد، أسألك ألا تذكرنا بخطايانا فيما بيننا وبينك، ولا تعمدنا ولا تجزينا على معصيتك؛ ولكن تذكرنا برحمتك التي جعلتَها للخلائق، فانظر إلى ضَعفنا وقوة عدونا، وانظر إلى قلّتنا وكثرة عدونا، وانظر إلى ما نحن فيه من الضيق والغمّ، وانظر إلى ما فيه عدوّنا من الفرح والراحة، فغرق زرحًا وجنوده في اليم بالقدرة التي غرّقت بها فرعون وجنوده، وأنجيت موسى وقومه. وأسألك أن تُحلّ على زرح وقومه عذابك بغتة! فأرِيَ أسا في المنام - والله أعلم - أني قد سمعت كلامَك، ووصل إلي جُؤارُك، وأني على عرشي، وأني إن غرّقت زرحًا الهندي وقومه، لم يعلم بنو إسرائيل ولا مَنْ كان بحضرتهم كيف صنعت بهم، ولكن سأظهِر في زرح وقومه لك ولمن اتبعك قدرة من قدرتي، حتى أكفيك مؤنتهم، وأهبَ لك غنيمتهم، وأضعَ في أيديكم عساكرَهم؛ حتى يعلم أعداؤك أن صديق أسا لا يطاق وليّه، ولا يهزَم جنده، ولا يخيب مُطيعُه، فأنا أتمهل له حتى يفرغ من حاجته، ثم أسوقه إليك عبدًا، وعساكره لك ولقومك خَوَلًا. فسار زرح ومن معه حتى حلّوا على ساحل ترشيش، فلم يكن إلا محلة يوم حتى دفنوا أنهارها، ومحوا مروجَها؛ حتى كان الطير ينقصف عليهم، والوحش لا تستطيع الهرب منهم، فساروا حتى كانوا على مرحلتين من إيلياء، ففرّق زرح عساكره منها إلى إيلياء، وامتلأت منهم تلك الأرضُ جبالها وسهولها، وامتلأت قلوبُ أهل الشام منهم رُعبًا، وعاينوا هَلكتهم. فسمع بهم أسا الملك؛ فبعث إليهم طليعة من قومه، وأمرهم أن يخبروه بعددهم وهيئتهم. فسار القوم الذين بعثهم أسا حتى نظروا إليهم من رأس تلّ، ثم رجعوا إلى أسا فأخبروه أنه لم تر عيون بني آدم، ولا سمعت آذانهم مثلَهم ومثلَ أفيالهم وخيولهم وفرسانهم؛ وما ظننّا أن في الناس مثلَهم كثرة وعدة، فلَّت من إحصائهم عقولُنا، وفُلَّت من قتالهم حيلتنا، وانقطع بيننا وبينهم رجائنا فسمع بذلك أهلُ القرية فشقّوا ثيابهم، وذرّوا التراب على رؤوسهم، وعجّوا بالعويل في أزقّتهم وأسواقهم، وجعل بعضُهم يودّع بعضًا. ثم ساروا حتى أتوا الملك فقالوا: نحن خارجون بأجمعنا إلى هؤلاء القوم فدافعون إليهم أيديَنا، لعلهم أن يرحمونا فيقرّونا في بلادنا. قال لهم أسا الملك: معاذ الله أن نُلقي بأيدينا في أيدي الكفرة، وأن نُخلّيَ بيت الله وكتابه للفجرة! قالوا: فاحتلْ لنا حيلة، واطلب إلى صديقك وربك الذي كنت تعدُنا بنصره وتدهونا إلى الإيمان به، فإن هو كشفَ عنا هذا البلاء؛ وإلا وضعنا أيدينا في أيدي عدونا لعلنا نتخلّص بذلك من القتل. قال لهم أسا: إن ربي لا يطاق إلا بالتضرع والتبتل والاستكانة. قالوا: فابرز له لعله أن يجيبك فيرحم ضعيفنا، فإن الصديق لا يسلِم صديقه على مثل هذا. فدخل أسا المصلى، ووضع تاجه من رأسه، وخلّى ثيابه، ولبس المُسوح وافترش الرماد، ثم مدّ يده يدعو ربع بقلب حزين، وتضرّع كثير، ودموع سِجال، وهو يقول: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؛ أنت المستخفى من خلْقك حيث شئت ولا يدرَك قرارك، ولا يطاق كنْهُ عظمتك، أنت اليقظان الذي لا تنام، والجديد الذي لا تبليك الليالي والأيام؛ أسألك بالمسألة التي سألك بها إبراهيم خليلك فأطفأت بها عنه النار، وألحقته بها بالأبرار، وبالدعاء الذي دعاك به نجيُّك موسى فأنجيت بني إسرائيل من الظلَمة، وأعتقهم به من العبودية، وسيّرتهم في البر والبحر، وغرّقت فرعون ومن اتبعه. وبالتضرّع الذي تضرّع لك عبدك داود فرفعته، ووهبتَ له من بعد الضعف القوة، ونصرتَه على جالوت الجبار، وهزمتَه. وبالمسألة التي سألك بها سليمان نبيك فمنحته الحكمة، ووهبت له الرفعة، وملّكته على كل دابّة. أنت محيي الموتى، ومُفني الدنيا، وتبْقَى وحدك خالدًا لا تفنى، وجديدًا لا تبلى. أسألك يا إلهي أن ترحمني بإجابة دعوتي، فإني أعرجُ مسكين من أضعف عبادك، وأقلهم حيلة، وقد حل بنا كرب عظيم، وحزب شديد، لا يطيق كشفه غيرك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك، فارحم ضعفنا بما شئت، فإنك ترحم من تشاء بما تشاء. وجعل علماء بني إسرائيل يدعون الله خارجًا وهم يقولون: اللهم أجب اليوم عبدك، فإنه قد اعتصم بك وحدك، ولا تخل بينه وبين عدوك، واذكر حبه إياك، وفراقه أمه وجميع الخلائق إلا من أطاعك. فألقى الله على أسا النوم وهو في مصلاه ساجدًا، ثم أتاه من الله آت - والله أعلم - فقال: يا أسا، إن الحبيب لا يُسلم حبيبه، وإن الله عز وجل يقول إني قد ألقيت عليك محبتي ووجب لك نصري فأنا الذي أكفيك عدوك، فإنه لا يهون من توكل علي، ولا يضعف من تقوي بي. كنت تذكرني في الرخاء، وأسلمك عند الشدائد، وكنت تدعوني آمنًا، وأنا أسلمك خائفًا، إن الله القوي يقول: أنا أقسم أن لو كايدتك السموات والأرض بمن فيهن لجعلت لك من جميع ذلك مخرجًا، فأنا الذي أبعث طرفًا من زبانيتي يقتلون أعدائي، فإني معك، ولن يخلُص إليك ولا إلى من معك أحد. فخرج أسا من مصلاه وهو يحمد الله، مسفرًا وجهه، فأخبرهم بما قيل له، فأما المؤمنون فصدقوه، وأما المنافقون فكذبوه، وقال بعضهم لبعض: إن أسا دخل أعرج وخرج أعرج، ولو كان صادقًا أن الله قد أجابه إذًا لأصلح رجله، ولكن يغرنا ويمنينا، حتى تقع الحرب فينا فيهلكنا! فبينا الملك يخبرهم عن صنع الله بهم إذ قدم رسل من زرح فدخلوا إيلياء ومعهم كتب من زرح إلى أسا، فيها شتم له ولقومه، وتكذيب بالله، وكتب فيها: أن أدعُ صديقك الذي أضللت به قومك فليبارزني بجنوده، وليظهر لي مع أني أعلم أنه لن يطيقني هو ولا غيره، لأني أنا زرح الهندي الملك. فلما قرأ أسا الكتب التي قدم بها عليه هملت عيناه بالبكاء، ثم دخل مصلاه ونشر تلك الكتب بين يدي الله، ثم قال: اللهم ليس لي شيء من الأشياء أحب إلي من لقائك، غير أني أتخوف أن يطفأ هذا النور الذي أظهرته في أيامي هذه، وقد حضرت هذه الصحائف وعلمتُ ما فيها، ولو كنت المراد بها كان ذلك يسيرًا، غير أن عبدك زرحًا يكايدك ويتناولك، فخر بغير فخر، وتكلم بغير صدق، وأنت حاضر ذلك وشاهده. فأوحى الله إلى أسا - والله أعلم - أنه لا تبديل لكلماتي، ولا خلف لموعدي، ولا تحويل لأمري، فاخرج من مصلاك، ثم مر خيلك أن تجتمع، ثم اخرج بهم وبمن اتبعك حتى تقفوا على نشز من الأرض. فخرج أسا فأخبرهم بما قيل له، فخرج اثنا عشر رجلًا من رؤسائهم، مع كل رجل منهم رهط من قومه، فلما أن خرجوا، ودعوا أهاليهم بألا يرجعوا إلى الدنيا. فوقفوا لزرح على رابية من الأرض، فأبصروا منها زرحًا وقومه، فلما أبصرهم زرح نفض رأسه ليسخر منهم، وقال: إنما نهضت من بلادي، وأنفقت أموالي لمثل هؤلاء! ودعا عند ذلك بالنفر الذين كانوا نعتوا عنده أسا وقومه، فقال: كذبتموني وزعمتم أن قومكم كثير عددهم! فأمر بهم وبالأمناء الذين كان بعثهم ليخبروه خبرهم، فقتلوا جميعًا، وأسا في ذلك كثير تضرعه، معتصم بربه، فقال زرح: ما أدري ما أفعل بهؤلاء القوم؟ وما أدري ما قدر قلتهم في كثرتنا؟ إني لأستقلهم عن المحاربة وأرى ألا أقاتلهم. فأرسل زرح إلى أسا فقال له: أين صديقك الذي كنت تعدنا به، وتزعم أنه يخلصك مما يحل بكم من سطواتي! أفتضعون أيديكم في يدي فأمضى فيكم حكمي، أو تلتمسون قتالي! فأجابه أسا فقال: يا شقي، إنك لست تعلم ما تقول. ولست تدري! أتريد أن تغالب ربك بضعفك، أم تريد أن تكاثره بقلتك؟ هو أعز شيء وأعظمه، وأغلبُ شيء وأقهره، وعبادهُ أذل وأضعف عنده من أن ينظروا إليه معاينة هو معي في موقفي هذا ولن يغلب أحد كان الله معه فاجتهد يا شقي بجهدك حتى تعلم ماذا يحل بك. فلما اصطف قوم زرح وأخذوا مراتبهم، أمر زرح الرماة من قومه أن يرموهم بنشابهم. فبعث الله ملائكة من كل سماء - والله أعلم - عونًا لأسا وقومه، ومادة له، فوقفهم أسا في مواقفهم، فلما رموا نشابهم، حال المشركون بين ضوء الشمس وبين الأرض، كأنها سحابة طلعت فنحتها الملائكة عن أسا وقومه، ثم رمت بها الملائكة قوم زرح، فأصابت كل رجل منهم نشابته التي رمى بها، فقتل رماتهم بها كلها وأسا وقومه في كل ذلك يحمدون الله كثيرًا، ويعجون إليه بالتسبيح، وتراءت الملائكة لهم - والله أعلم - فلما رآهم الشقي زرح وقع الرعب في قلبه، وسقط في يده، وقال: إن أسا لعظيم كيده، ماض سحره، وكذلك بنو إسرائيل، حيث كانوا لا يغلب سحرهم ساحر، ولا يطيق مكرهم عالم، وإنما تعلّموه من مصر، وبه ساروا في البحر، ثم نادى الهندي في قومه: أن سلوا سيوفكم، ثم احملوا عليهم حملة واحدة فدقوهم. فسلوا سيوفهم ثم حملوا على الملائكة فقتلتهم الملائكة، فلم يبقى منهم غير زرح ونسائه ورقيقه. فلما رأى ذلك زرح ولى مدبرًا فارًا هو ومن معه، وهو يقول: إن أسا ظهر علانية، وأهلكني صديقه سرًا، وإن كنتُ أنظر إلى أسا ومن معه واقفين لا يقاتلون والحرب واقعة في قومي. فلما رأى اسا أن زرحا قد ولى مدبرًا قال: اللهم إن زرحًا قد ولى مدبرًا، وإنك إن لم تحل بيني وبينه استنفر علينا قومه ثانية. فأوحى الله إلى أسا إنك لم تقتل من قتل منهم ولكني قتلتهم، فقف مكانك، إني لو خليت بنيك وبينهم أهلكوكم جميعًا، إنما يتلقب زرح في قبضتي، ولن ينصره أحد مني، وأنا لزرح بالمكان الذي لا يستطيع صدودًا عنه ولا تحويلًا، وإني قد وهبت لك ولقومك عساكره وما فيها من فضة ومتاع ودابة، فهذا أجرك إذ اعتصمت بي، ولا ألتمس منك أجرًا على نصرتك! فسار زرح حتى أتى البحر يريد بذلك الهرب، ومعه مائة ألف، فهيئوا سفنهم ثم ركبوا فيها، فلما ساروا في البحر بعث الله الرياح من أطراف الأرضين والبحار إلى ذلك البحر واضطربت من كل ناحية أمواجُه، وضربت السفن بعضها بعضًا حتى تكسرت، فغرق زرح ومن كان معه، واضطربت بهم الأمواج حتى فزع لذلك أهلُ القرى حولهم، ورجفت الأرض، فبعث أسا من يعلمه علم ذلك، فأوحى الله إليه - والله أعلم - أن اهبط أنت وقومك أهل قراكم فخذوا ما غنّمكم الله بقوة، وكونوا فيه من الشاكرين، فإني قد سوغت كل من أخذ من هذه العساكر شيئًا ما أخذه. فهبطوا يحمدون الله ويقدسونه، فنقلوا تلك العساكر إلى قراهم ثلاثة أشهر. والله أعلم. ثم ملك بعده يهوشافاظ بن أسا إلى أن هلك خمسًا وعشرين سنة ثم ملكت عتليا وتسمى عزليا ابنة عمرم أم أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل، فلم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، فإنه ستر عنها، ثم قتلها يواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين. ثم ملك يواش بن أخزيا إلى أن قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدته فكان ملكه أربيعن سنة. ثم ملك أموصيا بن يواش إلى أن قتله أصحابه تسعًا وعشرين سنة، ثم ملك عوزيا بن أموصيا - وقد يقال لعوزيا: غوزيا - إلى أن توفي، اثنتين وخمسين سنة. ثم ملك يوتام بن عوزيا إلى أن توفي ست عشرة سنة. ثم ملك أحاز بن يوتام إلى أن توفي، ست عشرة سنة. ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي. وقيل إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرع إلى ربه فزاده وأمهله، وأمر شعيا بإعلامه ذلك. وأما محمد بن إسحاق فإنه قال: صاحب شعيا الذي هذه القصة قصته اسمه صديقة. ذكر صاحب قصة شعيا من ملوك بني إسرائيل وسنحاريب حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: كان فيما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل وإحداثهم وما هم فاعلون بعده، قال: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوًا كبيرًا " - إلى - " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا "، فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزًا عنهم، متعطفًا عليهم، محسنًا إليهم، وكان مما أنزل الله بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر عنهم على لسان موسى. فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكًا منهم كان يدعى صديقة، وكان الله إذا ملك الملك عليهم بعث نبيًا يسدده ويرشده، فيكون فيما بينه وبين الله، يحدث إليه في أمرهم. لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة. فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعيا بن أمصيا، وذلك قبل مبعث عيسى وزكرياء ويحيى وشعيا الذي بشر بعيسى ومحمد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانًا، فلما انقضى ملكه، وعظمت فيهم الأحداث، وشعيا معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية، فأقبل سائرًا حتى نزل حول بيت المقدس والملك مريض، في ساقه قرحة، فجاءه النبي شعيا، فقال له: يا ملك بني إسرائيل، إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده في ستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم. فكُبر ذلك على الملك، فقال: يا نبي الله، هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده؟ فقال له النبي عليه السلام: لم يأتني وحي حدث إلي في شأنك. فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعيا النبي: أن ائت ملك بني إسرائيل فأمره أن يوصى بوصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته. فأتى النبي شعيا ملك نبي إسرائيل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إلى أن آمرك توصى وصيتك، وتستخلف من شئت على الملك من أهل بيتك، فإنك ميت. فلما قال ذلك شعيا لصديقة: أقبل على القبلة، فصلى وسبح، ودعا وبكى، وقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص، وتوكل وصبر، وظن صادق: اللهم رب الأرباب، وإله الآلهة والقدوس المتقدس، يا رحمن يا رحيم، المترحم، الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي وسري وعلانيتي لك. وإن الرحمن استجاب له وكان عبدًا صالحًا. فأوحى الله إلى شعيا، فأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءه، وقد أخر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده. فلما قال له ذلك، ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشر والحزن، وخر ساجدًا، وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبحت، وكرمت وعظمت. أنت الذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه من تشاء، وتعز من تشاء، وتذلك من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي، ورحمت تضرعي. فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا: أن قل للملك صديقة، فيأمر عبدًا من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح وقد برئ. ففعل ذلك فشفي. وقال الملك لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا علمًا بما هو صانع بعدونا هذا فقال الله لشعيا النبي قل له إني قد كفيناه عدوك لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا علمًا بما هو صانع بعدونا هذا. فقال الله لشعيا النبي: قل له إن قد كفيتك عدوك، وأنجيتك منهم، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه. فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فاخرج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا. فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يودد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطلب في مغاره وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل، فلما رآهم خر ساجدًا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون! فقال سنحاريب له: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدًا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علي وعلى من معي. فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة لك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك إلى ما هو شر لك ولمن معك. لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابًا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم. ولدمك ودم من معك أهونُ على الله من دم قُراد لو قتلته! ثم إن ملك بن إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يومًا حول بيت المقدس، وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير، لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتلُ خير مما تفعل بنا: فافعل ما أمرت. فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحى الله إلى شعيا النبي: أن قل لملك نبي إسرائيل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، ولكيرمهم وليحملهم. حتى يبلغوا بلادهم. فبلغ النبي شعيا الملك ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل، فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده. فقال له كهانهو وسحرته: يا ملك بابل، قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحى الله إلى نبيهم، فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوفوا به، ثم كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات. وقد زعم بعض أهل الكتاب أن هذا الملك من بين إسرائيل الذي سار إليه سنحاريب كان أعرج، وكان عرجه من عرق النسا، وأن سنحاريب إنما طمع في مملكته لزمانته وضعفه، وأنه قد كان سار إليه قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل، يقال له ليفر، وكان بختنصر ابن عمه كاتبه، وأن الله أرسل عليه ريحًا أهلكت جيشه، وأفلتَ هو وكاتبه، وأن هذا البابلي قتله ابن له، وأن بختنصر غضب لصاحبه، فقتل ابنه الذي قتل أباه، وأن سنحاريب سار بعد ذلك إليه، وكان مسكنه بنينوى مع ملك أذربيجان يومئذ، وكان يدعي سلمان الأعسر، وأن سنحاريب وسليمان اختلفا، فتحاربا حتى تفانيا جنداهما، وصار ما كان معهما غنيمة لبني إسرائيل. وقال بعضهم: بل الذي غزا حزقيا صاحب شعيا سنحاريبُ ملك الموصل وزعم أنه لما أحاط ببيت المقدس وبجنوده بعث الله ملكًا، فقتل من أصحابه في ليلة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألف رجل. وكان ملكه إلى أن توفي تسعًا وعشرين سنة. ثم ملك بعده - فيما قيل - أمرهم منشيا بن حزيقيا إن أن توفي خمسًا وخمسين سنة. ثم ملك بعد أمون بن منشيا إلى أن قتله أصحابهُ، اثنتى عشرة سنة. ثم ملك بعده يوشيا بن أمون إلى أن قتله فرعون الأجدع المقعد ملك مصر، إحدى وثلاثين سنة. ثم ياهواحاز بن يوشيا، وكان فرعون الأجدع قد غزاه وأسره وأشخصه إلى مصر، وملك فرعون الأجدع يوياقيم بن ياهواحاز على ما كان عليه أبوه، ووظف عليه خراجًا يؤديه إليه، فكان يوياقيم يجبى ذلك - فيما زعموا - من بني إسرائيل، ويحمله - فيما زعموا - اثنتي عشرة سنة. ثم ملك أمرهم من بعده يوياحين بن يوياقيم، فغزاه بختنصر، فأسره وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه. وملك مكانه متنيًا عمه وسماه صديقيا فخالفه، فغزاه فظفر به، فأوثقه وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده بين يديه، وسمل عينيه وخرب المدينة والهيكل، وسبى بني إسرائيل، وحملهم إلى بابل، فمكثوا بها إلى أن ردهم إلى بيت المقدس كيرش بن جاماسب ابن أسب، من أجل القرابة التي كانت بينه وبينهم، وذلك أن أمه أشتر ابنة جاويل - وقيل حاويل - الإسرائيلي، فكان جميع ما ملك صديقيًا مع الثلاثة الأشهر التي ملك فيها يوياحين - فيما قيل - إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر. ثم صار ملك بيت المقدس والشام لأشتاسب بن لهراسب، وعامله على ذلك كله بختنصر. وذكر محمد بن إسحاق، فيما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: أن صديقة ملك بني إسرائيل الذي قد ذكرنا خبره، لما قبضه الله مرج أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، حتى قتل بعضهم بعضًا عليه، ونبيهم شعيا معهم، لا يرجعون إليه ولا يقبلون منه. فلما فعلوا ذلك قال الله - فميا بلغنا - لشعيا: قم في قومك أوح على سانك، فلما قام أنطق الله لسانه بالوحي، فوعظهم وذكرهم وخوفهم الغير، بعد أن عدد عليهم نعم الله عليهم، وتعرضهم للغير. قال: فلما فرغ شعيا إليهم من مقالته عدوا عليه - فيما بلغني - ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة، فانفلقت له، فدخل فيها وأدركه الشيطان. فاخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها. وقد حدثني بقصة شعيا وقومه من بني إسرائيل وقتلهم إياه، محمد بن سهل البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه. ذكر خبر لهراسب وابنه بشتاسب وغزو بختنصر بني إسرائيل وتخريبه بيت المقدس ثم ملك بعد كيخسرو من الفرس لهراسب بن كيوجي بن كيمنوش بن كيفاشين، باختيار كيخسرو إياه، فلما عقد التاج على رأسه قال: نحن مؤثرون البر على غيره. واتخذ سريرًا من ذهب مكللًا بأنواع الجواهر للجلوس عليه، وأمر فبنيت له بأرض خرسان مدينة بلخ، وسماها الحسناء، ودون الدواوين، وقوى ملكه بانتخابه لنفسه الجنود، وعمر الأرض واجتبى الخراج لأرزاق الجنود، ووجه بختنصر، وكان اسمه بالفارسية - فيما قيل - بخترشه. فحدثت عن هشام بن محمد قال: ملك لهراسب - وهو ابن أخي قبوس - فبنى مدينة بلخ، فاشتدت شوكة الترك في زمانه، وكان منزله ببلخ يقاتل الترك. قال: وكان بختنصر في زمانه، وكان أصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم في غربي دجلة، فشخص حتى أتى دمشق فصالحه أهلها ووجه قائدًا له فأتى بيت المقدس فصالح ملك بني إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم فقتلوه، وقالوا: راهنت أهل بابل وخذلتنا! واستعدوا للقتال، فكتب قائد بختنصر إليه بما كان، فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه، فسار بختنصر حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية. قال: وبلغنا أنه وجد في سجن بني إسرائيل إرميا النبي، وكان الله تعالى بعثه نبيًا - فيما بلغنا - إلى بني إسرائيل. يحذرهم ما حلّ بهم من بختنصر، ويعلهم أن الله مسلط عليهم من يقتل مقاتلتهم، ويسبى ذراريهم، إن لم يتوبوا وينزعوا عن سيء أعمالهم. فقال له بختنصر: ما خطبك؟ فأخبره أن الله بعثه إلى قومه ليحذرهم الذي حل بهم، فكذبوه حبسوه. فقال بختنصر: بئس القوم قوم عصوا رسول ربهم! وخلى سبيله، وأحسن إليه. فاجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل، فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا، ونحن نتوب إلى الله مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا. فدعا ربه فأوحى إليه أنهم غيرُ فاعلين، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة، فأخبرهم بما أمرهم الله به، فقالوا: كيف نقيم ببلدة قد خربت وغضب الله على أهلها! فأبوا أن يقيموا، فكتب بختنصر إلى ملك مصر: إن عبيدًا لي هربوا مني إليك، فسرحهم إلي، وإلا عزوتك وأوطأت بلادك الخيل. فكتب إليه ملك مصر: ماهم بعبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار، فغزاه بختنصر فقتله، وسبى أهل مصر، ثم سار في أرض المغرب، حتى بلغ أقصى تلك الناحية، ثم انطلق بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن، فيهم دانيال وغيره من الأنبياء. قال: وفي ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل، ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي القرى، وغيرها. قال: ثم أوحى الله إلى إرميا - فيما بلغنا: إنى عامر بيت المقدس فاخرج إليها، فأنزلها. فخرج إليها حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله! أمرني الله أن أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها، فمتى يعمر هذه، ومتى يحييها الله بعد موتها! ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة فيها طعام، فمكث في نومه سبعين سنة، حتى هلك بختنصر والملك الذي فوقه، وهو لهراسب الملك الأعظم وكان ملك لهراسب مائة وعشرين سنة. وملك بعده بشتاسب ابنه، فبلغه، عن بلاد الشأم أنها خراب، وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين، فلم يبق بها من الإنس أحد، فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: إن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع. وملك عليهم رجلًا من آل داود، وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها، فرجعوا فعمروها، وفتح الله لإرميا عينيه، فنظر إلى المدينة كيف تعمر وتبنى، ومكث في نومه ذلك، حتى تمت له مائة سنة، ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة وقد عهد المدينة خرابًا يبابًا، فلما نظر إليها قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير. قال: وأقام بنو إسرائيل ببيت المقدس ورد إليهم أمرهم، وكثروا بها حتى غلبت عليهم الروم في زمان ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة. قال هشام: وفي زمان بشتاسب ظهر زرادشت، الذي تزعم المجوس أنه نبيهم، وكان زرادشت - فيما زعم قوم من علماء أهل الكتاب - من أهل فلسطين، خادمًا لعبض تلامذة إرميا النبي خاصًا به، أثيرًا عنده، فخانه فكذب عليه، فدعا الله عليه، فبرص فلحق ببلاد أذربيجان، فشرع بها دين المجوسية، ثم خرج منها متوجهًا نحو بشتاسب، وهو ببلخ، فلما قدم عليه وشرح له دينه أعجبه فقسر الناس على الدخول فيه، وقتل في ذلك من رعيته مقتلة عظيمة، ودانوا به، فكان ملك بشتاسب مائة سنة واثنتى عشرة سنة. وأما غيره من أهل الأخبار والعلم بأمور الأوائل فإنه ذكر أن كي لهراسب كان محمودًا في أهل مملكته، شديد القمع للملوك المحيطة بإيران شهر، شديد التفقد لأصحابه، بعيد الهمة كثير الفكر في تشييد البنيان، وشق الأنهار وعمارة البلاد، فكانت ملوك الروم والمغرب والهند وغيرهم يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوتة معلومة، ويكاتبونه بالتعظيم ويقرون له أنه ملك الملوك هيبة له وحذرًا. قال: ويقال: إن بختنصر حمل إليه من أوريشلم خزائن وأموالًا، فلما أحس بالضعف من قوته ملك ابنه بشتاسب، واعتزل الملك وفوضه إليه، وكان ملك لهراسب - فيما ذكر - مائة سنة وعشرين سنة. وزعم أن بختنصر هذا الذي غزا بني إسرائيل اسمه " بخترشه "، وأنه رجل من العجم، من ولد جوذرز، وأنه عاش دهرًا طويلًا جاوزت مدته ثلثمائة سنة، وأنه كان في خدمة لهراسب الملك، أبي بشتاسب، وأن لهراسب وجهه إلى الشام وبيت المقدس ليجلي عنها اليهود. فسار إليها ثم انصرف، وأنه لم يزل من بعد لهراسب في خدمة ابنه بشتاسب، ثم في خدمة بهمن من بعده، وأن بهمن كان مقيمًا بمدينة بلخ - وهي التي كانت تسمى الحسناء - وأنه أمر بخترشه بالتوجه إلى بيت المقدس ليجلي اليهود عنها، وأنّ السبب في ذلك وثوبُ صاحب بيت المقدس على رسل كان بهمن وجههم إليه، وقتله بعضهم. فلما ورد الخبر على بهمن دعا بخرشه فملكه على بابل، وأمره بالمسير إليها، والنفوذ منها إلى الشام وبيت المقدس، والقصد إلى اليهود حتى يقتل مقاتلهم، ويسبى ذراريهم، وبسط يده فيمن يختار من الأشراف والقواد، فاختار من أهل بيت المملكة داريوش بن مهرى، من ولد ماذي بن يافث بن نوح، وكان ابن أخت يخترشه. واختار كبرش كيكوان من ولد غليم بن سام، وكان خازنًا على بيت مال بهمن، وأخشويرش بن كيرش بن جاماسب الملقب بالعالم، وبهرام بن كيرش بن بشتاسب. فضم بهمن إليه من أهله وخاصته هؤلاء الأربعة، وضم إليه من وجوه الأساورة ورؤسائهم ثلثمائة رجل، ومن الجند خمسين ألف رجل، وأذن له من أن يفرض ما احتاج إليه، وفي إثباتهم. ثم أقبل بهم حتى صار إلى بابل، فأقام بها للتجهز والاستعداد سنة، والتفت إليه جماعة عظيمة، وكان فيمن سار إليه رجل من ولد سنحاريب، الملك الذي كان غزا حزقيا بن أحاز الملك، الذي كان بالشام وببيت المقدس من ولد سليمان بن داود صاحب شعيا، يقال له بختنصر بن نبوزرادان بن سنحاريب، صاحب الموصل وناحيتها، بن داريوش بن عبيري بن تيرى بن روبا ابن رابيا بن سلامون بن داود بن طامي بن هامل بن هرمان بن فودي بن همول بن درمي بن قمائل بن صاما بن رغما بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح عليه السلام. وكان مسيره إليه بسبب ما كان آتى خزقيًا وبنو إسرائيل إلى جده سنحاريب عند غزوه إياهم، وتوسل إليه بذلك فقدمه في جماعة كثيرة، ثم اتبعه، فلما توافت العساكر ببيت المقدس، نصر بخترشه على بني إسرائيل لما أراد الله بهم من العقوبة، فسباهم، وهدم البيت وانصرف إلى بابل، ومعه يوياحن بن يوياقيم ملك بني أسرائيل في ذلك الوقت، من ولد سليمان بعد أن ملك متنيا عم يوحينا، وسماه صدقيا. فلما صار بختنصر ببابل خالفه صدقيا، فغزاه بختنصر ثانية فظفر به، وأخرب المدينة والهيكل، وأوثق صدقيا، وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده، وسمل عينيه. فمكث بنو إسرائيل ببابل إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس، فكان غلبة بختنصر - المسمى بخترشه - على بيت المقدس إلى أن مات - في قوله هذا الذي حكينا قوله - أربعين سنة. ثم قام من بعده ابن يقال له أولمرودخ، فملك الناحية ثلاثًا وعشرين سنة، ثم هلك وملك مكانه ابن يقال له بلتشصر بن أولمرودخ سنة، فلما ملك بلتشصر خلط في أمره، فعزله بهمن وملك مكانه على بابل. وما يتصل بها من الشأم وغيرها داريوش الماذوي، المنسوب إلى ماذي بن يافث بن نوح عليه السلام حين صار إلى المشرق، فقتل بلتشصر، وملك بابل وناحية الشأم ثلاث سنين. ثم عزله بهمن وولى مكانه كيرش الغيلمي، من ولد غيلم بن سام ابن نوح، الذي كان نزع إلى جامر مع ماذي عندما مضى جامر إلى المشرق، فلما صار الأمر إلى كيرش كتب بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث أحبوا، والرجوع إلى أرضهم، وأن يولى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي عليه السلام، فولى أمرهم، وكان ملك كيرش على بابل وما يتصل بها ثلاث سنين، فصارت هذه السنون - من وقت غلبة بختنصر إلى انقضاء أمره وأمر ولده وملك كيرش الغيلمي - معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى بختنصر، ومبلغها سبعون سنة. ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن رجل من قرابته، يقال له أخشوارش ابن كيرش بن جاماسب، الملقب بالعالم، من الأربعة الوجوه الذين اختارهم بخترشه عند توجهه إلى الشأم من قبل بهمن، وذلك أن أخشوارش انصرف إلى بهمن من عند بختنصر محمودًا، فولاه ذلك الوقت بابل وناحيتها، وكان السبب في ولايته - فيما زعم - أنّ رجلًا كان يتولى لبهمن ناحية السند والهند يقال له كراردشير بن دشكال خالفه، ومعه من الأتباع ستمائة ألف، فولى بهمن أخشويرش الناحية، وأمره بالمسير إلى كراردشير، ففعل ذلك وحاربه، فقتله وقتل أكثر أصحابه، فتابع له بهمن الزيادة في العمل، وجمع له طوائف من البلاد، فلزم السوس، وجمع الأشراف، وأطعم الناس اللحم، وسقاهم الخمر، وملك بابل إلى ناحية الهند والحبشة وما يلي البحر، وعقد لمائة وعشرين قائدًا في يوم واحد الألوية، وصير تحت يد كل قائد ألف رجل من أبطال الجند الذين يعدل الواحد منهم في الحرب بمائة رجل، وأوطن بابل، وأكثر المقام بالسوس، وتزوج من سبى بن إسرائيل امرأة يقال لها أشتر ابنة أبي جاويل، كان رباها ابن عم لها يقال له مردخي، وكان أخاها من الرضاعة، لأن أم مردخي أرضعت أشتر، وكان السبب في تزوجه إياها قتله امرأة كانت له جليلة جميلة خطيرة يقال لها وشتا فأمرها بالبزور ليراها الناس ليعرفوا جلالتها وجمالها، فامتنعت من ذلك قتلها، فلما قتلها جزع لقتلها جزعًا شديدًا، فأشير عليه باعتراض نساء العالم، ففعل ذلك، وحببت إليه أشتر صنعًا لبني إسرائيل، فتزعم النصارى أنها ولدت له عند مسيره إلى بابل ابنًا فسماه كيرش، وأن ملك أخشويرش كان أربع عشرة سنة، وقد علمه مردخ التوراة، ودخل في دين بني إسرائيل، وفهم عن دانيال النبي عليه السلام ومن كان معه حينئذ، مثل حتنيا وميشايل وعازريا، فسألوه بأن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال: لو كان معني منكم ألف نبي ما فارقني منكم أحد ما دمت حيًا. وولى دانيال القضاء، وجعل إليه جميع أمره أن يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصر أخذه من بيت المقدس ويرده، وتقدم في بناء بيت المقدس، فبنى وعمر في أيام كيرش بن أخشويرش. وكان ملك كيرش، مما دخل في ملك بهمن وخماني اثنتين وعشرين سنة. ومات بهمن لثلاثة عشرة سنة مضت من ملك كيرش، وكان موت كيرش لأربع سنين مضين من ملك خماني، فكان جميع ملك كيرش بن أخشويرش اثنتين وعشرين سنة. فهذا ما ذكر أهل السير والأخبار في أمر بختنصر وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل. وأمّا السلف من أهل العلم فإنهم قالوا في أمرهم أقوالًا مختلفة، فمن ذلك ما حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: حدثني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جنبير، أنه سمعه يقول: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ، حتى إذا بلغ: " بعثنا عليكم عبادًا لنا أولى بأس شديد " بكى، وفاضت عيناه، ثم أطبق المصحف، فقال: ذلك ما شاء الله من الزمان! ثم قال: أي رب، أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه. فأرى في المنام مسكينًا ببابل يقال له بختنصر، فانطلق بمال وأعبد له - وكان رجلًا موسرًا - فقيل له: أين تريد؟ فقال: أريد التجارة، حتى نزل دارًا ببابل فاستكراها، ليس فيها أحد غيرهُ، فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لا يأتيه أحد إلا أعطاه، فقال هل بقي مسكين غيركم؟ فقالوا: نعم مسكين بفج آل فلان مريض، يقال له بختنصر، فقال لغلمته: انطلقوا بنا، فانطلق حتى أتاه فقال: ما اسمك؟ قال: بختنصر، فقال لغلمته: احتملوه فنقله إليه فمرضه حتى برئ، وكساه وأعطاه نفقة، ثم أذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بختنصر، فقال الإسرائيلي: ما يبكيك؟ قال: أبكي أنك فعلت بي ما فعلت، ولا أجد شيئًا أجزيك! قال: بل شيئًا يسيرًا، إن ملكت أطعتني. فجعل الآخر يتبعه ويقول تستهزئ بي! ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله إلا أنه يرى أنه يستهزئ به. فبكى الإسرائيلي وقال: لقد علمتُ ما يمنعك ان تعطيني ما سألتك، إلا أن الله عز وجل يريد أن ينفذ ما قضى وكتب في كتابه. وضرب الدهر من ضربه، فقال صيحون، وهو ملك فارس ببابل: لو أنا بعثنا طليعة إلى الشأم! قالوا: وما ضرك لو فعلت! قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، فبعث رجلًا، وأعطاه مائة ألف، وخرج بختنصر في مطبخه لا يخرج إلا ليأكل في مطبخه، فلما قدم الشام رأى صاحبُ الطليعة أكثر أرض الله فرسًا ورجلًا جلدًا، فكسره ذلك في ذرعه، فلم يسأل، فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل؟ فلو غزوتموها، فما دون بيت مالها شيء. قالوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى تنفد مجالس أهل الشام، ثم رجعوا. فأخبر متقدم الطليعة ملكهم بما رأى، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان. فرفع ذلك إليه، فدعاه فأخبره الخبر، وقال: إن فلانًا لما رأى أكثر أرض الله كراعًا ورجلًا جلدًا، كسر ذلك في ذرعه، ولم يسألهم عن شيء، وإني لم أدع مجلسًا بالشام إلا جالست أهله، فقلت لهم كذا وكذا، فقالوا لي كذا وكذا - للذي ذكر سعيد بن جبير أنه قال لهم - فقال متقدم الطليعة لبختنصر: فضحتني! لك مائة ألف وتنزع عما قلت. قال: لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعتُ. وضرب الدهر من ضربه، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشأم، فإن وجدوا مساغًا ساغوا، وإلا امتشوا ما قدروا عليه. قالوا: ما ضرك لو فعلت! قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، قال: بل الرجل الذي أخبرني بما أخبرني، فدعا بختنصر، فأرسله وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا، ورمى في جنازة صيحون، قالوا: استخلفوا رجلًا، قالوا: على رسلكم حتى نأتي أصحابكم، فإنهم فرسانكم، أن ينغصوا عليكم شيئًا! فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبى وما معه، فقسمه في الناس فقالوا: ما رأينا أحدًا أحق بالملك من هذا! فملكوه. وقال آخرون منهم: إنما كان خروج بختنصر إلى بني إسرائيل لحربهم حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء. ذكر بعض من قال ذلك منهم حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل: أن يختنصر بعثه صيحائين لحرب بني إسرائيل حين قتل ملكهم يحيى بن زكرياء عليه السلام، وبلغ صيحائين قتله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال - فيما بلغني: استخلف الله عز وجل على بني إسرائيل بعد شعيا رجلًا منهم يقال له ياشية بن أموص، فبعث الله لهم الخضر نبيًا، واسم الخضر - فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل - إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون. وأما وهب بن منبه فإنه قال فيه ما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال الله عز وجل لإرميا حين بعثه نبيًا إلى بني إسرائيل: " يا إرميا، من قبل أن أخلقك أخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبيتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اختبرتك، ولأمر عظيم اجتبيتك " فبعث الله عز وجل إرميا إلى ذلك الملك من بين إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالخبر من قبل الله فيما بينه وبين الله عز وجل. قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنحاريب وجنوده فأوحى الله عز وجل إلى إرميا أن أتت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمي عليهم، وعرفهم إحداثهم. فقال إرميا: إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لن تبلغني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني. قال الله عز وجل: ألم تعلم أن الأمور كلها تصدرُ عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسن بيدي، أقلبها كيف شئت فتطيعني! وإني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي، وأنا كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت أمري، وحددت عليها بالبطحاء فلا تعدي حدي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى إذا بلغت حدي ألبستها مذلة طاعتي خوفًا واعترافًا لأمري، إن معك ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي، ونستحق بذلك مثل أجر من اتبعك منهم، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، وإن تقصر به عنها تستحق بذلك مثل وزر من تركت في عماه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا. انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذكر بكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء. وسلهم كيف وجد أباءهم مغبة طاعتي، وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي! وهل علموا أن أحدًا قبلهم أطاعني فشقى بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي! وأن الدواب مما تذكر أوطانها الصالحة تنتابها، وأن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولًا يتعبدونهم دوني، ويحكمون فهيم بغير كتابي. حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وعروهم مني. وأما أمراؤهم وقادتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتي، وادان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، جرأة علي وغرة، وفرية علي وعلى رسلي، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني! وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي! وهل ينبغي أن أخلق عبادًا أجعلهم أربابًا من دوني! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتنزينون بعمارتها لغيري لطب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم، ويتعلمون فيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبياء فمكثورون مقهورون مغترون، يخوضون مع الخائضين، فيتمنون على مثل نصرة آبائهم، والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر ولا يذكرون كيف نصر آبائهم لي، وكيف كان جدهم في أمري، حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطولتُ لهم، وصفحت عنهم لعلهم يرجعون، وأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتفكرون، فأعذرت. وفي كل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية، وأظهرهم على العدو، فلا يزدادون إلا طغيانًا وبعدًا مني. فحي متى هذا! أني يتمرسون! أم إياي يخادعون! فإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم. ثم لأسلطن عليهم جبارًا قاسيًا عاتيًا، ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرأفة والرحمة والليان، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيرانُ النسور، وكأن حملة فرسانه كرير العقبان. ثم أوحى الله عز وجل إلى إرميا أني مهلك بني إسرائيل بيافث - ويافث أهل بابل، فهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام - فلما سمع إرميا وحى ربه صاح وبكى وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقنت فيه التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيتُ آخر الأنبياء إلا لما هو شر علي، لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأبنياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك! فلما سمع الله عز وجل تضرع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا، أشق عليك ما أوحيت لك! قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه، وطابت نفسه وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا. ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره بما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح، وقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنّا فبقدرته. ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديًا في الشر، وذلك حين أقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدينا وشأنها، فقال لهم ملكهم: يا بني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يبعث الله عليكم قومًا لا رحمة لهم بكم، فإن ربكم قريب التوبة مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه. فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه. وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نبوزراذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ ابن عابر - ونمروذ صاحب إبراهيم عليه السلام، الذي حاجه في ربه - أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعل. فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرًا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا، أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك ألا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك! فقال إرميا للملك: إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق. فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث الله عز وجل ملكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا واستفته. وأمره بالذي يستفتيه فيه. فأقبل الملك إلى إرميا، وقد تمثل له رجلًا من بني إسرائيل. فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال له الملك: يا نبي الله، أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلتُ أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسنًا، ولم آلهم كرامة. فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي، فأفتنى فيهم يا نبي الله! فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل وأبشر بخير. قال: فانصرف عنه الملك، فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي كان جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال. أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبي الله: أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب! قال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً يأتيها أحد من الناس إلا أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك. فقال النبي: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، واسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه. فقام الملك من عنده فلبث أيامًا وقد نزل بختصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعًا شديدًا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل فدعا إرميا فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق. ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه! فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن مآلهم في ذلك سخطي، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عملٍ لا يرضاه الله ولا يحبه، قال له النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله، رأيتهم على عملٍ عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم، لم يشتد غضبي عليهم، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكني غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم أن يهلكهم الله. قال إرميا: يا ملك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها. فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ التراب على رأسه، وقال: يا ملك السماء ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني! فنودي: يا إرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا. فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات، وأنه رسول ربه. وطار إرميا حتى خالط الوحوش، ودخل بختصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشأم، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا ثم يقذقه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه. ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بين إسرائيل، فاختار منهم مائة ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك عنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل. ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة - وكان من أولئك الغلمان: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل - وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفًا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفًا من سبط زبالون ابن يعقوب، ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل. وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أقر بالشام. وثلثًا سبى، وثلثًا قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل. وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، وكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم. فلما ولى بختنصر عنهم راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في ركوة وسلة تين، حتى غشى إيلياء فلما وقف عليها ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: إني يحيى هذه الله بعد موتها! فأماته الله مائة عام، وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته الله وأمات حماره معه، وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد، ثم بعثه الله فقال له: " كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " - يقول لم يتغير - " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا " فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض - وقد كان مات معه - بالعروق والعصب، ثم كيف كسى ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح، فقال ينهق. ثم نظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: " أعلم أن الله على كل شيء قدير " ثم عمر الله إرميا بعد ذلك فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان. ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثم رأى رؤيا، فبينما هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئًا أصابه فأنساه الذي كان رأى، فدعا دانيال، وحنانيا وعزاريا، وميشايل من ذ رارى الأنبياء، فقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها، ثم أصابني شيء فأنسانيها، وقد كانت أعجبتني ما هي؟ قالوا له: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، قال: ما أذكرها، وإن لم تخبروني بتأويلها لأنزعن أكتافكم. فخرجوا من عنده، فدعوا الله واستغاثوا وتضرعوا إليه، وسألوه أن يعلمهم إياها. فأعلمهم الذي سألهم عنه. فجاءوه فقالوا له: رأيت تمثالًا؟ قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد. قال: صدقتم. قالوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك، فأرسل الله عليه صخرة من السماء فدقته، فهي التي أنستكها. قال: صدقتم، فما تأويلها؟ قالوا: تأويلها أنك أريتَ ملك الملوك، فكان بعضهم ألين ملكًا من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكًا من بعض، وبعضهم كان أشد ملكًا من بعض، فكان أول الملك الخفار وهو أضعفه وألينه. ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوق النحاس الفضة وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثم كان فوق الفضة الذهب، فهو أحسن من الفضة وأفضل، ثم كان الحديد ملكك، فهو كان أشد الملوك وأعز مما كان قبله، وكانت الصخرة التي رأيت أرسل الله عليه من السماء فدقته، نبيًا يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع، ويصير الأمر إليه. ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت! فإنا والله لقد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا علقن بهم، وصرفن وجوههن إليهم، فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم، قال: شأنكم بهم، فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده فليفعل، فأخرجوهم فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله قال: شأنكم بهم. فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله فقالوا: يا ربنا، أصابنا البلاء بذنوب غيرنا، فتحنن الله عليهم برحمته، فوعدهم أن يحيهم بعد قتلهم، فقتلوا إلا من اشتبقى بختنصر منهم، وكان ممن استبقى منهم: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل. ثم إن الله تبارك وتعالى حين أراد هلاك بختنصر، انبعث فقال لمن كان في يديه من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي أخربت، وهؤلاء الناس الذين قتلت، من هم؟ وما هذا البيت؟ قالوا: هذا بيت الله ومسحد من مساجده، وهؤلاء أهله كانوا من ذرارى الأنبياء فظلموا وتعدوا وعصوا فسلطت عليهم بذبوهم، وكان ربهم رب السموات والأرض، ورب الخلق كلهم يكرمهم ويمنعهم ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم. قال: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا، لعلي أطلع إليها فأقتل من فيها وأتخذها ملكًا؟، فإني قد فرغت من الأرض ومن فيها، قالوا له: ما تقدر على ذلك وما يقدر على ذلك أحد من الخلائق، قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم، فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله بقدرته - ليريه ضعفه وهوانه عليه - بعوضة فدخلت في منخره ثم ساخت في دماغه حتى عضت بأم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه، فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي، فانظروا ما هذا الذي قتلني؟ فلما مات شقوا رأسه، فوجدوا البعوضة عاضة بأم دماغه ليرى الله العباد قدرته وسلطانه، ونجى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى الشأم وإلى إيلياء المسجد المقدس، فبنوا فيه وربلوا وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه. فيزعمون - والله أعلم - أن الله أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا فلحقوا بهم. ثم إنهم لما دخلوا الشأم دخلوها وليس معهم عهد من الله، كانت التوراة قد استبيت منهم فحرقت وهلكت، وكان عزير من السبايا الذين كانا ببابل فرجع إلى الشأم يبكي عليها ليله ونهاره، قد خرج من الناس فتوحد منهم، وإنما هو ببطون الأودية وبالفلوات يبكي، فبينما هو كذلك في حزنه على التوراة وبكائه عليها، إذا أقبل إليه رجل وهو جالس، فقال: يا عزير ما يبكيك؟ قال: أبكي على كتاب الله وعهده، كان بين أظهرنا فبلغت بنا خطايانا، وغضب ربنا علينا أن سلط علينا عدونا، فقتل رجالنا، وأخرب بلادنا، وأحرق كتاب الله الذي بين أظهرنا، الذي لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره - أو كما قال - فعلام أبكي إذا لم أبك على هذا! قال: أفتحب أن يرد ذلك عليك؟ قال: وهل إلى ذلك من سبيل؟ قال: نعم أرجع فصم وتطهر وطهر ثيابك، ثم موعدك هذا المكان غدًا. فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه، ثم عمد إلى المكان الذي وعده. فجلس فيه، فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء - وكان ملكًا بعثه الله إليه - فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل، فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وسننها وفرائضها وحدودها، فأحبوه حبًا لم يحبوه شيئًا قط، وقامت التوراة بين أظهرهم، وصلح بها أمرهم، وأقام بين أظهرهم عزير مؤديًا لحق الله، ثم قبضه الله على ذلك، ثم حدثت فيهم الأحداث حتى قالوا لعزير: هو ابن الله، وعاد الله عليهم فبعث فيهم نبيًا كما كان يصنع بهم، يسدد أمرهم، ويعلمهم ويأمرهم بإقامة التوراة وما فيها. وقال جماعة آخر عن وهب بن منبه في أمر بختنصر وبني إسرائيل وغزوه إياهم أقوالًا غير ذلك، تركنا ذكرها كراهة إطالة الكتاب بذكرها. ذكر خبر غزو بختنصر للعرب حدثت عن هشام بن محمد، قال: كان بدء نزول العرب أرض العراق وثبوتهم فيها، واتخاذهم الحيرة والأنبار منزلًا - فيما ذكر لنا والله أعلم - أن الله عز وجل أوحى إلى برخيا بن أحنيا بن زر بابل بن شلتيل من ولد يهوذا - قال هشام: قال الشرقي: وشلتيل أول من اتخذ الطفشيل - أن ائت بختنصر وأمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم بي، واتخاذهم الآلهة دوني، وتكذيبهم أنبيائي ورسلي. قال: فأقبل برخيا من نجران حتى قدم على بختنصر ببابل - وهو نبوخذ نصر فعربته العرب - وأخبره بما أوحي الله إليه وقص عليه ما أمره به وذلك في زمان معد بن عدنان قال فوثب بختنصر من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارات والبياعات، ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها. فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرًا على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه ووكل بهم حرسًا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فاستشار بختنصر فيهم برخيا، فقال: إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوعًا منهم عما كانوا عليه، فأقبل منهم، فأحسن إليهم. قال: فأنزلهم بختنصر السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد، فسموه الأنبار. قال: وخلى عن أهل الحير، فاتخذوها منزلًا حياة بختنصر، فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار، وبقي ذلك الحير خرابًا. وأما غير هشام من أهل العلم بأخبار الماضين فإنه ذكر أن معد بن عدنان لما ولد، ابتدأت بنو إسرائيل بأنبيائهم فقتلوهم، فكان آخر من قتلوا يحيى بن زكريا، وعدا أهل الرس على نبيهم فقتلوه، وعدا أهل حضور على نبيهم فقتلوه، فلما أجترءوا على أنبياء الله أذن الله في فناء ذلك القرن الذين معد بن عدنان من أنبيائهم، فبعث الله بختنصر على بني إسرائيل، فلما فرغ من إخراب المسجد الأقصى والمدائن وانتسف بني إسرائيل نسفًا، فأوردهم أرض بابل أرى فيما يرى النائم - أو أمر بعض الأنبياء أن يأمره - أن يدخل بلاد العرب فلا يستحي فيها إنسيًا ولا بهيمة، وأن ينتسف ذلك نسفًا، حتى لا يبقى لهم أثرًا. فنظم بختنصر ما بين إيلة والأبلة خيلا ورجلًا، ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح أتوا عليه وقدروا عليه. وأن الله تعالى أوحى إلى إرميا وبرخيا أنّ الله قد أنذر قومكما، فلم ينتهوا، فعادوا بعد الملك عبيدًا، وبعد نعيم العيش عالة يسألون الناس، وقد تقدمت إلى أهل عربة بمثل ذلك فأبوا إلا الحاجة، وقد سلطت بختنصر عليهم لأنتقم منهم، فعليكما بمعدّ بن عدنان، الذي ولده محمد الذي أخرجه في آخر الزمان، أختم به النبوة، وأرفع به من الضعة. فخرجا تطوى لهما الأرض حتى سبقا بختنصر، فلقيا عدنان قد تلقاهما، فطوياه إلى معد، ولمعدّ يومئذ اثنتا عشرة سنة، فحمله برخيا على البراق، وردف خلفه، فانتهيا إلى حران من ساعتهما، وطويت الأرض لإرميا فأصبح بحران، فالتقى عدنان وبختنصر بذات عرق، فهزم بختنصر عدنان، وسار في بلاد العرب، حتى قدم إلى حضور واتبع عدنان، فانتهى بختنصر إليها، وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار من عربة إلى حضور، فخندق الفريقان، وضرب بختنصر كمينًا - وذلك أول كمين كان فيما زعم - ثم نادى منادٍ من جو المساء: بالثارات الأنبياء! فأخذتهم السيوفُ من خلفهم ومن أيديهم، فندموا على ذنوبهم، فنادوا بالويل، ونهى عدنان عن بختنصر ونهى بختنصر عن عدنان، وافترق من لم يشهد حضور، ومن أفلت قبل الهزيمة فرقتين: فرقة أخذت إلى يسوب وعليهم عك، وفرقة قصدت لوبار وفرقة حضر العرب، قال: وإياهم عنى الله بقوله: " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة "، كافرة الأهل، فإن العذاب لما نزل بالقرى وأحاط بهم في آخر وقعة ذهبوا ليهربوا فلم يطيقوا الهرب، " فلما أحسوا بأسنا " انتقمنا منهم " إذ هم منها يركضون " يهربون، قد أخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم. " لا تركضوا " لا تهربوا " وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " إلى العيشة على النعم المكفورة " ومساكنكم " مصيركم " لعلكم تسألون ". فلما عرفوا أنه واقع بهم أقروا بالذنوب، فقالوا: " يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدًا خامدين "، موتى وقتلى بالسيف فرجع بختنصر إلى بابل بما جمع من سبايا عربة فألقاهم بالأنبار، فقيل أنبار العرب، وبذلك سميت الأنبار، وخالطهم بعد ذلك النبط. فلما رجع بختنصر مات عدنان وبقيت بلاد العرب خرابًا حياة بختنصر، فلما مات بختنصر خرج معد بن عدنان معه الأنبياء، أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم حتى أتى مكة فأقام أعلامها، فحج وحج الأنبياء معه، ثم خرج معد حتى أتى ريسوب فاستخرج أهلها، وسأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاضٍ الجرهمي، وهو الذي قاتل دوس العتق، فأفنى أكثرهم جرهم على يديه، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معدّ ابنته معانة، فولدت له نزار بن معد. رجع الخبر إلى: قصة بشتاسب وذكر ملكه والحوادث التي كانت في أيام ملكه التي جرت على يديه ويد غيره من عماله في البلاد خلا ما جرى من ذلك على يد بختنصر ذكر العلماء بأخبار الأمم السالفة من العجم والعرب أن بشتاسب بن كي لهراسب لما عقد له التاج، قال يوم ملك: نحن صارفون فكرنا وعملنا وعلمنا إلى كل ما ينال به البرّ. وقيل: إنه ابتنى بفارس مدينة فسا، وببلاد الهند وغيرها بيوتًا للنيران، ووكل بها الهرابذة، وإنه رتب سبعة نفر من عظماء أهل مملكته مراتب، وملك كل واحد منهم ناحية جعلها له، وإن زرادشت ابن أسفيمان ظهر بعد ثلاثين سنة من ملكه فادعى النبوة، وأراده على قبول دينه، فامتنع من ذلك ثم صدقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به من كتاب ادعاه وحيًا، فكتب في جلد اثنى عشرة ألف بقرة حفرًا في الجلود، ونقشًا بالذهب، وصير بشتاسب ذلك في موضع من إصطخر، يقال له دزنبشت، وكل به الهرابذة، ومنع تعليمه العامة. وكان بشتاسب في أيامه تلك مهادنًا لخرزاسف بن كي سواسف، أخي فراسياب ملك الترك على ضربٍ من الصلح، وكان من شرط ذلك الصلح أن يكون لبشتاسب بباب خرزاسف دابةٌ موقوفة بمنزلة الدواب التي تنوب على أبواب الملوك، فأشار زرادشت على بشتاسب بمفاسدة ملك الترك، فقبل ذلك منه، وبعث إلى الدابة والموكل بها، فصرفهما إليه، وأظهر الخبر لخرزاسف، فغضب من ذلك - وكان ساحرًا عاتيًا - فأجمع على محاربة بشتاسب، وكتب إليه كتابًا غليظًا عنيفًا، أعلمه فيه أنه أحدث حدثًا عظيمًا، وأنكر قبوله ما قبل زرادشت، وأمره بتوجيهه إليه، وأقسم إن امتنع أن يغزوه حتى يسفك دمه، ودماء أهل بيته. فلما ورد الرسول بالكتاب على بشتاسب، جمع إليه أهل بيته وعظماء أهل مملكته، وفيهم جاماسف عالمهم وحاسبهم، وزرين بن لهراسب. فكتب بشتاسب إلى ملك الترك كتابًا غليظًا جواب كتابه، آذنه فيه بالحرب، وأعلمه أنه غير ممسك عنه إن أمسك. فسار بعضهما إلى بعض، مع كل واحد منهما من المقاتلة ما لا يحصى كثرة، ومع بشتاسب يومئذ زرين أخوه ونسطور ابن زرين وإسفنديار وبشوتن ابنا بشتاسب، وآل لهراسب جميعًا، ومع خرزاسف وجوهر مز واندرمان أخواه وأهل بيته، وبيدرفش الساحر، فقتل في تلك الحروب زرين، واشتد ذلك على بشتاسب، فأحسن الغناء عنه ابنه إسفنديار، وقتل بيدرفش مبارزة، فصارت الدبرة على الترك، فقتلوا قتلًا ذريعًا، ومضى خرزاسف هاربًا، ورجع بشتاسب إلى بلخ، فلما مضت لتلك الحروب سنون سعى على إسفنديار رجل يقال له قرزم، فأفسد قلب بشتاسب عليه، فند به لحرب بعد حرب، ثم أمر بتقييده وصيره في الحصن الذي فيه حبس النساء، وشخص بشتاسب إلى ناحية كرمان وسجستان، وصار منهاإلى جبل يقال له طميذر لدراسة دينه والنسك هناك، وخلف لهراسب أباه مدينة بلخ شيخًا قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله ونساءه مع خطوس امرأته، فحملت الجواسيس الخبر إلى خزاسف، فلما عرف جمع جنودًا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ، وقد أمل أن يجد فرصة من بشتاسب ومملكته. فلما انتهى إلى تخوم ملك فارس قدم أمامه جوهر مز أخاه - وكان مرشحًا للملك بعده في جماعة من المقاتلة كثيرة - وأمره أن يغذ السير حتى يتوسط المملكة ويوقع بأهلها، ويغير على القرى والمدن، ففعل ذلك جوهرمز، وسفك الدماء واستباح من الحرم ما لا يحصى، واتبعه خرزاسف فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوتَ النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسب، يقال لإحداهما: خماني، وللأخرى باذافره، وأخذ - فميا أخذ - العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه درفش كابيان وشخص متبعًا لبشتاسب، وهرب منه بشتاسب حتى تحصن في تلك الناحية مما يلي فارس في الجبل الذي يعرف بطميذر، ونزل ببشتاسب ما ضاق به ذرعًا، فيقال إنه لما اشتد به الأمر خروجه إلى إسفنديار جاماسب حتى استخرجه من محبسه، ثم صار به إليه، فلما أدخل عليه اعتذر إليه، ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل لهراسب به، وقلده القيام بأمر عسكره، ومحاربة خرزاسف. فلما سمع إسفنديار كلامه كفر له خاشعًا، ثم نهض من عنده، فتولى عرض الجند وتمييزهم، وتقدم فيما احتاج إلى التقدم فيه، وبات ليلته مشغولًا بتعبئته، فلما أصبح أمر بنفخ القرون، وجمع الجنود، ثم سار بهم نحو عسكر الترك، فلما رأت الترك عسكره خرجوا في وجوههم بتسابقون، وفي القوم جوهرمز وأندرمان، فالتحمت الحرب بينهم، وانقض إسفنديار وفي يده الرمح كالبرق الخاطف، حتى خالط القوم، وأكبّ عليهم بالطعن، فلم يكن إلا هنيهة حتى ثلم في العسكر ثلمة عظيمة، وفشا في الترك أن إسفندريار قد أطلق من الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار، وقد ارتجع العلم الأعظم، وحمله معه منشورًا، فلما دخل على بشتاسب استبشر بظفره، وأمره باتباع القوم، وكان مما أوصاه به أن يقل خرزاسف إن قدر عليه بلهراسف، ويقتل جوهر مز وأندرمان بمن قتل من ولده، ويهدم حصون الترك ويحرق مدنها، ويقتل أهلها بمن قتلوا من حملة الدين، ويستنقذ السبايا. ووجه معه ما احتاج إليه من القواد والعظماء. فذكروا أن إسفنديار دخل بلاد الترك من طريق لم يرمه أحد قبله، وأنه قام - من حراسة جنده، وقتل ما قتل من السباع، ورمى العنقاء المذكورة - بما لم يقم به أحد قبله، ودخل مدينة الترك التي يسمونها دزر وئين - وتفسيرها بالعربية الصفرية - عنوة حتى قتل الملك وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله وسبى نساءه، واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه، وكان أعظم الغناء في تلك المحاربة بعد إسفنديار لفشوتن أخيه وأدرنوش ومهرين ابن ابنته. ويقال إنهم لم يصلوا إلى المدينة حتى قطعوا أنهارًا عظيمة مثل كاسروذ، ومهرروذ، ونهرا آخر لهم عظيمًا، وإن إسفنديار دخل أيضًا مدينة كانت لفراسياب، يقال لها وهشكند، ودوخ البلاد وصار إلى آخر حدودها، وإلى أتبت وباب صول، ثم قطع البلاد وصير كل ناحية منها إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم، ووظف على كل واحد منهم خراجًا يحمله إلى بشتاسب في كل سنة، ثم انصرف إلى بلخ. ثم إن بشتاسب حسد ابنه إسفنديار لما ظهر منه، فوجهه إلى رستم بسجستان، فحدثت عن هشام بن محمد الكلبي أنه قال: قد كان بشتاسب جعل الملك من بعده لابنه إسفنديار، وأغزاه الترك، فظفر بهم، وانصرف إلى أبيه، فقال له: هذا رستم متوسطًا بلادنا، وليس يعطينا الطاعة لادعائه ما جعل له قابوس من العتق من رق الملك، فسر إليه فأتنى به، فسار إسفنديار إلى رستم فقاتله، فقتله رستم. ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتى عشرة سنة. وذكر بعضهم أن رجلًا من بني إسرائيل، يقال له سمى كان نبيًا، وأنه بعث إلى بشتاسب فصار إليه إلى بلخ، ودخل مدينتها، فأجتمع هو وزرادشت صاحب المجوس، وجاماسب العالم بن فخد، وكان سمى يتكلم بالعبرانية ويعرف زرادشت ذلك بتلقين، ويكتب بالفارسية ما يقول سمى بالعبرانية، ويدخل جاماسب معهما في ذلك، وبهذا السبب سمى جاماسب العالم. وزغم بعض العجم أن جاماسب هو ابن فخد بن هو بن حكاو بن نذكاو بن فرس بن رج بن خوراسرو بن منوشهر الملك، وأن زرادشت بن يوسيسف ابن فردواسف بن اربحد بن منجدسف بن جخشنش بن فيافيل بن الحدي ابن هردان بن سفمان بن ويدس بن أدرا بن رج بن خوراسرو بني منو شهر. وقيل إن بشتاسب وأباه لهراسب كانا على دين الصابئين، حتى أتاه سمى وزرادشت بما أيتاه به، وأنهما أتياه بذلك لثلاثين سنة مضت من ملكه. وقال هذا القائل: كان ملك بشتاسب مائة وخمسين سنة، فكان ممن رتب بشتاسب من النفر السبعة المراتب الشريفة، وسماهم عظماء بهكا بهند ومسكنه دهستان من أرض جرجان، وقارن الفلهوي ومسكنه ما نهاوند، وسورين الفلهوي ومسكنه سجستان، وإسفنديار الفلهوي ومسكنه الرى. وقال آخرون: كان ملك بشتاسب مائة وعشرين سنة. ذكر الخبر عن ملوك اليمن في أيام قابوس وبعده إلى عهد بهمن بن إسفنديار قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا الخبر عمن زعم أن قابوس كان في عهد سليمان بن داود عليهما السلام، ومضى ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت إيليشرح. فحدثت عن هشام بن محمد الكلبي أن الملك باليمن صار بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي كان يقال له ياسر أنعم. قال: وإنما سموه ياسر أنعم لإنعامه عليهم بما قوى من ملكهم، وجمع من أمرهم. قال: فزعم أهل اليمن أنه سار غازيًا نحو المغرب حتى بلغ واديًا يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلما انتهى إليه لم يجد وراءه مجازًا لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل، فأمر رجلًا من أهل بيته - يقال له عمرو - أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا فلم يرجعوا. فلما رأى ذلك أمر بصنم نحاس فصنع، ثم نصب على صخرة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند: " هذا الصنم لياسر أنعم الحميري، وليس وراءه مذهب، قلا يتكلفن ذلك أحدٌ فيعطب ". قال: ثم ملك من بعده تبع، وهو تبان أسعد، وهو أبو كرب بن ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار ابن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ. قال: وكان يقال له الرائد. قال: فكان تبع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وأنه شخص متوجهًا من اليمن في الطريق الذي سلكه الرائش، حتى خرج على جبلي طيء، ثم سار يريد الأنبار فلما انتهى إلى الحيرة وذلك ليلًا بخير فأقام مكانه وسمى ذلك الموضع الحيرة ثم سار وخلف به قومًا من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيئ وكلب والسكون وبلحارث بن كعب وإياد. ثم توجه إلى الأنبار ثم إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقى الترك بها فهزمهم، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، ثم أنكفأ راجعًا إلى اليمن. فأقام بها دهرًا، وهابته الملكوك وعظمته وأهدت إليه. فقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والتحف، من الحرير والمسك والعود وسائر طرف بلاد الهند، فرأى ما لم ير مثله، فقال ويحك! أكل ما أرى في بلادكم! فقال: أبيت اللعن! أقل ما ترى في بلادنا، وأكثره في بلاد الصين، ووصف له بلاد الصين وسعتها وخصبها وكثرة طرفها فآلى بيمين ليغزونها. فسار بحمير مساحلا، حتى أتى الزكائك وأصحاب القلانس السود، ووجه رجلًا من أصحابه، يقال له ثابت نحو الصين، في جمع عظيم فأصيب، فسار تبع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلها، واكتسح ما وجد فيها. قال: ويزعمون أن مسيره كان إليها ومقامه بها ورجعته منها في سبع سنين، وأنه خلّف بالتبت اثنى عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت، وهم اليوم يزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانها. حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: قرأت على عبد الله، عن إسحاق بن يحيى، عن موسى بن طلحة: أن تبعًا خرج في العرب يسير، حتى تحيروا بظاهر الكوفة، وكان منزلًا من منازله، فبقى فيها من ضعفة الناس فسميت الحيرة لتحيرهم وخرج تبع سائرًا فرجع إليهم وقد بنوا وأقاموا، وأقبل تبع إلى اليمن وأقاموا هم، ففيهم من قبائل العرب كلها من بني لحيان، وهذيل وتميم، وجعفى وطيء، وكلب. ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن، فذكر أنه قال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن محافظون على الوفاء، ودائنون رعيتنا بالخير، فكان يدعى أردشير الطويل الباع، وإنما لقب بذلك - فيما قيل - لتناوله كل ما مدّ إليه يده من الممالك التي حوله، حتى ملك الأقاليم كلها، وقيل إنه ابتنى بالسواد مدينة، وسماها آباد أردشير هي القرية المعروفة بهمينا في الزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة مدينة وسماهن بهمن أردشير، وهي الأبلة، وسار إلى سجستان طلبًا بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وأخاه إزواره وابنه فرمرز، واجتبى الناس لأرزاق الجند ونفقات الهرابذة وبيوت النيران وغير ذلك أموالًا عظيمة، وهو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأخر أردشير بن بابك وولده، وأم دارا خماني بنت بهمن. فحدثت عن هشام بن محمد قال: ملك بعد بشتاسب أردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وكان - فيما ذكروا - متواضعًا مرضيًا فيهم، وكانت كتبه تخرج من أردشير: عبد الله وخادم الله، السائس لأمركم. قال: ويقال أنه غزا الرومية الداخلة في ألف ألف مقاتل. وقال غير هشام: هلك بهمن ودارا في بطن أمه، فملكوا خماني شكرا لأبيها بهمن، ولم تزل ملوك الأرض تحمل إلى بهمن الإتاوة والصلح، وكان من أعظم ملوك الفرس - فيما قالوا - شأنًا، وأفضلهم تدبيرًا، وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده، وكانت أم بهمن أستوريا، وهي أستار بنت يائير بن شمعى بن قيس بن ميشا بن طالوت الملك بن قيس ابن أبل بن صارور بن بحرث بن أفيح بن إيشي بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام. وكانت أمّ ولده راحب بنت فنحس من ولد رحبعم بن سليمان بن داود عليه السلام. وكان بهمن ملك أخاها زر بابل بن شلتايل على بني إسرائيل، وصير له رياسة الجالوت، ورده إلى الشام بمسألة راحب أخته إياه ذلك، فتوفي بهمن يوم توفي وله من الولد: ابناه دارا الأكبر وساسان، وبناته: خمانى التي ملكت بعده، وفرنك وبهمن دخت، وتفسير بهمن بالعربية الحسن النية، وكان ملكه مائة واثنتى عشرة سنة. فأما ابن الكلبي هشام فإنه قال: كان ملكه ثمانين سنة. ثم ملكت خماني بنت بهمن، وكانوا ملكوها حبًا لأبيها بهمن، وشكرًا لإحسانه ولكمال عقلها وبهائها وفروسيتها ونجدتها - فيما ذكره بعض أهل الأخبار - فكانت تلقب بشهرازاد. وقال بعضهم: إنما ملكت خمانى بعد أبيها بهمن أنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل ذلك بهمن بدارا، وعقد عليه التاج حملًا في بطنها، وساسان ابن بهمن في ذلك الوقت رجل يتصنع للملك لا يشك فيه. فلما رأى ساسان ما فعل أبوه في ذلك لحق بإصطخر، فتزهد وخرج من الحلية الأولى وتعبد فلحق برؤوس الجبال يتعبد فيها، واتخذ عنيمة، فكان يتولى ما شيته بنفسه، واستشنعت العامة ذلك من فعله، وفظعت به، وقالوا: صار ساسان راعيًا، فكان ذلك سبب نسبة الناس إياه إلى الرعي، وأم ساسان انبة شالتيال ابن يوحنّا بن أوشيا بن أمون بن منشى بن حازقيا بن أحاذ بن يوثام بن عوزيا ابن يورام بن يوشافط بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود. وقيل: إن بهمن هلك وابنه دارا في بطن خمانى، وأنها ولدته بعد أشهر من ملكها وأنفت من إظهار ذلك، فجعلته في تابوت، وصيرت معه جوهرًا نفيسًا وأجرته في نهر الكبر من إصطخر. وقال بعضهم: بل نهر بلخ، وإن التابوت صار إلى رجل طحان من أهل إصطخر، كان له ولد صغير فهلك، فلما وجده الرجل أتى به امرأته، فسرت به لجماله ونفاسة ما وجد معه، فحضنوه، ثم أظهر أمره حين شب، وأقرت خمانى بإساءتها إليه وتعريضها إياه للتلف، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون عليه أبناء الملوك، فحولت التاج عن رأسها إليه، وتقلد أمر المملكة، وتنقلت خمانى وصارت إلى فارس وبنت مدينة إصطخر، وأغزت الروم جيشًا بعد جيش، وكانت قد أوتيت ظفرًا، فقمعت الأعداء، وشغلتهم عن تطرف شيء من بلادها، ونال رعيتُها في ملكها رفاهة وخفضًا. وكانت خماني حين أغزت أرض الروم سبى لها منها بشرٌ كثير، وحملوا إلى بلادها، فأمرت من فيهم من بنائي الروم، فبنوا لها في كلّ موضع من حيز مدينة إصطخر بنيانًا على بناء الروم منيفًا معجبًا، أحد ذلك البنيان في مدينة إصطخر. والثاني على المدرجة التي تسلك فيها إلى دارا بجرد، على فرسخ من هذه المدينة. والثالث على أربعة فراسخ منها في المدرجة التي تسلك فيها إلى خراسان. وإنها أجهدت نفسها في طلب مرضاة الله عز وجل، فأوتيت الظفر والنصر، وخففت عن رعيتها في الخراج. وكان ملكها ثلاثين سنة. ثم نرجع الآن إلى: ذكر خبر بني إسرائيل ومقابلة تأريخ مدة أيامهم إلى حين تصرمها بتأريخ مدة من كان في أيامهم من ملوك الفرس قد ذكرنا فيما مضى قبلُ سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني إسرائيل الذين كان بختنصر سباهم وحملهم معه إلى أرض بابل، وأنّ ذلك كان في أيام كيرش بن أخشويرش وملكه ببابل من قبل بهمن بن إسفنديار في حياته وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خمانى، وأن خمانى عاشت بعد هلاك كيرش بن أخشويرش ستًا وعشرين سنة في ملكها، تمام ثلاثين سنة. وكانت مدة خراب بيت المقدس من لدن خربه بختنصر إلى إن عمر - فيما ذكره أهل الكتب القديمة والعلماء بالإخبار - سبعين سنة، كل ذلك في أيام بهمن بن إسفنديار بن لهراسب بعضه وبعضه في أيام خمانى، على ما قد بين في هذا الكتاب. وقد زعم بعضهم أن كيرش هو بشتاسب، وأنكر ذلك من قبله بعضهم وقال: كي أرش إنما هو عم لجد بشتاسب، وقال: هو كي إرش أخو كيقاوس ابن كيبيه بن كيقباذ الأكبر، وبشتاسب الملك هو ابن كيلهراسب بن كيوجي ابن كيمنوش بن كيقاوس بن كيبيه بن كيفباذ الأكبر. قال: ولم يملك كي أرش قط، وإنما كان مملكًا على خوزستان وما يتصل بها من أرض بابل من قبل كيقاوس، ومن قبل كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس، ومن قبل لهراسف من بعده. وكان طويل العمر، عظيم الشأن، ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله من بني إسرائيل كان فيهم عزير - وقد وصفت ما كان من أمره وأمر بني إسرائيل - وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس، إما رجل منهم وإما رجل من بني إسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم بسبب غلبة الإسكندر على تلك الناحية حين قتل دارا بن دارا. وكانت جملة مدة ذلك - فيما قيل - ثمانيًا وثمانين سنة. ونذكر الآن: خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر ابن دارا الأكبر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وكان ينبه بجهرازاد - يعني به كريم الطبع - فذكروا أنه نزل بابل، وكان ضابطًا لملكه، قاهرًا لمن حوله من الملوك، يؤدون إليه الخراج، وأنه ابتنى بفارس مدينة سماها دارا بجرد، وحذف دواب البرد ورتبها، وكان معجبًا بانبه دارا، وأنه من حبه إياه سماه باسم نفسه، وصير له الملك من بعده، وأنه كان له وزير يسمى رستين محمودًا في عقله، وأنه شجر بينه وبين غلام تربى مع دارا الأصغر، يقال له برى شر وعداوة، فسعى رستين عليه عند الملك، فقيل: إن الملك سقى برى شربة مات منها، واضطغن دارا على رستين الوزير وجماعة من القواد، كانوا عاونوه على برى ما كان منهم، وكان ملك دارا اثنتى عشرة سنة. ثم ملك من بعده انبه دارا بن دارا بن بهمن، وكانت أمه ما هيا هند بنت هزار مرد بن بهرادمه، فلما عقد التاج على رأسه قال: لن ندفع أحدًا في مهوى الهلكة، ومن تردى فيها لم نكففه عنها. وقيل إنه بنى بأرض الجزيرة مدينة دارا، واستكتب أخا برى واستوزره لأنسه كان به وبأخيه، فأفسد قلبه على أصحابه، وحمله على قتل بعضهم، فاستوحشت لذلك منه الخاصة والعامة، ونفروا عنه، وكان شابًا غرًا حميًا حقودًا جبارًا. وحدثت عن هشام بن محمد قال: ملك من بعد دارا بن أردشير دارا ابن دارا أربع عشرة سنة، فأساء السيرة في رعيته، وقتل رؤساءهم، وغزاه الإسكندر على تئفة ذلك، وقد مله أهل مملكته وسئموه، وأحبوا الراحة منه، فلحق كثير من وجوههم وأعلامهم بالإسكندر، فأطلعوه على عورة دارا، وقروه عليه. فالتقيا ببلاد الجزيرة، فاقتتلا سنة، ثم إن رجالًا من أصحاب دارا وثبوا به فقتلوه، وتقربوا برأسه إلى الإسكندر، فأمر بقتلهم، وقال: هذا جزاء من اجترأ على ملكه. وتزوج ابنته روشنك بنت دارا، وغزا الهند ومشارق الأرض، ثم انصرف وهو يريد الإسكندرية، فهلك بناحية السواد، فحمل إلى الإسكندرية في تابوت من ذهب، وكان ملكه أربع عشرة سنة، واجتمع ملك الروم، وكان قبل الإسكندر متفرقًا، وتفرق ملك فارس وكان قبل الإسكندر مجتمعًا. قال: وذكر غير هشام أن دارا بن دارا لما ملك أمر فبنيت له بأرض الجزيرة مدينة واسعة وسماها دارنوا، وهي التي تسمى اليوم دارا، وأنه عمرها وشحنها من كل ما يحتاج إليه فيها، وأن فيلفوس أبا الإسكندر اليوناني من أهل بلدة من بلاد اليونانيين تدعى مقدونية، كان ملكًا عليها وعلى بلاد أخرى احتازها إليها، كان صالح دارا على خراج يحمله إليه في كل سنة، وأن فيلفوس هلك، فملك بعده ابنه الإسكندر، فلم يحمل إلى دارا ما كان يحمله إليه أبوه من الخراج، فأسخط ذلك عليه دارا، وكتب إليه يؤنبه بسوء صنيعه في تركه حمل ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج وغيره، وأنه دعاه إلى حبس ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج الصبا والجهل، وبعث إليه بصولجان وكرة وقفيز من سمسم، وأعلمه فيما كتب إليه أنه صبى، وأنه إنما ينبغي له أن يلعب بالصولجان والكرة اللذين بعث بهما إليه، ولا يتقلد الملك، ولا يتلبس به، وأنه إن لم يقتصر على ما أمره به من ذلك، وتعاطى الملك واستعصى عليه، بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وأن عدة جنوده كعدة حب السمسم الذي بعث به إليه. فكتب إليه الإسكندر في جواب كتابه ذلك، أن قد فهم ما كتب، وأن قد نظر إلى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة، وتيمن به لإلقاء الملقى الكرة إلى الصولجان، واحترازه إياه، وشبه الأرض بالكرة، وأنه محتاز ملك دارا إلى ملكه، وبلاده إلى حيزه من الأرض، وأن نظره إلى السمسم الذي بعث به إليه كنظرة إلى الصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة. وبعث إلى دارا مع كتابه بصرة من خردل، وأعلمه في ذلك الجواب أن ما بعث به إليه قليل، غير أن ذلك مثل الذي بعث به في الحرافة والمرارة والقوة، وأن جنوده في كل ما وصف به منه. فلما وصل إلى دارا جواب كتاب الإسكندر، جمع إليه جنده، وتأهب لمحاربة الإسكندر، وتأهب الإسكندر وسار نحو بلاد دارا. وبلغ ذلك دارا، فزحف إليه فالتقى الفئتان، واقتتلا أشد القتال، وصارت الدبرة على جند دارا، فلما رأى ذلك رجلان من حرس دارا، يقال إنهما كانا من أهل همذان، طعنا دارا من خلفه فأردياه من مركبه، وأرادا بطعنهما إياه الحظوة عند الإسكندر، والوسيلة إليه، ونادى الإسكندر أن يؤسر دارا أسرًا ولا يقتل، فأخبر بشأن دارا، فسار الإسكندر حتى وقف عنده، فرآه يجود بنفسه، فنزل الإسكندر عن دابته حتى جلس عند رأسه، وأخبره أنه لم يهم قط بقتله، وأن الذي أصابه لم يكن عن رأيه، وقال له: سلني ما بدا لك فأسعفك فيه، فقال له دارا: لي إليك حاجتان: إحداهما أن تنتقم لي من الرجلين اللذين فتكا بي - وسماهما وبلادهما - والأخرى أن تتزوج ابنتي روشنك. فأجابه إلى الحاجتين، وأمر بصلب الرجلين اللذين أنتهكا من دارا ما انتهكا، وتزوج روشنك وتوسط بلاد دارا، وكان ملكه له. وزعم بعض أهل العلم بأخبار الأولين أن الإسكندر هذا الذي حارب دارا الأصغر، هو أخو دارا الأصغر الذي حاربه، وأن أباه دارا الأكبر كان تزوج أم الإسكندر، وأنها ابنة ملك الروم واسمها هلاي، وأنها حُملت إلى زوجها دارا الأكبر، فلما وجد نتن ريحا وعرقها وسهكها، أمر أن يحتال لذلك منها، فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسية سندر فطبخت لها فغسلت بها وبمائها، فأذهب ذلك كثيرًا من ذلك النتن، ولم يذهب كله، وانتها نفسه عنها لبقية ما بها، وعافها وردها إلى أهلها، وقد علقت منه فولدت غلامًا في أهلها، فسمته باسمها واسم الشجرة التي غسلت بها، حتى أذهبت عنها نتنها: هلاى سندروس، فهذا أصل الإسكندروس. قال: وهلك دارا الأكبر، وصار الملك إلى ابنه دارا الأصغر، وكانت ملوك الروم تؤدى الخراج إلى دارا الأكبر في كل سنة، فهلك أبو هلاي ملك الروم جد الإسكندر لأمه، فلما صار الملك لابن ابنته بعث دارا الأصغر إليه للعادة: إنك أبطأت علينا بالخراج الذي كنت تؤديه ويؤديه من كان قبلك، فابعث إلينا بخراج بلادك وإلا نابذناك المحاربة. فرجع إليه جوابه: أني قد ذحبت الدجاجة، وأكلت لحمها، ولم يبقى لها بقية، وقد بقيت الأطراف، فإن أحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك. فعند ذلك نافره دارا وناجزه القتال، وجعل الإسكندروس لحاجبي دارا حكمها على الفتك به، فاحتكما شيئًا، ولم يشترطا أنفسهما، فلما التقوا للحرب، طعن حاجبا دارا دارا في الوقعة، فلحقه الإسكندر صريعًا، فنزل إليه وهو بآخر رمق، فمسح التراب عن وجهه ووضع رأسه في حجره، ثم قال له: إنما قتلك حاجباك، ولقد كنتُ أرغب بك يا شريفَ الأشراف وحر الأحرار وملك الملوك، عن هذا المصرع، فأوصني بما أحببت. فأوصاه دارا أن يتزوح ابنته روشنك، ويتخذها لنفسه ويستبقي أحرار فارس، ولا يولى عليهم غيرهم. فقبل وصيته وعمل بأمره، وجاء اللذان قتلا دارا إلى الإسكندر فدفع إليهما حكمهما، ووفى لهما ثم قال لهما: قد وفيت لكما كما اشترطتما ولم تكونا اشترطتما أنفسكما، فأنا قاتلكما، فإنه ليس ينبغي لقتله الملوك أن يستبقوا إلا بذمة لا تخفر. فقتلهما. وذكر بعضهم أن ملك الروم في أيام دارا الأكبر كان يؤدي إلى دارا الإتاوة فهلك، وملك الروم الإسكندر، وكان رجلًا ذا حزم وقوة ومكر، فيقال إنه غزا بعض ملوك المغرب فظفر به، وآنس لذلك من نفسه القوة فنشز على دارا الأصغر، وامتنع من حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج، فحمى دارا لذلك، وكتب إليه كتبًا عنيفة، ففسد ما بينهما وسار كل واحد منهما إلى صاحبه وقد احتشدا والتقيا في الحدّ. واختلفت بينهما الكبتُ والرسائل، ووجل الإسكندر من محاربة دارا، ودعاه إلى الموادعة فاستشار دارا أصحابه في أمره، فزينوا له الحرب لفساد قلوبهم عليه. وقد اختلفوا في الحدّ وموضع التقائهما، فذكر بعضهم أن التقاءهما كان بناحية خُراسان مما يلي الخزر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى خلص إليهما السلاح، وكان تحت الإسكندر يومئذ فرس له عجيب يقال له بو كفراسب، ويقال إن رجلًا من أهل فارس حمل ذلك اليوم حتى تخرق الصفوف، وضرب الإسكندر ضربة بالسيف خيف عليه منها، وأنه تعجب من فعله وقال: هذا من فرسان فارس الذين كانت توصف شدتهم، وتحركت على دارا ضغائن أصحابه، وكان في حرسه رجلان من أهل همذان، فراسلا الإسكندر والتمسا الحيلة لدارا حتى طعناه، فكانت منيته من طعنهما إياه، ثم هربا. فقيل إنه لما وقعت الصيحة، وانتهى الخبر إلى الإسكندر ركب في أصحابه، فلما انتهى إلى دارا وجده يجود بنفسه، فكلّمه ووضع رأسه في حجره، وبكى عليه، وقال له: أتيت من مأمنك، وغد ربك ثقاتك، وصرت بين أعدائك وحيدًا، فسلني حوائجك فإني على المحافظة على القرابة بيننا - يعني القرابة بين سلم وهيرج ابني أفريذون - فيما زعم هذا القائل - وأظهر الجزع لما أصابه، وحمد ربه حين لم يبتله بأمره، فسأله دارا أن يتزوج ابنته روشنك ويرعى لها حقها، ويعظم قدرها، وأن يطلب بثأره، فأجابه الإسكندر إلى ذلك. ثم أتاه الرجلان اللذان وثبا على دارا يطلبان الجزاء، فأمر يضرب رقابهما وصلبهما، وأن ينادى عليهما: هذا جزاء من اجترأ على ملكه، وغش أهل بلده. ويقال: إن الإسكندر حمل كتبًا وعلومًا كانت لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة، بعد أن نقل ذلك إلى السريانية ثم إلى الرومية. وزعم بعضهم أن دارا قتل وله من الولد الذكور: أشك بن دارا وبنو دارا وأردشير. وله من البنات روشنك، وكان ملك دارا أربع عشرة سنة. وذكر بعضهم أن الأتاوة التي كان أبو الإسكندر يؤديها إلى ملوك الفرس كانت بيضًا من ذهب، فلما ملك الإسكندر بعث إليه دارا يطلب ذلك الخراج، فبعث إليه: إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض، وأكلت لحمها فأذن بالحرب. ثم ملك الإسكندر بعد دارا بن دارا. وقد ذكرت قول من يقول: هو أخو دارا بن دارا من أبيه دارا الأكبر. وأما الروم وكثير من أهل الأنساب فإنهم يقولون: هو الإسكندر بن فيلفوس، وبعضهم يقول: هو ابن بيلبوس بن مطريوس، ويقال: ابن مصريم ابن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومى بن ليطى بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن رومية بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز ابن العيص بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام. فجمع بعد مهلك دارا ملك دارا إلى ملكه، فملك العراق والروم والشأم ومصر، وعرض جنده بعد هلاك دارا فوجدهم - فيما قيل - ألف ألف وأربعمائة رجل، منهم من جنده ثمانمائة ألف ومن جند دارا ستمائة ألف. وذكر أنه قال يوم جلس على سريره: قد أدالنا الله من دارا، ورزقنا خلاف ما كان يتوعدنا به، وأنه هدم ما كان في بلاد الفرس من المدن والحصون وبيوت النيران، وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم ودواوين دارا، واستعمل على مملكة دارا رجالًا من أصحابه، وسار قدمًا إلى أرض الهند، فقتل ملكها وفتح مدينتهم، ثم سار منها إلى الصين، فصنع بها كصنيعه بأرض الهند، ودانت له عامة الأرضين، وملك التبت والصين، ودخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي والشمس جنوبية في أربعمائة رجل يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يومًا، ثم خرج ورجع إلى العراق، وملك ملوك الطوائف، ومات في طريقه بشهر زور. وكان عمره ستًا وثلاثين سنة في قول بعضهم، وحمل إلى أمه بالإسكندرية. وأما الفرس فإنها تزعم أن ملك الإسكندر كان أربع عشرة سنة، والنصارى تزعم أن ذلك كان ثلاث عشرة سنة وأشهرًا، ويزعمون أن قتل دارا كان في أول السنة الثالثة من ملكه. وقيل إنه أمر ببناء مدن فبنيت اثنتا عشرة مدينة، وسماها كلها إسكندرية، منها مدينة بأصبهان، يقال جى، بنيت على مثال الحية، وثلاث مدائن بخراسان، منهن مدينة هراة ومدينة مرو ومدينة سمرقند، وبأرض بابل مدينة أروشنك بنت دارا، وبأرض اليونانية في بلاد هيلاقوس مدينة للفرس، ومدنًا أخر غيرها. ولما مات الإسكندر عرض الملك من بعده على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار النسك والعبادة، فملكت اليونانية عليهم - فيما قيل - بطلميوس بن لوغوس، وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة، فكانت المملكة أيام اليونانية بعد الإسكندر وحياة الإسكندر إلى أن تحول الملك إلى الروم المصاص لليونانية، ولبني إسرائيل ببيت المقدس ونواحيها الديانة والرياسة على غير وجه الملك إلى أن خربت بلادهم الفرس والروم، وطردوهم عنها بعد قتل يحيى بن زكرياء عليه السلام. ثم كان الملك ببلاد الشأم ومصر ونواحي المغرب بعد بطلميوس بن لوغوس لبطلميوس دينايوس أربعين سنة. ثم من بعده لبطليموس أورغاطس أربعًا وعشرين سنة. ثم من بعده لبطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة. ثم من بعده لبطلميوس أفيفانس أثنتين وعشرين سنة. ثم من بعده لبطلميوس أورغاطس تسعًا وعشرين سنة. ثم من بعده لبطلميوس ساطر سبع عشرة سنة. ثم من بعده لبطلميوس الأحسندر إحدى عشرة سنة. ثم من بعده لبطلميوس الذي احتفى عن ملكه ثماني سنين. ثم من بعده لبطلميوس دونسيوس ست عشرة سنة. ثم من بعده لبطلميوس قالو بطري سبع عشرة سنة. فكل هؤلاء كانوا يونانيين، فكل ملك منهم بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس، كما كانت ملوك الفرس يدعون أكاسرة، وهو الذين يقال لهم المفقانيون. ثم ملك الشام بعد قالوبطرى - فيما ذكر الروم - المصاص، فكان أول من ملك منهم جايوس يوليوس خمس سنين. ثم ملك الشام بعده أغوسطوس ستًا وخمسين سنة. فلما مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة ولد عيسى بن مريم عليه السلام، وبين مولده وقيام الإسكندر ثلثمائة سنة وثلاث سنين. ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الإسكندر وهم ملوك الطوائف ونرجع الآن إلى ذكر خبر الفرس بعد مهلك الإسكندر لسياق التأريخ على ملكهم. فاختلف أهلُ العلم بأخبار الماضين في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الإسكندر، وفي عدد ملوك الطوائف الذين كانوا ملكوا إقليم بابل بعد ه إلى أن قام بالملك أردشير بابكان. فأما هشام بن محمد فإنه قال - فيما حدثت عنه: ملك بعد الإسكندر يلاقس سلقيس، ثم أنطيحس. قال: وهو الذي بنى مدينة أنطاكية. قال: وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة، قال: وكانوا يتطرقون الجبال وناحية الأهواز وفارس، حتى خرج رجل يقال له أشك، وهو ابن دارا الأكبر، وكان مولده ومنشؤه بالري، فجمع جمعًا كثيرًا وسار يريد أطيحس فزحف إليه أنطيحس فالتقيا ببلاد الموصل فقتل أنطيحس، وغلب أشك على السواد فصار في يده من الموصل إلى الري وأصبهان وعظمه سائرُ ملوك الطوائف لنسبه، وشرفه فيهم ما كان من فعله، وعرفوا له فضله، وبدءوا به في كتبهم، وكتب إليهم فبدأ بنفسه، وسموه ملكًا، وأهدوا إليه من غير أن يعزل أحدًا منهم أو يستعمله. ثم ملك بعده جوذرز بن أشكان. قال: وهو الذي غزا بني إسرائيل المرة الثانية، وكان سبب تسليط الله إياه عليهم - فيما ذكر أهل العلم - قتلهم يحيى بن زكرياء، فأكثر القتل فيهم، فلم تعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله عنهم النبوة وأنزل بهم الذل. قال: وقد كانت الروم غزت بلاد فارس، يقودها ملكها الأعظم يلتمس أن يدرك بثأرها في فارس لقتل أشك ملك بابل أنطيحس، وملك بابل يومئذ بلاش أبو أردوان، الذي قتله أردشير ابن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما اجتمعت عليه الروم من غزو بلادهم، وأنه قد بلغه من حشدهم وجمعهم مالا كفاء له عنده، وأنه إن ضعف عنه ظفروا بهم جميعًا، فوجه كل ملك من ملوك الطوائف إلى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوته، حتى اجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولى عليهم صاحب الحضر - وكان ملكًا من ملوك الطوائف يلى ما بين انقطاع السواد إلى الجزيرة - فسار بهم حتى لقى ملك الروم فقتله واستباح عسكره، وذلك هيج الروم على بناء القسطنطينية ونقل الملك من رومية إليها. فكان الذي ولى إنشاءها الملك قسطنطين، وهو أول ملوك الروم تنصر، وهوأجلى من بقى من بني إسرائيل عن فلسطين والأردن لقتلهم - بزعمه - عيسى بن مريم، فأخذ الخشبة التي وجدهم يزعمون أنهم صلبوا المسيح عليها، فعظمها الروم، فأدخلوها خزائنهم، فهي عندهم، إلى اليوم. قال: ولم يزل ملك فارس متفرقًا حتى ملك أردشير. فذكر هشام ما ذكرت عنه، ولم يبين مدة ملك القوم. وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بعد الإسكندر ملك دارا أناس من غير ملوك الفرس، غير أنهم كانوا يخضعون لكل من يملك بلاد الجبل ويمنحونه الطاعة. قال: وهم الملوك الأشغانون الذين يدعون ملوك الطوائف. قال: فكان ملكهم مائتي سنة وستًا وستين سنة. فملك من هذه السنين أشك بن أشجان عشر سنين. ثم ملك بعده سابور بن أشغان ستين سنة، وفي سنة إحدى وأربعين من ملكه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين. وإن ططوس بن أسفسيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بن مريم بنحو من أربعين سنة، فقتل من في مدينة بيت المقدس، وسبى ذراريهم، وأمرهم فنسفت مدينة بيت المقدس، حتى لم يترك بها حجرًا على حجر. ثم ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر، عشر سنين. ثم ملك بيزن الأشغاني، إحدى وعشرين سنة. ثم ملك جوذرز الأشغاني، تسع عشر سنة. ثم ملك نرسى الأشغاني، أربعين سنة. ثم ملك هرمز الأشغاني، سبع عشرة سنة. ثم ملك أردوان الأشغاني، اثنتى عشرة سنة. ثم ملك كسرى الأشغاني، أربعين سنة. ثم ملك بلاش الأشغاني، أربعًا وعشرين سنة. ثم ملك أردوان الأصغر الأشغاني، ثلاث عشرة سنة. ثم ملك أردشير بن بابك. وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرق الإسكندر المملكة بينهم، وتفرد بكل ناحية من ملك عليها من حين ملكه، ما خلا السواد، فإنها كانت أربعًا وخمسين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم. وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك مملكًا على الجبال وأصبهان، ثم غلب ولده بعد ذلك على السواد، فكانوا ملوكًا عليها وعلى الماهات والجبال وأصبهان، كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأن السنة جرت بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصر على تسميتهم دون غيرهم. قال: ويقال إن عيسى بن مريم عليه السلام ولد بأوريشلم بعد إحدى وخمسين سنة من ملوك الطوائف، فكانت سنو ملكهم من لدن الإسكندر إلى وثوب أردشير بن بابك وقتله أردوان واستواء الأمر له، مائتين وستًا وستين سنة. قال: فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت لأولادهم بعد ذلك الغلبة على السواد أشك بن حره بن رسبيان بن أرتشاخ بن هرمز بن ساهم بن رزان بن أسفنديار بن بشتاسب. قال: والفرس تزعم أنه أشك بن دارا. وقال بعضهم: أشك بن أشكان الكبير، وكان من ولد كيبيه بن كيقباذ، وكان ملكه عشر سنين. ثم ملك من بعده أشك بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة. ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة. ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، ثلاثين سنة. ثم ملك جوذرز الأكبر بن سابور بن أشكان، عشر سنين. ثم ملك بيرن بن جوذرز، إحدى وعشرين سنة. ثم جوذرز الأصغر بن بيزن، تسع عشرة سنة. ثم نرسه بن جوذرز الأصغر، أربعين سنة. ثم هرمز بن بلاش بن أشكان، سبع عشرة سنة. ثم أردوان الأكبر وهو أردوان بن أشكان، اثنتى عشرة سنة. ثم كسرى بن أشكان، أربعين سنة. ثم بهافريد الأشكاني، تسع سنين. ثم بلاش الأشكاني، أربعًا وعشرين سنة. ثم أردوان الأصغر وهو أردوان بن بلاش بن فيروز بن هرمز بن بلاشر بن سابور بن أشك بن أشكان الأكبر، وكان جده كيبيه بن كيقباذ. ويقال: إنه كان أعظم الأشكانية ملكًا، وأظهرهم عزًا، وأسناهم ذكرًا، وأشدهم قهرًا لملوك الطوائف، وأنه كان قد غلب على كورة إصطخر لاتصالها بأصبهان، ثم تخطى إلى جور وغيرها من فارس، حتى غلب عليه، ودانت له ملوكها لهيبة ملوك الطوائف كانت له، وكان ملكه ثلاث عشرة سنة. ثم ملك أردشير. وقال بعضهم: ملك العراق وما بين الشأم ومصر بعد الإسكندر تسعون ملكًا على تسعين طائفة كلهم يعظم من يملك المدائن، وهم الأشكانيون. قال: فملك من الأشكانيين أفقور شاه بن بلاش بن سابور بن أشكان بن أرش الجبار بن سياوش بن كيقاوس الملك اثنتين وستين سنة. ثم سابور بن أفقور - وعلى عهده كان المسيح ويحيى عليهما السلام - ثلاثًا وخمسين سنة. ثم جوذرز بن سابور بن أفقور الذي غزا بني إسرائيل طالبًا بثأر يحيى ابن زكرياء، ملك تسعًا وخمسين سنة. ثم ابن أخيه أبزان بن بلاش بن سابور، سبعًا وأربعين سنة. ثم جوذرز بن أبزان بن بلاش، إحدى وثلاثين سنة. ثم أخوه نرسى بن أبزان، أربعًا وثلاثين سنة. ثم عمه الهرمزان بن بلاش، ثمانيًا وأربعين سنة. ثم ابنه الفيروزان بن الهرمزان بن بلاش تسعًا وثلاثين سنة. ثم ابنه كسرى بن الفيروزان سبعًا وأربعين سنة. ثم ابنه أردوان بن بلاش، وهو آخرهم، قتله أردشير بن بابك، خمسًا وخمسين سنة. قال: وكان ملك الإسكندر وملك سائر ملوك الطوائف في النواحي خمسمائة وثلاثًا وعشرين سنة. ذكر الأحداث التي كانت في أيام الطوائف (وفيها قصة عيسى ومريم عليهما السلام) فكان من ذلك - فيما زعمته الفرس - لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، ولإحدى وخمسين سنة من ملك الأشكانيين - ولادة مريم بنت عمران عيسى بن مريم عليه السلام. فأما النصارى فإنها تزعم أن ولادتها إياه كانت لمضي ثلثمائة سنة وثلاثة سنين من وقت غلبه الإسكندر على أرض بابل. وزعموا أن مولد يحيى بن زكرياء كان قبل مولد عيسى عليه السلام بستة أشهر. وذكروا أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأنّ مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، وكان جميع عمرها نيفًا وخمسين سنة. قال: وزعموا أن يحيى اجتمع هو وعيسى بنهر الأردن وله ثلاثون سنة، وأن يحيى قتل قبل أن يرفع عيسى. وكان زكرياء بن برخيا أبو يحيى بن زكرياء وعمران بن ماثان أبو مريم متزوجين بأختين، إحدهما عند زكرياء وهي أم يحيى، والأخرى منهما عند عمران بن ماثان، وهي أم مريم، فمات عمران بن ماثان وأم مريم حامل بمريم، فلما ولدت مريم كفلها زكرياء بعد موت أمها، لأن خالتها أخت أمها كانت عنده. واسم أم مريم حنة بنت فاقود ابن قبيل، واسم أختها أم يحيى الأشباع ابنة فاقود وكفلها زكرياء وكانت مسماة بيوسف بن يعقوب بن ماثان بن اليعازار بن اليوذ بن أحين بن صادوق بن عازور بن الياقيم بن أبيوذ بن زر بابل بن شلتيل بن يوحنيا بن يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود، ابن عم مريم. وأما ابن حميد، فإنه حدثنا عن سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: مريم - فيما بلغني عن نسبها - ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا ابن أحزيق بن يوثام بن عزريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان. فولد لزكرياء يحيى ابن خالة عيسى بن مريم، فنبئ صغيرًا، فساح، ثم دخل الشأم يدعو الناس، ثم اجتمع يحيى وعيسى، ثم افترقا بعد ان عمد يحيى عيسى. وقيل: إن عيسى بعث يحيى بن زكرياء في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس: قال: وكان فيما نهوهم عنه نكاح بنات الأخ، فحدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكرياء، في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: فكان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ. قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه، يريد أن يتزوجها، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا دخلت على الملك، فسألك حاجتك فقولي: حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكرياء، فلما دخلت عليه سألها حاجتها قالت حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكرياء فقال سليني غير هذا، قالت: ما أسألك إلا هذا، قال: فلما أبت عليه دعا يحيى، ودعا بطست فذبحه، فندرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم، فجاءته عجوز من بني إسرائيل، فدلته على ذلك الدم، قال: فألقى الله في قلبه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن، فقتل سبعين ألفًا منهم من سنّ واحدة، فسكن. حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناسٍ من أصحاب النبي ﷺ، أن رجلًا من بني إسرائيل، رأى في النوم أن خراب بيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يدى غلام يتيم، ابن أرملة من أهل بابل، يدعى بختنصر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم، فأقبل يسأل عنه، حتى نزل على أمه وهو يحتطب، فلما جاء وعلى رأسه حزمة حطب ألقاها، ثم قعد في جانب البيت، فكلّمه، ثم أعطاه ثلاثة دراهم فقال: اشتر بهذه طعامًا وشرابًا، فاشترى بدرهم لحمًا، وبدرهم خبزًا، وبدرهم خمرًا، فأكلوا وشربوا، حتى إذا كان اليوم الثاني فعل به ذلك، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل ذلك، ثم قال: إني أحب أن تكتب لي أمانًا إن أنت ملكتَ يومًا من الدهر قال: تسخر بي! قال: إني لا أسخر بك: ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يدًا! فكلمته أمه، فقالت: وما عليك إن كان، وإلا لم ينقصك شيئًا! فكتب له أمانًا، فقال: أرأيت إن جئت والناسُ حولك، قد حالوا بيني وبينك! فاجعل لي آية تعرفني بها، قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها. فكساه وأعطاه. ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكرياء، ويدنى مجلسه، ويستشيره في أمره، ولا يقطع أمرًا دونه، وإنه هوى أن يتزوج ابنة امرأة له، فسأل يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحها، وقال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوج انبتها، فعمدت إلى الجارية حين جلس الملك على شرابه، فألبستها ثيابًا رقاقًا حمرًا، وطيبتها، وألبستها من الحلي، وألبستها فوق ذلك كساء أسود، فأرسلتها إلى الملك، وأمرتها أن تسقيه، وأن تعرض له، فإن أرداها على نفسها أبت عليه، حتى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن تؤتى برأس يحيى بن زكرياء في طست، ففعلت فجعلت تسقيه وتعرض له، فلما أخذ فيه الشراب أرادها على نفسها، فقالت: لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك، قال: ما تسأليني؟ قالت: أسألك أن تبعث إلى يحيى بن زكرياء، فأوتى بأسه في هذا الطست، فقال: ويحك سليني غير هذا؟ قالت: ما أريد أن أسألك إلا هذا. قال: فلما أبت عليه، بعث إليه فأتى برأسه، والرأس يتكلم، حتى وضع بين يديه، وهو يقول: لا تحل لك، فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقى عليه فرقى الدم فوق التراب يغلي، فألقى عليه التراب أيضًا، فارتفع الدم فوقه، فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة، وهو في ذلك يغلي وبلغ صيحائين فنادي في الناس، وأراد أن يبعث إليهم جيشًا، ويؤمر عليهم رجلًا، فأتاه بختنصر، فكلمه، وقال: إن الذي كنت أرسلت تلك المرة ضعيف، فإني قد دخلتُ المدينة، وسمعت كلام أهلها، فابعثني، فبعثه فسار بختنصر، حتى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم، فلم يطقهم، فلما اشتد عليه المقام، وجاء أصحابه أراد الرجوع، فخرجت إليه عجوز من عجائز بني إسرائيل، فقالت: أين أمير الجند؟ فأتى به إليها، فقالت: إنه بلغني أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة. قال: نعم، قد طال مقامي، وجاع أصحابي، فلستُ أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحتُ لك المدينة، أتعطيني ما أسألك، فتقتل من أمرتك بقتله، وتكف إذا أمرتك أن تكف. قال لها: نعم، قالت: إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع، ثم أقم على كل زاوية ربعًا، ثم ارفعوا بأيديكم إلى السماء، فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكرياء فإنها سوف تتساقط. ففعلوا، فتساقطت المدينة، ودخلوا من جوانبها، فقالت له: كفّ يدك، اقتل على هذا الدم حتى يسكن، فانطلقت به إلى دم يحيى وهو على تراب كثير، فقتل عليه حتى سكن، فقتل سبعين ألف رجل وامرأة، فلما سكن الدم، قالت له: كف يدك، فإنّ الله عز وجل إذا قتل نبي لم يرض حتى يقتل من قتله ومن رضى قتله. فأتاه صاحبُ الصحيفة بصحيفته، فكفّ عنه وعن أهل بيته، وخرب بيت المقدس، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وقال: من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة، وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكرياء فلما خربه بختنصر ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وسراتهم، وذهب بدانيال وعليا وعزريا وميشائيل، هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء، وذهب معه برأس الجالوت، فلما قدم أرض بابل وجد صيحائين قد مات، فملك مكانه، وكان أكرم للناس عليه دانيال وأصحابه، فحسدهم المجوس، فوشوا بهم إليه، فقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون من ذبيحتك، فدعاهم فسألهم فقالوا: أجل إن لنا ربًا نعبده، ولسنا نأكل من ذبيحتكم، وأمر بخد فخد، فألقوا فيه وهم ستة، وألقى معهم سبعٌ ضارٍ ليأكلهم، فقالوا: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا، فأكلوا وشربوا، ثم راحوا فوجدوهم جلوسًا، والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحدًا، ولم ينكأه شيئًا، فوجدوا معهم رجلًا، فعدوهم فوجدوهم سبعة، فقال: ما بال هذا السابع؟ إنما كانوا ستة؟ فخرج إليه السابع - وكان ملكًا من الملائكة - فلطمه لطمة فصار في الوحش، فكان فيهم سبع سنين. قال أبو جعفر: وهذا القول - الذي روي عمن ذكرت في هذه الأخبار التي رويت وعمن لم يذكر في هذا الكتاب، من أن بختنصر، هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكرياء - عند أهل السير والأخبار والعلم بأمور الماضين في الجاهلية، وعند غيرهم من أهل الملل غلط، وذلك أنهم بأجمعهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعيا في عهد إرميا بن حلقيا، وبني عهد إرميا وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكرياء أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة في قول اليهود والنصارى. ويذكرون أن ذلك عندهم في كبتهم وأسفارهم مبين، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بختنصر بيت المقدس إلى حين عمرانها في عهد كيرش بن أخشويرش أصبهبذ بابل من قبل أردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب. ثم من قبل ابنته خمانى سبعين سنة، ثم من بعد عمرانها إلى ظهور الإسكندر عليها وحيازة مملكتها إلى مملكته ثمانيًا وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر لها إلى مولد يحيى بن زكرياء ثلاثمائة سنة وثلاث سنين، فذلك على قولهم أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة. وأما المجوس فإنها توافق النصارى واليهود في مدة خراب بيت المقدس، وأمر بختنصر، وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل إلى غلبة الإسكندر على بيت المقدس والشام وهلاك دارا، وتخالفهم في مدة ما بين ملك الإسكندر ومولد يحيى، فتزعم أن مدة ذلك إحدى وخمسون سنة. فبين المجوس والنصارى من الاختلاف في مدة ما بين ملك الإسكندر ومولد يحيى وعيسى وما ذكرت. والنصارى تزعم أن يحيى ولد قبل عيسى بستة أشهر، وأنّ الذي قتله ملك لبني إسرائيل يقال له هيردوس، بسبب امرأة يقال لها هيروذيا، كانت امرأة أخ له، يقال له فيلفوس، عشقها فوافقته على الفجور، وكان لها ابنة يقال لها دمنى فأراد هيردوس أن يطأ امرأة أخيه المسماة هيروذيا، فنهاه يحيى وأعلمه أن لا تحل له، فكان هيردوس معجبًا بالابنة، فألهته يومًا، ثم سألته حاجة فأجابها إليها، وأمر صاحبًا له بالنفوذ لما تأمره به، فأمرته أن يأتيها برأس يحيى، ففعل، فلما عرف هيردوس الخبر أسقط في يده وجزع جزعًا شديدًا. وأما ما قال في ذلك أهلُ العلم بالأخبار وأمور أهل الجاهلية فقد حكيتُ منه ما قاله هشام بن محمد الكلبي. وأما ما قال ابن إسحاق فيه، فهو ما حدثنا به ابنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: عمرت بنو إسرائيل بعد ذلك - يعنى بعد مرجعهم من أرض بابل إلى بيت املمدس - يحدثون الأحداث، يعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل، ففريقًا يكذبون وفريقًا يقتلون، حتى كان آخر من بعث فيهم من أنبيائهم زكرياء ويحيى بن زكرياء وعيسى بن مريم، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام. وهو يحيى بن زكرياء بن أدى ابن مسلم بن صدوق بن نحشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخية بن شفاطية بن فاحور بن شلوم بن يهفاشاط بن أسا بن أبيا بن رحبعم ابن سليمان بن داود. قال: فلما رفع الله عيسى عليه السلام من بين أظهرهم، وقتلوا يحيى بن زكرياء عليه السلام - وبعض الناس يقول: وقتلوا زكرياء - أبتعث الله عليهم ملكًا من ملوك بابل يقال له خردوس، فسار إليه بأهل بابل، حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسًا من رؤس جنوده يدعى نبوزراذان، صاحب القتل، فقال له: إني كنت حلفت بإلهي: لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلى ألا أجد أحدًا أقتله، فأمره أن يقتلهم، حتى يبلغ ذلك منهم. وإنّ نبوزراذان دخل بيت المقدس، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دمًا يغلي، وسألهم، فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره ولا تكتموني شيئًا من أمره، فقالوا: هذا دم قربان كان لنا كنا قربناه فلم يقبل منا، فلذلك هو يغلي كما تراه، ولقد قربنامنذ ثمانمائة سنة القربان، فقبل منا إلى هذا القربان. قال: ما صدقتوني الخبر، قالوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا، ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم نبوزراذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحًا من رؤسهم فلم يهدأ، فأمر فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة ألاف من نيتهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى نبوزراذان الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل، ويلكم أصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم، قبل ألا أترك منكم نافخ نار، أنثى ولا ذكرًا إلا قتلته فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه، فهذه دمه. فقال لهم نبوزراذان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكرياء، قال: الآن صدقتموني، لمثل هذا ينتقم ربكم منكم. فلما رأى نبوزراذان أنهم قد صدقوه خر ساجدًا، وقال لمن حوله أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان ها هنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل. ثم قال: يا يحيى بن زكرياء، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قتل منهم من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي من قومك أحدًا، فهدأ دم يحيى بإذن الله، ورفع نبوزراذان عنهم القتل، وقال: آمنتُ بما آمنت به بنو إسرائيل، وصدقتُ به وأيقنتُ أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح، لو كان معه شريك لم تستمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ملك الملوك الذي يملك السموات السبع بعلم وحكم وجبروت وعزة، الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه. فأوحى إلى رأس من رؤوس بقية الأنبياء أن بوزراذان جبور صدوق - والحبور بالعبرانية حديث الإيمان - وأن نبوزراذان قال لبني إسرائيل: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره. وإني فاعل، لستُ أستطيع أن أعصيه. قالوا له: أفعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقًا، وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها، حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، حتى كانوا فوقهم، فلم يظن خرودس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل. فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى بنوزراذان: ارفع عنهم، فقد بلغني دماؤهم، وقد انتقمت منهم بما فعلوا. ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي الواقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل، يقول الله تعالى لنبيه محمد ﷺ: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب " إلى قوله: " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا ". وعسى من الله حق، فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده، ثم ردّ الله لهم الكرة عليهم، ثم كانت الوقعة الأخيرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبى ذراريهم ونسائهم، يقول الله عز وجل: " وليتبروا ما علوا تتبيرًا ". رجع الحديث إلى حديث عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام. قال: وكانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها يليان خدمة الكنيسة، فكانت مريم إذا نفد ماؤها - فيما ذكر - وماء يوسف أخذ كل واحد منهما قلته، فانطلق إلى المغارة التي فيها الماء الذي يستعذبانه، فيملأ قلته، ثم يرجعان إلى الكنيسة. فلما كان اليوم الذي لقيها فيه جبرئيل - وكان أطول يوم في السنة وأشده حرًا - نفد ماؤها، فقالت: يا يوسف، ألا تذهب بنا نستقي قال: إن عندي لفضلًا من ماء أكتفي به يومي هذا إلى غد، قالت: لكني والله ما عندي ماء، فأخذت قلتها، ثم انطلقت وحدها، حتى دخلت المغارة فتجد عندها جبرئيل قد مثله الله لها بشرًا سويًا: فقال لها: يا مريم، إن الله قد بعثني إليك لأهب لك غلامًا زكيا، قالت: " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا "، وهي تحسبه رجلًا من بني آدم فقال: إنما أنا رسول ربك، قالت: " إني يكون لي غلام ولم يمسني بشر ولم أكُ بغيًا قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرًا مقضيًا "، أي أن الله قد قضى أن ذلك كائن. فلما قال ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيبها، ثم انصرف عنها، وملأت قلّتها. قال: فحدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري، قال حدثنا إسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، ابن أخي وهب، قال: سمعت وهبًا قال: لما أرسل الله عز وجل جبرئيل إلى مريم، تمثل لها بشرًا سويًا. فقالت: " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا "، ثم نفخ في جيب درعها حتى ومصلت النفخة إلى الرحم، واشتملت على عيسى. قال: وكان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان ذلك المسجد يؤمئذ من أعظم مساجدهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل عظيم، فرغبا في ذلك، فكانا يليان معالجته بأنفسهما وتجميره وكناسته وطهوره، وكلّ عمل يعمل فيه، فكان لا يعلم من أهل زمانهما أحد أشد اجتهادًا وعبادة منهما، وكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف، فلما رأى الذي بها استعظمه، وعظم عليه، وفظع به، ولم يدر على ماذا يضع أمرها؟ فإذا أراد يوسف أن يتهمها ذكر صلاحها وبراءتها وأنها لم تغب عنه ساعة وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها. فلما اشتد عليه ذلك كلمها، فكان أول كلامه إياها أن قال لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك أمر قد حرصت على أن أميته، وأكتمه في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيتُ أن الكلام فيه أشفى لصدري، قالت: فقل قولًا جميلًا، قال: ما كنت لأقول إلا ذلك، فحدثيني: هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر إنما كان من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر؟ أو لم تعلم أن الله أنبت الشجر من غير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحد منهما وحده أو تقول لم يقد الله على أن ينبت الشجر، حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته قال لها يوسف: لا أقول ذلك، ولكني أعلم أن الله بقدرته على ما يشاء يقول لذلك: كن فيكون. قالت له مريم: أو لم تعلم أن الله عز وجل خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ قال: بلى، فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله عز وجل، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك. ثم تولى يوسف خدمة المسجد، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه، وذلك لما رأى من رقة جسمها واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوء بطنها، وضعف قوتها، ودأب نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك، فلما دنانفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيروك ونقلوا ولدك. فأفضت عند ذلك إلى أختها - وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحي - فلما التقيا وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجدًا معروفًا بعيسى، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الأكاف شيء، فانطلق يوسف بها، حتى إذا كان متاخمًا لأرض مصر في منقطع بلاد قومها أدرك مريم النفاس، وألجأها إلى آرى حمار - يعني مزود الحمار - في أصل نخلة، وذلك في زمان الشتاء، فاشتد على مريم المخاض، فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة، فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة، قاموا صفوفًا محدقين بها. فلما وضعت وهي محزونة، قيل لها: " ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًا " إلى " إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًا "، فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء. فأصبحت الأصنام التي كانت تعبد من دون الله حين ولدت بكل أرض مقلوبة منكوسة على رؤسها، ففزعت الشياطين وراعها، فلم يدروا ما سبب ذلك، فساروا عند ذلك مسرعين، حتى جاءوا إبليس، وهو على عرش له، في لجة خضراء، يتمثل بالعرش يوم كان على الماء ويحتجب، يتمثل بحجب النور التي من دون الرحمن، فأتوه وقد خلا ست ساعات من النهار، فلما رأى إبليس جماعتهم، فزع من ذلك، ولم يرهم جميعًا منذ فرّقهم قبل تلك الساعة؛ إنما كان يراهم أشتاتًا، فسألهم فأخبروه أنه قد حدث في الأرض حدث أصبحتْ الأصنام منكوسة على رؤوسها، ولم يكن شيء أعونُ على هلاك بني آدم منها؛ كنا ندخلُ فنكلّمهم، وندبّر أمرهم فيظنون أنها التي تكلّمهم، فلما أصابها هذا الحدث صغّرها في أعين بني آدم، وأذلّها وأدناها، ذلك وقد خشينا ألا يعبدوها بعد هذا أبدًا. واعلم أنا لن تأتِك حتى أحصينا الأرضَ، وقلبنا البحار وكل شيء قوبنا عليه، فلم نزدد بما أردنا إلا جهلًا. قال لهم إبليس: إن هذا لأمر عظيم، لقد علمت بأني كُتِمتُه، وكونوا على مكانكم هذا. فطار إبليس عند ذلك، فلبث عنهم ثلاث ساعات، فمرّ فيهن بالمكان الذي وُلد فيه عيسى؛ فلما رأى الملائكة محدِقين بذلك المكان، علم أن ذلك الحدَث فيه، فأراد إبليس أن يأتيه من فوقه؛ فإذا فوقه رؤوس الملائكة ومناكبهم عند السماء. ثم أراد أن يأتيَه من تحت الأرض؛ فإذا أقدام الملائكة راسية أسفل مما أراد إبليس. ثم أراد أن يدخل من بينهم فنحّوه عن ذلك. ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال لهم: ما جئتكم حتى أحصيت الأرض كلها مشرقها ومغربها، وبرها وبحرها، والخافقين، والجوّ الأعلى؛ وكل هذا بلغتُ في ثلاث ساعات؛ وأخبرهم بمولد المسيح، وقال لهم: لقد كتِمتُ شأنه، وما اشتملت قبله رحم أنثى على ولد إلا بعلمي، ولا وضعته قط، إلا وأنا حاضرها؛ وإني لأرجو أن أضلّ به أكثر مما يهتدِي به، وما كان نبي قبله أشدّ علي وعليكم منه. وخرج في تلك الليلة قوم يؤمونه من أجل نجم طلع أنكروه، وكان قبل ذلك يتحدثون أن مطلع ذلك النجم من علامات مولود في كتاب دانيال. فخرجوا يريدونه، ومعهم الذهب والمُرّ واللّبان، فمروا بملك من ملوك الشأم، فسألهم: أين يريدون؟ فأخبروه بذلك، قال: فما بال الذهب والمرّ واللبان أهديتموه له من بين الأشياء كلها؟ قالوا: تلك أمثاله: لأن الذهب هو سيد المتاع كله، وكذلك هذا النبي هو سيد أهل زمانه، ولأن المر يُجبِر به الجرح والكسر، وكذلك هذا النبي يشفي به كل سقيم ومريض؛ ولأن اللبان ينال دخوله السماء ولا ينالها دخان غيره، كذلك هذا النبي يرفعه الله إلى السماء لا يرفع في زمانه أحد غيره. فلما قالوا ذلك لذلك الملك حدث نفسه بقتله، فقال: اذهبوا، فإذا علمتم مكانه فأعلموني ذلك، فإني أرغب في مثل ما رغبتم فيه من أمره. فانطلقوا حتى دفعوا ما كان معهم من تلك الهدية إلى مريم، وأرادوا أن يرجعوا إلى هذا الملك ليعلموه مكان عيسى، فلقيهم ملك فقال لهم: لا ترجعوا إليه، ولا تعلموه بمكانه، فإنه إنما أراد بذلك ليقتله، فانصرفوا في طريق آخر، واحتملته مريم على ذلك الحمار ومعها يوسف، حتى وردا أرض مصر، فهي الربوة التي قال الله: " وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعينٍ ". فمكثت مريم اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس، لا يطلع عليه أحد، وكانت مريم لا تأمن عليه ولا على معيشته أحدًا، كانت تلتقط السنبل من حيث ما سمعت بالحصاد، والمهد في منكبها والوعاء الذي تجعل فيه السنبل في منكبها الآخر، حتى تم لعيسى عليه السلام اثنتا عشرة سنة، فكان أول آية رآها الناس منه أن أمه كانت نازلةً في دار دهقان من أهل مصر، فكان ذلك الدهقان قد سرقت له خزانة، وكان لا يسكن في داره إلا المساكين، فلم يتهمهم، فحزنت مريم لمصيبة ذلك الدهقان، فلما أن رأى عيسى حزن أمه بمصيبة صاحب ضيافتها، قال لها: يا أمه، أتحبين أن أدله على ماله؟ قالت: نعم يا بني، قال: قولي له يجمع لي مساكين داره، فقالت مريم للدهقان ذلك، فجمع له مساكين دراه، فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم: أحدهما أعمى والآخر مقعد، فحمل المعقد على عاتق الأعمى، ثم قال له: قم به، قال الأعمى: أنا أضعف من ذلك، قال عيسى عليه السلام: فكيف قويت على ذلك البارحة؟ فلما سمعوه يقول ذلك، بعثوا الأعمى، حتى قام به، فلما استقل قائمًا حاملًا هوى المقعد إلى كوة الخزانة. قال عيسى: هكذا احتالا لمالك البارحة، لأنه استعان الأعمى بقوته، والمقعد بعينيه، فقال المقعد والأعمى: صدق، فردا على الدهقان ماله ذلك، فوضعه الدهقان في خزانته، وقال: يا مريم خذي نصفه، قالت: إني لم أخلق لذلك، قال الدهقان: فأعطيه ابنك، قالت هو أعظم مني شأنًا، ثم لم يلبث الدهقان أن أعرس ابن له فصنع له عيدًا فجمع عليه أهل مصر كلهم، فلما انقضى ذلك زاره قوم من أهل الشآم لم يحزرهم الدهقان، حتى نزلوا به، وليس عنده يومئذ شراب، فلما رأى عيسى اهتمامه بذلك دخل بيتًا من بتوت الدهقان، فيه صفان من جرار، فأمرّ عيسى يده على أفواههم، وهو يمشي، فكلما أمرّ يده على جرة امتلأت شرابًا، حتى أتى عيسى على آخرها، وهو يومئذ ابن اثنتى عشرة سنة، فلما فعل ذلك عيسى فزع الناس لشأنه وما أعطاه الله من ذلك فأوحى الله عز وجل إلى أمه مريم، أن أطلعي به إلى الشأم، ففعلت الذي أمرت به، فلم تزل بالشأم حتى كان ابن ثلاثين سنة، فجاءه الوحي على ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين. ثم رفعه الله إليه، فلما رآه إبليس يوم لقيه على العقبة لم يطق منه شيئًا، فتمثل له برجل ذي سن وهيئة، وخرج معه شيطانان ماردان متمثلين كما تمثل إبليس، حتى خالطوا جماعة الناس. وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفًا فمن أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله عز وجل، فجاءه إبليس في هيئة يبهر الناس حسنها وجمالها، فلما رآه الناس فرغوا له، ومالوا نحوه، فجعل يخبرهم بالأعاجيب، فكان في قوله: إن شأن هذا الرجل لعجب، تكلم في المهد، وأحيا الموتى، وأنبأ عن الغيب، وشفى المريض، فهذا الله. قال أحد صاحبيه: جهلت أيها الشيخ، وبئس ما قلت لا ينبغي لله أن يتجلى للعباد. ولا يسكن الأرحام، ولا تسعه أجواف النساء، ولكنه ابن الله. وقال الثالث: بئس ما قلتما، كلاكما قد أخطأ وجهل، ليس ينبغي لله أن يتخذ ولدًا، ولكنه إله معه، وغابوا حين فرغوا من قولهم، فكان ذلك آخر العهد منهم. حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ، قال: خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجابًا من الجدران، وهو قوله: " فانتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا، فاتخذت من دونهم حجابًا " في شرق المحراب، فلما طهرت إذا هي برجل معها، وهو قوله: " فأرسلنا إليها روحنا " فهو جبرئيل " فتمثل لها بشرًا سويًا ". فلما رأته فزعت منه وقالت: " إني أعوذُ بالرحمن منك إن كنت تقيًا، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيًا، قالت أني يكون لي غلامٌ ولم يمسني بشرٌ ولم أكُ بغيًا " - تقول زانية - " قال كذلك قال ربك وهو على هين ولنجعله آية للناس ورحمةً منا وكان أمرًا مقضيًا ". فخرجت، عليها جلبابها، فأخذ بكميها، فنفخ في جيب درعها - وكان مشقوقًا من قدامها - فدخلت النفخة في صدرها، فحملت، فأتتها أختها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكرياء: يا مريم أشعرت أني حبلى. قالت مريم: أشعرت أني أيضًا حبلى. قالت امرأة زكرياء: فإني وجدتُ ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك قوله: " مصدقًا بكلمة من الله. فولدت امرأة زكرياء يحيى، ولما بلغ أن تضع مريم، خرجت إلى جانب المحراب الشرقي منه، فأتت أقصاه: " فأجاءها المخاضُ إلى جذع النخلة " يقول: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، " قالت: وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس: " ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا ". تقول: نسيًا: نُسيَ ذكري، ومنسيًا، تقول: نسى أثري، فلا يرى لي أثر ولا عين. " فناداها "، جبرئيل: " من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا "، والسرى هو النهر. " وهزي إليك بجذع النخلة "، وكان جذعًا منها مقطوعًا فهزته، فإذا هو نخلة، وأجرى لها من المحراب نهرًا فتساقطت النخلة رطبًا جنيًا، فقال لها: كلي واشربي وقري عينًا، " فإنا ترين من البشر أحد فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا "، فكان من صام في ذلك الزمان لم يتكلم حتى يمسي، فقيل له: لا تزيدي على هذا، فلما ولدته ذهب الشيطان فأخبر بني إسرائيل أن مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون، فدعوها " فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريًا - يقول عظيمًا - " يا أخت هارون ما كان أبوك أمرأ سوء وما كنت أمكِ بغيًا "، فما بالك أنت يا أخت هارون؟ وكانت من بني هارون أخي موسى، وهي كما تقول: يا أخا بني فلان، إنما تعني قرابته. فقالت لهم ما أمرها الله، فلما أرادوها بعد ذلك على الكلام أشارت إليه - إلى عيسى - فغضبوا وقالوا: لسخريتها بنا حين تأمرنا أن تكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها؟ " قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيًا " فتكلم عيسى فقال: " إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيًا، وجعلني مباركًا أينما كنت " فقالت بنو إسرائيل: ما أحبلها أحد غير زكرياء، هو كان يدخل إليها، فطلبوه ففر منهم فتشبه له الشيطان في صورة راع، فقال: يا زكرياء، قد أدركوك، فادعُ الله حتى تنفتح لك هذه الشجرة فتدخل فيها، فدعا الله فانتفتحت الشجرة، فدخل فيها وبقي من ردائه هدبُ، فمرت بنو إسرائيل بالشيطان، فقالوا: يا راعي، هل رأيت رجلًا من ها هنا قال: نعم سحر هذه الشجرة، فانفتحت له، فدخل فيها، وهذا هدب ردائه، فعمدوا فقطعوا الشجرة، وهو فيها بالمناشير، وليس تجد يهوديًا إلا تلك الهدبة في ردائه، فلما ولد عيسى لم يبقَ في الأرض صنم يعبد من دون الله إلا أصبح ساقطًا لوجهه. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبًا يقول: إن عيسى بن مريم عليه السلام لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت، وشق عليه، فدعا الحواريين، فصنع لهم طعامًا، فقال احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه في الليل، عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من رد على شيئًا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، ولا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض، كما بذلك نفسي لكم. وأما حاجتي التي أستعينكم عليها، فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم، حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم، ويقول: سبحان الله ما تصبرون لي ليلة واحدة حتى تعينوني فيها؟ قالوا: والله ما ندري ما لنا؟ لقد كنا نسمر فنكثر السمر، ومانطيق الليلة سمرًا، ومانريد دعاءً إلا حيل بيننا وبينه فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم. وجعل يأتي بكلام نحو هذا، ينهى به نفسه، ثم قال: الحق ليكفرن بي أحدكم، قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعنني أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني. فخرجوا فتفرقوا، وكان اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون، أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه، فجحد وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخر فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك، فبكى، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها ودلهم عليه - وكان شبه عليهم قبل ذلك - فأخذوه، فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه، ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تفتح نفسك من هذا الحبل ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبه لهم، فكمث سبعًا. ثم إن أمه والمرأة - التي كان عيسى يداويها فأبرأها الله من الجنون - جاءتا تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى عليه السلام، فقال: على من تبكيان؟ فقالتا: عليك، فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإنّ هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه، ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب تاب الله عليه ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحيى، فقال: هو معكم، فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، قال: توفي الله عيسى بن مريم ثلاث ساعات من النهار، حتى رفعه الله إليه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: والنصارى يزعمون أنه توفاه الله سبع ساعات من النهار، ثم أحياه الله، فقال له: اهبط، فأنزل على مريم المجدلانية في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحز عليك أحد حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين، فبثهم في الأرض دعاةً إلى الله، فإنك لم تكن فعلت ذلك، فأهبطه الله عليها، فاشتعل الجبل حين هبط نورًا، فجمعت له الحواريين، فبثهم وأمرهم، أن يبلغوا الناس عنه ما أمره الله به، ثم رفعه الله إليه، فكساه الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في الملائكة وهو معهم حول العرش، فكان إنسيًا ملكيًا سمائيًا أرضيًا، وتفرق الحواريون حيث أمرهم، فتلك الليلة التي أهبط فيها الليلة التي تدخن فيها النصارى. وكان ممن وجه من الحواريين والأتباع الذين كانوا في الأرض بعدهم، فطرس الحواري ومعه بولس - وكان من الأتباع، ولم يكن من الحواريين - إلى رومية، وأندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس - وهي فيما نرى للأساود - وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق، وفيلبس إلى القيروان وقرطاجنة، وهي إفريقية، ويحنس إلى دفسوس، قرية الفتية أصحاب الكهف، ويعقوبس إلى أوريشليم، وهي إيليا بيت المقدس، وابن تلما إلى العرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر دون أفريقية، ويهوذا - ولم يكن من الحواريين - إلى أريوبس، جعل مكان يوذس زكريا يوطا، حين أحدث ما أحدث. حدثنا ابنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر ابن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن ابن سليم الأنصاري، ثم الزرقي، قال: كان على امرأة منا نذرٌ، لتظهرن على رأس الجماء - جبل بالعقيق من ناحية المدينة - قال: فظهرتُ معها، حتى إذا استوينا على رأس الجبل، إذا قبرٌ عظيم، عليه حجران عظيمان، حجر عند رأسه وحجر عند رجليه فيهما كتاب بالمسند، لا أدري ما هو؟ فاحتملتُ الحجرين معي، حتى إذا كنت ببعض الجبل منهبطًا ثقلا علي، فألقيت أحدهما وهبطت بالآخر، فعرضته على أهل السريانية: هل يعرفون كتابه؟ فلم يعرفوه، وعرضته على من يكتب بالزبور من أهل اليمن، ومن يكتب بالمسند فلم يعرفوه. قال: فلما لم أجد أحداُ ممن يعرفه ألقيته تحت تابوت لنا، فمكث سنين، ثم دخل علينا ناس من أهل ماه من الفرس يبتغون الخرز، فقلت لهم: هل لكم من كتاب؟ فقالوا: نعم، فأخرجتُ إليهم الحجر، فإذا هم يقرؤونه، فإذا هو بكتابهم: هذا قبر رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام إلى أهل هذه البلاد، فإذا هم كانوا أهلها في ذلك الزمان، مات عندهم فدفنوه على رأس الجبل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم عدوا على بقية الحواريين يشمسونهم ويعذبونهم، وطافوا بهم، فسمع بذلك ملك الروم - وكانوا تحت يديه، وكان صاحب وثن - فقيل له: إن رجلًا كان في هؤلاء الناس الذين تحت يديك من بني إسرائيل عدوا عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنه رسول الله، قد أراهم العجائب، وأحيا لهم الموتى، وأبرأ لهم الأسقام، وخلق لهم من الطين كهئية الطير، ونفخ فيه فكان طائرًا بإذن الله، وأخبرهم بالغيوب. قال: ويحكم فما منعكم أن تذكروا هذا لي من أمره وأمرهم فوالله لو علمت ما خليتُ بينهم وبينه. ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم، وسألهم عن دين عيسى وأمره، فأخبروه خبره، فتابعهم على دينهم، واستنزل سرجس فغيبه، وأخذ خشبته التي صلب عليها، فأكرمها وصانها لما مسها منه، وعدا على بني إسرائيل، فقتل منهم قتلى كثيرة، فمن هنالك كان أصل النصرانية في الروم. وذكر بعض أهل الأخبار أن مولد عيسى عليه السلام كان لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملك أغوسطوس، وأن أغوسطوس عاش بعد ذلك بقية ملكه، وكان جميع ملكه ستًا وخمسين سنة - قال بعضهم: وأيامًا. قال: ووثبت اليهود بالمسيح، والرياسة ببيت المقدس في ذلك الوقت ليقصر، والملك على بيت المقدس من قبل قيصر هيردوس الكبير الذي دخلت عليه رسل ملك فارس الذين وجههم الملك إلى المسيح، فصار إلى هيردوس غلطا، وأخبروه أن ملك فارس بعث بهم ليقربوا إلى المسيح ألطافًا معهم من ذهب ومر ولبان، وأنهم نظروا إلى نجمه قد طلع، فعرفوا ذلك بالحساب وقربوا الألطاف إليه ببيت لحم من فلسطين. فلما عرف هيردوس خبرهم كاد المسيح، فطلبه ليقتله، فأمر الله الملك أن يقول ليوسف الذي كان مع مريم في الكنيسة ما أراد هيردوس من قتله، وأمره أن يهرب بالغلام وأمه إلى مصر، فلما مات هيردوس قال الملك ليوسف وهو بمصر: إن هيردوس قد مات، وملك مكانه أركلاوس ابنه، وذهب من كان يطلب نفس الغلام، فانصرف به إلى ناصرة من فلسطين ليتم قول شعيا النبي: من مصر دعوتك. ومات أركلاوس، وملك مكانه هيردوس الصغير، الذي صلب شبه المسيح في ولايته، وكانت الرياسة في ذلك الوقت لملوك اليونانية والروم، وكان هيردوس وولده من قبلهم، إلا أنهم كانوا يلقبون باسم الملك، وكان الملوك الكبار يلقبون بقيصر، وكان ملك بيت المقدس في وقت الصلب لهيردوس الصغير من قبل طيباريوس بن أغوسطوس دون القضاء، وكان القضاء لرجل رومي يقال له: فيلاطوس من قبل قيصر، وكانت رياسة الجالوت ليونن بن بهبوثن. قال: وذكروا أن الذي شبه بعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي، يقال له: أيشوع بن فنديرا وكان ملك طيبا ريوس ثلاثًا وعشرين سنة وأيامًا منها إلى وقت ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأيام، ومنها بعد ذلك خمس سنين. ذكر من ملك من الروم أرض الشام بعد رفع المسيح عليه السلام إلى عهد النبي ﷺ في قول النصارى قال أبو جعفر: زعموا أن ملك الشام من فلسطين وغيرها صار بعد طيباريوس إلى جايوس بن طيباريوس، وأن ملكه كان أربع سنين. ثم ملك بعده ابن له آخر، يقال له: قلوديوس أربع عشرة سنة. ثم ملك بعده نيرون، الذي قتل فطرس وبولس، وصلبه منكسًا، أربع عشرة سنة. ثم ملك بعده بوطلايوس، أربع أشهر. ثم ملك بعده أسفسيانوس أبو ططوس الذي وجهه إلى بيت المقدس عشر سنين. ولمضي ثلاث سنين من ملكه وتمام أربعين سنة من وقت رفع عيسى عليه السلام وجه أسفسيانوس ابنه ططوس إلى بيت المقدس، حتى هدمه وقتل من قتل من بني إسرائيل غضبًا للمسيح. ثم ملك بعده ططوس بن أسفسيانوس، سنتين. ثم من بعده دو مطيانوس، ست عشرة سنة. ثم من بعده نارواس، ست سنين. ثم من بعده طرايانوس، تسع عشرة سنة. ثم من بعده هدر يانوس، إحدى وعشرين سنة. ثم ملك من بعده ططورس بن بطيانوس، اثنتين وعشرين سنة. ثم من بعده مرقوس وأولاده، تسع عشرة سنة. ثم من بعده قوذوموس، ثلاث عشرة سنة. ثم من بعده فرطناجوس، ستة أشهر. ثم من بعده سبروس. أربع عشرة سنة. ثم من بعده أنطنياوس، سبع سنين. ثم من بعده مرقيانوس، ست سنين. ثم بعده أنطنيانوس، أربع سنين. ثم الحسندروس، ثلاث عشرة سنة. ثم غسميانوس، ثلاث سنين. ثم جورديانوس، ست سنين. ثم بعده فليفوس، سبع سنين. ثم داقيوس، ست سنين. ثم قالوس، ست سنين. ثم بعده والرييانوس وقاليونس، خمس عشرة سنة. ثم قلوديس، سنة. ثم من بعده قريطاليوس، شهرين. ثم أورليانوس، خمس سنين. ثم طيقطوس، ستة أشهر. ثم فولوريوس، خمسة وعشرين يومًا. ثم فرابوس، ست سنين. ثم قوروس وابناه، سنتين. ثم دوقلطيانوس، ست سنين. ثم محسميانوس، عشرين سنة. ثم قسطنطينوس، ثلاثين سنة. ثم قسطنطين، ثلاثين سنة. ثم قسطنطين عشرين سنة. ثم اليانوس المنافق، سنتين. ثم يويانوس، سنة. ثم والمطيانوس وغرطيانوس، عشر سنين. ثم خرطانوس ووالنطيانوس الصغير، سنة. ثم تياداسيس الأكبر، سبع عشرة سنة. ثم أرقديوس وأنوريوس، عشرين سنة. ثم تياداسيس الأصغر ووالنطيانوس ست عشرة سنة. ثم مرقيانوس، سبع سنين. ثم لاون، ست عشرة سنة. ثم زانون، ثماني عشرة سنة، ثم أنسطاس، سبعًا وعشرين سنة. ثم يوسطنيانوس، سبع سنين. ثم يوسطنيانوس الشيخ، عشرين سنة. ثم بوسطينس اثنتي عشرة سنة. ثم طيباريوس، ست سنين. ثم مريقيس وتاذاسيس ابنه، عشرين سنة. ثم فوقا الذي قُتل، سبع سنين وستة أشهر. ثم هرقل الذي كتب إليه رسول الله ﷺ، ثلاثين سنة. فمن لدن عُمِر بيت المقدس بعد تخريبه بختنصّر إلى الهجرة - على قولهم - ألف سنة ونيّف، ومن مُلك الإسكندر إليها تسعمائة سنة ونيّف وعشرون سنة، من ذلك من وقت ظهوره إلى مولد عيسى ثلاثمائة سنة وثلاث سنين. ومن مولده إلى ارتفاعه اثنتان وثلاثون سنة، ومن وقت ارتفاعه إلى الهجرة خمسمائة وخمس وثمانون سنة وأشهر. وزعم بعض أصحاب الأخبار أن قتل بني إسرائيل يحيى بن زكرياء كان في عهد أردشير بن بابك لثماني سنين خلتْ من ملكه، وأن بختنصّر إنما صار إلى الشأم لقتال اليهود من قِبَل سابور الجنود ابن أردشير بن بابك. نزول قبائل العرب الحيرة والأنبار أيام ملوك الطوائف وكان من الأحداث أيام ملوك الطوائف إلى قيام أردشير بن بابك بالملْك - فيما ذكر هشام بن محمد - دنوّ مَنْ دنا من قبائل العرب من رِيفِ العراق ونزول مَنْ نزل منهم الحيرة والأنبار وما حوالي ذلك. فحُدّثت عن هشام بن محمد، قال: لما مات بختنصّر انضمّ الذين كان أسكنَهم الحيرة من العرب حين أمر بقتالهم إلى أهل الأنبار وبقيَ الحيرُ خرابًا، فغَبرُوا بذلك زمانًا طويلًا، لا تطلع عليهم طالعة من بلاد العرب، ولا يقدَم عليهم قادم، وبالأنبار أهلها ومن انضم إليهم من أهل الحيرة من قبائل العرب من بني إسماعيل وبني معدّ بن عدنان؛ فلما كثر أولاد معدّ بن عدنان ومَنْ كان معهم من قبائل العرب، وملئوا بلادهم من تِهامة وما يليهم، فرّقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون المتّسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشأم، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من الأزّد كانوا نزلوها في دهر عمران بن عمرو، من بقايا بني عامر، وهو ماء السماء بن حارثة، وهو الغِطْريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد. وكان الذين أقبلوا من تِهامة من العرب مالك وعمرو ابنا فَهْم بن تيم الله بن أسد بن وبَرة بن تَغْلِب بن حُلوان بن عمران بن الحافِ بن قضاعة، ومالك بن زهير بن عمرو بن فَهْم بن تيم الله بن أسد بن وبَرة، في جماعة من قومهم، والحَيْقار بن الحيق بن عُمير بن قَنص بن معدّ بن عدنان، في قَنَص كلّها. ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطَّمَثان بن عوذ مناة بن يَقْدُم بن أفصى بن دُعْمِي بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان، وزُهيْر بن الحارث بن الشلل بن زهر بن إياد وصبُح، بن صبيح بن الحارث بن أفْصى بن دُعْمِي بن إياد. فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على التُّنُوخ - وهو المقام - وتعاقدوا على التوازر والتناصر، فصاروا يدًا على الناس، وضمّهم اسم تَنُوخ، فكانوا بذلك الاسم، كأنهم عُمارة من العمائر. قال: وَتَنَخ عليهم بطون من نُمارة بن لخم. قال: ودعا مالك بن زهير جَذِيمَة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دَوْس الأزدي إلى التُّنوخ معه، وزوّجه أخنه لميس ابنة زهير، فتنخَ جَذيمة بن مالك وجماعة ممن كان بها من قومهم من الأزد، فصار مالك وعمرو ابنا فهم الأزد حُلفاء دون سائر تَنوخ، وكلمة تَنوخ كلها واحدة. وكان اجتماع من اجتمع من قبائل العرب بالبحرين وتحالفهم وتعاقدهم أزمان ملوك الطوائف الذين ملكهم الإسكندر، وفرّق البلدان بينهم عند قتله دارا بن دارا ملك فارس، إلى أن ظهر أردشير بن بابك ملك فارس على ملوك الطوائف، وقهرهم ودَان له الناس، وضبط له الملك. قال: وإنما سُمّوا ملوك الطوائف؛ لأن كل ملك منهم كان ملكه قليلًا من الأرض، إنما هي قصور وأبيات، وحولها خندق وعدوُّه قريب منه، له من الأرض مثل ذلك ونحوه، يُغِير أحدُهما على صاحبه ثم يرجع كالخطفة. قال: فتطلعت أنفسُ منْ كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق، وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم بالمسير إلى العراق، ووطّن جماعة ممن كان معهم على ذلك؛ فكان أول مَنْ طلع منهم الحيقار بن الحيق في جماعة قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين - وهم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل - يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف؛ وهم فيما بين نِفّر - وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلّة وأطراف البادية - فلم تَدِنْ لهم، فدفعوهم عن بلادهم. قال: وكان يقال لعاد إرم، فلما هلكت قيل لثمود إرم، ثم سموا الأرمانيين؛ وهم بقايا إرمَ، وهم نَبَط السواد. ويقال لدمشق: إرم. قال: فارتفعوا عن سواد العراق وصاروا أشلاء بعدُ في عرب الأنبار وعرب الحيرة، فهم أشلاء قَنَص بن معدّ، وإليهم ينسب عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عَمَم بن نُمارة بن لخم. وهذا قول مضر وحمّاد الرواية؛ وهو باطل، ولم يأت في قَنَص بن معدّ شيء أثبتُ من قول جُبير بن مُطْعِم: إن النعمان كان من ولده. قال: وإنما سميت الأنبار أنبار لأنها كانت تكون فيها أنابير الطعام، وكانت تسمّى الأهراء، لأن كسرى يرزق أصحابه رزقهم منها. قال: ثم طلع مالك وعمرو، ابنا فَهْم بن تيم الله، ومالك بن زهير بن فَهْم بن تيم الله، وغَطَفان بن عمرو بن الطَّمَثان، وزهير بن الحارث وصُبح بن صُبيح؛ فيمن تَنَحَ عليهم من عشائرهم وحلفائهم على الأنبار، على ملك الأرْمانيين، فطلع نُمارة بن قيس بن نُمارة - والنجدة - وهم قبيلة من العماليق يدعون إلى كندة - وملكان بن كندة، ومالك وعمرو ابنا فَهْم ومَنْ حالفهم، وتَنَح معهم على نِفّر على ملك الآردوانيين، فأنزلهم الحيَر الذي كان بناه بختنصّر لتجار العرب الذين وُجدوا بحضرته حين أمر بغزو العرب في بلادهم، وإدخال الجيوش عليهم، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة نِفَّر على ذلك، لا يدينون للأعاجم، ولا تدين لهم الأعاجم؛ حتى قدمها تُبّع - وهو أسعد أبو كَرِب بن ملكيكرب - في جيوشه، فخلّف بها منْ لم تكن به قوة من الناس، ومن لم يَقْوَ على المضي معه، ولا الرجوع إلى بلاده، وانضمّوا إلى هذا الحِير، واختلطوا بهم؛ وفي ذلك يقول كعب بن جُعيَل بن عُجْرة بن قُمير بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حُبيب بن عمرو بن غّنْم بن تغلب بن وائل: وغزا تُبّعُ في حِمْيَرَ حتّى ** نزلَ الحِيرةَ مِنْ أهل عَدَنْ وخرج تبّع سائرًا ثم رجع إليهم، وأقاموا فأقرّهم على حالهم، وانصرف راجعًا إلى اليمن، وفيهم من كل القبائل من بني لِحْيان؛ وهم بقايا جُرْهم؛ وفيهم جُعفي، وطئ، وكلب، وتميم؛ وليسوا إلا بالحيرة - يعني بقايا جرهم. قال ابن الكلبي: لِحيان بقايا جُرْهم. ونزل كثير من تَنّوخ الأنبار والحيرة وما بين الحيرة إلى طفّ الفرات وغربيّه، إلى ناحية الأنبار وما والاها في المظالّ والأخبية، لا يسكنون بيوت المدَر، ولا يجامعون أهلَها فيها، واتّصلت جماعتهم فيما بين الأنبار والحيرة، وكانوا يسمّون عرب الضاحية؛ فكان أول من ملك منهم في زمان ملوك الطوائف مالك بن فَهْم، وكان منزله مما يلي الأنبار. ثم مات مالك، فملك من بعده أخوه عمرو بن فَهْم. ثم هلك عمرو بن فهم، فملك من بعده جذّيمة الأبرش بن مالك بن فَهْم بن غنم بن دَوْس الأزدي. قال ابن الكلبي: دَوْس بن عُدْثان بن عبد الله بن نصر بن زَهْران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. قال ابن الكلبي: ويقال إن جَذيمة الأبرش من العاربة الأولى، من بني وبار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح. قال: وكان جَذيمة من أفضل ملوك العرب رأيًا، وأبعدهم مُغارًا، وأشدّهم نِكاية، وأظهرهم حزمًا، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق؛ وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به بَرَص، فكنَت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به وتنسبه إليه إعظامًا له، فقيل: جَذيمة الوضّاح، وجَذيمة الأبرش؛ وكانت مناوله فيما بين الحيرة والأنبار وبقّة وهيت وناحيتها، وعين التَّمْر، وأطراف البرّ إلى الغُوَير والقُطقُطانة وخَفِيّة وما والاها، تُجْبى إليه الأموال، وتَفِد إليه الوفود، وكان غزا طسمًا وجَديسا في منازلهم من جَوّ وما حولهم؛ وكانت طسم وجديس يتكلّمون بالعربية، فأصاب حسانَ بن تبع أسعد أبي كرب، قد أغار على طسْم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعًا بمن معه، وتأتي خيول تَبّع على سرِية لجذيمة فاجتاحتها، وبلغ جذيمة خَبرُهم، فقال جذيمة: ربما أَوفيْتُ في عَلَمٍ ** ترفعَنْ بُردِي شمالاتُ في فُتُوّ أنا كالئُهُمْ ** في بلايا غَزْوةٍ باتوا ثم أُبْنا غانِمي نَعَمٍ ** وأناسٌ بعدَنا ماتوا نحن كنّا في ممرّهم ** إذ ممرّ القومِ خوّاتُ ليت شِعري ما أماتَهُمُ ** نحنُ أدلجْنا وهمْ باتوا وَلنا كانُوا ونحن إذا ** قال منّا قائلٌ صاتوا ولنا البيدُ البِعادُ التي ** أهلُها السودان أشتاتُ ثُبَةُ الأخيار شاهدة ** ذاكُمُ قومي وأهلاتي قد شربت الخمر وسطهُمُ ** ناعمًا في غيْر أصوات فعلى ما كان مِنْ كرَمٍ ** فستبكيني بُنيّاتي أنا ربُّ الناسِ كلِّهِمُ ** غيرَ رَبّي الكافِتِ الفاتِ يعني بالكافت الذي يكفت أرواحهم، والفات الذي يفيتهم أنفسهم؛ يعني الله عز وجل. قال ابن الكلبي: ثلاثة أبيات منها حق، والبقية باطل قال: وفي مغازيه وغاراته على الأمم الخالية من العاربة الأولى يقول الشاعر في الجاهلية: أضحى جذيمة في يَبْرِينَ مَنزلِهِ ** قد حازَ ما جمعتْ في دهرِها عادُ فكان جَذيمة قد تنبّأ وتكهّن، واتخذ صنمين؛ يقال لهما: الضيزنان - قال: ومكان الضيزنين بالحيرة معروف - وكان يستسقي بهما ويستنصر بهما على العدوّ، وكانت إياد بعين أباغ، وأباغ رجل من العماليق، نزل بتلك العين، فكان يغازيهم؛ فذُكر لجذيمة غلام من لَخم في أخواله من إياد يقال له عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، له جمال وطرف، فغزاهم جذيمة، فبعث إياد قومًا فسقوا سَدَنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين، فأصبحا في إياد، فبعث إلى جذيمة: إن صنميك أصبحا فينا، زهدًا فيك ورغبة فينا؛ فإن أوثقت لنا ألا تغزونا رددناهما إليك. قال: وعدي بن نصر تدفعونه إلي. فدفعوه إليه مع الصنمين، فانصرف عنهم، وضم عديًّا إلى نفسه، وولّاه شرابه، فأبصرته رَقاشِ ابنة مالك أخت جذيمة، فعشقته وراسلته، وقالت: يا عدي، اخطبني إلى الملك، فإن لك حسبًا وموضعًا، فقال: لا أجترئ على كلامه في ذلك، ولا أطمع أن يزوّجنيك، قالت: إذا جلس على شرابه، وحضرَه ندماؤه، فاسقه صِرفًا، واسقِ القوم مِزاجًا، فإذا أخذت الخمرة فيه، فاخطبني إليه، فإنه لن يردّك، ولن يمتنع منك؛ فإذا زوّجك فأشهِد القوم؛ ففعل الفتى وما أمرتْه به، فلما أخذت الخمرة مأخذَها خطبها إليه، فأملكه إياها، فانصرف إليها، فأعرس بها من ليلته، وأصبح مضرّجًا بالخَلوق، فقال له جذيمة - وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عدي؟ قال: آثار العُرس، قال أي عُرس! قال: عرس رَقاش! قال: من زوّجكها ويحك! قال: زوجَنيها الملك، فضرب جذيمة بيده على جبهته، وأكبّ على الأرض ندامة وتلهّفًا، وخرج عدي على وجهه هاربًا، فلم يُر أثر، ولم يُسمع له بذكر، وأرسل إليه جذيمة، فقال: حدثيني وأنتِ لا تَكْذِبيني ** أبِحُرٍّ زَنَيْتِ أم بهجين! أم بعبدٍ فأنتِ أهلٌ لعبدٍ ** أمْ بدونٍ فأنت أهلٌ لدونِ فقالت: لا بل أنت زوجتَني امرأ عربيًا، معروقًا حسيبًا، ولم تستأمرني في نفسي، ولم أكن مالكة لأمري؛ فكفّ عنها، وعرف عذرَها. ورجع عدي بن نصر إلى إياد، فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين، فرمى به فتىً منهم من لهْب فيما بين جبلين، فتنكّس فمات، واشتملت رَقاشِ على حبَل، فولدت غلامًا، فسمّته عمرًا ورشّحته؛ حتى إذا ترعرع عطّرته وألبسته وحلته، وأزارته خالَه جذيمة، فلما رآه أعجِبَ به، وألقِيتْ عليه منه مِقة ومحبة، فكان يختلف مع ولده، ويكون معهم. فخرج جذيمة متبديًا بأهله وولده في سنة خصبة مكلٍئة، فضرِبت له أبنية في روضة ذات زهرة وغُدُر، وخرج ولده وعمرو ومعهم يجتنون الكمْأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها في حجزته فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمر ويقول: هذا جناي وخياره فيه ** إذ كل جانٍ يدهُ إلىَ فيهِ فضمه إليه جذيمة والتزمه، وسر بقوله وفعله، وأمره فجعل له حلى من فضة وطرق، فكان أول عربي ألبس طوقًا، فكان يسمى عمرًا ذا الطوق، فبينما هو على أحسن حاله، إذا استطارته الجن فاستهوته، فضرب له جذيمة في البلدان والآفاق زمانًا لا يقدر عليه. قال: وأقبل رجلان أخوان من بلقين - يقال لهما: مالك وعقيل، ابنا فارج بن مالك بن كعب بن القين بن جسر ابن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة - من الشام يريدان جذيمة، قد أهديا له طرفا ومتاعًا، فلما كان ببعض الطريق نزلا منزلًا، ومعهما فينة لهما يقال لها: أم عمرو، فقدمت إليهما طعامًا، فبينما هما يأكلان إذ أقبل فتى عريان شاحب، قد تلبد شعره، وطالت أظفاره، وساءت حاله، فجاء حتى جلس حجرة منهما، فمد يده يريد الطعام، فناولته القينة كراعًا، فأكلها ثم مد يده إليها، فقالت: " تعطى العبد كراعًا فيطمع في الذراع "، فذهبت مثلًا، ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها، وأوكت زقها، فقال عمر بن عدي: صددت الكأس عنا أم عمر ** وكان الكأس مجراها اليمينا ما شر الثلاثة أم عمرو ** بصاحبك الذي لا تصحبينا! فقال مالك وعقيل: من أنت يا فتى؟ فقال: إن تنكراني أو تنكرا نسبي، فإني أنا عمرو بن عدي، ابن تنوخية، اللخمى، وغدًا ما ترياني في نمارة غير معصى. فنهضا إليه فضماه وعسلا رأسه، وقلما أظفاره، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب وقالا: ما كنا لنهدي لجذيمة هدية أنفس عنده، ولا أحب إليه من ابن أخته، قد رده الله عليه بنا. فخرجا به، حتى دفعا إلى باب جذيمة بالحيرة، فبشراه، فسر بذلك سرورًا شديدًا، وأنكره لحال ما كان فيه، فقالا: أبيت اللعن! إنّ من كان في مثل حاله يتغير. فأرسل به إلى أمه، فمكث عندها أيامًا ثم أعادته إليه، فقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلى الساعة، فأعادوا عليه الطوق، فلما نظر إليه قال: شب عمرو عن الطوق، فأرسلها مثلًا، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت! فهما ندمانا جذيمة اللذان ضربا مثلًا في أشعار العرب، وفي ذلك يقول أبو خراش الهذلي: لعمرك ما ملت كبيشة طلعتي ** وإن ثوائي عندها لقليل ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ** نديمًا صفاء مالك وعقيل وقال متمم بن نويرة: وكنا كندماني جذيمة حقبة ** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكًا ** لطولِ اجتماع لم نبت ليلة معا وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلاد الشام عمرو بن ظرب ابن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العملق - ويقال العمليق، من عاملة العماليق، فجمع جذيمة جموعًا من العرب، فسار إليه يريد غزاته، وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام، فالتقوا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل عمرو بن ظرب، وانفضت جموعه، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين، فقال في ذلك الأعور بن عمرو بن هناءة بن مالك بن فهم الأزدي: كأن عمرو بن ثربى لم يعش ملكًا ** ولم تكن حوله الرايات تختفقُ لاقى جذيمة في جاواء مشعلةٍ ** فيها حراشف بالنيران ترتشق فملكت من بعد عمرو ابنته الزباء واسمها نائلة، وقال في ذلك القعقاع بن الدرماء الكلبي: أتعرف منزلًا بين المنقى ** وبين مجر نائلة القديم وكان جنود الزباء بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وتزيد وسليح ابنى حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت للزباء أخت يقال لها زبيبة، فبنت لها قصرًا حصينًا على شاطئ الفرات الغربي، وكانت تشتو عند أختها، وتربع ببطن النجار، وتصير إلى تدمر. فلما أن استجمع لها أمرها، واستحكم لها ملكها، أجمعت لغزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها، فقالت لها أختها زبيبة - وكانت ذات رأي ودهاء وإرب: يا زباء، إنك إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده إن ظهرت أصبت ثأرك وإن قتلت ملكك، والحرب سجال، وعثراتها لا تستقال، وإن كعبك لم يزل ساميًا على من ناوأك وساماك، ولم ترى بؤسًا ولا غيرا، ولا تدرين لمن تكون العاقبة، وعلى من تكون الدائرة! فقالت لها الزباء قد أديت النصيحة، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت، والقول ما قلت. فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة، ورفضت ذلك، وأتت أمرها من وجوه الختل والخدع والمكر. فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وأن يصل بلاده ببلادها. وكان فيما كتبت به: أنها لم تجد ملك النساء إلا إلى قبيح في السماع، وضعف في السلطان، وقلة ضبط المملكة، وإنها لم تجد لملكها موضعًا، ولا لنفسها كفئًا غيرك، فأقبل إلى، فاجمع ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك. فلما انتهى كتابُ الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها استخفه ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع إليه أهل الحجى والنهى، من ثقات أصحابه، وهو بالبقة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه الزباء، وعرضته عليه، واستشارهم في أمره، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، ويستولي على ملكها. وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعد بن عمر جذيمة بن قيس بن ربى بن نمارة بن لخم. وكان سعد تزوج أمة لجذيمة، فولدت له قصيرًا، وكان أريبًا حازمًا، أثيرًا عند جذيمة، ناصحًا، فخالهم فيما أشاروا به عليه، وقال: رأى فاتر، وعذر حاضر، فذهبت مثلًا. فرادوه الكلام ونازعوه الرأي، فقال: إني لأرى أمرًا ليس بالخسا ولا الزكا، فذهبت مثلًا. وقال لجذيمة: اكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالها، وقد وترتها، وقتلت أباها. فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، فقال قصير: إن امرؤ لا يميل العجز ترويتي ** إذا أتت دون شيء مرة الوذم فقال جذيمة: لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح فذهبت مثلًا فدعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره فشجعه على المسير وقال: إن نمارة قومي مع الزباء ولو قدروا لصاروا معك فأطاعه وعصى قصيرًا فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر، وفي ذلك يقول نهشل بن حرى أين ضمرة بن جابر التميمي: ومولى عصاني واستبد برأيه ** كعالم يطع بالبقتين قصير فلما رأى ما غب أمري وأمره ** وولت بأعجاز الامور صدور تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ** وقد حدثت بعد الأمور أمور وقالت العرب: " ببقية أبرم الأمر، فذهبت مثلًا، واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه، وجعل عمرو بن عبد الجن الجرمي معه على خيوله، وسار في وجوه أصحابه، فأخذ على الفرات من الجانب الغربي. فلما نزل الفرضة دعا قصيرًا، فقال: ما الرأي؟ قال: ببقية تركت الرأي، فذهبت مثلًا، واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال: خطر يسير في خطب كبير، فذهبت مثلًا وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك من خلفك، فإن القوم غادرون، فاركب العصا وكانت فرسًا لجذيمة لا تجارى - فإني راكبها ومسايرك عليها. فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة موليًا على متنها، فقال: ويل أمة جزمًا على ظهر العصا!، فذهبت مثلًا، فقال: يا ضل ما تجرى به العصا! وجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت، وقد قطعت أرضًا بعيدة، فبنى عليها برجًا يقال له برج العصا. وقالت العرب: " خير ما جاءت به العصا " مثل تضربه. وسار جذيمة، وقد أحاطت به الخيول، حتى دخل على الزباء، فلما رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الإسب، فقالت: يا جذيمة أدأب عروس ترىّ، فذهب مثلًا فقال: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى، فقالت: أما وإلهي ما بنا من عدم مواس، لا قلة أواس، ولكنه شيمة ما أناس ". فذهبت مثلًا، وقالت: إني أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وأمرت بطست من ذهب، فأعدته له وسقته من الخمر حتى أخذت مأخذها منه، وأمرت براهشيه فقطعا، وقدمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه - وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال، تكرمة للملك - فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه من غير الطست، فقلت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه أهله، فذهبت مثلًا، فهلك جذيمة واستبقت الزباء دمه، فجعلته في برس قطن في ربعة لها، وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم، حتى قدم على عمرو ابن عدي وهو بالحيرة، فقال له قصير: أداثر أم ثائر، قال: لا، بل ثائر سائر، فذهبت مثلًا، ووافق قصير الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجرمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عدي، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا، وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي ومال إليه الناس، فقال عمرو بن عدي في ذلك: دعوت ابن عبد الحن للسلم بعد ما ** تتابع في غرب السفاه وكلما فلما أر عوى عن صدنا باعترامه ** مريتُ هواهُ مرى آمٍ روائما فقال عمرو بن عبد الجن مجيبًا له: أما ودماء ماثراتٍ تخالها ** على قلة العزي أو النسر عندما وما قدس الرهبان في كل هيكلٍ ** أبيل الأبيلين المسيح بن مريما قال: هكذا وجد الشعر ليس بتام، وكان ينبغي أن يكون البيت الثالث: لقد كان كذا وكذا - فقال قصير لعمرو بن عدي: تهيأ واستعد، ولا تطل دم خالك. قال: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلًا، وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون ذلك. فحذرت عمرًا، واتخذت نفقًا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني. ودعت رجلًا مصورًا أجود أهل بلادها تصويرًا، وأحسنهم عملًا لذلك، فجهزته وأحسنت إليه، وقالت له: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنكرًا، فتخلوا بشمه، وتنضم إليهم، وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالصور. والثقافة له، ثم أثبت عمرو بن عدي معرفة، وصوره جالسًا وقائمًا، وراكبًا ومتفضلًا، ومستلحًا بهيئة ولبسته وثيابه ولونه، فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إلي. فانطلق المصور حتى قدم على عمرو، وصنع الذي أمرته به الزباء، وبلغ ما أوصته به، ثم رجع إليها بعلم ما وجهته له من الصور على ما وصفت له، وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي، فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته، وعلمت علمه. فقال قصير لعمرو بن عدي: اجدع أنفى واضرب ظهري، ودعني وإياها. فقال عمرو: ما أنا بفاعل وما أنت لذلك بمستحق مني! فقال قصير: " خل عني إذًا وخلاك ذم " فذهبت مثلًا. قال ابن الكلبي: كان أبو الزباء اتخذ النفق لها ولأختها، وكان الحصن لأختها في داخل مدينتها، قال: فقال له عمرو، فأنت أبصر. فجدع قصير أنفه، وأثر بظهره. فقالت العرب: " لمكر ما جدع أنفه قصير "، وفي ذلك يقول المتلمس: ومن حذر الأوتار ماحز أنفه ** قصير وخاض الموت بالسيف بيهس ويروي: " ورام الموت ". وقال عدي بن زيد: كقصير إذ لم يجد غير أن ج ** دع أشرافه لشكرٍ قصير فلما أن جدع قصير أنفه وأثر تلك الآثار بظهره، خرج كأنه هارب، وأظهر أن عمرًا فعل به ذلك، وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة، وغره من الزباء، فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إن قصيرًا بالباب، فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع، وظهره قد ضرب، فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ فقال: زعم عمرو بن عدي أني غررت خاله، وزينت له السير إليك. وعششته ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين! فأقبلتُ إليك، وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك. فألطفته وأكرمته. وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملوك، فلما عرفت أنها قد استرسلت إليه، ووثقت به، قال لها: إنّ لي بالعراق أموالًا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزورها وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة والطيب والتجارات، فتصيبين في ذلك أرباحًا عظامًا، وبعض ما لا غنى بالملوك عنه، فإنه لا طرائف كطرائف العراق! فلم يزل يزينُ لها ذلك حتى سرحته، ودفعت معه عيرًا، فقالت: انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهزناك به، وابتع لنا من طرائف ما يكون بها من الثياب وغيرها. فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق، وأتى الحيرة متنكرًا، فدخل على عمرو بن عدي، فأخبره بالخبر، وقال: جهزني بالبز والطرف والأمتعة، لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك، تقتل عدوك. فأعطاه حاجته، وجهزه بصنوف الثياب وغيرها، فرجع بذلك كله إلى الزباء، فعرضه عليها، فأعجبها ما رأت، وسرها ما أتاها به، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته في المرة الأولى، فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عدي، وحمل من عنده ما ظن أنه موافق للزباء، ولم يترك جهدًا، ولم يدع طرفة ولا متاعًا قدر عليه إلا حمله إليه. ثم عاد الثالثة إلى العراق فأخبر عمر الخبر، وقال: إجمع لي ثقات أصحابك وجندك، وهيئ لهم الغرائر والمسوح - قال ابن الكلبي: وقصير أول من عمل الغرائر - وأحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، وأجعل معقد رؤس الغرائر من باطنها، فإذا دخلوا مدينة الزباء اقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيف. ففعل عمرو بن عدي، وحمل الرجال في الغرائر على ما وصف له قصير، ثم وجه الإبل إلى الزباء عليها الرجال وأسلحتهم، فلما كانوا قريبًا من مدينتها، تقدم قصير إليها، فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب والطرائف، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال، فإني جئت بما صاء وصمت فذهبت مثلًا. وقال ابن الكلبي: كان قصير يكمن النهار ويسير الليل وهو أول من كمن النهار وسار الليل. فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت: يا قصير: ما للجمال مشيها وئيدا! ** أجندلا يحملن أم حديدا! أم صرفانًا باردًا شديدًا! فدخلت الإبل المدينة، حتى كان آخرها بعيرًا مر على بواب المدينة وهو نبطي بيده منخسة، فنخس بها الغرائر التي تليه فتصيب خاصرة الرجل الذي فيها، فضرط. فقال البواب بالنبطية بشتابسقا يعني بقوله: بشتابسقا: في الجوالق شر وأرعب قلبًا، فذهبت مثلًا، فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت، ودل قصير عمرا على باب النفق قبل ذلك، وأراه إياه، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا: بأهل المدينة؟ ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو بن عدي على باب النفق، وأقبلت الزباء مولية مبادرة تريد النفق لتدخله، وأبصرت عمرا قائمًا، فعرفته بالصورة التي كان صورها لها المصور فمصت خاتمها، وكان فيها سم - وقالت: بيدي لا بيدك يا عمرو، فذهبت مثلًا، وتلقاها عمرو بن عدي، فجللها بالسيف فقتلها، وأصاب ما أصاب من أهل المدينة، وانكفأ راجعًا إلى العراق، فقال عدي بن زيد في أمر جذيمة وقصير والزباء وقتل عمرو بن عدي إياها قصيدته: أبدلت المنازلُ أم عفينا ** تقادم عهدها أم قد بلينا إلى آخرها. وقال المخبل، وهو ربيعة بن عوف السعدي: يا عمرو إني قد هويتُ جماعكم ** ولكل من يهوى الجماع فراقُ بل كم رأيتُ الدهر زايل بينه ** من لا يزايل بينه الأخلاقُ طابت به الزباء وقد جعلت لها ** دورًا ومشربة لها أنفاق حملت لها عمرًا ولا بخشونة ** من آل دومة رسلة معناق حتى تفرعها بأبيض صارم ** عضبٍ يلوح كأنه مخراق وأبو حذيفة يوم ضاق بجمعه ** شعبُ الغبيط فحومتة فأفاق وله معد والعباد وطيئ ** ومن الجنود كتائب ورفاق يهبُ النجائب والنزائع حوله ** جردًا كأنه متونها الإطلاق فأتت عليه ساعة ما إن له ** مما أفاء ولا أفاد عتاقُ فكأن ذلك يوم حم قضاؤه ** رفد أميل إناؤه مهراق وقال بعض شعراء العرب: نحن قتلنا فقحلا وابن راعن ** ونحن ختنا نبت زبا بمنجل فلما أتتها العيرُ قالت أبارد ** من التمر هذا أم حديد وجندل وقال عبد باجر - واسمه بهرا من العرب العاربة، وهم عشرة أحياء: عاد، وثمود، والعماليق، وطسم، وجديس، وأميم، والمود، وجرهم، ويقطن، والسلف قال: والسلف دخل في حمير -: لا ركبت رجلك من بين الدلى ** لقد ركبت مركبًا غير الوطي على العراقي بصفًا من الطوى ** إن كنتِ غضبي فاغضبي على الركي وعاتبي القيم عمرو بن عدي فصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لحم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلًا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم يزل عمرو بن عدي ملكًا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفردًا بملكه، مستبدًا بأمره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس. وإنما ذكرنا في هذا الموضع ما ذكرنا من أمر جذيمة وابن أخته عمرو بن عدي لما كنا قدمنا من ذكر ملوك اليمن، أنه لم يكن لملكهم نظام، وأن الرئيس منهم إنما كان ملكًا على مخلافه ومحجره، لا يجاوز ذلك، فإن نزع منهم نازع، أو نبغ منهم نابغ فتجاوز ذلك - وإن بعدت مسافة سيره من مخلافه - فإنما ذلك منه عن غير ملك له موطد، ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من يشرد من المتلصصة، فيغير على الناحية باستغفاله أهلها، فإذا قصده الطلب لم يكن له ثبات، فكذلك كان أمر ملوك اليمن، كان الواحد منهم بعد الواحد يخرج عن مخلافه ومحجره أحيانًا فيصيب مما يمر به ثم يتشمر عند خوف الطلب، راجعًا إلى موضعه ومخلافه، من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه بالطاعة، أو يؤدي إليه خرجًا، حتى كان عمرو ابن عدي الذي ذكرنا أمره، وهو ابن أخت جذيمة الذي اقتصصنا خبره، فإنه اتصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على ما كان بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم على ذلك، وستكفأهم أمر من وليهم من العرب، إلى أن قتل أبرويز بن هرمز النعمان بن المنذر، ونقل ما كانت ملوك فارس بجعلونه إليهم إلى غيرهم، فذكرنا ما ذكرنا من أمر حذيمة وعمرو ابن عدي من أجل ذلك، إذ كنا نريد أن نسوق تمامً التاريخ على ملك ملوك فارس، ونستشهد على صحة ما روي من أمرهم بما وجدنا إلى الاستشهاد به عليها سبيلًا. وكان أمرُ آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة متعالمًا مثبتًا عندهم في كنائسهم وأسفارهم. وقد حدثت عن هشام بن محمد الكلبي أنه قال: إني كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها. فأما ابن حميد، فإنه حدثنا في أمر ولد نصر بن ربيعة ومصيرهم إلى أرض العراق غير الذي ذكره هشام، والذي حدثنا به من ذلك عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أنّ ربيعة بن نصر اللخمىّ رأى رؤيا نذكرها بعدُ - عند ذكر أمر الحبشة، وغلبتهم على اليمن وتعبير سطيح وشق وجوابهما عن رؤياه - ثم ذكر في خبره ذلك أن ربيعة بن نصر لما فرغ من مسألة سطيح وشق وجوابهما إياه، وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة. قال: فمن بقية ربيعة ابن نصر كان النعمان ملك حيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر ابن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم. ذكر طسم وجديس قال أبو جعفر: ونذكر الآن أمر طسم وجديس إذ كان أمرهم أيضًا كان في أيام ملوك الطوائف، وأن فناء جديس كان على يد حسان بن تبع، إذ كنا قدمنا فيما مضى ذكر تبابعة حمير، الذين كانوا على عهد ملوك فارس. وحدثت عن هشام بن محمد. وحدثنا ابن حميد. قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق وغيرهما من علماء العرب، أن طسما وجديسًا كانوا من ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرًا، لهم فيها صنوف الثمار ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة، وكان عليهم ملك من طسم ظلوم غشوم، لا ينهاه شيء عن هواه، يقال له عملوق، مضرًا بجديس، مستذلًا لهم، وكان مما لقوا من ظلمه واستذلاله، أنه أمر بألا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها، فقال رجل من جديس، يقال له الأسود بن غفار لرؤساء قومه: قد ترون ما نحن فيه من العار والذل الذي ينبغي للكلاب أن تعافه وتمتعض منه، فأطيعوني فإني أدعوكم إلى عز الدهر، ونفي الذل. قالوا: وما ذاك قال: إني صانع للملك ولقومه طعامًا، فإذا جاؤوا نهضنا إليهم بأسيافنا وانفردت به فقتلته، وأجهز كل رجل منكم على جليسه، فأجابوه إلى ذلك، وأجمع رأيهم عليه فأعد طعامًا، وأمر قومه فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال: إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم، فخذوا سيوفهم، ثم شدوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئًا، وحضر الملك فقتل وقتل الرؤساء، فشدوا على العامة منهم، فأفنوهم، فهرب رجل من طسم يقال له رياح بن مرة، حتى أتى حسان بن تبع، فاستغاث به، فخرج حسان في حمير، فلما كان من اليمامة على ثلاث، قال له رياح: أبيت اللعن! إن لي أختًا متزوجة في جديس، يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها، إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم بك، فمر أصحابك فليقطع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه ويسير وهي في يده، فأمرهم حسان بذلك، ففعلوا، ثم سار فنظرت اليمامة، فأبصرتهم، فقالت لجديس: لقد سارت حمير. فقالوا: وما الذين ترين؟ قالت: أرى رجلًا في شجرة، معه كتف يتعرقها، أو نعل يخصفها. فكذبوها، وكان ذلك كما قالت، وصبحهم حسان فأبادهم وأخرب بلادهم وهدم قصورهم وحصونهم. وكانت اليمامة تسمى إذ ذاك جوا والقرية، وأتى حسان باليمامة ابنة مرة، فأمر بها ففقئت عيناها، فإذا فيها عروق سود، فقال لها: ما هذا السواد في عروق عينيك؟ قالت: حجير أسود يقال له الإثمد، كنت أكتحل به. وكانت فيما ذكروا أول من اكتحل بالإثمد، فأمر حسان بأن تسمى جو اليمامة. وقد قالت الشعراء من العرب في حسان ومسيره هذا، فمن ذلك قول الأعشى: كوني كمثل الذي إذ غاب وافدها ** أهدت له من بعيدٍ نظرةً جزعا ما نظرت ذات أشفارٍ كنظرتها ** حقًا كما صدق الذئبى إذ سجعا إذ قلبت مقلة ليست بمقرفةٍ ** إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا قالت أرى رجلًا في كفه كتف ** أو يخصف النعل، لهفي أيةً صنعا! فكذبوها بما قالت فصبحهم ** ذو آل حسان يزجى الموت والشرعا فاستنزلوا أهل جوٍ من مساكنهم ** وهدموا شاخص البنيان فاتضعا ومن ذلك قول النمر بن تولب العكلي: هلا سألت بعادياء وبيته ** والخل والخمر التي لم تمنع وفتاتهم عنزٍ عشية آنست ** من بعد مرأى في الفضاء ومسمعِ قالت أرى رجلًا يقلب كفه ** أصلًا وجو آمن لم يفزع ورأت مقدمة الخميس وقبله ** رقص الركاب إلى الصياح بتبعٍ فكأن صالح أهل جو غدوة ** صبحوا بذيفان السمام المنقع كانوا كأنعم من رأيت فأصبحوا ** يلوون زاد الراكب المتمتع قالت يمامة احملوني قائمًا ** إن تبعثوه باركًا بي أصرع وحسان بن تبع، الذي أوقع بجديس، هو ذو معاهر، وهو تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن، وهو أبو تبع بن حسان الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة، وكسا الكعبة، وأن الشعب من المطابخ إنما سمي هذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك الموضع وإطعامه الناس، وأن أجيادًا إنما سمي أجيادًا، لأن خيله كانت هنالك، وأنه قدم يثرب فنزل منزلًا يقال له منزل الملك اليوم، وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية من شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار، وأنه وجه ابنه حسان إلى السند وسمرا ذا الجناح إلى خرسان، وأمرهما أن يستبقا إلى الصين، فمر سمر بسمر قند فأقام عليها حتى افتتحها، وقتل مقاتلتها، وسبى وحوى ما فيها ونفذ إلى الصين، فوافى حسان بها، فمن أهل اليمن من يزعم أنهما ماتا هنالك، ومنهم من يزعم أنهما انصرفا إلى تبع بالأموال والغنائم. ومما كان في أيام ملوك الطوائف ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أمر الفتية الذين أووا إلى الكهف فضرب على آذانهم. المقدمة القول في الزمان ما هو القول في كم قدر جميع الزمان من ابتدائه إلى انتهائه وأوله إلى آخره القول في الدلالة على حدوث الأوقات والأزمان والليل والنهار القول في هل كان الله خلق قبل خلقه الزمان والليل والنهار شيئا غير ذلك من الخلق القول في الإبانة عن فناء الزمان والليل والنهار وأن لا شيء يبقى غير الله تعالى ذكره القول في الدلالة على أن الله عز وجل القديم الأول قبل شيء وأنه هو المحدث كل شيء بقدرته تعالى ذكره القول في ابتداء الخلق ما كان أوله القول في الذي ثنى خلق القلم ذكر من قال كان الماء على متن الريح القول فيما خلق الله في كل يوم من الأيام الستة التي ذكر الله في كتابه أنه خلق فيهن السموات والأرض وما بينهما القول في الليل والنهار أيهما خلق قبل صاحبه وفي بدء خلق الشمس والقمر وصفتهما إذ كانت الأزمنة بهما تعرف ذكر الأخبار الواردة عن إبليس بأنه كان له ملك السماء الدنيا والأرض وما بين ذلك ذكر الخبر عن غمط عدو الله نعمة ربه واستكباره عليه وادعائه الربوبية القول في الأحداث التي كانت في أيام ملك إبليس وسلطانه والسبب الذي به هلك وادعى الربوبية ذكر السبب الذي به هلك عدو الله وسولت له نفسه من أجله الاستكبار على ربه عز وجل القول في خلق آدم عليه السلام القول في ذكر امتحان الله تعالى أبانا آدم عليه السلام القول في قدر مكث آدم في الجنة ووقت خلق الله عز وجل إياه ووقت إهباطه إياه من السماء إلى الأرض ذكر الوقت الذي فيه خلق آدم عليه السلام من يوم الجمعة والوقت الذي أهبط إلى الأرض القول في الموضع الذي أهبط آدم وحواء إليه من الأرض حين أهبط إليها ذكر من قال كان على رأس آدم عليه السلام حين أهبط من الجنة إكليل من شجر الجنة ذكر من قال إنما صار الطيب بالهند لأن آدم حين أهبط إليها علق بأشجارها طيب رحيه ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم عليه السلام بعد أن أهبط إلى الأرض ذكر الأحداث التي كانت في أيام بني آدم من لدن ملك شيث بن آدم إلى أيام يرد ذكر الأحداث التي كانت في عهد نوح عليه السلام ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم خليل الرحمن عليهما السلام ذكر الأحداث التي كانت في أيام الطوائف (وفيها قصة عيسى ومريم عليهما السلام) ============ ج2. القائمة الرئيسية إنشاء حساب دخول أدوات شخصية تضامنًا مع حق الشعب الفلسطيني لا للإبادة الجماعية في غزة .... لا لقتل المدنيين لا لاستهداف المستشفيات والمدارس .... لا للتضليل والكيل بمكيالين أوقفوا الحرب .... وانشروا السلام العادل والشامل المحتويات تاريخ الطبري/الجزء الثاني الصفحة نقاش اقرأ عدّل تاريخ أدوات < تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك للطبري الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث ذكر الخبر عن أصحاب الكهف وكان أصحاب الكهف فتيةً آمنوا بربهم؛ كما وصفهم الله عز وجل به من صفتهم في القرآن المجيد؛ فقال لنبيه محمد ﷺ: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا ". والرقيم هو الكتاب الذي كان القوم الذين منهم كان الفتية، كتبوه في لوحٍ بذكر خبرهم وقصصهم، ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه، أو نقروه في الجبل الذي أووا إليه، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلفوه عندهم، " إذا أوى الفتية إلى الكهف ". وكان عدد الفتية - فيما ذكر ابن عباس - سبعةً، وثامنهم كلبهم. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: " ما يعلمهم إلا قليلٌ "، قال: أنا من القليل، كانوا سبعة. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قال ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: أنا من أولئك القليل الذين استثنى الله تعالى؛ كانوا سبعةً وثامنهم كلبهم. قال: وكان اسم أحدهم - وهو الذي كان يلي شرا الطعام لهم، الذي ذكره الله عنهم أنهم قالوا إذهبوا من رقدتهم: " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعامًا فليأتكم برزقٍ منه ". حدثني عبد الله بن محمد الزهري، قال: حدثنا سفيان، عن مقاتل: " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة " - اسمه يمنيخ. وأما ابن إسحاق فإنه قال - فيما حدثنا به ابن حميد - قال حدثنا سلمة، عنه: اسمه يمليخا. وكان ابن إسحاق يقول: كان عدد الفتية ثمانية؛ فعلى قوله كان كلبهم تاسعهم. وكان - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - يسميهم فيقول: كان أحدهم - وهو أكبرهم والذي كلم الملك عن سائرهم - مكسملينا، والآخر محسملينا، والثالث يمليخا، والرابع مرطوس، والخامس كسوطونس، والسادس بيرونس، والسابع رسمونس، والثامن بطونس، والتاسع قالوس. وكانوا أحداثًا. وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن إبن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانهم وضح الورق. وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم، فهداهم الله للإسلام، وكانت شريعتهم شريعة عيسى في قول جماعة من سلف علمائنا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو - يعني ابن قيس الملائى - في قوله: " أن أصحاب الكهف والرقيم "، كانت الفتية على دين عيسى بن مريم ﷺ على الإسلام، وكان ملكهم كافرًا. وكان بعضهم يزعم أن أمرهم ومصيرهم إلى الكهف كان قبل المسيح، وأن المسيح أخبر قومه خبرهم، فإن الله عز وجل ابتعثهم من رقدتهم بعد ما رفع المسيح، في الفترة بينه وبين محمد ﷺ؛ والله أعلم أي ذلك كان. فأما الذي عليه علماء أهل الإسلام فعلى أن أمرهم كان بعد المسيح. فأما أنه كان في أيام ملوك الطوائف؛ فإن ذلك مما لا يدفعه دافع من أهل العلم بأخبار الناس القديمة. وكان لهم في ذلك الزمان ملكٌ يقال له: دقينوس، يعبد الأصنام - فيما ذكر عنه - فبلغه من الفتية خلافهم إياه في دينه، فطلبهم فهربوا منه بدينهم، حتى صاروا إلى جبل لهم يقال له - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس - نيحلوس. وكان سبب إيمانهم وخلافهم به قومهم - فيما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال حدثنا معمر، قال أخبرني إسماعيل بن سدوس، - أنه سمع وهب بن منبه يقول: جاء حوارىّ عيسى بن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنمًا لا يدخلها أحد إلا سجد له، فكره أن يدخلها، فأتى حمامًا، وكان فيه قريبًا من تلك المدينة، فكان يعمل فيه، يؤاجر نفسه من صاحب الحمام. ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة، ودر عليه الرزق، فجعل يعرض عليه الإسلام وجعل يسترسل إليه. وعلقه فتيةٌ من أهل المدينة وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة، حتى آمنوا به وصدقوه، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة، وكان يشرط على صاحب الحمام أن الليل لى، لا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت. فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بإمرأة، فدخل بها الحمام، فعيره الحوارى، فقال: أنت ابن الملك وتدخل ومعك هذه الكذا! فاستحيا، فذهب. فرجع مرة أخرى، فقال له مثل ذلك، وسبه وانتهره، ولم يلتفت حتى دخل، ودخلت معه المرأة فماتا في الحمام جميعًا، فأتى الملك فقيل له: قتل صاحب الحمام ابنك. فالتمس، فلم يقدر عليه فهرب. قال من كان يصحبه: فسموا الفتية، فالتمسوا فخرجوا من المدينة؛ فمروا بصاحب له في زرع له؛ وهو على مثل أمرهم فذكروا أنهم التمسوا، وانطلق معهم ومعه الكلب؛ حتى آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح إن شاء الله، فترون رأيكم. فضرب الله على آذانهم، فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم، حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف؛ فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب، فلم يطق أحد أن يدخل، فقال قائل: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف، فدعهم فيه يموتوا عطشًا وجوعًا. ففعل. فغبروا - بعدما بنى عليهم باب الكهف - زمانًا بعد زمان. ثم إن راعيًا أدركه المطر عند الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف فأدخلته غنمى من المطر! فلم يزل يعالجه حتى فتح ما أدخل فيه، ورد الله إليهم أرواحهم في أجسادهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشترى لهم طعامًا، فكلما أتى باب مدينتهم رأى شيئًا ينكره، حتى دخل على رجل، فقال: بعني بهذه الدراهم طعامًا، قال: ومن أين لك هذه الدراهم! قال: خرجت وأصحابٌ لي أمس، فآوانا الليل حتى أصبحوا، فأرسلوني، فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك فلان فأنى لك بها! فرفعه إلى الملك - وكان ملكًا صالحًا - فقال: من أين لك هذه الورق؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا، ثم أمروني أن أشتري لهم طعامًا. قال: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف، قال: فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم، فلما رأوه ودنا منهم ضرب على أذنه وآذانهم، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب، فلم يقدروا على أن يدخلوا إليهم، فبنوا عندهم كنيسة، واتخذوها مسجدًا يصلون فيه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن عكرمة، قال: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتفردوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب على سمخانهم. فلبثوا دهرًا طويلًا، حتى هلكت أمتهم، وجاءت أمةٌ مسلمة، وكان ملكهم مسلمًا، واختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: تبعث الروح والجسد جميعًا، وقال قائل: تبعث الروح، وأما الجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئًا. فشق على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المسوح، وجلس على الرماد، ثم دعا الله عز وجل، فقال: يا رب، قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم ما يبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعامًا، فدخل السوق، فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرًا، فانطلق وهو مستخفٍ، حتى أتى رجلًا يشتري منه طعامًا، فلما نظر االرجل إلى الورق أنكرها - قال: حسبت أنه قال: كأنها أخفاف الربع - يعني الإبل الصغار - قال له الفتى: أليس ملككم فلان؟ قال: بل ملكنا فلان، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك، فسأله فأخبره الفتى خبر أصحابه، فبعث الملك في الناس، فجمعهم فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله عز وجل قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان - يعني ملكهم الذي مضى - فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي، فركب الملك، وركب معه الناس، حتى انتهى إلى الكهف، فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي، فلما أبصرهم ضرب الله على أذنه وعلى آذانهم، فلما استبطئوه دخل الملك ودخل الناس معه، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئًا غير أنها لا أرواح فيها. فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم. قال قتادة: وغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف؛ فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أصحاب الكهف، فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلثمائة سنة. قال أبو جعفر: فكان منهم: يونس بن متى فكان فيما ذكر - من أهل قرية من قرى الموصل يقال لها: نينوى، وكان قومه يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم يونس بالنهي عن عبادتها، والأمر بالتوبة إلى الله من كفرهم، والأمر بالتوحيد. فكان من أمره وأمر الذين بعث اليهم ما قصة الله في كتابه، فقال عز وجل: " فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حينٍ ". وقال: " وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ". وقد اختلف السلف من علماء أمة نبينا محمد ﷺ في ذهابه لربه مغاضبًا وظنه أن لن يقدر عليه، وفي حين ذلك. فقال بعضهم: كان ذلك منه قبل دعائه القوم الذين أرسل إليهم، وقبل إبلاغه إياهم رسالة ربه، وذلك أن القوم الذين أرسل إليهم لما حضرهم عذاب الله أمر بالمصير إليهم؛ ليعلمهم ما قد أظلهم من ذلك، لينيبوا مما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله، فاستنظر ربه المصير إليهم، فلم ينظره، فغضب لاستعجال الله إياه للنفوذ لأمره وترك إنظاره. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن الأشيب، قال: سمعت أبا هلال محمد بن سليم، قال: حدثنا شهر بن حوشب، قال: أتاه جبريل عليه السلام - يعني يونس - وقال: انطلق إلى أهل نينوى، فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم. قال: ألتمس دابة، قال: الأمر أعجل من ذلك، قال: ألتمس حذاء، قال: الأمر أعجل من ذلك، قال: فغضب، فانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب احتبست السفينة لا تقدم ولا تأخر. قال: فساهموا. قال: فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت: أيا حوت، إنا لم نجعل يونس لك رزقًا، إنما جعلناك له حرزًا ومسجدًا، فالتقمه الحوت، فانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الأيلة، ثم انطلق حتى مر به على دجلة، ثم انطلق به حتى ألقاه في نينوى. حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثناأبو هلال، قال: حدثنا شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت. وقال آخرون: كان ذلك منه بعد دعائه من أرسل إليهم إلى ما أمره الله بدعائهم إليه، وتبليغه إياهم رسالة ربه، ولكنه وعدهم نزول ما كان حذرهم من بأس الله في وقت وقته لهم، ففارقهم إذ لم يتوبوا ولم يراجعوا طاعة الله والإيمان، فلما أظل القوم عذاب الله، فغشيهم - كما وصف الله في تنزيله - تابوا إلى الله، فرفع الله عنهم العذاب، وبلغ يونس سلامتهم وارتفاع العذاب الذي كان وعدهموه، فغضب من ذلك، وقال: وعدتهم وعدًا، فكذب وعدي! فذهب مغاضبًا ربه، وكره الرجوع إليهم وقد جربوا عليه الكذب. ذكر بعض من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعثه الله تعالى - يعني يونس - إلى أهل قريته، فردوا عليه ما جاءهم به، وامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه: إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا، فاخرج من بين أظهرهم. فأعلم قومه الذي وعدهم الله من عذابه إياهم، فقالوا: ارمقوه، فإن هو خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم. فلما كانت الليلة التي وعدوا العذاب في صبيحتها أدلج وراءه القوم، فحذروا. فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرقوا بين كل دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله واستقالوه فأقالهم. وتنظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار، فقال: ما فعل أهل القرية؟ فقال: فعلوا أن نبيهم لما خرج من بين أظهرهم عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض، وفرقوا بين كل ذات ولدٍ وولدها، ثم عجوا إلى الله وتابوا إليه، فقبل منهم، وأخر عنهم العذاب. قال: فقال يونس عند ذلك وغضب: والله لا أرجع إليهم كذابًا أبدًا، وعدتهم العذاب في يوم، ثم رد عنهم! ومضى على وجهه مغاضبًا لربه فاستزله الشيطان. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: حدثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره في إمارة عمر بن الخطاب، فحدث عن قوم يونس حيث أنذر قومه فكذبوه، فأخبرهم أنه مصيبهم العذاب وفارقهم، فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب؛ لكنهم خرجوا من مساكنهم، وصعدوا في مكان رفيع، وأنهم جأروا إلى ربهم، ودعوه مخلصين له الدين أن يكشف عنهم العذاب، وأن يرجع إليهم رسولهم، قال: ففي ذلك أنزل الله تعالى: " فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حينٍ ". فلم يكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها إلا قوم يونس خاصة، فلما رأى ذلك يونس، لكنه ذهب عاتبًا على ربه، وانطلق مغاضبًا، وظن أن لن يقدر عليه، حتى ركب سفينة، فأصاب أهلها عاصف من الريح. فقالوا: هذه بخطيئة أحدكم. وقال يونس - وقد عرف أنه هو صاحب الذنب: هذه بخطيئتي، فألقوني في البحر. وإنهم أبو عليه حتى أفاضوا بسهامهم، " فساهم فكان من المدحضين ". فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي. وإنهم أبوا عليه أن يلقوه في البحر، حتى أفاضوا بسهامهم الثانية؛ " فكان من المدحضين ". فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي، وإنهم أبوا عليه أن يلقوه في البحر حتى أفاضوا بسهامهم الثالثة، " فكان من المدحضين ". فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل، فابتلعه الحوت " فنادى في الظلمات " - وعرف الخطيئة - " أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ". وكان قد سبق له من العمل الصالح، فأنزل الله فيه فقال: " فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون "؛ وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر؛ " فنبذناه بالعراء وهو سقيمٌ ". وألقى على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين - وهي فيما ذكر - شجرة القرع يتقطر عليه من اللبن؛ حتى رجعت إليه قوته. ثم رجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست، فحزن وبكى عليها، فعوتب فقيل له: أحزنت على شجرة، وبكيت عليها ولم تحزن على مائة ألف أو زيادة أردت هلاكهم جميعًا! ثم إن الله اجتباه من الضلالة، فجعله من الصالحين، ثم أمر أن يأتي قومه ويخبرهم أن الله قد تاب عليهم. فعمد إليهم، حتى لقى راعيًا، فسأله عن قوم يونس وعن حالهم، وكيف هم؟ فأخبره أنهم بخير، وأنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم، فقال له: فأخبرهم أنى قد لقيت يونس. فقال: لا أستطيع إلا بشاهد، فسمى له عنزًا من غنمه، فقال: هذه تشهد لك أنك قد لقيت يونس، قال: وماذا؟ قال: وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك قد لقيت يونس. قال: وماذا؟ قال: وهذه الشجرة تشهد لك أنك قد لقيت يونس. وإنه رجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه لقى يونس فكذبوه وهموا به شرًا، فقال: لا تعجلوا على حتى أصبح، فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقى فيها يونس، فاستنطقها، فأخبرته أنه لقى يونس، وسأل العنز، فاخبرتهم أنه لقى يونس، واستنطقوا الشجرة، فأخبرتهم أنه قد لقى يونس. ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك. قال: " وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حينٍ ". حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزى، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودى، قال: حدثنا ابن مسعود في بيت المال، قال: إن يونس كان وعد قومه العذاب؛ وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله، واستغفروه، فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس ينتظر العذاب، فلم ير شيئًا، وكان من كذب ولم يكن له بينة قتل فانطلق مغاضبا " فنادى في الظلمات " قال: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن حدثه عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة زوج النبي ﷺ، قال سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحمًا، ولا تكسر عظمًا، فأخذه، ثم هوى به إلى مسكنه من البحر. فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حسًا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر. قال: فسبح وهو في بطن الحوت، قال: فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربنا، إنا لنسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة. قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح! قال: نعم، قال: فشفعوا له عند ذلك. فأمر الحوت، فقذفه في الساحل كما قال الله: " وهو سقيمٌ "، وكان سقمه الذي وصفه الله به، أنه ألقاه الحوت على الساحل كالصبي المنفوس، قد بشر اللحم والعظم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خرج به - يعنى الحوت - حتى لفظه في ساحل البحر، فطرحه مثل الصبي المنفوس، لم ينقص من خلقه شيء. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني أبو صخر. قال: أخبرني ابن قسيط أنه سمع أبا هريرة يقول: طرح بالعراء، فأنبت الله عليه يقطينةً، فقلنا: يا أبا هريرة، وما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء، هيأ الله له أروية وحشية، تأكل من حشاش الأرض - أو هشاش الأرض - فتفشح عليه، فترويه من لبنها كل عشية وبكرة، حتى نبت. ومما كان أيضًا في أيام ملوك الطوائف: إرسال الله رسله الثلاثة الذين ذكرهم في تنزيله، فقال: " واضرب لهم مثلًا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالثٍ فقالوا إنا إليكم مرسلون.. "، الآيات التي ذكر تعالى ذكره في خبرهم. واختلف السلف في أمرهم، فقال بعضهم: كان هؤلاء الثلاثة - الذين ذكرهم الله في هذه الآيات، وقص فيها خبرهم - أنبياء ورسلًا أرسلهم إلى بعض ملوك الروم، وهو أنطيخس، والقرية التي كان فيها هذا الملك الذي أرسل الله إليه فيها هؤلاء الرسل أنطاكية. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: كان من حديث صاحب يس - فيما حدثنا محمد بن إسحاق - قال: مما بلغه عن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه اليماني، أنه كان رجلًا من أهل أنطاكية، وكان اسمه حبيبًا وكان يعمل الحرير، وكان رجلًا سقيمًا قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة قاصيًا، وكان مؤمنًا ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى - فيما يذكرون - فيقسمه نصفين، فيطعم نصفًا عياله، ويتصدق بنصف، فلم يهمه سقمه ولا عمله ولا ضعفه حين طهر قلبه، واستقامت فطرته، وكان بالمدينة التي هو بها؛ مدينة أنطاكية، فرعون من الفراعنة يقال له أنطيخس بن أنطيخس بن أنطيخس، يعبد الأصنام، صاحب شرك فبعث الله المرسلين، وهم ثلاثة: صادق وصدوق وشلوم، فقدم الله إليه وإلى أهل مدينته منهم اثنين، فكذبوهما، ثم عزز الله بثالث. وقال آخرون: بل كانوا من حواريي عيسى بن مريم، ولم يكونوا رسلًا لله، وإنما كانوا رسل عيسى بن مريم، ولكن إرسال عيسى بن مريم إياهم، لما كان عن أمر الله تعالى ذكره إياه بذلك، أضيف إرساله إياهم إلى الله، فقيل: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالثٍ ". ذكر من قال ذلك حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " واضرب لهم مثلًا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالثٍ فقالوا إنا إليكم مرسلون ". قال: ذكر لنا أن عيسى بن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية، مدينة بالروم، فكذبوهما، فأعزهما بثالث، " فقالوا إنا إليكم مرسلون... "، الآية. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، فلما دعته الرسل، ونادته بأمر الله، وصدعت بالذي أمرت به، وعابت دينهم وما هم عليه، قال: أصحاب القرية لهم: " إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذابٌ أليمٌ ". قالت لهم الرسل: " طائركم معكم "، أي أعمالكم، " أئن ذكرتم بل أنتم قومٌ مسرفون ". فلما أجمع هو وقومه على قتل الرسل بلغ ذلك حبيبًا، وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكرهم الله، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين، فقال: " يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون ". أي لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، وهم لكم ناصحون فاتبعوهم تهتدوا بهداهم. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد: قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما انتهى - يعني حبيبًا - إلى الرسل، قال: هل تسألون على هذا من أجر؟ قالوا: لا، فقال عند ذلك: " يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون ". رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: ثم ناداهم بخلاف ما هم عليه من عبادة الأصنام، وأظهر لهم دينه وعبادة ربه، وأخبرهم أنه لا يملك نفعه ولا ضره غيره، فقال: " وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون، أأتخذ من دونه آلهةً " إلى قوله: " إني أمنت بربكم فاسمعون " أي آمنت بربكم، الذي كفرتم به، فاسمعوا قولي. فلما قال لهم ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، استضعفوه لضعفه وسقمه، ولم يكن أحد يدفع عنه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة: قال: حدثني ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، أن عبد الله بن مسعود كان يقول: وطئوه بأرجلهم، حتى خرج قصبه من دبره. وقال الله له: ادخل الجنة، فدخلها حيًا يرزق فيها. قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها، فلما أفضى إلى رحمة الله وجنته وكرامته، قال: " يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ". وغضب الله له لاستضعافهم إياه غضبةً لم يبق معها من القوم شيئًا فعجل لهم النقمة بما استحلوا منه وقال: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جندٍ من السماء وما كنا منزلين "، يقول: ما كابدناهم بالجموع، أي الأمر أيسر علينا من ذلك " إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم خامدون ". فأهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق منهم باقية. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس، أنه كان يقول: كان اسم صاحب يس حبيبًا، وكان الجذام قد أسرع فيه. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي مخلد، قال: كان اسم صاحب يس حبيب بن مري. وكان فيهم: شمسون وكان من أهل قرية من قرى الروم؛ قد هداه الله لرشده، وكان قومه أهل أوثان يعبدونها فكان من خبره وخبرهم - فيما ذكر - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن المغيرة بن أبي لبيد، عن وهب بن منبه اليماني: أن شمسون كان فيهم رجلًا مسلمًا، وكانت أمه قد جعلته نذيرة، وكان من أهل قرية من قراهم، كانوا كفارًا يعبدون الأصنام، وكان منزله منها على أميال غير كثيرة، وكان يغزوهم وحده ويجاهدهم في الله، فيصيب منهم وفيهم حاجته، فيقتل ويسبي، ويصيب المال، وكان إذا لقيهم لقيهم بلحي بعير لا يلقاهم بغيره، فإذا قاتلوه وقاتلهم، وتعب وعطش انفجر له من الحجر الذي مع اللحي ماء عذب فيشرب منه حتى يروى، وكان قد أعطى قوةً في البطش، وكان لا يوثقه حديد ولا غيره، وكان على ذلك يجاهدهم في الله ويغزوهم، ويصيب منهم حاجته، لا يقدرون منه على شيء؛ حتى قالوا: لن تأتوه إلا من قبل امرأته، فدخلوا على امرأته، فجعلوا لها جعلًا، فقالت: نعم أنا أوثقه لكم، فأعطوها حبلًا وثيقًا، وقالوا: إذا نام فأوثقي يده إلى عنقه حتى نأتيه فنأخذه. فلما نام أوثقت يده إلى عنقه بذلك الحبل، فلما هب جلبه بيده، فوقع من عنقه، فقال لها: لم فعلت؟ فقالت: أجرب به قوتك، ما رأيت مثلك قط! فأرسلت إليهم أني قد ربطته بالحبل فلم أغن عنه شيئًا، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، فقالوا: إذا نام فاجعليها في عنقه، فلما نام جعلتها في عنقه، ثم أحكمتها، فلما هب جذبها، فوقعت من يده ومن عنقه، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت: أجرب به قوتك؛ ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمسون! أما في الأرض شيء يغلبك! قال: لا، إلا شيء واحد، قالت: وما هو؟ قال: ما أنا بمخبرك به، فلم تزل به تسأله عن ذلك - وكان ذا شعر كثير - فقال لها: ويحك! إن أمي جعلتني نذيرة، فلا يغلبني شيء أبدًا، ولا يضبطني إلا شعري فلما نام أوثقت يده إلى عنقه بشعر رأسه، فأوثقه ذلك، وبعثت إلى القوم، فجاءوا فأخذوه، فجدعوا أنفه وأذنيه، وفقئوا عينيه، ووقفوه للناس بين ظهراني المئذنة - وكانت مئذنةً ذات أساطين، وكان ملكهم قد أشرف عليها بالناس لينظروا إلى شمسون، وما يصنع به - فدعا الله شمسون حين مثلوا به ووقفوه أن يسلطه عليهم، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المئذنة التي عليها الملك والناس الذين معه فيجذبهما، فجذبهما فرد الله عليه بصره وما أصابوا من جسده، ووقعت المئذنة بالملك ومن عليها من الناس؛ فهلكوا فيها هدمًا. ذكر خبر جرجيس وكان جرجيس - فيما ذكر - عبدًا لله صالحًا من أهل فلسطين، ممن أدرك بقايا من حواريي عيسى بن مريم، وكان تاجرًا يكسب بتجارته ما يستغني به عن الناس، ويعود بالفضل على أهل المسكنة. وإنه تجهز مرة إلى ملك بالموصل، كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه وغيره من أهل العلم: أنه كان بالموصل داذانه، وكان قد ملك الشأم كله، وكان جبارًا عاتيًا لا يطيقه إلا الله تعالى. وكان جرجيس رجلًا صالحًا ممن أهل فلسطين، وكان مؤمنًا يكتم إيمانه في عصبة معه صالحين، يستخفون بإيمانهم، وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فسمعوا منهم، وأخذوا عنهم، وكان جرجيس كثير المال. عظيم التجارة، عظيم الصدقة، فكان يأتي عليه الزمان يتلف ماله في الصدقة حتى لا يبقى منه شيء؛ حتى يصير فقيرًا، ثم يضرب الضربة فيصيب مثل ماله أضعافًا مضاعفة؛ فكانت هذه حاله في امال. وكان إنما يرغب في المال، ويعمره ويكسبه من أجل الصدقة؛ لولا ذلك كان الفقر أحب إليه من الغنى. وكان لا يأمن ولاية المشركين عليه مخافة أن يؤذوه في دينه، أو يفتنوه عنه؛ فخرج يؤم ملك الموصل، ومعه مالٌ يريد أن يهديه له؛ لئلا يجعل لأحد من تلك الملوك عليه سلطانًا دونه؛ فجاءه حين جاءه، وقد برز في مجلس له، وعنده عظماء قومه وملوكهم؛ وقد أوقد نارًا، وقرب أصنافًا من أصناف العذاب الذي كان يعذب به من خالفه، وقد أمر بصنم يقال له: " أفلون منصب "، فالناس يعرضون عليه، فمن لم يسجد له ألقي في تلك النار، وعذب بأصناف ذلك العذاب. فلما رأى جرجيس ما يصنع فظع به وأعظمه. وحدث نفسه بجهاده، وألقى الله في نفسه بغضه ومحاربته، فعمد إلى المال الذي أراد أن يهديه له فقسمه في أهل ملته حتى لم يبق منه شيئًا؛ وكره أن يجاهده بالمال، وأحب أن يلي ذلك بنفسه؛ فأقبل عليه عند ما كان أشد غضبًا وأسفًا. فقال له: أعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئًا ولا لغيرك، وأن فوقك ربًا هو الذي يملكك وغيرك، هو الذي خلقك ورزقك، وهو الذي يحيك ويميتك، ويضرك وينفعك، وأنت قد عمدت إلى خلق من خلقه - قال له: كن فكان - أصم أبكم، لا ينطق ولا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، ولا يغني عنك من الله شيئًا. فزينته بالذهب والفضة لتجعله فتنة للناس، ثم عبدته دون الله، وأجبرت عليه عباد الله، ودعوته ربًا. فكلم الملك جرجيس بنحو هذا، من تعظيم الله وتمجيده، وتعريفه أمر الصنم، وأنه لا تصلح عبادته. فكان من جواب الملك إياه مسألته إياه عنه، ومن هو؟ ومن أين هو؟ فأجابه جرجيس أن قال: أنا عبد الله وابن عبده وابن أمته، أذل عباده وأفقرهم إليه، من التراب خلقت، وفيه أصير. وأخبره مالذي جاء به وحاله. وإنه دعا ذلك الملك جرجيس إلى عبادة الله ورفض عبادة الأوثان. وإن الملك دعا جرجيس إلى عبادة الصنم الذي يعبده. وقال: لو كان ربك الذي تزعم أنه ملك الملوك كما تقول، لرئي عليك أثره كما ترى أثري على من حولي من ملوك قومي. فأجابه جرجيس بتمجيد الله وتعظيم أمره. وقال له - فيما قال: أين تجعل طرقبلينا، وما نال بولايتك؛ فإنه عظيم قومك، من إلياس، وما نال إلياس بولاية الله! فإن إلياس كان بدؤه آدميًا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، فلم تتناه به كرامة الله حتى أنبت له الريش، وألبسه النور، فصار إنسيًا ملكيًا، سمائيًا أرضيًا، يطير مع الملائكة. وحدثني: أين تجعل مجليطيس، وما نال بولايتك: فإنه عظيم قومك، من المسيح بن مريم وما نال بولاية الله! فإنه الله فضله على رجال العالمين، وجعله وأمه آية للمعتبرين. ثم ذكر من أمر المسيح ما كان الله خصه به من الكرامة. وقال أيضًا: وحدثني: أين تجعل أم هذا الروح الطيب التي اختارها الله لكلمته، وطهر جوفها لروحه، وسودها إلى إمائه؟ فأين تجعلها وما نالت بولاية الله، من أزبيل وما نالت بولايتك؟ فإنها إذ كانت من شيعتك وملتك أسلمها الله عند عظيم ملكها إلى نفسها، حتى اقتحمت عليها الكلاب في بيتها، فانتهشت لحمها وولغت دمها، وجرت الثعالب والضباع أوصالها! فأين تجعلها وما نالت بولايتك من مريم ابنة عمران وما نالت بولاية الله! فقال له الملك: إنك لتحدثنا عن أشياء ليس لنا بها علم، فأتي بالرجلين اللذين ذكرت أمرهما؛ حتى أنظر إليهما، وأعتبر بهما؛ فإني أنكر أن يكون هذا في البشر. فقال له جرجيس: إنما جاءك افنكار من قبل الغرة بالله، وأما الرجلان فلن تراهما ولن يرياك؛ إلا أن تعمل بعملهما، فتنزل منازلهما. فقال له الملك: أما نحن فقد أعذرنا إليك. وقد تبين لنا كذبك، لأنك فخرت بأمور عجزت عنها، ولم تأت بتصديقها. ثم خير الملك جرجيس بين العذاب وبين السجود لأفلون، فيثيبه! فقال له جرجيس: إن كان أفلون هو الذي رفع السماء - وعدد عليه أشياء من قدرة الله - فقد صبت ونصحت لى، وإلا فاخسأ أيها النجس الملعون! فلما سمعه الملك يسبه ويسب آلهته غضب من قوله غضبًا شديدًا، وأمر بخشبة فنصبت له للعذاب، وجعلت عليه أمشاط الحديد، فخدش بها جسده حتى تقطع لحمه وجلده وعروقه، ينضج خلال ذلك بالخل والخردل. فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى إذا جعلت نارًا، أمر بها فسمر بها رأسه حتى سال منه دماغه. فلما ذلك لم يقتله، أمر بحوض من نحاس، فأوقد عليه حتى إذا جعله نارًا أمر به فأدخل في جوفه، وأطبق عليه، فلم يزل فيه حتى برد حره. فلما رأى ذلك لم يقتله، دعا به فقال: ألم تجد ألم هذا العذاب الذي تعذب به! فقال له جرجيس: أما أخبرتك أن لك ربًا هو أولى بك من نفسك! قال: بلى قد أخبرتني، قال: فهو الذي حمل عني عذابك، وصبرني ليحتج عليك. فلما قال له ذلك أيقن بالشر، وخافه على نفسه وملكه، وأجمع رأيه على أن يخلده في السجن، فقال الملأ من قومه: إنك إن تركته طليقًا يكلم الناس أوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مر له بعذاب في السجن يشغله عن كلام الناس. فأمر فبطح في السجن على وجهه، ثم أوتد في يديه ورجليه أربعة أوتاد من حديد. في كل ركن منها وتد، ثم أمر بأسطوان من رخام، فوضع على ظهره. حمل ذلك الأسطوان سبعة رجال فلم يقلوه، ثم أربعة عشر رجلًا فلم يلقوه، ثم ثمانية عشر رجلًا فأقلوه؛ فظل يومه ذلك موتدًا تحت الحجر. فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكًا - وذلك أول ما أيد بالملائكة، وأول ما جاءه الوحي - فقلع عنه الحجر، ونزع الأوتاد من يديه ورجليه، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه، فلما أصبح أخرجه من السجن، وقال له: الحق بعدوك فجاهده في الله حق جهاده؛ فإن الله يقول لك: أبشر واصبر، فإني أبتليك بعدوي هذا سبع سنين، يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرار، في كل ذلك أرد إليك روحك؛ فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك. فلم يشعر الآخرون إلا وقد وقف جرجيس على رءوسهم يدعوهم إلى الله. فقال له الملك: أجرجيس! قال: نعم، قال: من أخرجك من السجن؟ قال أخرجني الذي سلطانه فوق سلطانك. فلما قال له ذلك ملىء غيظًا، فدعا بأصناف العذاب حتى لم يخلف منها شيئًا، فلما رآها جرجيس تصنف له، أوجس في نفسه خيفة وجزعًا، ثم أقبل على نفسه يعاتبها بأعلى صوته، وهم يسمعون. فلما فرغ من عتابه نفسه مدوه بين خشبتين، ووضعوا عليه سيفًا على مفرق رأسه، فوشروه حتى سقط بين رجليه، وصار جزلتين، قم عمدوا إلى جزلتيه، فقطعوهما قطعًا. وله سبعة أسد ضارية في جب، وكانت صنفًا من أصناف عذابه، ثم رموا بجسده إليها، فلما هوى نحوها أمر الله الأسد فخضعت برءوسها وأعناقها، وقامت على براثنها، لا تألو أن تقيه الأذى؛ فظل يومه ذلك ميتًا. فكانت أول ميتة ذاقها. فلما أدركه الليل جمع الله له جسده الذي قطعوه بعضه على بعض. حتى سواه. ثم رد فيه روحه وأرسل ملكًا فأخرجه من قعر الجب، وأطعمه وسقاه. وبشره وعزاه. فلما أصبحوا قال له الملك: يا جرجيس، قال: لبيك! قال: اعلم أن القدرة التي خلق آدم بها من تراب التي هي أخرجتك من قعر الجب. فالحق بعدوك ثم جاهده في الله حق جهاده، ومت موت الصابرين. فلم يشعر الآخرون إلا وقد أقبل جرجيس. وهم عكوف على عيد لهم قد صنعوه فرحًا - زعموا بموت جرجيس - فلما نظروا إلى جرجيس مقبلًا، قالوا ما أشبه هذا بجرجيس! قالوا: كأنه هو؟ قال الملك: ما بجرجيس من خفاء، إنه لهو! ألا ترون إلى سكون ريحه، وقلة هيبته. قال جرجيس: بلى، أنا هو حقًا! بئس القوم أنتم! قتلتم ومثلتم. فكان الله - وحق له - خيرًا وأرحم منكم. أحياني ورد علي روحي هلم إلى هذا الرب العظيم الذي أراكم ما أراكم. فلما قال لهم ذلك، أقبل بعضهم على بعض، فقالوا: ساحر سحر أيديكم وأعينكم عنه. فجمعوا له من كان ببلادهم من السحرة؛ فلما جاء السحرة، قال الملك لكبيرهم: اعرض علي من كبير سحرك ما تسري به عني، قال له: ادع لي بثور من البقر، فلما أتي به نفث في إحدى أذنيه فانشقت باثنتين، ثم نفث في الأخرى، فإذا هو ثوران، ثم أمر بببذر فحرث وبذر، ونبت الزرع، وأينع وحصد، ثم داس وذرى، وطحن وعجن، وخبز وأكل ذلك في ساعة واحدة كما ترون! قال له الملك: هل تقدر على أن تمسخه لي دابة؟ قال الساحر: أى دابة أمسخه لك؟ قال: كلبًا. قال: ادع لي بقدح من ماء، فلما أتي بالقدح نفث فيه الساحر، ثم قال للملك: اعزم عليه أن يشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره؛ فلما فرغ منه قال له الساحر: ماذا تجد؟ قال: ما أجد إلا خيرًا، قد كنت عطشت فلطف الله لي بهذا الشراب، فقواني به عليكم. فلما قال له ذلك أقبل الساحر على الملك فقال: اعلم أيها الملك، أنك لو كنت تقاسي رجلًا مثلك إذًا كنت غلبته، ولكنك تقاسي جبار السموات، وهو الملك الذي لا يرام! وقد كانت امرأة مسكينة. سمعت بجرجيس وما يصنع من الأعاجيب. فأتته وهو في أشد ما هو فيه من البلاء، فقالت له: يا جرجيس. إني امرأة مسكينة، لم يكن لي مال ولا عيش إلا ثور كنت أحرث عليه فمات، وجئتك لترحمني وتدعو الله أن يحيى لي ثوري. فذرفت عيناه. ثم دعا الله أن يحيى لها ثورها، وأعطاها عصا. فقال: اذهبي إلى ثورك، فاقرعيه بهذه العصا وقولي له: احيَ بإذن الله. فقالت: يا جرجيس مات ثوري منذ أيام، وتفرقته السباع، وبيني وبينك أيام، فقال: لو لم تجدي منه إلا سنًا واحدة ثم قرعتها بالعصا لقام بإذن الله. فانطلقت حتى أتت مصرع ثورها، فكان أول شيء بدا لها من ثورها أحد روقيه وشعر ذنبه. فجمعت أحدهما إلى الآخر، ثم قرعتهما بالعصا التي أعطاها، وقالت كما أمرها، فعاش ثورها، وعملت عليه حتى جاءهم الخبر بذلك. فلما قال الساحر للملك ما قال، قال رجل من أصحاب الملك - وكان أعظمهم بعد الملك: اسمعوا مني أيها القوم أحدثكم، قالوا: نعم، فتكلم، قال: إنكم قد وضعتم أمر هذا الرجل على السحر، وزعمتم أنه سحر أيديكم عنه وأعينكم. فأراكم أنكم تعذبونه. ولم يصل إليه عذابكم! وأراكم أنكم قد قتلتموه فلم يمت، فهل رأيتم ساحرًا قط قدر أن يدرأ عن نفسه الموت، أو أحيا ميتًا قط! ثم قص عليهم فعل جرجيس، وفعلهم به، وفعله بالثور وصاحبته، واحتج عليهم بذلك كله، فقالوا له: إن كلامك لكلام رجل قد أصغى إليه، قال: ما زال أمره لي معجبًا منذ رأيت منه ما رأيت، قالوا له: فلعله استهواك! قال: بل آمنت وأشهد الله أني بريء مما تعبدون. فقام إليه الملك وصحابته بالخناجر، فقطعوا لسانه، فلم يلبث أن مات، وقالوا: أصابه الطاعون، فأعجله الله قبل أن يتكلم. فلما سمع الناس بموته أفزعهم، وكتموا شأنه، فلما رآهم جرجيس يكتمونه برز للناس، فكشف لهم أمره، وقص عليهم كلامه، فاتبعه على كلامه أربعة آلاف وهو ميت، فقالوا: صدق، ونعم ما قال! يرحمه الله! فعمد إليهم الملك فأوثقهم، ثم لم يزل يلون لهم العذاب ويقتلهم بالمثلات. حتى أفناهم. فلما فرغ منهم أقبل على جرجيس، فقال له: هلا دعوت ربك. فأحيا لك أصحابك؛ هؤلاء الذين قتلوا بجريرتك! فقال له جرجيس: ما خلى بينك وبينهم حتى خار لهم. فقال رجل من عظمائهم يقال له مجليطيس: إنك زعمت يا جرجيس أن إلهك هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وإني سائلك أمرًا إن فعله إلهك آمنت بك وصدقتك، وكفيتك قومي هؤلاء؛ هذه تحتنا أربعة عشر منبرًا حيث ترى، ومائدةٌ بيننا عليها أقداح وصحاف، وكلٌ صنع من الخشب اليابس، ثم هو من أشجار شتى؛ فادع ربك ينشئ هذه الآنية وهذه المنابر، وهذه المائدة، كما بدأها أول مرة؛ حتى تعود خضرًا نعرف كل عود منها بلونه وورقه وزهره وثمره. فقال له جرجيس: قد سألت أمرًا عزيزًا علي وعليك؛ وإنه على الله لهيّن. فدعا ربه، فما برحوا مكانهم حتى اخضرت تلك المنابر، وتلك الآنية كلها، فساخت عروقها، وألبست اللحاء، وتشعبت، ونبت ورقها وزهرها وثمرها؛ حتى عرفوا كل عود منها باسمه ولونه وزهره وثمره. فلما نظروا إلى ذلك انتدب له مجليطيس، الذي تمنى عليه ما تمنى، فقال: أنا أعذب لكم هذا الساحر عذابًا يضل عنه كيده. فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور جوفاء واسعة، ثم حشاها نفطًا ورصاصًا وكبريتًا وزرنيخًا، ثم أدخل جرجيس مع الحشو في جوفها، ثم أوقد تحت الصورة، فلم يزل يوقد حتى التهبت الصورة، وذاب كل شيء فيها واختلط، ومات جرجيس في جوفها. فلما مات أرسل الله ريحًا عاصفًا، فملأت السماء سحابًا أسود مظلمًا، فيه رعدٌ لا يفتر، وبرقٌ وصواعق متداركات، وأرسل الله إعصارًا فملأت بلادهم عجاجًا وقتامًا، حتى اسود ما بين السماء والأرض وأظلم، ومكثوا أيامًا متحيرين في تلك الظلمة، لا يفصلون بين الليل والنهار. وأرسل الله ميكائيل فاحتمل الصورة التي فيها جرجيس، حتى إذا أقلها ضرب بها الأرض ضربًا، فزع من روعته أهل الشأم أجمعون، وكلهم يسمعه في ساعة واحدة؛ فخروا لوجوههم صعقين من شدة الهول، وانكسرت الصورة، فخرج منها جرجيس حيًا، فلما وقف يكلمهم انكشفت الظلمة، وأسفر ما بين السماء والأرض، ورجعت إليهم أنفسهم. فقال له رجل منهم يقال له طرقبلينا: لا ندري يا جرجيس أنت تصنع هذه العجائب أم ربك؟ فإن كان هو الذي يصنعها، فادعه يحيي لنا موتانا، فإن في هذه القبور التي ترى أمواتًا من أمواتنا، منهم من نعرف ومنهم من مات قبل زماننا، فادعه يحيهم حتى يعودوا كما كانوا ونكلمهم، ونعرف من عرفنا منهم، ومن لا نعرف أخبرنا خبره. فقال له جرجيس: لقد علمت ما يصفح الله عنكم هذا الصفح، ويريكم هذه العجائب إلا ليتم عليكم حججه، فتستوجبوا بذلك غضبه. ثم أمر بالقبور فنبشت وهي عظام ورفات ورميم. ثم أقبل على الدعاء فما برحوا مكانهم؛ حتى نظروا إلى سبعة عشر إنسانًا: تسعة رهط وخمس نسوة وثلاثة صبية؛ فإذا شيخ منهم كبير، فقال له جرجيس: أيها الشيخ، ما اسمك؟ فقال: اسمي يوبيل، فقال: متى مت؟ قال: في زمان كذا وكذا، فحسبوا فإذا هو قد مات منذ أربعمائة عام. فلما نظر إلى ذلك الملك وصحابته، قالوا: لم يبق من أصناف عذابكم شيء إلا قد عذبتموه، إلا الجوع والعطش، فعذبوه بهما. فعمدوا إلى بيت عجوز كبيرة فقيرة، كان حريزًا، وكان لها ابنٌ أعمى أبكم مقعد، فحصروه في بيتها فلا يصل إليه من عند أحدٍ طعام ولا شراب. فلما بلغه الجوع، قال للعجوز: هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: لا والذي يحلف به، ما عهدنا بالطعام منذ كذا وكذا، وسأخرج وألتمس لك شيئًا. قال لها جرجيس: هل تعرفين الله؟ قالت له: نعم، قال: فإياه تعبدين؟ قالت: لا، قال: فدعاها إلى الله فصدقته، وانطلقت تطلب له شيئًا، وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فما كان كشيء حتى اخضرت تلك الدعامة، فأنبتت كل فاكهة تؤكل أو تعرف. أو تسمى حتى كان فيما أنبتت اللياء واللوبياء. قال أبو جعفر: اللياء نبت بالشأم له حب يؤكل. وظهر للدعامة فرع من فوق البيت أظله وما حوله وأقبلت العجوز، وهو فيما شاء يأكل رغدا؛ فلما رأت الذي حدث في بيتها من بعدها، قالت: آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع، فادع هذا الرب العظيم ليشفي ابني، قال: أدنيه مني، فأدنته منه، فبصق في عينيه فأبصر، فنفث في أذنيه فسمع، قالت له: أطلق لسانه ورجليه، رحمك الله! قال: أخّريه؛ فإن له يومًا عظيمًا. وخرج الملك يسير في مدينته، فلما نظر إلى الشجرة، قال لأصحابه: إني أرى شجرة بمكانٍ ما كنت أعرفها به، قالوا له: تلك الشجرة نبتت لذلك الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع؛ فهو فيما شاء قد شبع منها، وشبعت الفقيرة وشفى لها ابنها. فأمر بالبيت فهدم، وبالشجرة لتقطع، فلما هموا بقطعها أيبسها الله تعالى كما كانت أول مرة، فتركوها، وأمر بجرجيس فبطح على وجهه وأوتد له أربعة أوتاد، وأمر بعجل فأوقر أسطوانًا ما حمل، وجعل في أسفل العجل خناجر وشفارًا، ثم دعا بأربعين ثورًا، فنهضت بالعجل نهضة واحدة، وجرجيس تحتها، فتقطع ثلاث قطع، ثم أمر بقطعة فأحرقت بالنار؛ حتى إذا عادت رمادًا بعث بذلك الرماد رجالًا فذروه في البحر، فلم يبرحوا مكانهم حتى سمعوا صوتًا من السماء يقول: يا بحر؛ إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب، فإني أريد أن أعيده كما كان. ثم أرسل الله الرياح فأخرجته من البحر، ثم جمعته حتى عاد الرماد صبرة كهيئته قبل أن يذروه، والذين ذروه قيام لم يبرحوا. ثم نظروا إلى الرماد يثور كما كان، حتى خرج جرجيس مغبرًا ينفض رأسه، فرجعوا، ورجع جرجيس معهم، فلما انتهوا إلى الملك أخبروه خبر الصوت الذي أحياه، والريح التي جمعته. فقال له الملك: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لي ولك! فلولا أن يقول الناس إنك قهرتني وغلبتني لاتبعتك وآمنت بك؛ ولكن اسجد لأفلون سجدة واحدة، أو اذبح له شاة واحدة، ثم أنا أفعل ما يسرك. فلما سمع جرجيس هذا من قوله طمع أن يهلك الصنم حين يدخله عليه، رجاء أن يؤمن له الملك حين يهلك صنمه، وييئس منه، فخدعه جرجيس، فقال: نعم؛ إذا شئت فأدخلني على صنمك أسجد له، وأذبح له، ففرح الملك بقوله، فقام إليه فقبل يديه ورجليه ورأسه، وقال: إني أعزم عليك ألا تظل هذا اليوم، ولا تبيت هذه الليلة إلا في بيتي وعلى فراشي، ومع أهلي حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، فيرى الناس كرامتك علي. فأخلى له بيته، وأخرج منه من كان فيه. فظل فيه جرجيس؛ حتى إذا أدركه الليل، قام يصلي، ويقرأ الزبور - وكان أحسن الناس صوتًا - فلما سمعته امرأة الملك استجابت له، ولم يشعر إلا وهي خلفه تبكي معه، فدعاها جرجيس إلى الإيمان فآمنت، وأمرها فكتمت إيمانها. فلما أصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجد لها، وقيل للعجوز التي كان سجن في بيتها: هل علمت أن جرجيس قد فتن بعدك، وأصغى إلى الدنيا، وأطمعه الملك في ملكه، وقد خرج به إلى بيت أصنامه ليسجد لها! فخرجت العجوز في أعراضهم، تحمل ابنها على عاتقها، وتوبخ جرجيس، والناس مشتغلون عنها. فلما دخل جرجيس بيت الأصنام، ودخل الناس معه، نظر فإذا العجوز وابنها على عاتقها أقرب الناس منه مقامًا، فدعا ابن العجوز باسمه، فنطق بإجابته، وما تكلم قبل ذلك قط، ثم اقتحم عن عاتق أمه يمشي على رجليه سويتين، وما وطئ الأرض قبل ذلك قط بقدميه، فلما وقف بين يدي جرجيس قال: اذهب، فادع لي هذه الأصنام، وهي حينئذ على منابر من ذهب، واحد وسبعون صنمًا. وهم يعبدون الشمس والقمر معها، فقال له الغلام: كيف أقول للأصنام؟ قال: تقول لها: إن جرجيس يسألك ويعزم عليك بالذي خلقك إلا ما جئته. فلما قال لها الغلام ذلك، أقبلت تدحرج إلى جرجيس، فلما انتهت إليه ركض الأرض برجله، فخسف بها وبمنابرها، وخرج إبليس من جوف صنم منها هاربًا فرقًا من الخسف. فلما مر بجرجيس، أخذ بناصيته، فخضع له برأسه وعنقه، وكلمه جرجيس فقال له: أخبرني أيتها الروح النجسة، والخلق الملعون، ما الذي يحملك على أن تهلك نفسك، وتهلك الناس معك، وأنت تعلم أنك وجندك تصيرون إلى جهنم! فقال له إبليس: لو خيرت بين ما أشرقت عليه الشمس، وأظلم عليه الليل، وبين هلكة بني آدم وضلالتهم أو واحد منهم طرفة عين، لاخترت طرفة العين على ذلك كله؛ وإنه ليقع لي من الشهوة في ذلك واللذة مثل جميع ما يتلذذ به جميع الخلق. ألم تعلم يا جرجيس أن الله أسجد لأبيك آدم جميع الملائكة، فسجد له: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل؛ وجميع الملائكة المقربين، وأهل السموات كلهم، وامتنعت من السجود، فقلت: لا أسجد لهذا الخلق وأنا خير منه! فلما قال هذا خلاه جرجيس؛ فما دخل إبليس منذ يومئذ جوف صنم، مخافة الخسف، ولا يدخله بعدها - فيما يذكرون - أبدًا. وقال الملك: يا جرجيس خدعتني وغررتني، وأهلكت آلهتي، فقال له جرجيس: إنما فعلت ذلك عمدًا لتعتبر ولتعلم أنها لو كانت آلهة كما تقول إذًا لامتنعت مني، فكيف ثقتك ويلك بآلهة لم تمنع أنفسها مني! وإنما أنا مخلوق ضعيف لا أملك إلا ما ملّكني ربِّي. قال: فلما قال هذا جرجيس، كلمتهم امرأة الملك، وذلك حين كشفت لهم إيمانها، وباينتهم بدينها، وعددت عليهم أفعال جرجيس، والعبر التي أراهم. وقالت لهم: ما تنتظرون من هذا الرجل إلا دعوة فتخسف بكم الأرض فتهلكوا، كما هلكت أصنامكم. الله الله أيها القوم في أنفسكم! فقال لها الملك: ويحًا لك إسكندرة! ما أسرع ما أضلك هذا الساحر في ليلة واحدة! وأنا أقاسيه منذ سبع سنين؛ فلم يطق مني شيئًا. قالت له: أفما رأيت الله كيف يظفره بك، ويسلطه عليك، فيكون له الفلج والحجة عليك في كل موطن! فأمر بها عند ذلك فحملت على خشبة جرجيس التي كان علق عليها، فعلقت بها، وجعلت عليها الأمشاط التي جعلت على جرجيس. فلما ألمت من وجع العذاب قالت: ادع ربك يا جرجيس يخفف عني، فإني قد ألمت من العذاب فقال: انظري فوقك. فلما نظرت ضحكت، فقال لها: ما الذي يضحكك؟ قالت: أرى مَلَكين فوقي، معهما تاج من حلي الجنة ينتظران به روحي أن تخرج، فإذا خرجت زيناها بذلك التاج، ثم صعدا بها إلى الجنة، فلما قبض الله روحها أقبل جرجيس على الدعاء؛ فقال: اللهم أنت الذي أكرمتني بهذا البلاء، لتعطيني به فضائل الشهداء! اللهم فهذا آخر أيامي الذي وعدتني فيه الراحة من بلاء الدنيا، اللهم فإني أسألك ألا تقبض روحي، ولا أزول من مكاني هذا حتى تنزل بهذا القوم المتكبرين من سطواتك ونقمتك ما لا قبل لهم به، وما تشفي به صدري، وتقر به عيني؛ فإنهم ظلموني وعذبوني. اللهم وأسألك ألا يدعو بعدي داعٍ في بلاء ولا كرب فيذكرني، ويسألك باسمي إلا فرجت عنه ورحمته وأجبته، وشفعتني فيه. فلما فرغ من هذا الدعاء، أمطر الله عليهم النار، فلما احترقوا عمدوا إليه فضربوه بالسيوف غيظًا من شدة الحريق، ليعطيه الله تعالى بالقتلة الرابعة ما وعده. فلما احترقت المدينة بجميع ما فيها، وصارت رمادًا، حملها الله من وجه الأرض حتى أقلها، ثم جعل عاليها سافلها، فلبثت زمانًا من الدهر يخرج من تحتها دخان منتن، لا يشمه أحد إلا سقم سقمًا شديدًا، إلا أنها أسقام مختلفة، لا يشبه بعضها بعضًا، فكان جميع من آمن بجرجيس، وقتل معه أربعة وثلاثين ألفًا، وامرأة الملك. رحمها الله! ونرجع الآن إلى: ذكر الخبر عن ملوك الفرس وسني ملكهم لسياق تمام التأريخ؛ إذ كنا قد ذكرنا الجلائل من الأمور التي كانت في أيام ملوك الطوائف في الفرس، وبني إسرائيل، والروم، والعرب، إلى عهد أردشير. ذكر ملك أردشير بن بابك ولما مضى من لدن ملك الإسكندر أرض بابل في قول النصارى وأهل الكتب الأول خمسمائة سنة وثلاث وعشرون سنة، وفي قول المجوس مائتان وست وستون سنة؛ وثب أردشير بن بابك شاه ملك خير بن ساسان الأصغر بن بابك، بن ساسان بن بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن الملك بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب بن كيوجي بن كيمنش - وقيل في نسبه: أردشير بن بابك بن ساسان بن بابك بن زرار بن بهآفريذ بن ساسان الأكبر، بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب - بفارس طالبًا - بزعمه - بدم ابن عمه دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار، الذي حارب الإسكندر، فقتله حاجباه، مريدًا - فيما يقول - رد الملك إلى أهله، وإلى ما لم يزل عليه أيام سلفه وآبائه الذي مضوا قبل ملوك الطوائف، وجمعه لرئيس واحد وملك واحد. وذكر أن مولده كان بقرية من قرى إصطخر يقال لها طيروده، من رستاق خير من كورة إصطخر. وكان جده ساسان شجاعًا شديد البطش، وإنه بلغ من شجاعته وشدة بطشه، أنه حارب وحده ثمانين رجلًا من أهل إصطخر، ذوي بأس ونجدة، فهزمهم. وكانت امرأته من نسل قوم من الملوك، كانوا بفارس، يعرفون بالبازرنجين، يقال لها: رامبهشت، ذات جمال وكمال، وكان ساسان قيمًا على بيت نار إصطخر، يقال له بيت نار أنا هيذ، وكان مغرمًا بالصيد والفروسية، فولدت رامبهشت لساسان بابك، وطول شعره حين ولدته أطول من شبر. فلما احتنك قام بأمر الناس بعد أبيه، ثم ولد له ابنه أردشير. وكان ملك إصطخر يومئذ رجل من البازرنجين، يقال له - فيما حدثت عن هشام بن محمد - جوزهر. وقال غيره: كان يسمى جزهر، وكان له خصي يقال له تيري، قد صيره أرجبذا بدار بجرد. فلما أتى لأردشير سبع سنين، سار به أبوه إلى جزهر، وهو بالبيضاء، فوقفه بين يديه، وسأله أن يضمه إلى تيري؛ ليكون ربيبًا له، وأرجبذا من بعده في موضعه. فأجابه إلى ذلك، وكتب بما ساله من ذلك سجلًا، وصار به إلى تيري، فقبله أحسن قبول، وتبناه. فلما هلك تيري تقلد أردشير الأمر، وحسن قيامه به، وأعلمه قوم من المنجمين والعرافين صلاح مولده، وأنه يملك البلاد. فذكر أن أردشير تواضع واستكان لذلك، ولم يزل يزداد في الخير كل يوم، وأنه رأى في نومه ملكًا جلس إلى رأسه، فقال له: إن الله يملكه البلاد؛ فليأخذ لذلك أهبته، فلما استيقظ سر بذلك، وأحس من نفسه قوةً وشدة بطسش، لم يكن يعهد مثله. وكان أول ما فعل أنه سار إلى موضع من دار بجرد، يقال له جوبانان، فقتل ملكًا كان بها يقال له فاسين. ثم سار إلى موضع يقال له كونس، فقتل ملكًا كان بها يقال له منوشهر، ثم إلى موضع يقال له لروير، فقتل ملكًا كان بها يقال له دارا، وملّك هذه المواضيع قومًا من قبله، ثم كتب إلى أبيه بما كان منه، وأمره بالوثوب بجزهر وهو بالبيضاء، ففعل ذلك، وقتل جزهر وأخذ تاجه، وكتب إلى أردوان البهلوي ملك الجبال وما يتصل بها، يتضرع له ويسأله الإذن في تتويج سابور ابنه بتاج جزهر. فكتب إليه أردوان كتابًا عنيفًا، وأعلمه أنه وابنه أردشير على الخلاف بما كان من قتلهما من قتلا - فلم يحفل بابك بذلك، وهلك في تلك الأيام، فتتوج سابور ابن بابك بالتاج، وملك مكان أبيه، وكتب إلى أردشير أن يشخص إليه. فامتنع أردشير من ذلك، فغضب سابور من امتناعه، وجمع جموعًا، وسار بهم نحوه ليحاربه، وخرج من إصطخر، فألفى بها عدة من إخوته، كان بعضهم أكبر سنًا منه، فاجتمعوا وأحضروا التاج وسرير الملك، فسلم الجميع لأردشير، فتتوج بالتاج، وجلس على السرير، وافتتح أمره بقوة وجد، ورتب قومًا مراتب، وصير رجلًا يقال له أبرسام بن رحفر وزيرًا، وأطلق يده وفوض إليه، وصير رجلًا يقال له فاهر موبذان موبذ، وأحس من إخوته وقوم كانوا معه بالفتك به، فقتل جماعة منهم كثيرة. ثم أتاه أن أهل دارا بجرد قد فسدوا عليه، فعاد إليها حتى افتتحها بعد أن قتل جماعة من أهلها. ثم سار إلى كرمان، وبها ملك يقال له: بلاش، فاقتتل وهو قتالًا شديدًا وقاتل أردشير بنفسه حتى أسر بلاش، واستولى على المدينة؛ فملّك أردشير على كرمان ابنًا له يقال له أردشير أيضًا. وكان في سواحل بحر فارس ملك يقال له أبتنبود، كان يعظم ويعبد، فسار إليه أردشير فقتله وقطعه بسيفه نصفين، وقتل من كان حوله، واستخرج من مطامير كانت لهم كنوزًا مجموعة فيها، وكتب إلى مهرك، وكان ملك إيراهسان من أردشير خرة، وإلى جماعة من أمثاله في طاعته، فلم يفعلوا، فسار إليهم، فقتل مهرك، ثم سار إلى جور، فأسسها، وأخذ في بناء الجوسق المعروف بالغربال، وبيت نار هناك. فبينا هو كذلك إذ ورد عليه رسول الأردوان بكتاب منه، فجمع أردشير الناس لذلك، وقرأ الكتاب بحضرتهم؛ فإذا فيه: إنك قد عدوت طورك، واجتلبت حتفك، أيها الكردي المربى في خيام الأكراد! من أذن لك في التاج الذي لبسته، والبلاد التي احتويت عليها وغلبت ملوكها وأهلها! ومن أمرك ببناء المدينة التي أسستها في صحراء - يريد جور - مع أنا إن خليناك وبناءها فابتن في صحراء طولها عشرة فراسخ مدينةً، وسمها رام أردشير. وأعلمه أنه قد وجه إليه ملك الأهواز ليأتيه به في وثاق. فكتب إليه أردشير: إن الله حباني بالتاج الذي لبسته، وملّكني البلاد التي افتتحتها، وأعانني على من قتلت من الجبابرة والملوك؛ وأما المدينة التي أبنيها وأسميها رام أردشير، فأنا أرجو أن أمكن منك، فأبعث برأسك وكنوزك إلى بيت النار الذي أسسته في أردشير خرة. ثم شخص أردشير نحو إصطخر، وخلف أبرسام بأردشير خرة، فلم يلبث أردشير إلا قليلًا حتى ورد عليه كتاب أبرسام بموافاة ملك الأهواز، وانصرافه منكوبًا. ثم سار إلى إصبهان فأسر شاذ سابور ملكها، وقتله، ثم عاد إلى فارس، وتوجه لمحاربة نيروفر صاحب الأهواز، وسار إلى الرجان وإلى بنيان وطاشان من رامهرمز، ثم إلى سرَّق. فلما سار إلى ما هنالك، ركب في رهط من أصحابه؛ حتى وقف على شاطئ دجيل، فظفر بالمدينة، وابتنى مدينة سوق الأهواز، وانصرف إلى فارس بالغنائم؛ ثم ارتحل من فارس راجعًا إلى الأهواز على طريق جره وكازرون، ثم صار من الأهواز إلى ميسان، فقتل ملكًا كان بها يقال له بندو، وبنى هنالك كرخ ميسان، ثم انصرف إلى فارس، وأرسل إلى أردوان يرتاد موضعًا يقتتلان فيه، فأرسل إليه أردوان: إني أوافيك في صحراء تدعى هرمزجان، لانسلاخ مهرماه. فوافاه أردشير قبل الوقت، وتبوأ من الصحراء موضعًا، وخندق على نفسه وجنده، واحتوى على عينٍ كانت هناك، ووافاه أردوان. فاصطف القوم للقتال، وقد تقدم سابور بن أردشير دافعًا عنه، ونشب القتال بينهم، فقتل سابور دارا بنداذ، كاتب أردوان بيده، فانقض أردشير من موضعه إلى أردوان حتى قتله، وكثر القتل في أصحابه، وهرب من بقي على وجهه. ويقال: إن أردشير نزل حتى توطأ رأس أردوان بقدمه. وفي ذلك اليوم سمي أردشير " شاهنشاه ". ثم سار من موضعه إلى همذان فافتتحها، وإلى الجبل وأذربيجان وإرمينية والموصل عنوة، ثم سار من الموصل إلى سورستان؛ وهي السواد فاحتازها، وبنى على شاطئ دجلة قبالة مدينة طهسبون - وهي المدينة التي في شرقي المدائن - مدينة غربية وسماها به أردشير، وكورها وضم إليها بهرسير، والرومقان، ونهر درقيط، وكوثى ونهر جوبر، واستعمل عليها عمالًا، ثم توجه من السواد إلى إصطخر، وسار منها إلى سجستان، ثم جرجان، ثم إلى أبرشهر، ومرو، وبلخ، وخوارزم؛ إلى تخوم بلاد خراسان. ثم رجع إلى مرو، وقتل جماعة وبعث رءوسهم إلى بيت نار أناهيذ، ثم انصرف من مرو إلى فارس. ونزل جور، فأتته رسل ملك كوشان، وملك طوران، وملك مكران بالطاعة. ثم توجه أردشير من جور إلى البحرين، فحاصر سنطرق ملكها، واضطره الجهد إلى أن رمى بنفسه من سور الحصن، فهلك. ثم انصرف إلى المدائن، فأقام بها وتوج سابور ابنه بتاجه في حياته. ويقال: إنه كانت بقرية يقال لها ألار، من رستاق كوجران من رساتيق سيف أردشير خرة ملكةٌ تعظم وتعبد، فاجتمعت لها أموال وكنوز ومقاتلة. فحارب أردشير سدنتها وقتلها، وغنم أموالًا وكنوزًا عظامًا كانت لها: وإنه كان بنى ثماني مدن؛ منها بفاس مدينة أردشير خرة؛ وهي جور، ومدينة رام أردشير، ومدينة ريو أردشير، وبالأهواز هرمز أردشير؛ وهي سوق الأهواز، وبالسواد به أردشير، وهي غربي المدائن، وإستاباذ أردشير؛ وهي كرخ ميسان، وبالبحرين فنياذ أردشير؛ وهي مدينة الخط، وبالموصل بوذ أردشير؛ وهي حزة. وذكر أن أردشير عند ظهوره كتب إلى ملوك الطوائف كتبًا بليغة، احتج عليهم فيها، ودعاهم إلى طاعته، فلما كان في آخر أمره رسم لمن بعده عهده، ولم يزل محمودًا مظفرًا منصورًا، لا يفل له جمع، ولا ترد له راية؛ وقهر الملوك حول مملكته وأذلهم، وأثخن في الأرض، وكوّر الكور، ومدّن المدن، ورتّب المراتب، واستكثر من العمارة. وكان ملكه من وقت قتله أردوان إلى أن هلك أربع عشرة سنة. وقال بعضهم: كان ملكه أربع عشرة سنة وعشرة أشهر. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: قدم أردشير في أهل فارس يريد الغلبة على الملك بالعراق، فوافق بابا ملكًا كان على الأرمانيين، ووافق أردوان ملكًا على الأردوانيين. قال هشام: الأرمانيون أنباط السواد، والأردوانيون أنباط الشأم. قال: وكل واحد منهما يقاتل صاحبه على الملك، فاجتمعا على قتال أردشير. فقاتلاه متساندين، يقاتله هذا يومًا، وهذا يومًا؛ فإذا كان يوم بابا لم يقم له أردشير، وإذا كان يوم أردوان لم يقم لأردشير؛ فلما رأى ذلك أردشير صالح بابا على أن يكف عنه ويدعه وأردوان، ويخلي أردشير بين بابا وبين بلاده وما فيها، وتفرغ أردشير لحرب أردوان، فلم يلبث أن قتله واستولى على ما كان له، وسمع له، وأطاع بابا، فضبط أردشير ملك العراق ودانت له ملوكها، وقهر من كان يناوئه من أهلها؛ حتى حملهم على ما أراد مما خالفهم ووافقه. ولما استولى أردشير على الملك بالعراق كره كثير من تنوخ أن يقيموا في مملكته، وأن يدينوا له، فخرج من كان منهم من قبائل قضاعة الذين كانوا أقبلوا مع مالك وعمرو ابني فهم، ومالك بن زهير وغيرهم، فلحقوا بالشأم إلى من هنالك من قضاعة. وكان ناس من العرب يحدثون في قومهم الأحداث، أو تضيق بهم المعيشة، فيخرجون إلى ريف العراق، وينزلون الحيرة على ثلاث أثلاث: ثلث تنوخ، وهو من كان يسكن المظال وبيوت الشعر والوبر في غربي الفرات، فيما بين الحيرة والأنبار وما فوقها. والثلث الثاني العباد، وهم الذين كانوا سكنوا الحيرة وابتنوا بها. ولثلث الثالث الأحلاف، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة، ونزلوا فيهم، ممن لم يكن من تنوخ الوبر؛ ولا من العباد الذين دانوا لأردشير. وكانت الحيرة والأنبار بنيتا جميعًا في زمن بختنصر، فخربت الحيرة لتحول أهلها عنها عند هلاك بختنصر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة، إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عدي، باتخاذه إياها منزلًا، فعمرت الحيرة خمسمائة سنة وبضعًا وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة، ونزلها الإسلام؛ فكان جميع ملك عمرو بن عدي مائة سنة وثماني عشرة سنة، من ذلك في زمن أردوان وملوك الطوائف خمس وتسعون سنة، وفي زمن ملوك فارس ثلاث وعشرون سنة؛ من ذلك في زمن أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وفي زمن سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران. ذكر الخبر عن القائم كان بملك فارس بعد أردشير بن بابك ولما هلك أردشير بن بابك، قام بملك فارس من بعده ابنه سابور. وكان أردشير بن بابك لما أفضى إليه الملك أسرف في قتل الأشكانية، الذين منهم كان ملوك الطوائف، حتى أفناهم بسبب أليّة كان ساسان بن أردشير بن بهمن بن إسفنديار الأكبر، جد أردشير بن بابك، كان آلاها، أنه إن ملك يومًا من الدهر لم يستبق من نسل أشك بن خرة أحدًا وأوجب ذلك على عقبه، وأوصاهم بألا يبقوا منهم أحدًا إن هم ملكوا، أو ملك منهم أحد يومًا. فكان أول من ملك من ولد ولده ونسله أردشير بن بابك، فقتلهم جميعًا؛ نساءهم ورجالهم، فلم يستبق منهم أحدًا لعزمة جده ساسان. فذكر أنه لم يبق منهم أحد، غير أن جارية كان وجدها أردشير في دار المملكة، فأعجبه جمالها وحسنها، فسألها - وكانت ابنة الملك المقتول - عن نسبها. فذكرت أنها كانت خادمًا لبعض نساء الملك، فسألها: أبكرٌ أنت أم ثيب؟ فأخبرته أنها بكر؛ فواقعها واتخذها لنفسه، فعلقت منه فلما أمنته على نفسه لاستمكانها منه بالحبل، أخبرته أنها من نسل أشك، فنفر منها ودعا هرجبذا أبرسام - وكان شيخًا مسنًا - فأخبره أنها أقرت أنها من نسل أشك، وقال: نحن أولى باستتمام الوفاء بنذر أبينا ساسان، وإن كان موقعها من قلبي على ما قد علمت، فانطلق بها فاقتلها. فمضى الشيخ ليقتلها، فأخبرته أنها حبلى؛ فأتى بها القوابل، فشهدن بحبلها، فأودعها سربًا في الأرض، ثم قطع مذاكيره فوضعها في حق، ثم ختم عليه، ورجع إلى الملك، فقال له الملك: ما فعلت؟ قال: قد استودعتها بطن الأرض، ودفع الحق إليه، وسأله أن يختم عليه بخاتمه، ويودعه بعض خزائنه ففعل، فأقامت الجارية عند الشيخ، حتى وضعت غلامًا، فكره الشيخ أن يسمي ابن الملك دونه، وكره أن يعلمه به صبيًا حتى يدرك، ويستكمل الأدب. وقد كان الشيخ أخذ قياس الصبي ساعة ولد، وأقام له الطالع، فعلم عند ذلك أن سيملك، فسماه اسمًا جامعًا يكون صفة واسمًا ويكون فيه بالخيار إذا علم به، فسماه " شاه بور "، وترجمتها بالعربية: ابن الملك، وهو أول من سمي هذا الاسم، وهو سابور الجنود بالعربية، بن أردشير. وقال بعضهم: بل سماه " أشه بور "، ترجمتها بالعربية: ولد أشك، الذي كانت أم الغلام من نسله. فغبر أردشير دهرًا لا يولد له، فدخل عليه الشيخ الأمين، الذي عنده الصبي، فوجده محزونًا، فقال: ما يحزنك أيها الملك؟ فقال له أردشير: وكيف لا أحزن، وقد ضربت بسيفي ما بين المشرق والمغرب حتى ظفرت بحاجتي، وصفا لي الملك ملك آبائي، ثم أهلك لا يعقبني فيه عقب، ولا يكون لي فيه بقية! فقال له الشيخ: سرك الله أيها الملك وعمرك! لك عندي ولد طيب نفيس، فادع بالحق الذي استودعتك، وختمته بخاتمك أرك برهان ذلك. فدعا أردشير بالحق، فنظر إلى نقش خاتمه، ثم فضه، وفتح الحق، فوجد فيه مذاكير الشيخ، وكتابًا فيه: إنا لما اختبرنا ابنة أشك التي علقت من ملك الملوك أردشير حين أمرنا بقتلها حين حملها، لم نستحل إتواء زرع الملك الطيب، فأودعناها بطن الأرض كما أمرنا ملكنا، وتبرأنا إليه من أنفسنا لئلا يجد عاضهٌ إلى عضهها سبيلًا، وقمنا بتقوية الحق المنزوع حتى لحق بأهله، وذلك في ساعة كذا من عام كذا. فأمره أردشير عند ذلك أن يهيئه في مائة غلام. وقال بعضهم: في ألف غلام من أترابه وأشباهه في الهيئة والقامة، ثم يدخلهم عليه جميعًا لا يفرق بينهم في زيٍ ولا قامة ولا أدب؛ ففعل ذلك الشيخ؛ فلما نظر إليهم أردشير قبلت نفسه ابنه من بينهم، واستحلاه من غير أن يكون أشير له إليه أو لحن به. ثم أمر بهم جميعًا فأخرجوا إلى حجرة الإيوان، فأعطوا صوالجة، فلعبوا بالكرة وهو في الإيوان على سريره، فدخلت الكرة في الإيوان الذي هو فيه، فكاع الغلمان جميعًا أن يدخلوا الإيوان، وأقدم سابور من بينهم فدخل فاستدل أردشير بدخوله عليه، وإقدامه وجرأته مع ما كان من قبول نفسه له أول مرة حين رآه، ورقته عليه دون أصحابه أنه ابنه. فقال له أردشير بالفارسية: ما اسمك؟ فقال الغلام: شاه بور، فقال: أردشير: شاه بور! فلما ثبت عنده أنه ابنه شهر أمره، وعقد له التاج من بعده. وكان سابور قد ابتلى منه أهل فارس - قبل أن يفضي إليه الملك في حياة أبيه - عقلًا وفضلًا وعلمًا، مع شدة بطش، وبلاغة منطق، ورأفة بالرعية ورقة. فلما عقد التاج على رأسه، اجتمع إليه العظماء، فدعوا له بطول البقاء، وأطنبوا في ذكر والده وذكر فضائله، فأعلمهم أنهم لم يكونوا يستدعون إحسانه بشيء يعدل عنده ذكرهم والده، ووعدهم خيرًا. ثم أمر بما كان في الخزائن من الأموال، فوسع بها على الناس، وقسمها فيمن رآه لها موضعًا؛ من الوجوه والجنود وأهل الحاجة، وكتب إلى عماله بالكور والنواحي أن يفعلوا مثل ذلك في الأموال التي في أيديهم، فوصل من فضله وإحسانه إلى القريب والبعيد، والشريف والوضيع، والخاص والعام ما عمهم ورفغت معايشهم. ثم تخير لهم العمال، وأشرف عليهم وعلى الرعية إشرافًا شديدًا، فبان فضل سيرته، وبعد صوته، وفاق جميع الملوك. وقيل: إنه سار إلى مدينة نصيبين، لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه، وفيها جنود من جنود الروم، فحاصرهم حينًا، ثم أتاه عن ناحية من خراسان ما احتاج إلى مشاهدته، فشخص إليها حتى أحكم أمرها، ثم رجع إلى نصيبين. وزعموا أن سور المدينة تصدع وانفرجت له فرجة دخل منها، فقتل المقاتلة وسبى وأخذ أموالًا عظيمة كانت لقيصر هنالك، ثم تجاوزها إلى الشأم وبلاد الروم، فافتتح من مدائنها مدنًا كثيرة. وقيل: إن فيما افتتح قالوقية وقذوقية، وإنه حاصر ملكًا كان بالروم، يقال له الريانوس بمدينة أنطاكية، فأسره وحمله وجماعة كثيرة معه، وأسكنهم جندى سابور. وذكر أنه أخذ الريانوس ببناء شاذراون تستر، على أن يجعل عرضه ألف ذراع، فبناه الرومي بقوم أشخصهم إليه من الروم، وحكّم سابور في فكاكه بعد فراغه من الشاذروان، فقيل إنه أخذ منه أموالًا عظيمة، وأطلقه بعد أن جدع أنفه. وقيل إنه قتله. وكان بحيال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر، وكان بها رجل من الجرامقة يقال له الساطرون، وهو الذي يقول فيه أبو دواد الأيادي: وأرى الموت قد تدلى من الحض ** ر على رب أهله الساطرون والعرب تسميه الضيزن. وقيل: إن الضيزن من أهل باجرمى. وزعم هشام بن الكلبي أنه من العرب من قضاعة وأنه الضيزن بن معاوية ابن العبيد بن الأجرام بن عمرو بن النخع بن سليح بن حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة، وأن أمه من تزيد بن حلوان اسمها جيهلة، وأنه إنما كان يعرف بأمه. وزعم أنه كان ملك أرض الجزيرة، وكان معه من بني عبيد بن الأجرام وقبائل قضاعة ما لا يحصى، وأن ملكه كان قد بلغ الشأم، وأنه تطرف من بعض السواد في غيبة كان غابها إلى ناحية خراسان سابور بن أردشير، فلما قدم من غيبته أخبر بما كان منه، فقال في ذلك من فعل الضيزن، عمرو بن إلة بن الجدى بن الدهاء بن جشم بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة: لقيناهم بجمعٍ من علافٍ ** وبالخيل الصلادمة الذكور فلاقت فارسٌ منا نكالًا ** وقتلنا هرابذ شهرزور دلفنا للأعاجم من بعيدٍ ** بجمعٍ كالجزيرة في السعير فلما أخبر سابور بما كان منه شخص إليه حتى أناخ على حصنه، ونحصن الضيزن في الحصن، فزعم ابن الكلبي أنه أقام سابور على حصنه أربع سنين، لا يقدر على هدمه ولا على الوصول إلى الضيزن. وأما الأعشى ميمون بن قيس فإنه ذكر في شعره أنه إنما أقام عليه حولين، فقال: ألم تر للحضر إذ أهله ** بنعمى وهل خالدٌ من نعم! أقام به شاهبور الجنو ** د حولين تضرب فيه القدم فما زاده ربه قوةً ** ومثل مجاوره لم يقم فلما رأى ربه فعله ** أتاه طروقًا فلم ينتقم وكان دعا قومه دعوةً ** هلموا إلى أمركم قد صرم فموتوا كرامًا بأسيافكم ** أرى الموت يجشمه من جشم ثم إن ابنة للضيزن يقال لها النضيرة عركت فأخرجت إلى ربض المدينة، وكانت من أجمل نساء زمانها - وكذلك كان يفعل بالنساء إذ هن عركن - وكان سابور من أجمل أهل زمانه - فيما قيل - فرأى كل واحد منهما صاحبه، فعشقته وعشقها، فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور هذه المدينة وتقتل أبي؟ قال: حكمك وأرفعك على نسائي، وأخصك بنفسي دونهن. قالت: عليك بحمامة ورقاء مطوقة، فاكتب في رجلها بحيض جارية بكرٍ زرقاء، ثم أرسلها، فإنها تقع على حائط المدينة؛ فتتداعى المدينة. وكان ذلك طلسم المدينة لا يهدمها إلا هذا، ففعل وتأهب لهم، وقالت: أنا أسقي الحرس الخمر، فإذا صرعوا فاقتلهم، وادخل المدينة. ففعل وتداعت المدينة، ففتحها عنوة، وقتل الضيزن يومئذ، وأبيدت أفناء قضاعة الذي كانوا مع الضيزن، فلم يبق منهم باقٍ يعرف إلى اليوم، وأصيبت قبائل من بني حلوان؛ فانقرضوا ودرجوا، فقال عمرو بن إلة - وكان مع الضيزن: ألم يحزنك والأنباء تنمي ** بما لاقت سراة بني عبيد! ومصرع ضيزنٍ وبني أبيه ** وأحلاس الكتائب من تزيد! أتاهم بالفيول مجللاتٍ ** وبالأبطال سابور الجنود فهدم من أواسي الحصن صخرًا ** كأن ثفاله زبر الحديد وأخرب سابور المدينة، واحتمل النضيرة ابنة الضيزن، فأعرس بها بعين التمر، فذكر أنها لم تزل ليلتها تضور من خشونة فرشها، وهي من حرير محشوة بالقز فالتمس ما كان يؤذيها، فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكنها قد أثرت فيها. قال: وكان ينظر إلى مخها من لين بشرتها - فقال لها سابور: ويحك بأي شيء كان يغذوك أبوك؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر. قال: وأبيك لأنا أحدث عهدًا بك، وآثر لك من أبيك الذي غذاك بما تذكرين. فأمر رجلًا فركب فرسًا جموحًا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها فقطعها قطعًا، فذلك قول الشاعر: أقفر الحصن من نضيرة فالمر ** باع منها فجانب الثرثار وقد أكثر الشعراء ذكر ضيزن هذا في أشعارهم، وإياه عني عدي بن زيد بقوله: وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ** لة تجبى إليه والخابور شاده مرمرًا وجلله كل ** سًا فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد ال ** ملك عنه فبابه مهجور ويقال إن سابور بنى بميسان شاذ سابور، التي تسمى بالنبطية " ريما ". وفي أيام سابور ظهر ماني الزنديق، ويقال: إن سابور لما سار إلى موضع جندي سابور لؤسسها صادف عندها شيخًا يقال له بيل، فسأله: هل يجوز أن يتخذ في ذلك الموضع مدينة؟ فقال له بيل: إن ألهمت الكتابة مع ما قد بلغت من السن جاز أن يبنى في هذا الموضع مدينة. فقال له سابور: بل ليكن الأمران اللذان أنكرت كونهما. فرسم المدينة وأسلم بيل إلى معلم؛ وفرض عليه تعليمه الكتاب والحساب في سنة، فخلا به المعلم وبدأ يحلق رأسه ولحيته لئلا يتشاغل بهما، وجاده التعليم، ثم أتى به سابور وقد نفذ ومهر، فقلده إحصاء النفقة على المدينة وإثبات حسابها. وكور الناحية وسماها بهازنديوسابور، وتأويل ذلك: خير من أنطاكية، ومدينة سابور - وهي التي تسمى جندي سابور، وأهل الأهواز يسمونها " بيل " باسم القيم كان على بنائها. ولما حضر سابور الموت ملك ابنه هرمز وعهد إليه عهدًا أمره بالعمل به. واختلف في سنى ملكه، فقال: بعضهم كان ذلك ثلاثين سنة وخمسة عشر يومًا. وقال آخرون: كان ملكه إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وتسعة عشر يومًا. ذكر ملك هرمز بن سابور ثم قام الملك بعد سابور بن أدرشير بن بابك ابنه هرمز. وكان يلقب بالجرىء، وكان يشبه في جسمه وخلقه وصورته بأردشير؛ غير لاحقٍ به في رأيه وتدبيره، إلا أنه كان من البطش والجرأة وعظم الخلق على أمر عظيم. وكانت أمه - فيما قيل - من بنات مهرك، والملك الذي قتله أردشير بأردشير خرة. وذلك أن المنجمين كانوا أخبروا أردشير أنه يكون من نسله من يملك. فتتبع أردشير نسله فقتلهم. وأفلتت أم هرمز. وكانت ذات عقل وجمال وكمال وشدة الخلق، فوقعت إلى البادية، وأوت إلى بعض الرعاء. وإن سابور خرج يومًا متصيدًا، فأمعن في طلب الصيد، واشتد به العطش، فارتفعت له الأخبية التي كانت أم هرمز أوت إليها، فقصدها فوجد الرعاء غيبا، فطلب الماء، فناولته المرأة، فعاين منها جمالًا فائقًا، وقوامًا عجيبًا، ووجهًا عتيقًا. ثم لم يلبث أن حضر الرعاء، فسألهم سابور عنها، فنسبها بعضهم إليه، فسأله أن يزوجها منه، فساعفه، فصار بها إلى منازله، وأمر بها فنظفت وكسيت وحليت، وأرادها على نفسها؛ فكان إذا خلا بها والتمس منها ما يلتمس الرجل من المرأة امتنعت وقهرته عند المجاذبة قهرًا ينكره. وتعجب من قوتها. فلما تطاول ذلك من أمرها أنكره، ففحص عن أمرها فأخبرته أنها ابنة مهرك، وأنها إنما فعلت ما فعلت إبقاء عليه من أردشير، فعاهدها على ستر أمرها، ووطئها فولدت هرمز، فستر أمره حتى أتت له سنون. وإن أردشير ركب يومًا، ثم انكفأ إلى منزل سابور لشيء أراد ذكره له؛ فدخل منزله مفاجأة، فلما استقر به القرار خرج هرمز، وقد ترعرع وبيده صولجان يلعب به وهو يصيح في أثر الكرة، فلما وقعت عين أردشير عليه أنكره. ووقف على المشابه التي فيه منهم؛ لأن الكية التي في آل أردشير كانت لا تخفى، ولا يذهب أمرهم على أحد، لعلامات كانت فيهم؛ من حسن الوجوه، وعبالة الخلق، وأمور كانوا بها مخصوصين في أجسامهم. فاستدناه أردشير، وسأل سابور عنه، فخر مكفرًا على سبيل الإقرار بالخطأ مما كان منه. وأخبر أباه حقيقة الخبر، فسر به، وأعلمه أنه قد تحقق الذي ذكر المنجمون في ولد مهرك، ومن يملك منهم، وأنهم إنما ذهبوا فيه إلى هرمز؛ إذ كان من نسل مهرك، وأن ذلك قد سلى ما كان في نفسه وأذهبه. فلما هلك أردشير وأفضى الأمر إلى سابور ولي هرمز خراسان، وسيره إليها، فاستقل بالعمل، وقمع من كان يليه من ملوك الأمم، وأظهر تجبرًا شديدًا، فوشى به الوشاة إلى سابور، ووهموه أنه إن دعاه لم يجب، وأنه على أن يبتزه الملك، ونمت الأخبار بذلك إلى هرمز، فقيل: إنه خلا بنفسه، فقطع يده وحسمها، وألقى عليها ما يحفظها، وأدرجها في نفيسٍ من الثياب، وصيرها في سفط، وبعث بها إلى سابور، وكتب إليه بما بلغه، وأنه إنما فعل ما فعل؛ إزالةً للتهمة عنه، ولأن في رسمهم ألا يملكوا ذا عاهة. فلما وصل الكتاب بما معه إلى سابور، تقطع أسفًا، وكتب إليه بما ناله من الغم بما فعل، واعتذر، وأعلمه أنه لو قطع بدنه عضوًا عضوًا، لم يؤثر عليه أحدًا بالملك، فملكه. وقيل: إنه لما وضع التاج على رأسه، دخل عليه العظماء، فدعوا له فأحسن لهم الجواب، وعرفوا منه صدق الحديث، وأحسن فيهم السيرة، وعدل في رعيته، وسلك سبيل آبائه، وكور كورة رام هرمز. وكان ملكه سنة وعشرة أيام. ذكر ملك بهرام بن هرمز ثم قام بالملك بعده ابنه بهرام، وهو بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ابن بابك. وكان من عمال سابور بن أردشير، وهرمز بن سابور، وبهرام بن هرمز بن سابور - بعد مهلك عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة يومئذ - ابنٌ لعمرو بن عدي يقال له امرؤ القيس البدء؛ وهو أول من تنصر من ملوك آل نصر بن ربيعة وعمال ملوك الفرس، وعاش - فيما ذكر هشام بن محمد - مملكًا في عمله مائة سنة وأربع عشرة سنة؛ من ذلك في زمن سابور بن أردشير ثلاثًا وعشرين سنة وشهرًا، وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة أيام، وفي زمن بهرام بن هرمز ابن سابور ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ثماني عشرة سنة. وكان بهرام بن هرمز - فيما ذكر - رجلًا ذا حلم وتؤدة. فاستبشر الناس بولايته. وأحسن السيرة فيهم، واتبع في ملكه في سياسة الناس آثار آبائه؛ وكان ماني الزنديق - فيما ذكر - يدعوه إلى دينه. فاستبرى ما عنده. فوجده داعية للشيطان، فأمر بقتله وسلخ جلده وحشوه تبنًا وتعليقه على باب من أبواب مدينة جندى سابور، يدعى باب الماني. وقتل أصحابه ومن دخل في ملته. وكان ملكه - فيما قيل - ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. ذكر ملك بهرام بن بهرام بن هرمز ثم قام بالملك بعده ابنه بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. وكان ذا علم - فيما قيل - بالأمور؛ فلما عقد التاج على رأسه دعا له العظماء بمثل ما كانوا يدعون لآبائه. فرد عليهم مردًا حسنًا، وأحسن فيهم السيرة، وقال: إن ساعدنا الدهر نقبل ذلك بالشكر، وإن يكن غير ذلك نرض بالقسم. واختلف في سني ملكه، فقال بعضهم: كان ملكه ثماني عشرة سنة. وقال بعضهم: كان سبع عشرة سنة. ذكر ملك شاهنشاه بن بهرام ثم ملك بهرام الملقب بشاهنشاه بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير؛ فلما عقد التاج على رأسه اجتمع إليه العظماء. فدعوا له ببركة الولاية وطول العمر، فرد عليهم أحسن الرد؛ وكان قبل أن يفضي إليه الملك مملكًا على سجستان. وكان ملكه أربع سنين. ذكر ملك نرسي بن بهرام ثم قام بالملك بعده نرسي بن بهرام، وهو أخو بهرام الثالث. فلما عقد التاج على رأسه دخلت عليه الأشراف والعظماء، فدعوا له فوعدهم خيرًا. وأمرهم بمكانفته على أمره، وسار فيهم بأعدل السيرة. وقال يوم ملك: إنا لن نضيع شكر الله على ما أنعم به علينا. وكان ملكه تسع سنين. ذكر ملك هرمز بن نرسي ثم ملك هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. وكان الناس قد وحلوا منه، وأحسوا بالفظاظة والشدة، فأعلمهم أنه قد علم ما كانوا يخافونه من شدة ولايته، وأعلمهم أنه قد أبدل ما كان في خلقه من الغلظة والفظاظة رقةً ورأفة، وساسهم بأرفق السياسة، وسار فيهم بأعدل السيرة، وكان حريصًا على انتعاش الضعفاء وعمارة البلاد والعدل على الرعية. ثم هلك ولا ولد له، فشق ذلك على الناس، فسألوا بميلهم إليه عن نسائه، فذكر لهم أن بعضهن حبلى. وقد قال بعضهم: إن هرمز كان أوصى بالملك لذلك الحمل في بطن أمه، وأن تلك المرأة ولدت سابور ذا الأكتاف. وكان ملك هرمز في قول بعضهم ست سنين وخمسة أشهر، وفي قول آخرين سبع سنين وخمسة أشهر. ذكر ملك سابور ذي الأكتاف ثم ولد سابور ذو الأكتاف بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. مملكًا بوصية أبيه هرمز له بالملك، فاستبشر الناس بولادته؛ وبثوا خبره في الآفاق، وكتبوا الكتب، ووجهوا به البرد إلى الآفاق والأطراف، وتقلد الوزراء والكتاب الأعمال التي كانوا يعملونها في ملك أبيه، ولم يزالوا على ذلك، حتى فشا خبرهم. وشاع في أطراف مملكة الفرس أنه كان لا ملك لهم. وأن أهلها إنما يتلومون صبيًا في المهد، لا يدرون ما هو كائن من أمره، فطمعت في مملكتهم الترك والروم. وكانت بلاد العرب أدنى البلاد إلى فارس، وكانوا من أحوج الأمم إلى تناول شيء من معايشهم وبلادهم. لسوء حالهم وشظف عيشهم. فسار جمع عظيمٌ منهم في البحر من ناحية بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة، حتى أناخوا على أبرشهر وسواحل أردشيرخرة وأسياف فارس، وغلبوا أهلها على مواشيهم وحروثهم ومعايشهم، وأكثروا الفساد في تلك البلاد، فمكثوا على ذلك من أمرهم حينًا. لا يغزوهم أحد من الفرس، لعقدهم تاج الملك على طفل من الطفال. وقلة هيبة الناس له؛ حتى تحرك سابور وترعرع. فلما ترعرع ذكر أن أول ما عرف من تدبيره وحسن فهمه، أنه استيقظ ذات ليلة وهو في قصر الملكة بطيسبون، من ضوضاء الناس بسحر. فسأل عن ذلك، فأخبر أن ذلك ضجة الناس عند ازدحامهم على جسر دجلة مقبلين ومدبرين؛ فأمر باتخاذ جسر آخر؛ حتى يكون أحدهما معبرًا للمقبلين؛ والآخر معبرًا للمدبرين. فلا يزدحم الناس في المرور عليهما. فاستبشر الناس بما رأوا من فطنته لما فطن من ذلك على صغر سنه. وتقدم فيما أمر به من ذلك، فذكر أن الشمس لم تغرب من يومهم ذلك حتى عقد جسر بالقرب من الجسر الذي كان فاستراح الناس من المخاطرة بأنفسهم في الجواز على الجسر، وجعل الغلام يتزيد في اليوم ما يتزيده غيره في الحين الطويل. وجعل الكتاب والوزراء يعرضون عليه الأمر بعد الأمر، فكان فيما عرض عليه أمر الجنود التي في الثغور، ومن كان منهم بإزاء الأعداء. وإن الأخبار وردت بأن أكثرهم قد أخل، وعظموا عليه الأمر في ذلك، فقال لهم سابور: لا يكبرن هذا عندكم؛ فإن الحيلة فيه يسيرة، وأمر بالكتاب إلى أولئك الجنود جميعًا؛ بأنه انتهى إليه طول مكثهم في النواحي التي هم بها، وعظم غنائهم عن أوليائهم وإخوانهم؛ فمن أحب أن ينصرف إلى أهله فلينصرف مأذونًا له في ذلك، ومن أحب أن يستكمل الفضل بالصبر في موضعه عرف ذلك له. وتقدم إلى من اختار الانصراف في لزوم أهله وبلاده إلى وقت الحاجة إليه. فلما سمع الوزراء ذلك من قوله استحسنوه، وقالوا: لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور، وسياسة الجنود ما زاد رأيه وصحة منطقه على ما سمعنا به. ثم تتابعت أخباره إلى البلدان والثغور، بما قوم أصحابه، وقمع أعداءه. حتى إذا تمت له ست عشر سنة وأطاق حمل السلاح وركوب الخيل، واشتد عظمه، جمع إليه رؤساء أصحابه وأجناده، ثم قام فيهم خطيبًا، ثم ذكر ما أنعم الله به عليه وعليهم بآبائه، وما أقاموا من أدبهم ونفوا من أعدائهم، وما اختل من أمورهم، في الأيام التي مضت من أيام صباه، وأعلمهم أنه يبتدئ العمل في الذب عن البيضة، وأنه يقدر الشخوص إلى بعض الأعداء لمحاربته، وأن عدة من يشخص معه من المقاتلة ألف رجل. فنهض إليه القوم داعين متشكرين، وسألوه أن يقيم بموضعه، ويوجه القواد والجنود ليكفوه ما قدر من الشخوص فيه، فأبى أن يجيبهم إلى المقام، فسألوه الازدياد على العدة التي ذكرها فأبى. ثم انتخب ألف فارس من صناديد جنده وأبطالهم، وتقدم إليهم في المضي لأمره، ونهاهم عن الإبقاء على من لقوا من العرب، والعرجة على إصابة مال. ثم سار بهم فأوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب وهم غارون، وقتل منهم أبرح القتل، وأسر أعنف الأسر، وهرب بقيتهم. ثم قطع البحر في أصحابه، فورد الخط، واستقرى بلاد البحرين، يقتل أهلها ولا يقبل فداء، ولا يعرج على غنيمة. ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشى فيهم القتل، وسفك فيهم من الدماء سفكًا سالت كسيل المطر؛ حتى كان الهارب منهم يرى أنه لن ينجيه منه غارٌ في جبل، ولا جزيرة في بحر؛ ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلا من هرب منهم، فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة، فقتل بها مثل تلك المقتلة، ولم يمر بماء من مياه العرب إلا عوره، ولاجب من جبابهم إلا طمه. ثم أتى قرب المدينة، فقتل من وجد هنالك من العرب وأسر، ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام، فقتل من وجد بها من العرب، وسبى وطم مياهم، وإنه أسكن من من بنى تغلب من البحرين دارين - واسمهما هيج - والخط، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم هجر، ومن كان من بكر بن وائل كرمان، وهم الذين يدعون بكر أبان، ومن كان منهم من بني حنظلة بالرملية من بلاد الأهواز. وإنه أمر فبنيت بأرض السواد مدينة وسماها، بزرج سابور - وهي الأنبار - وبأرض الأهواز مدينتان: إحداهما إيران خره سابور، وتأويلها سابور وبلاده، وتسمى بالسريانية الكرخ، والأخرى السوس؛ وهي مدينة بناها إلى جانب الحصن الذي في جوفه تابوت فيه جثة دانيال النبي عليه السلام. وإنه غزا أرض الروم فسبى منها سبيًا كثيرًا، فأسكن مدينة إيران خره سابور، وسمتها العرب السوس بعد تخفيفها في التسمية. وأمر فبنيت بباجرمى مدينة سماها خنى سابور وكور كورة، وبأرض خراسان مدينة، وسماها نيسابور وكور كورة. وإن سابور كان هادن قسطنطين ملك الروم وهو الذي بنى مدينة قسطنطينية، وكان أول من تنصر من ملوك الروم، وهلك قسطنطين، وفرق ملكه بين ثلاثة بنين، كانوا له، فهلك بنوه الثلاثة، فملكت الروم عليهم رجلًا من أهل بيت قسطنطين يقال له لليانوس، وكان يدين بملة الروم التي كانت قبل النصرانية، ويسر ذلك ويظهر النصرانية قبل أن يملك، حتى إذا ملك أظهر ملة الروم، وأعادها كهيئتها، وأمرهم بإحيائها، وأمر بهدم البيع وقتل الأساقفة وأحبار النصارى. وإنه جمع جموعًا من الروم والخزر، ومن كان في مملكته من العرب، ليقاتل بهم سابور وجنود فارس. وانتهزت العرب بذلك السبب الفرصة من الانتقام من سابور، وما كان من قتله العرب، واجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائة ألف وسبعون ألف مقاتل؛ فوجههم مع رجل من بطارقة الروم، بعثه على مقدمته يسمى يوسانوس. وإن لليانوس سار حتى وقع ببلاد فارس، وانتهى إلى سابور كثرة من معه من جنود الروم والعرب والخزر، فهاله ذلك، ووجه عيونًا تأتيه بخبرهم ومبلغ عددهم وحالهم في شجاعتهم وعيثهم فاختلفت أقاويل أولئك العيون فيما أتوه به من الأخبار عن لليانوس وجنده. فتنكر سابور، وسار في أناس من ثقاته ليعاين عسكرهم، فلما اقترب من عسكر يوسانوس صاحب مقدمة لليانوس، وجه رهطًا ممن كان معه إلى عسكر يوسانوس ليتحسسوا الأخبار، ويأتوه بها على حقائقها، فنذرت الروم بهم، فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس، فلم يقر أحدٌ منهم بالأمر لذي توجهوا له إلى عسكره، ما خلا رجلًا منهم أخبره بالقصة على وجهها، وبمكان سابور حيث كان، وسأله أن يوجه معه جندًا، فيدفع إليهم سابور فارسل يوسانوس حيث سمع هذه المقالة إلى سابور رجلًا من بطانته، يعلمه ما لقى من أمره، وينذره، فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه إلى عسكره. وإن من كان في عسكر لليانوس من العرب سألوه أن يأذن لهم في محاربة سابور، فأجابهم إلى ما سألوه، فزحفوا إلى سابور، فقاتلوه ففضوا جمعه، وقتلوا منه مقتلةً عظيمة، وهرب سابور فيمن بقى من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة طيسبون محلة سابور، وظفر ببيوت أموال سابور وخزائنه فيها، فكتب سابور إلى من في الآفاق من جنوده يعلمهم الذي لقى من لليانوس ومن معه من العرب، ويأمر من كان فيهم من القواد أن يقدموا عليه فيمن قبلهم من جنوده، فلم يلبث أن اجتمعت إليه الجيوش من كل أفق، فانصرف فحارب لليانوس واستقذ منه مدينة طيسبون، ونزل لليانوس مدينة بهأردشير وما والاها بعسكره، وكانت الرسل تختلف فيما بينه وبين سابور. وإن لليانوس كان جالسًا ذات يوم في حجرته، فأصابه سهم غربٌ في فؤاده فقتله، فأسقط في روع جنده، وهالهم الذي نزل به، ويئسوا من التفصى من بلاد فارس، وصاروا شورى لا ملك عليهم ولا سائس لهم، فطلبوا إلى يوسانوس أن يتولى الملك لهم فيملكوه عليهم، فأبى ذلك، وألحوا عليه فيه، فأعلمهم أنه على ملة النصرانية، وأنه لا يلي ناسًا له مخالفين في الملة. فأخبرته الروم أنهم على ملته، وأنهم إنما كانوا يكتمونها مخافة لليانوس، فأجابهم إلى ما طلبوا، وملكوه عليهم، وأظهروا النصرانية. وإن سابور علم بهلاك لليانوس، فأرسل إلى قواد جنود الروم، يقول: إن الله قد أمكننا منكم، وأدالنا عليكم، بظلمكم إيانا، وتخطيكم إلى بلادنا، وإنا نرجوا أن تهلكوا بها جوعًا من غير أن نهيئ لقتالكم سيفًا، ونشرع له رمحًا؛ فسرحوا إلينا رئيسًا إن كنتم رأستموه عليكم. فعزم يوسانوس على إتيان سابور، فلم يتابعه على رأيه أحدٌ من قواد جنده، فاستبد برأيه، وجاء إلى سابور في ثمانين رجلًا من أشراف من كان في عسكره وجنده، وعليه تاجه، فبلغ سابور مجيئه إليه، فتلقاه وتساجدا، فعانقه سابور شكرًا لما كان منه في أمره، وطعم عنده يومئذ ونعم. وإن سابور أرسل إلى قواد جند الروم وذوى الرياسة منهم يعلمهم أنهم لو ملكوا غير يوسانوس لجرى هلاكهم في بلاد فارس، وأن تمليكهم إياه ينجيهم من سطوته. وقوى أمر يوسانوس بجهده، ثم قال: إن الروم قد شنوا الغارة على بلادنا، وقتلوا بشرًا كثيرًا، وقطعوا ما كان بأرض السواد من نخل وشجر، وخربوا عمارتها؛ فإما أن يدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وخربوا، وإما أن يعوضونا من ذلك نصيبين وحيزها، عوضًا منه، وكانت من بلاد فارس، فغلبت عليها الروم. فأجاب يوسانوس وأشراف جنده سابور إلى ما سأل من العوض، ودفعوا إليه نصبيين، فبلغ ذلك أهلها، فجلوا منها إلى منها إلى مدن في مملكة الروم، مخافة على أنفسهم من ملك الملك المخالف ملتهم، فبلغ ذلك سابور، فنقل اثنى عشر ألف أهل بيت من أهل إصطخر وإصبهان وكور أخر من بلاده وحيزه إلى نصيبين، وأسكنهم إياها، وانصرف يوسانوس ومن معه من الجنود إلى الروم، وملكها زمنًا يسيرًا ثم هلك. وإن سابور ضرى بقتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم إلى أن هلك. وكان ذلك سبب تسميتهم إياه ذا الأكتاف. وذكر بعض أهل الأخبار أن سابور بعد أن أثخن في العرب وأجلاهم عن النواحي التي كانوا صاروا إليها مما قرب من نواحي فارس والبحرين واليمامة، ثم هبط إلى الشأم، وسار إلى حد الروم، أعلم أصحابه أنه على دخول الروم حتى يبحث عن أسرارهم. ويعرف أخبار مدنهم وعدد جنودهم، فدخل إلى الروم، فجال فيها حينًا، وبلغه أن قيصر أولم، وأمر بجمع الناس ليحضروا طعامه، فانطلق سابور بهيئة السؤال حتى شهد ذلك الجمعع، لينظر إلى قيصر، ويعرف هيئته وحاله في طعامه. ففطن له فأخذ، وأمر به قيصر فأدرج في جلد ثور، ثم سار بجنوده إلى أرض فارس، ومعه سابور على تلك الحالة، فأكثر من القتل وخراب المدائن والقرى وقطع النخل والأشجار، حتى انتهى إلى مدينة جندي سابور، وقد تحصن أهلها، فنصب المجانيق، وهدم بعضها. فبينا هم كذلك ذات ليلة إذ غفل الروم الموكلون بحراسة سابور، وكان بقربه قوم من سبي الأهواز، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي كان عليه زيتًا من زقاق كانت بقربهم، ففعلوا ذلك، ولان الجلد وانسل منه فلم يزل يدب حتى دناا من باب المدينة، وأخبر حراسهم باسمه. فلما دخل على أهلها، اشتد سرورهم به، وارتفعت أصواتهم بالحمد والتسبيح، فانتبه أصحاب قيصر بأصواتهم، وجمع سابور من كان في المدينة وعبأهم، وخرج إلى الروم تلك الليلة سحرًا، فقتل الروم وأخذ قيصر أسيرًا، وغنم أمواله ونساءه، ثم أثقل قيصر بالحديد وأخذه بعمارة ما أخرب؛ ويقال: إنه أخذ قيصر بنقل التراب من أرض الروم إلى المدائن وجندى سابور، حتى يرم به ما هدم منها، وبأن يغرس الزيتون مكان النخل والشجر الذي عقره، ثم قطع عقبه ورتقه، وبعث به إلى الروم على حمار، وقال: هذا جزاؤك ببغيك علينا، فلذلك تركت الروم اتخاذ الأعقاب، ورتق الذؤاب. ثم أقام سابور في مملكته حينًا. ثم غزا الروم فقتل من أهلها، وسبى سبيًا كثيرًا، وأسكن من سبي مدينة بناها بناحية السوس. وسماها إيرانشهر سابور، ثم استصلح العرب، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوج والأهواز، وبنى مدينة نيسابور ومدائن أخر بالسند وسجستان. ونقل طبيبًا من الهند فأسكنه الكرخ من السوس؛ فلما مات ورث طبه أهل السوس؛ ولذلك صار أهل تلك الناحية أطب العجم، وأوصى بالملك لأخيه أردشير. وكان ملك سابور اثنتين وسبعين سنة. وهلك في عهد سابور عامله على ضاحية مضر وربيعة، امرؤ القيس البدء بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، فاستعمل سابور على عمله ابنه عمرو بن امرىء القيس - فيما ذكر - فبقي في عمله بقية ملك سابور، وجميع أيام أخيه أردشير بن هرمز بن نرسى، وبعض أيام سابور بن سابور. وكان جميع عمله - على ما ذكرت - من العرب، وولايته عليهم - فيما ذكر ابن الكلبي - ثلاثين سنة. ذكر ملك أردشير بن هرمز ثم قام بالملك بعد سابور ذي الأكتاف أخوه أردشير بن هرمز بن نرسى ابن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك. فلما عقد التاج على رأسه جلس للعظماء، فلما دخلوا عليه دعوا له بالنصر، وشكروا عنده أخاه سابور، فأحسن جوابهم، وأعلمهم موقع ما كان من شكرهم لأخيه عنده، فلما استقر به الملك قراره عطف على العظماء وذوي الرياسة، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه. ذكر ملك سابور بن سابور ثم ملك سابور بن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بن نرسى. فاستبشرت الرعية بذلك وبرجوع ملك أبيه إليه، فلقيهم أحسن اللقاء، وكتب الكتب إلى العمال في حسن السيرة والرفق بالرعية، وأمر بمثل ذلك وزراءه وكتابه وحاشيته، وخطبهم خطبة بليغة، ولم يزل عادلًا على رعيته، متحننًا عليهم لما كان تبين من مودتهم ومحبتهم وطاعتهم، وخضع له عمه أردشير المخلوع، ومنحه الطاعة. وإن العظماء وأهل البيوتات قطعوا أطناب فسطاط كان ضرب عليه في حجرة من حجره، فسقط عليه الفسطاط. وكان ملكه خمس سنين. ذكر ملك بهرام بن سابور ثم ملك بعده أخوه بهرام بن سابور ذي الأكتاف. وكان يلقب كرمان شاه؛ وذلك أن أباه سابور كان ولاه في حياته كرمان، فكتب إلى قواده كتابًا يحثهم فيه على الطاعة، ويأمرهم بتقوى الله والنصيحة للملك، وبنى بكرمان مدينة، وكان حسن السياسة لرعيته، محمودًا في أمره. وكان ملكه إحدى عشرة سنة. وإن ناسًا من الفتاك ثاروا إليه فقتله رجل منهم برمية رماها إياه بنشابة. ذكر ملك يزدجرد الأثيم ثم قام بالملك بعده يزدجرد الملقب بالأثيم، بن بهرام الملقب بكرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف. ومن أهل العلم بأنساب الفرس من يقول: يزدجرد الأثيم هذا، هو أخو بهرام الملقب بكرمان شاه وليس بابنه، ويقول: هو يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف. وممن نسبه هذا النسب وقال هذا القول، هشام بن محمد. وكان - فيما ذكر - فظًا غليظًا ذا عيوب كثيرة، وكان من أشد عيوبه وأعظمها - فيما قيل - وضعه ذكاء ذهن وحسن أدب كان له وصنوفًا من العلم قد مهرها وعلمها، غير موضعه، وكثرة رؤيته في الضار من الأمور، واستعمال كل ما عنده من ذلك، في المواربة والدهاء والمكايدة والمخاتلة، مع فطنة كانت بجهات الشر، وشدة عجبه بما عنده من ذلك، واستخفافه بكل ما كان في أيدي الناس من علم وأدب، واحتقاره له، وقلة اعتداده به، واستطالتة على الناس بما عنده منه. وكان مع ذلك غلقًا سيء الخلق، ردئ الطعمة جتى بلغ من شدة غلقه وحدته أن الصغير من الزلات كان عنده كبيرًا، واليسير من السقطات عظيمًا. ثم لم يقدر أحد - وإن كان لطيف المنزلة منه - أن يكون لمن ابتلى عنده بشيء من ذلك شفيعًا، وكان دهره كله للناس متهمًا، ولم يكن يأتمن أحدًا على شيء من الأشياء، ولم يكن يكافئ على حسن البلاء. وإن هو أولى الخسيس من العرف استجزل ذلك، وإن جسر على كلامه في أمر كلمه فيه رجل لغيره قال له: ما قدر جعالتك في هذا الأمر الذي كلمتنا فيه؟ وما أخذت عليه؟ فلم يكن يكلمه في ذلك وما أشبهه إلا الوفود القادمون عليه من قبل ملوك الأمم. وإن رعيته إنما سلموا من سطوته وبليته، وما كان جمع من الخلال السيئة بتمسكهم بمن كان قبل مملكته بالسنن الصالحة وبأدبهم. وكانوا لسوء أدبه، ومخافة سطوته، متواصلين متعاونين، وكان من رأيه أن يعاقب كل من زل عنده وأذنب إليه من شدة العقوبة بما لايستطاع أن يبلغ منه مثلها في مدة ثلثمائة. وكان لذلك لا يقرعه بسوطٍ انتظارًا منه للمعاقبة له بما ليس وراءه افظع منه. وكان إذا بلغه أن أحدًا من بطانته صافى رجلًا من أهل صناعته أو طبقته نحاه عن خدمته. وكان استوزر عند ولايته نرسى حكيم دهره. وكان نرسى كاملًا في أدبه، فاضلًا في جميع مذاهبه، متقدمًا لأهل زمانه. وكانوا يسمونه مهر نرسى ومهرنرسه، ويلقب بالهزاربنده، فأملت الرعية بما كان منه أن ينزع عن أخلاقه، وأن يصلح نرسى منه، فلما استوى له الملك، اشتدت إهانته الأشراف والعظماء، وحمل على الضعفاء، وأكثر من سفك الدماء، وتسلط تسلطًا لم يبتل الرعية بمثله في أيامه. فلما رأى الوجوه والأشراف أنه لا يزداد إلا تتايعًاَ في الجور، اجتمعوا فشكوا ما ينزل بهم من ظلمه، وتضرعوا إلى ربهم، وابتهلوا إليه بالتعجيل إنقاذهم منه. فزعموا أنه كان بجرجان، فرأى ذات يوم في قصره فرسًا عائرًا - لم ير مثله في الخيل، في حسن صورة، وتمام خلق - أقبل حتى وقف على بابه، فتعجب الناس منه لأنه كان متجاوز الحال، فأخبر يزدجرد خبره، فأمر به أن يسرج ويلجم، ويدخل عليه، فحاول ساسته وصاحب مراكبه إلجامه وإسراجه، فلم يمكن أحدًا منهم من ذلك، فأنهى إليه امتناع الفرس عليهم، فخرج ببدنه إلى الموضع الذي كان فيه ذلك الفرس فألجمه بيده، وألقى لبدًا على ظهره، ووضع فوقه سرجًا، وشد حزامه ولببه فلم يتحرك الفرس بشيء من ذلك، حتى إذا رفع ذنبه ليثفره استدبره الفرس فرمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه، ثم لم يعاين ذلك الفرس. ويقال: إن الفرس ملأ فروجه جرياُ فلم يدرك ولم يوقف على السبب فيه، وخاضت الرعية بينها، وقالت: هذا من صنع الله لنا ورأفته بنا. وكان ملك يزدجرد في قول بعضهم اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يومًا. وفي قول آخرين إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يومًا. ولما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو بن عدي في عهد سابور ابن سابور، استخلف سابور بن سابور على عمله أوس بن قلام في قول هشام. قال: وهو من العماليق من بني عمرو بن عمليق، فثار به جحجبي بن عتيك بن لخم فقتله، فكان جميع ولاية أوس خمس سنين، وهلك في عهد بهرام بن سابور ذي الأكتاف. واستخلف بعده في عمله امرؤ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو خمسًا وعشرين سنة، وكان هلاكه في عهد يزدجرد الأثيم. ثم استخلف يزدجرد مكانه ابنه النعمان بن امرئ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو فارس حليمة؛ وصاحب الخورنق. وكان سبب بنائه الخورنق - فيما ذكر - أن يزدجرد الأثيم بن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف كان لا يبقى له ولد فولد له بهرام، فسأل عن منزل برى مرئ صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكنًا له، وأنزله إياه، وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب؛ وكان الذي بنى الخورنق رجلًا يقال له سنمار، فلما فرغ من بنائه تعجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال: لو علمت أنكم توفونني أجري وتصنعون بي ما أنا أهله بنيته بناءً يدور مع الشمس حيثما دارت، فقال: وإنك لتقدر على أن تبني ما هو أفضل منه ثم لم تبنه! فأمر به فطرح من رأس الخورنق؛ ففي ذلك يقول أبو الطمحان القيني: جزاء سنمارٍ جزاها، وربها ** وباللات والعزى جزاء المكفر وقال سليط بن سعد: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ ** وحسن فعلٍ كما يجزى سنمار وقال يزيد بن إياس النهشلي: جزى الله كمالًا بأسوإ فعله ** جزاء سنمارٍ جزاءً موفرا وقال عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي - وكان أهدى أفراسًا إلى الحارث بن مارية الغساني، ووفد إليه فأعجبته وأعجب بعبد العزى وحديثه، وكان للملك ابن مسترضع في بنى الحميم بن عوف من بنى عبد ود، من كلب فنهشته حية، فظن الملك أنهم أغتالوه، فقال لعبد العزى: جئني بهؤلاء القوم، فقال: هم قوم أحرار، وليس لي عليهم فضل في نسب ولافعال، فقال: لتأتينى بهم أو لأفعلن ولأفعلن! فقال: رجونا من حبائك أمرًا حال دونه عقابك. ودعا ابنيه: شراحيل وعبد الحارث، فكتب معهما إلى قومه: جزاني جزاه الله شر جزائه ** جزاء سنمارٍ وما كان ذا ذنب سوى رصه البنيان عشرين حجةً ** يعلى عليه بالقراميد والسكب فلما رأى البنيان تم سموقه ** وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب فأتهمه من بعد حرسٍ وحقبةٍ ** وقد هره أهل المشارق والغرب وظن سنمارٌ به كل حبرةٍ ** وفاز لديه بالمودة والقرب فقال اقذفوا بالعلج من فوق برجه ** فهذا لعمر الله من أعجب الخطب وما كان لي عند ابن جفنة فاعلموا ** من الذنب ما آلى يمينًا على كلب ليلتمسن بالخيل عقر بلادهم ** تحلل أبيت اللعن من قولك المزبى ودون الذي منى ابن جفنة نفسه ** رجالٌ يردون الظلوم عن الشعب وقد رامنا من قبلك المرء حارثٌ ** فغودر مسلولًا لدى الأكم الصهب قال هشام: وكان النعمان هذا قد غزا الشأم مرارًا، وأكثر المصائب في أهلها، وسبى وغنم، وكان من أشد الملوك نكاية في عدوه، وأبعدهم مغارًا فيهم، وكان ملك فارس جعل معه كتيبتين: يقال لإحداهما: دوسر، وهي لتنوخ، وللأخرى: الشهباء، وهي لفارس، وهما اللتان يقال لهما: القبيلتان، فكان يغزو بهما بلاد الشام ومن لم يدن له من العرب. قال فذكر لنا - والله أعلم - أنه جلس يومًا في مجلسه من الخورنق، فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، وهو على متن النجف، في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط! فقال: لا، لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فبم ينال ذاك؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده؛ فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح، وخرج مستخفيًا هاربًا لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله، فحضروا بابه؛ فلم يؤذن لهم عليه كما كان يفعل، فلما أبطأ الإذن عليهم، سألوا عنه فلم يجدوه، وفي ذلك يقول عدى بن زيد العبادى: وتفكر رب الخورنق إذ أش ** رف يومًا وللهدى تبصير سره حاله وكثرة ما يم ** لك والبحر معرضٌ والدير فارعوى قلبه فقال وما غب ** طة حيٍ إلى الممات يصير ثم بعد الفلاح والملك والإمة ** وارتهم هناك القبور ثم أضحوا كأنهم ورقٌ جف ** فألوت به الصبا والدبور فكان ملك النعمان إلى أن ترك ملكه وساح في الأرض تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر. قال ابن الكلبي: من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة. وأما العلماء من الفرس بأخبارهم وأمورهم فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره. ذكر ملك بهرام جور ثم ملك بعد يزدجرد الأثيم ابنه بهرام جور بن يزدجرد الخشن ابن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف. وذكر أن مولده كان هرمز دروز فرور دين ماه، لسبع ساعات مضين من النهار. فإن أباه يزدجرد دعا ساعة ولد بهرام ممن كان ببابه من المنجمين، فأمرهم بإقامة كتاب مولده وتبنيه بيانًا يدل على الذي يئول إليه كل أمره، فقاسوا الشمس ونظروا في مطالع النجوم، ثم أخبروا يزدجرد أن الله مورثٌ بهرام ملك أبيه، وأن رضاعه بغير أرض يسكنها الفرس، وأن من الرأى أن يربى بغير بلاده، فأجال يزدجرد الرأى في دفعه في الرضاع والتربية إلى بعض من بابه من الروم أو العرب أو غيرهم ممن لم يكن من الفرس، فبدا له في اختيار العرب لتربيته وحضانته؛ فدعا بالمنذر ابن النعمان، واستحضنه بهرام، وشرفه وأكرمه، وملكه على العرب، وحباه بمرتبتين سنيتين، تدعى إحداهما: رام أبزوذ يزدجرد، وتأويله زاد سرور يزدجرد، والأخرى تدعى بمهشت، وتأويلها أعظم الخول، وأمر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلته، وأمره أن يسير بهرام إلى بلاد العرب. فسار به المنذر إلى محلته منها، واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة، وأذهان ذكية، وآداب رضية؛ من بنات الأشراف؛ منهن امرأتان من بنات العرب، وامرأة من بنات العجم، وأمر لهن بما أصلحهن من الكسوة والفرش والمطعم والمشرب وسائر ما احتجن إليه، فتداولنا رضاعه ثلاث سنين، وفطم في السنة الرابعة، حتى إذا أتت له خمس سنين، قال للمنذر: أحضرني مؤد بين ذوي علم، مدربين بالتعليم؛ ليعلموني الكتابة والرمي والفقه. فقال له المنذر: إنك بعد صغير السن، ولم يأن لك أن تأخذ في التعليم؛ فالزم ما يلزم الصبيان الأحداث، حتى تبلغ من السن ما يطيق التعلم والتأدب، وأحضر من يعلمك كل ما سألت تعلمه. فقال بهرام للمنذر: أنا لعمري صغير، ولكن عقلي عقل محتنك، وأنت كبير السن وعقلك عقل ضرع. أما تعلم أيها الرجل؛ أن كل ما يتقدم في طلبه ينال في وقته، وما يطلب في وقته ينال في غير وقته، وما يفرط في طلبه يفوت فلا ينال! وإني من ولد الملوك، والملك صائر إلي بإذن الله، وأولى ما كلف به الملوك وطلبوه صالح العلم؛ لأنه لهم زين، ولملكهم ركن به يقوون. فعجل علي بمن سألتك من المؤدبين. فوجه المنذر ساعة سمع مقالة بهرام هذه إلى باب الملك من أتاه برهط من فقهاء الفرس، ومعلمي الرمي والفروسية ومعلمي الكتابة وخاصة ذوي الأدب، وجمع له حكماء من حكماء فارس والروم، ومحدثين من العرب، فألزمهم بهرام، ووقت لأصحاب كل مذهب من تلك المهن وقتًا يأتونه فيه؛ وقدر لهم قدرًا يفيدونه ما عندهم، فتفرغ بهرام لتعلم كل ما سأل أن يتعلم، وللاستماع من أهل الحكمة وأصحاب الحديث، ووعى كل ما استمع، وثقف كل ما علم بأيسر تعليم. وألفي بعد أن بلغ اثنتي عشرة سنة، وقد استفاد كل ما أفيد وحفظه، وفاق معلميه ومن حضره من أهل الأدب؛ حتى اعترفوا له بفضله عليهم. وأثاب بهرام المنذر ومعلميه، وأمرهم بالانصراف عنه، وأمر معلمي الرمي والفروسية بالإقامة عنده؛ ليأخذ عنهم كل ما ينبغي له التدرب به، والإحكام له؛ ثم دعا بهرام بالنعمان بن المنذر، وأمره أن يؤذن العرب بإحضار خيلهم من الذكور والإناث على أنسابها، فأذن النعمان للعرب بذلك، وبلغ المنذر الذي كان من رأى بهرام في اختيار الخيل لمركبه، فقال لبهرام: لا تجشمن العرب إجراء خيلهم؛ ولكن مر من يعرض الخيل عليك، واختر منها رضاك، وارتبطه لنفسك. فقال له بهرام: قد أحسنت القول؛ ولكني أفضل الرجال سؤددًا وشرفًا، وليس ينبغي أن يكون مركبي إلا أفضل الخيل، وإنما يعرف فضل بعضها على بعض بالتجربة؛ ولا تجربة بلا إجراء. فرضي المنذر مقالته، وأمر النعمان العرب فأحضروا خيولهم، وركب بهرام والمنذر لحضور الحلبة، وسرحت الخيل من فرسخين، فبدر فرس أشقر للمنذر تلك الخيل جميعًا سابقًا، ثم أقبل بعده بقيتها بداد بداد من بين فرسين تاليين، أو ثلاثة موزعة، أو سكيتًا. فقرب المنذر بيده ذلك الأشقر إلى بهرام، وقال: يبارك الله لك فيه، فأمر بهرام بقبضه وعظم سروره به، وتشكر للمنذر. وإن بهرام ركب ذات يوم الفرس الأشقر الذي حمله عليه المنذر إلى الصيد، فبصر بعانة، فرمى عليها وقصد نحوها؛ فإذا هو بأسد قد شد على عير كان فيها، فتناول ظهره بفيه ليقصمه ويفترسه، فرماه بهرام رمية في ظهره، فنفذت النشابة من بطنه وظهر العير وسرته حتى أفضت إلى الأرض. فساخت فيها إلى قريب من ثلثيها، فتحرك طويلًا، وكان ذلك بمشهد ناس من العرب وحرس بهرام وغيرهم. فأمر بهرام فصور ما كان منه في أمر الأسد والعير في بعض مجالسه. ثم إن بهرام أعلم المنذر أنه على الإلمام بأبيه، فشخص إلى أبيه، وكان أبوه يزدجرد لسوء خلقه لا يحفل بولد له، فاتخذ بهرام للخدمة، فليقي بهرام من ذلك عناء. ثم إن يزدجرد وفد عليه أخ لقيصر، يقال له ثياذوس، في طلب الصلح والهدنة لقيصر والروم، فسأله بهرام أن يكلم يزدجرد في الإذن له في الانصراف إلى المنذر، فانصرف إلى بلاد العرب، فأقبل على التنعم والتلذذ. وهلك أبوه يزدجرد وبهرام غائب، فتعاقد ناس من العظماء وأهل البيوتات إلا يملكوا أحدًا من ذرية يزدجرد لسوء سيرته، وقالوا: إن يزدجرد لم يخلف ولدًا يحتمل الملك غير بهرام، ولم يل بهرام ولاية قط يبلى بها خبره، ويعرف بها حاله، ولم يتأدب بأدب العجم؛ وإنما أدبه أدب العرب، وخلقه كخلقهم، لنشئه بين أظهرهم. واجتمعت كلمتهم وكلمة العامة على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك، يقال له كسرى، ولم يقيموا أن ملكوه. فانتهى هلاك يزدجرد والذي كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام وهو ببادية العرب، فدعا بالمنذر والنعمان ابنه، وناسٍ من علية العرب، وقال لهم: إني لا أحسبكم تجحدون خصيصي والدي؛ كان أتاكم معشر العرب بإحسانه وإنعامه كان عليكم، مع فظاظته وشدته كانت على الفرس؛ وأخبرهم بالذي أتاه من نعي أبيه، وتمليك الفرس من ملكوا عن تشاور منهم في ذلك. فقال المنذر: لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه. وإن المنذر جهز عشرة آلاف رجل من فرسان العرب، ووجههم مع ابنه إلى طيسبون وبهأردشير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قريبًا منهما ويدمن إرسال طلائعه إليهما، فإن تحرك أحد لقتاله قاتله وأغار على ما والاهما، وأسر وسبى؛ ونهاه عن سفك الدماء. فسار النعمان حتى نزل قريبًا من المدينتين، ووجه طلائعه إليهما، واستعظم قتال الفرس. وإن من بالباب من العظماء وأهل البيوتات أوفدوا جوانى صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر، وكتبوا إليه يعلمونه أمر النعمان، فلما ورد جوانى على المنذر وقرأ الكتاب الذي كتب إليه، قال له: الق الملك بهرام، ووجه معه من يوصله إليه فدخل جوانى على بهرام فراعه ما رأى من وسامته وبهائه، وأغفل السجود دهشًا، فعرف بهرام أنه إنما ترك السجود لما راعه من روائه، فكلمه بهرام ووعده من نفسه أحسن الوعد، ورده إلى المنذر، وأرسل إليه أن يجيب في الذي كتب، فقال المنذر لجوانى: قد تدبرت الكتاب الذي أتيتني به؛ وإنما وجه النعمان إلى ناحيتكم الملك بهرام حيث ملكه الله بعد أبيه، وخوله إياكم. فلما سمع جوانى مقالة المنذر، وتذكر ما عاين من رواء بهرام وهيبته عند نفسه، وأن جميع من شاور في صرف الملك عن بهرام مخصوم محجوج، قال للمنذر: إني لست محيرًا جوابًا، ولكن سر إن رأيت إلى محلة الملوك فيجتمع إليك من بها من العظماء وأهل البيوتات، وتشاوروا في ذلك. وأت فيه ما يجمل؛ فإنهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به. فرد المنذر جوانى إلى من أرسله إليه، واستعد وسار بعد فصول جوانى من عنده بيومٍ ببهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك؛ حتى إذا وردهما، أمر فجمع الناس، وجلس بهرام على منبرٍ من ذهب مكلل بجوهر، وجلس المنذر عن يمينه، وتكلم عظماء الفرس وأهل البيوتات، وفرشوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد أبي بهرام كانت، وسوء سيرته، وأنه أخرب بسوء رأيه الأرض، وأكثر القتل ظلمًا، حتى قد قتل الناس في البلاد التي كان يملكها، وأمورًاغير ذلك فظيعة. وذكروا أنهم إنما تعاقدوا وتواثقوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك، وسألوا المنذر ألا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه. فوعى المنذر ما بثوا من ذلك، وقال لبهرام: أنت أولى بإجابة القوم مني. فقال بهرام: إني لست أكذبكم معشر المتكلمين في شيء مما نسبتم إليه يزدجرد لما استقر عندي من ذلك، ولقد زاريًا عليه لسوء هديه، ومتنكبًا لطريقه ودينه، ولم أزل أسأل الله أن يمن علي بالملك، فأصلح كل ما أفسد، وأرأب ما صدع؛ فإن أتت لملكي سنة ولم أف لكم بهذه الأمور التي عددت لكم تبرأت من الملك طائعًا، وقد أشهدت بذلك علي الله وملائكته وموبذان موبذ. وليكن هو فيها حكمًا بيني وبينكم. وأنا مع الذي بينت على ما أعلمكم من رضاي بتمليككم من تناول التاج والزينة؛ من بين أسدين ضاريين مشبلين، فهو الملك. فلما سمع القول مقالة بهرام هذه، وما وعد من نفسه، استبشروا بذلك، وانبسطت آمالهم، وقالوا فيما بينهم: إنا لسنا نقدر على رد قول بهرام؛ مع أنا إن تممنا على صرف الملك عنه نتخوف أن يكون في ذلك هلاكنا لكثرة من استمد واستجاش من العرب؛ ولكن نمتحنه بما عرض علينا مما لم يدعه إليه إلا ثقة بقوته وبطشه وجرأته، فإن يكن على ما وصف به نفسه، فليس لنا رأي إلا تسليم الملك إليه، والسمع والطاعة له، وإن يهلك ضعفًا ومعجزة، فنحن من هلكته براء، ولشره وغائلته آمنون. وتفرقوا على هذا الرأي، فعاد بهرام بعد أن تكلم بهذا الكلام، وجلس كمجلسه الذي كان فيه بالأمس، وحضره من كان يحاده. فقال لهم: إما أن تجيبوني فيما تكلمت أمس، وإما أن تسكتوا باخعين لي بالطاعة. فقال القوم: أما نحن، فقد اخترنا لتدبير الملك كسرى، ولم نر منه إلا ما نحب؛ ولكن قد رضينا مع ذلك أن يوضع التاج والزينة كما ذكرت بين أسدين، وتتنازعانهما أنت وكسرى، فأيكما تناولها من بينهما، سلمنا له الملك. فرضي بهرام بمقالتهم، فأوتي بالتاج والزينة موبذان موبذ، الموكل كان بعقد التاج على رأس كل ملك يملك، فوضعهما في ناحية، وجاء بسطام أصبهبذ، بأسدين ضاريين مجوعين مشبلين، فوقف أحداهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، وأرخى وثاقهما، ثم قال بهرام لكسرى: دونك التاج والزينة. فقال كسرى: أنت أولى بالبدء وبتناولهما مني؛ لنك تطلب الملك بوراثة، وأنا فيه مغتصب. فلم يكره بهرام قوله، لثقته كانت ببطشه وقوته، وحمل جرزًا، وتوجه نحو التاج والزينة، فقال له موبذان موبذ: استماتتك في هذا الأمر الذي أقدمت عليه؛ إنما هو تطوع منك، لا عن رأي أحدٍ من الفرس، ونحن برآء إلى الله من إتلافك نفسك. فقال بهرام: أنتم من ذلك برآء، ولا وزر عليكم فيه. ثم أسرع نحو الأسدين، فلما رأى موبذان موبذ جده في لقائهما، هتف به وقال: بح بذنوبك، وتب منهما، ثم أقدم إن كنت لا محالة مقدم، فباح بهرام بما سلف من ذنوبه، ثم مشى نحو الأسدين، فبدر إليه أحدهما، فلما دنى من بهرام وثب وثبة، فعلا ظهره، وعصر جنبي الأسد بفخذيه عصرًا أثخنه، وجعل يضرب على رأسه بالجرز الذي كان حمله، ثم شد الأسد الآخر عليه، فقبض على أذنيه، وعركهما بكلتا يديه، فلم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان راكبه حتى دمغهما ثم قتلهما كليهما على رأسهما بالجرز الذي كان حمله: وكان ذلك من صنيعه بمرأى من كسرى ومن حضر ذلك المحفل. فتناول بهرام بعد ذلك التاج والزينة، فكان كسرى أول من هتف به، وقال: عمرك الله بهرام! الذي من حوله سامعون، وله مطيعون، ورزقه ملك أقاليم الأرض السبعة. ثم هتف به جميع الحضر، وقالوا: قد أذعنا للملك بهرام، وخضعنا له ورضينا به ملكًا. وأكثروا الدعاء له. وإن العظماء وأهل البيوتات وأصحاب الولايات والوزراء لقوا المنذر بعد ذلك اليوم، وسألوه أن يكلم بهرام في التغمد لإساءتهم في أمره، والصفح والتجاوز عنهم، فكلم المنذر بهرام فيما سألوه من ذلك، واستوهبه ما كان احتمل عليهم في نفسه، فأسعفه بهرام فيما سأل، وبسط آمالهم. وإن بهرام ملك وهو ابن عشرين سنة، وأمر من يومه ذلك أن يلزم رعيته راحة ودعةً، وجلس للناس بعد ذلك سبعة أيام متوالية، يعدهم الخير من نفسه، ويأمرهم بتقوى الله وطاعته. ثم لم يزل بهرام حيث ملك مؤثرًا للهو على ما سواه، حتى كثرت ملامة رعيته إياه على ذلك، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده، والغلبة على ملكه؛ وكان أول من سبق إلى المكاثرة له عليه خاقان ملك الترك، فإنه غزاه في مائتين وخمسين ألف رجل من الترك، فبلغ الفرس إقبال خاقان في جمع عظيم إلى بلادهم، فتعاظمهم ذلك وهالهم، ودخل عليه من عظمائهم أناس لهم رأى أصيل، وعندهم نظر للعامة، فقالوا له: إنه قد أزمك أيها الملك من بائقه هذا العد وما قد شغلك عما أنت عليه من اللهو والتلذذ، فتأهب له كيلا يلحقنا منه أمرٌ يلزمك فيه مسبة وعار. فقال لهم بهرام: إن الله ربنا قوي ونحن أولياؤه. ولم يزدد إلا مثابرة على اللهو والتلذذ والصيد. وإنه تجهز فسار إلى أذربيجان لينسك في بيت نارها، ويتوجه منها إلى أرمينية، ويطلب الصيد في آجامها، ويلهو في مسيره في سبع رهط من العظماءء وأهل البيوتات، وثلثمائة رجل من رابطته ذوي بأس ونجدة، واستخلف أخًا له يسمى نرسي على ما كان يدبر من ملكه. فلم يشك الناس حين بلغهم مسير بهرام فيمن سار واستخلافه أخاه في أن ذلك هربٌ من عدوه، وإسلام لملكه؛ وتآمروا في إنفاذ وفد إلى خاقان، والإفرار له بالخراج، مخافةً منه لاستباحة بلادهم، واصطلامه مقاتلتهم إن هم لم يذعنوا له بذلك. فبلغ خاقان الذي أجمع عليه الفرس من الانقياد والخضوع له، فآمن ناحيتهم، وأمر جنده بالتورع، فأتى بهرام عينٌ كان وجهه ليأتيه بخبر خاقان، فأخبره بأمر خاقان وعزمه، فسار إليه بهرام في العدة الذين كانوا مهعه فبيته، وقتل خاقان بيده، وأفشى القتل في جنده، وانهزم من سلم من القتل منهم، ومنحوه أكتافهم، وخلفوا عسكرهم وذراريهم وأثقالهم، وأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم ويحوي ما غنم منهم، ويسبي ذراريهم. وانصرف وجنده سالمين، وظفر بهرام بتاج خاقان وإكليله، وغلب على بلاده من بلاد الترك، واستعمل على ما غلب عليه منها مرزبانًا حباه سريرًا من فضة، وأتاه أناس من أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه من بلاد الترك خاضعين باخعين له بالطاعة، وسألوه أن يعلمهم حد ما بينه وبينهم فلا يتعدوه، فحد لهم حدًا، وأمر فبنيت منارة، وهي المنارة التي أمر بها فيروز الملك ابن يزدجرد، فقد مت إلى بلاد الترك، ووجه بهرام قائدًا من قواده إلى ما وراء النهر منهم، وأمره بقتالهم فقاتلهم وأثخنهم، حتى أقروا لبهرام بالعبودية وأداء الجزية. وإن بهرام انصرف إلى أذربيجان، راجعًا إلأى محلته من السواد، وأمر بما كان في إكليل خاقان من ياقوت أحمر وسائر الجوهر، فعلق على بيت نار آذربيجان، ثم سار وورد مدينة طيسبون، فنزل دار المملكة بها، ثم كتب إلى جنده وعماله بقتله خاقان، وما كان من أمره وأمر جنده. ثم ولى أخاه نرسي خراسان، وأمره أن يسير إليها وينزل بلخ، وتقدم إليه بما أراد. ثم إن بهرام سار في آخر ملكه إلى ماء للصيد بها، فركب ذات يوم للصيد، فشد على عير، وأمعن في طلبه، فارتطم في جب، فغرق، فبلغ والدته فسارت إلأى ذلك الجب بأموال عظيمة، وأقامت قريبة منه، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه منه، فنقلوا من الجب طينًا كثيرًا وحمأةً. حتى جمعوا من ذلك آكامًا عظامًا، ولم يقدروا على جثة بهرام. وذكر أن بهرام لما انصرف إلى مملكته من غزوه الترك، خطب أهل مملكته أيامًا متوالية، حثهم في خطبته على لزوم الطاعة، وأعلمهم أن نيته التوسعة عليهم، وإيصال الخير إليهم، وأنهم إن زالوا عن الاستقامة نالهم من غلظته أكثر مما كان نالهم من أبيه، وأن أباه كان افتتح أمرهم باللين والمعدلة، فجحدوا ذلك أو من جحده منهم، ولم يخضعوا له خضوع الخول والعبيد للملوك، فأصاره ذلك إلى الغلظة وضرب الأبشار وسفك الدماء. وإن انصراف بهرام من غزوه ذلك كان على طريق أذربيجان، وإنه نحل بيت نار الشيز ما كان في إكليل خاقان من اليواقيت والجوهر وسيفًا كان لخاقان مفصصًا بدر وجوهر وحلية كثيرة، وأخدمه خاتون امرأة خاقان، ورفع عن الناس الخراج لثلاث سنين شكرًا على ما لقي من النصر في وجهه، وقسم في الفقراء والمساكين مالًا عظيمًا، وفي البيوتات وذوى الأحساب عشرين ألف ألف درهم، وكتب بخبر خاقان إلى الآفاق كتبًا، يذكر فيها أن الخبر ورد عليه بورود خاقان بلاده، وأنه مجد الله وعظمه وتوكل عليه، وسار نحوه في سبعة رهط من أهل البيوتات، وثلثمائة فارس من نخبة رابطته على طريق أذربيجان وجبل القبق، حتى نفذ على براري خوارزم ومفازها، فأبلاه الله أحسن بلاء، وذكر لهم ما وضع عنهم من الخراج، وكان كتابه في ذلك كتابًا بليغًا. وقد كان بهرام حين أفضى إليه الملك أمر أن يرفع عنأهل الخراج البقايا التي بقيت عليهم من الخراج، فأعلم أن ذلك سبعون ألف ألف درهم، فأمر بتركها وبترك ثلث خراج السنة التي ولي فيها. وقيل إن بهرام جور لما انصرف إلى طيسبون من مغزاه خاقان التركي، ولى نرسي أخاه خراسان، وأنزله بلخ، واستوزر مهر نرسي بن برازة، وخصه وجعله بزرجفرمذار، وأعلمه أنه ماضٍ إلى بلاد الهند، ليعرف أخبارها، والتلطف لحيازة بعض مملكة أهلها إلى مملكته؛ ليخفف بذلك بعض مؤونة عن أهل مملكته، وتقدم إليه بما أراد التقدم إليه فيما خلفه عليه إلى أوان انصرافه، وأنه شخص من مملكته حتى دخل أرض الهند متنكرًا، فمكث بها حينًا لا يسأله أحدٌ من أهلها عن شيء من أمره غير ما يرون من فروسيته وقتله السباع، وجماله وكمال خلقه ما يعجبون منه. فلم يزل كذلك حتى بلغه أن في ناحية من أرضهم فيلا قد قطع السبل، وقتل ناسًا كثيرًا؛ فسأل بعضهم أن يدله عليه ليقتله، وانتهى أمره إلى الملك فدعا به، وأرسل معه رسولًا ينصرف إليه بخبره. فلما انتهى بهرام والرسول إلى الأجمة التي فيها الفيل، رقي الرسول إلى شجرة لينظر إلى صنع بهرام. ومضى بهرام ليستخرج الفيل، فصاح به، فخرج إليه مزبدًا وله صوت شديد، ومنظر هائل، فلما قرب من بهرام رماه رميةً وقعت بين عينيه حتى كادت تغيب، ووقذه بالنشاب، حتى بلغ منه، ووثب عليه فأخذه بمشفره، فاجتذبه جذبة جثا لها الفيل على ركبتيه، فلم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه، فاحتز رأسه وحمله الرسول حتى أخرجه إلى الطريق، ورسول الملك ينظر إليه. فلما انصرف الرسول اقتص خبره على الملك، فعجب من شدته وجرأته. وحباه حباء عظيمًا. واستفهمه أمره. فقال له بهرام: أنا رجل من عظماء الفرس، وكان ملك الفرس سخط علي في شيء فهربت منه إلى جوارك، وكان لذلك الملك عدو قد نازعه ملكه، وسار إليه بجنود عظيمة، فاشتد وجل الملك صاحب بهرام منه لما كان يعرف من قوته، وأراده على الخضوع له وحمل الخراج إليه، وهم صاحب بهرام بإجابته إلى ذلك، فنهاه بهرام عن ذلك، وضمن له كفاية أمره، فسكن إلى قوله، وخرج بهرام مستعدًا له، فلما التقوا قال لأساورة الهند: احرسوا ظهري. ثم حمل عليهم فجعل يضرب الرجل على رأسه فتنتهي ضربته إلى فمه، ويضرب وسط الرجل فيقطعه باثنين، ويأتي الفيل فيقد مشفره بالسيف، ويحتمل الفارس عن سرجه - والهند قوم لا يحسنون الرمي، وأكثرهم رجالة لا دواب لهم - وكان بهرام إذا رمى أحدهم أنفذ السهم فيه، فلما عاينوا منه ما عاينوا، ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، وغنم صاحب بهرام ما كان في عسكر عدوه، وانصرف محبورًا مسرورًا، ومعه بهرام، فكان في مكافأته إياه أن أنكحه ابنته، ونحله الديبل ومكران وما يليها من أرض السند، وكتب له بذلك كتابًا، وأشهد له على نفسه شهودًا، وأمر بتلك البلاد حتى ضمت إلى أرض العجم، وحمل خراجها إلى بهرام، وانصرف بهرام مسرورًا. ثم إنه أغزى مهر نرسي بن بزارة بلاد الروم في أربعين ألف مقاتل، وأمره أن يقصد عظيمها، ويناظره في أمر الإتاوة وغيرها؛ مما لم يكن يقوم بمثله إلا مثل مهر نرسي، فتوجه في تلك العدة، ودخل القسطنطينية، وقام مقام مشهورًا، وهادنه عظيم الروم، وانصرف بكل الذي أراد بهرام، ولم يزل لمهر نرسي مكرمًا، وربما خفف اسمه فقيل نرسي وربما قيل مهرنرسه، وهو مهر نرسي بن برازة بن فرخزاد بن خورهباذ بن سيسفاذ ابن سيسنابروه بن كي أشك بن دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب. وكان مهر نرسي معظمًا عند جميع ملوك فارس بحسن أدبه، وجودة آرائه، وسكون العامة إليه، وكان له أولاد مع ذلك قد قاربوه في القدر، وعملوا للملوك من الأعمال ما كادوا يلحقون بمرتبته؛ وإن منهم ثلاثة قد كانوا برزوا: أحدهم زروانداذ؛ كان مهر نرسي قصد به للدين والفقه، فأدرك من ذلك أمرًا عظيمًا، حتى صيره بهرام جور هربذان هربذ، مرتبة شبيهة بمرتبة موبذان موبذ. وكان يقال للآخر: ما جشنس، ولم يزل متوليًا ديوان الخراج أيام بهرام جور. وكان اسم مرتبته بالفارسية راستراي وشانسلان. وكان الثالث اسمه كارد صاحب الجيش الأعظم، واسم مرتبته بالفارسية أسطران سلار؛ وهذه مرتبة فوق مرتبة الإصبهذ تقارب مرتبة الأرجبذ، وكان اسم مهر نرسي بمرتبته بالفارسية بزر جفر ماندار؛ وتفسيره بالعربية وزير الوزراء، أو رئيس الرؤساء. وقيل إنه كان من قرية يقال لها إبروان من رستاق دشتبارين من كورة أردشير خرة، فابتنى فيه وفي جره من كورة سابور لاتصال ذلك ودشتبارين أبنية رفيعة، واتخذ فيها بيت نار - هو باق فيما ذكر إلى اليوم. وناره توقد إلى هذه الغاية - يقال لها مهر نرسيان، واتخذ بالقرب من إبروان أربع قرى، وجعل في كل واحدة منها بيت نار؛ فجعل واحدًا منها لنفسه، وسماه فراز مرا آور خذايان، وتفسير ذلك: أقبلي إلى سيدتي. وعلى وجهه التعظيم للنار، وجعل الآخر لزراونداذ، وسماه زراونداذان، والآخر لكارد وسماه كارداذان، والآخر لماجشنس، وسماه ماجشنسفان، واتخذ في هذه الناحية ثلاث باغات، جعل في كل باغ منها اثنتي عشرة ألف نخلة، وفي باغ اثني عشر ألف أصل زيتون، وفي باغ اثنتي عشرة ألف سروة، ولم تزل هذه القرى والباغات وبيوت النيران في يد قوم من ولده معروفين إلى اليوم؛ وإن ذلك - فيما ذكر - إلى اليوم باقٍ على أحسن حالاته. وذكر أن بهرام بعد قراغه من أمر خاقان وأمر ملك الروم، مضى إلى بلاد السودان من ناحية اليمن، فأوقع بهم؛ فقتل منهم مقتلة عظيمة. وسبى منهم خلقًا، ثم انصرف إلى مملكته، ثم كان من أمر هلاكه ما قد وصفت. واختلفوا في مدة ملكه، فقال بعضهم: كان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا. وقال آخرون كان ملكه ثلاثًا وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا. ذكر ملك يزدجرد بن بهرام جور ثم قام الملك من بعده يزدجرد بن بهرام جور. فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف، فدعوا له وهنئوه بالملك، فرد عليهم ردًا حسنًا، وذكر أباه ومناقبه، وما كان منه إلى الرعية، وطول جلوسه كان لها، وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه مثل الذي كانوا يعهدونه من أبيه، فلا ينبغي لهم أن يستنكروه؛ فإن خلواته إنما تكون في مصلحة للمملكة وكيد الأعداء، وأنه قد استوزر مهر نرسي بن برازة صاحب أبيه، وأنه سائر فيهم بأحسن السيرة، ومستن لهم أفضل السنن، ولم يزل قامعًا لعدوه، رءوفًا برعيته وجنوده، محسنًا إليهم. وكان له ابنان: يقال لأحدهما هرمز، وكان ملكًا على سجستان، والآخر يقال له فيروز؛ فغلب هرمز على الملك من بعد هلاك أبيه يزدجرد، فهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصته وقصه هرمز أخيه، وأنه أولى بالملك منه، وسأله أن يمده بجيش يقاتل بهم هرمز، ويحتوي على ملك أبيه، فأبى ملك الهياطلة أن يجيبه إلى ما سأل من ذلك؛ حتى أخبر أن هرمز ملك ظلوم جائر فقال ملك الهياطلة: إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عمل أهله، ولا يستطاع أن ينتصف ويحترف في ملك الملك الجائر إلا بالجور والظلم. فأمد فيروز بعد أن دفع إليه الطالقان بجيش، فأقبل بهم وقاتل هرمز أخاه فقتله، وشتت جمعه، وغلب على الملك. وكان الروم التاثوا على يزدجرد بن بهرام في الخراج الذي كانوا يحملونه إلى أبيه، فوجه إليهم مهر نرسي بن برازة، وفي مثل العدة التي كان بهرام وجهه إليهم عليها، فبلغ له إرادته. وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر في قول بعضهم وفي قول آخرين سبع عشرة سنة. ذكر ملك فيروز بن يزدجرد ثم ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، بعد أن قتل أخاه وثلاثة نفر من أهل بيته. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: استعد فيروز من خراسان، واستنجد بأهل طخارستان وما يليها، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد، وهو بالري - وكان أمهما واحدة، واسمها دينك، وكانت بالمدائن تدبر ما يليها من الملك - فظفر فيروز بأخيه فحبسه، وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتدين، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن تدبير ذلك، الأمر حتى قسم ما في بيوت الأموال، وكف عن الجباية، وساسهم أحسن السياسة؛ فلم يهلك في تلك السنين أحدٌ ضياعًا إلا رجل واحد. وسار إلى قومٍ كانوا قد غلبوا على طخارستان يقال لهم الهياطلة، وقد كان قوادهم في أول ملكه لمعونتهم إياه على أخيه، وكانوا - فيما زعموا - يعملون عمل قوم لوط فلم يستحل ترك البلاد في أيديهم، فقاتلهم فقتلوه في المعركة، وأربعة بنين له، وأربعة أخوة، كلهم كان يتسمى بالملك، وغلبوا على عامة خراسان حتى سار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا من أهل شيراز، وكان فيهم عظيمًا، فخرج فيمن تبعه شبه المحتسب المتطوع حتى لقي صاحب الهياطلة، فأخرجه من بلاد خراسان، فافترقا على الصلح؛ ورد ما لم يضع مما في عسكر فيروز من الأسراء والسبي. وملك سبعًا وعشرين سنة. وقال غير هشام من أهل الأخبار: كان فيروز ملكًا محدودًا محارفًا مشئومًا على رعيته، وكان جل قوله وفعله فيما هو ضرر وآفة عليه وعلى أهل مملكته. وإن البلاد قحطت في ملكه سبع سنين متوالية، فغارت الأنهار والقنى والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وهاجت عامة الزروع والآجام في السهل والجبل من بلاده، وموتت فيها الطير والوحوش، وجاعت الأنعام والدواب؛ حتى كانت لا تقدر أن تحمل حمولة، وقل ماء دجلة، وعم أهل بلاده اللزبات والمجاعة والجهد والشدائد. فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم أنه لا خراج عليهم ولا جزية، ولا نائبة ولا سخرة، وأن قد ملكهم أنفسهم، ويأمرهم بالسعى فيما يقوتهم ويقيمهم، ثم أعاد الكتاب إليهم في إخراج كل من كان له منهم مطمورة أو هرى أو طعام أو غيره؛ مما يقوت الناس، والتآسي فيه، وترك الاستئثار فيه؛ وأن يكون حال أهل الغنى والفقر وأهل الشرف والضعة في التآسى واحدًا. وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنسيًا مات جوعًا عاقب أهل المدينة، أو أهل القرية، أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الأنسي جوعًا، ونكل بهم أشد النكاال. فساس فيروز رعيته في تلك اللزبة والمجاعة سياسة لم يعطب أحد منهم جوعًا؛ ما خلا رجلًا واحدًا من رستاق كورة أردشير خرةٌ، يدعى بديه فتعظم ذلك عظماء الفرس، وجميع أهل أردشير خرة وفيروز، وأنه ابتهل إلى ربه في نشر رحمته له ولرعيته، وإنزال غيثه عليهم؛ فأغاثه الله، وعادت بلاده في كثرة المياه على ما كانت تكون عليه، وصلحت الأشجار. وإن فيروز أمر فبنيت بالرى مدينة، وسماها رام فيروز، وفيما بين جرجان وباب صول مدينة، وسماها روشن فيروز، وبناحية أذربيجان مدينة وسماها شهرام فيروز. ولما حييت بلاد فيروز، واستوثق له الملك، وأثخن في اعدائه وقهرم، وفرغ من بناء هذه المدن الثلاث، سار بجنوده نحو خراسان مريدًا حرب إخشنوار ملك الهياطلة؛ فلما بلغ إخشنوار خبره اشتد منه رعبه. فذكر أن رجلًا من أصحاب إخشنوار بذل له نفسه، وقال له: اقطع يديَّ ورجليَّ، وألقنى على طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي - يريد بذلك فيما ذكر الاحتيال لفيروز - ففعل ذلك إخشنوار بذلك الرجل، وألقاه على طريق فيروز، فلما مر به أنكر حاله وسأله عن أمره، فأخبره أن إخشنوار فعل ذلك به لأنه قال له: لا قوام لك بفيروز وجنود الفرس. فرق له فيروز ورحمه، وأمر بحملة معه، فأعلمه على وجه النصح منه له - فيما زعم - أنه يدله وأصحابه على طريق مختصر لم يدخل إلى ملك الهياطلة منه أحد، فاغتر فيروز بذلك منه، وأخذ بالقوم في الطريق الذي ذكره له الأقطع، فلم يزل يقطع بهم مفازة بعد مفازة، فكلما شكوا عطشًا أعلمهم أنهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة؛ حتى إذا بلغ بهم موضعًا علم أنهم لا يقدرون فيه على ما تقدم ولا تأخر، بين لهم أمره، فقال أصحاب فيروز لفيروز: قد كنا حذرناك هذا أيها الملك فلم تحذر؛ فأما الآن فلا بد من المضى قدمًا حتى نوافى القوم على الحالات كلها. فمضوا لوجوهم، وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى عدوهم، فلما أشرفوا عليهم على الحال التي هم فيها دعوا إخشنوار إلى الصلح، على أن يخلى سبيلهم؛ حتى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل فيروز له عهد الله وميثاقة ألا يغزوهم ولا يروم أرضهم، ولا يبعث إليهم جندًا يقاتلونهم، ويجعل بين مملكتها حدًا لا يجوزه. فرضى إخشنوار بذلك، وكتب له به فيروز كتابًا مختومًا، وأشهد له على نفسه شهودًا، ثم خلى سبيله وانصرف. فلما صار إلى مملكته حمله الأنف والحمية على معاودة إخشنوار، فغزاه بعد أنم نهاه وزراؤه وخاصته عن ذلك؛ لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم وأبى إلا ركوب رأيه، وكان فيمن نهاه عن ذلك رجل كان يخصه ويجتبى رأيه، يقال له مز دبوذ، فلما رأى مز دبوذ لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها، ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد إخشنوار، وقد كان إخشنوار حفر خندقًا بينه وبين بلاد فيروز عظيمًا، فلما انتهى إليه فيروز عقد عليه القناطر، ونصب عليها رايات جعلها أعلامًا له ولأصحابه في انصرافهم، وجاز إلى القوم، فلما التقى بعسكرهم احتج عليه إخشنوار بالكتاب الذي كتبه له، ووعظه بعهده وميثاقه، فأبى فيروز إلا لجاجًا ومحكًا وتواقفًا، فكلم كل واحد منهما صاحبه كلامًا طويلًا، ونشبت بينهما بعد ذلك الحرب، وأصحاب فيروز على فتور من أمرهم؛ للعهد الذي كان بينهم وبين الهياطلة، وأخرج إخشنوار الصحيفة التي كتبها له فيروز، فرفعها على رمح وقال: اللهم خذ بما في هذا الكتاب. فانهزم فيروز وسها عن موضع الرايات، وسقط في الخندق، فهلك، وأخذ إخشنوار أثقال فيروز ونساءه وأمواله ودواوينه، وأصحاب جند فارس شيء لم يصبهم مثله قط. وكان بسجستان رجل من أهل كورة أردشير خرة من الأعاجم، ذو علم وبأس وبطش، يقال له: سوخرا، ومعه جماعة من الأساورة، فلما بلغه خبر فيروز ركب من ليلته، فأغذ السير حتى انتهى إلى إخشنوار، فأرسل إليه وآذنه بالحرب، وتوعده بالجائحة والبوار؛ فبعث إليه إخشنوار جيشًا عظيمًا. فلما التقوا ركب إليهم سوخرا فوجدهم مدلين، فيقال: إنه رمى بعض من ورد عليه منهم رمية فوقعت بين عينى فرسه حتى كادت النشابة تغيب في رأسه، فسقط الفرس، وتمكن سوخرا من راكبه، فاستبقاه وقال له: انصرف إلى صاحبك فأخبره بما رأيت، فانصرفوا إلى إخشنوار، وحملوا الفرس معم، فلما رأى أثر الرمية بهت وأرسل إلى سوخرا: أن سل حاجتك، فقال له: حاجتى أن ترد على الديوان، وتطلق الأسرى. ففعل ذلك، فلما صار الديوان في يده، واستنفذ الأسرى، استخرج من الديوان بيوت الأموال التي كانت مع فيروز، فكتب إلى إخشنوار أنه غير منصرف إلا بها. فلما تبين الجد؛ افتدى نفسه وانصرف سوخرا بعد استنقاذ الأسارى وأخذ الديوان وارتجاع الأموال، وجميع ما كان مع فيروز من خزائنه إلى أرض فارس، فلما صار إلى الأعاجم شرفوه وعظموا أمره، وبلغوا به من المنزلة ما لم يكن بعده إلا الملك. وهو سوخرا بن ويسابور بن زهان بن نرسى بن ويسابور بن قارن ابن كروان بن أبيد بن أوبيد بن تيرويه بن كردنك بن ناور بن طوس ابن نودكا بن منشو بن نودر بن منوشهر. وذكر بعض أهل العلم بأخبار الفرس من خبر فيروز وخبر إخشنوار نحوًا مما ذكرت؛ غير أنه ذكر أن فيروز لما خرج متوجهًا إلى إخشنوار، استخلف على مدينة طيسبون ومدينة بهرسير - وكانتا محلة الملوك - سوخرا هذا، قال: وكان بقال لمرتبته قارن، وكان يلي معهما سجستان. وأن فيروز لما بلغ منارة كان بهرام جور ابتناها فيما بين تخوم بلاد خراسان وبلاد الترك؛ لئلا يجوزها الترك إلى خراسان لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدى لها؛ وكان فيروز عاهد إخشنوار ألا يجاوزها إلى بلاد الهياطلة، أمر فيروز فصفد فيها خمسون فيلا وثلثمائة رجل، فجرت أمامه جرًا، واتبعها؛ أراد بذلك زعم الوفاء لإخشنوار بما عاهده عليه؛ فبلغ إخشنوار ما كان من فيروز في أمر تلك المنارة، فأرسل إليه يقول: انته يا فيروز عما انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه فلم يحفل فيروز بقوله، ولم تكرثه رسالته؛ وجعل يستطعم محاربة إخشنوار، ويدعوه إليها، وجعل إخشنوار يمتنع من محاربته ويستكرهها؛ لأن جل محاربة الترك إنما هو بالخداع والمكر والمكايدة، وأن إخشنوار أمر فحفر خلف عسكره خندق عرضه عشرة أذرع، وعمقه عشرون ذراعًا، وغمى بخشب ضعاف، وألقى عليه ترابًا، ثم ارتحل في جنده، فمضى غير بعيد، فبلغ فيروز رحلة إخشنوار بجنده من عسكره، فلم يشك في أن ذلك منهم انكشاف وهرب، فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في طلب إخشنوار وأصحابه، فأغذوا السير، وكان مسلكهم على ذلك الخندق. فلما بلغوه أقحموا على عماية، فتردى فيه فيروز وعامة جنده، وهلكوا من عند آخرهم. وإن إخشنوار عطف على عسكر فيروز، فاحتوى على كل شيء فيه، وأسر مو بذان موبذ، وصارت فيروز دخت ابنة فيروز فيمن صار في يده من نساء فيروز، وأمر إخشنوار فاستخرجت جثة فيروز وجثة كل من سقط معه في ذلك الخندق، فوضعت في النواويس، ودعا إخشنوار فيروز دخت إلى أن، يباشرها، فأبت عليه. وإن خبر هلاك فيروز سقط إلى بلاد فارس، فارتجوا له وفزعوا؛ حتى إذا استقرت حقيقة خبره عند سوخرا تأهب وسار في عظم من كان قبله من الجند إلى بلاد الياطلة. فلما بلغ جرجان بلغ إخشنوار خبر مسيره لمحاربته، فاستعد وأقبل ملتقيًا له، وأرسل إليه يستخبره عن خبره، ويسأله عن اسمه ومرتبته، فأرسل أنه رجل يقال له سوخرا، ولمرتبته قارن، وأنه إنما سار إليه لينتقم منه لفيروز، فأرسل إليه إخشنوار يقول: إن سبيلك في الأمر الذي قدمت له كسبيل فيروز. إذ لم يعقبه في كثرة جنوده من محاربته إياى إلا الهلكة والبوار، فلم ينهنه سوخرا قول إخشنوار، ولم يعبأ به، وأمر جنوده فاستعدوا وتسلحوا، ورحف إلى إخشنوار لشدة إقدامه وحدة قلبه، فطلب موادعته وصلحه، فلم يقبل منه سوخرا صلحًا دون أن يصير في يده كل شيء صار عنده من عسكر فيروز. فسلم إخشنوار إليه ما أصاب من أموال فيروز وخزائنه ومرابطة ونسائه، وفيهن فيروز دخت، ودفع إليه موبذان موبذ وكل أحد كان عنده من عظماء الفرس، فانصرف سوخرا بذلك كله إلى بلاد الفرس. واختلف في مدة ملك فيروز؛ فقال بعضهم: كانت ستًا وعشرين سنة وقال آخرون: كانت إحدى وعشرين سنة. ذكر ما كان من الأحداث في أيام يزدجرد بن بهرام وفيروز بين عمالهما على العرب وأهل اليمن حدثت عن هشام بن محمد، قال: كان يخدم الملوك من حمير في زمان ملكهم أبناء الأشراف من حمير وغيرهم من القبائل؛ فكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي، وكان سيد كندة في زمانه. فلما سار حسان بن تبع إلى جديس خلفه على بعض أموره، فلما قتل عمرو بن تبع أخاه حسان بن تبع، وملك مكانه، اصطنع عمرو بن حجر الكندي. وكان ذا رأي ونبل؛ وكان مما أراد عمرو إكرامه به وتصغير بني أخيه حسان أن زوجه ابنة حسان بن تبع، فتكلمت في ذلك حمير. وكان عندهم من الأحداث التي ابتلو بها؛ لأنه لم يكن يطمع في التزويج إلى أهل ذلك البيت أحد من العرب. وولدت ابنة حسان بن تبع لعمرو بن حجر الحارث بن عمرو، وملك بعد عمرو بن تبع عبد كلال بن مثوب؛ وذلك أن ولد حسان كانوا صغارًا، إلا ما كان من تبع بن حسان؛ فإن الجن استهامته، فأخذ الملك عبد كلال بن مثوب مخافة أن يطمع في الملك غير أهل بيت المملكة، فوليه بسن وتجربة وسياسة حسنه. وكان - فيما ذكروا - على دين النصرانية الأولى، وكان يسر ذلك من قومه، وكان الذي دعاه إليه رجل من غسان، قدم عليه في الشأم، فوثبت حمير بالغساني فقتلته، فرجع تبع بن حسان من استهامة الجن إياه صحيحًا، وهو أعلم الناس بنجم، وأعقل من تعلم في زمانه، وأكثره حديثًا عما كان قبله، وما يكون في الزمان بعده. فملك تبع ابن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، فهابته حمير والعرب هيبة شديدة، فبعث بابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء، امرأة من النمر، فذهب ملك آل النعمان، وملك الحارث بن عمرو والكندي ما كانوا يملكون. وقال هشام: ملك بعد النعمان ابنه المنذر بن النعمان وأمه هند ابنة زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني أربعًا وأربعين سنة؛ من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشر سنة. وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه الأسود بن المنذر، وأمه هر ابنه النعمان من بنى الهيجمانة، ابنة عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو الذي أسرته فارس عشرين سنة؛ من ذلك في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز، ست سنين. ذكر ملك بلاش بن فيروز ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه بلاش بن فيروز بن يزدجرد ابن بهرام جور، وكان قباذ أخوه قد نازعه الملك، فغلب بلاش، وهرب قباذ إلى خاقان ملك الترك يسأله المعونة والمدد، فلما عقد التاج لبلاش على رأسه اجتمع إليه العظماء والأشراف فهنئوه ودعوا له، وسألوه أن يكافئ سوخرا بما كان منه، فخصه وأكرمه وحباه، ولم يزل بلاش حسن السيرة، حريصًا على العمارة. وكان بلغ من حسن نظره أنه كان لا يبلغه أن بيتًا خرب وجلا أهله عنه إلا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت على تركه انتعاشهم وسد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم، وبنى بالسواد مدينة سماها بلا شاواذ، وهي مدينة ساباط التي بقرب المدائن. وكان ملكه أربع سنين. ذكر ملك قباذ بن فيروز ثم ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصرًا به على أخيه بلاش، فمر في طريقه بحدود نيسابور، ومعه جماعة يسيرة ممن شايعه على الشخوص متنكرين، وفيهم زرمهر بن سوخرا، فتاقت نفس قباذ إلى الجماع، فشكا ذلك إلى زرمهر، وسأله أن يلتمس له امراة ذات حسب، ففعل ذلك، وصار إلى امراة صاحب منزله، وكان رجلًا من الأساورة، وكانت له ابنة بكر فائقة في الجمال، فتنصح لها في ابنتها، وأشار عليها أن تبعث بها إلى قباذ، فأعلمت ذلك زوجها؛ ولم يزل زرمهر يرغب المرأة وزوجها؛ ويشير عليهما بما يرغبهما فيه حتى فعلا، وصارت الابنة إلى قباذ، واسمها نيوندخت، فغشيها قباذ في تلك اليلة، فحملت بأنوشروان، فأمر لها بجائزة حسنة، وحباها حباءً جزيلًا. وقيل: إن أم تلك الجارية سألتها عن هيئة قباذ وحاله، فأعلمتها أنها لا تعرف من ذلك غير أنها رأت سراويله منسوجًا بالذهب، فعلمت أمها أنه من أبناء الملوك وسرها ذلك. ومضى قباذ إلى خاقان؛ فلما وصل إليه أعلمه أنه ابن ملك فارس، وأن أخاه ضاده في الملك وغلبه، وأنه أتاه يستنصره فوعده أحسن العدة، ومكث قباذ عند خاقان أربع سنين يدافعه بما وعده. فلما طال الأمر على قباذ أرسل إلى امرأة خاقان يسألها أن تتخذه ولدًا، وأن تكلم فيه زوجها، وتسأله إنجاز عدته ففعلت، ولم تزل تحمل على خاقان حتى وجه مع قباذ جيشًا، فلما انصرف قباذ بذلك الجيش؛ وصار في ناحية نيسابور سأل الرجل الذي كان أتاه بالجارية عن أمرها، فاستخبر ذلك من أمها، فأخبرته أنها قد ولدت غلامًا، فأمر قباذ أن يؤتى بها، فأتته ومعها أنوشروان تقوده بيدها، فلما دخلت عليه سألها عن قصة الغلام، فأخبرته أنه ابنه، وإذا هو قد نزع إليه في صورته وجماله. ويقال: إن الخبر ورد عليه في ذلك الموضع بهلاك بلاش، فتيمن بالمولود، وأمر بحمله وحمل أمه على مراكب نساء الملوك، فلما صار إلى المدائن، واستوثق له أمر الملك خص سوخرا، وفوض إليه أمره، وشكر له ما كان من خدمة ابنه إياه، ووجه الجنود إلى الأطراف، ففتكوا في الأعداء، وسبوا سبايا كثيرةً، وبنى بين الأهواز وفارس مدينة الرجان، وبنى أيضًا مدينة حلوان، وبنى بكورة أردشير خرة في ناحية كارزين مدينة يقال لها قباذ خرة، وذلك سوى مدائن وقرى أنشأها، وسوى أنهار احتفرها، وجسورٍ عقدها. فلما مضت أكثر أيامه، وتولى سوخرا تدبير ملكه وسياسة أموره مال الناس عليه، وعاملوه واستخفوا بقباذ، وتهاونوا بأمره، فلما احتنك لم يحتمل ذلك، ولم يرض به، وكتب إلى سابور الرازي - الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان إصبهبذ البلاد - في القدوم عليه فيمكن قبله من الجند، فقدم سابور بهم عليه، فواصفه قباذ حالة سوخرا، وأمره بأمره فيه، فغدا سابور على قباذ فوجد عنده سوخرا جالسًا، فمشى نحو قباذ متجاوزًا له متغافلًا لسوخرا، فلم يأبه سوخرا لذلك من أرب سابور، حتى ألقى وهقًا كان معه في عنقه، ثم اجتذبه فأخرجه فأوثقه واستودعه السجن، فحينئذٍ قيل: " نقصت ريح سوخرا وهبت لمهران ريحٌ "، وذهب ذلك مثلًا. وإن قباذ أمر بعد ذلك بقتل سوخرا فقتل، وإنه لما مضى لملك قباذ عشر سنين اجتمعت كلمة موبذان موبذ والعظماء على إزالته عن ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، لمتابعته لرجل يقال له مزدك مع أصحاب له قالوا: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي، ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأنه من كان عنده فضلٌ من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلى الناس بهم، وقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، وحملوا قباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئًا مما يتسع به. وصيروا قباذ في مكان لا يصل إليه أحد سواهم، وجعلوا أخًا له يقال له جاماسب مكانه، وقالوا لقباذ: إنك قد أثمت فيما عملت به فيما مضى، وليس يطهرك من ذلك إلا إباحة نسائك، وأرادوه على أن يدفع إليهم نفسه فيذبحوه ويجعلوه قربانًا للنار، فلما رأى ذلك زرمهر بن سوخرا خرج بمن شايعه من الأشراف باذلا نفسه، فقتل في المزدكية ناسًا كثيرًا، وأعاد قباذ إلى ملكه، وطرح أخاه جاماسب. ثم لم يزل المزدكية بعد ذلك إنما يحرشون قباذ على زرمهر حتى قتله، ولم يزل قباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مزدك على ما حمله عليه؛ فانتشرت الأطراف وفسدت الثغور. وذكر بعض أهل العلم أخبار الفرس أن العظماء من الفرس هم حبسوا قباذ حين اتبع مزدك وشايعه على ما دعاه إليه من أمره، وملكوا مكانه أخاه جاماسب بن فيروز، وأن أختًا لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ محبوسًا، فحاولت الدخول عليه، فمنعها إياه الرجل الموكل كان بالحبس ومن فيه، وطمع الرجل أن يفضحها بذلك السبب، وألقى إليها طمعه فيها، فأخبرته أنها غير مخالفته في شيء مما يهوى منها، فأذن لها فدخلت السجن فأقامت عند قباذ يومًا، وأمرت فلف قباذ في بساط من البسط التي كانت معه في الحبس، وحمل على غلام من غلمانه قوي ضابط، وأخرج من الحبس، فلما مر الغلام بوالى الحبس سأله عما كان حامله فأفحم، واتبعته أخت قباذ فأخبرته أنه فراشٌ قد افترشته في عراكها، وأنها إنما خرجت لتتطهر وتنصرف؛ فصدقها الرجل ولم يمس البساط، ولم يدن مه استقذارًا له، وخلى عن الغلام الحامل لقباذ، فمضى بقباذ ومضت على أثره. وهرب قباذ فلحق بأرض الهياطلة ليستمد ملكها ويستجيشه فيحارب من خالفه ومن خلعه. وأنه نزل في مبدئه إليها بأبرشهر رجل من عظماء أهلها، له اينةٌ معصر، وأن نكاحه أم كسرى أنوشروان كان في سفره هذا، وأن قباذ رجع من سفره ذلك معه ابنه أنوشروان وأمه، فغلب أخاه جاماسب على ملكه بعد أن ملك أخوه جاماسب ست سنين، وأن قباذ غزا بعد ذلك بلاد الروم، وافتتح منها مدينةً من مدن الجزيرة تدعى آمد، وسبى أهلها، وأمر فبنيت في حد ما بين فارس وأرض الأهواز مدينة، وسماها رامقباذ، وهي التي تسمى بومقباذ، وتدعى أيضًا أرجان وكور كورة، وجعل لها رساتيق من كورة سرق، كورة رام هرمز، وملك قباذ ابنه كسرى، وكتب له بذلك كتابًا وختمه بخاتمه. فلما هلك قباذ - وكان ملكه بسنى ملك أخيه جاماسب: ثلاثاُ وأربعين سنة - فنفذ كسرى ما أمر به قباذ من ذلك. ذكر ما كان من الحوادث التي كانت بين العرب في أيام قباذ في مملكته وبين عماله وحدثت عن هشام بن محمد، قال: لما لقى الحارث بن عمرو بن حجر ابن عدي الكندي النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة قتله، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك، بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي: إنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهدٌ، وإني أحب أن القاك. وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه، واستضعفه الناس، فخرج إليه الحارث بن عمرو الكندي في عددٍ وعدة حتى التقوا بقنطرة الفيوم، فأمر قباذ بطبق من تمر فنزع نواة، وأمر بطبق فجعل فيه تمر فيه نواه، ثم وضعا بين أيديهما، فجعل الذي فيه النوى يلي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه يلي قباذ. فجعل الحارث يأكل التمر ويلقي النوى، وجعل قباذ يأكل ما يليه. وقال للحارث: مالك لا تأكل مثل ما آكل! فقال: له الحارث إنما يأكل النوى إبلنا وغنمنا. وعلم أن قباذ يهزأ به، ثم اصطلحا على أن يورد الحارث بن عمرو ومن أحب من أصحابه خيولهم الفرات إلى ألبابها، ولا يجاوزا أكثر من ذلك. فلما رأى الحارث ما عليه قباذ من الضعف طمع في السواد، فأمر أصحاب مسالحه أن يقطعوا الفرات فيغيروا في السواد، فأتى قباذ الصريخ وهم بالمدائن فقال: هذا من تحت كنف ملكهم. ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو أن لصوصًا من لصوص العرب قد أغاروا، وأنه يحب لقاءه. فلقيه، فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعًا ما صنعه أحد قبلك، فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوصٌ من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود، قال له قباذ: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحًا، فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيج، فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبعٍ وهو باليمن: إنى قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيج، فاجمع الجنود وأقبل فإنه ليس دون ملكهم شيءٌ لأن الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحل هراقة الدماء لأنه زنديق. فجمع تبعٌ الجنود، وسار حتى نزل الحيرة وقرب من الفرات، فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهرًا إلى النجف ففعل، وهو نهر الحيرة. فنزل عليه ووجه ابن أخيه شمرًا ذا الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمرٌ حتى لحق بالري، ثم أدركه بها فقتله، وأمضى تبعٌ شمرًا ذا الجناح إلى خراسان، ووجه تبع ابنه حسان إلى الصغد، وقال: أيكما سبق إلى الصين فهو عليها. وكان كل واحد منهما في جيشٍ عظيم؛ يقال: كانا في ستمائة ألفٍ وأربعين ألفًا. وبعث ابن أخيه يعفر إلى الروم، وهو الذي يقول: أيا صاح عجبك للداهية ** لحمير إذ نزلوا الجابيه! ثمانون ألفًا رواياهمو ** لكل ثمانية راويه فسار يعفر حتى أتى القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والإتاوة، ثم مضى إلى رومية وبينهما مسيرة أربعة أشهر، فحاصرها وأصاب من معه جوعٌ، ووقع فيهم طاعونٌ فرقوا، فأبصرهم الروم وما لقوا، فوثبوا عليهم فقتلوهم، فلم يفلت منهم أحدٌ. وسار شمرٌ ذو الجناح حتى أتى سمرقند، فحاصرها فلم يظفر بشيءٍ منها. فلما رأى ذلك أطاف بالحرس، حتى أخذ رجلًا من أهلها، فسأله عن المدينة وملكها، فقال له: أما ملكها فأحمق الناس، ليس له هم إلا الشراب والأكل، وله ابنة وهي التي تقضى أمر الناس. فبعث معه بهدية إليها، فقال له: أخبرها أنى إنما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها لتنكحني نفسها؛ فأصيب منها غلامًا يملك العجم والعرب، وأنى لم أجئ ألتمس المال، وأن معي أربعة الآف تابوت من ذهب وفضة هاهنا، فأنا أدفعها إليها، وأمضي إلى الصين، فإن كانت الأرض لي كانت امرأتي، وإن هلكت كان ذلك المال لها. فلما أنهيت إليها رسالته قالت: قد أجبته فليبعث بما ذكر، فأرسل إليها أربعة آلاف تابوت، في كل تابوتٍ رجلان، فكان لسمرقند أربعة أبواب على كل بابٍ منها أربعة آلاف رجل، وجعل العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل، وتقدم في ذلك إلى رسله الذين وجه معهم، فلما صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل فخرجوا، فأخذوا بالأبواب، ونهد شمر في الناس؛ فدخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها. ثم سار إلى الصين، فلقى زخوف الترك فهزمهم، ومضى إلى الصين فوجد حسان بن تبع قد كان سبقه إليها بثلاث سنين، فأقاما بها - فيما ذكر بعض الناس - حتى ماتا. وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة. قال: وقال من زعم أنهما أقاما بالصين حتى هلكا: إن تبعًا جعل النار فيما بينه وبينهم، فكان إذا حدث حدثٌ أوقدوا النار بالليل، فأتى الخبر في ليلة، وجعل آية ما بينه وبينهم أن أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثًا فهو هلاك تبع، وإن كانت من عندهم نارٌ فهو هلاك حسان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما. فمكثوا بذلك. ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم أوقد ثلاثًا فكان هلاك تبع. قال: وأما الحديث المجتمع عليه فإن شمرًا وحسان انصرفا في الطريق الذي كانا أخذا فيه حيث بدآ، حتى قدما على تبع بما حازا من الأموال بالصين، وصنوف الجوهر والطيب والسبى، ثم انصرفوا جميعًا إلى بلادهم، وسار تبع حتى قدم مكة، فنزل بالشعب من المطابخ، وكانت وفاة تبع باليمن، فلم يخرج أحدٌ من ملوك اليمن بعده عنها غازيًا إلى شيء من البلاد، وكان ملكه مائةً وإحدى وعشرين سنة. قال: ويقال إنه كان دخل في دين اليهود للأحبار الذين كانوا خرجوا من يثرب مع تبع إلى مكة عدةٌ كثيرة. قال: ويقولون: إن علم كعب الأحبار كان من بقية ما أورثت تلك الأحبار، وكان كعب الأحبار رجلًا من حمير. وأما ابن إسحاق فإنه ذكر أن الذي سار إلى المشرق من التبابعة تبع الاخر، وأنه تبع تبان أسعدأبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، وهوأبو حسان، حدثنا بذلك ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عنه. ذكر ملك كسرى أنوشروان ثم ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور. فلما ملك كتب إلى أربعة فاذوسبانين - كان كل واحد منهم على ناحية من نواحي بلاد فارس ومن قبلهم - كتبًا نسخة كتابه منها إلى فاذوسبان أذربيجان: بسم الله الرحمن الرحيم: من الملك كسرى بن قباذ إلى وارى ابن النخير جان فاذوسبان أذربيجان وأرمينية وحيزها، ود نباوند وطبرستان وحيزها، ومن قبله: سلام، فإن أحرى ما استوحش له الناس فقد من تخوفوا في فقدهم إياه زوال النعم ووقوع الفتن، وحلول المكاره بالأفضل فالأفضل منهم، في نفسه أو حشمه أو ماله أو كريمه، وإنا لا نعلم وحشةً ولا فقد شيء أجل رزيئةً عند العامة، ولا أحرى أن تعم به البلية من فقد ملكٍ صالح. وإن كسرى لما استحكم له الملك أبطل ملة رجلٍ منافقٍ من أهل فسا يقال له: " زراذشت بن خرّكان " ابتدعها في المجوسية، فتابعه الناس على بدعته تلك، وفاق أمره فيها، وكان ممن دعا العامة إليها رجلٌ من أهل مذرية يقال له: " مزدق بن بامداذ، وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه، التآسي في أموالهم وأهليهم، وذكر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنه لو لم يكن الذي أمرهم به، وحثهم عليه من الدين كان مكرمةً في الفعال، ورضًا في التفاوض. فحض بذلك السفلة على العلية، واختلط له أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهل السبيل للغصبة إلى الغصب، وللظلمة إلى الظلم، وللعهار إلى قضاء نهمتهم، والوصول إلى الكرائم اللائي لم يكونوا يطمعون فيهن، وشمل الناس بلاءٌ عظيمٌ لم يكن لهم عهدٌ بمثله. فنهى الناس كسرى عن السيرة بشيءٍ مما ابتدع زراذشت خرّكان، ومزدق بن بامداذ، وأبطل بدعتهما، وقتل بشرًا كثيرًا ثبتوا عليها، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه منها، وقومًا من المنانية، وثبت للمجوس ملتهم التي لم يزالوا عليها. وكان يلي الإصبهبذة - وهي الرياسة على الجنود - قبل ملكه رجلٌ، وكان إليه إصبهبذة البلاد، ففرق كسرى هذه الولاية والمرتبة بين أربعة إصبهذين، منهم أصبهذ المشرق وهو خراسان وما والاها، وأصبهذ المغرب، وأصبهذ نيمروز؛ وهي بلاد اليمن، وأصبهذ أذربيجان وما والاها، وهي بلاد الخزر، وما والاها؛ لما رأى في ذلك من النظام لملكه، وقوى المقاتلة بالأسلحة والكراع، وارتجع بلادًا كانت من مملكة فارس، خرج بعضها من يد الملك قباذ إلى ملوك الأمم لعلل شتى وأسباب، منها السند، وبست، والرخج، وزايلستان، وطخارستان، ودردستان، وكابلستان، وأعظم القتل في أمةٍ يقال لها البارز، وأجلى بقيتهم عن بلادهم وأسكنهم مواضع من بلاد مملكته، وأذعنوا له بالعبودية، واستعان بهم في حروبه، وأمر فأسرت أمةٌ أخرى، يقال لها صول، وقدم بهم عليه، وأمر بهم فقتلوا، ما خلا ثمانين رجلا من كماتهم استحياهم، وأمر بإنزالهم شهرام فيروز، يستعين بهم في حروبه. وإن أمةً يقال لها أبخز، وأمةً يقال لها بنجر، وأمة يقال لها بلنجر، وأمةً يقال لها ألّان؛ تمالئوا على غزو بلاده، وأقبلوا إلى أرمينية ليغيروا على أهلها، وكان مسلكهم إليها يومئذ سهلًا ممكنًا، فأغضى كسرى على ما كان منهم، حتى إذا تمكنوا في بلاده وجه إليهم جنودًا، فقاتلوهم واصطلموهم ما خلا عشرة آلاف رجلٍ منهم أسروا، فأسكنوا أذربيجان وما والاها، وكان الملك فيروز بنى في ناحية صول وألّان بناءً بصخرٍ أراده، أن يحصن بلاده عن تناول تلك الأمم إياها، وأحدث الملك قباذ بن فيروز من بعد أبيه في تلك المواطن بناءً كثيرًا، حتى إذا ملك كسرى أمر فبنيت في ناحية صول بصخرٍ منحوتٍ في ناحية جرجان مدنٌ وحصونٌ وآكامٌ وبنيانٌ كثيرٌ، ليكون حرزًا لأهل بلاده يلجئون إليها من عدوٍ إن داهمهم. وإن سنجبوا خاقان كان أمنع الترك وأشجعهم، وأعزهم وأكثرهم جنودًا، وهو الذي قاتل وزر ملك الهياطلة غير خائف كثرة الهياطلة ومنعتهم، فقتل وزر ملكها وعامة جنوده، وغنم أموالهم، واحتوى على بلادهم إلا ما كان كسرى غلب عليه منها، وإنه استمال أبخز، وبنجر، وبلنجر؛ فمنحوه طاعتهم وأعلموه أن ملوك فارس لم يزالوا يتقونهم بفداء يكفونهم به عن غزو بلادهم، وإنه أقبل في مائة ألف وعشرة آلاف مقاتل حتى شارف ما والى بلاد صول؛ وأرسل إلى كسرى في توعدٍ منه إياه واستطالةٍ عليه، أن يبعث إليه بأموالٍ، وإلى أبخز وبنجر وبلنجر بالفداء الذي كانوا يعطونه إياه قبل ملك كسرى، وأنه إن لم يعجِّل بالبعثة إليه بما سأل وطئ بلاده وناجزه. فلم يحفل كسرى بوعيده، ولم يجبه إلى شيء مما سأله لتحصينه كان ناحية باب صول، ومناعة السبل والفجاج التي كان سنجبوا خاقان سالكها إياه، ولمعرفته كانت بمقدرته على ضبط ثغر أرمينية بخمسة آلاف مقاتلٍ من الفرسان والرجالة. فبلغ سنجبوا خاقان تحصين كسرى ثغر صول، فانصرف بمن كان معه إلى بلاده خائبًا، ولم يقدر من كان بإزاء جرجان من العدو - للحصون التي كان أمر كسرى فبنيت حواليها - أن يشنوها بغارةٍ، ويغلبوا عليها، وكان كسرى أنوشروان قد عرف الناس منه فضلًا في رأيه وعلمه وعقله، وبأسه وحزمه، مع رأفته ورحمته بهم، فلما عقد التاج على رأسه دخل إليه العظماء والأشراف فاجتهدوا في الدعاء له، فلما قضوا مقالتهم، قام خطيبًا، فبدأ بذكر نعم الله على خلقه عند خلقه إياهم، وتوكله بتدبير أمورهم، وتقدير الأقوات والمعايش لهم، ولم يدع شيئًا إلا ذكره في خطبته، ثم أعلم الناس ما ابتلوا به من ضياع أمورهم، وامحاء دينهم، وفساد حالهم في أولادهم ومعاشهم، وأعلمهم أنه ناظرٌ فيما يصلح ذلك ويحسمه، وحث الناس على معاونته. ثم أمر برءوس المزدكية فضربت اعناقهم، وقسمت أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعةً كثيرةً ممن كان دخل على الناس في أموالهم، ورد الأموال إلى أهلها، وأمر بكل مولودٍ اختلف فيه عنده أن يلحق بمن هو منهم؛ إذا لم يعرف أبوه، وأن يعطى نصيبًا من مال الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها، وبرضى أهلها. ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده، وبين تزويجٍ من غيره؛ إلا أن يكون كان لها زوج أول، فترد إليه. وأمر بكل من كان أضر برجل في ماله أو ركب أحدًا بمظلمة أن يؤخذ منه الحق ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه. وأمر بعيال ذوي الأحساب الذي مات قيمهم فكتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح شبانهم من بيوتات الأشراف وساق عنهم، وأغناهم، وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله، وخيّر نساء والده بين أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصرن في الأجر إلى أمثالهن، أو يبتغي لهن أكفاءهن من البعولة. وأمر بكري الأنهار، وحفر القنى وإسلاف أصحاب العمارات وتقويتهم؛ وأمر بإعادة كل جسر قطع أو قنطرة كسرت، أو قرية خربت أن يرد ذلك إلى أحسن ما كان عليه من الصلاح، وتفقد الأساورة، فمن لم يكن له منهم يسار قواه بالدواب والعدة، وأجرى لهم ما يقويهم ووكل ببيوت النيران، وسهّل سبل الناس، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخيّر الحكام والعمال والولاة، وتقدم إلى من ولي منهم أبلغ التقدم، وعمد إلى سير أردشير وكتبه وقضاياه، فاقتدى بها وحمل الناس عليها، فلما استوثق له الملك، ودانت له البلاد سار نحو أنطاكية بعد سنين من ملكه، وكان فيها عظماء جنود قيصر، فافتتحها. ثم أمر أن تصور له مدينة أنطاكية على ذرعها وعدد منازلها وطرقها، وجميع ما فيها، وأن يبتنى له على صورتها مدينة إلى جنب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالرومية على صورة أنطاكية، ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إياها. فلما دخلوا باب المدينة مضى أهل كل بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكية؛ كأنهم لم يخرجوا عنها. ثم قصد لمدينة هرقل فافتتحها، ثم الإسكندرية وما دونها، وخلّف طائفة من جنوده بأرض الروم، بعد أن أذعن له قيصر وحمل إليه الفدية، ثم انصرف من الروم، فأخذ نحو الخزر فأدرك فيهم تبله، وما كانوا وتروه به في رعيته. ثم انصرف نحو عدن، فسكر ناحية من البحر هناك بين جبلين مما يلي أرض الحبشة بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل. وقتل عظماء تلك البلاد. ثم انصرف إلى المدائن؛ وقد استقام له ما دون هرقلة من بلاد الروم وأرمينية، وما بينه وبين البحرين من ناحية عدن. وملّك المنذر بن النعمان على العرب وأكرمه، ثم أقام في ملكه بالمدائن، وتعاهد ما كان يحتاج إلى تعاهده. ثم سار بعد ذلك إلى الهياطلة مطالبًا بوتر فيروز جده - وقد كان أنوشروان صاهر خاقان قبل ذلك - فكتب إليه قبل شخوصه يعلمه ما عزم عليه، ويأمره بالمسير إلى الهياطلة. فأتاهم، فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل جنوده فرغانة. ثم انصرف من خراسان، فلما صار بالمدائن وافاه قوم يستنصرونه على الحبشة، فبعث معهم قائدًا من قواده في جند من أهل الديلم وما يليها، فقتلوا مسروقًا الحبشي باليمن، وأقاموا بها. ولم يزل مظفرًا منصورًا تهابه جميع الأمم، ويحضر بابه من وفودهم عدد كثير من الترك والصين والخزر ونظرائهم، وكان مكرمًا للعلماء. وملك ثمانيًا وأربعين سنة، وكان مولد النبي ﷺ في آخر ملك أنوشروان. قال هشام: وكان ملك أنوشروان سبعًا وأربعين سنة. قال: وفي زمانه ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله ﷺ، في سنة اثنتين وأربعين من سلطانه. قال هشام: لما قوي شأن أنوشروان بعث إلى المنذر بن النعمان الأكبر - وأمه ماء السماء امرأة من النمر - فملّكه الحيرة وما كان يلي آل الحارث بن عمرو، آكل المرار. فلما يزل على ذلك حتى هلك. قال: وأنوشروان غزا بزجان، ثم رجع فبنى الباب والأبواب. وقال هشام: ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان - وأمه هر ابنة النعمان - سبع سنين. ثم ملك بعده النعمان بن الأسود بن المنذر - وأمه أم الملك ابنة عمرو بن حجر أخت الحارث بن عمرو الكندي - أربع سنين. ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور ابن أسس بن ربى بن نمارة بن لخم، ثلاث سنين. ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء - وهو ذو القرنين، قال: وإنما سمي بذلك لضفيرتين كانتا له من شعره، وأمه ماء السماء، وهي مارية ابنة عوف ابن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضيحان ابن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط؛ فكان جميع ملكه تسعًا وأربعين سنة. ثم ملك ابنة عمرو بن المنذر - وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار - ست عشرة سنة. قال: ولثماني سنين وثمانية أشهر من ملك عمرو بن هند ولد رسول الله ﷺ؛ وذلك في زمن أنوشروان وعام الفيل الذي غزا فيه الأشرم أبو يكسوم البيت. ذكر بقية خبر تبع أيام قباذ وزمن أنوشروان وتوجيه الفرس الجيش إلى اليمن لقتال الحبشة وسبب توجيهه إياهم إليها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: كان تبّع الآخر وهو تبّان أسعدأبو كرب حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وقد كان حين مر بها في بدءته لم يهج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابنًا له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها، واستئصال أهلها وقطع نخلها؛ فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره ليمتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلة، أحد بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول؛ فخرجوا لقتاله. وكان تبّع حين نزل بهم، قد قتل رجل منهم - من بني عدي بن النجار يقال له أحمر - رجلا من أصحاب تبّع، وجده في عذق له يجده، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبّره، ثم ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة يقال لها: ذات تومان. فزاد ذلك تبّعًا عليهم حنقًا. فبينا تبّع على ذلك من حربه وحربهم يقاتلهم ويقاتلونه - قال: فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم؛ ويقول: والله إن قومنا هؤلاء لكرام - إذ جاءه حبران من أحبار يهود منهم من بني قريظة، عالمان راسخان حين سمعا منه ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل؛ فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك؟ فقالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهى عند ذلك من قولهما عما كان يريد بالمدينة، ورأى أن لهما علمًا، وأعجبه ما سمع منهما. فانصرف عن المدينة، وخرج بهما معه إلى اليمن واتبعهما على دينهما. وكان اسم الحبرين كعبًا وأسدًا، وكانا من بني قريظة، وكانا ابني عم، وكانا أعلم أهل زمانهما كما ذكر لي ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق؛ عن يزيد بن عمرو؛ عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك، عن أشياخ من قومه ممن أدرك الجاهلية؛ فقال شاعر من الأنصار وهو خال ابن عبد العزى بن غزية بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، في حربهم وحرب تبّع، يفتخر بعمرو بن طلة ويذكر فضله وامتناعه: أصحا أم انتهى ذكره ** أم قضى من لذةٍ وطره أم تذكرت الشباب وما ** ذكرك الشباب أو عصره! إنها حربٌ رباعيةٌ ** مثلها آتى الفتى عبره فسلا عمران أو فسلا ** أسدًا إذ يغدو مع الزهره فيلقٌ فيهاأبو كربٍ ** سابغًا أبدانها ذفره ثم قالوا من يؤم بها ** ابني عوفٍ أم النجره يا بني النجار إن لنا ** فيهم قبل الأوان تره فتلقتهم عشنقةٌ ** مدها كالغبية النثره سيدٌ سامي الملوك ومن ** يغز عمرًا لا يجد قدره وقال رجل من الأنصار، يذكر امتناعهم من تبّع: تكلفني من تكاليفها ** نخيل الأساويف والمنصعه نخيلًا حمتها بنو مالكٍ ** خيول أبي كرب المفظعه قال: وكان تبّع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فوجه إلى مكة - وهي طريقه إلى اليمن - حتى إذا كان بالدف من جمدان بين عسفان وأمج، في طريقه بين مكة والمدينة، أتاه نفر من هذيل، فقالوا له: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر، قد أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟ قال: بلى. قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده. وإنما يريد الهذليون بذلك هلاكه لما قد عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده. فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك؛ ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعًا، قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه، وتحلق عنده رأسك وتتذلل له حتى تخرج من عنده. قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك؛ ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوا حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك. أو كما قالا له. فعرف نصحهما وصدق حديثهما، فقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم. ثم مضى حتى قدم مكة، وأري في المنام أن يكسو البيت، فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل؛ فكان تبع - فيما يزعمون - أول من كساه وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وألا يقربوه دمًا ولا ميتة ولا مئلاثًا وهي المحائض، وجعل له بابًا ومفتاحًا، ثم خرج متوجهًا إلى اليمن بمن معه من جنوده، وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة ابن عبيد الله يحدث أن تبّعًا لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دينٌ خير دينكم، قالوا: فحاكمنا إلى النار، قال: نعم - قال: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نارٌ تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم - فلما قالوا ذلك لتبع قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج النار منه، فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذمرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر فصبروا، حتى غشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما، لم تضرهما، فأصفقت حمير عند ذلك على دينه؛ فمن هناك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أصحابه أن الحبرين ومن خرج معهما من حمير؛ إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجالٌ من حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا عنها فلم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه؛ فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، وكان رئام بيتًا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم ويلعب بهم، فخل بيننا وبينه، قال: فشأنكما به؛ فاستخرجا منه - فيما يزعم أهل اليمن - كلبًا أسود، فذبحاه وهدما ذلك البيت؛ فبقاياه اليوم باليمن - كما ذكر لي - وهو رئام به آثار الدماء التي كانت تهراق عليه. فقال تبع في مسيرة ذلك وما كان هم به من أمر المدينة وشأن البيت وما صنع برجال هذيل الذين قالوا له ما قالوا، وما صنع بالبيت حين قدم مكة من كسوته وتطهيره، وما ذكر له الحبران من أمر رسول الله ﷺ: ما بال نومك مثل نوم الأرمد ** أرقًا كأنك لا تزال تسهد حنقًا على سبطين حلَّا يثربًا ** أولى لهم بعقاب يومٍ مفسد! ولقد نزلت من المدينة منزلًا ** طاب المبيت به وطاب المرقد وجعلت عرصة منزلٍ برباوةٍ ** بين العقيق إلى بقيع الغرقد ولقد تركنا لابها وقرارها ** وسباخها فرشت بقاعٍ أجرد ولقد هبطنا يثربًا وصدورنا ** تغلي بلابلها بقتلٍ محصد ولقد حلفت يمين صبرٍ مؤليًا ** قسمًا لعمرك ليس بالمتردد إن جئت يثرب لا أغادر وسطها ** عذقًا ولا بسرًا بيثرب يخلد حتى أتاني من قريظة عالمٌ ** حبرٌ لعمرك في اليهود مسود قال ازدجر عن قريةٍ محفوظةٍ ** لنبي مكة من قريشٍ مهتد فعفوت عنهم عفو غير مثربٍ ** وتركتهم لعقاب يومٍ سرمد وتركتهم لله أرجو عفوه ** يوم الحساب من الجحيم الموقد ولقد تركت بها له من قومنا ** نفرًا أولي حسبٍ وبأسٍ يحمد نفرًا يكون النصر في أعقابهم ** أرجو بذاك ثواب رب محمد ما كنت أحسب أن بيتًا طاهرًا ** لله في بطحاء مكة يعبد حتى أتاني من هذيلٍ أعبدٌ ** بالدف من جمدان فوق المسند قالوا بمكة بيت مالٍ داثرٍ ** وكنوزه من لؤلؤٍ وزبرجد فأردت أمرًا حال ربي دونه ** والله يدفع عن خراب المسجد فرددت ما أملت فيه وفيهم ** وتركتهم مثلًا لأهل المشهد قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ** ملكًا تدين له الملوك وتحشد ملك المشارق والمغارب يبتغي ** أسباب علم من حكيمٍ مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها ** في عين ذي خلبٍ وثأطٍ حرمد من قبله بلقيس كانت عمتي ** ملكتهم حتى أتاها الهدهد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: هذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم، وأنه أراد هلاكهم حين قدم عليهم المدينة، فمنعوه منهم، حتى انصرف عنهم ولذلك قال في شعره: حنقًا على سبطين حلا يثربًا ** أولى لهم بعقاب يوم مفسد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وقد كان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهنًا، فأقام عنده، فلما أراد توديعه قال تبع: ما بقي من علمك؟ قال: بقى خبر ناطق، وعلم صادق، قال: فهل تجد لقومٌ ملكًا يوازي ملكي؟ قال: لا إلا لملك غسان نجل، قال: فهل تجد ملكًا يزيد عليه؟ قال: نعم، قال: ولمن؟ قال أجده لبار مبرور، أيد بالقهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجيء، أحد بن لؤي، ثم أحد بني قصي. فبعث تبع إلى الزبور فنظر فيها، فإذا هو يجد صفة للنبي ﷺ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن حدثه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وغيره من علماء أهل اليمن، ممن يروى الأحاديث، فحدث بعضهم بعض الحديث، وكل ذلك قد اجتمع في هذا الحديث: أن ملكًا من لخم، كان باليمن فيما بين التبابعة من حمير، يقال له: ربيعة بن نصر، وقد كان قبل ملكه باليمن ملك تبع الأول، وهو زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي ابن سبأ الأصغر بن كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية ابن جشم بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع ابن العرنجج حمير بن سبأ الأكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان. وكان اسم سبأ عبد شمس؛ وإنما سمى سبأ - فيما يزعمون - لأنه كان أول من سبى في العرب. فهذا بيت مملكة حمير الذي فيه كانت التبابعة، ثم كان بعد تبع الأول زيد بن عمرو، وشمر يرعش بن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار، ابن عمه. وشمر يرعش الذي غزا الصين وبنى سمرقند وحير الحيرة، وهو الذي يقول: أناشمرٌأبو كرب اليماني ** جلبت الخيل من يمنٍ وشامٍ لآتي أعبدًا مردوا علينا ** وراء الصين في عثم ويام فنحكم في بلادهم بحكمٍ ** سواء لا يجاوزه غلامٌ القصيدة كلها. قال: ثم كان بعد شمر يرعش بن ياسر ينعم تبع الأصغر، وهو تبان أسعدأبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار، وهو الذي قدم المدينة، وساق الحبرين من يهود إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه، وقال ما قال من الشعر فكل هؤلاء ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر اللخمي؛ فلما هلك ربيعة بن نصر؛ رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته، وفظع بها، فلما رآها بعث في أهل مملكته، فلم يدع كاهنًا ولا ساحرًا ولا عائفًا ولا منجمًا إلا جمعه إليه، ثم قال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبروني بتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا لنخبرك بتأويلها، قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها. فلما قال لهم ذلك قال رجل من القوم الذين جمعوا لذلك: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق، فإنه ليس أحدٌ أعلم منهما، فهما يخبرانك بما سألت - واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان، وكان يقال لسطيح: الذئبي، لنسبته إلى ذئب بن عدي. وشق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار. فلما قالوا له ذلك بعث إليهما، فقدم عليه قبل شق سطيح، ولم يكن في زمانهما مثلهما من الكهان، فلما قدم عليه سطيح دعاه فقال له: يا سطيح، إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها، قال - أفعل، رأيت جمجمة - قال أبو جعفر: وقد وجدته في مواضع أخر، رأيت حممة - خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض ثهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة. فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئًا يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش. قال له الملك: وأبيك يا سطيح؛ إن هذا لغائظ موجع، فمتى هو كائن يا سطيح؟ أفي زماني أم بعده؟ قال: لا بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين. قال: فهل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين، يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعون، ويخرجون منها هاربين. قال الملك: ومن ذا الذي يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدًا باليمن. قال أفيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي. قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر يا سطيح من آخر؟ قال: نعم. يوم يجمع فيه الأولون والآخرون. ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحقٌ ما تخبرنا يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق. فلما فرغ قدم عليه شق، فدعاه، فقال له: يا شق، إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني عنها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها - كما قال لسطيح؛ وقد كتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان - قال: نعم، رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما رأى ذلك الملك من قولهما شيئًا واحدًا، قال له: ما أخطأت يا شق منها شيئًا، فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قال: بل بعدك بزمان، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان. قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال: غلام ليس بدني ولا مدن، يخرج من بيت ذي يزن، قال: فهل يدوم سلطانه أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل؛ يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم يجزى فيه الولاة، يدعى من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات. قال: أحق ما تقول يا شق؟ قال: إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض؛ إن ما نبأتك لحق ما فيه أمض. فلما فرغ من مسألتهما، وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان ابن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما قال سطيح وشق لربيعة بن نصر ذلك، وصنع ربيعة بولده وأهل بيته ما صنع، ذهب ذكر ذلك في العرب، وتحدثوا حتى فشا ذكره وعلمه فيهم، فلما نزلت الحبشة اليمن، ووقع الأمر الذي كانوا يتحدثون به من أمر الكاهنين، قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، في بعض ما يقول، وهو يذكر ما وقع من أمر ذينك الكاهنين: سطيح وشق: ما نظرت ذات أشفارٍ كنظرتها ** حقًا كما نطق الذئبي إذ سجعا وكان سطيح إنما يدعوه العرب الذئبي، لأنه من ولد ذئب بن عدي. فلما هلك ربيعة بن نصر، واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب ابن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، كان مما هاج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير وانقطاع مدة سلطانهم - ولكل أمر سبب - أن حسان ابن تبان أسعد أبي كرب، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض العجم، كما كانت التبابعة قبله تفعل؛ حتى إذا كان ببعض أرض العراق، كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم؛ فكلموا أخًا له كان معه في جيشه، يقال له عمرو، فقالوا له: اقتل أخاك حسان نملكك علينا مكانه، وترجع بنا إلى بلادنا. فتابعهم على ذلك، فأجمع أخوه ومن معه من حمير وقبائل اليمن على قتل حسان، إلا ما كان من ذي رعين الحميري، فإنه نهاه عن ذلك، وقال له: إنكم أهل بيت مملكتنا، لا تقتل أخاك ولا تشتت أمر أهل بيتك - أو كما قال له - فلما لم يقبل منه قوله - وكان ذو رعين شريفًا من حمير - عمد إلى صحيفة فكتب فيها: ألا من يشتري سهرًا بنومٍ ** سعيدٌ من يبيت قرير عين فإما حميرٌ غدرت وخانت ** فمعذرة الإله لذي رعين ثم ختم عليها. ثم أتى بها عمرًا، فقال له: ضع لي عندك هذا الكتاب، فإن لي فيه بغيةً وحاجة، ففعل. فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه عمرو وحمير وقبائل اليمن من قتله، قال لعمرو: يا عمرو لا تعجل علي منيتي ** فالملك تأخذه بغير حشود فأبى إلا قتله، فقتله ثم رجع بمن معه من جنده إلى اليمن. فقال قائل من حمير: إن لله من رأى مثل حسا ** ن قتيلا في سالف الأحقاب قتلته الأقيال من خشية الجي ** ش وقالوا له لباب لباب ميتكم خيرنا وحيكم ** ربٌ علينا وكلكم أربابي فلما نزل عمرو بن تبان أسعد أبي كرب اليمن منع منه النوم، وسلط عليه السهر - فيما يزعمون - فجعل لا ينام، فلما جهده ذلك جعل يسأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به، ويقول: منع مني النوم فلا أقدر عليه، وقد جهدني السهر، فقال له قائل منهم: والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيًا على مثل ما قتلت عليه أخاك إلا ذهب نومه، وسلط عليه السهر، فلما قيل له ذلك، جعل يقتل كل من كان أمره بقتل أخيه حسان من أشراف حمير وقبائل اليمن، حتى خلص إلى ذي رعين، فلما أراد قتله قال: إن لي عندك براءة مما تريد أن تصنع بي، قال له: وما براءتك عندي؟ قال: أخرج الكتاب الذي كنت استودعتكه ووضعته عندك، فأخرج له الكتاب، فإذا فيه ذانك البيتين من الشعر: ألا من يشتري سهرًا بنومٍ ** سعيدٌ من يبيت قرير عين فإما حميرٌ غدرت وخانت ** فمعذرة الإله لذي رعين فلما قرأهما عمرو قال له ذو رعين: قد كنت نهيتك عن قتل أخيك فعصيتني، فلما أبيت علي وضعت هذا الكتاب عندك حجة لي عليك، وعذرًا لي عندك، وتخوفت أن يصيبك إن أنت قتلته الذي أصابك، فإن أردت بي ما أراك تصنع بمن كان أمرك بقتل أخيك، كان هذا الكتاب نجاةً لي عندك، فتركه عمرو بن تبان أسعد فلم يقتله من بين أشراف حمير، ورأى أن قد نصحه لو قبل منه نصيحته. وقال عمرو بن تبان أسعد حين قتل من قتل من حمير وأهل اليمن ممن كان أمره بقتل أخيه حسان، فقال: شرينا النوم إذ عصبت علاب ** بتسهيدٍ وعقدٍ غير مين تنادوا عند غدرهم: لباب ** وقد برزت معاذر ذي رعين قتلنا من تولى المكر منهم ** بواءً بابن رهمٍ غير دين قتلناهم بحسان بن رهمٍ ** وحسان قتيل الثائرين قتلناهم فلا بقيا عليهم ** وقرت عند ذاكم كل عين عيون نوادبٍ يبكين شجوًا ** حرائر من نساء الفيلقين أوانس بالعشاء وهن حور ** إذا طلعت فروع الشعريين فنعرف بالوفاء إذا انتمينا ** ومن يغدر نباينه ببين فضلنا الناس كلهم جميعًا ** كفضل الإبرزي على اللجين ملكنا الناس كلهم جميعًا ** لنا الأسباب بعد التبعين ملكنا بعد داودٍ زمانًا ** وعبدنا ملوك المشرقين زبرنا في ظفار زبور مجدٍ ** ليقرأه قروم القريتين فنحن الطالبون لكل وترٍ ** إذا قال المقاول أين أين! سأشفي من ولاة المكر نفسي ** وكان المكر حينهم وحيني أطعتهم فلم أرشد وكانوا ** غواةً أهلكوا حسبي وزيني قال: ثم لم يلبث عمرو بن تبان أسعد أن هلك قال هشام بن محمد: عمرو بن تبع هذا يدعى موثبان؛ لأنه وثب على أخيه حسان بفرضة نعم فقتله - قال: وفرضة نعم رحبة طوق بن مالك، وكانت نعم سرية تبع حسان بن أسعد. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فمرج أمر حمير عند ذلك، وتفرقوا، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة منهم، يقال: له لخنيعة ينوف ذو شناتر، فملكهم فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير، يذكر ما ضيعت حمير من أمرها، وفرقت جماعتها، ونفت من خيارها: تقتل ابناها وتنفي سراتها ** وتبني بأيديهم لها الذل حمير تدمر دنياها بطيش حلومها ** وما ضيعت من دينها فهو أكثر كذاك القرون قبل ذاك بظلمها ** وإسرافها تأتي الشرور فتخسر وكان لخنيعة ينوف ذو شناتر يصنع ذلك بهم - وكان امرأ فاسقًا يزعمون أنه كان يعمل عمل لوط، ثم كان - مع الذي بلغ منهم من القتل والبغي - إذا سمع بالغلام من أبناء الملوك قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك، لئلا يملك بعد ذلك أبدًا، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده، وهم اسفل منه، قد أخذ سواكًا، فجعله في فيه - أي ليعلمهم أنه قد فرغ منه ثم يخلي سبيله، فيخرج على حرسه وعلى الناس وقد فضحه؛ حتى إذا كان آخر أبناء تلك الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار أخو حسان - وزرعة كان صبيًا صغيرًا حين أصيب أخوه، فشب غلامًا جميلًا وسيمًا ذا هيئة وعقل - فبعث إليه لخنيعة ينوف ذو شناتر؛ ليفعل به كما كان يفعل بأبناء الملوك قبله، فلما أتاه رسوله عرف الذي يريد به، فأخذ سكينًا حديدًا لطيفًا، فجعله بين نعله وقدمه، ثم انطلق إليه مع رسوله، فلما خلا به في مشربته تلك أغلقها عليه وعليه، ثم وثب عليه وواثبه ذو نواس بالسكين فطعنه به حتى قتله، ثم احتز رأسه، فجعله في كوة مشربته تلك التي يطلع منها إلى حرسه وجنده، ثم أخذ سواكه ذلك، فجعله في فيه ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذو نواس، أرطب أم يباس؟ فقال: سل نخماس استرطبان ذو نواس، استرطبان ذو نواس؛ لاباس. فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال، فإذا رأس لخيعة ينوف ذي شناتر في الكوة مقطوع في فيه سواكه، قد وضعه ذو نواس فيها. فخرجت حمير والأحراس في أثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا له: ما ينبغي لنا أن يملكنا إلا أنت؛ إذ أرحتنا من هذا الخبيث. فملكوه واستجمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير. وتهود وتهودت معه حمير، وتسمى يوسف، فأقام في ملكه زمانًا. وبنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل أهل فضل واستقامة، لهم من أهل دينهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر؛ وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها. ثم إن رجلًا من بقايا أهل ذلك الدين وقع بين أظهرهم يقال له فيميون، فحملهم عليه فدانوا به. قال هشام: زرعة ذو نواس؛ فلما تهود سمى يوسف، وهو الذي خد الأخدود بنجران وقتل النصارى. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس، عن وهب بن منبه اليماني، أنه حدثهم أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلًا من بقايا أهل دين عيسى بن مريم يقال له فيميون، وكان رجلًا صالحًا مجتهدًا زاهدًا في الدنيا، مجاب الدعوة، وكان سائحًا ينزل القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف فيها وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد؛ فإذا كان الأحد لم يعمل فيه شيئًا، وخرج إلى فلاة من الأرض فصلى بها حتى يمسى، وكان في قرية من قرى الشأم يعمل عمله ذلك مستخفيًا؛ إذ فطن لشأنه رجل من أهلها، يقال له صالح، فأحبه صالح حبًا لم يحبه شيئًا كان قبله، فكان يتبعه حيث ذهب، ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع، وقد اتبعه صالح، وفيميون لا يدري، فجلس صالح منه منظر العين، مستخفيًا منه لا يحب أن يعلم مكانه، وقام فيميون يصلى، فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين - الحية ذات الرءوس السبعة - فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت، ورآها صالح، ولم يدر ما أصابها، فخافها عليه فعيل عوله، فصرخ: يا فيميون، التنين قد أقبل نحوك! فلم يلتفت إليه، وأقبل على صلاته حتى فرغ وأمسى، وانصرف وعرف أنه قد عرف، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه، فكلمه، فقال: يا فيميون، يعلم الله ما أحببت شيئًا حبك قط، وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيثما كنت. قال: ما شئت، أمرى كما ترى؛ فإن ظننت أنك تقوى عليه فنعم. فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية أن يفطنوا لشأنه، وكان إذا فاجأه العبد به ضر، دعا له فشفى، وإذا دعى إلى أحد به الضر لم يأته. وكان لرجل من أهل القرية ابنٌ ضرير، فسأل عن شأن فيميون، فقيل له: إنه لا ياتي أحدًا إذا دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته، وألقى عليه ثوبًا، ثم جاءه فقال له: يا فيميون؛ إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملًا، فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه، فانطلق معه حتى دخل حجرته، ثم قال: ما تريد أن تعمل في بيتك؟ قال: كذا وكذا. ثم انتشط الرجل الثوب عن الصبي، ثم قال: يا فيميون، عبد من عباد الله أصابه ما ترى، فادع الله له، فقال فيميون حين رأى الصبي: اللهم عبد من عبادك دخل عليه عدوك في نعمتك ليفسدها عليه فاشفه وعافه، وامنعه منه، فقام الصبي ليس به بأس. وعرف فيميون أنه قد عرف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينما هو يمشي في بعض الشأم مر بشجرة عظيمة، فناداه منها رجل، فقال: أفيميون! قال: نعم، قال: ما زلت أنتظرك وأقول: متى هوجاء؟ حتى سمعت صوتك، فعرفت أنك هو، لاتبرح حتى نقوم على، فإنى ميت الآن. قال: فمات، وقام عليه حتى واراه م انصرف ومعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدى عليهما فاختطفتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران - وأهل نجران يومئذ على دين العرب، تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم، لهم عيد كل سنة؛ إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحلى النساء. ثم خرجوا، فعكفو عليها يومًا - فابتاع رجل من أشرافهم فيميون، وابتاع رجل آخر صالحًا، فكان فيميون إذا قام من الليل - في بيت له أسكنه إياه سيده الذي ابتاعه - يصلى، استسرج له البيت نورًا، حتى يصبح من غير مصباح؛ فرأى ذلك سيده فأعجبه ما رأى، فسأله عن دينه فأخبره به، فقال له فيميون: إنما أنتم في باطل؛ وإن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع؛ لو دعوت عليها الذي أعبد أهلكها، وهو الله وحده لا شريك له. قال: فقال له سيده: فافعل؛ فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما كنا عليه، قال: فقام فيميون، فتطهر ثم صلى ركعتين، ثم دعا الله عليهما، فأرسل الله يحًا فجعفتها من أصلها فألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم. ثم دخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض. فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب. فهذا حديث وهب بن منبه في خبر أهل نجران. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد، مولى لبني هاشم، عن محمد بن كعب القرظي. قال: وحدثني محمد بن إسحاق أيضًا عن بعض أهل نجران أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريبًا من نجران - ونجران القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما أن نزلها فيميون - قال: ولم يسموه باسمه الذي سماه به وهب بن منبه، قالوا: رجل نزلها - ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله ابن الثامر، مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم، فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن الاسم الأعظم - وكان يعلمه - فكتمه إياه وقال: يا بن أخي، إنك لن تحتمله؛ أخشى ضعفك عنه. فلما أبى عليه - والثامرأبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه عبد الله يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان - فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه، وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسمًا يعلمه إلا كتبه في قدح؛ لكل اسم قدح؛ حتى إذا أحصاها أوقد لها نارًا، ثم جعل يقذفها فيها قدحًا قدحًا؛ حتى إذا مر بالأسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها، لم يضره شيء؛ فقام إليه فأخذه، ثم أتى صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه، فقال له: ما هو؟ قال؛ كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره كيف صنع، قال: فقال: يا بن أخي، قد أصبته فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله بن الثامر إذا أتى نجران لم يلق أحدًا به ضر إلا قال له: يا عبد الله، أتوحد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق أحدٌ بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا له فعوفى، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت على أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك! قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض، ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به؛ فإنك إن فعلت ذلك سلطت على قتلتني، فوحد الله ذلك الملك، وشهد بشهادة عبد الله ابن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله؛ فهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران. فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن ذلك. والله أعلم. قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده من حمير وقبائل اليمن، فجمعهم ثم دعاهم إلى دين اليهودية، فخيرهم بين القتل والدخول فيها، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف؛ ومثل بهم كل مثلة، حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألفًا، وأفلت منهم رجل يقال له دوس ذو ثعلبان، على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم. قال: وقد سمعت بعض أهل اليمن يقول: إن الذي أفلت منهم رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض. قال: وأثبت الحديثين عندي الذي حدثني أنه دوس ذو ثعلبان. ثم رجع ذو نواس بمن معه من جنوده إلى صنعاء من أرض اليمن. ففي ذي نواس وجنوده تلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: أنزل الله على رسوله: " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود " إلى قوله: " بالله العزيز الحميد ". يقال: كان فيمن قتل ذو نواس عبد الله ابن الثامر رئيسهم وإمامهم. ويقال: عبد الله ابن الثامر قُتل قبل ذلك، قتله ملك كان قبله، هو كان أصل ذلك الدين؛ وإنما قتل ذو نواس من كان بعده من أهل دينه. وأما هشام بن محمد فإنه قال: لم يزل ملك اليمن متصلًا لا يطمع فيه طامع، حتى ظهرت الحبشة على بلادهم في زمن أنوشروان. قال: وكان سبب ظهورهم أن ذا نواس الحميري ملك اليمن في ذلك الزمان، وكان يهوديًا، فقدم عليه يهودي، يقال له دوس من أهل نجران، فأخبره أن أهل نجران قتلوا ابنين له ظلمًا، واستنصره عليهم - وأهل نجران نصارى - فحمي ذو نواس لليهودية، فغزا أهل نجران، فأكثر فيهم القتل، فخرج رجل من أهل نجران، حتى قدم على ملك الحبشة، فأعلمه ما ركبوا به، وأتاه بالإنجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن، وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إلي بسفن أحمل فيها الرجال. فكتب إلى قيصر في ذلك، وبعث إليه بالإنجيل المحرق، فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ أنه حدث أن رجلًا من أهل نجران في زمن عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجاته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدًا واضعًا يده على ضربة في رأسه ممسكًا عليها بيده؛ فإذا أخرت يده عنها انثبعت دمًا، وإذا أرسلت يده ردها عليها، فأمسك دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: " ربي الله ". فكتب فيه إلى عمر يخبره بأمره، فكتب إليهم عمر: أن أقروه على حاله، وردوا عليه الدفن الذي كان عليه. ففعلوا. وخرج دوس ذو ثعلبان، حين أعجز القوم على وجهه ذلك؛ حتى قدم على قيصر صاحب الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا، ونأت عنا، فلا نقدر على أن نتناولها بالجنود؛ ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة؛ فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك منا فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك، واستحل منك ومن أهل دينك ما استحل. فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره، وطلب ثأره ممن بغى عليه على أهل دينه. فلما قدم دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر على النجاشي صاحب الحبشة بعث معه سبعين ألفًا من الحبشة وأمر عليهم رجلًا منهم من أهل الحبشة، يقال له أرياط؛ وعهد إليه: إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، وأخرب ثلث بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم. فخرج أرياط ومعه جنوده، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فركب البحر ومعه دوس ذو ثعلبان، حتى نزلوا بساحل اليمن، وسمع بهم ذو نواس فجمع إليه حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على اختلاف وتفرق، لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم يكن له حرب غير أنه ناوش ذو نواس شيئًا من قتال، ثم انهزموا، ودخلها أرياط بمجموعه، فلما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر، حتى أفضى به إلى غمرة، فأقحمه فيه، فكان آخر العهد به. ووطئ أرياط اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها، وأخرب ثلث بلادها، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها ثم أقام بها، قد ضبطها وأذلها، فقال قائل من أهل اليمن، وهو يذكر ما ساق إليهم دوس ذو ثعلبان من أمر الحبشة؛ فقال: " لا كدوس ولا كأعلاق رحله ". وهو يذكر ما ساق إليهم دوس ذو ثعلبان من أمر الحبشة فقال: " لا كدوس ولا كأعلاق رحله ". يعني ما ساق إليهم من الحبشة، فهي مثل باليمن إلى اليوم. وقال ذو جدنٍ الحميري وهو يذكر حمير، وما دخل عليها من الذل بعد العز الذي كانوا فيه، وما هدم من حصون اليمن، وكان أرياط قد أخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان؛ حصونًا لم يكن في الناس مثلها، فقال: هونك ليس يرد الدمع ما فاتا ** لا تهلكي أسفًا في ذكر من ماتا أبعد بينون لا عينٌ ولا أثرٌ ** وبعد سلحين يبنى الناس أبياتًا! وقال ذو جدن الحميري في ذلك: دعيني لا أبا لك لن تطيقي ** لحاك الله قد أنزفت ريقي لدى عزف القيان إذ انتشينا ** وإذ نسقى من الخمر الرحيق وشرب الخمر ليس علي عارًا ** إذا لم يشكني فيها رفيقي فإن الموت لا ينهاه ناهٍ ** ولو شرب الشفاء من النشوق ولا مترهبٌ في أسطوانٍ ** يناطح جدره بيض الأنوق وغمدان الذي حدثت عنه ** بنوه ممسكًا في رأس نيق بمنهمةٍ وأسفله جروبٌ ** وحر الموحل اللثق الزليق مصابيح السليط تلوح فيه ** إذا يمسى كتوماض البروق ونخلته التي غرست إليه ** يكاد البسر يهصر بالعذوق فأصبح بعد جدته رمادًا ** وغيَّر حسنه لهب الحريق وأسلم ذو نواسٍ مستميتًا ** وحذر قومه ضنك المضيق وقال ابن الذئبة الثقفي، وهو يذكر حمير حين نزل بها السودان وما أصابوا منهم: لعمرك ما للفتى من مفر ** مع الموت يلحقه والكبر لعمرك ما للفتى صحرةٌ ** لعمرك ما إن له من وزر أبعد قبائل من حميرٍ ** أتوا ذا صباحٍ بذات العبر بألب ألوبٍ وحرابةٍ ** كمثل السماء قبيل المطر يصم صياحهم المقربات ** وينفون من قاتلوا بالزمر سعالى كمثل عديد الترا ** ب ييبس منهم رطاب الشجر وأما هشام بن محمد، فإنه زعم أن السفن لما قدمت على النجاشي من عند قيصر حمل جيشه فيها، فخرجوا في ساحل المندب. قال: فلما سمع بهم ذو نواس كتب إلى المقاول يدعوهم إلى مظاهرته، وأن يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحدًا، فأبوا وقالوا: يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته. فلما رأى ذلك صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدة من الإبل، وخرج حتى لقي جمعهم، فقال: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم بها، فلكم المال والأرض، واستبقوا الرجال والذرية. فقال عظيمهم: اكتب بذلك إلى الملك، فكتب إلى النجاشي، فكتب إليه يأمره بقبول ذلك منهم، فسار بهم ذو نواس حتى إذا دخل بهم صنعاء، قال لعظيمهم: وجه ثقات أصحابك في قبض هذه الخزائن. ففرق أصحابه في قبضها ودفع إليهم المفاتيح، وسبقت كتب ذي نواس إلى كل ناحية: أن اذبحوا كل ثور أسود في بلدكم؛ فقتلت الحبشة، فلم يبق منهم إلا الشريد. وبلغ النجاشي ما كان من ذي نواس، فجهز إليه سبعين ألفًا، عليهم قائدان: أحدهما أبرهة الأشرم؛ فلما صاروا إلى صنعاء ورأى ذو نواس ألا طاقة له بهم ركب فرسه، واعترض البحر فاقتحمه، فكان آخر العهد به. وأقام أبرهة ملكًا على صنعاء ومخالفيها، ولم يبعث إلى النجاشي بشيء، فقيل للنجاشي: إنه قد خلع طاعتك، ورأى أنه قد استغنى بنفسه، فوجه إليه جيشًا عليه رجل من أصحابه، يقال له أرياط، فلما حل بساحته، بعث إليه أبرهة أنه يجمعني وإياك البلاد والدين، والواجب علي وعليك أن ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني؛ فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا. فرضي بذلك أرياط، وأجمع أبرهة على المكر به، فاتعدا موضعًا يلتقيان فيه، وأكمن أبرهة لإرياط عبدًا له يقال له أرنجده، في وهدةٍ قريب من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه فسمي الأشرم، ونهض أرنجده من الحفرة، فزرق أرياط فأنفذه، فقتله، فقال أبرهة لأرنجده: احتكم فقال: لا تدخل امرأة اليمن على زوجها حتى يبدأ بي، قال: لك ذاك، فغبر بذلك زمانًا. ثم إن أهل اليمن عدوا عليه فقتلوه، فقال أبرهة: قد أنى لكم أن تكونوا أحرارًا، وبلغ النجاشي قتل أرياط، فآلى ألا يكون له ناهية دون يهريق دم أبرهة، ويطأ بلاده، وبلغ أبرهة أليته، فكتب إليه: أيها الملك؛ إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، قدم علي يريد توهين ملكك، وقتل جندك، فسألته أن يكف عن قتالي إلى أن أوجه إليك رسولًا، فإن أمرته بالكف عني، وإلا سلمت إليه جميع ما أنا فيه، فأبى إلا محاربتي، فحاربته فظهرت عليه، وإنما سلطاني لك، وقد بلغني أنك حلفت ألا تنتهي حتى تهريق دمي، وتطأ بلادي. وقد بعثت إليك بقارورة من دمي، وجراب من تراب أرضي؛ وفي ذلك خروجك من يمينك، فاستتم أيها الملك يدك عندي؛ فإنما أنا عبدك وعزي عزك. فرضي عنه النجاشي وأقره على عمله. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فأقام أرياط باليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، وكان في جنده حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم؛ ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس، ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لن تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئًا، فابرز لي وأبرز لك، فأينا ما أصاب صاحبه انصرف إليه جنده. فأرسل إليه أرياط: أن قد أنصفتني فاخرج. فخرج إليه أبرهة، وكان رجلًا قصيرًا لحيمًا حادرًا، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلًا عظيمًا طويلًا وسيمًا وفي يده حربة وخلف أبرهة ربوة تمنع ظهره وفيها غلام يقال له عتودة، فلما دنا أحدهما من صاحبه رفع أرياط الحربة فضرب بها على رأس أبرهة - يريد يافوخه - فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته؛ فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، فقال عتودة في قتله أرياط: " أنا عتوده، من فرقة أرده، لا أبٌ ولا أم نجده "، أي يقول: قتلك عبده، قال: فقال الأشرم عند ذلك لعتودة: حكمك يا عتودة.. وإن كنت قتلته، ولا ينبغي لنا ذلك إلا ديته، فقال عتودة: حكمي ألا تدخل عروس من أهل اليمن على زوجها منهم حتى أصيبها قبله. فقال: ذلك لك، ثم أخرج دية أرياط، وكان كل ما صنع أبرهة بغير علم النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغه ذلك غضب غضبًا شديدًا، وقال: عدا علي أميري، فقتله بغير أمري. ثم حلف ألا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته؛ فلم بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه، ثم ملأ جرابًا من تراب اليمن، ثم بعث إليه إلى النجاشي، وكتب إليه: أيها الملك؛ إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكل طاعته لك، إلا أني كنت أقوى منه على أمر الحبشة، وأضبط لها وأسوس لها، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب من تراب أرض اليمن، ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه. فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه، وكتب إليه: أن اثبت على عملك بأرض اليمن، حتى يأتيك أمري. فلما رأى أبرهة أن النجاشي قد رضي عنه، وملكه على الحبشة وأرض اليمن بعث إلى أبي مرة بن ذي يزن، فنزع منه امرأته ريحانة ابنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان - وأبو ريحانة ذو جدن، وقد كانت ولدت لأبي مرة معد يكرب بن أبي مرة، وولدت لأبرهة بعد أبي مرة مسروق بن أبرهة، وبسباسة ابنة أبرهة، وهرب منه أبو مرة فأقام أبرهة باليمن وغلامه عتودة رجل من حمير - أو من خثعم - فقتله، فلما بلغ أبرهة قتله - وكان رجلًا حليمًا سيدًا شريفًا ورعًا في دينه من النصرانية - قال: قد أنى لكم يا أهل اليمن أن يكون فيكم رجل حازم، يأنف مما يأنف منه الرجال؛ إنى والله لو علمت حين حكمته أنه يسأل الذي سأل ما حكمته، ولا أنعمته عينًا، وايم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل، ولا يتبعكم مني في قتله شيء تكرهونه. قال: ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء، فبنى كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حاج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من النسأة أحد بني فقيم، ثم أحد بني مالك، فخرج حتى أتى القليس فقعد فيها، ثم خرج فلحق بأرضه؛ فأخبر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة، لما سمع من قولك: أصرف إليه حاج العرب، فغضب فجاء فقعد فيها؛ أي أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه، وعند أبرهة رجال من العرب، قد قدموا عليه يلتمسون فضله، منهم محمد بن خزاعي بن حزابة الذكواني، ثم السلمي، في نفر من قومه، معه أخ له، يقال له قيس بن خزاعي؛ فبينا هم عنده غشيهم عيد لأبرهة، فبعث إليهم فيه بغدائه، وكان يأكل الخصى، فلما أتى القوم بغدائه قالوا: والله لئن أكلنا هذا لا تزال تعيبنا به العرب ما بقينا، فقام محمد بن خزاعي، فجاء أبرهة فقال: أيها الملك، هذا يوم عيد لنا، لا نأكل فيه إلا الجنوب والأيدي، فقال له أبرهة: فسنبعث إليكم ما أحببتم؛ فإنما أكرمتكم بغدائي لمنزلتكم مني. ثم إن أبرهة توج محمد بن خزاعي، وأمره على مضر، وأمره أن يسير في الناس يدعوهم إلى حج القليس؛ كنيسته التي بناها. فسار محمد بن خزاعي، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة - وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له - بعثوا إليه رجلًا من هذيل، يقال له عروة بن حياض الملاصي، فرماه بسهم فقتله. وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس، فهرب حين قتل أخوه، فلحق بأبرهة، فأخبره بقتله، فزاد ذلك أبرهة غضبًا وحنقًا، وحلف ليغزون بني كنانة وليهدمن البيت. وأما هشام بن محمد، فإنه قال: بنى أبرهة بعد أن رضي عنه النجاشي وأقره على عمله كنيسة صنعاء، فبناها بناء معجبًا لم ير مثله، بالذهب والأصباغ المعجبة، وكتب إلى قيصر يعلمه أنه يريد بناء كنيسة بصنعاء، يبقى أثرها وذكرها، وسأله المعونة له على ذلك فأعانه يالصناع والفسيفساء والرخام، وكتب أبرهة إلى النجاشي حين استتم بناؤها: إني أريد أن أصرف إليها حاج العرب. فلما سمعت بذلك العرب أعظمته، وكبر عليها، فخرج رجل من بني مالك بن كنانة حتى قدم اليمن، فدخل الهيكل، فأحدث فيه، فغضب أبرهة، وأجمع على غزو مكة وهدم البيت، فخرج سائرًا بالحبشة ومعه الفيل، فلقيه ذو نفر الحميري، فقاتله فأسره، فقال: أيها الملك؛ إنما أنا عبدك فاستبقني، فإن حياتي خير لك من قتلي، فاستبقاه، ثم سار فلقيه نفيل ابن حبيب الخثعمي، فقاتله فهزم أصحابه، وأسره، فسأله أن يستبقيه، ففعل وجعله دليله في أرض العرب. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: ثم إن أبرهة حين أجمع السير إلى البيت أمر الحبشان فتهيأت وتجهزت، وخرج معه بالفيل - قال: وسمعت العرب بذلك فأعظموه، وفظعوا به، ورأوا جهاده حقًا عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام - فخرج له رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له: ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه منهم من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله، وما يريد من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، وعرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر أسيرًا، فأتي به فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك، لا تقتلني؛ فإنه عسى أن يكون كوني معك خيرًا لك من قتلي. فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق - وكان أبرهة رجلًا حليمًا - ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرًا، فأتى به؛ فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلى خثعم، شهران وناهس بالسمع والطاعة، فأعفاه وخلى سبيله، وخرج به معه يدله على الطريق، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن متعب في رجال ثقيف، فقال له: أيها الملك؛ إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة - يعنون الكعبة - ونحن نبعث معك من يدلك. فتجاوز عنهم، وبعثوا معه أبا رغال، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال، حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس. ولما نزل أبرهة المغمس بعث رجلًا من الحبشة، يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب منها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم؛ وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به؛ فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم؛ ثم قل له: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم؛ إنما جئت لهدم البيت؛ فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم؛ فإن لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة؛ هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم - أو كما قال - فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا من دفع عنه - أو كما قال له - فقال له حناطة: فانطلق إلى الملك، فإنه قد أمرني أن آتيه بك - فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر - وكان له صديقًا - حتى دل عليه، وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوًا أو عشيًا! ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسًا سائس الفيل لي صديق، فسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. قال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فجاء به، فقال: يا أنيس، إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، ولقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل، فكلم أنيس أبرهة فقال: أيها الملك؛ هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، فأذن له عليك، فيكلمك بحاجته وأحسن إليه. قال: فأذن له أبرهة - وكان عبد المطلب رجلًا عظيمًا وسيمًا جسيمًا - فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك إلى الملك، فقال له ذلك الترجمان، فقال عد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي. فلما فقال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في مائتي بعير قد أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًا سيمنعه، قال: ما كان ليمنع مني، قال: أنت وذاك، اردد إلي إبلي. وكان - فيما زعم بعض أهل العلم - قد ذهب عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة بعمرو بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة - وهو يومئذ سيد بني كنانة - وخويلد بن واثلة الهذلي - وهو يومئذ سيد هذيل - فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم. وكان أبرهة قد رد على عبد المطلب الإبل التي أصاب له، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفًا عليهم معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة الباب باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: يا رب لا أرجو لهم سواكا ** يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا ** امنعهم أن يخربوا قراكا ثم قال أيضًا: لا هم إن العبد يمن ** ع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم غدوًا محالك فلئن فعلت فربما ** أولى فأمرٌ ما بدا لك ولئن فعلت فإنه ** أمرٌ تتم به فعالك جروا جموع بلادهم ** والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم ** جهلًا وما رقبوا جلالك وقال أيضًا: وكنت إذا أتى باغٍ بسلمٍ ** نرجى أن تكون لنا كذلك فولوا لم ينالوا غير خزيٍ ** وكان الحين يهلكهم هنالك ولم أسمع بأرجس من رجالٍ ** أرادوا العز فانتهكوا حرامك ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب، باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبى جيشه - وكان اسم الفيل محمودًا - وأبرهة مجدمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن؛ فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنبه، ثم أخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود، وارجع راشدًا من حيث جئت؛ فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى صعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، وضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشأم ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طير منها ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره، وحجران في رجليه مثل الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أين المفر والإله الطالب ** والأشرم المغلوب غير الغالب! وقال نفيل أيضًا: ألاحييت عنا يا ردينا ** نعمناكم مع الإصباح عينا أتانا قابسٌ منكم عشاءً ** فلم يقدر لقابسكم لدينا ردينة لو رأيت ولكم تريه ** لدى جنب المحصب ما رأينا إذًا لعذرتني وحمدت رأيي ** ولم تأسى على ما فات بينا حمدت الله إذ عاينت طيرًا ** وخفت حجارةً تلقى علينا فكل القوم يسأل عن نفيلٍ ** كأن علي للحبشان دينا! فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملةً أنملةً، كلما سقطت منه أنملة اتبعتها منه مدة تمث قيحًا ودمًا حتى قدموا به صنعاء؛ وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه - فيما يزعمون. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه. قال: وحدثنا محمد بن عبد الرحمن بن السلماني، عن أبيه. قال: وحدثنا عبد الله ابن عمرو بن زهير الكعبي، عن أبي مالك الحميري عن عطاء بن يسار. قال: وحدثنا محمد بن أبي سعد الثقفي عن يعلي بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن عمه أبي رزين العقيلي. قال: وحدثنا سعيد بن مسلم، عن عبد الله ابن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ دخل حديث بعضهم في حديث بعض؛ قالوا: كان النجاشي قد وجه أرياط أبا صحم في أربعة آلاف إلى اليمن، فأداخها وغلب عليها، فأعطى الملوك، واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم أبو يكسوم، فدعا إلي طاعته، فأجابوه فقتل أرياط، وغلب على اليمن، ورأى الناس يتجهزون أيام الموسم للحج إلى البيت الحرام، فسأل: أين يذهب الناس؟ فقالوا: يحجون إلى بيت الله بمكة، قال: مم هو؟ قالوا: من حجارة، قال: فما كسوته؟ قالوا: ما يأتي هاهنا من الوصائل، قال والمسيح لأبنين لكم خيرًا منه! فبنى لهم بيتًا، عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلاه بالذهب والفضة، وحفه بالجوهر، وجعل له أبوابًا عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب، وفصل بينهما بالجوهر، وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة، وجعل لها حجابًا، وكان يوقد بالمندل، ويلطخ جدره بالمسك، فيسوده حتى يغيب الجوهر. وأمر الناس فحجوه، فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبدون ويتألهون، ونسكوا له، وكان نفيل الخثعمي يؤرض له ما يكره، فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحدًا يتحرك، فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته، وجمع جيفًا فألقاها فيه. فأخبر أبرهة بذلك، فغضب غضبًا شديدًا، وقال: إنما فعلت هذا العرب غضبًا لبيتهم، لأنقضنه حجرًا حجرًا. وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، ويسأله أن يبعث إليه بفيله " محمود " - وكان فيلًا لم ير مثله في الأرض عظمًا وجسمًا وقوة - فبعث به إليه، فلما قدم عليه الفيل سار أبرهة بالناس ومعه ملك حمير، ونفيل بن حبيب الخثعمي، فلما دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس فأصابوا إبلا لعبد المطلب، وكان نفيل صديقًا لعبد المطلب، فكلمه في إبله، فكلم نفيل أبرهة، فقال: أيها الملك، قد أتاك سيد العرب وأفضلهم قدرًا، وأقدمهم شرفًا، يحمل على الجياد، ويعطى الأموال، ويطعم ما هبت الريح. فأدخله على أبرهة، فقال: حاجتك! قال: ترد على إبلي، فقال: ما أرى ما بلغني عنك إلا الغرور، وقد ظننت أنك تكلمني في بيتكم الذي هو شرفكم، فقال عبد المطلب: اردد على إبلي، ودونك البيت؛ فإن له ربًا سيمنعه. فأمر برد إبله عليه، فلما قبضها قلدها النعال، وأشعرها، وجعلها هديًا، وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب رب الحرم، وأوفى عبد المطلب على حراء ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ومطعم بن عدي وأبو مسعود الثقفي، فقال عبد المطلب: لا هم إن المرء يمن ** ع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم غدوًا محالك إن كنت تاركهم وقب ** لتنا فأمرٌ ما بدا لك قال: فأقبلت الطير من البحر أبابيل، مع كل طير منها ثلاثة أحجار: حجران في رجله وحجر في منقاره، فقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئًا إلا هشمته، وإلا نفط ذلك الموضع، فكان ذلك أول ما كان الجدرى والحصبة والأشجار المرة، فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلًا أتيًا، فذهب بهم فألقاهم في البحر. قال: وولى أبرهة ومن بقى معه هرابًا، فجعل أبرهة يسقط عضوًا عضوًا. وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا، وأما الفيل الآخر فشجع فحصب. ويقال: كانت كانت ثلاثة عشر فيلا، ونزل عبد المطلب من حراء، فأقبل رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا: أنت كنت أعلم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب ابن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رئى بها مرار الشجر: الحرمل والحنضل والعشر، ذلك العام. قال ابن إسحاق: ولما هلك أبرهة ملك اليمن ابنه في الحبشة يكسوم بن أبرهة - وبه كان يكنى - فذلت حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة؛ فنكحوا نساءهم، وقتلوا رجالهم، واتخذوا أبنائهم تراجمة بينهم وبين العرب. قال: ولما رد الله الحبشة عن مكة، فأصابهم ما أصابهم من النقمة، عظمت العرب قريشًا، وقالوا: أهل الله، قاتل الله عنهم، فكفاهم مؤونة عدوهم. قال: ولما هلك يكسوم بن أبرهة ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق ابن أبرهة، فلما طال البلاء على أهل اليمن - وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروقًا، وأخرجوا الحبشة من اليمن ثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة - خرج سيف بن ذي يزن الحميري، وكان يكنى بأبي مرة، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا ما هم فيه، وطلب إليه أن يخرجهم عنه، ويليهم هو، ويبعث إليهم من شاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه ولم يجد عنده شيئًا مما يريد، فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر - وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العرب من العراق - فشكا إليه ما هم فيه من البلاء والذل، فقال له النعمان: إن لي على كسرى وفادة في كل عام، فأقم عندي حتى يكون ذلك، فأخرج بك معي. قال: فأقام عنده حتى خرج النعمان إلى كسرى، فخرج معه إلى كسرى، فلما قدم النعمان على كسرى وفرغ من حاجته، ذكر له سيف بن ذي يزن وما قدم له، وسأل أن يأذن له عليه، ففعل. وكان كسرى إنما يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه، وكان تاجه مثل القنقل العظيم، مضروبًا فيه الياقوت الزبرجد واللؤلؤ والذهب والفضة، معلقًا بسلسلة من ذهب في رأس طاق مجلسه ذلك، كانت عنقه لا تحمل تاجه، إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك، ثم يدخل رأسه في تاجه، فإذا استوى في مجلسه كشف الثياب عنه فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له، فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك، ثم قال: ايها الملك غلبتنا على بلاد الأغربة، فقال كسرى: أي الأغربة؟ الحبشة أم السند؟ قال: بل الحبشة، فجئتك لتنصرني عليهم، وتخرجهم عني، ويكون ملك بلادي لك، فأنت أحب إلينا منهم. قال: بعدت أرضك من أرضنا، وهي أرض قليلة الخير؛ إنما بها الشاء والبعير، وذلك مما لا حاجة لنا به، فلم أكن لأورط جيشًا من فارس بأرض العرب. لا حاجة لي بذلك! ثم أمر فأجيز بعشرة آلاف درهم وافٍ، وكساه كسوة حسنة. فلما قبض ذلك سيف بن ذي يزن، خرج فجعل ينثر الورق للناس ينهبها الصبيان والعبيد والإماء، فلم يلبث ذلك أن دخل على كسرى، فقيل له: العربي الذي أعطيته ما أعطيته ينثر دراهمه للناس ينهبها العبيد والصبيان والإماء. فقال كسرى: إن لهذا الرجل لشأنًا، ائتوني به، فلما دخل عليه قال: عمدت إلى حباء الملك الذي حباك به تنثره للناس! قال: وما أصنع بالذي أعطاني الملك! ما جبال أرضى التي جئت منها إلا ذهب وفضة - يرغبه فيها لما رأى من زهادته فيها - إنما جئت الملك ليمنعني من الظلم، ويدفع عنى الذل، فقال له كسرى: أقم عندي حتى أنظر في أمرك. فأقام عنده. وجمع كسرى مرازبته وأهل الرأي ممن كان يستشيره في أمره، فقال: ما ترون في أمر هذا الرجل، وما جاء له؟ فقال قائل منهم: أيها الملك، إن في سجونك رجالًا قد حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن هلكوا كان الذي أردت بهم، وإن ظهروا على بلاده كان ملكًا ازددته إلى ملكك. فقال: إن هذا الرأي! أحصوا لي كم في سجوني من الرجال؛ فحسبوا له، فوجدوا في سجونه ثمانمائة رجل، فقال: انظروا إلى أفضل رجل منهم حسبًا وبيتًا، اجعلوه عليهم. فوجدوا أفضلهم حسبًا وبيتًا وهرز - وكان ذا سن - فبعثه مع سيف، وأمره على أصحابه، ثم حملهم في ثماني سفائن، في كل سفينة مائة رجل، وما يصلحهم في البحر. فخرجوا حتى إذا لججوا في البحر، غرقت من السفن سفينتان بما فيهما، فخلص إلى ساحل اليمن من أرض عدن ست سفائن، فيهن ستمائة رجل، فيهم وهرز، وسيف بن ذي يزن، فلما اطمأنا بأرض اليمن، وقال وهرز لسيف: ما عندك؟ قال: ما شئت من رجل عربي، وفرس عربي؛ ثم اجعل رجلي مع رجلك؛ حتى نموت جميعًا أو نظهر جميعًا. قال وهرز: أنصفت وأحسنت! فجمع إليه سيف من استطاع من قومه، وسمع بهم مسروق بن أبرهة فجمع إليه جنده من الحبشة، ثم سار إليهم حتى إذا تقارب العسكران، ونزل الناس بعضهم إلى بعض بعث وهرز ابنًا له كان معه - يقال له نوزاذ - على جريدة خيل، فقال له: ناوشهم القتال، حتى ننظر كيف قتالهم. فخرج إليهم فناوشهم شيئًا من قتال، ثم تورط في مكان لم يستطع الخروج منه فقتلوه، فزاد ذلك وهرز حنقًا عليهم، وجدًا على قتالهم. فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز: أروني ملكهم، فقالوا: ترى رجلًا على الفيل عاقدًا تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء، قال: نعم، قالوا: ذاك ملكهم، قال: اتركوه. فوقفوا طويلًا، ثم قال: علام هو؟ قالوا: قد تحول على الفرس، فقال: اتركوه، فوقفوا طويلًا، ثم قال: علام هو؟ قالوا: قد تحول على البغلة، قال: ابنة الحمار! ذل وذل ملكه، هل تسمعون أنى سأرميه، فإن رأيتم أصحابه وقوفًا لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم، فإنى قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به، فقد أصبت الرجل، فاحملوا عليهم. ثم أوتر قوسه - وكانت فيما زعموا لا يوترها غيره من شدتها - ثم أمر بحاجبيه فعصبا له، ثم وضع قوسه نشابة فمغط فيها حتى إذا ملأها أرسلها فصك بها الياقوتة التي بين عينيه، فتغلغلت النشابة في رأسه، حتى خرجت من قفاه، وتنكس عن دابته؛ واستدارت الحبشة، ولاثت به، وحملت عليهم الفرس، وانهزمت الحبشة، فقتلوا وهرب شريدهم في كل وجه، فأقبل وهرز يريد صنعاء يدخلها؛ حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكسة أبدًا، اهدموا الباب. فهدم باب صنعاء، ثم دخلها ناصبًا رايته يساربها بين يديه. فلما ملك اليمن ونفى عنها الحبشة كتب إلى كسرى: إنى قد ضبطت لك اليمن، وأخرجت من كان بها من الحبشة؛ وبعث إليه بالأموال. فكتب إلبيه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها، وفرض كسرى على سيف بن ذي يزن جزية وخرجًا يؤديه إليه في كل عام معلوم، يبعث إليه في كل عام. وكتب إلى وهرز أن ينصرف إليه. فانصرف إليه وهرز، وملك سيف بن ذي يزن على اليمن، وكان أبوه ذو يزن من ملوك اليمن. فهذا ما حدثنا به ابن حميد، عن سلمة عن ابن إسحاق، من أمر حمير والحبشة، وملكهم وتوجيه كسرى من وجه لحرب الحبشة باليمن. وأما هشام بن محمد، فإنه قال: ملك بعد أبرهة يكسوم، ثم مسروق. قال: وهو الذي قتله وهرز في ملك كسرى بن قباذ، ونفى الحبشة عن اليمن. قال: وكان من حديثه أن أبا مرة الفياض ذا يزن، كان من أشراف اليمن، وكانت تحته ريحانة ابنة ذي جدن، فولدت له غلامًا سماه معد يكرب، وكانت ذات جمال، فانتزعها الأشرم من أبي مرة، فاستنكحها، فخرج أبو مرة من اليمن، فلحق ببعض ملوك بنى المنذر - أظنه عمرو بن هند - فسأله أن يكتب له إلى كسرى كتابًا، يعلمه فيه قدره وشرفه ونزوعه إليه فيما نزع إليه فيه. فقال: لا تعجل، فإن لي عليه في كل سنة وفادة، وهذا وقتها، فأقام قبله حتى وفد عليه معه، فدخل عمرو بن هند على كسرى، فذكر له شرف ذي يزن وحاله، واستأذن له، فدخل فأوسع له عمرو، فلما رأى ذلك كسرى علم أن عمرًا لم يصنع به ذلك بين يديه إلا لشرفه، فأقبل عليه، فألطفه وأحسن مسألته وقال له: ما الأمر الذي نزع بك؟ قال: أيها الملك، إن السودان قد غلبونا على بلادنا، وركبوا منا أمورًا شنيعة، أجل الملك عن ذكرها، فلو أن الملك تناولنا بنصره من غير أن نستنصره، لكان حقيقًا بذلك لفضله وكرمه وتقدمه لسائر الملوك. فكيف وقد نزعنا إليه، مؤملين له، راجين أن يقصم الله عدونا وينصرنا عليهم، وينتقم لنا به منهم! فإن رأى الملك أن يصدق ظننا، ويحقق رجاءنا، ويوجه معى جيشًا ينفون هذا العدو عن بلادنا فيزدادها إلى ملكه - فإنها من أخصب البلدان وأكثرها خيرًا، وليست كما يلي الملك من بلاد العرب - فعل. قال: قد علمت أن بلادكم كما وصفت، فأي السودان غلبوا عليها؟ الحبشة أم السند؟ قال: بل الحبشة، قال أنوشروان: إنى لأحب أن أصدق ظنك، وأن تنصرف بحاجتك؛ ولكن المسلك للجيش إلى بلادك صعب، وأكره أن أغرره بجندى، ولى فيما سألت نظر، وأنت على ما تحب. وأمر بإنزاله وإكرامه؛ فلم يزل مقيمًا عنده حتى هلك. وقد كان أبو مرة قال قصيدة بالحميرية يمتدح فيها كسرى، فلما ترجمت له، أعجب بها. وولدت ريحانة ابنة ذي جدن لأبرهة الأشرم غلامًا، فسماه مسروقًا، ونشأ معد يكرب بن ذي يزن مع أمه ريحانة في حجر أبرهة فسبه ابن لأبرهة، فقال له: لعنك الله، ولعن أباك وكان معد يكرب لا يحسب إلا أن الأشرم أبوه، فأتى أمه فقال لها: من أبى؟ قالت: الأشرم، قال: لا والله، ما هو أبى، ولو كان أبى ما سبّني فلان، فاخبرته أن أباه أبو مرة الفياض، واقتضت عليه خبره، فوقع ذلك في نفس الغلام، ولبث بعد ذلك لبثًا. ثم إن الأشرم مات، ومات ابنه يكسوم، فخرج ابن ذي يزن قاصدًا إلى ملك الروم، وتجنب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه، فلم يجد عند ملك الروم ما يحب، ووجده يحامى عن الحبشة لموافقتهم إياه على الدين، فانكفأ راجعًا إلى كسرى، فاعترضه يومًا وقد ركب، فصاح به: أيها الملك، إن لي عندك ميراثًا فدعا به كسرى لما نزل، وقال: من أنت؟ وما ميراثك؟ قال: أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن، الذي وعدته أن تنصره، فمات ببابك وحضرتك، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه. فرق له كسرى، وأمر له بمال، فخرج الغلام، فجعل ينثر الدراهم، فانتهبها الناس، فأرسل إليه كسرى: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: إني لم آتك للمال، إنما جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل. فأعجب ذلك كسرى، فبعث إليه: أن أقم حتى أنظر في أمرك. ثم إن كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له الموبذان: إن لهذا الغلام حقًا بنزوعه وموت أبيه بباب الملك وحضرته، وما تقدم من عدته إياه، وفي سجون الملك رجال ذوو نجدة وبأس، فلو أن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفرًا كان له، وإن هلكوا كان قد استراح وأراح أهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد من الصواب. قال كسرى: هذا الرأي، وأمر بمن كان في السجون من هذا الضرب، فأحصوا فبلغوا ثمانمائة نفر، فقود عليهم قائدًا من أساورته، يقال له وهرز، كان كسرى يعد له بألف أسوار وقواهم وجهزهم وأمر بحملهم في ثماني سفائن، في كل سفينة مائة رجل، فركبوا البحر، فغرقت من الثماني السفن سفينتان، وسلمت ست، فخرجوا بساحل حضرموت، وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب، ولحق بابن ذي يزن بشرٌ كثير، ونزل وهرز على سيف البحر، وجعل البحر وراء ظهره، فلما نظر مسروق إلى قلتهم طمع فيهم، فأرسل إلى وهرز: ما جاء بك، وليس معك إلا من أرى، ومعي من ترى! لقد غررت بنفسك وأصحابك، فإن أحببت أذنت لك؛ فرجعت إلى بلادك ولم أهجك؛ ولم ينلك ولا أحدًا من أصحابك مني ولا من أحد من أصحابي مكروه، وإن أحببت ناجزتك الساعة، وإن أحببت أجلتك حتى تنظر في أمرك، وتشاور أصحابك. فأعظم وهرز أمرهم. ورأى أنه لا طاقة له بهم، فأرسل إلى مسروق: بل تضرب بيني وبينك أجلًا، وتعطيني موثقًا وعهدًا، وتأخذ مثله مني؛ ألا يقاتل بعضنا بعضًا حتى ينقضي الأجل، ونرى رأينا. ففعل ذلك مسروق، ثم أقام كل واحد منهما في عسكره، حتى إذا مضى من الأجل عشرة أيام، خرج ابن وهرز يسير على فرس له، حتى دنا من عسكرهم، وحمله فرسه، فتوسط به عسكرهم، فقتلوه - ووهرز لا يشعر به - فلما بلغه قتل ابنه أرسل إلى مسروق: قد كان بيني وبينكم ما قد علمتم، فلم قتلم ابني؟ فأرسل إليه مسروق: إن ابنك حمل علينا، وتوسط عسكرنا، فثار إليه سفهاء من سفهائنا، فقتلوه، وقد كنت لقتله كارهًا. قال وهرز للرسول: قل له: إنه لم يكن ابني، إنما كان ابن زانية، ولو كان ابني لصبر ولم يغدر حتى ينقضي الأجل بالذي بيننا. ثم أمر فرمي به في الصعيد حيث ينظر إلى جثمانه، وحلف ألا يشرب خمرًا، ولا يدهن رأسه حتى ينقضى الأجل بينه وبينهم. فلما انقضى الأجل إلا يومًا واحدًا، أمر بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت بالنار، وأمر بما كان معهم من فضل كسوة فأحرق، ولم يدع منه إلا ما كان على أجسادهم، ثم دعا بكل زاد معهم. فقال لأصحابه: كلوا هذا الزاد، فأكلوه، فلما انتهوا أمر بفضله فألقي في البحر، ثم قام فيهم خطيبًا، فقال: أما حرقت من سفنكم، فإني أردت أن تعلموا أنه لا سبيل إلى بلادكم أبدًا، وأما ما حرقت من ثيابكم، فإنه كان يغيظني إن ظفرت بكم الحبش أن يصير ذلك إليهم، وأما ما ألقيت من زادكم في البحر، فإني كرهت أن يطمع أحد منكم أن يكون معه زاد يعيش به يومًا واحدًا، فإن كنتم قومًا تقاتلون معي وتصبرون أعلمتموني ذلك. وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري؛ فإني لم أكن لأمكنهم من نفسي أبدًا. فانظروا ما تكون حالكم، إذا كنت رئيسكم وفعلت هذا بنفسي! فقالوا: لا بل نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا، أو نظفر. فلما كان صبح اليوم الذي انقضى فيه الأجل عبى أصحابه، وجعل البحر خلفه، وأقبل عليهم يحضهم على الصبر، ويعلمهم أنهم منه بين خلتين، إما ظفروا بعدوهم، وإما ماتوا كرامًا، وأمرهم أن تكون قسيهم موترة وقال: إذا أمرتكم أن ترموا فارموهم رشقًا بالبنجكان - ولم يكن أهل اليمن رأوا النشاب قبل ذلك - وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه على فيل على فيل على رأسه تاج، بين عينيه ياقوتة حمراء مثل البييضة، لا يرى أن دون الظفر شيئًا. وكان وهرز قد كل بصره فقال: أروني عظيمهم، فقالوا: هو صاحب الفيل؛ ثم لم يلبث مسروق أن نزل فركب فرسًا، فقالوا: قد ركب فرسًا، فقال: ارفعوا لي حاجبي، وقد كانا سقطا على عينيه من الكبر، فرفعوهما بعصابة، ثم أخرج نشابة، فوضعها في كبد قوسه، وقال: أشيروا لي إلى مسروق، فأشاروا له حتى أثبته، ثم قال لهم: ارموا، فرموا، ونزع في قوسه حتى إذا ملأها سرح النشابة، فأقبلت كأنها رشاء، حتى صكت جبهة مسروق، فسقط عن دابته، وقتل في ذلك الرشق منهم جماعة كثرة، وانفض صفهم لما رأوا صاحبهم صريعًا، فلم يكن دون الهزيمة شيء، وأمر وهرز بجثة ابنه من ساعته فووريت، وأمر بجثة مسروق، فألقيت مكانها، وغنم من عسكرهم مالا يحصى ولا يعد كثرة، وجعل الأسوار يأخذ من الحبشة ومن حمير والأعراب الخمسين والستين فيسوقهم مكتفين، لا يمتنعون منه. فقال وهرز: أما حمير والأعراب فكفوا عنهم، واقصدوا قصد السودان فلا تبقوا منهم أحدًا. فقتلت الحبشة يومئذ حتى لم يبق منهم كثير أحد، وهرب رجل من الأعراب على جمل له، فركضه يومًا وليلة، ثم التفت. فإذا في الحقيبة نشابة، فقال: لأمك الويل أبعدٌ أم طول مسير - حسب أن النشابة لحقته. وأقبل وهرز حتى دخل صنعاء، وغلب على بلاد اليمن، وفرق عماله في المخاليف. وفي ابن ذي يزن وما كان منه ومن وهرز والفرس، يقول أبو الصلت أبو أمية بن أبي الصلت الثقفي:؟ ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزنٍ ريم في البحر للأعداء أحوالا أتى هرقل وقد شالت نعامنهم ** فلم يجد عنده بعض الذي قالا ثم انتحى نحو كسرى بعد سابعةٍ ** من السنين لقد أبعدت إيغالا حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ** إنك لعمري لقد أطولت قلقالا من مثل كسرى شهنشاه الملوك له ** أو مثل وهرز يوم الجيش إذ ضالا! لله درهم من عصبةٍ خرجوا ** ما إن ترى لهم في الناس أمثالا غرٌ جحاجحةٌ، بيضٌ مرازبةٌ، ** أسدٌ تربب في الغيضاتٍ أشبالا يرمون عن شدفٍ كأنها عبطٌ ** في زمخرٍ يعجل المرمي إعجالا أرسلت أسدًا على سود الكلاب فقد ** أضحى شريدهم في الأرض فلالا فاشرب هنيئًا عليك التاج متكئًا ** في رأس غمدان دارًا منك محلالا وأطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ** وأسبل اليوم في برديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ** شيبًا بماءٍ فعادا بعد أبوالا رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: فلما انصرف وهرز إلى كسرى، وملك سيفًا على اليمن، عدا على الحبشة فجعل يقتلها ويبقر النساء عما في بطونها، حتى إذا أفناها إلا بقايا ذليلة قليلة، فاتخذهم خولا، وتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بحرابهم، فمكث بذلك حينًا غير كثير. ثم إنه خرج يومًا والحبشة تسعى بين يديه بحرابهم؛ حتى إذ كان في وسط منهم وجئوه بالحراب حتى قتلوه، ووثب بهم رجل من الحبشة، فقتل باليمن وأوعث، فأفسد، فلما بلغ ذلك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف من الفرس، وأمره ألا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله؛ صغيرًا أو كبيرًا، ولا يدع رجلًا جعدًا قططًا قد شرك فيه السودان إلا قتله. فأقبل وهرز: حتى دخل اليمن، ففعل ذلك؛ ولم يترك بها حبشيًا إلا قتله، ثم كتب إلى كسرى بذلك، فأمره كسرى عليها، فكان عليها، وكان يجبيها إلى كسرى حتى هلك، وأمر كسرى بعده ابنه المرزبان بن وهرز، فكان عليها حتى هلك، فأمر كسرى بعده البينجان بن المرزبان بن وهرز حتى هلك، ثم أمر كسرى بعده خر خسره بن البينجان بن المرزبان بن وهرز، فكان عليها. ثم إن كسرى غضب عليه، فحلف ليأتينه به أهل اليمن يحملونه على أعناقهم ففعلوا، فلما قدم على كسرى تلقاه رجل من عظماء فارس، فألقى عليه سيفًا لأبي كسرى، فأجاره كسرى بذلك من القتل ونزعه، وبعث باذان إلى اليمن، فلم يزل عليها حتى بعث الله رسوله محمدًا ﷺ. وكان - فيما ذكر - بين كسرى أنوشروان وبين يخطيانوس ملك الروم، موادعة وهدنة، فوقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشأم، يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم، كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب؛ يقال له المنذر بن النعمان - نائرة، فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وغنم أموالًا من أمواله. فشكا ذلك المنذر إلى كسرى، وسأله الكتاب إلى ملك الروم في إنصافه من خالد. فكتب كسرى إلى يخطيانوس، يذكر ما بينهما من العهد على الهدنة والصلح، ويعلمه ما لقي المنذر عامله على العرب من خالد بن جبلة الذي ملكه على من في بلاده من العرب، ويسأله أن يأمر خالدًا أن يرد على المنذر ما غنم من حيزه وبلاده، ويدفع إليه دية من قتل من عربها. وينصف المنذر من خالد، وألا يستخف بما كتب به من ذلك، فيكون انتقاض ما بينهما من العهد والهدنة بسببه. وواتر الكتب إلى يخطيانوس في إنصاف المنذر، فلم يحفل بها، فاستعد كسرى، فغزا بلاد يخطيانوس في بضعة وتسعين ألف مقاتل، فأخذ مدينة دارا، ومدينة الرهاء، ومدينة منبج، ومدينة قنسرين، ومدينة حلب، ومدينة أنطاكية - وكانت أفضل مدينة بالشأم - ومدينة فامية، ومدينة حمص، ومدنًا كثيرة متاخمة لهذه المدائن؛ عنوة، واحتوى على ما كان فيها من الأموال والعروض، وسبى أهل مدينة أنطاكية، ونقلهم إلى أرض السواد، وأمر فبنيت لهم مدينة جنب مدينة طيسبون على بناء مدينة أنطاكية - على ما قد ذكرت قبل - وأسكنهم إياها؛ وهي التي تسمى الرومية، وكور لها كورة، وجعل لها خمسة طساسيج: طسوج نهروان الأعلى، وطسوج نهروان الأوسط، وطسوج نهروان الأسفل، وطسوج با درايا، وطسوج باكسايا، وأجرى على السبي الذين نقلهم من أنطاكية إلى الرومية الأرزاق. وولى القيام بأمورهم رجلًا من نصارى أهل الأهواز، وكان ولاه الرياسة على أصحاب صناعاته، يقال له: بزار، رقة منه لذلك السبي، إرادة أن يستأنسوا ببراز لحال ملته، ويسكنوا إليه. وأما سائر مدن الشام ومصر فإن يخطيانوس ابتاعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه، وضمن له فدية يحملها إليه في كل سنة على ألا يغزوا بلاده، وكتب لكسرى بذلك كتابًا، وختم هو وعظماء الروم عليه، فكانوا يحملونها إليه في كل عام. وكان ملوك فارس يأخذون من كور من كورهم قبل ملك كسرى أنوشروان في خراجها الثلث، ومن كور الربع، ومن كور الخمس، ومن كور السدس؛ على قدر شربها وعمارتها، ومن جزية الجماجم شيئًا معلومًا، فأمر الملك قباذ بن فيروز في آخر ملكه بمسح الأرض سهلها وجبلها ليصح الخراج عليها، فمسحت؛ غير أن قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة؛ حتى إذا ملك ابنه كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون والجماجم، ثم أمر كتابه فاستخرجوا جمل ذلك، وأذن للناس إذنًا عامًا، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليهم الجمل التي استخرجت من أصناف غلات الأرض، وعدد النخل والزيتون والجماجم، فقرأ ذلك عليهم، ثم قال لهم كسرى: إنا قد رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان هذه المساحة من النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بإنجامها في السنة في ثلاثة أنجم، ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من ثغورنا، أو طرف من أطرافنا فتق أو شيء نكرهه، واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ببذلنا فيه مالًا، كانت الأموال عندنا معدة موجودة، ولم نرد استئناف اجتبائها على تلك الحال. فما ترون فيما رأينا من ذلك وأجمعنا عليه؟ فلم يشر عليه أحد منهم فيه بمشورة، ولم ينبس بكلمة، فكرر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات. فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى: أتضع أيها الملك - عمرك الله - الخالد من هذا الخراج على الفاني من كرمٍ يموت، وزرعٍ يهيج، ونهرٍ يغور، وعين أو قناة ينقطع ماؤها! فقال له كسرى: يا ذا الكلفة المشئوم، من أي طبقات الناس أنت؟ قال أنا رجل من الكتاب، فقال كسرى: اضربوه بالدوى حتى يموت، فضربه بها الكتاب خاصة تبرؤًا منهم إلى كسرى من رأيه وما جاء منه، حتى قتلوه. وقال الناس: نحن راضون أيها الملك بما أنت ملزمنا من خراج. وإن كسرى اختار رجالًا من أهل الرأي والنصيحة، فأمرهم بالنظر في أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدة النخل والزيتون ورءوس أهل الجزية. ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون أن فيه صلاح رعيته، ورفاغة معاشهم، ورفعه إليه. فتكلم كل امرئ منهم بمبلغ رأيه في ذلك من تلك الوضائع، وأداروا الأمر بينهم، فاجتمعت كلمتهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم، وهو الحنطة والشعير والأرز والكرم والرطاب والنخل والزيتون؛ وكان الذي وضعوا على كل جريب أرض من مزارع الحنطة والشعير درهمًا، وعلى كل جريب أرض كرم ثمانية دراهم؛ وعلى كل جريب أرض رطاب سبعة دراهم، وعلى كل أربع نخلات فارسية درهمًا، وعلى كل ست نخلات دقل مثل ذلك؛ وعلى كل ستة أصول زيتون مثل ذلك؛ ولم يضعوا إلا على كل نخل في حديقة، أو مجتمع غير شاذ، وتركوا ما سوى ذلك من الغلات السبع. فقوى الناس في معاشهم، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والهرابذة والكتاب؛ ومن كان في خدمة الملك، وصيروها على طبقات: اثنى عشر درهمًا وثمانية وستة وأربعة، كقدر إكثار الرجل وإقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السن دون العشرين أو فوق الخمسين، ورفعوا وضائعهم إلى كسرى فرضيها أو أمر بإمضائها والاجتباء عليها في السنة في ثلاثة أنجم، كل نجم أربعة أشهر وسماها أبراسيار، وتأويله الأمر المتراضي؛ وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس، وأمر باجتباء أهل الذمة عليها، إلا أنه وضع على كل جريب أرض غامر على قدر احتماله؛ مثل الذي وضع على الأرض المزروعة، وزاد على كل جريب أرض مزارع حنطة أو شعير قفيزًا من حنطة إلى القفيزين، ورزق منه الجند. ولم يخالف عمر بالعراق خاصة وضائع كسرى على جربان الأرض وعلى النخل والزيتون والجماجم، وألغى ما كان كسرى ألغاه من معايش الناس. وأمر كسرى فدونت وضائعه نسخًا، فاتخذت نسخة منها في ديوانه قبله، ودفعت نسخة إلى عمال الخراج، ليجتبوا خراجهم عليها، ونسخة إلى قضاة الكور، وأمر القضاة أن يحولوا بين عمال الكور والزيادة على أهل الخراج فوق ما في الديوان الذي دفعت إليه نسخته، وأن يرفعوا الخراج عن كل من أصاب زرعه أو شيئًا من غلاته آفة بقدر مبلغ تلك الآفة، وعمن هلك من أهل الجزية أو جاوز خمسين سنة، ويكتبوا إليه بما يرفعون من ذلك، ليأمر بحسبه للعمال، وألا يخلوا بين العمال وبين اجتباء من أتى له دون عشرين سنة. وكان كسرى ولى رجلًا من الكتاب - نابهًا بالنبل والمروءة والغناء والكفاية، يقال له بابك بن البيروان - ديوان المقاتلة، فقال لكسرى: إن أمرى لا يتم إلا بإزاحة علتي في كل ما بي إليه الحاجة من صلاح أمر الملك في جنده. فأعطاه ذلك، فأمر بابك فبنيت له في الموضع الذي كان يعرض فيه الجند مصطبة وفرش له عليها بساط سوسنجرد ونمط صوف فوقه، ووضعت له وسائد لتكأته، ثم جلس على ما فرش له، ثم نادى مناديه في شاهد عسكر كسرى من الجند أن يحضره الفرسان على كراعهم وأسلحتهم والرجالة على ما يلزمهم من السلاح، فاجتمع إليه الجند على ما أمرهم أن يحضروه عليه، ولم يعاين كسرى فيهم؛ فأمرهم بالانصراف، ونادى مناديه في اليوم الثاني بمثل ذلك. فاجتمع إليه الجند، فلما لم ير كسرى فيهم أمرهم أن ينصرفوا، ويغدوا إليه، وأمر مناديه أن ينادي في اليوم الثالث: ألا يتخلف عنه من شاهد العسكر أحد، ولا من أكرم بتاج وسرير، فإنه عزم لا رخضة فيه ولا محاباة، فبلغ ذلك كسرى، فوضع تاجه على رأسه وتسلح بسلاح المقاتلة، ثم أتى بابك ليعترض عليه، وكان الذي يؤخذ به الفارس من الجند تجافيف ودرعًا، وجوشنا، وساقين، وسيفًا، ورمحًا، وترسًا، وجرزًا تلزمه منطقة، وطبرزينا أو عمودًا، وجعبة فيها قوسان بوتريهما، وثلاثين نشابة ووترين مضفورين يعلقهما الفارس في مغفر له ظهريًا. فاعترض كسرى على بابك بسلاح تام ما خلا الوترين اللذين كان يستظهر بهما. فلم يجز بابك عن اسمه، وقال له: إنك أيها الملك واقف في موضع المعدلة التي لا محاباة تكون مني معها ولا هوادة، فهلم كل ما يلزمك من صنوف الأسلحة. فذكر كسرى قصة الوترين فتعلقهما، ثم غرد داعي بابك بصوته، وقال: للكمي سيد الكماة أربعة آلاف درهم، وأجاز بابك عن اسمه، ثم الصرف. وكان يفضل الملك في العطاء على أكتر المقاتلة عطاء بدرهم. فلما قام بابك من مجلسه ذلك أتى كسرى، فقال: إن غلظتي في الأمر الذي أغلظت فيه عليك اليوم أيها الملك؛ إنما هي لأن ينفذ لي عليه الأمر الذي وضعتني بسبيله، وسبب من أوثق الأسباب لما يريد الملك إحكامه لمكاني. فقال كسرى: ما غلظ علينا أمرٌ أريد به صلاح رعيتنا، وأقيم عليه أود ذي الأود منهم. ثم إن كسرى وجه مع رجل من أهل اليمن يقال له سيفان بن معد يكرب - ومن الناس من يقول إنه كان يسمى سيف بن ذي يزن - جيشًا إلى اليمن؛ فقتلوا من بها من السودان، واستولوا عليها. فلما دانت لكسرى بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند - وهي أرض الجوهر - قائدًا من قواده في جند كثيف، فقاتل ملكها فقتله، واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالًا عظيمة، وجوهرًا كثيرًا. ولم يكن ببلاد فارس بنات آوى، فتساقطت إليها من بلاد الترك في ملك كسرى أنوشروان؛ فبلغ ذلك كسرى، فبلغ ذلك منه مشقة، فدعا بموبذان موبذ، فقال: إنه بلغنا تساقط هذه السباع إلى بلادنا، وقد تعاظم الناس ذلك، فتعجبنا من استعظامهم أمرها لهوانها، فأخبرنا برأيك في ذلك. فقال له موبذان موبذ: فإني سمعت أيها الملك - عمرك الله - فقهاءنا يقولون: متى لا يغمر في بلدة العدل الجور، ويمحق؛ بلي أهلها بغزو أعدائهم لهم، وتساقط إليهم ما يكرهون، وقد تخوفت أن يكون تساقط هذه السباع إلى بلادك لما أعلمتك من هذا الخطب. فلم يلبث كسرى أن تناهى إليه أن فتيانًا من الترك قد غزوا أقصى بلاده، فأمر وزراءه وأصحاب أعماله ألا يتعدوا فيما هم بسبيله العدل، ولا يعملوا في شيء منه إلا به، فصرف الله لما جرى من العدل ذلك العدو عن بلاده من غير أن يكون حاربهم، أو كلف مؤونة في أمرهم. وكان لكسرى أولاد متأدبون، فجعل الملك من بعده لهرمز ابنه الذي كانت أمه ابنة خاتون وخاقان لمعرفة كسرى إياه بالاقتصاد والأخذ بالوثيقة وما رجا بذلك من ضبط هرمز الملك وقدرته على تدبير الملك ورعيته ومعاملتهم. وكان مولد رسول الله ﷺ في عهد كسرى أنوشروان، عام قدم أبرهة الأشرم أبو يكسوم مع الحبشة إلى مكة، وساق فيه إليها الفيل، يريد هدم بيت الله الحرام؛ وذلك لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملك كسرى أنوشروان. وفي هذا العام كان يوم جبلة، وهو يوم من أيام العرب مذكور. ذكر مولد رسول الله ﷺ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن المطلب بن عبد الله بن قيس بن محرمة، عن أبيه، عن جده، قال: ولدت أنا ورسول الله ﷺ عام الفيل. قال: وسأل عثمان بن عفان قباث بن أشيم، أخا بني عمرو بن ليث: أنت أكبر أم رسول الله ﷺ؟ قال: رسول الله ﷺ أكبر مني، وأنا أقدم منه في الميلاد، ورأيت خذق الفيل أخضر محيلا بعده بعام، ورأيت أمية بن عبد شمس شيخًا كبيرًا يقوده عبده، فقال ابنه: يا قباث، أنت أعلم وما تقول. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن المطلب ابن عبد الله بن قيس بن محرمة، عن أبيه، عن جده قيس بن محرمة، قال: ولدت أنا ورسول الله ﷺ عام الفيل، فنحن لدان. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: ولد عبد الله بن عبد المطلبأبو رسول الله ﷺ لأربع وعشرين مضت من سلطان كسرى أنوشروان، وولد رسول الله ﷺ في سنة اثنتين وأربعين من سلطانه. وحدثت عن يحيى بن معين، قال: حدثنا حجاج بن محمد، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ولد رسول الله ﷺ عام الفيل. حدثت عن إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، قال: حدثنا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، قال: سمعت عبد الملك ابن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني الليثي: يا قباث أأنت أكبر أم رسول الله ﷺ؟ قال: رسول الله ﷺ أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول الله ﷺ عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ولد رسول الله ﷺ يوم الاثنين عام الفيل، لاثنتى عشرة مضت من شهر ربيع الأول؛ وقيل إنه ولد ﷺ في الدار التي تعرف بدار ابن يوسف؛ وقيل: إن رسول الله ﷺ كان وهبها لعقيل بن أبي طالب، فلم تزل في يد عقيل حتى توفي، فباعها ولده من محمد بن يوسف، أخى الحجاج بن يوسف، فبنى داره التي يقال لها دار ابن يوسف، وأدخل ذلك البيت في الدار، حتى أخرجته الخيزران فجعلته مسجدًا يصلى فيه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يزعمون فيما يتحدث الناس - والله أعلم - أن آمنة بنت وهب أم رسول الله ﷺ، كانت تحدث أنها أتيت لما حملت برسول الله ﷺ، فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمدًا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بصرى من أرض الشام، فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب، أنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه. فأتاه فنظر إليه، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه. ولما أمرت أن تسميه. حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان أبي العاص، قال: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب أم رسول الله ﷺ - وكان ذلك ليل ولدته - قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو، حتى إني لأقول: لتقعن علي. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به على هبل في جوف الكعبة، فقام عنده يدعو الله ويشكر ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، والتمس له الرضعاء، فاسترضع له امرأةً من بني سعد بن بكر، يقال لها، حليمة ابنة أبي ذؤيب، وأبو ذئيب عبد الله، بن الحارث، بن شجنة، بن جابر، بن رزام، بن ناصرة، بن فصية، بن سعد، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عكرمة، بن خصفة، بن قيس، بن عيلان، بن مضر. واسم الذي أرضعه: الحارث بن عبد العزى، بن رفاعة، بن ملان، بن ناصرة، بن فصية، بن سعد، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عكرمة، بن خصفة، بن قيس، بن عيلان، بن مضر. واسم إخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة ابنة الحارث، وخذامة ابنة الحارث وهي الشيماء، غلب ذلك على اسمها فلا تعرف في قومها إلا به. وهي حليمة ابنة عبد الله بن الحارث، أم رسول الله ﷺ؛ ويزعمون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذ كان عندهم ﷺ. وأما غير ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حدثني به الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني موسى بن شيبة، عن عميرة ابنة عبيد الله بن كعب بن مالك، عن برة ابنة أبي تجزأة، قالت: أول من أرضع رسول الله ﷺ ثويبة. بلبن ابنٍ لها - يقال له مسروح - أيامًا قبل أن تقدم حليمة؛ وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق - وحدثنا هناد بن السري، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا ابن إسحاق. وحدثني هارون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا المحاربي، عن ابن إسحاق. وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثني عمي محمد ابن سعيد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق - عن الجهم بن أبي الجهم مولى عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: كانت حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية أم رسول الله ﷺ التي أرضعته. تحدث أنها خرجت من بلدها معها زوجها وابنٌ لها ترضعه في نسوةٍ من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء، قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق شيئًا، فخرجت على أتان لي قمراء، معنا شارفٌ لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معي من بكائه من الجوع، ومافي ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذوه، ولكنا نرجو الغيث والفرج؛ فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفًا وعجفًا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله ﷺ فتأباه إذا قيل لها إنه يتيمٌ. وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيمٌ ما عسى أن تصنع أمه وجده! فكنا نكرهه لذلك؛ فما بقيت امرأةٌ قدمت معي إلا أخذت رضيعًا، غيري. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: إني لأكره أن أرجع من بين صواحباتي ولم آخذ رضيعًا. والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، فعسى الله أن يجعل لنا فيه بركة! قالت: فذهبت إليه فأخذته وما حملني على ذلك إلا أني لم أجد غيره. قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما - وما كان ينام قبل ذلك - وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فنظر إليها فإذا إنها لحافل، فحلب منها حتى شرب وشربت، حتى انتهينا ريًا وشبعًا، فبتنا بخير ليلة. قالت: يقول لي صاحبي حين أصبحت: أتعلمين والله يا حليمة، لقد أخذت نسمةً مباركة، قلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت أتاني تلك، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بنا الركب ما يقدم عليها شيءٌ من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا بنة أبي ذؤيب، اربعي علينا. أليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها لشأنًا. قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعًا لبنًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسانٌ قطرةً ولا يجدها في ضرع، حتى إن كان الحاضر من قومنا يقولن لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب! فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعًا لبنًا. فلم نزل نتعرف من الله زيادة الخير به، حتى مضت سنتان وفصلته. وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا، فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا لها: يا ظئر لو تركت بنى عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة! قالت: فلم نزل بها حتى رددناه معنا. قالت: فرجعنا به، فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاه وشقا بطنه وهما يسوطانه. قالت: فخرجت أنا وأبوه نشتد، فوجدناه قائمًا منتقعًا وجهه؛ قالت: فالتزمته والتزمه أبوه، وقلنا له: مالك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئًا لا أدري ما هو! قالت: فرجعنا إلى خبائنا. قالت: وقال لي أبوه: والله يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك، قالت: فاحتملناه، فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر، وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ قالت: قلت: قد بلغ الله بابنى وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه، فأديته إليك كما تحبين. قالت: ما هذا بشأنك، فاصدقيني خبرك، قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها الخبر، قالت: فتخوفت عليه الشيطان؟ قالت: فقلت: نعم، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإن لبني لشأنًا، أفلا أخبرك خبره؟ قالت: قلت: بلى، قالت: رأيتن حين حملت به أنه خرج منى نورٌ أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قطٌ كان أخف منه ولا أيسر منه، ثم وقع حين ولدته وإنه لواضعٌ يديه بالأرض، رافعٌ رأسه إلى السماء؛ دعيه عنك وانطلقي راشدة.، أفلا أخبرك خبره؟ قالت: قلت: بلى، قالت: رأيتن حين حملت به أنه خرج منى نورٌ أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قطٌ كان أخف منه ولا أيسر منه، ثم وقع حين ولدته وإنه لواضعٌ يديه بالأرض، رافعٌ رأسه إلى السماء؛ دعيه عنك وانطلقي راشدة. حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: حدثنا محمد بن يعلى، عن عمر بن صبيح، عن ثور بن يزيد الشأمي، عن مكحول الشأمي، عن شداد بن أوس، قال: بينا نحن جلوسٌ عند رسول الله ﷺ، إذ أقبل شيخ من بني عامر، وهو مدره قومه وسيدهم؛ من شيخ كبير يتوكأ على عصا، فمثل بين يدي النبي الله ﷺ قائمًا، ونسبه إلى جده، فقال: يا ابن عبد المطلب، إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس، أرسلك بما أرسل به إبراهيم، وموسى، وعيسى، وغيرهم من الأنبياء، ألا وإنك فوهت بعظيم، وإنما كانت الأنبياء والخلفاء في بيتين من بني إسرائيل، وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فما لك وللنبوة! ولكن لكل قول حقيقة، فأنبئني بحقيقة قولك، وبدء شأنك؛ قال: فأعجب النبي الله ﷺ بمسألته، ثم قال: يا أخا بنى عامر، إن لهذا الحديث الذي تسألني عنه نبأ ومجلسًا، فاجلس، فثنى رجليه ثم برك كما يبرك البعير، فاستقبله النبي الله ﷺ بالحديث فقال: يا أخا بني عامر، إن حقيقة قولي وبدء شأني، أنى دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى بن مريم. وإني كنت بكر أمى، وإنها حملت بي كأثقل ما تحمل، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد. ثم إن أمى رأت في المنام أن الذي في بطنها نورٌ، قالت: فجعلت أتبع بصرى النور، والنور يسبق بصرى، حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها. ثم إنها ولدتني فنشأت، فلما نشأت بغضت إلى أوثان قريش، وبغض إلى الشعر، وكنت مسترضعًا في بني ليث بن بكر، فبينا أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بيننا بالجلة، إذ أتانا رهطٌ ثلاثة معهم طستٌ من ذهب ملئ ثلجًا فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هرابًا حتى انتهوا إلى شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام، فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش، وهو مسترضعٌ فينا؛ من غلام يتيم ليس له أب، فماذا يرد عليكم قتله، وماذا تصيبون من ذلك! ولكن إن كنتم قاتليه، فاختاروا منا أينا شئتم، فليأتكم مكانه فاقتلوه، ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم. فلما رأى الصبيان القوم لا يحيرون إليه جوابًا، انطلقوا هرابًا مسرعين إلى الحي، يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم؛ فعمد أحدهم فأضجعنى على الأرض إضجاعًا لطيفًا، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك مسًا. ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها، ثم أعاداها مكانها، ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه: تنح؛ فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سوداء، فرمى بها ثم قال بيده يمنةً منه؛ كأنه يتناول شيئًا، فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه، فختم به قلبي فامتلأ نورًا، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرًا، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح عني، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله. ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضًا لطيفًا، ثم قال للأول الذي شق بطني: زنه بعشرة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم. فقال: دعوه، فلو وزنتموه بإمته كلها لرجحهم قال: ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا: يا حبيب، لم ترع؛ إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك. قال: فبينا نحن كذلك، إذ أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم، وإذا أمي - وهي ظئري - أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وتقول: يا ضعيفاه! قال: فانكبوا علي فقبلوا رأسي وما بين عيني، فقالوا: حبذا أنت من ضعيف! ثم قالت ظئري: يا وحيداه! فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا راسي وما بين عيني، ثم قالوا: حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد! إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض. ثم قالت: ظئرى: يا يتيماه، استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك، فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا: حبذا أنت من يتيم، ما أكرمك على الله! لو تعلم ماذا يراد بك من الخير! قال: فوصلوا بي إلى شفير الوادي، فلما بصرت بي أمي - وهي ظئري - قالت: يا بني ألا أراك حيًا بعد! فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها؛ فو الذي نفسي بيده، إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وإن يدي في يد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم، يقول بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائفٌ من الجن، فانطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: يا هذا، ما بي شيء مما تذكر، إن آرائي سليمة وفؤادي صحيح، ليس بي قلبة. فقال أبي - وهو زوج ظئري - ألا ترون كلامه كلام صحيح! إني لأرجو ألا يكون بابني بأسٌ، فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن، فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه، فلما قصوا عليه قصى قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام، فإنه أعلم بأمره منكم، فسألني، فاقتصصت عليه أمري ما بين أوله وآخره، فلما سمع قولي وثب إلي فضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: ياللعرب، يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فواللات والعزى لئن تركتموه وأدرك، ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدينٍ لم تسمعوا بمثله قط! فعمدت ظئري فانتزعتني من حجره وقالت: لأنت أعته وأجن من ابني هذا! فلو علمت أن هذا يكون ممن قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا غير قاتلي هذا الغلام. ثم احتملوني فأدوني إلى أهلي فاصبحت مفزعًا مما فعل بي، وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك؛ فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر. متني إلى صدرها؛ فو الذي نفسي بيده، إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وإن يدي في يد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم، يقول بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائفٌ من الجن، فانطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: يا هذا، ما بي شيء مما تذكر، إن آرائي سليمة وفؤادي صحيح، ليس بي قلبة. فقال أبي - وهو زوج ظئري - ألا ترون كلامه كلام صحيح! إني لأرجو ألا يكون بابني بأسٌ، فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن، فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه، فلما قصوا عليه قصى قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام، فإنه أعلم بأمره منكم، فسألني، فاقتصصت عليه أمري ما بين أوله وآخره، فلما سمع قولي وثب إلي فضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: ياللعرب، يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فواللات والعزى لئن تركتموه وأدرك، ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدينٍ لم تسمعوا بمثله قط! فعمدت ظئري فانتزعتني من حجره وقالت: لأنت أعته وأجن من ابني هذا! فلو علمت أن هذا يكون ممن قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا غير قاتلي هذا الغلام. ثم احتملوني فأدوني إلى أهلي فاصبحت مفزعًا مما فعل بي، وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك؛ فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر. فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله غيره أن أمرك حق، فأنبئني بأشياء أسألك عنها! قال: سل عنك - وكان النبي ﷺ قبل ذلك يقول للسائل: سل عما شئت، وعما بدا لك، فقال للعامري يومئذ: سل عنك، لأنها لغة بني عامر، فكلمه بما علم - فقال له العامري: أخبرني يا بن عبد المطلب ما يزيد في العلم؟ قال: التعلم، قال: فأخبرني ما يدل على العلم؟ قال النبي ﷺ: السؤال. قال: فأخبرني ماذا يزيد في الشر؟ قال: التمادي. قال: فأخبرني هل ينفع البر بعد الفجور. قال: نعم، التوبة تغسل الحوبة، والحسنات يذهبن السيئات، وإذا ذكر العبد ربه عند الرخاء، أغاثه عند البلاء، قال العامري: وكيف ذلك يا بن عبد المطلب؟ قال: ذلك بأذن الله يقول: لا وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع له خوفين، إن هو خافني في الدنيا أمنني يوم أجمع فيه عبادي عندي في حظيرة الفردوس، فيدوم له أمنه، ولا أمحقه فيمن أمحق، وإن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع فيه عبادي لميقات يوم معلوم، فيدوم له خوفه؛ قال: يا بن عبد المطلب، أخبرني إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تخلع الأنداد، وتكفر باللات والعزى، وتقر بما جاء من الله من كتاب أو رسول، وتصلى الصلوات الخمس بحقائقهن، وتصوم شهرًا من السنة، وتؤدي زكاة مالك، يطهرك الله بها ويطيب لك مالك، وتحج البيت إذا وجدت إليه سبيلًا، وتغتسل من الجنابة، وتؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، والجنة، والنار. قال: يا بن عبد المطلب، فإذا فعلت ذلك فما لي؟ قال ﷺ: " جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ". قال: يا بن عبد المطلب، هل مع هذا من الدنيا شيء؟ فإنه يعجبني الوطاءة من العيش! قال النبي صلى اله عليه وسلم: نعم، النصر والتمكن في البلاد. قال: فأجاب وأناب. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي، أن نفرًا من أصحاب الرسول الله ﷺ قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور بصرى من أرض الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بهمًا لنا، أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطستٍ من ذهب مملوءة ثلجًا، فأخذاني، فشقا بطنى، ثم استخرجا منه قلبي، فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء، فطرحاها، ثم غسلا بطني وقلبي بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائةٍ من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنها. قال ابن إسحاق: هلك عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله ﷺ، وأم رسول الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة حاملٌ به. وأما هشام فإنه قال: توفي عبد الله أبو رسول الله، بعد ما أتى على رسول الله ﷺ ثمانيةٌ وعشرون شهرًا. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر الواقدي: الثبت عندنا مما ليس بين أصحابنا فيه اختلاف، أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشام في عير لقريش، فنزل بالمدينة - وهو مريض - فأقام بها حتى توفي، ودفن في دار النابغة، في الدار الصغرى إذا دخلت الدار على يسارك في البيت. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبيد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، أن أم رسول الله ﷺ آمنة، توفيت - ورسول الله ﷺ ابن ست سنين - بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قدمت به المدينة على أخواله من بنى عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعةٌ به إلى مكة. وقد حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال حدثني ابن جريج، عن عثمان بن صفوان، أن قبر آمنة بنت وهب في شعب أبي ذرٍ بمكة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العباس ابن عبد الله بن معبد بن العباس، عن بعض أهله، أن عبد المطلب توفي ورسول الله ﷺ ابن ثماني سنين؛ وكان بعضهم يقول: توفي عبد المطلب ورسول الله ابن عشرة سنين. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: كان النبي ﷺ في حجر أبي طالب بعد جده عبد المطلب، فيصبح ولد عبد المطلب غمصًا رمصًا، ويصبح ﷺ صقيلًا دهينًا. رجع الحديث إلى: تمام أمر كسرى بن قباذ أنوشروان حدثنا علي بن حرب الموصلي، قال: حدثن اأبو أيوب يعلى بن عمران البجلي؛ قال: حدثني مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه - وأتت له خمسون ومائة سنة - قال: لما كانت ليلة ولد فيها رسول الله ﷺ، ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشر شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها. فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى، فصبر تشجعًا، ثم رأى ألا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم إليه. فلما اجتمعوا إليه أخبرهم بالذي بعث إليهم فيه ودعاهم. فبينما هم كذلك إذا ورد عليه كتابٌ بخمود النار فإزداد غمًا إلى غمه، فقال الموبذان: وأنا أصلح الله الملك! قد رأيت في هذه الليلة ** وقص عليه الرؤيا في الإبل. فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ - وكان أعلمهم عند نفسه بذلك - فقال: حادثٌ يكون من عند العرب، فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد؛ فوجه إلي رجلًا عالمًا بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني، فلما قدم عليه، قال له: أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرني الملك، فإن كان عندي منه علم، وإلا أخبرته بمن يعلمه له، فأخبره بما رأى؛ فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشأم، يقال له سطيح، قال: فإته فاسأله عما سألتك، وأتني بجوابه. فركب عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح - وقد أشفى على الموت - فسلم عليه وحياه، فلم يحر سطيح جوابًا، فأنشأ عبد المسيح يقول: أصم أم يسمع غطريف اليمن! ** يافاصل الخطة أعيت من ومن أم فاز فأزلم به شأو العنن ** أتاك شيخ الحي من آل سنن وأمه من آل ذئب بن حجن ** أزرق ممهى الناب صرار الإذن أبيض فضفاض الرداء والبدن ** رسول قيل العجم يسري للوسن يجوب بي الأرض علنداةٌ شزن ** ترفعني وجنٌ وتهوى بي وجن لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ** حتى أتى عاري الجآجي والقطن تلفه في الريح بوغاء الدمن ** كأنما حثحث من حضني ثكن فلما سمع سطيح شعره، رفع رأسه وقال: عبد المسيح، على جمل يسيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. رأى إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها؛ يا عبد المسيح: إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست الشأم لسطيح شأما؛ يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه، فقام عبد المسيح إلى رحله وهو يقول: شمر فإنك ماضي الهم شمير ** لا يفزعنك تفريق وتغيير إن يك ملك بني ساسان أفرطهم ** فإن ذا الدهر أطوارٌ دهارير فربما ربما أضحو بمنزلة ** تهاب صولهم الأسد المهاصير منهم أخو الصرح مهرانٌ وإخوته ** والهرمزان وسابور وسابور والناس أولاد علاتٍ فمن علموا ** أن قد أقل، فمهجورٌ ومحقور وهم بنو الأم لما أن رأوا نشبًا ** فذاك بالغيب محفوظ ومنصور والخير والشر مقرونان في قرنٍ ** فالخير متبعٌ والشر محذور فلما قدم عبد المسيح على كسرى، أخبره بقول سطيح، فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكًا قد كانت أمور. فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك الباقون إلى ملكي عثمان بن عفان. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: بعث وهرز بأموال وطرف من طرف اليمن إلى كسرى، فلما صارت ببلاد بني تميم، دعا صعصعة ابن ناجيه بن عقال المجاشعي بني تميم إلى الوثوب عليه، فأبوا ذلك فلما صارت في بلاد بني يربوع دعاهم إلى ذلك، فهابوه، فقال: يا بني يربوع، كأني بهذه العير قد مرت ببلاد بكر بن وائل، فوثبوا عليها فاستعانوا بها على حربكم! فلما سمعوا ذلك انتهبوها، وأخذ رجلٌ من بني سليط يقال له النطف خرجًا فيه جوهر، فكان يقال: " أصاب كنز النطف "؛ فصار مثلًا؛ وأخذ صعصعة خصفة فيها سبائك فضة، وصار أصحاب العير إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة فكساهم، وزودهم وحملهم، وسار معهم حتى دخل على كسرى. وكان لهوذة جمالٌ وبيان. فأعجب به كسرى وحفظ له ما كان منه، ودعا بعقد من در فعقد على رأسه، وكساه قباء ديباج، مع كسوة كثيرة، فمن ثم سمى هوذة ذا التاج، وقال كسرى لهوذا أرأيت هؤلاء القوم الذين صنعوا ما صنعوا من قومك هم؟ قال: لا. قال: أصلح هم لك؟ قال: بيننا الموت. قال: قد أدركت بعض حاجتك ونلت ثأرك. وعزم على توجيه الخيل إلى بني تميم، فقيل له: إن بلادهم بلاد سوء، إنما هي مفاوز وصحارى لا يهتدى إلى مسالكها، وماؤهم من الآبار، ولا يؤمن أن يعوروها فيهلك جندك. وأشير إليه أن يكتب إلى عامله بالبحرين وهو آزاذ فروز بن جشنس الذي سمته العرب المكعبر - وإنما سمي المكعبر، لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل وآلى أن لا يدع من بني تميم عينًا تطرف - ففعل؛ ووجه له رسولًا. ودعا بهوذة فجدد له كرامة وصلة وقال: سر مع رسولي هذا فاشفني واشتف، فأقبل هوذه والرسول معه حتى صار إلى المكعبر، وذلك قريب من أيام اللقاط، وكان بنوا تميم يصيرون في ذلك الوقت إلى هجر، للميرة واللقاط، فنادى منادي المكعبر: من كان هاهنا من بني تميم فليحضر فإن الملك قد أمر لهم بميرة وطعام يقسم فيهم؛ فحضروا، فأدخلهم المشقر - وهو حصنٌ حياله حصنٌ يقال له الصفا، وبينهما نهر يقال له محلم - وكان الذي بنى المشقر رجلًا من أساورة كسرى يقال له: بسك بن ماهبوذ، كان كسرى وجهه لبنائه، فلما ابتدأه قيل له: إن هؤلاء الفعلة لا يقيمون بهذا الموضع إلا أن تكون معهم نساء، فإن فعلت ذلك بهم تم بناؤك، وأقاموا عليه حتى يفرغوا منه؛ فنقل إليهم الفواجر من ناحية السواد والأهواز، وحملت إليهم روايا الخمر من أرض فارس في البحر، فتناكحوا وتوالدوا، فكانوا جل أهل مدينة هجر، وتكلم القوم بالعربية وكانت دعوتهم إلى عبد القيس، فلما جاء الإسلام قالوا لعبد القيس: قد علمتم عددنا وعدتنا وعظيم غنائنا، فأدخلونا فيكم وزوجونا، فقالوا: لا، ولكن أقيموا على حالكم فأنتم إخواننا وموالينا، فقال رجلٌ من عبد القيس: يا معشر عبد القيس، أطيعوني وألحقوهم، فإنه ليس عن مثل هؤلاء مرغب، فقال رجل من القوم: أما تستحي! أتأمرنا أن ندخل فينا من قد عرفت أوله وأصله! قال: إنكم إن لم تفعلوا ألحقهم غيركم من العرب، قال: إذن لا نستوحش لهم؛ فتفرق القوم في العرب، وبقيت في عبد القيس منهم بقية فانتموا إليهم، فلم يردوهم عن ذلك. فلما أدخل المكعبر بني تميم المشقر قتل رجالهم واستبقى الغلمان وقتل يومئذ قعنب اليراحي - وكان فارس بني يربوع - قتله رجلان من شن كانا ينوبان الملوك، وجعل الغلمان في السفن فعبر بهم إلى فارس، فخصوا منهم بشرًا. قال هبيرة بن حدير العدوي: رجع إلينا بعد ما فتحت إصطخر عدة منهم، أحدهم خصي والآخر خياط. وشد رجلٌ من بني تميم، يقال له عيد بن وهب على سلسلة الباب فقطعها وخرج، فقال: تذكرت هندًا لات حين تذكر ** تذكرتها ودونها سير أشهر حجازيةٌ علويةٌ خل أهلها ** مصاب الخريف بين زورٍ ومنور ألا هل أتى قومي على النأي أنني ** حميت ذماري يوم باب المشقر ضربت رتاج الباب بالسيف ضربةً ** تفرج منها كل بابٍ مضبر وكلم هوذة بن علي على المكعبر يومئذ في مائةٍ في أسرى بني تميمٍ، فوهبهم له يوم الفصح، فأعتقهم، ففي ذلك يقول الأعشى: سائل تميمًا به أيام صفقتهم ** لما أتوه أسارى كلهم ضرعا وسط المشقر في غبراء مظلمةٍ ** لا يستطيعون بعد الضر منتفعا فقال للملك أطلق منهم مائةً ** رسلًا من القول مخفوضًا وما رفعا ففك عن مائةٍ منهم إسارهم ** وأصبحوا كلهم من غله خلعا بهم تقرب يوم الفصح ضاحيةً ** يرجو الإله بما أسدى وما صنعا فلا يرون بذاكم نعمة سبقت ** إن قال قائلها حقًا بها وسعا يصف بني تميم بالكفر لنعمته. قال: فلما حضرت وهرز الوفاة - وذلك في آخر ملك أنوشروان - دعا بقوسه ونشابته، ثم قال: أجلسوني، فأجلسوه، فرمى وقال: انظروا حيث وقعت نشابتي فجعلوا ناؤوسي هناك، فوقعت نشابته من وراء الدير، وهي الكنيسة التي عند نعم، وهي تسمى اليوم مقبرة وهرز؛ فلما بلغ كسرى موت وهرز، بعث إلى اليمن أسوارًا يقال له وين، وكان جبارًا مسرفًا، فعزله هرمز بن كسرى، واستعمل مكانه المروزان، فأقام باليمن حتى ولد له بها، وبلغ ولده. ثم هلك كسرى أنوشروان وكان ملكه ثمانيًا وأربعين سنة. ذكر ملك هرمز بن كسرى أنوشروان ثم ملك هرمز بن كسرى أنوشروان، وكانت أمه ابنة خاقان الأكبر، فحدثت عن هشام بن محمد، قال: كان هرمز بن كسرى هذا كثير الأدب، ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، والحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، وكان في نفسه عليهم مثل ذلك، ولما عقد التاج على رأسه، اجتمع إليه أشراف أهل مملكته، واجتهدوا في الدعاء له والشكر لوالده، فوعدهم خيرًا. وكان متحريًا للسيرة في رعيته بالعدل، شديدًا على العظماء لاستطالتهم كانت على الوضعاء، وبلغ من عدله أنه كان يسير إلى ماه ليصيف، فأمر فنودي في مسيره ذلك في جنده وسائر من كان في عسكره أن يتحاموا مواضع الحروث ولا يضروا بأحدٍ من الدهاقين فيها، ويضبطوا دوابهم عن الفساد فيها، ووكل بتعهد ما يكون في عسكره من ذلك ومعاقبة من تعدى أمره. وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار مركب من مراكبه ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه فرتع فيها وأفسد منها، فأخذ ذلك المركب، ودفع إلى الرجل الذي وكل هرمز بمعاقبة من أفسد أو دابته شيئًا من المحارث وتغريمه. فلم يقدر الرجل على إنفاذ أمر هرمز في كسرى، ولا في أحد ممن كان معه في حشمه، فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فأمر أن يجدع أذنيه، ويبتر ذنبه، ويغرم كسرى؛ فخرج الرجل من عند هرمز لينفذ أمره في كسرى ومركبه ذلك، فدس له كسرى رهطًا من العظماء ليسألوه التغبيب في أمره، فلقوه وكلموه في ذلك فلم يجب إليه، فسألوه أن يؤخر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلموه فيأمر بالكف عنه، ففعل فلقي أولئك الرهط هرمز وأعلموه أن بالمركب الذي أفسد ما أفسد زعارةً، وأنه عار فوقع في محرثة؛ فأخذ من ساعة وقع فيها، وسألوه أن يأمر بالكف عن جدعه وتبتيره لما فيها من سوء الطيرة على كسرى، فلم يجبهم إلى ما سألوا من ذلك، وأمر بالمركب فجدع أذناه، وبتر ذنبه، وغرم كسرى مثل ما يغرم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل من معسكره. وكان هرمز ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط المدائن، وكان ممره على بساتين وكرومٍ، وإن رجلًا ممن ركب معه من أساورته اطلع في كرمٍ فرأى فيه حصرمًا، فأصاب منه عناقيد ودفعها إلى غلامٍ كان معه وقال له: اذهب بها إلى المنزل، واطبخها بلحمٍ، واتخذ منها مرقةً فإنها نافعة في هذا الإبان. فأتاه حافظ ذلك الكرم فلزمه وصرخ، فبلغ من إشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب كانت عليه، عوضًا له من الحصرم الذي رزأ من كرمه، وافتدى نفسه بها، ورأى أن قبض الحافظ إياها منه وتخليته عنه، منةٌ من بها عليه، ومعروف أسداه إليه. وقيل أن هرمز كان مظفرًا منصورًا لا يمد يده إلى شيء إلا ناله، وكان مع ذلك أديبًا أريبًا داهيًا رديء النية، قد نزعه أخواله الأتراك، وكان مقصيًا للأشراف، وإنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل، وإنه لم يكن له رأيٌ إلا في تألف السفلة واستصلاحهم، وإنه حبس ناسًا كثيرًا من العظماء وأسقطهم وحط مراتبهم ودرجاتهم، وجهز الجنود وقصر بالأساورة ففسد عليه كثيرٌ ممن كان حوله لما أراد الله من تغيير أمرهم وتحويل ملكهم؛ ولكل شيء سبب. وإن الهرابذة رفعوا إليه قصة يبغون فيها على النصارى، فوقع فيها: إنه كما لا قوام لسرير ملكنا بقائمتيه المقدمتين دون قائمتيه المؤخرتين، فكذلك لا قوام لملكنا ولا ثبات له، مع استفسادنا من في بلادنا من النصارى وأهل سائر الملل المخالفة لنا؛ فأقصروا عن البغي على النصارى، وواظبوا على أعمال البر ليرى ذلك النصارى وغيرهم من أهل الملل والأديان، فيحمدوكم عليه، وتتوق أنفسهم إلى ملتكم. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: خرج على هرمز الترك - وقال غيره: أقبل عليه شابة ملك الترك الأعظم في ثلثمائة ألف مقاتل، في سنة إحدى عشرة من ملكه، حتى صار إلى باذغيس وهراة. وإن ملك الروم صار إلى الضواحي في ثمانين ألف مقاتل قاصدًا له، وإن ملك الخزر صار في جمعٍ عظيم إلى الباب والأبواب، فعاث وأخرب، وإن رجلين من العرب يقال لأحدهما: عباس الأحول، والآخر: عمرو الأزرق، نزلا في جمع عظيم من العرب بشاطىء الفرات، وشنوا الغارة على أهل السواد، واجترأ أعداؤه عليه وغزوا بلاده، وبلغ من اكتنافهم إياها أنها سميت منخلًا كثير السمام. وقيل: قد اكتنف بلاد الفرس الأعداء من كل وجه كاكتناف الوتر سيتي القوس. وأرسل شابة ملك الترك إلى هرمز وعظماء الفرس يؤذنهم بإقباله في جنوده، ويقول: رموا قناطر أنهارٍ وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كل نهرٍ من تلك الأنهار لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، لإجماعي بالمسير إليها من بلادكم. فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، وشاور فيه، فأجمع له على القصد لملك الترك، فوجه إليه رجلًا من أهل الري يقال له بهرام بن بهرام جشنس - ويعرف بجوبين - في اثني عشر ألف رجل، اختاره بهرام على عينيه من الكهول دون الشباب، ويقال: إن هرمز عرض ذلك الوقت من كان بحضرته من الديوانية، فكانت عدتهم سبعين ألف مقاتل، فمضى بهرام بمن ضم إليه مغذًا حتى جاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكرًا فجرت بينهما رسائل وحروبٌ، وقتل بهرام شابة برمية رماه إياها. وقيل: إن الرمى في ملك العجم كان لثلاثة نفر، منها رمية أرششياطين بين منوشهر، وأفراسياب، ومنها رمية سوخرا في الترك، ومنها رمية بهرام هذه. واستباح عسكره وأقام بموضعه، فوافاه برموذة بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألح عليه حتى استسلم له، فوجهه إلى هرمز أسيرًا، وغنم مما كان في الحصن وكانت كنوزًا عظمية. ويقال إنه حمل إلى هرمز من الأموال والجوهر والآنية والسلاح وسائر الأمتعة مما غنمه وقر مائتي ألف وخمسين ألف بعير، فشكر هرمز لبهرام ما كان منه بسبب الغنائم التي صارت إليه، وخاف بهرام سطوة هرمز، وخاف مثل ذلك من كان معه من الجنود، فخلعوا هرمز وأقبلوا نحو المدائن، وأظهروا الامتعاض مما كان من هرمز، وأن ابنه أبرويز أصلح للملك منه. وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، فهرب أبرويز بهذا السبب إلى آذربيجان خوفًا من هرمز، فاجتمع إليه هناك عدةٌ من المرازبة والإصبهبذين، فأعطوه بيعتهم، ووثب العظماء والأشراف بالمدائن، وفيهم بندى وبسطام خالا أبرويز، فخلعوا هرمز وسملوا عينيه وتركوه تحرجًا من قتله. وبلغ الخبر أبرويز، فأقبل بمن شايعه من آذربيجان إلى دار الملك مسابقًا لبهرام، فلما صار إليها استولى على الملك وتحرز من بهرام، والتقى هو وهو على شاطىء النهروان، فجرت بينهما مناظرةٌ ومواقفةٌ، ودعا أبرويز بهرام إلى أن يؤمنه ويرفع مرتبته ويسني ولايته، فلم يقبل ذلك، وجرت بينهما حروبٌ اضطرت أبرويز إلى الهرب إلى الروم مستغيثًا بملكها بعد حرب شديدة وبيات كان من بعضهم لبعض. وقيل إنه كان مع بهرام جماعةٌ من الأشداء، وكان فيهم ثلاثة نفرٍ من وجوه الأتراك لا يعدل بهم في فروسيتهم وشدتهم من الأتراك أحدٌ، قد جعلوا لبهرام قتل أبرويز، فلمتا كان الغد من ليلة البيات وقف أبرويز ودعا الناس إلى حرب بهرام فتثاقلوا عليه، قصده النفر الثلاثة من الأتراك، فخرج إليهم أبرويز فقتلهم بيده واحدًا واحدًا، ثم انصرف من المعركة وقد أحس من أصحابه بالفتور والتغيير، فصار إلى أبيه بطيسبون حتى دخل عليه، وأعلمه ما قد تبينه من أصحابه وشاوره، فأشار عليه بالمصير إلى موريق ملك الروم ليستنجده، فأحرز حرمه في موضع أمن عليهم بهرام، ومضى في عدة يسيرةٍ؛ منهم بندي وبسطام وكردي أخو بهرام جوبين حتى صار إلى أنطاكية، وكاتب موريق فقبله، وزوجه ابنةً له كانت عزيزةً عليه، يقال لها: مريم. وكان جميع مدة ملك هرمز بن كسرى في قول بعضهم، إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام. وأما هشام بن محمد فإنه قال: كان ملكه اثنتي عشرة سنة. ذكر ملك كسرى أبرويز بن هرمز ثم ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنوشروان؛ وكان من أشد ملوكهم بطشًا، وأنفذهم رأيًا، وأبعدهم غورًا، وبلغ - فيما ذكر - من البأس والنجدة زالنصر والظفر وجمع الأموال والكنوز ومساعدة القدر ومساعفة الدهر إياه ما لم يتهيأ لملك أكثر منه، ولذلك سمي أبرويز، وتفسيره بالعربية: " المظفر ". وذكر أنه لما استوحش من أبيه هرمز - لما كان من احتيال بهرام جوبين في ذلك، حتى أوهم هرمز أنه على أن يقوم بالملك لنفسه دونه - سار إلى آذربيجان مكتتمًا، ثم أظهر أمره بعد ذلك، فلما صار في الناحية اجتمعت إليه جماعة ممن كان هناك بعد الإصبهبذين وغيرهم، فأعطوه بيعتهم على نصرته؛ فلم يحدث في الأمر شيئًا. وقيل أنه لما قتل آذينجشنس الموجه لمحاربة بهرام جوبين، انفض الجمع الذي كان معه حتى وافوا المدائن، واتبعهم جوبين، فاضطرب أمر هرمز، وكتبت أخت آذينجشنس إلى أبرويز - وكانت تربه - نخبره بضعف هرمز للحادث في آذينجشنس، وأن العظماء قد اجمعوا على خلعه، وأعلمته أن جوبين إن سبقه إلى المدائن قبل موافاته احتوى عليها. فلما ورد الكتاب على أبرويز، جمع من أمكنه من أرمينية وآذربيجان، وصار بهم إلى المدائن، واجتمع إليه الوجوه والأشراف مسرورين بموافاته، فتتوج بتاج الملك، وجلس على سريره، وقال: إن من ملتنا إيثار البر، ومن رأينا العمل بالخير، وإن جدنا كسرى بن قباذ كان لكم بمنزلة الوالد، وإن هرمز أبانا كان لكم قاضيًا عادلًا، فعليكم بلزوم السمع والطاعة. فلما كان اليوم الثالث، أتى أباه فسجد له، وقال: عمرك الله أيها الملك! إنك تعلم أني بريءٌ مما أتى إليك المنافقون، وأني إنما تواريت ولحقت بآذربيجان خوفًا من إقدامك على القتل. فصدقه هرمز وقال له: إن لي إليك يا بني حاجتين فأسعفني بهما؛ إحداهما: أن تنتقم لي ممن عاون على خلعي والسمل لعيني، ولا تأخذ فيهم رأفة؛ والأخرى: أن تؤنسني كل يوم بثلاثة نفر لهم أصالة رأي، وتأذن لهم في الدخول علي. فتواضع له أبرويز وقال: عمرك الله أيها الملك، إن المارق بهرام قد أظلنا ومعه الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمد يدًا إلى من أتى إليك ما آتى، فإن أدالني الله على المنافق؛ فأنا خليفتك وطوع يدك. وبلغ بهرام قدوم كسرى وتمليك الناس إياه، فأقبل بجنده حثيثًا نحو المدائن، وأذكى أبرويز العيون عليه، فلما قرب منه رأى أبرويز أن الترفق به أصلح، فتسلح وأمر بندويه وبسطام وناسًا كان يثق بهم من العظماء وألف رجل من جنده، فتزينوا وتسلحوا، وخرج بهم أبرويز من قصره نحو بهرام، والناس يدعون له، وقد احتوشه بندويه وبسطام وغيرهما من الوجوه حتى وقف على شاطىء النهروان، فلما عرف بهرام مكانه، ركب برذونًا له أبلق كان معجبًا به، وأقبل حاسرًا ومعه إيزدجشنس وثلاثة نفر من قرابة ملك الترك كانوا جعلوا لبهرام على أنفسهم أن يأتوه بأبرويز أسيرًا، وأعطاهم بهرام على ذلك أموالًا عظيمة. ولما رأى بهرام بزة كسرى وزينته والتاج، يسايره معه " درفش كابيان " علمهم الأعظم منشورًا، وأبصر بندويه وبسطام وسائر العظماء وحسن تسلحهم وفراهة دوابهم، اكتأب لذلك، وقال لمن معه: ألا ترون ابن الفاعلة قد ألحم وأشحم، وتحول من الحداثة إلى الحنكة، واستوت لحيته وكمل شبابه، وعظم بدنه! فبينا هو يتكلم بهذا وقد وقف على شاطىء النهروان. إذ قال كسرى لبعض من كان واقفًا: أي هؤلاء بهرام؟ فقال أخٌ لبهرام يسمى كردي لم يزل مطيعًا لأبزوير مؤثرًا له: عمرك الله! صاحب البرذون الأبلق. فبدأ كسرى فقال: إنك يا بهرام ركنٌ لمملكتنا وسنادٌ لرعيتنا، وقد حسن بلاؤك عندنا، وقد رأينا أن نختار لك يومًا صالحًا لنوليك فيه إصبهبذة بلاد الفرس جميعًا؛ فقال له بهرام - وازداد من كسرى قربًا -: لكني أختار يومًا أصلبك فيه. فامتلأ كسرى حزنًا من غير أن يبدو في وجهه من ذلك شيء، وامتد بينهما الكلام، فقال بهرام لأبرويز: يا بن الزانية المربى في خيام الأكراد! هذا ومثله، ولم يقبل شيئًا مما عرضه عليه، وجرى ذكر إيرش جد بهرام، فقرعه أبرويز بطاعة إيرش كانت لمنوشهر جده. وتفرقا وكل واحد منهما على غاية الوحشة لصاحبه. وكانت لبهرام أختٌ يقال لها كردية، من أتم النساء وأكملهن، وكان تزوجها، فعاتبت بهرام على سوء ملافظته كانت لكسرى، وأرادته على الدخول في طاعته، فلم يقبل ذلك، وكانت بين كسرى وبهرام مبايتة، فيقال إنه لما كان من غد الليلة التي كانت البيات فيها، أبرز كسرى نفسه، فلما رأه الأتراك الثلاثة قصدوه، فقتلهم بيده أبرويز، وحرض الناس على القتال فتبين فشلًا، فأجمع أبرويز على إتيان بعض الملوك للاستجاشة به، فصار إلى أبيه وشاوره، فرأى له المصير إلى ملك الروم، فأحرز نساءه وشخص في عدة يسيرة، فيهم بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام، فلما خرجوا من المدائن خاف القوم من بهرام أن يرد هرمز إلى الملك ويكتب إلى ملك الروم عنه في ردهم فيتلفوا، فأعلموا أبرويز ذلك، واستأذنوه في إتلاف هرمز فلم يحر جوابًا، فانصرف بندويه وبسطام وبعض من كان معهم إلى هرمز حتى أتلفوه خنقًا، ثم رجعوا إلى كسرى وقالوا: سر على خير طائر، فحثوا دوابهم وصاروا إلى الفرات فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة بدلالة رجل يقال له خرشيذان، وصاروا إلى بعض الديارات التي في أطراف العمارة، فلما أوطنوا إلى الراحة غشيتهم خيل بهرام، يرأسها رجلٌ يقال له بهرام بن سياوش، فلما نذروا بهم أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له: احتل لنفسك، فإن القوم قد أطلوك؛ قال كسرى: ما عندي حيلة، فأعلمه بندويه أنه يبذل نفسه دونه، وسأله أن يدفع إليه بزته ويخرج ومن معه من الدير، ففعلوا ذلك، وبادروا القوم حتى تواروا بالجبل، فلما وافى بهرام بن سياوش، اطلع عليه من فوق الدير بندويه وعليه بزة أبرويز، فوهمه بذلك أنه أبرويز، وسأله أن ينظره إلى غد ليصير في يده سلمًا، فأمسك عنه، ثم ظهر بعد ذلك على حيلته، فانصرف به إلى جوبين، فحبسه في يدي بهرام بن سياوش. ويقال إن بهرام دخل دور الملك بالمدائن، وقعد على سريره، واجتمع إليه الوجوه والعظماء فخطبهم ووقع في أبرويز، وذمه، ودار بينه وبين الوجوه مناظرات وكلام، كان كلهم منصرفًا عنه، إلا أن بهرام جلس على سرير الملك وتتوج وانقاد له الناس خوفًا - ويقال إن بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك بجوبين، وإن جوبين ظهر على ذلك فقتله، وأفلت بندويه فلحق بآذربيجان، وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب موريق ملك الروم منها، وأرسل إليه بجماعة ممن كان معه وسأله نصرته، فأجابه إلى ذلك، وقادته الأمور إلى أن زوجه مريم ابنته وحملها إليه، وبعث إليه بنياذوس أخيه ومعه ستون ألف مقاتل، عليهم رجل يقال له سرجس، يتولى تدبير أمرهم، ورجلٌ آخر كانت قوته تعدل يقوة ألف رجل، وأشترط عليه حياطته، وألا يسأله الإتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم. فلما ورد القوم على أبرويز اغتبط، وأراحهم بعد موافاتهم خمسة أيام، ثم عرضهم وعرف عليهم العرفاء، وفي القوم ثياذوس وسرجس والكمي الذي يعدل بألف رجل؛ وسار بهم حتى صار إلى آذربيجان، ونزل صحراء تدعى الدنق، فوافاه هناك بندويه ورجل من أصبهبذى الناحية يقال له موسيل في أربعين ألف مقاتل، وانقض الناس من فارس وأصبهان وخراسان إلى أبرويز، وانتهى إلى بهرام مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حرب شديدة قتل فيها الكمى الرومى. ويقال إن أبرويز حارب بهرام منفردًا من العسكر بأربعة عشر رجلًا - منهم كردي أخو بهرام، وبندويه وبسطام، وسابور بن أفرايان بن فرخزاد، وفرخهرمز - حربًا شديدًا وصل فيها بعضهم إلى بعض. والمجوس تزعم أن أبرويز صار إلى مضيق واتبعه بهرام، فلما ظن أنه قد تمكن منه، رفعه إلى الجبل شيء لا يوقف عليه. وذكر أن المنجمين أجمعت أن أبرويز يملك ثمانيًا وأربعين سنة. وقد كان أبرويز بارز بهرام فاختطف رمحه من يده وضرب به رأسه حتى تقصف، فاضطرب على بهرام أمره ووجل، وعلم أنه لا حيلة له في أبرويز فانحاز نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرق في جنود الروم عشرين ألف ألف وصرفهم إلى موريق. ويقال إن أبرويز كتب للنصارى كتابًا أطلق لهم فيه عمارة بيعهم وأن يدخل في ملتهم من أحب الدخول فيها من غير المجوس، واحتج في ذلك أن أنوشوان كان هادن قيصر في الإتاوة التي أخذها منه على استصلاح من في بلده من أهل بلده، واتخاذ بيوت النيران هنالك. وإن قيصر اشترط مثل ذلك في النصارى؛ ولبث بهرام في الترك مكرمًا عند الملك، حتى احتال له أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز، وجهه إلى الترك بجوهر نفيس وغيره حتى احتال لخاتون امرأة الملك ولاطفها بذلك الجوهر وغيره، حتى دست لبهرام من قتله. فيقال إن خاقان اغتم لقتله وأرسل إلى كردية أخته وامرأته يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسألها أن تزوج نفسها نطرًا أخاه، وطلق خاتون بهذا السبب، فيقال إن كردية أجابت خاقان جوابًا لينًا وصرفت نطرًا، وإنها ضمت إليها من كان مع أخيها من المقاتلة وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس، وإن نطرا التركي اتبعها في اثني عشر ألف مقاتل، وإن كردية قتلت نطرًا بيدها ومضت لوجهها، وكتبت إلى أخيها كردى فأخذ لها أمانًا من أبرويز. فلما قدمت عليه تزوجها أبرويز واغتبط بها وشكر لها ما كان من عتابها لبهرام، وأقبل أبرويز على برموريق وإلطافه. وإن الروم خلعوا - بعد أن ملك كسرى أربع عشرة سنة - موريق وقتلوه وأبادوا ورثته - خلا ابن له هرب إلى كسرى - وملكوا عليهم رجلًا يقال له قوفا. فلما بلغ كسرى نكث الروم عهد موريق وقتلهم إياه، امتعض من ذلك وأنف منه، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن موريق اللاجئ إليه، وتوجه وملكه على الروم، ووجه معه ثلاثة نفر من قواده في جنود كثيفة. أما أحدهم فكان يقال رميوزان، وجهه إلى بلاد الشام فدوخها حتى انتهى إلى أرض فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس فأخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب، وكانت وضعت في تابوت من ذهب، وطمر في بستان وزرع فوقه مبقلة، وألح عليهم حتى دلوه على موضعها، فاحتفر عنها بيده واستخرجها، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين من ملكه. وأما القائد الآخر - وكان يقال له شاهين، وكان فاذوسبان المغرب - فإنه سار حتى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد نوبة، وبعث إلى كسرى بمفاتيح مدينة إسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه. وأما القائد الثالث فكان يقال له فرهان، وتدعى مرتبته شهربراز. وإنه قصد القسطنطينية حتى أناخ على ضفة الخليج القريب منها، وخيم هنالك، فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غضبًا مما انتهكوا من موريق، وانتقامًا له منهم، ولم يخضع لابن موريق من الروم أحد ولم يمنحه الطاعة، غير أنهم قتلوا قوفا الملك الذي كانوا ملكوه عليهم لما ظهر لهم من فجوره وجرأته على الله وسوء تدبيره، وملكوا عليهم رجلًا يقال له هرقل. فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فاؤس إياها وقتلها مقاتلتهم وسبيهم ذراريهم واستباحتهم أموالهم وانتهاكهم ما بحضرتهم، بكى إلى الله وتضرع إليه وسأله أن ينقذه وأهل مملكته من جنود فارس، فرأى في منامه رجلًا ضخم الجثة رفيع المجلس، عليه بزة، قائمًا في ناحية عنه، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه، وقال لهرقل: إنى قد أسلمته في يدك. فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد، ورأى الليلة الثانية في منامه أن الرجل الذي رآه في حلمه جالس في مجلس رفيع، وأن الرجل الداخل عليهما أتاه وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحب المجلس وأمكنه منه، وقال له: هأنذا قد دفعت إليك كسرى برمته، فاغزه فإن الظفر لك، وإنك مدالٌ عليه ونائلٌ أمنيتك في غزاتك. فلما تتابعت عليه هذه الأحلام، قصها على عظماء الروم وذوي الرأي منهم. فأخبروه أنه مدالٌ عليه، وأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابنًا له على مدينة قسطنطينية، وأخذ غير الطريق الذي فيه شهر براز، وسار حتى أوغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين بعد سنة، وكان شاهين - فاذوسبان المغرب - بباب كسرى حين ورد هرقل نصيبين لموجدة كانت من كسرى عليه، وعزله إياه عن ذلك الثغر، وكان شهر براز مرابطًا للموضع الذي كان فيه لتقدم كسرى كان إليه في الجثوم فيه، وترك البراح منه، فبلغ كسرى خبر تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين، فوجه لمحاربة هرقل رجلًا من قواده يقال له: راهزار، في اثني عشر ألف مقاتل، وأمره أن يقيم بنينوى من مدينة الموصل على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزها - وكان كسرى حين بلغه خبر هرقل مقيمًا بد سكرة الملك - فنفذ راهزار لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره، فقطع هرقل دجلة في موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جندٌ فارس، فأذكى راهزار العيون عليه، فانصرفوا إليه وأخبروه أنه في سبعين ألف مقاتل، وأيقن راهزار أنه ومن معه من الجنود عاجزون عن مناهضة سبعين ألف مقاتل، فكتب إلى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدتهم، كل ذلك يجيبه كسرى في كتابه؛ أنه إن عجز عن أولئك الروم فلن يعجز عن استقتالهم وبذل دمائهم في طاعته. فلما تتابعت على راهزار جوابات كتبه إلى كسرى بذلك، عبى جنده وناهض الروم، فقتلت الروم راهزار وستة آلاف رجل، وانهزم بقيتهم وهربوا على وجوههم، وبلغ كسرى قتل الروم راهزار وما نال هرقل من الظفر، فهده ذلك وانحاز من دسكرة المكل إلى المدائن، وتحصن فيها لعجزه كان من محاربة هرقل. وسار هرقل حتى كان قريبًا من المدائن، فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعد لقتاله، انصرف إلى أرض الروم وكتب كسرى إلى قواد الجند الذين انهزموا يأمرهم أن يدلوه على كل رجل منهم ومن أصحابهم، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فيأمر أن يعاقب بقدر ما استوجب، فأحرجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه، وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، وكتب إلى شهر براز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف ما كان من أمر الروم في عمله. وقد قيل: إن قول الله: " الم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون "، إنما نزل في أمر أبرويز ملك فارس وملك الروم هرقل، وما كان بينهما مما قد ذكرت من هذه الأخبار. ذكر من قال ذلك حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن عكرمة: أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض. قال: وأدنى الأرض يومئذ أذرعات، بها التقوا فهزمت الروم، فبلغ ذلك النبي ﷺ وأصحابه وهم بمكة؛ فشق ذلك عليهم - وكان النبي ﷺ يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم - وفرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي ﷺ، فقالوا: إنكم أهل الكتاب والنصارى أهل كتابٍ ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم؛ فأنزل الله " آلم غلبت الروم " - إلى - " وهم عن الآخرة هم غافلون "، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا! فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا. فقام إليه أبي بن خلفٍ الجمحي، فقال: كذبت يا أبا فصيل! فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله! فقال: أنا حبك! عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء أبو بكر إلى النبي ﷺ، فأخبره، فقال: ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر وماده في الأجل. فخرج أبو بكر فلقي أبيًا فقال: لعلك ندمت، قال: لا، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن أبي بكر عن عكرمة، قال: كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال، فدعاها كسرى، فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشًا وأستعمل عليهم رجلًا من بنيك، فأشيري علي أيهم أستعمل، قالت: هذا فلانٌ وهو أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر؛ وهذا فرخان وهو أنفذ من سنان، وهذا شهربراز وهو أحلم من كذا؛ فاستعمل أيهم شئت، قال: فإني قد استعملت الحليم، فاستعمل شهربراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم، فقتلهم وخرب مدائنهم، وقطع زيتونهم. قال أبو بكر: فحدثت هذا الحديث عطاء الخراساني فقال: أما رأيت بلاد الشام؟ قلت: لا قال: أما أنك لو أتيتها لرأيت المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع؛ فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته. قال عطاء الخراساني: حدثني يحيى بن يعمر، أن قيصر بعث ردلًا يدعى قطمة بجيش من الروم، وبعث كسرى بشهربراز، فالتقيا بأذرعات وبصرى - وهي أدنى الشأم إليكم - فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس، ففرح بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون، فأنزل الله: " آلم غلبت الروم.. " الآيات. ثم ذكر مثل حديث عكرمة، وزاد: فلم يبرح شهربراز يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج، ثم مات كسرى فبلغهم موته، فانهزم شهربراز وأصحابه، وأديلنا عليهم الروم عند ذلك فاتبعوهم يقتلونهم. قال: وقال عكرمة في حديثه: لما ظهرت فارس على الروم، جلس فرخان يشرب، فقال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى؛ فبلغت كسرى، فكتب إلى شهربراز: إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان. فكتب إليه: أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرخان؛ إن له نكايةً وصوتًا في العدو فلا تفعل. فكتب إلأيه: إن في رجال فارس خلفًا منه، فعجل علي برأسه. فراجعه. فغضب كسرى فلم يجبه، وبعث بريدًا إلى أهل فراس: إني قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرخان. ثم دفع إلى البريد صحيفةً صغيرة، وقال: إذا ولى فرخان الملك وانقاد له أخوه، فأعطه هذه الصحيفة. فلما قرأ شهربراز الكتاب، قال: سمعًا وطاعةً، ونزل عن سريره وجلس فرخان، ودفع الصحيفة إليه فقال: ائتوني بشهربراز، فقدمه ليضرب عنقه، فقال: لا تعجل حتى أكتب وصيتي، قال: نعم، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كل هذا راجعت فيك كسرى، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد! فرد الملك إلى أخيه، وكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم: إن لي إليك حاجةً لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف، فالقني، ولا تلقني إلا في خمسين روميًا، فإني ألقاك في خمسين فارسيًا، فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به، حتى أتاه عيونه؛ أنه ليس معه إلا خمسون رجلًا، ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما، مع كل منهما سكين، فدعوا ترجمانًا بينهما، فقال شهربراز: إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وإن كسرى حسدنا فأراد أن أقتل أخي، فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني؛ فقد خلعناه جميعًا فنحن نقاتله معك. قال: قد أصبتما، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا، قال: أجل، فقتلا الترجمان جميعًا بسكينهما؛ فأهلك الله كسرى، وجاء الخبر إلى رسول الله ﷺ يوم الحديبية، ففرح ومن معه. وحدثت عن هشام بن محمد، أنه قال: في سنة عشرين من ملك كسرى أبرويز، بعث الله محمدًا ﷺ، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر في سنة ثلاث وثلاثين من ملكه إلى المدينة. ذكر الخبر عن الأسباب التي حدثت عند إرادة الله إزالة ملك فارس عن أهل فارس ووطأتها العرب بما أكرمهم به بنبيه محمد ﷺ من النبوة والخلافة والملك والسلطان في أيام كسرى أبرويز فمن ذلك ما روى عن وهب بن منبه، وهو ما حدثنا به ابن حميد. قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان من حديث كسرى كما حدثني بعض أصحابي، عن وهب بن منبه، أنه كان سكر دجلة العوراء، وأنفق عليها من الأموال ما لا يدري ما هو، وكان طاق مجلسه قد بني بنيانًا لم ير مثله، وكانن يعلق تاجه؛ فيجلس فيه إذا جلس للناس، وكان عنده ستون وثلثمائة رجل من الحزاة - والحزاة العلماء - من بين كاهنٍ وساحرٍ ومنجم؛ قال: وكان فيهم رجل من العرب يقال له السائب، يعتاف اعتياف العرب قلما يخطئ - بعث به إليه باذان من اليمن - فكان كسرى إذا حزبه أمر جمع كهانه وسحاره ومنجميه، فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو! فلما أن بعث الله نبيه محمدًا ﷺ، أصبح كسرى ذات غداةٍ وقد انقصمت طاق ملكه من وسطها من غير ثقل، وانخرقت عليه دجلة العوراء، فلما رأى ذلك حزنه، وقال: انقصمت طاق ملكي من وسطها من غير ثقل، وانخرقت علي دجلة العوراء، شاه بشكست: يقول: الملك انكسر. ثم دعا كهانه وسحاره ومنجميه، ودعا السائب معهم، فقال لهم: انقصمت طاق ملكي من غير ثقل، وانخرقت علي دجلة العوراء، شاه بشكست انظروا في هذا الأمر ما هو؟ فخرجوا من عنده فنظروا في أمره، فأخذ عليهم بأقطار السماء، وأظلمت عليهم الأرض، وتسكعوا في علمهم، فلا يمضى لساحر سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا يستقيم لمنجم علم نجومه. وبات السائب في ليلة ظلماء على ربوة الأرض يرمق برقًا نشأ من قبل الحجاز، ثم استطار حتى بلغ المشرق، فلما أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه؛ فإذا روضة خضراء، فقاتل فيما يعتاف: لئن صدق ما رأى، ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق؛ تخصب عنه الأرض كأفضل ما أخصبت عن ملك كان قبله. فلما خلص الكهان والمنجمون بعضهم إلى بعض، ورأوا ما قد أصابهم، ورأى السائب ما رأى، قال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمر جاء من السماء، وإنه لنبي قد بعث - أو هو مبعوث - يسلب هذا الملك ويكسره. ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم، فأقيموا بينكم أمرًا تقولونه له تؤخرونه عنكم إلى أمرٍ ما ساعة. فجاءوا كسرى، فقالوا له: إنا قد نظرنا في هذا الأمر فوجدنا حسابك الذين وضعت على حسابهم طاق ملكك، وسكرت دجلة العوراء وضعوه على النحوس، فلما اختلف عليهما الليل والنهار وقعت النحوس على مواقعها، فزال كل ما وضع عليهما؛ وإنا سنحسب لك حسابًا تضع عليه بنيانك فلا يزول. قال: فاحسبوا، فحسبوا له، ثم قالوا له: ابنه، فبنى. فعمل في دجلة ثمانية أشهر وأنفق فيها من الأموال مالا يدري ما هو، حتى إذا فرغ منها قال لهم: أجلس على سورها؟ قالوا: نعم، فأمر بالبسط والفرش والرياحين فوضعت عليها، وأمر بالمرازبة فجمعوا له، واجتمع إليه اللعابون، ثم خرج حتى جلس عليها، فبينا هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته، فلم يستخرج إلا بآخر رمق. فلما أخرجوه، جمع كهانه وسحاره ومنجميه، فقتال منهم قريبًا من مائة، وقال سمنتكم وأدنيتكم من دون الناس، وأجريت عليكم أرزاقي، ثم تلعبون بي! فقالوا: أيها الملك، أخطأنا كما أخطأ من كان قبلنا، ولكنا سنحسب لك حسابًا فتثبت حتى تضعها على الوثاق من السعود. قال: انظروا ما تقولون! قالوا: فإنا نفعل؛ قال: فاحسبوا، فحسبوا له، ثم قالوا له: ابنه، فبنى وأنفق من الأموال ما لا يدري ما هو، ثمانية أشهر من ذي قبل. ثم قالوا: قد فرغنا، قال: أفأخرج فأقعد عليها؟ قالوا: نعم، فهاب الجلوس عليها، وركب بروذنا له، وخرج يسير عليها؛ فبينما هو يسير فوقها إذ انتسفته دجلة البنيان، فلم يدرك إلا بآخر رمق، فدعاهم فقال: والله لأمرن على آخركم ولأنزعن أكتافكم، ولأطرحنكم تحت أيدي الفيلة أو لتصدقني ما هذا ألأمر الذي تلقفون علي! قالوا: لا نكذبك أيها الملك، أمرتنا حين انخرقت عليك دجلة، وانقصمت عليك طاق مجلسك من غير ثقل أن ننظر في علمنا لم ذلك! فنظرنا، فأظلمت علينا الأرض وأخذ علينا بأقطار السماء، فتردد علينا علمنا في أيدينا، فلا يستقيم لساحر سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا لمنجم علم نجومه؛ فعرفنا أن هذا الأمر حدث من السماء، وأنه قد بعث نبي أو هو مبعوث؛ فلذلك حيل بيننا وبين علمنا، فخشينا أن نعينا لك ملكك أن تقتلنا، وكرهنا من الموت ما يكره الناس، فعللناك عن أنفسنا بما رأيت. قال: ويحكم! فهلا تكونوا بينم لي هذا فأرى فيه رأي! قالوا: منعنا من ذلك ما تخوفنا منك. فتركهم ولها عن دجلة حين غلبته. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الفضل ابن عيسى الرقاشي، عن الحسن البصري؛ أن أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: يا رسول الله، ما حجة الله على كسرى فيك! قال: بعث إليه ملكًا فأخرج يده من سور جدار بيته الذي هو فيه يتلألأ نورًا، فلما رآها فزع، فقال: لم ترع يا كسرى، إن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك، قال: سأنظر. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: بعث الله إلى كسرى ملكًا وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فيه، فلم يرعه إلا به قائمًا على رأسه في يده عصا، بالهاجرة في ساعته التي كان يقيل فيها، فقال: يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا! فقال: بهل بهل، فانصرف عنه ثم دعا أحراسه وحجابه فتغيظ عليهم، وقال: من أدخل هذا الرجل علي؟ فقالوا: ما دخل عليك أحد ولا رأيناه؛ حتى إذا كان العام القابل أتاه في الساعة التي أتاه فيها، فقال له كما قال له، ثم قال له: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل بهل؛ ثلاثًا؛ فخرج عنه فدعا كسرى حجابه وحراسه وبوابيه فتغيظ عليهم وقال لهم كما قال أول مكرة، فقالوا: ما رأينا أحدًا دخل عليك. حتى إذا كان في العام الثالث أتاه في الساعة التي جاءه فيها، فقال له كما قال: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل، قال: فكسر العصا، ثم خرج فلم يكن إلا تهور ملكه؛ وانبعاث ابنه والفرس حتى قتلوه. قال عبد الله بن أبي بكر: فقال الزهري: حدثت عمر بن عبد العزيز هذا الحديث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن فقال: ذكر لي أن الملك إنما دخل عليه بقارورتين في يديه، ثم قال له: أسلم، فلم يفعل، فضرب إحداهما على الأخرى فرضضهما، ثم خرج فكان من أمر هلاكه ما كان. حدثني يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا علي بن عاصم، قال: أخبرنا خالد الحذاء، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي بكرة، يقول: بينما كسرى ابن هرمز نائم ليلة في هذا الإيوان، إيوان المدائن، والأساورة محدقون بقصره؛ إذ أقبل رجل يمشي معه عصا؛ حتى قام على رأسه، فقال: يا كسرى ابن هرمز؛ إني رسول الله إليك أن تسلم، قالها ثلاث مرات - وكسرى مستلقٍ ينظر إليه لا يجيبه؛ ثم انصرف عنه - قال: فأرسل كسرى إلى صاحب حرسه، فقال: أنت أدخلت علي هذا الرجل؟ قال: لم أفعل ولم يدخل من قبلنا أحد. قال: فلما كان العام المقبل خاف كسرى تلك الليلة، فأرسل إليه أن أحدق بقصري، ولا يدخل علي أحد، قال: ففعل، فلما كان تلك الساعة إذا وهو قائم على رأسه، ومعه عصًا، وهو يقول له: يا كسرى بن هرمز، إني رسول الله إليك أن تسلم، فأسلم خير لك - قال: وكسرى ينظر إليه لا يجيبه - فانصرف عنه، قال: فأرسل كسرى إلى صاحب الحرس: ألم آمرك ألا يدخل علي أحد! قال: أيها الملك، إنه والله ما دخل عليك من قبلنا أحد، فانظر من أين دخل عليك؟ قال: فلما كان العام المقبل؛ فكأنه خاف تلك الليلة، فأرسل إلى صاحب الحرس والحرس: أن أحدقوا بي الليلة، ولا تدهخل إمراة ولا رجل؛ ففعلوا. فلا كان تلك الساعة، إذا هو قائم على رأسه، وهو يقول: يا كسرى بن هرمز، إني رسول الله إليك أن تسلم، فأسلم خير لك، قالها ثلاث مرات وكسرى ينتظرإليه لا يجيبه. قال: يا كسرى إنك قد أبيت علي، والله ليكسرنك الله كما أكسر عصاي هذه، ثم كسرها وخرج؛ فأرسل كسرى إلى الحرسة، فقال: ألم آمركم ألا يدخل علي الليلة أحد، أهل ولا ولد! قالوا: ما دخل عليك من قبلنا من أحد! قال فلم يلبث أن وثب عليه ابنه فقتله. ذكر خبر يوم ذي قار ومن ذلك ما كان من أمر ربيعة والجيش الذي كان أنفذه إليهم كسرى أبرويز لحربهم، فالتقوا بذي قار. وذكر عن النبي ﷺ أنه لما بلغه ما كان من هزيمة ربيعة جيش كسرى، قال: " هذا أول يوم انتصف العرب من العجم؛ وبي نصروا ". وهو يوم قراقر ويوم الحنو حنو ذي قار، ويوم حنو قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذي العجرم، ويوم الغذوان، ويوم البطحاء، بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار. فحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثني أبو المختار فراس بن خندق - أو خندقة - وعدة من علماء العرب قد سماهم؛ أن الذي جر يوم ذي قار، قتل النعمان بن المنذر اللخمي عدى بن زيد العبادي؛ وكان عدي من تراجمة أبرويز كسرى بن هرمز. وكان سبب قتل النعمان بن المنذر عدي بن زيد، ما ذكر لي عن هشام ابن محمد، قال: سمعت إسحاق بن الجصاص - وأخذته من كتاب حماد وقد ذكر أبي بعضه - قال: ولد زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم ثلاثة: عديًا الشاعر، وكان جميلًا شاعرًا خطيبًا، وقد قرأ كتب العرب والفرس، وعمارا - وهو أبي - وعمرًا - وهو سمي - ولهم أخ من أمهم، يقال له عدي بن حنظلة من طيىء. وكان عمار يكون عند كسرى، فكان أحدهما يشتهي هلاك عدي بن زيد، وكان الآخر يتدين في نصرانيته، وكانوا أهل بيت يكونون مع الأكاسرة لهم معهم أكلٌ وناحيةٌ، يقطعونهم القطائع، ويجزلون صلاتهم، وكان المنذر بن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي، فهم الذين أرضعوه وربوه، وكان للمنذر ابن آخر يقال له الأسود، أمه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرباب، فأرضعه. ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم: بنو مرينا، ينسون إلى لخم، وكانوا أشرافًا. وكان للمنذر بن المنذر سوى هذين من الولد عشرة؛ وكان يقال لولده كلهم الأشاهب، من جمالهم، فذلك قول الأعشى: وبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ** يمشون غدوةً بالسيوف وكان النعمان أحمر أبرش قصيرًا، وكانت أمه يقال لها سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من أهل فدك. وكانت أمةً للحارث ابن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب من كلب، وكان قابوس بن المنذر الأكبر عم النعمان وإخوته، بعث إلى كسرى بن هرمز بعدي بن زيد وإخوته. فكانوا في كتابه يترجمون له، فلما مات المنذر بن المنذر وترك ولده هؤلاء الثلاثة عشر، جعل على أمره كله إياس بن قبيصة الطائي وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى رأيه فكان عليه أشهرًا، وكسرى في طلب رجل يملكه على العرب. ثم إن كسرى بن هرمز دعا عدي بن زيد، فقال له: من بقي من بني المنذر؟ وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال: بقيتهم في ولد هذا الميت المنذر بن المنذر، وهم رجال، فقال: ابعث إليهم، فكتب فيهم فقدموا عليه، فأنزلهم على عدي بن زيد. فكان عدي يفضل إخوة النعمان عليه في النزل، وهو يريهم أنه لا يرجوه. ويخلو بهم رجلًا رجلًا، ويقول لهم: إن سألكم الملك: أتكفونني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك: عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز. وكان من بني مارينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، وكان ماردًا شاعرًا، وكان يقول للأسود بن المنذر: إنك قد عرفت أني لك راجٍ، وإن طلبي ورغبتي إليك أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله لا ينصح لك أبدًا. فلم يلتفت إلى قوله. فلما أمر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم عليه رجلًا رجلًا، فيكلمه، فكان يرى رجالًا قلما رأى مثلهم، فإذا سألهم: هل تكفونني ما كنتم تلون؟ قالوا: نكفيك العرب إلا النعمان، فلما دخل عليه النعمان رأى رجلًا دميمًا فكلمه، وقال له: أتستطيع أن تكفيني العرب؟ قال: نعم قال، فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز. فملكه وكساه. وألبسه تاجًا قيمته ستون ألف درهم، فيه اللؤلؤ والذهب. فلما خرج - وقد ملك - قال عدي بن أوس بن مرينا للأسود: دونك فإنك قد خالفت الرأي. ثم إن عدي بن زيد صنع طعامًا في بيعة، ثم أرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت، فإن لي حاجة، فأتاه في ناس فتغدوا في البيعة، وشربوا، فقال: عدي بن زيد لعدي بن مرينا: يا عدي، إن أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه، من كان مثلك؛ إني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحب ألا تحقد علي شيئًا لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيتك من نفسي؛ فإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. فقام عدي بن زيد إلى البيعة فحلف ألا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدًا، ولا يزوي عنه خبرًا أبدًا. فلما فرغ عدي بن زيد قام عدي بن مرينا، فحلف على مثل يمينه ألا يزال يهجوه أبدًا، ويبغيه الغوائل ما بقي. وخرج النعمان حتى نزل منزلة بالحيرة، فقال عدي بن مرينا لعدي بن زيد: ألا بلغ عديًا عن عديٍ ** فلا تجزع وإن رثت قواكا هياكلنا تبز لغير فقر ** لتحمد أو يتم به غناكا فإن ظفر فلم تظفر حميدًا ** وإن تعطب فلا يبعد سواكا ندمت ندامة الكسعى لما ** رأت عيناك ما صنعت يداكا وقال عدي بن مرينا للأسود: أما إذ لم تظفر فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدي، الذي عمل بك ما عمل فقد كنت أخبرك أن معدًا لا ينام مكرهًا. أمرتك أن تعصيه فخالفتني. قال: فما تريد؟ قال: أريد ألا يأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها علي. ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة، فلم يك في الدهر يوم إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضي في مكله شيئًا إلا بأمر عدي بن مرينا، وكان إذا ذكر عدي بن زيد عنده أحسن عليه الثناء، وذكر فضله، وقال: إنه لا يصلح المعدي إلا أن يكون فيه مكر وخديعة. فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عدي ابن زيد عند الملك بخير فقولوا: إنه لكما تقول، ولكنه لا يسلم عليه أحد؛ وإنه ليقول: إن الملك - يعني النعمان - عامله، وإنه ولاه ما ولاه؛ فلم يزالوا بذلك حتى أضغنوه عليه، وكتبوا كتابًا على لسان عدي إلى قهرمان لعدي ثم دسوا له، حتى أخذوا الكتاب، ثم أتى به النعمان فقرأه، فأغضبه، فأرسل إلى عدي بن زيد: عزمت عليك إلا زرتني، فإني قد اشتقت إلى رؤيتك! وهو عند كسرى فاستأذن كسرى، فأذن له، فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عدي بن زيد يقول الشعر وهو في السجن، فكان أول ما قال في السجن من الشعر: ليت شعري عن الهمام ويأتي ** ك بخبر الأنباء عطف السؤال فقال أشعارًا، وكان كلما قال عدي من الشعر، بلغ النعمان وسمع ندم على حبسه إياه، فجعل يرسل إليه ويعده ويمنيه ويفرق أن يرسله فيبغيه الغوائل، فقال عدي: أرقت لمكفهرٍ بات فيه ** بوارق يرتقين رءوس شيب وقال أيضًا: طال ذا الليل علينا واعتكر وقال أيضًا: ألا طال الليالي والنهار وقال حين أعياه ما يتضرع إلى النعمان أشعارًا، يذكره فيها الموت، ويخبره من هلك من الملوك قبله، فقال: أرواحٌ مودعٌ أم بكور وأشعارًا كثيرة. قال: وخرج النعمان يريد البحرين، فأقبل رجل من غسان، فأصاب في الحيرة ما أحب. ويقال: الذي أغار على الحيرة فحرق فيها، جفنة بن النعمان الجفني، فقال عدي: سما صقرٌ فأشعل جانبيها ** وألهاك المروح والعزيب فلما طال سجن عدي كتب إلى أخيه أبي، وهو مع كسرى بشعر فقال: أبلغ أبيًا على نأيه ** وهل ينفع المرء ما قد علم! بأن أخاك شقيق الفؤا ** د كنت به والهًا ما سلم لدى ملكٍ موثق بالحدي ** د إما بحق وإما ظلم فلا أعرفنك كدأب الغلا ** م ما لم يجد عارمًا يعترم فأرضك أرضك إن تأتنا ** تنم نومةً ليس فيها حلم فكتب إليه أخوه: إن يكن خانك الزمان فلا عا ** جز باعٍ ولا ألف ضعيف ويمين الإله لو أن جأوا ** ء طحونا تضيء فيها السيوف ذات رزٍ مجتابةً غمرة المو ** ت صحيحٌ سربالها مكفوف كنت في حميها، لجئنك أسعى ** فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف أو بمالٍ سئلت دونك لم يمن ** نع تلادٌ لحاجةٍ أو طريف أو بأرضٍ أسطيع آتيك فيها ** لم يهلني بعيدها أو مخوف في الأعادي وأنت مني بعيدٌ ** عز هذا الزمان والتعريف إن تفتني والله ظغلفًا فجوعًا ** لا يعقبك ما يصوب الخريف فلعمري لئن جزعت عليه ** لجزوعٌ على الصديق أسوف ولعمري لئن ملكت عزائي ** لقيلٌ شرواك فيما أطوف فزعموا أن أبيًا لما قرأ كتاب عدي قام إلى كسرى فكلمه، فكتب وبعث معه رجلًا، وكتب خليفة النعمان إليه: إنه قد كتب إليك في أمره. فأتاه أعداء عدي من بني بقيلة من غسان، فقالوا: اقتله الساعة، فأبى عليهم وجاء الرجل، وقد تقدم أخو عدي إليه ورشاه، وأمره أن يبدأ بعدي، فدخل عليه وهو محبوس بالصنين، فقال: ادخل عليه فانظر ما يأمرك به، فدخل الرسول على عدي، فقال: إني قد جئت بإرسالك، فما عندك؟ قال: عندي الذي تحب، ووعده عدة. وقال: لا تخرجن من عندي، وأعطني الكتاب حتى أرسل به، فإنك والله إن خرجت من عندي لأقتلن، فقال: لا أستطيع إلا أن أتى الملك بالكتاب، فأدخله عليه، فانطلق مخبر حتى أتى النعمان، فقال: إن رسول كسرى قد دخل على عدي وهو ذاهب به، وإن فعل والله لم يستبق منا أحدًا، أنت ولا غيرك. فبعث إليه النعمان أعداءوه فغموه حتى مات، ثم دفنوه. ودخل الرسول على النعمان بالكتاب. فقال: نعم وكرامة! وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية، وقال له: إذا أصبحت فادخل عليه؛ فأخرجه أنت بنفسك. فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس: إنه قد مات منذ أيام، فلم نجترىء على أن نخبر الملك للفرق منه، وقد علمنا كراهته لموته. فرجع إلى النعمان فقال: إني قد دخلت عليه وهو حي، وجئت اليوم فجحدني اللسجان وبهتني. وذكر له أنه قد مات منذ أيام فقال له النعمان: يبعثك الملك إلي فتدخل إليه قبلي! كذبت، ولكنك أردت الرشوة والخبث. فتهدده ثم زاده جائزة وأكرمه، واستوثق منه ألا يخبر كسرى؛ إلا أنه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى، فقال: إنه قد مات قبل أن أدخل عليه، وندم النعمان على موت عدي، واجترأ أعداء عدي على النعمان؛ وهابهم النعمان هيبة شديدة؛ فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم. فلقى ابنا لعدي، يقال له زيد، فلما رآه عرف شبهه، فقال: من أنت؟ قال: أنا زيد بن عدي بن زيد، فكلمه فإذا غلام ظريف، ففرح به فرحًا شديدًا، وقربه وأعطاه، واعتذر إليه من أمر أبيه، وجهزه، ثم كتب إلى كسرى إن عديًا كان ممن أعين به الملك في نصحه ولبه، فأصابه ما لا بد منه، وانقضت مدته، وانقطع أكله، ولم يصب به أحد اشد من مصيبتي؛ وأما الملك فلم يكن ليفقد رجلًا إلا جعل الله له منه خلفًا، لما عظم الله له من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس دونه، وقد سرحته إلى الملك، فإن رأى الملك أن يجعله مكان أبيه، فليفعل. فلما قدم الغلام على كسرى جعله مكان أبيه، وصرف عمه إلى عمل آخر، فكان هو الذي يلي ما كتب به إلى أرض العرب، وخاصة الملك. وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران والكمأة الرطبة في حينها واليابسة، والأقط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي بن زيد يلي ذلك، وكان هذا عمل عدي. فلما وقع عند الملك بهذا الموقع، سأله كسرى عن النعمان، فأحسن عليه الثناء، فمكث سنوات يمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى، وكان يكثر الدخول عليه، وكانت لملوك الأعاجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، فإذا وجدت حملت إلى الملك غير أنهم لم يكونوا يتناولون أرض العرب بشيء من ذلك، ولا يريدونه. فبدأ الملك في طلب النساء فكتب بتلك الصفة. ثم دخل على كسرى فكلمه فيما دخل فيه، ثم قال: إنى رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالمًا، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال: فتكتب فيهن. قال: أيها الملك؛ إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصة أنهم يتكرمون - زعموا في أنفسهم - عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن عمن تبعث إليه، أو يعرض عليه غيرهن؛ وإن قدمت أنا عليه لم يقدر أن يغيبهن، فابعثني وابعث معي رجلا من حرسك يفقه العربية، حتى أبلغ ما تحبه. فبعث معه رجلا جليدًا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة. فلما دخل عليه أعظم الملك، وقال: إنه قد احتاج إلى نساءٍ لأهله وولده، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك. فقال: وما هؤلاء النسوة؟ فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها. وكانت الصفة أن المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية، كان أصابها إذ أغار على الحارث الأكبر الغساني بن أبي شمر، فكتب إلى أنوشروان يصفها له، وقال: إني قد وجهت إلى الملك جارية معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، قمراء، وطفاء، كحلاء دعجاء، حوراء، عيناء، قنواء، شماء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طي البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المأكمتين، عظيمة الركبة مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموعًا للسيد، ليست بخنساء، ولا سعفاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تغذ في بؤس، حيية رزينة، حليمةً ركينةً، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، فطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمر وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست. فقبلها كسرى، وأمر بإثبات هذه الصفة في دواوينه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز، فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشق عليه، فقال لزيد - والرسول يسمع: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم! فقال الرسول لزيد: ما العين. قال: البقر، فقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك؛ ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به. فأنزلهما يومين، ثم كتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي، وقال لزيد: اعذرني عنده، فلما رجع إلى كسرى، قال زيد للرسول الذي جاء معه: اصدق الملك الذي سمعت منه، فإني سأحدثه بحديثك ولا أخالفك فيه. فلما دخلا على كسرى، قال زيد: هذا كتابه، فقرأه عليه، فقال له كسرى: فأين الذي كنت خبرتني به؟ قال: قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم، وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى أنهم ليسمونها السجن؛ فسل هذا الرسول الذي كان معي عن الذي قال، فإني أكرم الملك عن الذي قال ورد عليه أن أقوله، فقال للرسول: وما قال؟ قال: أيها الملك، أما في بقر السواد وفارس، ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا! فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنه قد قال: رب عبدٍ قد أراد ما هو أشد من هذا، فيصير أمره إلى التباب. وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان، وسكت كسرى على ذلك أشهرًا، وجعل النعمان يستعد ويتوقع؛ حتى أتاه كتابه: أن أقبل فإن للملك إليك حاجة؛ فانطلق حين أتاه كتابه فحمل سلاحه، وما قوى عليه، ثم لحق بجبلي طيىء. وكانت فرعة ابنة سعد بن حارثة بن لأم عنده، وقد ولدت له رجلًا وامرأة، وكانت أيضًا عنده زينب ابنة أوس بن حارثة، فأراد النعمان طيئًا على أن يدخلوه بين الجبلين، ويمنعوه. فأبوا ذلك عليه، وقالوا: لو لا صهرك لقاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى، ولا طاقة لنا به. فأقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد من الناس يقبله، غير أن بني رواحة بن سعد من بني عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك - لمنة كانت له عندهم في أمر مروان القرظ - قال: لا أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى. فأقبل حتى نزل بذي قار في بني شيبان سرًا، فلقي هانىء بن مسعود ابن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وكان سيدًا منيعًا، والبيت يومئذ من ربيعة في آل ذي الجدين، لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين. وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئًا مانعه مما يمنع منه نفسه. وتوجه النعمان إلى كسرى، فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال: انج نعيم إن استطعت النجاء، فقال: أنت يا زيد فعلت هذا! أما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك! فقال له زيد: امض نعيم، فقد والله وضعت لك عنده أخية لا يقطعها المهر الأرن، فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه، فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه، والناس يظنون أنه مات بساباط لبيت قاله الأعشى: فذاك وما أنجى من الموت ربه ** بساباط حتى مات، وهو محرزق وإنما هلك بخانقين، وهذا قبيل الإسلام، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى بعث الله نبيه ﷺ، وكان سبب وقعة ذي قار بسبب النعمان. وحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثنا أبو المختار فراس بن خندق، وعدة من علماء العرب قد سماهم، أن النعمان لما قتل عديًا كاد أخو عدي وابنه النعمان عند كسرى، وحرفا كتاب اعتذاره إليه بشيء غضب منه كسرى، فأمر بقتله، وكان النعمان لما خاف كسرى استودع هانىء بن مسعود بن عامر الخصيب بن عمرو المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة، حلقته ونعمه وسلاحًا غير ذلك، وذاك أن النعمان كان بناه ابنتين له. قال أبو عبيدة: وقال بعضهم: لم يدرك هانىء بن مسعود هذا الأمر، إنما هو هانىء بن قبيصة بن هانىء بن مسعود. وهو الثبت عندي - فلما قتل كسرى النعمان، استعمل إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان. قال أبو عبيدة: كان كسرى لما هرب من بهرام مر بإياس بن قبيصة فأهدى له فرسًا وجزورًا، فشكر ذلك له كسرى. فبعث كسرى إلى إياس: أين تركة النعمان؟ قال: قد أحرزها في بكر بن وائل، فأمر كسرى إياسًا أن يضم ما كان للنعمان ويبعث به إليه فبعث فبعث إياس إلى هانىء: أن أرسل إلي ما استودعك النعمان من الدروع وغيرها - والمقلل يقول: كانت أربعمائة درع، والمكثر يقول: كانت ثمانمائة درع - فأبى هانىء أن يسلم خفارته. قال: فلما منعها هانىء، غضب كسرى وأظهر أن يستأصل بكر بن وائل - وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي؛ وهو يحب هلاك بكر بن وائل - فقال لكسرى: يا خير الملوك، أدلك على غرة بكر؟ قال نعم، قال أمهلها حتى تقيظ، فإنهم لو قد قاظوا تساقطوا على ماء لهم يقال له ذو قار، تساقط الفراش في النار، فأخذتهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم، فترجموا له قوله: " تساقطوا تساقط الفراش في النار "، فأقرهم حتى إذا قاظوا، جاءت بكر بن وائل فنزلت الحنو، حنو ذي قار؛ وهي من ذي قار على مسيرة ليلة، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة: أن اختاروا واحدة من ثلاث خصال، فنزل النعمان على هانىء ثم قال له: أنا رسول الملك إليكم أخيركم ثلاث خصال: إما أن تعطوا بأيديكم فيحكم فيكم الملك بما شاء، وإما أن تعروا الديار، وإما أن تأذنوا بحرب. فتوامروا فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وكانوا يتيمنون به فقال لهم: لا أرى إلا القتال؛ لأنكم إن أعطيتم بأيديكم قتلتم وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش، وتلقاكم تميم فتهلككم. فآذنوا الملك بحرب. فبعث الملك إلى أياس وإلى الهامرز التستري - وكان مسلحه بالقطقطانة - وإلى جلابزين - وكان مسحله ببارق - وكتب كسرى إلى قيس بن مسعود ابن قيس بن خالد بن ذي الجدين - وكان كسرى استعمله على طفّ سفوان - أن يوافوا إياسًا، فإذا اجتمعوا فإياس على الناس. وجاءت الفرس معها الجنود والفيول عليها الأساورة، وقد بعث النبي ﷺ ورق أمر فارس، وقال النبي ﷺ: " اليوم انتصفت العرب من العجم "، فحفظ ذلك اليوم؛ فإذا هو يوم الوقعة. فلما دنت جيوش الفرس بمن معهم انسل قيس بن مسعود ليلًا فأتى هانئًا، فقال له: أعط قومك سلاح النعمان فيقووا. فإن هلكوا كان تبعًا لأنفسهم، وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردوه عليك. ففعل وقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه. فلما دنا الجمع من بكر. قال لهم هانىء: يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة. فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيار فقال له: إنما أردت نجاتنا فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة، فرد الناس وقطع وضن الهوادج لئلا تستطيع بكر أن تسوق نساءهم إن هربوا - فسمي مقطع الوضن، وهي حزم الرجال. ويقال: مقطع البطن، والبطن حزم الأقتاب - وضرب حنظلة على نفسه قبة ببطحاء ذي قار، وآلى ألا يفر حتى تفر القبة. فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم، واستقوا ماء لنصف شهر، فأتتهم العجم، فقاتلهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، فهربت ولم تقم لمحاصرتهم، فهربت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر، وعجل أوائل بكر، فتقدمت عجل، وأبلت يومئذ بلاء حسنًا، واضطمت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل، ثم حملت بكر فوجدوا عجلًا ثابتة تقاتل، وامرأة منهم تقول: إن يظفروا يحرزوا فينا الغرل ** إيهًا فداءٌ لكم بني عجل! وتقول أيضًا تحضض الناس: إن تهزموا نعانق ** ونفرش النمارق أو تهربوا نفارق ** فراق غير وامق فقاتلوهم بالجبابات يومًا. ثم عطش الأعاجم فمالوا إلى بطحاء ذي قار، فأرسلت إياد إلى بكر سرًا - وكانوا أعوانًا على بكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب إلأيكم؟ أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم ونفر حين تلاقوا القوم؟ قالوا: بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم. قال: فصبحتهم بكر بن وائل، والظعن واقفة يذمرن الرجال على القتال. وقال يزيد بن حمار السكوني - وكان حليفًا لبني شيبان -: يا بني شيبان، أطيعوني وأكمنوني لهم كمينًا. ففعلوا، وجعلوا يزيد بن حمار رأسهم فكمنوا في مكان من ذي قار، يسمى إلى اليوم الجب، فاجتلدوا، وعلى ميمنة إياس بن قبيصة الهامرز، وعلى مسيرته الجلابزين، وعلى ميمنة هانىء بن قبيصة رئيس بكر بن يزيد بن مسهر الشيباني، وعلى مسيرته حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وجعل الناس يتحاضون ويرجزون، فقال حنظلة بن ثعلبة: قد شاع أشياعكم فجدوا ** ما علتي وأنا مؤدٍ جلد! والقوس فيها وترٌ عرد ** مثل ذراع البكر أو أشد قد جعلت أخبار قومي تبدو ** إن المنايا ليس منها بد هذا عميرٌ تحته ألد ** يقدمه ليس له مرد حتى يعود كالكميت الورد ** خلوا بني شيبان واستبدوا نفسي فداكم وأبي والجد وقال حنظلة أيضًا: يا قوم طيبوا بالقتال نفسًا ** أجدر يومٍ أن تفلوا الفرسا وقال يزيد بن المكسر بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار: من فر منكم فر عن حريمه ** وجاره، وفر عن نديمه أنا ابن سيارٍ على شكيمه ** إن الشراك قد من أديمه وكلهم يجري على قديمه ** من قارح الهجنة أو صميمه قال فراس: ثم صيروا الأمر بعد هانىء إلى حنظلة، فمال إلى مارية ابنته - وهي أم عشرة نفر؛ أحدهم جابر بن أبجر - فقطع وضينها فوقعت إلى الأرض وقطع وضن النساء، فوقعن إلى الأرض، ونادت ابنة القرين الشيبانية حين وقعت النساء إلى الأرض: ويهًا بني شيبان صفًا بعد صف ** إن تهزموا يصبغوا فينا القلف فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من قبل مناكبهم؛ لأن تخف أيديهم بضرب السيوف، فجالدوهم. قال: ونادى الهامرز: مرد مرد، فقال برد بن حارثة اليشكري: ما يقول؟ قالوا: يدعوا إلى البراز رجل ورجل، قال: وأبيكم لقد أنصف. فبرز له فقتله برد، فقال سويد بن أبي كاهل: ومنا بريدٌ إذ تحدى جموعكم ** فلم تقربوه المرزبان المسورا أي لم تجعلوه. ونادى حنظلة بن ثعلبة بن سيار: يا قوم لا تقفوا لهم فيستغرقكم النشاب، فحملت ميسرة بكر وعليها حنظلة على ميمنة الجيش، وقد قتل برد منهم رئيسهم الهامرز، وحملت ميمنة بكر وعليها يزيد بن مسهر عبلى ميسرة الجيش، وعليهم جلابزين، وخرج الكمين من جب ذي قار من ورائهم، وعليهم يزيد بن حمار، فشدوا على قلب الجيش، وفيهم إياس ابن قبيصة، وولت إياد منهزمة كما وعدتهم، وانهزمت الفرس. قال سليط: فحدثنا أسراؤنا الذين كانوا فيهم يومئذ، قالوا: فلما التقى الناس، ولت بكر منهزمة، فقلنا: يريدون الماء. فلما قطعوا الوادي فصاروا من ورائه، وجاوزوا الماء. قلنا: هي الهزيمة، وذاك في حر الظهيرة وفي يوم قائظ، فأقبلت كتيبة عجل كأنهم طن قصب، لا يفوت بعضهم بعضًا، لا يمعنون هربًا، ولا يخالطون القوم. ثم تذمروا فزحفوا فرموهم بجباههم، فلم تكن إلا إياها، فأمالوا بأيديهم، فولوا، فقتلوا الفرس ومن معهم؛ ما بين بطحاء ذي قار، حتى بلغوا الراخصة. قال فراس: فخبرت أنه تبعه تسعون فارسًا، ولم ينظروا إلى سلب ولا إلى شيء حتى تعارفوا بأدم موضع قريب من ذي قار، فوجد ثلاثون فارسًا من بني عجل، ومن سائر بكر ستون فارسًا، وقتلوا جلابزين؛ قتله حنظلة بن ثعلبة. وقال ميمون بن قيس يمدح بني شيبان خاصة في قوله: فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي ** وراكبها يوم اللقاء، وقلت هم ضربوا بالحنو، حنو قراقرٍ ** مقدمة الهامرز حتى تولت وأفلتنا قيسٌ وقلت لعله ** هنالك لو كانت به النعل زلت فهذا يدل على أن قيسًا قد شهد ذا قار. وقال بكير، أصم بني الحارث بن عباد، يمدح بني شيبان: إن كنت ساقية المدانة أهلها ** فاسقي على كرمٍ بني همام وأبا ربيعة كلها ومحلمًا ** سبقًا بغاية أمجد الأيام ضربوا بني الأحرار يوم لقومهم ** بالمشرفي على مقيل الهام عربًا ثلاثة آلفٍ وكتيبةً ** ألفين أعجم من بني الفدام شد ابن قيس شدةً ذهبت لها ** ذكرى له في معرقٍ وشآم عمروٌ وما عمروٌ بقحمٍ دالهٍ ** فيها، ولا غمرٍ ولا بغلام فلما مدح الأعشى والأصم بني شيبان خاصة غضبت اللهازم، فقال أبو كلبة، أحد بني قيس يؤنبها بذلك: جدعتما شاعري قوم أولى حسبٍ ** حزت أنوفهما حزًا بمنشار أعني الأصم وأعشانا إذا اجتمعا ** فلا استعانا على سمعٍ بإبصار لو لا فوارس لا ميلٌ ولا عزلٌ ** من اللهازم ما قاظوا بذي قار نحن أتيناهم من عند أشملهم ** كما تلبس ورادٌ بصدار؟ قال أبو عمرو بن العلاء: فلما بلغ الأعشى قول أبي كلبة، قال: صدق. وقال معتذرًا مما قال: متى يقرن أصم بحبل أعشى ** يتيها في الضلال وفي الخسار فلست بمبصرٍ ما قد يراه ** وليس بسامعٍ أبدًا حواري وقال الأعشى في ذلك اليوم: أتانا عن بني الأحرا ** ر قولٌ لم يكن أمما أرادوا نحت أنلتنا ** وكنا نمنع الخطما وقال أيضًا لقيس بن مسعود: أقيس بن مسعود بن قيسٍ بن خالدٍ ** وأنت امرؤٌ ترجو شبابك وائل أتجمع في عامٍ غزاةٍ ورحلةً ** ألا ليت قيسًا غرقته القوابل! وقال أعشى بني ربيعة: ونحن غداة ذي قارٍ أقمنا ** وقد شهد القبائل محلبينا وقد جاءوا بها جأواء فلقًا ** ململمة كتائبها طحونا ليوم كريهةٍ حتى تجلت ** ظلال دجاه عنا مصلتينا فولونا الدوابر واتقونا ** بنعمان بن زرعة أكتعينا وذدنا عارض الأحرار وردًا ** كما ورد القطا الثمد المعينا ذكر من كان على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند قد مضى ذكرنا من كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر ابن ربيعة إلى حين هلاك عمرو بن هند، وقدر مدة ولاية كل من ولي منهم ذلك، ونذكر الآن من ولي ذلك لهم بعد عمرو بن هند، إلى أن ولي ذلك لهم النعمان بن المنذر، والذي ولي لهم ذلك بعد عمرو بن هند أخوه قابوس بن المنذر، وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو، فولي ذلك أربع سنين؛ من ذلك في زمن أنوشروان ثمانية أشهر، وفي زمن هرمز بن أنوشروان ثلاث سنين وأربعة أشهر. ثم ولي بعد قابوس بن المنذر السهرب. ثم ولي بعده المنذر أبو النعمان أربع سنين. ثم ولي بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة، من ذلك زمن هرمز بن أنوشروان سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن كسرى أبرويز ابن هرمز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر. ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخيرجان، تسع سنين في زمن كسرى ابن هرمز. ولسنة وثمانية أشهر من ولاية إياس بن قبيصة بعث النبي ﷺ فيما زعم هشام بن محمد. ثم استخلف آزاذبه بن هامان بن مهر بنداذ الهمذاني سبع عشرة سنة، من ذلك في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر، وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرًا ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر - وهو الذي تسميه العرب الغرور، الذي قتل بالبحرين يوم جؤاثى، إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة - ثمانية شهر. فكان آخر من بقي من آل نصر بن ربيعة، فانقرض أمرهم مع زوال ملك فارس. فجميع ملوك آل نصر - فيما زعم هشام - ومن استخلف من العباد والفرس عشرون ملكًا. قال: وعدة ما ملكوا خمسمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر. رجع الحديث إلى ذكر المرزان وولايته اليمن، من قبل هرمز وابنه أبرويز، ومن وليها بعده: حدثت عن هشام بن محمد، قال: عزل هرمز بن كسرى وين عن اليمن، واستعمل مكانه المروزان، فأقام باليمن، حتى ولد له بها، وبلغ ولده. ثم إن أهل جبل من جبال اليمن يقال له المصانع خالفوه، وامتنعوا من حمل الخراج إليه - والمصانع جبل طويل ممتنع، إلى جانبه جبل آخر قريب منه، بينهما فضاء ليس بالبعيد، إلا أنه لا يرام ولا يطمع فيه - فسار المروزان إلى المصانع، فلما انتهى إليه نظر إلى جبل لا يطمع في دخوله إلا من باب واحد، يمنع ذلك الباب رجل واحد؛ فلما رأى أن لا سبيل له إليه، صعد الجبل الذي يحاذي حصنهم، فنظر إلى أضيق مكان منه وتحته هواء ذاهب، فلم ير شيئًا أقرب إلى افتتاح الحصن من ذلك الموضع، فأمر أصحابه أن يصطفوا له صفين، ثم يصيحوا به صيحة واحدة، وضرب فرسه فاستجمع حضرًا، ثم رمى به فوثب المضيق، فإذا هو على رأس الحصن. فلما نظرت إليه حمير وإلى صنيعه قالوا: هذا أيم - والأيم بالحميرية شيطان - فانتهرهم وزبرهم بالفارسية، وأمرهم أن يكتف بعضهم بعضًا، فاستنزلهم من حصنهم، وقتل طائفة منهم وسبى بعضهم، وكتب بالذي كان من أمره إلى كسرى ابن هرمز. فتعجب من صنيعه، وكتب إليه: أن استخلف من شئت، وأقبل إلي. قال: وكان للمرزوان ابنان: أحدهما تعجبه بالعربية، ويروي الشعر؛ يقال له خر خسرة، والآخر أسوارٌ يتكلم بالفارسية، ويتدهقن، فاستخلف المرزوان ابنه خر خسرة - وكان أحب ولده إليه - على اليمن، وسار حتى إذا كان في بعض بلاد العرب هلك، فوضع في تابوت، وحمل حتى قدم به على كسرى، فأمر بذلك التابوت فوضع في خزانته، وكتب عليه في هذا التابوت: فلان الذي صنع كذا وكذا، قصته في الجبلين. ثم بلغ كسرى تعرب خر خسرة وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولى باذان، وهو آخر من قدم اليمن من ولاة العجم. وكان كسرى قد طغى لكثرة ما قد جمع من الأموال وأنواع الجوهر والأمتعة والكراع وافتتح من بلاد العدو، وساعده من الأمور، ورزق من مؤاتاته، وبطر، وشره شرها فاسدًا، وحسد الناس على ما في أيديهم من الأموال، فولى جباية البقايا علجًا من أهل قرية تدعى خندق من طسوج بهرسير؛ يقال له: فرخزاذ بن سمي، فسام الناس سوء العذاب، وظلمهم واعتدى عليهم، وغصبهم أموالهم في غير حلة، بسبب بقايا الخراج، واستفسدهم بذلك، وضيق عليهم المعاش، وبغض إليهم كسرى وملكه. وحدثت عن هشام بن محمد، أنه قال: كان أبرويز كسرى هذا قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحدٌ من الملوك، وبلغت خيله القسطنطينية وإفريقية، وكان يشتو بالمدائن، ويتصيف ما بينها وبين همذان، وكان يقال: إنه كانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلا واحدًا، وخمسون ألف دابة بين فرس وبرذون وبغل، وكان أرغب الناس في الجوهر والأواني وغير ذلك. وأما غير هشام فإنه قال: كان له في قصره ثلاثة آلاف امرأة يطؤهن، وألوف جوارٍ اتخذهن للخدمة والغناء وغير ذلك، وثلاثة آلاف رجل يقومون بخدمته، وكانت له ثمانية آلاف وخمسمائة دابة لمركبه، وسبعمائة وستون فيلًا، واثنا عشر ألف بغل لثقله، وأمر فبنيت بيوت النيران، وأقام فيها اثني عشر ألف هربذ للزمزمة. وإنه أمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده وتوابعه وسائر أبواب المال، سنة ثماني عشرة من ملكه، فرفع إليه أن الذي اجتبي في تلك السنة من الخراج وسائر أبوابه من الورق أربعمائة ألف ألف مثقال وعشرون ألف ألف مثقال؛ يكون ذلك وزن سبعة، ستمائة ألف ألف درهم، وأمر فحول إليى بيت مالٍ بني بمدينة طيسبون، وسماه بهار حفرد خسرو، وأموال له أخرى من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن فيروز، اثنا عشر ألف بدرة، في كل بدرة منها من الورق أربعة آلاف مثقال، يكون جميع ذلك ثمانية وأربعين ألف ألف مثقال، وهو وزن سبعةٍ، ثمانية وستون ألف ألف وخمسمائة ألف وأحد وسبعون ألفًا وأربعمائة وعشرون درهمًا ونصف وثلث ثمن درهم، في أنواع لا يحصي مبلغها إلا الله، من الجواهر والكسى وغير ذلك. وإن كسرى احتقر الناس، واستخف بما لا يستخف به الملك الرشيد الحازم، وبلغ من عتوه وجرأته على الله أنه أمر رجلا كان على حرس بابه الخاص - يقال له: زاذان فروخ - أن يقتل كل مقيد في سجن من سجونه، فأحصوا، فبلغوا ستة وثلاثين ألفًا، فلم يقدم زاذان فروخ على قتلهم، وتقدم لتأخير ما أمر به كسرى فيهم، لعلل أعدها له، فكسب كسرى عداوة أهل مملكته من غير وجه؛ أحد ذلك احتقاره إياهم، وتصغيره عظماءهم. والثاني تسليط العلج فرخان زاد بن سمي عليهم، والثالث أمره بقتل من كان في السجن، والرابع إجماعه على قتل الفل الذين انصرفوا إليه إليه من قبل هرقل والروم؛ فمضى ناس من العظماء إلى عقر بابل، وفيه شيرى بن أبرويز مع إخوته بها، قد وكل بهم مؤدبون يؤدبونهم، وأساورة يحولون بينهم وبين براح ذلك الموضع، فأقبلوا به، ودخل مدينة بهرسير ليلا، فخلى عمن كان في سجونها، وخرج من كان فيها، واجتمع إليه الفل الذين كان كسرى أجمع على قتلهم، فنادوا قباذ شاهنشاه، وصاروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب من كان في قصره من حرسه، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ له قريب من قصره، ويدعى باغ الهندوان فارًا مرعوبًا، وطلب فأخذ ماه آذر وروز آذر، وحبس في دار المملكة، ودخل شيرويه دار الملك، واجتمع إليه الوجوه، فملكوه وأرسل إلى أبيه يقرعه بما كان منه. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: ولد لكسرى أبرويز ثمانية عشر ولدًا ذكرًا، أكبرهم شهريار، وكانت شيرين تبنته، فقال المنجمون لكسرى: إنه سيولد لبعض ولدك غلام؛ ويكون خراب هذا المجلس وذهاب هذا الملك على يديه، وعلامته نقصٌ في بعض بدنه، فحصر ولده لذلك عن النساء، فمكثوا حينًا لا يصلون إلى امرأة، حتى شكا ذلك شهريار إلى شيرين، وبعث إليها يشكو الشبق، ويسألها أن تدخل عليه امرأة وإلا قتل نفسه؛ فأرسلت إليه: إني لا أصل إلى إدخال النساء عليك إلا أن تكون امرأة لا يؤبه لها، ولا يجمل بك أن تمسها، فقال لها: لست أبالي ما كانت، بعد أن تكون امرأة. فأرسلت إليه بجارية كانت تحجمها، وكانت - فيما يزعمون - من بنات أشرافهم؛ إلا أن شيرين كانت غضبت عليها في بعض الأمور، فأسلمتها في الحجامين؛ فلما أدخلتها على شهريار وثب عليها، فحملت بيزدجرد، فأمرت بها شيرين فقصرت حتى ولدت، وكتمت أمر الولد خمس سنين. ثم إنها رأت من كسرى رقة للصبيان حين كبر، فقالت له: هل يسرك أيها الملك أن ترى ولدًا لبعض بنيك على ما كان في ذلك من المكروه؟ فقال: لاأبالي. فأمرت بيزدجرد فطيب وحلي، وأدخلته عليه، وقالت: هذا يزدجرد بن شهريار، فدعا به فأجلسه في حجره، وقبله وعطف عليه، وأحبه حبًا شديدًا، وجعل يبيته معه؛ فبينا هو يلعب ذات يوم بين يديه؛ إذ ذكر ما قيل فيه، فدعا به فعراه من ثيابه، واستقبله واستدبره، فاستبان النقص في أحد وركيه، فاستشاط غضبًا وأسفًا، واحتمله ليجلد به الأرض، فتعلقت به شيرين، وناشدته الله ألا يقتله، وقالت له: إنه إن يكن أمرٌ قد حضر في هذا الملك فليس له مرد. قال: إن هذا المشئوم؛ الذي أخبرت عنه، فأخرجيه فلا أنظر إليه. فأمرت به فحمل إلى سجستان. وقال آخرون: بل كان بالسواد عند ظؤورته في قرية يقال لها خمانية. ووثبت فارس على كسرى فقتلته، وساعدهم على ذلك ابنه شيرويه بن مريم الرومية. وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة. ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يومًا من ملكه هاجر النبي ﷺ من مكة إلى المدينة. ذكر ملك شيرويه بن أبرويز ثم ملك من بعده ابنه شيرويه، واسمه قباذ بن أبريز بن هرمز بن كسرى أنوشروان. فذكر أن شيرويه لما ملك دخل عظماء الفرس عليه بعد حبسه أباه، فقالوا له: إنه لا يستقيم أن يكون لنا ملكان اثنان، فإما أن تقتل كسرى ونحن خولك الباخعون لك بالطاعة، وإما أن نخلعك ونعطيه الطاعة على ما لم نزل نعطيه قبل أن تملك. فهدت هذه المقالة شيرويه وكسرته، وأمر بتحويل كسرى من دار المملكة إلى دار رجل يقال له مارسفند. فحمل كسرى على برذون، وقنع رأسه، وسير به إلى تلك الدار، ومعه ناس من الجند، فمروا به في مسيرهم على إسكاف جالس في حانوت شارع على الطريق، فلما بصر بفرسان من الجند معهم فارس مقنع، عرف أن المقنع كسرى، فحذفه بقالب، فعطف إليه رجلٌ ممن كان مع كسرى من الجند، فاخترط سيفه فضرب عنق الإسكاف، ثم لحق بأصحابه. فلما صار كسرى في دار مارسفند جمع شيرويه من كان بالباب من العظماء وأهل البيوتات، فقال: إنما قد رأينا أن نبدأ بالإرسال إلى الملك أبينا بما كان من إساءته ونوقفه على أشياء منها، ثم دعا برجل من أهل أردشير خرة يقال له أسفاذ جشنس، ولمرتبته رئيس الكتيبة، كان يلي تدبير المملكة، فقال له: انطلق إلى الملك أبينا، فقل له عن رسالتنا: إنا لم نكن للبلية التي أصبحت فيها ولا أحد من رعيتنا سببا، ولكن الله قضاها عليك جزاء منه لك بسيئ أعمالك؛ منها اجترامك إلى هرمز أبيك وفتكك به، وإزالتك الملك عنه، وسملك عينيه، وقتلك إياه شر قتلة، وما قارفت في أمره من الإثم العظيم. ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في حظرك علينا مثافنة الأخيار ومجالستهم، وكل أمر يكون لنا فيه دعة وسرور وغبطة. ومنها إساءتك كانت بمن خلدت السجون منذ دهر، حتى شقوا بشدة الفقر وضيق المعاش والغربة عن بلادهم وأهاليهم وأولادهم. ومنها سوء نظرك في استخلاصك كان لنفسك من النساء وتركك العطف عليهن بمودة منك والصرف لهن إلى معاشرة من كن يرزقن منه الولد والنسل، وحبسك إياهن قبلك مكرهات. ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة في اجتبائك إياهم الخراج، وما انتهكت منهم في غلظتك وفظاظتك عليهم. ومنها جمعك الأموال التي اجتبيتها من الناس في عنف شديد، واستفستد منك إياهم، وإدخالك البلاء والمضار عليهم فيه. ومنها تجميرك من جمرت في ثغور الروم وغيرهم من الجنود، وتفريقك بينهم وبين أهاليهم. ومنها غدرك بموريق، ملك الروم، وكفرك إنعامه عليك فيما كان من إيوائه إياك، وحسن بلائه عندك، ودفعه عنك شر عدوك، وتنويهه باسمك في تزويجه إياك أكرم النساء من بناته عليه، وآثرهن عنده، واستخفافك بحقه، وتركك إطلابه ما طلب إليك من رد خشبة الصليب، التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة، علمته. فإن كانت لك حجج تدلى بها عندنا وعند الرعية فأدل بها، وإن لم تكن لك حجة، فتب إلى الله من قريب، وأنب إليه حتى نأمر فيك بأمرنا. فوعى أسفاذ جشنس رسالة كسرى شيرويه هذه، وتوجه من عنده إلى كسرى ليبلغه إياها، فلما توجه إلى الموضع الذي كان حبس فيه كسرى ألفى رجلا يقال له جيلنوس كان قائد الجند قد وكل بحراسة كسرى جالسا، فتحاورا ساعة، ثم سأل أسفاذ جشنس جلينوس أن يستأذن له على كسرى ليلقاه برسالة من شيرويه، فرجع جلينوس فرفع الستر الذي كان دون كسرى، فدخل عليه، وقال له: عمرك الله! إن أسفاذ جشنس بالباب، وذكر أن الملك شيرويه أرسله إليك في رسالة، وهو يستأذن عليك، فرأيك في الأمر فيه برأيك! فتبسم كسرى وقال مازحًا: يا جلينوس أسفاذان، كلامك مخالف كلام أهل العقل، وذلك أنه إن كانت الرسالة التي ذكرت من شيرويه الملك، فليس لنا مع ملكه إذن، وإن كان لنا إذن وحجب فليس شيرويه بملك؛ ولكن المثل في ذلك كما قيل: يشاء الله الشىء فيكون، ويأمر الملك بأمر فينفذ. فأذن لأسفاذ جشنس يبلغ الرسالة التي حملها. فلما سمع جلينوس هذه المقالة خرج من عند كسرى، وأخذ بيد إسفاذ جشنس، وقال له: قم فادخل إلى كسرى راشدًا. فنهض أسفاذ جشنس، ودعا بعض من كان معه من خدمه، ودفع إليه كساء كان لابسه، وأخرج من كمه ششتقة بيضاء نقية، فمسح بها وجهه، ثم دخل على كسرى، فلما عاين كسرى، خر له ساجدًا، فأمره كسرى بالانبعاث، فانبعث وكفر بين يديه - وكان كسرى جالسا على ثلاثة أنماط من ديباج خسرواني منسوج بذهب، قد فرشت على بساط من إبريسم، متكئًا على ثلاث وسائد منسوجة بالذهب، وكان بيده سفرجلة صفراء شديدة الاستدارة. فلما عاين أسفاذ جشنس، تربع جالسا ووضع السفرجلة التي كانت بيده على تكأته، فتدحرجت من أعلى الوسائد الثلاث لشدة استدارتها واملساس الوسادة التي كانت عليها، بامتلاء حشوها إلى أعلى تلك الأنماط الثلاثة، ومن النمط إلى البساط، ولم تلبث على البساط أن تدحرجت إلى الأرض، ووقعت بعيدا متلطخة بتراب، فتناولها أسفاذ جشنس فمسحها بكمه، وذهب ليضعها بين يدي كسرى، فأشار إليه أن ينحيها عنه، وقال له: أعز بها عني، فوضعها أسفاذ جشنس عند طرف البساط إلى الأرض، ثم عاد فقام مقامه، وكفر بيده، فنكس كسرى، ثم قال متمثلا: الأمر إذا أدبر فاتت الحيلة في الإقبال به، وإذا أقبل أعيت الحيلة في الإدبار به، وهذان الأمران متداولان على ذهاب الحيل فيهما، ثم قال لأسفاذ جشنس: إنه قد كان من تدحرج هذه السفرجلة وسقوطها حيث سقطت، وتلطخها بالتراب وهو عندنا كالإخبار لنا بما حملت من الرسالة، وما أنتم عاملون به وعاقبته، فإن السفرجلة التي تأويلها الخير، سقطت من علو إلى سفل، ثم لم تلبث على مفرشنا أن سقطت إلى الأرض، ووقعت بعيدا متلطخة بتراب؛ وذلك منها دليل في حال الطيرة: أن مجد الملوك قد صار عند السوق؛ وأنا قد سلبنا الملك، وأنه لا يلبث في أيدي عقبنا أن يصير إلى من ليس من أهل المملكة، فدونك فتكلم بما حملت من رسالة، وزودت من الكلام. فاندفع أسفاذ جشنس في تبليغ الرسالة التي حمله إياها شيرويه، ولم يغادر منها كلمة، ولم يزلها عن نسقها. فقال كسرى في مرجوع تلك الرسالة: بلغ عنى شيرويه القصير العمر، أنه لا ينبغي لذي عقل أن يبث من أحد الصغير من الذنب، ولا اليسير من السيئة إلا بعد تحقق ذلك عنده، وتيقنه إياه منه، فضلًا عن عظيم ما بثثت ونشرت وادعيت منا، ونسبتنا إليه من الذنوب والجرائم؛ مع أن أولى الناس بالرد عن ذي ذنب، وتوبيخ ذي جرمة، من قد ضبط نفسه عن الذنوب والجرائم، ولو كنا على ما أضفتنا إليه لم يكن ينبغي أن تنشره وتؤنبنا به أيها القصير العمر القليل العلم؛ فإن كنت جاهلًا بما يلزمك من العيوب يبثك منا ما بثثت، ونسبتك إيانا إلى ما نسبت؛ فاستثنت عيوبك واقتصر في الزري علينا، والعيب لنا ما لا يزيدك بسوء مقالتك فيه إلا اشتهارًا بالجهل، ونقص الرأي. أيها العازب العاقل، العديم العلم؛ فإنه إن كان لإجهادك نفسك في شهرك إيانا من الذنوب بما يوجب علينا القتل حقيقة، وكان لك على ذلك برهان، فقضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه، وينحونه عن مضامه الخيار ومجالستهم، ومخالطتهم إلا في أقل المواطن فضلًا عن أن يملك؛ مع أنه قد بلغ بحمد الله ونعمته من إصلاحنا أنفسنا ونيتنا فيما بيننا وبين الله وبيننا وبين أهل ملتنا وديننا، وبيننا وبينك وبين معشر أبنائنا ما ليس لنا في شيء من ذلك تقصير، ولا علينا فيه من أحد حجة ولا توبيخ؛ ونحن نشرح الحال فيما ألزمتنا من الذنوب، وألحقت بنا من الجرائم؛ عن غير التماس منا لذلك نقصًا فيما أدلينا به من حجة، أو أتينا عليه من برهان؛ لتزداد علمًا بجهالتك وعزوب عقلك، وسوء صنيعك. أما ما ذكرت من أمر أبينا هرمز، فمن جوابنا فيه أن الأشرار والبغاة كانوا أغروا هرمز بنا حتى اتهمنا واحتمل غمرًا ووغرًا ورأيًا من ازواره عنا، وسوء رأيه فينا، ما تخوفنا ناحيته، فاعتزلتنا بابه لإشفاقنا منه، ولحقنا بأذربيجان، وقد استفاض، فانتهك من الملك ما انتهك. فلما انتهى إلينا خبر ما بلغ منه شخصًا من أذربيجان إلى بابه، فهجم علينا المنافق بهرام في جنود عظيمة من العصاة المستوحبة القتل، مارقًا من الطاعة، فأجلانا عن موضع المملكة فلحقنا ببلاد الروم، فأقبلنا منها بالجنود والعدة، وحاربناه فهرب منا، وصار من أمره في بلاد الترك من الهلكة والبوار إلى ما قد اشتهر في الناس؛ حتى إذا صفا لنا الملك، واستحكم لنا أمره، ودفعنا بعون الله عن رعيتنا البلاء والآفات التي كانوا أشفوا عليها، قلنا: إن من خير ما نحن بادئون به في سياستنا، ومفتتحون به ملكنا الانتقام لأبينا، والثأر به والقتل لكل من شرك في دمه؛ فإذا أحكمنا ما نوينا من ذلك، وبلغنا منه ما نريد تفرغنا لغيره من تدبير الملك، فقتلنا كل من شرك في دمه، وسعى فيه ومالًا عليه. وأما ما ذكرت من أمر أبنائنا، فمن جوابنا أنه ليس من ولد ولدناه - ما خلا من استأثر الله به منهم - إلا صحيحة أعضاء جسده؛ غير أنا وكلنا بالحراسة لكم، وكفكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم إرادة كف ما نتخوف من ضرركم على البلاد والرعية. ثم كنا أقمنا من النفقات الواسعة في كسوتكم ومراكبكم وجميع ما تحتاجون إليه ما قد علمت، وأما أنت خاصة، فمن قصتك أن المنجمين كانوا قضوا في كتاب مولدك أنك مثرب علينا، أو يكون ذلك بسببك؛ فلم نأمر بقتلك؛ ولكن ختمنا على كتاب قضية مولدك، ودفعناه إلى شيرين صاحبتنا. ومع ثقتنا بتلك القضية وجدنا فرميشا ملك الهند كتب إلينا في سنة ست وثلاثين من ملكنا، وقد أوفدهم إلينا، فكتب في أمور شتى، وأهدى لنا ولكم - معشر أبنائنا - هدايا، وكتب إلى كل واحد منكم كتابتًا، وكانت هديته لك - فاذكرها - فيلا، وسيفًا، وبازيًا أبيض، وديباجة منسوجة بذهب؛ فلما نظرنا فيما أهدى لكم، وكتب إليكم وجدته قد وقع على كتابه إليك بالهندية: اكتم ما فيه، فأمرنا أن يصرف إلى كل واحد منكم ما بعث إليه من هدية أو كتاب، واحتسبنا كتابه إليك لحال التوقيع الذي كان عليه، ودعونا بكاتب هندي، وأمرنا بفض خاتم الكتاب وقراءته، فكان فيه: أبشر وقر عينًا، وانعم بالًا، فإنك متوج ماه آذر روز ديبا ذر سنة ثمان وثلاثين من ملك كسرى، ومملك على ملكه وبلاده؛ فوثقنا أنك لم تكن لتملك إلا بهلكنا وبوارنا، فلم ننتقصك - بما استقر عندنا من ذلك مما كنا أمرنا بإجرائه عليه من الأرزاق والمعاون والصلات وغير ذلك - شيئًا؛ فضلًا عن أمرنا بقتلك. وأما كتاب فرميشا فقد ختمنا عليه بخاتمنا، واستودعناه شيرين صاحبتنا؛ وهي في الأحياء صحيحة العقل والبدن؛ فإن أحببت أن تأخذ منها قضية مولدك، وكتاب فرميشا إليك وتقرأهما لتكسبك قراءتك إياهما ندامة وثبورًا فافعل. وأما ما ذكرت من حال من خلد السجن فمن جوابنا فيه أن الملوك الماضبين من لدن جيومرت إلى ملك بشتاسب، كانوا يدبرون ملكهم بالمعدلة؛ ولم يزللوا من لدن بشتاسب إلى ملكنا يدبرونه بمعدلة، معها ورع الدين؛ فسل إن كنت عديم عقل وعلم وأدب حملة الدين - وهم أوتاد هذه الملة - عن حال من عصى الملوك وخالفهم، ونكث عهدهم، والمستوجبين بذنوبهم القتل فيخبروك أنهم لا يستحقون أن يرحموا ويعفى عنهم. واعلم من ذلك أنا لم نأمر بالحبس في سجوننا، ولا من قد وجب عليه في القضاء العدل أن يقتل أو تسمل عينه، وتقطع يده ورجله وسائر أعضائه. وكثيرًا ما كان الموكلون بهم وغيرهم من وزرائنا يذكرون استيجاب من استوجب منهم القتل، ويقولون: عاجلهم بالقتل قبل أن يحتالوا لأنفسهم حيلًا يقتلونك بها، فكنا لحبنا اسنبقاء النفوس وكراهتنا سفك الدمتاء نتأنى بهم، ونكلهم إلى الله، ولا نقدم على عقوبتهم بعد الحبس الذي اقتصرنا عليه؛ إلا على منعهم أكل اللحم وشرب الشراب، وشم الرياحين، ولم نعد في ذلك ما في سنن الملة من الحول بين الستوجبين للقتل، وبين التلذذ والتنعم بشيء مما منعناهم إياه؛ وكنا أمرنا لهم من المطعم والمشرب وسائر ما يقيمهم بالذي يصلحهم في اقتصاد، ولم نأمر بالحول بينهم وبين نسائهم والتوالد والتناسل في حال حبسهم. وقد بلغنا أنك أجمعت على التخلية عن أولئك الدعار المنافقين المستوجبين للقتل، والأمر بهدم محبسهم، ومتى تخل عنهم تأثم بالله ربك، وتسئ إلى نفسك، وتخل بدينك وما فيه من الوصايا والسنن التي فيها صرف الرحمة والعفو عن المستوجبين للقتل، مع أن أعداء الملوك لا يحبون الملك أبدًاُ، والعاصين لهم لا يمنحونهم الطاعة. وقد وعظ الحكماء وقالوا: لا تؤخرن معاقبة المستوجبي العقوبة؛ فإن في تأخيرها مدفعة للعدل، ومضرة على المملكة في حال التدبير؛ ولئن نالك بعض السرور إن أنت خليت عن أولئك الدعر المنافقين العصاة المستوجبين للقتل لتجدن غب ذلك في تدبيرك، ودخول أعظم المضرة والبلية على أهل الملة. وأما قولك: إنا إنما كسبنا وجمعنا وادخرنا الأموال والأمتعة والبروز وغيرها من بلاد مملكتنا بأعنف اجتباء، وأشد إلحاح على رعيتنا، وأشد ظلم، لا من بلاد العدو بالمجاهدة لهم والقهر، عن غلبة منا إياهم على ما في أيديهم؛ فمن جوابنا فيه أن من إصابة الجواب في كل كلام يتكلم بجهل وعنجهية ترك الجواب فيه، ولكن لم ندع - إذ صار ترك الجواب كالإقرار، وكانت حجتنا فيما غشينا أن نحتاج به قوية، وعذرنا واضحًا - شرح ما سألتنا عنه من ذلك. اعلم أيها الجاهل؛ أنه إنما يقيم ملك الملوك بعد الله الأموال والجنود وبخاصة ملك فارس، الذي قد اكتنفت بلاده أعداءٌ فاغرة أفواهم لالتقام ما في يديه، وليس يقدر على كفهم عنها، وردعهم عما يرويدون من اختلاس ما يرمون اختلاسه من؛ إلا الجنود الكثيفة، والأسلحة والعدد الكثيرة؛ ولا سبيل له إلى الكثيف من الجنود والكثير مما يحتاج إليه بكثرة الأموال ووفروها ولا يستكثر من الأموال ولا يقدر على جمعها لحاجة إن عرضت له إليها إلا بالجد والتشمير في اجتباء هذا الخراج. وما نحن ابتدعنا جمع الأموال؛ بل اقتدينا في ذلك بآبائنا والماضين من أسلافنا؛ فإنهم جمعوها كجمعنا إياها، وكثروها ووفروها لتكون ظهرًا لهم على تقوية جنودهم وإقامة أمورهم؛ وغير ذلك مما لم يستغنوا عن جمعها له. فأغار على تلك الأموال وعلى جوهر كان في خزائننا، المنافق بهرام في عصابة مثله وفتاك مستوجبين للقتل، فشذبوها وبذروها وذهبوا بما ذهبوا به منها، ولم يتركوا في بيوت أموالنا وخزائننا إلا أسلحة من أسلحتنا لم يقدروا على تشذيبها والذهاب بها، ولم يرغبو فيها. فلما ارتجعنا بحمد الله ملكنا، واستحكمت أمورنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة، ودفعنا عنهم البوائق التي كانت حلت بهم، ووجهنا إلى نواحي بلادنا أصبهبذين، وولينا دونهم على تلك النواحي فاذوسبانين، ولستعملنا على ثغورنا مرازبة وولاة ذوى صرامة ومضاء وجلد، وقوينا من ولينا من هؤلاء بالكثيف من الجنود، أثخن هؤلاء الولاة من كان بإزائهم من الملوك المخالفين لنا والعدو. وبلغ من غاراتهم عليهم، وقتلهم من قتلوا، وأسرهم من أسروا منهم، من سنة ثلاث عشرة من ملكنا، ما لم يقدر الرجل من أولئك على إطلاع رأسه في حرم بلاده إلا بخفير، أو خائفًا، أو بأمان منا، فضلا عن الإغارة على شيء من بلادنا، والتعاطي لشيء مما كرهنا، ووصل، ووصل في مدة هذه السنين إلى بيوت أموالنا وخزائننا مما غنمنا من بلاد العدو من الذهب والفضة وأواع الجوهر، ومن النحاس والفرند والحرير والإستبرق والديباج والكراع والأسلحة والسبى والأسراء ما لم يخف عظم خطر ذلك وقدره على العامة، فلما أمرنا في آخر سنة ثلاث عشرة من ملكنا بنقش سكك حديثة، لنأمر فيستأنف ضرب الورق بها، وجد في بيوت أموالنا - وعلى ما رفع المحصون لما كان فيها من الورق سوى ما أمرنا بعزله من الأموال لأرزاق جنودنا من الورق - مائتا ألف بدرة، فيها ثمانمائة ألف ألف مثقال. فلما رأينا أنا قد حصنا ثغورنا، وردعنا العدو عنها وعن رعيتنا، وجمعنا مشتت أمرنا، وكعمنا أفواهم الفاغرة كانت لالتقام ما في أيديهم، وبسطنا فيهم الأمن، وأمنا على نواحي بلادنا الأربع ما كان أهلها فيه من البوائق والمغار أمرنا باجتباء بقايا السنين، وما انتهب من أموالنا من ذهب وفضة، ومن خزائننا من جوهر أو نحاس، ورد ذلك كله إلى موضعه؛ حتى إذا كان في آخر سنة ثلاثين من ملكنا أمرنا بنقش سكك حديثة، يضرب عليها الورق، فوجد في بيوت أموالنا سوى ما أمرنا بعزله من الأموال لأرزاق جندنا، والأموال التي أحصيت لنا قبل ذلك من الورق أربعمائة ألف بدرة، يكون ما فيها ألف ألف ألف مثقال وستمائة ألف ألف مثقال؛ وذلك سوى ما زادنا الله على تلك الأموال؛ مما أفاء الله بمنه وطوله علينا من أموال ملوك الروم، في سفن أقبلت بها إلينا الريح؛ فسميناها فئ الرياح؛ ولم تزل أموالنا من سنة ثلاثين من ملكنا إلى سنة ثمانٍ وثلاثين من ملكنا، التي هي هذه السنة تزداد كثرة ووفورًا، وبلادنا عمارة، ورعيتنا أمنًا وطمأنينة، وثغورنا وأطرافنا مناعة وحصانة؛ وقد بلغنا أنك هممت - لرذولة مروءتك - أن تبذر هذه الأموال وتتويها، عن رأى الأشرار العتاة المستوجبين للقتل. ونحن نعلمك أن هذه الكنوز والأموال لم تجمع إلا بعد المخاطرة بالنفوس، وبعد كد وعناء شديد، لندفع بها العدو المكتنفين لبلاد هذه المملكة، المتقلبين إلى غلبتهم على ما في أيديهم. وإنما يقدر على كف أولئك العدو في الأزمان والدهور كلها، بعد عون الله بالأموال والجنود، ولن تقوى الجنود إلا بالأموال، ولا ينتفع بالأموال إلا على كثرتها ووفورها؛ فلاتهمن بتفرقة هذه الأموال، ولا تجسرن عليها؛ فإنها كهف لملك وبلادك، وقوة لك على عدوك. ثم انصرف إسفاذ جشنس إلى شيرويه فقص عليه ما قال له كسرى، ولم يسقط منه حرفًا، وإن عظماء الفرس عادوا فقالوا لشيرويه: إنه لا يستقيم أن يكون لنا ملكان، فإما أن تأمر بقتل كسرى، ونحن خولك، المانحوك الطاعة، وإنا أن نخلعك ونعطيه الطاعة. فهدت شيرويه هذه المقالة وكسرته، وأمر بقتل كسرى، فانتدب لقتله رجال كان وترهم كسرى، فكلما أتناه الرجل منهم شتمه كسرى وزبره. فلم يقدم على قتله أحد؛ حتى أتاه شابٌ يقال له مهرهرمز بن مردانشاه ليقتله، وكان مردانشاه فاذوسبانا لكسرى على ناحية نيمروذ، وكان من أطوع الناس لكسرى وأنصحهم له، وإن كسرى سأل قبل أن يخلع بنحو من سنتين منجميه وعافته عن عاقبة أمره. وأخبروه أن منيته آتية من قبل نيمروذ. فاتهم مردانشاه، وتخوف ناحيته لعظم قدره، وأنه لم يكن في تلك الناحية من يعد له في القوة والقدرة. فكتب إليه أن يعجل القدوم عليه؛ حتى إذا قدم عليه أجال الرأي في طلب علة يقتله بها، فلم يجد عليه عثرة، وتذمم من قتله لما علم من طاعته إياه، ونصيحته له، وتحريه مرضاته. فرأى أن يستبقيه، ويأمر بقطع يمينه، ويعوضه منها أموالًا عظيمة يجود له بها. فبغى عليه من العلل ما قطع يمينه؛ وإنما كانت تقطع الأيدي والأرجل وتقطع الأعناق في رحبة الملك. وإن كسرى أرسل يومًا أمر بقطع يده عينًا ليأتيه بخبر ما يسمع من مردانشاه وممن بحضرته من النظارة، وإن مردانشاه لما قطعت يمينه قبض عليها بشماله، فقبلها ووضعها في حجره، وجعل يندبها بدمع له دارّ ويقول: واسمحتاه! واراميتاه! واكاتبتاه! واضاربتاه! والاعبتاه! واكريمتاه!. فانصرف إلى كسرى الرجل الذي كان وجهه عينًا عليه، فأخبره بما رأى وسمع منه، فرق له كسرى؛ وندم على إتيانه في أمره ما أتى، فأرسل إليه مع رجل من العظماء يعلمه ندامته على ما كان منه؛ وأنه لن يسأله شيئًا يجد السبيل إلى بذله له إلا أجابه إليه، وأسعفه به. فأرسل كسرى مع ذلك الرسول يدعو له، ويقول: إني لم أزل أعرف تفضلك علي أيها الملك، وأشكره لك، وقد تيقنت أن الذي أتيت إلي مع كراهتك إياه؛ إنما كان سببه القضاء؛ ولكني سائلك أمرًا فأعطني من الأيمان على إسعافك إياي به ما أطمئن إليه، وليأتني بيقين حلفك على ذلك رجل من النساك، فأفرشك إياه وأبثه لك. فانصرف رسول كسرى إلى كسرى بهذه الرسالة، فسارع إلى ما سأله مردانشاه، وحلف بالأيمان المغلظة ليجيبنه إلى ما هو سائله؛ ما لم تكن مسألته أمرًا يوهن ملكه. وأرسل إليه بهذه الرسالة مع رئيس المزمزمين؛ فأرسل إليه مردانشاه يسأله أن يأمر بضرب عنقه ليمتحي بذلك العار الذي لزمه، فأمر كسرى فضربت عنقه كراهة منه للخنث، زعم. وإن كسرى سأل مهر هرمز بن مردانشاه، حين دخل عليه عن اسمه، وعن اسم أبيه ومرتبته. فأخبره أنه مهر هرمز بن مردانشاه، فاذوسبان نيمروذ، فقال كسرى: أنت ابن رجل شريف كثير الغناء؛ قد كافأناه على طاعته إيانا، ونصيحته لنا، وغنائه عنا بغير ما كان يستحقه، فشأنك وما أمرت به. فضرب مهر هرمز على حبل عاتقه بطبرزين كانت بيده ضربات فلم يحك فيه، ففتش كسرى فوجد قد شد عضده خرزة لا يحيك السيف في كل من تعلقها. فنزعت من عضده، ثم ضربه بعد ذلك مهر هرمز ضربة فهلك منها. وبلغ شيرويه فخرق جيبه وبكى منحبًا، وأمر بحمل جثته إلى الناووس فحملت، وشيعها العظماء وأفناء الناس. وأمر فقتل قاتل كسرى، وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة؛ وكان قتله ماه آذر روزماه. وقتل شيرويه سبعة عشر أخًا له ذوي أدب وشجاعة ومروءة، بمشورة وزيره فيروز، وتحريض ابن ليزدين - والى عشور الآفاق كان لكسرى، يقال له شمطا - إياه على قتلهم، فابتلى بالأسقام ولم يلتذ بشيء من لذات الدنيا، وكان هلاكه بدسكرة الملك، وكان مشئومًا على آل ساسان؛ فلما قتل إخوته جزع جزعًا شديدًا. ويقال: إنه لما كان اليوم الثاني من اليوم الذي قتلهم فيه، دخلت عليه بوران وآزر ميدخت أختاه فأسمعتاه وأغلظتا له، وقالتا: حملك الحرص على ملك لا يتم، على قتل أبيك وجميع إخوتك، وارتكبت المحارم! فلما سمع ذلك منهما بكى بكاء شديدًا، ورمى بالتاج عن رأسه، ولم يزل أيامه كلها مهمومًا مدنفًا. ويقال: إنه أباد من قدر عليه من أهل بيته؛ وإن الطاعون فشا في أيامه حتى هلك الفرس إلا قليلًا منهم. وكان ملكه ثمانية أشهر. ذكر ملك أردشير بن شيرويه ثم ملك أردشير بن شيرويه بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وكان طفلًا صغيرًا - قيل: إنه كان ابن سبع سنين لأنه لم يكن في أهل بيت المملكة محتنكٌ - فملكته عظماء فارس، وحضنه رجل يقال له مهآذرجشنس؛ وكانت مرتبته رياسة أصحاب المائدة، فأحسن سياسة الملك، فبلغ من إحكامه ذلك ما لم يحس معه بحداثة سن أردشير. وكان شهربراز بثغر الروم في جندٍ ضمهم إليه كسرى، وسماهم السعداء، وكان كسرى وشيرويه لا يزالان يكتبان إليه في الأمر يهمهما، فيستشيرانه فيه؛ فلما لم يشاوره عظماء فارس في تمليك أردشير، اتخذ ذلك ذريعة إلى التعتب والتبغي عليهم، وبسط يده في القتل، وجعله سببًا للطمع في الملك، والاعتلاء عند ذلك من ضعة العبودية إلى رفعة الملك، واحتقر أردشير لحداثة سنه واستطال عليهم، وأجمع على دعاء الناس إلى التشاور في الملك. ثم أقبل بجنده وقد عمد مهآذرجشنس؛ فحصن سور المدينة طيسبون وأبوابها؛ وحول أردشير، ومن بقي من نسل الملك ونسائهم، وما كان في بيت مال أردشير من ماله وخزائنه وكراعه إلى مدينة طيسبون. وكان الذين أقبل فيهم من الجند شهر براز ستة آلاف رجل من جند فارس بثغر الروم، فأناخ إلى جانب مدينة طيسبون، وحاصر من فيها وقاتلهم عنها، ونصب المجانيق عليها فلم يصل إليها. فلما رأى عجزه عن افتتاحها أتاها من قبل المكيدة، فلم يزل يخدع رجلًا يقال له نيوخسروا، وكان رئيس حرس أردشير ونامدار جشنس بن آذرجشنس؛ أصبهبذ نيمروذ؛ حتى فتحا له باب المدينة فدخلها، فأخذ جماعة من الرؤساء فقتلهم، واستصفى أموالهم، وفضح نساءهم. وقتل ناس بأمر شهربراز أردشير بن شيرويه؛ سنة اثنتين ماه بهمن، ليلة روزآبان في إيوان خسروشاه قباذ. وكان ملكه سنة وستة أشهر. ذكر ملك شهر براز ثم ملك شهر براز؛ وهو فرخان ماه إسفنديار، ولم يكن من أهل بيت المملكة، ودعا نفسه ملكًا. وإنه حين جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدة ذلك عليه أنه لم يقدر على إتيان الخلاء، فدعا بطست فوضع أما ذلك السرير فتبرز فيه. وإن رجلًا من هل إصطخر، يقال له فسفروخ بن ما خرشيذان وأخوين له، امتعضوا من قتل شهربراز أردشير وغلبته على الملك، وأنفوا من ذلك، وتحالفوا وتعاقدوا على قتله، وكانوا جميعًا في حرس الملوك، وكان من السنة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين، عليهم الدروع والبيض والترسة والسيوف، وبأيديهم الرماح؛ فإذا حاذى بهم الملك وضع كل رجل منهم نرسه على قربوس سرجه، ثم وضع جبهته عليه كهيئة السجود. وإن شهربراز ركب بعد أن ملك بأيام فوقف فسفروخ وأخواه؛ قريبًا بعضهم من بعض؛ فلما حاذى بهم شهربراز طعنه فسفروخ، ثم طعنه أخواه، وكان ذلك إسفندارمذماه، وروزدى بدين، سقط عن دابته ميتًا، فشدوا في رجله حبلًا وجروه إقبالًا وإدبارًا، وساعدهم على قتله رجل من العظماء يقال له زادان فروخ بن شهر داران، ورجل يقال له ماهياى، كان مؤدب الأساورة، وكثير من العظماء وأهل البيوتات، وعاونهم على قتل رجال فتكوا بأردشير بن شيرويه، وقتلوا رجالًا من العظماء. وإنهم ملكوا بوران بنت كسرى. وكان جميع ما ملك شهر براز أربعين يومًا. ذكر ملك بوران بنت كسرى أبرويز ثم ملكت بوران بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنوشروان، فذكر أنها قالت يوم ملكت: البر أنوى وبالعدل آمر؛ وصيرت مرتبة شهر براز لفسفروخ، وقلدته وزارتها، وأحسنت السيرة في رعيتها، وبسطت العدل فيهم، وأمرت بضرب الورق ورم القناطر والجسور، ووضعت بقايا بقيت من الخراج على الناس عنهم، وكتبت إلى الناس عامة كتبًا أعلمتهم ما هي عليه من الإحسان إليهم، وذكرت حال من هلك من أهل بيت المملكة؛ وأنها ترجو أن يريهم الله من الرفاهة والاستقامة بمكانها ما يعرفون به أنه ليس ببطش الرجال تدوخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكايدهم ينال الظفر وتطفأ النوائر؛ ولكن كل ذلك يكون بالله عز وجل، وأمرتهم بالطاعة وحضتهم على المناصحة، وكانت كتبها جماعة لكل ما يحتاج إليه؛ وإنها ردت خشبة الصليب على ملك الروم مع جاثليق يقال له إيشوعهب. وكان ملكها سنة وأربعة أشهر. ذكر ملك جشنسده ثم ملك بعدها رجل يقال له: جشنسده، من بني أبرويز الأبعدين. وكان ملكه أقل من شهر. ذكر ملك آزرميدخت بنت كسرى أبرويز ثم ملكت آزرميدخت بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنوشروان؛ ويقال له إنها كانت من أجمل نسائهم؛ وإنها قالت حين ملكت: منها جنا منهاج أبينا كسرى المنصور، فإن خالفنا أحد هرقنا دمه. ويقال إنه كان عظيم فارس يومئذ فرخهرمز إصبهبذ خراسان؛ فأرسل إليها يسألها أن تزوجه نفسها، فأرسلت إن التزويج للملكة غير جائز؛ وقد علمت أن دهرك فيما ذهبت إليه قضاء حاجتك وشهوتك مني، فصر إلى ليلة كذا وكذا. ففعل فرخهرمز وركب إليها في تلك الليلة، وتقدمت آزرميدخت إلى صاحب حرسها أن يترصده في الليلة التي تواعدا الالتقاء فيها حتى يقتله، فنفذ صاحب حرسها لأمرها، وأمرت به فجر برجله، وطرح في رحبة دار المملكة، فلما أصبحوا وجدوا فرخهرمز قتيلًا، فأمرت بجثته فغيبت، وعلم أن لم يقتل إلا لعظيمة. وكان رستم بن فرخهرمز صاحب يزدجرد الذي وجه بعد القتال العرب خليفة أبيه بخراسان، فلما بلغه الخبر أقبل في جند عظيم حتى نزل المدائن، وسمل عيني آزرميدخت، وقتلها، وقال بعضهم: بل سمت. وكان ملكها ستة أشهر. كسرى بن مهراجشنس ثم أتى رجل من عقب أردشير بن بابك كان ينزل الأهواز يقال له: كسرى بن مهر جشنس، فملكه العظماء، ولبس التاج، وجلس على سرير الملك، وقتل بعد أن ملك بأيام. ذكر ملك خرزا خسروا وقيل إن الذي ملك بعد آزرميدخت خرزاذ خسروا منن ولد أبرويز. وقيل: إنه وجد بحصن يعرف بالحجارة بالقرب من نصيبين، فلما صار إلى المدائن مكث أيمًا يسيرة، ثم استعصوا عليه وخالفوه. ذكر ملك فيروز بن مهراجشنس وقال الذين قالوا: ملك بعد آزرميدخت كسرى بن مهراجشنس: لما قتل كسرى بن مهراجشنس، طلب عظماء فارس من يملكونه من أهل بيت المملكة، فطلبوا من له عنصر من أهل البيت ولو من قبل النساء، فأتوا برجل كان يسكن ميسان، يقال له فيروز بن مهرانجشنس، ويسمى أيضًا جشنسده قد ولدته صهاربخت بنت يزداندار بن كسرى أنوشروان، فملكوه كرهًا. وكان رجلًا ضخم الرأس، فلما توج قال: ما أضيق هذا التاج! فتطير العظماء من افتتاحه كلامه بالضيق؛ وقتلوه بعد أن ملك أيامًا. ومن الناس من يقول: قتل ساعة تكلم بما تكلم به. ذكر ملك فرخزاذ خسروا وقال قائل هذا القول: ثم شخص رجل من العظماء يقال له زاذى ولمرتبته رئيس الخول إلى موضع من ناحية المغرب قريب من نصيبين، يقال له: حصن الحجارة، فأقبل بابن كسرى لكسرى كان نجا إلى ذلك القصر حين قتل شيرويه بنى كسرى يقال له: فرخزاذ خسروا إلى مدينة طيسبون، فانقاد له الناس زمنًا يسيرًا، ثم استعصوا عليه وخالفوه، فقال بعضهم: قتلوه. وكان ملكه ستة أشهر. ذكر ملك يزدجرد بن شهريار وقال بعضهم كان أهل إصطخر ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن كسرى بإصطخر، قد هرب به إليها حيث قتل شيرويه إخوته، فلما بلغ عظماء أهل إصطخر أن من بالمدائن خالفوا فرخزاذ خسروا، أتوا بيزدجرد بيت نار يدعى بينت نار أردشير، فتوجوه هنالك، وملكوه - وكان حدثًا - ثم أقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا فرخزاذ خسروا بحيل احتالوها لقتله بعد أن ملك سنة. وساغ الملك ليزدجرد؛ غير أن ملكه كان عند ملك آبائه كالخيال والحلم، وكانت العظماء والوزراء يدبرون ملكه لحداثة سنه، وكان أشدهم نباهة في وزرائه ووأذكاهم رئيس الخول. وضعف أمر مملكة فارس، واجترأ عليه أعداؤه من كل وجه؛ وتطرفوا بلاده وأخربوا منها، وغزت العرب بلاده بعد أن مضت سنتان من ملكه. وقيل بعد أن مضى أربع سنين من ملكه. وكان عمره كله إلى أن قتل ثمانيًا وعشرين سنة. وقد بقى من أخبار يزدجرد هذا وولده أخبار سأذكرها إن شاء الله بعد في مواضعها من فتوح المسلمين وما فتحوا من بلاد العجم، وما آل إليه أمره وأمر ولده. ذكر أقوال علماء المسلمين وغيرهم فيما كان بين هبوط آدم إلى الهجرة من السنين فجميع ما مضى من السنين من لدن أهبط آدم إلى الأرض، إلى وقت هجرة النبي ﷺ - على ما يقوله أهل الكتاب من اليهود، وتزعم أنه في التوارة الصورة مثبت من أعمار الأنبياء والملوك - أربعة آلاف سنة وستمائة سنة واثنتان وألاربعون سنة وأشهر. وأما على ما تقوله النصارى مما تزعم أنه في توراة اليونانية؛ فإن ذلك خمسة آلاف سنة وتسعمائة سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر. وأما جميع ذلك على قول المجوس من الفرس؛ فإنه أربعة آلاف سنة ومائة سنة واثنتان وثمانون سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يومًا؛ على أنه داخل في ذلك مدة ما بين وقت الهجرة ومقتل يزدجرد، وذلك ثلاثون سنة وشهران وخمسة عشر يومًا؛ وعلى أن حسابهم ذلك وابتداء تأريخهم من عهد جيومرت، وجيومرت هو آدم أبو البشر الذي إليه نسبة كل منتسب من الإنس، على ما قد بينت في كتابي هذا. وأما علماء الإسلام فقد ذكرت قبل ما قال فيه بعضهم، وأذكر بعض من لم يمض ذكره منهم الآن؛ فإنهم قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون؛ والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون؛ والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون؛ والقرن مائة سنة. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق. حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمى، عن غير واحد من أهل العلم، قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة. وروي عن عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: الفترة بين محمد وعيسى عليهما السلام ستمائة سنة. وروي عن فضيل بن عبد الوهاب، عن جعفر بن سليمان، عن عوف، قال: كان بين عيسى وموسى ستمائة سنة. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي صدقة، عن محمد بن سيرين، قال: نبئت أن كعبًا قال: إن قوله: " يا أخت هارون " ليس بهارون أخي موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أم المؤمنين؛ إن كان النبي صاى الله عليه وسلم قال فهو أعلم وأخبر؛ وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة. قال: فسكتت. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان بين موسى بن عمران وعيسى بن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل، سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي خمسمائة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالثٍ "، والذي عزز به شمعون، وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولًا أربعمائة وأربعًا وثلاثين سنة، وإن عيسى حين رفع كان ابن اثنتين وثلاثين سنة وستة أشهر، وكانت نبوته ثلاثين شهرًا، وإن الله رفعه بجسده، وإنه حي حتى الآن. حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبًا يقول: قد خلا من الدنيا خمسة آلاف سنة وستمائة سنة. حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا يحيى بن صالح، عن الحسن بن أيوب الحضرمي، قال: حدثنا عبد الله بن بسر، قال: قال لي رسول الله ﷺ: " لتدركن قرنًا "، فعاش مائة سنة. فهذا ما روي عن علماء الإسلام في ذلك، وفي ذلك من قولهم تفاوت شديد، وذلك أن الواقدي، حكى عن جماعة من أهل العلم أنهم قالوا ما ذكرت عنه أنه رواه عنهم. وعلى ذلك من قوله، ينبغي أن يكون جميع سني الدنيا إلى مولد نبينا ﷺ أربعة آلاف سنة وستمائة سنة، وعلى قول ابن عباس الذي رواه هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عنه؛ ينبغي أن يكون إلى مولد النبي ﷺ خمسة آلاف سنة وخمسمائة سنة. وأما وهب بن منبه فقد ذكر جملة من قوله من غير تفصيل، وأن ذلك إلى زمنه خمسة آلاف سنة وستمائة سنة، وجميع مدة الدنيا عند وهب ستة آلاف سنة. وقد كان مضى عنده من ذلك إلى زمانه خمسة آلاف سنة وستمائة سنة. وكانت وفاة وهب بن منبه سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة، فكأن الباقي من الدنيا على قول وهب من وقتتنا الذي نحن فيه، مائتا سنة وخمس عشرة سنة. وهذا القول الذي قاله وهب بن منبه موافق لما رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وقال بعضهم: من وقت هبوط آدم عليه السلام إلى أن بعث نبينا ﷺ ستة آلاف سنة ومائة وثلاث عشرة سنة؛ وذلك أن عنده من مهبط آدم إلى الأرض إلى الطوفان، ألفي سنة ومائتي سنة وستًا وخمسين سنة، ومن الطوفان إلى مولد إبراهيم خليل الرحمن ألف سنة وتسعًا وسبعين سنة، ومن مولد إبراهيم إلى خروج موسى ببني إسرائيل من مصر خمسمائة سنة وخمسًا وستين سنة، ومن خروج موسى ببني إسرائيل من مصر إلى بناء بيت المقدس - وذلك لأربع سنين من ملك سليمان بن داود - ستمائة سنة وستًا وثلاثين سنة، ومن بناء بيت المقدس إلى ملك الإسكندر سبعمائة سنة وسبع عشرة سنة، ومن ملك الإسكندر إلى مولد عيسى بن مريم عليه السلام ثلثمائة سنة وتسعًا وستين سنة، ومن مولد عيسى إلى مبعث محمد ﷺ خمسمائة سنة وإحدى وخمسين سنة، ومن مبعثه إلى هجرته من مكة إلى المدينة ثلاث عشرة سنة. وقد حدث بعضهم عن هشام بن محمد الكلبي؛ عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أنه قال: كان من آدم إلى نوح ألفا سنة ومائتا سنة، ومن نوح إلى إبراهيم ألف سنة ومائة سنة وثلاث وأربعون سنة، ومن إبراهيم إلى موسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة، ومن موسى إلى داود مائة سنة وتسع وسبعون سنة، ومن داود إلى عيسى ألف وثلاث وخمسون سنة، ومن عيسى إلى محمد ستمائة سنة. وحدث الهيثم بن عدي عن بعض أهل الكتب أنه قال: من آدم إلى الطوفان ألفا سنة ومائتا سنة وخمسون سنة، ومن الطوفان إلى وفاة إبراهيم ألف سنة وعشرون سنة، ومن وفاة إبراهيم إلى دخول بني إسرائيل مصر خمس وسبعون سنة، ومن دخول يعقوب مصر إلى خروج موسى منها أربعمائة سنة وثلاثون سنة، ومن خروج موسى من مصر إلى بناء بيت المقدس خمسمائة سنة وخمسون سنة، ومن بناء بيت المقدس إلى ملك بختنصر وخراب بيت المقدس أربعمائة سنة وست وأربعون سنة، ومن ملك بختنصر إلى ملك الإسكندر أربعمائة سنة وست وثلاثون سنة، ومن ملك الإسكندر إلى سنة ست ومائتين من الهجرة ألف سنة ومائتان وخمس وأربعون سنة. ذكر نسب رسول الله ﷺ وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده اسم رسول الله ﷺ محمد، وهو ابن عبد الله بن عبد المطلب، وكان عبد الله أبو رسول الله أصغر ولد أبيه، وكان عبد الله والزبير وعبد مناف - وهو أبو طالب - بنو عبد المطلب لأم واحدة، وأمهم جميعًا فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق. وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه، أنه قال: عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله، وأبو طالب - واسمه عبد مناف - والزبير، وعبد الكعبة، وعاتكة، وبرة، وأميمة، ولد عبد المطلب إخوة، أم جميعهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم بن يقظة. وكان عبد المطلب - فيما حدثني يونس بن عبد الأعلى - قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه أخبره أن امرأة نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فقدمت المدينة لستفتي عن نذرها، فجاءت عبد الله بن عمر، فقال لها عبد الله بن عمر: لا أعلم الله أمر في النذر إلا الوفاء به، فقالت المرأة: أفأنحر ابني؟ قال ابن عمر: قد نهاكم الله أن تقتلوا أنفسكم؛ فلم يزدها عبد الله بن عمر على ذلك، فجاءت عبد الله بن عباس فاستفتته، فقال: أمر الله بوفاء النذر والنذر دين، ونهاكم أن تقتلوا أنفسكم - وقد كان عبد المطلب بن هاشم نذر إن توافى له عشرة رهط، أن ينحر أحدهم، فلما توافى له عشرة، أقرع بينهم. أيهم ينحر؟ فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب، وكان أحب الناس إلى عبد المطلب، فقال عبد المطلب: اللهم هو أو مائة من الإبل، ثم أقرع بينه وبين الإبل، فطارت القرعة على المائة من ألإبل - فقال ابن عباس للمرأة: فأرى أن تنحرى مائة من الإبل مكان ابنك. فبلغ الحديث مروان، وهو أمير المدينة، فقال: ما أرى ابن عمر ولا ابن عباس أصابا الفتيا؛ إنه لا نذر في معصية الله، استغفري الله وتوبى إلى الله، وتصدقي واعملي ما استطعت من الخير؛ فأما أن تنحري ابنك فقد نهاك اله عن ذلك. فسر الناس بذلك، وأعجبهم قول مروان، ورأوا أنه قد أصاب الفتيا، فلم يزالوا يفتون بألا نذر في معصية الله. وأما ابن إسحاق، فإنه قص من أمر نذر عبد المطلب هذا قصة؛ هي أشيع مما في هذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب؛ وذلك ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: كان عبد المطلب بن هاشم - فيما يذكرون والله أعلم - قد نذر حين لقى من قريش في حفر زمزم ما لقى: لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا منه حتى يمنعوه؛ لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، فلما توافى له بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره الذي نذر، ودعاهم إلى الوفاء بالله بذلك، فأطاعوه، وقالوا: كيف نصنع؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قدحًا، ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوني به، ففعلوا، ثم أتوه، فدخل على هبل في جوف الكعبة، وكانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل سبعة أقدح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله، وقدح فيه: نعم للأمر إذا أرادوه يضرب به؛ فإن خرج قدح: نعم عملوا به، وقدح فيه لا، فإذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه منكم، وقدح فيه ملصق، وقدح فيه من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا، أو ينكحوا منكحًا، أو يدفنوا ميتًا، أو شكو في نسب أحد منهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا ابن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه؛ ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب فإن خرج عليه منكم كان وسيطًا وإن خرج عليه من غيركم كان حليفًا، وإن خرج عليه ملصق كان على منزلته منهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج في شيء سوى هذا مما يعملون به نعم عملوا به، وإن خرج لا أخروه عامًا ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح - فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بنى هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره الذي نذر، فأعطى كل رجل كمنهم قدحه الذي فيه اسمه - وكان عبد الله بن عبد المطلب أصغر بنى أبيه، وكان فيما يزعمون أحب ولد عبد المطلب إليه، وكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأ فقد أشوى، وهو أبو رسول الله ﷺ - فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها، قام عبد المطلب عند هبل في جوف الكعبة يدعو الله، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم اقبل إلى إساف ونائلة - وهما وثنا قريش اللذان تنحر عندهما ذبائحهما - ليذبحه، فقامت له قريش من أنديتها، فقالوا ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر فيه؛ لئن فعلت هذا، لا يزال الرجل يأتي بإبنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا! فقال له المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - وكان عبد الله ابن أخت القوم - والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر فيه؛ فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق به إلى الحجاز، فإن به عرافة لها تابع، فسلها، ثم انت على رأس أمرك؛ إن أمرتك أن تذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته. فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها - فيما يزعمون - بخيبر -، فركبوا إليها حتى جاءوها، فسألوها، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه، وما أراد به، ونذره فيه. فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله. فرجعوا عنها، فلما خرجوا من عندها، قام عبد المطلب يدعو الله. ثم غدوا عليها، فقالت: نعم، قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل - وكانت كذلك - قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم، وقربوا عشرًا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا في اقبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها، فقد رضى ربكم، ونجا صاحبكم. فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما اجمعوا لذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشرًا من الإبل - وعبد المطلب في جوف الكعبة عند هبل يدعو الله - فخرج القدح على عبد اللله، فزادوا عشرًا، فكانت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب في مكانه ذلك يدعو الله، ثم ضربوا فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فكانت ثلاثين، ثم لم يزالوا يضربون بالقداح ويخرج القدح على عبد الله، فكلما خرج عليه زادوا من الإبل عشرًا؛ حتى ضربوا عشر مرات، وبلغت الإبل مائة، وعبد المطلب قائم يدعو، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب. فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليه ثلاث مرات. فضربوا على الإبل وعلى عبد الله، وقام عبد المطلب يدعو فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية وعبد المطلب قائم يدعو، ثم عادوا الثالثة فضربوا، فخرج القدح على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع. ثم انصرف عبد المطلب آخذًا بيد ابنه عبد الله، فمر - فيما يزعمون - على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر؛ يقال لها أم قتال بنت نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد، وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إليه إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي، قالت: لك عندي مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع على الآن، قال: إن معي أبي ولا أستطيع خلافة ولا فراقه. فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة - ووهب يومئذ سيد بني زهرة سنًا وشرفًا - فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا، وهي لبرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، ويرة لأم حبيب بنت أسد ابن عبد العزى بن قصي، وأم حبيب بنت أسد لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي. فزعموا أنه دخل عليها حين ملكها مكانه فوقع عليها، فحملت بمحمد ﷺ. ثم خرج من عندها، حتى أتى المرأة التي عرضت عليهما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس؟ فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة. وقد كنت تسمع من أخيها ورقة ابن نوفل، وكان قد تنصر واتبع الكتب، حتى أدرك، فكان فيما طلب من ذلك أنه كائن لهذه الأمة نبي من بني إسماعيل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ عن أبيه إسحاق بن يسار؛ أنه حدث أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب بن هبد مناف بن زهرة، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين، فخرج من عندها، فتوضأ وغسل عنه ما كان به من ذلك، وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد ﷺ، ثم مر بإمرأته تلك، فقال: هل لك؟ فقالت: لا، مررنت بي وبين عينيك غرة، فدعوتني فأبيت، ودخلت على آمنة فذهبت بها. فزعموا أن امراته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن يكون بي، فأبى علي، ودخل على آمنة بنت وهب فأصابها؛ فحملت برسول الله ﷺ. حدثني علي بن حرب الموصلي، قال: حدثنا محمد بن عمارة القرشي، قال: حدثنا الزنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لما خرج عبد المطلب بعبد الله ليزوجه، مر به على كاهنة من خثعم، يقال: لها فاطمة بنت مر، متهودة من أهل تبالة، قد قرأت الكتب، فرأت في وجهه نورًا، فقالت له: يافتى، هل لك لك أن تقع على الآن وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال: أما الحرام فالممات دونه ** والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه ثم قال: أنا مع أبي ولا أقدر أن أفارقه، فمضى به، فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فأقام عنجها ثلاثًا ثم انصرف. فمر بالخثعمية فدعته نفسه إلى ما دعته إليه، فقال لها: هل لك فيما كنت أردت؟ فقالت: يافتى، إنى والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكنى رأيت في وزجهك نورًا فأردت أن يكون في، وأبى وزالله إلا أن يجعله حيث أراد، فما صنعت بعدى؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب، فأقمت عندها ثلاثًا؛ فأنشأت فاطمة بنت مر تقول: إني رأيت مخيلةً لمعت ** فتلألأت بحناتم اقطر فلمأتها نورًا يضيء له ** ما حوله كإضاءة البدر فرجوتها فخرًا أبوء به ** ما كل قادح زنده يوري لله ما زهريةٌ سلبت ** ثوبيك ما استلبت وما تدري!؟ وقالت أيضًا: بني هاشمٍ قد غادرت من أخيكم ** أمينة إذ للباه تعتركان كما غادر المصباح عند خموده ** فتائل قد ميثت له بدهان ومل كل ما يحوي الفتى من تلاده ** لعزمٍ ولا ما فاته لتوان فأجمل إذا طالبت أمرًا فإنه ** سيكفيكه جدان يعتلجان سيكفيكه إما يدٌ مقفعلةٌ ** وإما يدٌ مبسوطةٌ ببنان ولما حوت منه أمينة ما حوت ** حوت منه فخرًا ما لذلك ثان حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثنا معمر وغيره، عن الزهري، أن عبد الله بن عبد المطلب كان أجمل رجال قريش، فذكر لآمنة بنت وهب جماله وهيئته، وقيل لها: هل لك أن تزوجيه فتزوجته آمنة بنت وهب، فدخل بها، وعلقت برسول الله ﷺ، وبعثه أبوه إلى المدينة في ميرة يحمل لهم تمرًا، فمات بالمدينة، فبعث عبد المطلب ابنه الحارث في طلبه حين أبطأ، فوجده قد مات. قال الواقدي: هذا غلط، والمجتمع عليه عندنا في نكاح عبد الله بن عبد المطلب ما حدثنا به عبد الله بن جعفر الزهري، عن أمر بكر بنت المسور، أن عبد المطلب جاء بابنه عبد الله، فخطب على نفسه وعلى ابنه، فتزوجا في مجلس واحد، فتزوج عبد المطلب هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وتزوج عبد الله ابن عبد المطلب آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. قال الحارث: قال ابن سعد: قال الواقدي: والثبت عندنا، ليس بين أصحابنا فيه اختلاف، أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشأم في عير لقريش، فنزل بالمدينة وهو مريض، فأقام بها حتى توفي، ودفن في دار النابغة - وقيل التابعة - في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك، ليس بين أصحابنا في هذا اختلاف. ابن عبد المطلب وعبد المطلب اسمه شيبة، سمي بذلك؛ لأنه فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه: كان في رأسه شيبة. وقيل له عبد المطلب: وذلك أن أباه هاشمًا كان شخص في تجارة له إلى الشأم، فسلك طريق المدينة إليها، فلما قدم المدينة نزل - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وفيما حدثت عن هشام ابن محمد عن أبيه. وفيما حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، ودخل حديث بعضهم في بعض، وبعضهم يزيد على بعض - على عمرو بن زيد بن لبيد الخزرجي، فرأى ابنته سلمى بنت عمرو - وأما ابن حميد فقال في حديثه عن سلمة، عن ابن إسحاق: سلمى بنت زيد بن عمرو - ابن لبيد بن حرام بن خداش بن جندب بن عدي بن النجار فأعجبته، فخطبها إلى أبيها عمرو، فأنكحه إياها، وشرط عليه ألا تلد ولدًا إلا في أهلها، ثم مضى هاشم لوجهته قبل أن يبني بها، ثم انصرف راجعًا من الشأم، فبنى بها في أهلها بيثرب، فحملت منه. ثم ارتحل إلى مكة وحملها معه، فلما أثقلت ردها إلى أهلها، ومضى إلى الشأم فمات بها بغزة، فولدت له سلمى عبد المطلب، فمكث بيثرب سبع سنين أو ثماني سنين. ثم إن رجلًا من بني الحارث بن عبد مناة مر بيثرب، فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الحارثي: من أنت؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف. فلما أتى الحارثي مكة، قال للمطلب وهو جالس في الحجر: يا أبا الحارث، تعلم أني وجدت غلمانًا ينتضلون بيثرب، وفيهم غلام إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء. فقال المطلب: والله لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به، فقال له الحارثي: هذه ناقتي بالفناء فاركبها، فجلس المطلب عليها، فورد يثرب عشاء، حتى أتى بني عدي بن النجار، فإذا غلمان يضربون كرة بين ظهري المجلس، فعرف ابن أخيه فقال للقوم: أهذا ابن هاشم؟ قالوا: نعم، هذا ابن أخيك، فإن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه فإنها إن علمت لم تدعه، وحلنا بينك وبينه. فدعاه فقال: يابن أخي، أنا عمك، وقد أردت الذهاب بك إلى قومك - وأناخ راحلته - فما كذب أن جلس على عجز الناقة، فانطلق به، ولم تعلم به أمه حتى كان الليل، فقامت تدعو بحربها على ابنها، فأخبرت أن عمه ذهب به، وقدم به المطلب ضحوة، والناس في مجالسهم، فجعلوا يقولون: من هذا وراءك؟ فيقول: عبد لي، حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فقالت: من هذا؟ قال: عبد لي، ثم خرج المطلب حتى أتى الحزورة، فاشترى حلة فألبسها شيبة، ثم خرج به حين كان العشي إلى مجلس بني عبد مناف، فجعل بعد ذلك يطوف في سكك مكة في تلك الحلة، فيقال: هذا عبد المطلب، لقوله: " هذا عبدي " حين سأله قومه، فقال المطلب: عرفت شيبة والنجار قد جعلت ** أبناؤها حوله بالنبل تنتضل وقد حدثني هذا الحديث علي بن حرب الموصلي، قال: حدثنيأبو معن عيسى - من ولد كعب بن مالك - عن محمد بن أبي بكر الأنصاري، عن مشايخ ألأنصار، قالوا: تزوج هاشم بن عبد مناف امرأةً من بني عدي بن النجار، ذات شرف، تشرط على من خطبها المقام بدار قومها، فتزوجت بهاشم، فولدت له شيبة الحمد، فربي في أخواله مكرمًا، فبينا هو يناضل فتيان الأنصار إذ أصاب خصله، فقال: أنا ابن هاشم. وسمعه رجل مجتاز، فلما قدم مكة، قال لعمه المطلب بن عبد مناف: قد مررت بدار بنى قيلة، فرأيت فتىً من صفته ومن صفته.. يناضل فتيانهم، فاعتزى إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة. فرحل المطلب حتى ورد المدينة، فأراده على الرحلة، فقال: ذاك إلى الوالدة، فلم يزل بها حتى أذنت له، وأقبل به قد أردفه، فإذا لقيه اللاقي وقال: من هذا يا يا مطلب؟ قال: عبد لي، فسمي عبد المطلب. فلما قدم مكة وقفه على ملك أبيه، وسلمه إليه، فعرض له نوفل بن عبد مناف في ركح له، فاغتصبه إياه، فمشى عبد المطلب إلى رجالات قومه، فسألهم النصرة على عمه، فقالوا: لسنا بداخلين بينك وبين عمك، فلما رأى ذلك كتب إلى أخواله يصف لهم حال نوفل، وكتب في كتابه: أبلغ بنى النجار إن جئتهم ** أني منهم وابنهم والخميس رأيتهم قومًا إذا جئتهم ** هووا لقائي وأحبوا حسيس فإن عمي نوفلًا قد أبى ** إلا التي يغضي عليها الخسيس قال: فخرج أبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكبًا، حتى أتى الأبطح، وبلغ عبد المطلب، فخرج يتلقاه، فقال: المنزل يا خال! فقال: أما حتى ألقى نوفلًا فلا. قال: تركته جالسًا في الحجر في مشايخ قريش، فأقبل حتى وقف على رأسه، ثم استل سيفه، ثم قال: ورب هذه البنية؛ لتردن على ابن أختنا ركحه أو لأملأن منك السيف، قال: فإنى ورب هذه البنية أرد ركحه. فأشهد عليه من حضر، ثم قال: المنزل يا بن أختى، فأقام عنده ثلاثًا واعتمر، وأنشأ عبد المطلب يقول: تأبى مازنٌ وبنو عديٍ ** ودينار بن تيم اللات ضيمي وسادة مالك حتى تناهى ** ونكب بعد نوفل عن حريمي بهم رد الإله علي ركحي ** وكانوا في التنسب دون قومي وقال في ذلك سمرة بن عمير، أبو عمرو الكناني: لعمري لأخوالٌ لشيبة قصرةً ** من أعمامه دنيا أبر وأوصل أجابوا على بعدٍ دعاء ابن أختهم ** ولم يثنهم إذ جاوز الحق نوفل جزى الله خيرًا عصبةً خزرجيةً ** تواصوا على برٍ، وذو البر أفضل قال: فلما رأى ذلك نوفل، حالف بنى عبد شمس كلها على بني هاشم. قال محمد بن أبي بكر: فحدثت بهذا الحديث موسى بن عيسى، فقال: يا بن أبي بكر، هذا شيء ترويه الأنصار تقربًا إلينا؛ إذ صير الله الدولة فينا! عبد المطلب كان أعز في قومه من أن يحتاج إلى أن تركب بنو النجار من المدينة إليه. قالت: أصلح الله الأمير! قد احتاج إلى نصرهم من كان خيرًا من عبد المطلب. قال: وكان متكئًا فجلس مغضبًا، وقال: من خير من عبد المطلب! قلت: محمد رسول الله ﷺ، قال: صدقت، وعاد إلى مكانه، وقال لبنيه: اكتبوا هذا الحديث من ابن أبي بكر. وقد حدثت هذا الحديث في أمر عبد المطلب وعمه نوفل بن عبد مناف، عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: حدثنا زياد بن علاقة التغلبي - وكان قد أدرك الجاهليه - قال: كان سبب بدء الحلف الذي كان بين بنى هاشم وخزاعة الذي افتتح رسول الله ﷺ بسببه مكة، وقال: لتنصب هذه السحابة بنصر بني كعب؛ أن نوفل بن عبد مناف - وكان آخر من بقي من بني عبد مناف - ظلم عبد االمطلب بن هاشم بن عبد مناف على أركاح له - وهي الساحات - وكانت أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو النجارية من الخزرج، قال: فتنصف عبد المطلب عمه، فلم ينصفه، فكتب إلى أخواله: يا طول ليلى لأحزاني وأشغالي ** هل من رسولٍ إلى النجار أخوالي! ينبي عديًا ودينارًا ومازنها ** ومالكًا عصمة الجيران عن حالي قد كنت فيكم ولا أخشى ظلامة ذي ** ظلمٍ عزيزًا منيعًا ناعم البال حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني ** عن ذاك مطلبٌ عمي بترحال وكنت ما كان حياُ ناعمًا جذلًا ** أمشي العرضنة سحابًا لأذيالي فغاب مطلبٌ في قعر مظلمةٍ ** وقام نوفل كي يعدو على مالي أأن أرى رجلًا غابت عمومته ** وغاب أخواله عنه بلا وال أنحى عليه ولم يحفظ له رحمًا ** ما أمنع المرء بين العم والخال! فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم ** لا تخذلوه وما أنتم بخذال ما مثلكم في بني قحطان قاطبةً ** حيٌ لجارٍ وإنعام وإفضال أنتم ليانٌ لمن لانت عريكته ** سلمٌ لكم وسمام الأبلخ الغالي قال: فقدم عليه منهم ثمانون راكبًا، فأناخوا بفناء الكعبة، فلما رآهم نوفل بن عبد مناف، قال لهم: أنعموا صباحًا! فقالوا له: لا نعم صباحك أيها الرجل! أنصف ابن أختنا من ظلامته. قال: أفعل بالحب لكم والكرامة؛ فرد عليه الأركاح وأنصفه. قال: فانصرفوا عنه إلى بلادهم. قال: فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا عبد المطلب بسر بن عمروٍ وورقاء بن فلان ورجلًا من رجالات خزاعة، فدخلوا الكعبة وكتبوا كتابًا. وكان إلى عبد المطلب بعد مهلك عمه المطلب بن عبد مناف ما كان إلى من قبله من بني عبد مناف من أمر السقاية والرفادة، وشرف في قومه، وعظم فيهم خطره، فلم يكن يعدل به منهم أحد، وهوالذي كشف عن زمزم، بئر إسماعيل بن إبراهيم، واستخرج ما كان فيها مدفونًا؛ وذلك غزالان من ذهب، كانت جرهم دفنتهما - فيما ذكر - حين أخرجت من مكة، وأسيافٌ قلعية، وأدراع، فجعل الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليته - فيما قيل - الكعبة. وكانت كنية عبد المطلب أبا الحارث، كني بذلك لأن الأكبر من ولده الذكور كان اسمه الحارث، وهو شيبة. ابن هاشم واسم هاشم عمرو؛ وإنما قيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكه وأطعمه، وله يقول مطرود بن كعب الخزاعي - وقال ابن الكلني: إنما قاله ابن الزبعري: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف ذكر أن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزورًا، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك الخبز. وذكر أن هاشمًا هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف. وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: كان هاشم، وعبد شمس - وهو أكبر ولد عبد مناف، والمطلب - وكان أصغرهم - أمهم عاتكة بنت مرة السلمية؛ ونوفل - وأمه واقدة - بني عبد مناف، فسادوا بعد أبيهم جميعًا، وكان يقال لهم المجبرون، قال: ولهم يقال: يأيها الرجل المحول رحله ** ألا نزلت بآل عبد مناف! فكانوا أول من أخذ لقريش العصم، فانتشروا من الحرم، أخذ لهم هاشم حبلًا من ملوك الشأم الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلًا من ألأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلًا من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجبر الله بهم قريشًا، فسموا المجبرين. وقيل: إن عبد شمس وهاشمًا توأمان، وأن أحدهما ولد قبل صاحبه، وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت عنها فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك، فقيل: تكون بينهما دماء. وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف السقاية والرفادة. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام ابن محمد، قال: حدثني معروف بن الخربوذ المكي، قال: حدثني رجل من آل عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف عن أبيه، قال: وقال وهب بن عبد قصي في ذلك - يعنى في إطعام هاشم قومه الثريد: تحمل هاشمٌ ما ضاق عنه ** وأعيا أن يقوم به ابن بيض أتاهم بالغرائز متأقاتٍ ** من أرض الشأم بالبر النفيض فأوسع أهل مكة من هشيمٍ ** وشاب الخبز باللحم الغريض فظل القوم بين مكللاتٍ ** من الشيزى وحائرها يفيض قال: فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف - وكان ذا مال - فتكلف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش فغضب، ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، ولم تدعه قريش وأحفظوه، قال: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضي بذلك أمية، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفر هاشمًا عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية. حدثني الحارث قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام ابن محمد، قال: أخبرني رجل من بني كنانة، يقال له ابن أبي صالح، ورجل من أهل الرقة مولى بني أسد، وكان عالمًا، قالا: تنافر عبد المطلب ابن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي، فأبى أن ينفر بينهما، فجعل بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي ابن كعب، فقال لحرب: يا أبا عمرو، أتنافر رجلًا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدًا، وأجزل منك صفدًا، وأطول منك مذودًا!. فنفره عليه. فقال حرب: إن من انتكاث الزمان أن جعلناك حكمًا! فكان أول من مات من ولد عبد مناف ابنه هاشم، مات بغزة من أرض الشأم، ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن، وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب. ابن عبد مناف واسمه المغيرة - وكان يقال له القمر من جماله وحسنه، وكان قصي يقول - فيما زعموا -: ولد لي أربعة، فسميت اثنين بصنمي، وواحدًا بداري، وواحدًا بنفسي؛ وهم عبد مناف وعبد العزى ابنا قصي - وعبد العزى والد أسد - وعبد الدار بن قصي، وعبد قصي بن قصي - درج ولده - وبرة بنت قصي؛ أمهم جميعًا حبَّى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن خزاعة. وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: وكان يقال لعبد مناف القمر، واسمه المغيرة، وكانت أمه حبَّى دفعته إلى مناف - وكان أعظم أصنام مكة - تدينًا بذلك، فغلب عليه عبد مناف، وهو كما قيل له: كانت قريشٌ بيضةً فتفلقت ** فالمح خالصةٌ لعبد مناف ابن قصي وقصي اسمه زيد؛ وإنما قيل له قصي، لأن أباه كلاب بن مرة كان تزوج أم قصي فاطمة بنت سعد بن سيل - واسم سيل خير - بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر، بن عمرو بن جعثمة بن يشكر، من أزدشنوءة حلفاء في بني الديل، فولدت لكلاب زهرة وزيدًا، فهلك كلاب وزيد صغير، وقد شب زهرة وكبر، فقدم ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كبير ابن عذرة بن سعد بن زيد، أحد قضاعة، فتزوج - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وحدثت عن هشام بن محمد عن أبيه - فاطمة أم زهرة وقصي - وزهرة رجل قد بلغ، وقصي فطيم أو قريب من ذلك - فاحتملها إلى بلاده من أرض بني عذرة، من أشراف الشأم، فاحتملت معها قصيًا لصغره، وتخلف زهرة في قومه، فولدت فاطمة بنت سعد بن سيل لربيعة بن حرام رزاح بن ربيعة، فكان أخاه لأمه، وكان لربيعة بن حرام ثلاثة نفر من امرأة أخرى؛ وهم حنّ بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وجلهمة بن ربيعة. وشب زيد في حجر ربيعة، فسمي زيد قصيًا لبعد داره عن دار قومه، ولم يبرح زهرة مكة، فبينا قصي بن كلاب بأرض قضاعة لا ينتمي - فيما يزعمون - إلا إلى ربيعة بن حرام، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء - وقد بلغ قصي، وكان رجلًا شابًا - فأنبه القضاعي بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك ونسبك فإنك لست منا! فرجع قصي إلى أمه، وقد وجد في نفسه مما قال القضاعي، فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت والله يا بني أكرم منه نفسًا ووالدًا، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي، وقومك بمكة عند البيت الحرام، وفيما حوله. فأجمع قصيٌّ الخروج إلى قومه واللحوق بهم، وكره الغربة بأرض قضاعة، فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب، فإني أخشى عليك أن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قدم مكة، فلما فرغ من الحج أقام بها، وكان رجلًا جليدًا نسيبًا، فخطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبىَّ بنت حليل، فعرف حليل النسب ورغب فيه، فزوجه - وحليل يومئذ فيما يزعمون - يلي الكعبة وأمر مكة. فأما ابن إسحاق، فإنه قال في خبره: فأقام قصي معه - يعين مع حليل - وولدت له ولده عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا بني قصي. فلما انتشر ولده، وكثر ماله، وعظم شرفه هلك حليل بن حبشية، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشًا فرعة إسماعيل بن إبراهيم، وصريح ولده، فكلم رجالًا من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فلما قبلوا منه ما دعاهم إليه وبايعوه عليه، كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة بن حرام - وهو ببلاد قومه - يدعوه إلى نصرته، والقيام معه، فقام رزاح بن ربيعة في قضاعة، فدعاهم إلى نصر أخيه والخروج معه إليه، فأجابوه إلى ما دعاهم من ذلك. وقال هشام في خبره: قدم قصي على أخيه زهرة وقومه، فلم يلبث أن ساد، وكانت خزاعة بمكة أكثر من بني النضر، فاستنجد قصي أخاه رزاحًا، وله ثلاثة إخوة من أبيه، من امرأة أخرى، فأقبل بهم وبمن أجابه من أحياء قضاعة، ومع قصيٍ قومه بنو النضر، فنفوا خزاعة، فتزوج قصي حبىَّ بنت حليل بن حبشية من خزاعة، فولدت له أولاده الأربعة، وكان حليل آخر من ولي البيت، فلما ثقل جعل ولاية البيت إلى ابنته حبىَّ، فقالت: قد علمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، قال: فإني أجعل الفتح والإغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى أبي غبشان - وهو سليم بن عمرو بن بوىّ بن ملكان بن أفصى - فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة، فبلغنا - والله اعلم - أن خزاعة أخذتها العدسة، حتى كادت تفنيهم، فلما رأت ذلك جلت عن مكة، فمنهم من وهب مسكنه، ومنهم من باع، ومنهم من أسكن، فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم بها، وجمع قبائل قريش، فأنزلهم أبطح مكة. وكان بعضهم في الشعاب ورءوس جبال مكة، فقسم منازلهم بينهم، فسمى مجمعًا، وله يقول مطرود - وقيل: إن قائله حذافة ابن غانم: أبوكم قصىٌ كان يدعى مجمعًا ** به جمع الله القبائل من فهر وملكه قومه عليهم. وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن رزاحًا أجاب قصيًا إلى ما دعاه إليه من نصرته، وخرج إلى مكة مع إخوته الثلاثة، ومن تبعه لذلك من قضاعة في حاج العرب، وهم مجمعون لنصر قصي، والقيام معه، قال: وخزاعة تزعم أن حليل بن حبشية أوصى بذلك قصيًا، وأمره به حين انتشر له من ابنته من الأولاد ما انتشر، وقال: أنت أولى بالكعبة والقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة، فعند ذلك طلب قصي ما طلب. فلما اجتمع الناس بمكة وخرجوا إلى الموقف، وفرغوا من الحج ونزلوا منى، وقصي مجمع لما أجمع له، ومن تبعه من قومه من قريش وبني كنانة ومن معه من قضاعة، ولم يبق إلا أن ينفروا للصدر، وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة؛ وتجيزهم إذا نفروا من منى؛ إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار - ورجل من صوفة يرمي للناس، لا يرمون حتى يرمي - فكان ذوو الحاجات المعجلون يأتونه، فيقولون له: قم فارم حتى نرمي معك، فيقول: لا والله حتى تميل الشمس، فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل، يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك؛ ويقولن: ويلك قم فارم! فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ورمى الناس معه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، هذا الحديث، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد. فإذا فرغوا من رمي الجمار، وأرادوا النفر من منىً، أخذت صوفة بناحيتي العقبة، فحبسوا الناس، وقالوا: أجيزي صوفة، فلم يجز أحد من الناس حتى ينفذوا، فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس، فانطلقوا بعدهم، فلما كان ذلك العام، فعلت ذلك صوفة كما كانت تفعل، قد عرفت ذلك لها العرب، وهو دين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم، أتاهم قصي بن كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه فناكرهم، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالًا شديدًا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه. قال: وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه باداهم وأجمع لحربهم، وثبت معه؛ أخوه رزاح بن ربيعة بمن معه من قومه من قضاعة، وخرجت لهم خزاعة وبنو بكر وتهيئوا لحربهم، والتقوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا؛ حتى كثرت القتلى من الفريقين جميعًا، وفشت فيهم الجراحة. ثم إنهم تداعوا إلى الصلح، إلى أن يحكموا بينهم رجلًا من العرب فيما اختلفوا فيه، ليقضي بينهم، فحكموا يعمر بن عوف ابن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقضي بينهم بأن قصيًا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين قصي ابن كلاب وبين الكعبة ومكة؛ فسمي يعمر بن عوف يومئذ الشداخ؛ لما شدخ من الدماء ووضع منها. فولي قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، فكان قصيٌّ أول ولد كعب ابن لؤي أصاب ملكًا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة أرباعًا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم منمكة التي أصبحوا عليها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ويزعم الناس أن قريشًا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه، فسمته العرب مجمعًا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي بن كلاب، وما يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدها لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره؛ يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها؛ فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمنًا بأمره ومعرفةً بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الملك بن راشد، عن أبيه، قال: سمعت السائب بن خباب صاحب المقصورة يحدث أنه سمع رجلًا يحدث عمر بن الخطاب - وهو خليفة - حديث قصي بن كلاب هذا وما جمع من أمر قومه، وإخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة؛ فلم يردد ذلك عليه ولم ينكره. قال: فأقام قصي بمكة على شرفه ومنزلته في قومه لا ينازع في شيء من أمر مكة؛ إلا أنه قد أقر للعرب في شأن حجهم ما كانوا عليه؛ وذلك لأنه كان يراه دينًا في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت صوفة، فصار ذلك من أمرهم إلى آل صفوان بن الحارث ابن شجنة وراثةً، وكانت عدوان على ما كانت عليه، وكانت النسأة من بنى مالك بن كنانة على ما كانوا عليه، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، فلم يزالوا على ذلك حتى قام الإسلام، فهدم الله به ذلك كله. وابتنى قصى دارًا بمكة، وهي دار الندوة، وفيها كانت قريش تقضي أمورها، فلما كبر قصي ورق عظمه - وكان عبد الدار بكره هو، كان أكبر ولده، وكان - فيما يزعمون - ضعيفًا، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب كل مذهب وعبد العزى بن قصي وعبد بن قصي، فقال قصي لعبد الدار فيما يزعمون: أما والله لألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك؛ لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها، ولا يعقد لقريش لواء لحربهم إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة ماء إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعامًا إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمورها إلا في دارك. فأعطاه داره، دار الندوة التى لا تقضي قريش أمرًا إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والندوة والسقاية والرفادة - وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب، فيصنع به طعامًا للحاج يأكله من لم تكن له سعة ولا زاد ممن يحضر الموسم؛ وذلك أن قصيًا فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شرابًا وطعامًا أيام هذا الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم فيدفعونه إليه، فيصنعه طعامًا للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا؛ فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى حتى ينقضي الحج. حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، قال: حدثني من أمر قصي ابن كلاب وما قال لعبد الدار فيما دفع إليه ابن إسحاق بن يسار، عن أبيه، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، قال: سمعته يقول ذلك لرجل من بنى عبد الدار، يقال له نبيه بن وهب بن عامر بن عكرمة بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار. قال الحسن بن محمد: فجعل إليه قصي ما كان بيده من أمر قومه كله، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه. ثم إن قصيًا هلك، فأقام أمره في قومه من بعده بنوه. ابن كلاب وأم كلاب - فيما ذكر - هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. وله أخوان من أبيه من غير أمه، وهما تيم ويقظة، أمهما - فيما قال هشام بن الكلبي - أسماء بنت عدي بن حارثة ابن عمرو بن عامر بن بارق. وأما ابن إسحاق فإنه قال: أمهما هند بنت حارثة البارقية. قال: ويقال: بل يقظة لهند بنت سرير، أم كلاب. ابن مرة وأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأخواه لأبيه وأمه عدي وهصيص. وقيل إن أم هؤلاء الثلاثة مخشية. وقيل: إن أم مرة وهصيص مخشية بنت شيبان بن محارب بن فهر، وأم عدي رقاش بنت ركبة بن نائلة بن كعب بن حرب بن تيم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان. ابن كعب وأم كعب ماوية - فيما قال ابن إسحاق وابن الكلبي - وماوية بنت كعب ابن القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وله أخوان من أبيه وأمه: أحدهما يقال له عامر، والآخر سامة، وهم بنو ناجية، ولهم من أبيهم أخ قد انتمى ولده إلى غطفان ولحقوا بهم، كن يقال له: عوف، أمه الباردة بنت عوف بن غنم بن عبد الله بن غطفان. ذكر أن الباردة لما مات لؤي بنت غالب خرجت بإبنها عوف إلى قومها، فتزوجها سعد بن ذيبان بن بغيض، فتبنى عوفًا، وفيه يقول - فيما ذكر - فزارة بن ذيبان: عرج على ابن لؤيٍ جملك ** يتركك القوم ولا منزل لك ولكعب أخوان آخران أيضًا من أبيه من غير أمه، أحدهما خزيمة، وهو عائذة قريش، وعائذة أمه، وهي عائذة بنت الخمس بن قحافة، من خثعم، والآخر سعد. ويقال لهم بنانة، وينانة أمهم؛ فأهل البادية منهم اليوم - فيما ذكر - في بنى أسعد بن همام، في بنى شيبان بن ثعلبة؛ وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش. ابن لؤي وأم لؤي - فيما قال هشام - عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة، وهي أولى العواتك اللائي ولدن رسول الله ﷺ من قريش، وله أخوان من أبيه وأمه، يقال لأحدهما: تيم، وهو الذي كان يقال له تيم الأدرم - والدرم نقصان في الذقن؛ قيل أنه كان ناقص اللحى - وقيس، قيل: لم يبق من قيس أخي لؤي أحد، وإن آخر من كان بقى منهم رجل هلك في زمان خالد بن عبد الله القسري، فبقى ميراثه، لا يدري من يستحقه. وقد قيل: إن أم لؤي وإخوته سلمى بنت عمرو بن ربيعة، وهو لحى بن حارثة ابن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء، من خزاعة. ابن غالب وأم غالب ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة. وإخوته من أبيه وأمه: الحارث، ومحارب، وأسد، وعوف، وجون؛ وذئب، وكانت محارب والحارث من قريش الظواهر، فدخلت الحارث الأبطح. ابن فهر وفهر - فيما حدثت عن هشام بن محمد أنه قال: هو جماع قريش، قال: وأمه جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي. وقال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد - قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أمه جندلة بنت الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي. وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول - فيما ذكر عنه - أمه سلمى بنت أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. وقيل: إن أمه جميلة بنت عدوان من بارق، من الأزد. وكان فهر في زمانه رئيس الناس بمكة - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - وفي حربهم حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري. وكان حسان - فيما أقبل - أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج الناس عنده ببلاده، فأقبل حتى نزل بنخلة، فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق وهاب أن يدخل مكة؛ فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وخزيمة وأسد وجزام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر بن مالك، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فهزمت حمير، وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة - فيمن قتل من الناس - ابن ابنه قيس بن غالب بن فهر، وكان حسان عندهم بمكة أسيرًا ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به، فمات بين مكة واليمن. ابن مالك وأمه عكرشة بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان، في قول هشام. وأما ابن إسحاق فإنه قال: أمه عاتكة بنت عدوان بن عمرو بن قيس ابن عيلان. وقيل: إن عكرشة لقب عاتكة بنت عدوان، واسمها عاتكة. وقيل إن أمه هند بنت فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان. وكان لمالك أخوان، يقال لأحدهما: يخلد، فدخلت يخلد في بنى عمرو بن الحارث ابن مالك بن كنانة، فخرجوا من جماع قريش. والآخر منهما يقال له: الصلت، لم يبق من ذريته أحد. وقيل: سميت قريش قريشًا بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة؛ وبه سميت قريش قريشًا، لأن عير بنى النضر كانت إذا قدمت قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش هذا دليل بنى النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدرًا، احتفر بدرًا، قالوا: فبه سميت البئر التي تدعى بدرًا، بدرًا. وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب، ليس بأب ولا أم ولا حاضن ولا حاضنة. وقال آخرون: إنما سمي بنو النضر بن كنانة قريشًا؛ لأن النضر بن كنانة خرج يومًا على نادى قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جملٌ قريش. وقيل: إنما سميت قريش قريشًا بدابة تكون في البحر تأكل دواب البحر، تدعى القرش، فشبه بنو النضر بن كنانة بها؛ لأنها أعظم دواب البحر قوة. وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس فيسدها بماله، والتقريش - فيما زعموا - التفتيش: وكانوا بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدونها بما يبلغهم - واستشهدوا لقولهم: إن التقريش هو التفتيش، يقول الشاعر: أيها الناطق المقرش عنا ** عند عمروٍ فهل لهن انتهاء! وقيل: إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشًا. وقيل: بل لم تزل بنو النضر ابن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب، فقيل لهم: قريش؛ من اجل أن التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش بنو النضر، أي تجمعوا. وقيل: إنما قيل قريش، من أجل أنها تقرشت عن الغارات. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن سعيد بن محمد ابن جبير بن مطعم؛ أن عبد الملك بين مروان سأل محمد بن جبير: متى سميت قريش قريشًا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش. فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكن سمعت أن قصيًا كان يقال له القرشي، ولم تسم قريش قبله. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: لما نزل قصي الحرم وغلب عليه، فعل أفعالًا جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سمى به. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي جهم، قال: النضر بن كنانة كان يسمى القرشي. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال محمد بن عمر: وقصي أحدث وقود النار بالمزدلفة، حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة في الجاهلية. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فأخبرني كثير بن عبد الله المزني، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانت تلك النار توقد على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان. قال: محمد بن عمر: وهي توقد إلى اليوم. ابن النضر واسم النضر قيس، وأمه برة بنت مر بن أد بن طابخة. وإخوته لأبيه وأمه نضير ومالك وملكان وعامر والحارث وعمرو وسعد وعوف وغنم ومخرمة وجرول وغزوان وحدال. وأخوهم من أبيهم عبد مناة، وأمه فكيهة - وقيل فكهة - وهي الذفراء بنت هنى بن بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وأخو عبد مناة لأمه علي بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن عمرو بن مازن الغساني، وكان عبد مناة بن كنانة تزوج هندًا بنت بكر بن وائل، فولدت له ولده، ثم خلف عليها أخوه لأمه علي بن مسعود، فولدت له، فحضن علي بنى أخيه، فنسبوا إليه، فقيل لبنى عبد مناة: بنو علي، وإياهم عنى الشاعر بقوله: لله در بنى عل ** يٍ أيمٍ منهم وناكح وكعب بن زهير بقوله: صدموا عليًا يوم بدرٍ صدمةً ** دانت عليٌ بعدها لنزار ثم وثب مالك بن كنانة على علي بن مسعود، فقتله، فواده أسد بن خزيمة. ابن كنانة وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان. وقد قيل: إن أمه هند بنت عمرو بن قيس، وإخوته من أبيه أسد وأاسدة، يقال إنه أبو جذام والهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة، وهي أم النضر بن كنانة؛ خلف عليها بعد أبيه. ابن خزيمة وأمه سلمى بنت سليم بن الحاف بن قضاعة، وأخوه لأبيه وأامه هذيل، وأخوهما لأمهما تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وقد قيل: إن أم خزيمة وهذيل سلمى بنت أسد بن ربيعة. ابن مدركة واسمه عمرو، وأمه خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة، وأمها ضرية بنت ربيعة بن نزار. قيل: بها سمى حمى ضرية، وإخوة مدركة لأبيه وأمه عامر - وهو طابخة - وعمير - وهو قمعة - ويقال: إنه أبو خزاعة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق أنه قال: أم بنى إلياس خندف، وهي امراة من أهل اليمن، فغلبت على نسب نبيها، فقيل: بنو خندف. قال: وكان اسم مدركة عامرًا، واسم طابخة عمرًا. قال: وزعموا أنهما كانا في إبل لهما يرعيانها، فاقتنصا صيدًا، فقعدا عليه يطبخانة، وعدت عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو: أدترك الإبل أو تطبخ هذا الصيد؟ فقال عمرو: بل أطبخ الصيد، فلحق عامر الإبل، فجاء بها، فلما راحا على أبيهما، فحدثاه بشأنهما، قال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة. وحدثت عن هشام بن محمد، قالوا: خرج إلياس في نجعة له، فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها، فسمى مدركة، وأخذها عامر فطبخها فسمى طابخة، وانقمع عمير في الخباء فلم يخرج فسمى قمعة، وخرجت أمهم تمشي فقال لا: إلياس أين تخندفين؟ فسميت خندف - والخندفة ضرب من المشي - قال: وقال قصي بن كلاب: أمهتى خندف وإلياس أبى قال: وقال إلياس لعمرو ابنه: إنك قد أدركت ما طلبتا ولعامر: وأنت قد أنضجت ما طبختا ولعمير: وانت قد اسأت وانقمعتا ابن إلياس وأمه الرباب بنت حيدة بن معد، وأخوه لأبيه وأمه الناس، وهو عيلان، وسمى عيلان - فيما ذكر - لأنه كان يعاتب على جوده، فيقال له لتغلبن عليك العيلة يا عيلان، فلزمه هذا الاسم. وقيل: بل سمى عيلان بفرس كانت له تدعى عيلان. وقيل: سمى بذلك؛ لأنه ولد في جبل يسمى عيلان. وقيل: سمى بذلك لأنه حضنه عبدٌ لمضر يدعى عيلان. ابن مضر وأمه سودة بنت عك، وأخوه لأبيه وأامه إياد، ولهما أخوان من أبيهما من غير أمهما، وهما ربيعة وأنمار؛ أمهما جدالة بنت وعلان بن جوشم ابن جلهمة بن عمرو، من جرهم. وذكر بعضهم أن نزار بن معد لما حضرته الوفاة أوصى بنيه، وقسم ماله بينهم، فقال: يا بنى، هذه القبة - وهي قبة من أدم حمراء - وما أشبهها من مالى لمضر، فسمى مضر الحمراء. وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من مالى لربيعة، فخلف خيلادهما، فسمى الفرس. وهو الخادم وما أشبهها من مالى لإياد - وكانت شمطاء - فأخذ البلق والنقد من غنمه. وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه، فأخذ أنمار ما أصابه. فإن أشكل عليكم في ذلك شيء واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي. فاختلفوا في القسمة، فتوجهوا إلى الأفعى؛ فبينما هم يسيرون في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعى، فقال: إن البعير الذي رعى هذا الكلأ لأعور، وقال ربيعة: هو أزور، قال: إياد: هو أبتر، وقال أنمار: هو شرود؛ فلم يسيروا إلا قليلًا حتى لقيهم رجل توضع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور؟ قال: نعم، قال ربيعة: هو أزور؟ قال: نعم، قال إياد: هو أبتر؟ قال: نعم، قال أنمار: هو شرود؟ قال: نعم، قال: هذه صفة بعيري، دلوني عليه، فحلفوا له: ما رأوه، فلزمهم وقال: وكيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته! فساروا جميعًا حتى قدموا نجران، فنزلوا بالأفعى الجرهمي، فنادى صاحب البعير: هؤلاء أصحاب بعيري، وصفوا لي صفته ثم قالوا: لم نره. فقال الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال مضر: رأيته يرعى جانبًا ويدع جانبًا فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والآخرى فاسدة الأثر، فعرفت أنه أفسدها بشدة وطئه لازوراره. وقال إياد: عرفت أنه أبتر بإجتماع بعره، ولو كان ذيالًا لمصع به وقال أنمار: عرفت أنه شرود؛ لأنه يرعى المكان الملتف نبته، ثم يجوزه إلى مكان آخر أرق منه نبتًا وأخبث. فقال الجرهمي: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه، ثم سألهم: من هم؟ فأخبروه، فرحب بهم فقال: أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى! فدعا لهم بطعام فأكلوا وأكل، وشربوا وشرب، فقال مضر: لم أر كاليوم خمرًا أجود، لولا أنها نبتت على قبر، وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحمًا أطيب لولا أنه ربى بلبن كلب، وقال إياد: لم أر كاليوم رجلًا أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي يدعى له. وقال أنمار: لم أر كاليوم قط كلامًا أنفع في حاجتنا من كلامنا. وسمع الجرهمي الكلام فتعجب لقولهم، وأتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا من نفسها كان نزل بها، فوطئها فحملت به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم، فقال: شاة أرضعتها لبن كلبة، ولم يكن ولد في الغنم شاة غيرها. فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر ونباتها على قبر؟ قال: لأنه أصابني عليها عطش شديد. وقيل لربيعة: بم عرفت؟ فذكر كلامًا. فأتاهم الجرهمي، فقال: صفوا لي صفتكم، فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم، فقضى بالقبة الحمراء والدنانير والإبل - وهي حمر - لمضر، وقضى بالخباء الأسود وبالخيل الدهم لربيعة، وقضى بالخادم - وكانت شمطاء - وبالخيل البلق لإياد، وقضى بالأرض والدراهم لأنمار. ابن نزار وقيل إن نزارًا كان يكنى أبا إياد. وقيل: بل كان يكنى أبا ربيعة، أمه معانة بنت جوشم بن جلهمة بن عمرو، وإخوته لأبيه وأمه، قنص، وقناصة، وسنام، ووحيدان، وحيدة، وحيادة، وجنيد، وجنادة، والقحم، وعبيد الرماح، والعرف، وعوف، وشك، وقضاعة؛ وبه كان معد يكنى، وعدة درجوا. ابن معد وأم معدّ - فيما زعم هشام - مهدد بنت اللِّهَمّ - ويقال: اللَّهْم - ابن جَلْحَب بن جديس. وقيل: ابن طَسْم. وقيل: ابن الطوسم، من ولد يقشان بن إبراهيم خليل الرحمن. حدثنا الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، قال حدثني محمد بن عبد الرحمن العجلاني: وإخوته من أبيه وأمه الديث - وقيل: إن الديث هو عك. وقيل: إن عكا هو ابن الديث ابن عدنان - وعدن بن عدنان، فزعم بعض أهل الأنساب أنه صاحب عدن؛ وإليه تنسب، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا، وأبين - وزعم بعضهم أنه صاحب أبين وأنها إليه تنسب، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا - وأد بن عدنان درج، والضحاك، والعي، وأم جميعهم أم معد. وقال بعض النسابة: كان عك انطلق إلى سمران من أرض اليمن، وترك أخاه معدًا، وذلك أن أهل حضور لما قتلوا شعيب بن ذي مهدم الحضورى، بعث الله عليهم بختنصر عذابًا، فخرج أرميا وبرخيا، فحملا معدًا، فلما سكنت الحرب رداه إلى مكة، فوجد معد إخوته وعمومته من بنى عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن، وتزوجوا فيهم، وتعطفت عليهم اليمن بولادة جرهم إياهم، واستشهدوا في ذلك قول الشاعر: تركنا الديث إخوتنا وعكا ** إلى سمران فانطلقوا سراعا وكانوا من بنى عدنان حتى ** أضاعوا الأمر بينهم، فضاعا ابن عدنان ولعدنان أخوان لأبيه: يدعى أحدهما نبتًا والآخر منهما عمرًا، فنسب نبينا محمد ﷺ لا يختلف النسابون فيه إلى معد بن عدنان، وأنه على ما بينت من نسبه. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن لهيعة عن أبي الأسود وغيره، عن نسبة رسول الله ﷺ: محمد ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد. ثم يختلفون فيما بعد ذلك. وقال الزبير بن بكار: حدثني يحيى بن المقداد الزمعي، عن عمه موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن عمته أم سلمة زوج النبي ﷺ، قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " معد ابن عدنان بن أدد بن زند بن يرى بن أعراق الثرى ".، قالت أم سلمة: فزند هو الهميسع، ويرى وهو نبت، وأعراقا الثرى هو إسماعيل بن إبراهيم. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن العجلاني، عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمته، عن جدتها ابنة المقداد بن الأسود البهراني، قالت: قال رسول الله ﷺ: معد بن عدنان بن أدد بن يرى بن أعراق الثرى. وقال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد عن سلمة بن الفضل عنه عدنان - فيما يزعم بعض النساب - بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح ابن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم. وبعض يقول: بل عدنان بن أدد بن أيتحب بن أيوب بن فيذر بن إسماعيل بن إبراهيم. قال: وقد انتمى قصى بن كلاب إلى قيذر في شعر. قال: ويقول بعض النساب: بل عدنان بن ميدع بن منيع بن أدد بن كعب بن يشجب بن يعرب بن الهميسع بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم، قال: وذلك أنه علم قديم أخذ من أهل الكتاب الأول. وأما الكلبي محمد بن السائب فإنه - فيما حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، عن هشام - قال: أخبرني مخبرٌ عن أبي ولم اسمعه منه؛ أنه كان ينسب معد بن عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال ابن أبي بن العوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم ابن تاحش بن ماخى بن عبقى بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر ابن يثربى بن يحزن بن يلحن بن ارعوى بن عيفي بن ديشان بن عيصر بن أقناد ابن إيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن شمي بن مزى بن عوص بن عرام ابن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم؛ صلوات الله عليهما. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، قال: وكان رجل من أهل تدمر، يكنى أبا يعقوب، من مسلمة بنى إسرائيل، قد قرأ من كتبهم، وعلم علمًا، فذكر أن بروخ بن ناريا كاتب أرميا، أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء، ولعل خلاف ما بينهم من قبل اللغة، لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية. قال الحارث: قال محمد بن سعد: وأنشدني هشام، عن أبيه شعر قصي: فلست لحاضنٍ إن لم تأثل ** بها أولاد قيذر والنبيت قال: أراد نبت بن إسماعيل. وقال الزبير بن بكار: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، عن زكرياء ابن عيسى، عن ابن شهاب، قال: معد بن عدنان بن أد بن الهميسع بن أسحب بن نبت بن قيذار بن إسماعيل. وقال بعضهم: هو معد بن عدنان بن أدد بن أمين بن شاجب بن ثعلبة بن عتر بن دريح بن محلم بن العوام بن المحتمل بن رائمة بن العيقان بن علة بن الشحدود بن الظريب بن عبقر بن إبراهيم بن إسماعيل ابن يزن بن أعوج بن المطعم بن الطمح بن القسور بن عتود بن دعدع بن محمود بن الزائد بن ندوان بن أتامة بن دوس بن حصن بن النزال بن القمير ابن المجشر بن معدمر بن صيفي بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن. وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أدد بن زيد بن يقدر بن يقدم بن هميسع بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم. وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أد بن الهميسع بن نبت بن سلمان - وهو سلامان - ابن حمل بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم. وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أدد بن المقوم بن ناحور بن مشرح ابن يشجب بن مالك بن أيمن بن النبيت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم. وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن أسحب ابن سعد بن دريح بن نضير بن حميل بن منحم بن لافث بن الصابوح بن كنانة ابن العوام بن نبت بن قيذر بن إسماعيل. وأخبرني بعض النساب أنه وجد طائفة من علماء العرب قد حفظت لمعد أربعين أبا بالعربية إلى إسماعيل، واحتجت لقولهم ذلك بأشعار العرب، وأنه قابل بما قالوا من ذلكك ما يقول أهل الكتاب، فوجد العدد متفقًا، واللفظ مختلفًا، وأملى ذلك علي فكتبته عنه، فقال: هو معد بن عدنان بن أدد بن هميسع - وهميسع هو سلامان وهو أمين - ابن هميتع - وهو هميدع وهو الشاجب ابن سلامان - وهو منجر، وهو نبيت؛ سمي بذلك - فيما زعم - لأنه كان منجر العرب؛ لأن الناس عاشوا في زمانه، واستشهد لقوله ذلك بقول قعنب بن عتاب الرياحي: تناشدني طيٌ وطيٌ بعيدة ** وتذكرني بالود أزمان ينبت قال: نبيت بن عوص - وهو ثعلبة. قال: وإليه تنسب الثعلبية - ابن بورا - وهو بوز وهو عتر العتائر، وأول من سن العتيرة للعرب - ابن شوحا وهو سعد رجب، وهو أول من سن الرجبية للعرب - ابن يعمانا - وهو قموال، وهو دريح الناصب، وكان ففي عصر سليمان بن داود النبي ﷺ - ابن كسدانا - وهو محلم ذو العين - ابن حرانا - وهو العوام - ابن بلداسا - وهو المحتمل - ابن بدلانا - وهو يدلاف، وهو رائمة - ابن طهبا - وهو طالب، وهو العيقان - ابن جهمي - وهو جاحم، وهو علة - ابن محشى - وهو تاحش، وهو الشحدود - ابن معجالي - وهو ماخي، وهو الظريب خاطم النار - ابن عقارا - وهو عافى، وهو عبقر أبو الجن، قال: وإليه تنسب جنة عبقر - ابن عاقارى - وهو عاقر، وهو إبراهيم جامع الشمل. قال: وإنما سمى جامع الشمل لأنه أمن في ملكه كل خائف، ورد كل طريد، واستطلح الناس - ابن اللداعي - وهو ابن الدعا، وهو إسماعيل ذو المطابخ، سمي بذلك لأنه حين ملك أقام بكل بلدة من بلدان العرب دا ر ضيافة - ابن اللداعي - وهو عبيد وهو يزن الطعان، وهو أول من قاتل بالرماح، فنسبت إليه - ابن همادى وهو حمدان، وهو إسماعيل ذو الأعوج وكان فرسًا له، وإليه تنسب الأعوجية من الخيل - ابن بشماني - وهو بشين وهو المطعم في المحل - ابن بثراني - وهو بثرم، وهو الطمح - ابن بحراني - وهو يحزن، وهو القسور - ابن يلحاني، وهو يلحن، وهو العنود - ابن رعواني - وهو رعوى، وهو الدعدع - ابن عاقارى - وهو عاقر - ابن داسان، وهو الزائد - ابن عاصار - وهو عاصر، وهو النيدوان ذو الأندية، وفي ملكه تفرق بنو القاذور وهو القادور. وخرج الملك من ولد النبيت بن القادور إلى بنى جاوان - ابن القادور ثم رجع إليهم ثانية - ابن قنادى - وهو قنار، وهو إيامة بن ثامار، وهو بهامى، وهو دوس العتق، وهو دوس أجمل الخلق، زعم في زمانه، فلذلك تقول العرب: أعتق من دوس لأمرين: أما أحدهما فلحسنه وعتقه، والآخر لقدمه، وفي ملكه أهلكت جرهم بن فالج وقطورا، وذلك أنهم بغوا في الحرم، فقتلهم دوس، وأتبع الذر آثار من بقى منهم، فولج في أسماعهم فأفناهم - ابن مقصر - وهو مقاصرى، وهو حصن، ويقال له: ناحث، وهو النزال بن زارح، وهو قمير - ابن سمى - وهو سما، وهو المجشر، وكان - فيما زعم - أعدل ملك ولى وأحسنة سياسة، وفيه يقول أمية بن أبي الصلت لهرقل ملك الروم: كن كالمجشر إذ قالت رعيته ** كان المجشر أوفانا بما حكملا ابن مزرا - ويقال مرهر - ابن صنفا، وهو السمر، وهو الصفي، هو أجود ملك رئى على وجه الأرض، وله يقول أمية بن أبي الصلت: إن الصفي بن النبيت مملكًا ** أعلى وأجود من هرقل وقيصرا ابن جعثم - وهو عرام، وهو النبيت، وهو قيذر، قال: وتأويل قيذر صاحب ملك، كان أول من ملك من ولد إسماعيل - ابن إسماعيل صادق الوعد، ابن إبراهيم خليل الرحمن بن تارح - وهو آزر - ابن ناحور بن ساروع بن أرغوا ابن بالغ - وتفسير بالغ القاسم بالسريانية، لأنه الذي قسم الأرضين بين ولد آدم، وبالغ، فهو فالج بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ابن لملك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي ﷺ - ابن يرد - وهو يارد الذي عملت الأصناكم في زمانه - ابن مهلائيل بن قينان بن أنوش ابن شيث - وهو هبة الله ابن آدم عليه السلام. وكان وصى أبيه بعد مقتل هابيل، فقال: هبة الله بن هابيل، فاشتق اسمه من اسمه. وقد مضى من ذكرنا الأخبار عن إسماعيل بن إبراهيم وآبائه وأمهاته فيما بينه وبين آدم، ومما كان من الأخبار والأحداث في كل زمان من ذلك بعض ما انتهى إلينا، بوجيز من القول مختصر، في كتابنا هذا، فكرهنا إعادته. وحدثت عن هشام بن محمد قال: كانت العرب تقول: إنما خدش الخدوش منذ ولد أبونا أنوش؛ وإنما حرم الحنث، منذ ولد أبونا شث؛ وهو بالسريانية شيث. ونعود الآن إلى: ذكر رسول الله ﷺ وأسبابه فتوفي عبد المطلب بعد الفيل بثماني سنين؛ كذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر: وكان عبد المطلب يوصي برسول الله ﷺ عمه أبا طالب، وذلك أن أبا طالب، وعبد الله أبا رسول الله ﷺ كانا لأم، فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله ﷺ بعد جده، وكان يكون معه. ثم إن أبا طالب خرج في ركب من قريش إلى الشام تاجرًا، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير ضب به رسول الله ﷺ - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب، فقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبدًا، أو كما قال. فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشأم، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة مذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب - فيما يزعمون - يتوارثونه كابرًا عن كابر. فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، صنع لهم طعامًا كثيرًا، وذلك أنه رأى رسول الله ﷺ وهو في صومعته، عليه غمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتصهرت أغصان الشجرة إلى رسول الله ﷺ، حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى، نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم فدعاهم جميعًا، فلما رأى بحيرى رسول الله ﷺ جعل يلحظه لحظًا شديدًا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته. فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، سأل رسول الله ﷺ عن أشياء في حاله، في يقظته وفي نومه، فجعل رسول الله صلى الله عله وسلم يخبره فيجدها بحيرى موافقةً لما عنده من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، ثم قال بحيرى لعمه أبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، فقال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًا. قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك، واحذر عليه يهود؛ فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنه شرًا. فإنه كائن له شأن عظيم. فأسرع به إلى بلده. فخرج به عمه سريعًا حتى أقدمه مكة. وقال هشام بن محمد: خرج أبو طالب برسول الله ﷺ إلى بصرى من أرض الشأم؛ وهو ابن تسع سنين. حدثني العباس بن محمد؛ قال: حدثنا أبو نوح، قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى، قال: خرج أبو طالب إلى الشأم، وخرج معه رسول الله ﷺ في أشياخٍ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب - وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله ﷺ، فقال: هذا سيد العالمين. هذا رسول رب العالمين؛ هذا يبعثه الله رحمةً للعالمين. فقال له أشياخ قريش: ما علمك؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم تبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجدًا؛ ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم الننبوة، أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به كان هو في رعية الإبل. قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة، فقال: انظروا إليه؛ عليه غمامة تظله! فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فىء الشجرة، فلما جلس مال لىء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فىء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم؛ وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم؛ فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه؛ فالتفت فإذا بسبعة نفرٍ قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر؛ فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناس، وإنا اخترنا خيرةً، بعثنا إلى طريقك هذا؛ قال لهم: هل خلفتم خلفكم أحدًا هو خيرٌ منكم؟ قالوا: لا، إنما اخترنا خيرة لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده! قالوا: لا؛ فتابعوه وأقاموا معه، قال: فأتام، فقال: أنشدكم الله، أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلالًا، وزدوه الراهب من الكعك والزيت. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه محمد بن علي، عن جده علي بن أبي طالب، قال: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: ما هممت بشيءٍ مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك. ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته؛ فإني قد قلت ليلةً لغلامٍ من قريش كان يرعة معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشباب! فقال: أفعل؛ فخرجت أريد ذلك؛ حتى جئت أول دارٍ من دور مكة، سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قتالوا: فلان ابن فلان تزوج بفلانة بنت فلان. فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس؛ قال: فجئت صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت ما صنعت شيئًا، ثم أخبرته الخبر. قال: ثم قلت له ليلةً أخرى مثل ذلك، فقال: أفعل، فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت حين دخلت مكة تلك الليلة؛ فجلست أنظر، فضرب الله على أذني؛ فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس؛ فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته. ذكر تزويج النبي ﷺ خديجة رضي الله عنها قال هشام بن محمد: نكح رسول الله ﷺ خديجة؛ وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، قال: كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي امرأة تاجرةً، ذات شرف ومال، تستتجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريشٌ قومًا تجارًا؛ فلما بلغها عن رسول الله ﷺ ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكم أخلاقه؛ بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشأم تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار؛ مع غلامٍ لها يقال له ميسرة. فقبله منها رسول الله ﷺ، فخرج في مالها ذلك؛ وخرج معه غلامها ميسرة؛ حتى قدما الشأم، فنزل رسول الله ﷺ في ظل شجرة قريبًا من صومعة راهب من الرهبان، فأطلع الراهب رأسه إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجلٌ من قريش، من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم باع رسول اله ﷺ سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلًا إلى مكة؛ ومعه ميسرة. فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظللانه من الشمس، وهو يسير على بعيرة. فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعف، أو قريبًا من ذلك. وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه - وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة؛ مع ما أراد الله بها من كرامته - فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها، بعثت إلى رسول الله ﷺ، فقالت له - فيما يزعمون -: يا بن عم، إنى قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبًا، وأعظمهن شرفًا، وأكثرهن مالًا؛ كل قومهما كان حريصًا على ذلك منها لو يقدر عليها. فلما قالت ذلك لرسول الله ﷺ ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة بن عبد المطلب عمه؛ حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها، فولدت له ولده كلهم إلا إبراهيم: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم - وبه كان يكنى ﷺ - والطاهر والطيب. فأما القاسم والطتاهر والطيب؛ فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن، وهاجرن معه ﷺ. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا معمر وغيره، عن ابن شهاب الزهري - وقد قال ذلك غيره من أهل البلد: إن خديجة إنما كانت استأجرت رسول الله ﷺ ورجلًا أخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة؛ وكان الذي زوجها إياه خويلد، وكان التي مشت في ذلك مولاةٌ مولدة من مولادات مكة. قال الحارث: قال محمد بن سعد: قال الواقدي: فكطل هذا غلط. قال الواقدي: ويقولون أيضًا إن خديجة أرسلت إلى النبي ﷺ تدعوه إلى نفسها - تعني التزويج - وكانت امرأة ذات شرف، وكان كل قريش حريصًا على نكاحها - قد بذلوا الأموال لو طمعوا بذلك، فدعت أباها فسسقته خمرًا حتى ثمل، ونحرت بقرة وخلقته بخلوق، وألبسته حلةً حبرةً، ثم أرسلت إلى رسول الله ﷺ في عمومته، فدخلوا عليه، فزوجه، فلما صحا قال: ما هذا العقير؟ وماهذا العبير؟ وما هذا الحبير؟ قالت: زوجتنى محمد بن عبد الله، قال: ما فعلت أنى أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش، فلم أفعل! قال الواقدي: وهذا غلطٌ، والثبت عندنا المحفوظ من حديث محمد ابن عبد الله بن مسلم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم. ومن حديث ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ومن حديث ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله ﷺ، وأن أباها مات قبل الفجار. قال أبو جعفر: وكان منزل خديجة يومئذ المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال: منزل خديجة، فاشتراه معاوية - فيما ذكر - فجعله مسجدًا يصلى فيه الناس، وبناه على الذي هو عليه اليوم لم يغير. وأما الحجر الذي على باب البيت عن يسار من يدخل البيت فإن رسول اله ﷺ كان يجلس تحته يستتر به من الرمى إذا جاءه من دار أبي لهب، ودار عدي ابن حمراء الثقفي خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراعٌ وشبر في ذراع. ذكر باقي الأخبار عن الكائن من أمر رسول الله ﷺ قبل أن ينبأ وما كان بين مولده ووقت نبوته من الأحداث في بلده قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل سبب تزويج النبي ﷺ خديجة واختلاف المختلفين في ذلك، ووقت نكاحه ﷺ إياها. وبعد السنة التي نكحها فيها رسول الله ﷺ هدمت قريش الكعبة بعشر سنين ثم بنتها - وذلك في قول إبن إسحاق - في سنة خمسٍ وثلاثن من مولد رسول الله ﷺ. وكان سبب هدمهم إياها فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن الكعبة كانت رضمة فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها؛ وذلك أن نفرًا من قريش وغيرهم سقوا كنز الكعبة؛ وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة. وكان أمر غزالي الكعبة - فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه - أن الكعبة كانت رفعت حين غرق قوم نوح، فأمر الله إبراهيم خليله عليه السلام وابنه إسماعيل أن يعيدا بنا الكعبة على أسها الأول، فأعادا بناءها، كما أنزل في القرآن: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم "، فلم يكن له ولاةٌ منذ زمن نوح عليه السلام؛ وهو مرفوع. ثم أمر الله عز وجل إبراهيم أن ينزل ابنه إسماعيل البيت، لما أراد الله من كرامة من أكرمه بنبيه محمد ﷺ، فكان إبراهيم خليل الرحمن وابنه إسماعيل يليان البيت بعد عهد نوح، ومكة يومئذ بلاقع؛ ومن حول مكة يومئذ جرهم والعماليق. فنكح إسماعيل عليه السلام امرأة من جرهم؛ فقال في ذلك عمرو بن الحارث بن مضاض: وصاهرنا من أكرم الناس والدًا ** فأبناؤه منا ونحن الأصاهر فولى البيت بعد إسماعيل، وبعد إسماعيل نبت؛ وأمه الجرهمية؛ ثم مات نبت، ولم يكثر ولد إسماعيل، فغلبت جرهم على ولاية البيت؛ فقال عمرو بن الحارث بن مضاض: وكنا ولاة البيت من بعد نابتٍ ** نطوف بذاك البيت، والخير ظاهر فكان أول من مولى من جرهم البيت مضاض؛ ثم وليته بعده بنوه كابرًا عن كابر؛ حتى بغت جرهم بمكة، واستحلوا حرمتها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، وظلموا من دخل مكة، ثم لم يتناهوا حتى جعل الرجل منهم إذ لم يجد مكانًا يزنى فيه يدخل الكعبة فزنى. فزعموا أن أسافا بغى بنائلة في حوف الكعبة، فمسخا حجرين، وكانت مكة في الجاهلية لا ظلم ولا بغى فيها، ولا يستحل حرمتها ملكٌ إلا هلك مكانه فكانت تسمى الناسة، وتسمى بكة، تبك أعناق البغايا إذا بغوا فيها، والجبابرة. قال: ولما لم تتناه جرهم عن بغيها، وتفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، فانخرع بنو حارثة بن عمرو، فأوطنوا تهامة - فسميت خزاعة، وهم بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة - وأسلم ومالك وملكان بنو أفصى بن حارثة، فبعث الله على جرهم الرعاف والنمل، فأفناهم. فاجتمعت خزاعة ليجلوا من بقى، ورئيسهم عمرو بن ربيعة بن حارثة، وأمه فهيرة بنت عامر بن الحارث ابن مضاض، فاقتتلوا. فلما أحس عامر بن الحارث بالهزيمة، خرج بغزالي الكعبة وحجر الركن يلتمس التوبة، وهو يقول: لا هم إن جرهمًا عبادك ** الناس طرفٌ وهم تلادك بهم قديمًا عمرت بلادك فلم تقبل توبته، فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم، ثم دفنها وخرج من بقى من جرهم إلى أرض من أرض جهينة، فجاءهم سيل أتى فذهب بهم، فذلك قول أمية بن أبي الصلت: وجرهم دمنوا تهامة في الد ** هر فسالت بجمعهم إضم وولى البيت عمرو بن ربيعة. وقالوا بنو قصي: بل وليه عمرو بن الحارث الغبشاني، وهو يقول: نحن ولينا البيت من بعد جرهمٍ ** لنعمره من كل باغٍ وملحد وقال: وادٍ حرامٌ طيره ووحشه ** نحن ولاته فلا نغشه وقال عامر بن الحارث: كأن لم يكن بين الحجوزن إلى الصفا ** أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صروف الليالي والجدود العواثر قال: يأيها الناس سيروا إن قصركم ** أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا كنا أناسًا كما كنتم فغيرنا ** دهرٌ، فأنتكم كما كنا تكونونا حثوا المطى وأرخوا من أزمتها ** قبل الممات وقضوا ما تقوضنا يقول: اعملوا لآخرتكم، وافرغوا من حوائجكم في الدنيا؛ فوليت خزاعة البيت؛ غير أنه كان في قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالحج للناس من عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مر - وهو صوفة - فكانت إذا كانت الإجازة قالت العرب: أجيزي صوفة. والثانية الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، فكان ذلك إلى بنى زيد بن عدوان؛ فكان آخر من ولى ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحارث بن وابش ابن زيد، والثالثة النسئ للشهور الحرام، فكان ذلك في القلمس، وهو حذيفة بن فقيم بن عدي من بنى مالك بن كنانة، ثم بنيه حتى صار ذلك إلى آخرهم أبي ثمامة، وهو جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن حذيفة. وقام عليه السلام، وقد عادت الحرم إلى أصلها، فأحكمها الله وأبطل النسئ؛ فلما كثرت معد تفرقت، فذلك قول مهلهل: غنيت دارنا في تهامة في الده ** ر وفيها بنو معدٍ حلولا وأما قريش، فلم يفارقوا مكة، فلما حفر عبد المطلب زمزم، وجد الغزالين، غزالي الكعبة اللذين كانت جرهم دفنتهما فيه، فاستخرجهما؛ وكان من أمره وأمرهما ما قد ذكرت في موضع ذلك فيما مضى من هذا الكتاب قبل. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وكان الذي وجد عنده الكنز دويكًا مولىً لبنى مليح بن عمرو، من خزاعة. فقطعت قريش يده من بينهم، وكان ممن اتهم في ذلك الحارث بن عامر بن نوفل، وأبو إهاب ابن عزير بن قيس بن سويد التميمي - وكان أخا الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لأمه - وأبو لهب بن عبد المطلب؛ وهم الذين تزعم قريش أنهم وضعوا كنز الكعبة حين أخذوه عند دويك مولى بنى مليح، فلما اتهمتهم قريش، دلوا على دويك، فقطع، ويقال: هم وضعوه عنده. وذكروا أن قريشًا حين استيقنوا بأن ذلك كان عند الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف، خرجوا به إلى كاهنةٍ من كهان العرب، فسجعت عليه من كهانتها بألا يدخل مكة عشر سنين، بما استحل من حرمه الكعبة، فزعموا أنهم أخرجوه من مكة، فكان فيمات حولها عشر سنين؛ وكان البحر قد رمى بسفينةٍ إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها؛ وكان بمكة رجل قبطيٌ نجارٌ، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي يطرح فيها ما يهدي لها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، فكانوا يهابونها، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحدٌ إلا احزألت وكشت وفتحت فاها؛ فبينا هي يومًا تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرًا، فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله عز وجل قد رضى ما أردنا. عندنا عاملٌ رقيق، وعندنا خشبٌ، وقد كفانا الله أمر الحية. وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة، ورسول الله ﷺ عامئذٍ ابن خمس وثلاثين سنة. فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قامأبو وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب في يده؛ حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بناينها من كسبكم إلا طيبًا، ولا تدخلوا فيها مهر بغيٍ، ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحدٍ من الناس. قال: والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة؛ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي نجيح المكي، أنه حدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف، أنه رأى ابنًا لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم يطوف بالبيت، فسأل عنه فقيل له: هذا ابنٌ لجعدة ابن هبيرة، فقال عند ذلك عبد الله بن صفوان جد هذا - يعنى أبا وهيب الذي أخذ من الكعبة حجرًا حين اجتمعت قريش لهدمها، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنانها من كسبكم إلا طيبًا؛ لا تدخلوا فيها مهر بغى، ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحدٍ. وأبو وهب خال أبي رسول الله ﷺ، وكان شريفًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثننا محمد بن إسحاق، قال: ثم إن قريشًا تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبنى مخزوم وتيم وقبائل من قريش، ضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وبنى سهم، وكان شق الحجر - وهو الحطيم - لبنى عبد الدار بن قصي ولبنى عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنى عدي بن كعب. ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس به تلك الليلة، وقالوا: ننظر؛ فإن إصيب لم نهدم منها شيئًا؛ ورددناها كما كانت؛ وإن لم يصبه شيءٌ فقد رضى الله ما صنعنا هدمنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم والناس معه؛ حتى انتهى الهدم إلى الأساس، فأفضوا إلى حجارة خضرٍ كأنها أسنة آخذ بعضها ببعض. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض من يروى الحديث، أن رجلًا من قرش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها، ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتقت مكة بأسرها، فانتهوا عند ذلك إلى الأساس. قال: ثم إن القبائل جمعت الحجارة لبنائها، جعلت كل قبيلة تجمع على حدتها، ثم بنوا حتى إذا بلغ البنيان موضع الركن اختصموا فيه؛ كل قبيلةٍ تريد أن ترفعهخ إلى موضعه دون الأخرى؛ حتى تحاوزوا وتحالفوا وتواعدوا للقتال؛ فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا؛ ثم تعاقدوا هم وبنو عد بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم، في ذلك الدم في الجفنة؛ فسموا لعقة الدم بذلك؛ فمكثت قريش أربع ليالٍ - أو خمس ليال - على ذلك. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، فتشاوروا وتناصفوا؛ فزعم بعض الرواة أن أبا أمية ابن مغيرة كان عامئذ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش؛ اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه؛ فكان أول من دخل عليهم رسول الله ﷺ، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا به؛ هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال: هلم لي ثوبًا، فأتى به. فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحيةٍ من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه بيده، ثم بنى عليه؛ وكانت قريش تسمى رسول الله ﷺ قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين. قال أبو جعفر: وكان بناء قريش الكعبة بعد الفجار بخمس عشرة سنة، وكان بين عام الفيل وعام الفجار عشرون سنة. واختلف السلف في سن رسول الله ﷺ حين نبئ كم كانت؟ فقال بعضهم: نبئ رسول الله ﷺ بعد ما بنت قريش الكعبة بخمس سنين؛ وبعدما تمت له من مولده أربعون سنة. ذكر من قال ذلك حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنل أبو حمزة الضبعي، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة. حدثنا عمرو بن علي وابن المثنى، قالا: حدثنا يحيى بن محمد بن قيس قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك، أن رسول الله ﷺ بعث على رأس أربعين. حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قتال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ بعث على رأس أربعين. حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: حدثني أنس بن مالك، أن رسول الله ﷺ بعث إلى رأس أربعين. حدثني أبو شرحبيل الحمصي، قال: حدثني أبو اليمان، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، قال: أنزل على النبي ﷺ وهو ابن أربعين. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله ﷺ وهو ابن أربعين حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الحجاج، عن حماد، قال: أخبرنا عمرو، عن يحيى بن جعدة، أن رسول الله ﷺ قال لفاطمة: إنه كان يعرض على القرآن كل عام مرة؛ وإنه قد عرض على العام مرتين، وإنه قد خيل إلى أن أجلى قد حضر؛ وأن أول أهلي لحاقًا بي أنت؛ وإنه لم يبعث نبي إلا بعث الذي بعده بنصفٍ من عمره، وبعث عيسى لأربعين، وبعثت لعشرين. حدثني عبيد بن محمد الوراق، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة ومحمد بن ميمون الزعفراني، عن هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله ﷺ وأنزل عليه وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة. وقال آخرون: بل نبئ حين نبئ وهو ابن ثلاث وأربعين سنة. ذكر من قال ذلك حدثنا أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل على النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين سنة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: أنزل على رسول الله ﷺ الوحي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا يحيى ابن سعيد، قال: سمعت سعيدًا - يعنى ابن المسيب - يقول: أنزل على رسول الله ﷺ الوحي؛ وهو ابن ثلاث وأربعين سنة. ذكر اليوم الذي نبئ فيه رسول الله ﷺ من الشهر الذي نبئ فيه وما جاء في ذلك قال أبو جعفر: صح الخبر عن رسول الله ﷺ بما حدثنا به ابن المثني، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن غيلان بن جرير، أنه سمع عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة الأنصاري، أن رسول الله ﷺ سئل عن صوم الاثنين، فقال: ذلك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت - أو أنزل علي فيه. حدثنا أحمد بن منصور، قال: حدثنا الحسن بن موسى الأشيب، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا غيلان بن جرير المعولي قال: حدثنا عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة، عن عمر رحمه الله أنه قال للنبي ﷺ: يا نبي الله، صوم يوم الاثنين؟ قال: ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزلت علي فيه النبوة. حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد النبي ﷺ يوم اثنين، واستنبئ يوم الاثنين. قال أبو جعفر: وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم. واختلفوا في أي الأثانين كان ذلك؟ فقال بعضهم: نزل القرآن على رسول الله ﷺ لثماني عشرة خلت من رمضان. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن أيوب، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، أنه كان يقول - فيما بلغه وانتهى إليه من العلم: أنزل الفرقان على رسول الله ﷺ لثماني عشرة ليلةً خلت من رمضان. وقال آخرون: بل أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت منه. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني من لا يتهم، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ابن دعامة السدوسي، عن أبي الجلد، قال: نزل الفرقان لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان. وقال آخرون: بل نزل لسبع عشرة خلت من رمضان؛ واستشهدوا لتحقيق ذلك بقول الله عز وجل: " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان "، وذلك ملتقى رسول الله ﷺ والمشركين ببدر؛ وأن التقاء رسول الله ﷺ والمشركين ببدر كان صبحة سبع عشرة من رمضان. قال أبو جعفر: وكان رسول الله ﷺ من قبل أن يظهر له جبريل عليه السلام برسالة الله عز وجل إليه - فيما ذكر عنه - يرى ويعاين آثاراُ وأسبابًا من آثار من يريد الله إكرامه واختصاصه بفضله؛ فكان من ذلك ما قد ذكرت فيما مضى من خبره عن الملكين اللذين أتياه فشقا بطنه، واستخرجا ما فيه من الغل والدنس؛ وهو عند أمه من الرضاعة حليمة، ومن ذلك أنه كان إذا مر في طريق لا يمر - فيما ذكر - عنه بشجرٍ ولا حجر فيه إلا سلم عليه. حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن برة بنت أبي تجراة، قالت: إن رسول الله ﷺ حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتًا، ويفضى إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجرٍ ولا شجرةٍ إلا قالت: السلام عليك يا رسول الله، فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدًا. قال أبو جعفر: وكانت الأمم تتحدث بمبعثه وتخبر علماء كل أمة منها قومها بذلك؛ وقد حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة، قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيًا من ولد إسماعيل، ثم من بنى عبد المطلب ولا أراني أدركه؛ وأنا أومن به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته، فأقرئه منى السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك! قلت: هلم، قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره؛ فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك؛ ويقولون: لم يبق نبيٌ غيره. قال عامر: فلما أسلمت أخبرت رسول الله ﷺ قول زيد ابن عمرو وأقرأته منه السلام، فرد عليه رسول الله ﷺ، وترحم عليه، وقال: قد رأيته في الجنة يسحب ذيولًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن عبد الله بن كعب مولى عثمان، أنه حدث أن عمر بن الخطاب بينا هو جالس في الناس في مسجد رسول الله ﷺ؛ إذ أقبل رجلٌ من العرب داخل المسجد، يريد عمر - يعني ابن الخطاب - فلما نظر إليه عمر قال: إن الرجل لعلى شركه بعد، ما فارقه - أو لقد كان كاهنًا في الجاهلية - فسلم عليه الرجل، ثم جلس فقال له عمر: هل أسلمت؟ فقال: نعم، فقال: هل كنت كاهنًا في الجاهلية؟ فقال الرجل: سبحان الله! لقد استقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت! فقال عمر: اللهم غفرًا؛ قد كنا في الجاهلية على شرٍ من ذلك، نعبد الأصنام، ونعتنق الأوثان حتى أكرمنا الله بالإسلام. فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين؛ لقد كنت كاهنًا في الجاهلية. قال: فأخبرنا ما أعجب ما جاءك به صاحبك. قال: جاءني قبل الإسلام بشهر - أو سنة - فقال لي: " ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها! ". قال: فقال عمر عند ذلك يحدث الناس: والله إني لعند وثنٍ من أوثان الجاهلية في نفرٍ من قريش؛ قد ذبح له رجل من العرب عجلًا فنحن ننظر قسمه ليقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتًا ما سمعت صوتًا قطً أنفذ منه؛ وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه، يقول: يا آل ذريح؛ أمر نجيح، ورجلً يصيح؛ يقول: لا إله إلا الله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن ابن إٍسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب، مولى عثمان بن عفان، مثله. حدثنا الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: كنا جلوسًا عند صنم ببوانة قبل أن يبعث رسول الله ﷺ بشهر؛ نحرنا جزورًا؛ فإذا صائح يصيح من جوف واحدة: اسمعوا إلي العجب! ذهب استراق الوحي، ونرمى بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد، مهاجره إلى يثرب. قال: فأمسكنا، وعجبنا، وخرج رسول الله ﷺ. حدثني أحمد بن سنان القطان الواسطي، قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، أن رجلًا من بني عامر أتى النبي ﷺ، فقال: أرني الخاتم الذي بين كتفيك؛ فإن يك بك طبٌ داويتك، فإني أطب العرب، قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم، ادع ذاك العذق، قال: فنظر إلى عذق في نخلة، فدعاه فجعل ينقز؛ حتى قام بين يديه، قال: قل له فليرجع، فرجع، فقال العامري: يا بني عامر، ما رأيت كاليوم أسحر! قال أبو جعفر: والأخبار عن الدلالة على نبوته ﷺ أكثر من أن تحصى، ولذلك كتاب يفرد إن شاء الله. ونرجع الآن إلى: ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله ﷺ عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال جبريل عليه السلام إليه بوحيه وما تلا ذلك من الأحداث إلى وقت الهجرة قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل بعض الأخبار الواردة عن أول وقت مجيء جبريل نبينا محمدًا ﷺ بالوحي من الله، وكم كان سن النبي ﷺ يومئذ؛ ونذكر الآن صفة ابتداء جبريل إياه بالمصير إليه، وظهوره له بتنزيل ربه. فحدثني أحمد بن عثمان المعروف بأبي الجوزاء، قال: حدثنا وهب ابن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد، يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان أول ما ابتدىء به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان بغار بحراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يرجع إلى أهله، فيتزود لمثلها؛ حتى فجأه الحق، فأتاه، فقال: يا محمد، أنت رسول الله! قال رسول الله ﷺ، فجثوت لركبتي وأنا قائم، ثم زحفت ترجف بوادري، ثم دخلت على خديجة، فقلت: زملوني، زملوني! حتى ذهب عني الروع، ثم أتاني فقال: يا محمد، أنت رسول الله. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالقٍ من جبل، فتبدى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله. ثم قال: اقرأ، قلت: ما أقرأ؟ قال: فأخذني فغتنى ثلاث مرات، حتى بلغ مني الجهد، ثم قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق "، فقرأت. فأتيت خديجة. فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ ووالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، قالت: اسمع من ابن أخيلك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران، ليتني فيها جذعٌ! ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك! قلت: أمخرجي هم؟ قال: نعم؛ إنه لم يجيء رجلٌ قطُّ بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم كان أول ما نزل علي من القرآن بعد " اقرأ ": " ن، والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ، وإن لك لأجرًا غير ممنونٍ، وإنك لعلى خلق عظيمٍ، فستبصر ويبصرون "، و " يأيها المدثر، قم فأنذر "، و " والضحى، والليل إذا سجى ". حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عروة، أن عائشة أخبرته. ثم ذكر نحوه؛ غير أنه لم يقل: " ثم كان أول ما أنزل علي من القرآن ". إلى آخره. حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سليماني الشيباني، قال: حدثنا عبد الله بن شداد، قال: أتى جبريل محمدًا ﷺ، فقال: يا محمد، اقرأ؟ فقال: ما أقرأ؟ قال: فضمه، ثم قال: يا محمد، اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علقٍ " حتى بلغ " علم الإنسان ما لم يعلم "، قال: فجاء إلى خديجة، فقال: يا خديجة، ما أراني إلا قد عرض لي، قالت: كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك؛ ما أتيت فاحشةً قط، قال: فأتت خديجة ورقة بن نوفل فأخبرته الخبر، فقال: لئن كنت صادقة، إن زوجك لنبي، وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأومنن به. قال: ثم أبطأ عليه جبريل، فقالت له خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك، قال: فأنزل الله عز وجل: " والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، قال: سمعت عبد الله بن الزبير، وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله ﷺ من النبوة حين جاء جبريل عليه السلام؟ فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس: كان رسول الله ﷺ يجاور في حراء من كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية - والتحنث: التبرر - وقال أبو طالب: وراقٍ ليرقى في حراءٍ ونازل فكان رسول الله ﷺ يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين؛ فإذا قضى رسول الله ﷺ جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به - إذا انصرف من جواره - الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعًا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله عز وجل فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها؛ وذلك في شهر رمضان، خرج رسول الله ﷺ إلى حراء - كما كان يخرج لجواره - معه أهله؛ حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله ﷺ، فجاءني وأنا نائم بنمطٍ من ديباجٍ، فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلي بمثل ما صنع بي؛ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " إلى قوله: " علم الإنسان ما لم يعلم "، قال: فقرأته، قال: ثم انتهى، ثم انصرف عني وهببت من نومي؛ وكأنما كتب في قلبي كتابًا. قال: ولم يكن من خلق الله أحدٌ أبغض إلي من شاعر أو مجنون؛ كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبدًا! لأعمدن إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن. قال: فخرجت أريد ذلك؛ حتى إذا كنت في وسط من الجبل؛ سمعت صوتًا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبرئيل في صورة رجل صافً قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت؛ فما أتقدم وما أتأخر؛ وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك؛ فما زلت واقفًا ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي؛ حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي؛ حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعًا إلى أهلي؛ حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفًا فقالت: يا أبا القاسم؛ أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي. قال: قلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون، فقالت: أعيدك بالله من ذلك يا أبا القاسم! ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك! وما ذاك يا بن عم! لعلك رأيت شيئًا؟ قال: فقلت لها: نعم. ثم حدثتها بالذي رأيت؛ فقالت: أبشر يا بن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد - وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل - فأخبرته بما أخبرها به رسول الله ﷺ أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس، قدوس! والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتي يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر - يعني بالناموس جبرئيل عليه السلام الذي كان يأتي موسى - وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول اله ﷺ، فأخبرته بقول ورقة، فسهل ذلك عليه بعض ما هو فيه من الهم، فلما قضى رسول اله ﷺ جواره، وانصرف صنع كما كان يصنع، وبدأ بالكعبة فطاف بها. فلقيه ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالبيت، فقال: يا بن أخي، أخبرني بما رأيت أو سمعت، فأخبره رسول الله ﷺ، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء إلى موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه؛ ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرن الله نصرًا يعلمه. ثم أدنى رأسه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله ﷺ، إلى منزله. وقد زاده ذلك من قول ورقة ثباتًا، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهم. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، أنه حدث عن خديجة أنها قالت لرسول الله ﷺ فيما يثبته فيما أكرمه الله به من نبوته: يا بن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرئيل عليه السلام كما كان يأتيه، فقال رسول الله ﷺ لخديجة: يا خديجة هذا جبرئيل قد جاءني، فقالت: نعم، فقم يا بن عم، فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول الله ﷺ فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله ﷺ فجلس عليها، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، فتحسرت، فألقت خمارها ورسول الله ﷺ جالسٌ في حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا، فقالت: يا بن عم، اثبت وأبشر؛ فوالله إنه لملكٌ وما هو بشيطان. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثت بهذا الحديث عبد الله بن الحسن، فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني قد سمعتها تقول: أدخلت رسول الله ﷺ بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبرئيل، فقالت لرسول الله ﷺ: إن هذا لملك، وما هو بشيطان. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى - يعني ابن أبي كثير - قال: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل أول؟ فقال: " يأيها المدثر "، فقلت: يقولون: " اقرأ باسم ربك "! فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله أيٌ القرآن أنزل أول؟ فقال: " يأيها المدثر "، فقلت: " اقرأ باسم ربك الذي خلق "، فقال: لا أخبرك إلا ما حدثنا النبي ﷺ، قال: جاورت في حراء، فلما قضيت جواري، هبطت فاستنبطت الوادي، فنوديت، فنظرت عن يميني وعن شمالي، وخلفي وقدامي، فلم أر شيئًا، فنظرت فوق رأسي، فإذا هو جالسٌ على عرشٍ بين السماء والأض، فخشيت منه - قال ابن المثنى: هكذا قال عثمان بن عمر، وإنما هو " فجئثت منه " - فلقيت خديجة، فقلت: دثروني، فدثروني، وصبوا علي ماءً، وأنزل علي: " يأيها المدثر قم فأنذر ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة عن أول ما نزل من القرآن، قال: نزلت: " يأيها المدثر "، أول، قال: قلت: إنهم يقولون: " اقرأ باسم ربك الذي خلق "، فقال: سألت جابر بن عبد الله، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت فسمعت صوتًا، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، وعن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي، فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبوا علي ماءً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً باردًا، فنزلت: " يأيها المدثر ". وحدثت عن هشام بن محمد، قال: أتى جبريل رسول الله ﷺ أول ما أتاه ليلة السبت، وليلة الأحد، ثم ظهر له برسالة الله عز وجل يوم الاثنين، فعلمه الوضوء، وعلمه الصلاة، وعلمه: " اقرأ باسم ربك الذي خلق "، وكان لرسول الله ﷺ يوم الاثنين، يوم أوحي إليه أربعون سنة. حدثني أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: أخبرنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، قال: أخبرني عمر بن عروة بن الزبير، قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله، كيف علمت أنك نبي أول ما علمت، حتى علمت ذلك واستيقنت؟ قال: يا أبا ذر، أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما في الأرض والآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو، قال: فزنه برجل، فوزنت برجل فرجحته، ثم قال: زنه بعشرة، فوزنني بعشرة فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة، فوزنني بمائة فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف، فوزنني بألف فرجحتهم، فجعلوا ينتثرون على من كفة الميزان، قال: فقال: أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته رجحها. ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطني، ثم قال أحدهما: أخرج قلبه - أو قال: شق قلبه - فشق قلبي، فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم، فطرحها، ثم قال أحدهما للآخر: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الإناء - أو اغسل قلبه غسل الملاءة - ثم دعا بالسكينة، كأنها وجه هرة بيضاء فأدخلت قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخطا بطنى، وجعلا الخاتم بين كتفي، فما هو إلا أن وليا عنى فكأنما أعاين الأمر معاينة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: فتر الوحي عن رسول الله ﷺ فترةً، فحزن حزنًا شديدًا، جعل يغدو إلى رءوس شواهق الجبال ليتردى منها، فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبرئيل، فيقول: إنك نبي الله؛ فيسكن لذلك جأشه، وترجع إليه نفسه، فكان النبي ﷺ يحدث عن لك، قال: فبينما أنا أمشي يومًا، إذ رأيت الملك الذي كان يأتيني بحراء، على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبًا، فرجعت إلى خديجة، فقلت: زملوني، فزملناه - أي دثرناه - فأنزل الله عز وجل: " يأيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر "، قال الزهري: فكان أول شيء أنزل عليه: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " حتى بلغ " ما لم يعلم ". حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله ﷺ وهو يحدث عن فترة الوحي: بينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض. قال رسول الله ﷺ: فجئثت منه فرقًا، وجئت فقلت: زملوني، زملوني! فدثروني، فأنزل الله عز وجل: " يأيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر " إلى قوله: " والرجز فاهجر "، قال: ثم تتابع الوحي. قال أبو جعفر: فلما أمر الله عز وجل نبيه محمدًا ﷺ أن يقوم بإنذار قومه عقاب الله على ما كانوا عليه مقيمين من كفرهم بربهم وعبادتهم الآلهة والأصنام دون الذي خلقهم ورزقهم؛ وأن يحدث بنعمة ربه عليه بقوله: " وأما بنعمة ربك فحدث "، وذلك - فيما زعم ابن إسحاق - النبوة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " وأما بنعمة ربك فحدث "، أي ما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فحدث؛ اذكرها وادع إليها. قال فجعل رسول الله ﷺ يذكر ما أنعم الله عليه وعلى العباد به من النبوة سرًا إلى من يطمئن إليه من أهله؛ فكان أول من صدقه وآمن به واتبعه من خلق الله - فيما ذكر - زوجته خديجة رحمها الله. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال الواقدي: أصحابنا مجمعون على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله ﷺ خديجة بنت خويلد رحمها الله. قال أبو جعفر: ثم كان أول شيء فرض الله عز وجل من شرائع الإسلام عليه بعد الإقرار بالتوحيد والبراءة من الأوثان والأصناكم وخلع الأنداد الصلاة - فيما ذكر. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله ﷺ، أتاه جبرئيل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبرئيل عليه السلام، ورسول الله ﷺ ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله ﷺ كما رأى جبرئيل عليه السلام توضأ، ثم قام جبرئيل عليه السلام، فصلى به وصلى النبي ﷺ بصلاته. ثم انصرف جبرئيل عليه السلام، فجاء رسول الله ﷺ خديجة، فتوضا لها يريها كيف الطهور للصلاة؛ كما أراه جبرئيل عليه السلام، فتوضأت كما توضأ رسول الله ﷺ، ثم صلى بها رسول الله ﷺ كما صلى به جبرئيل عليه السلام، فصلت بصلاته. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المغيرة وحكام بن سلم، عن عنبسة، عن أبي هاشم الواسطي، عن ميمون بن سياه، عن أنس بن مالك، قال: لما كان حين نبىء النبي ﷺ، وكان ينام حول الكعبة، وكانت قريش تنام حولها، فأتاه ملكان: جبرئيل وميكائيل، فقالا: بأيهم أمرنا؟ فقالا: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا ثم جاءا من القبلة، وهم ثلاثة، فألفوه وهو نائم، فقلبوه لظهره، وشقوا بطنه، ثم جاءوا بماء زمزم، فغسلوا ما كان في بطنه من شك أو شرك أو جاهلية أو ضلالة، ثم جاءوا بطست من ذهب، ملئ إيمانًا وحكمة، فملىء بطنه وجوفه إيمانًا وحكمة، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبرئيل، فقالوا: من هذا؟ فقال: جبرئيل؛ فقالوا: من معك؟ فقال: محمد، قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا، فدعوا له في دعائهم، فلما دخل؛ فإذا هو برجل جسيم وسيم، فقال: من هذا يا جبرئيل؟، فقال: هذا أبوك آدم، ثم أتوا به إلى السماء الثانية، فاستفتح جبرئيل، فقيل له مثل ذلك، وقالوا في السموت كلها كما قال وقيل له في السماء الدنيا، فلما دخل، إذ برجلين، فقال: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: يحيى وعيسى ابنا الخالة، ثم أتى به السماء الثالثة، فلما دخل إذا هو برجل، قال: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا أخوك يوسف، فضل بالحسن على الناس، كما فضل القمر ليلة البدر على الكواكب، ثم أتى به السماء الرابعة، فإذا هو برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا إدريس، ثم قرأ: " ورفعناه مكانًا عليًا "، ثم أتى به السماء الخامسة، فإذا هو برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا هارون، ثم أتى به السماء السادسة، فإذا هو برجل فقال: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا موسى، ثم أتى به إلى السماء السابعة، فإذا هو برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم، ثم انطلق إلى الجنة، فإذا هو بنهر أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، بجنبتيه قباب الدر، فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، وهذه مساكنك، قال: وأخذ جبرئيل بيده من تربته، فإذا هو مسك أذفر، ثم خرج إلى سدرة المنتهى وهي سدرة نبق أعظمها أمثال الجرار، وأصغرها أمثال البيض، فدنا ربك عز وجل: " فكان قاب قوسين أو أدنى "، فجعل يتغشى السدرة من دنو ربها تبارك وتعالى، أمثال الدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ ألوان. فأوحى إلى عبده، وفهمه وعلمه وفرض عليه خمسين صلاة، فمر على موسى، فقال: ما فرض على أمتك؟ فقال: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإن أمتك أضعف الأمم قوة، وأقلها عمرًا؛ وذكر ما لقي من بني إسرائيل، فرجع فوضع عنه عشرًا، ثم مر على موسى، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف؛ كذلك حتى جعلها خمسًا، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فقال: لست براجع؛ غير عاصيك؛ وقذف في قلبه ألا يرجع، فقال الله عز وجل: " لا يبدل كلامي، ولا يرد قضائي وفرضي "، وخفف عن أمتي الصلاة لعشر. قال أنس: وما وجدت ريحًا قط ولا ريح عروس قط، أطيب ريحًا من جلد رسول الله ﷺ؛ ألزقت جلدي بجلده وشممته. قال أبو جعفر: ثم اختلف السلف فيمن اتبع رسول اله ﷺ وآمن به وصدقه على ما جاء به من عند الله من الحق بعد زوجته خديجة بنت خويلد، وصلى معه. فقال بعضهم: كان أول ذكرٍ آمن برسول الله ﷺ وصلى معه وصدقه بما جاءه من عند الله علي بن أبي طالب عليه السلام. ذكر بعض من قال ذلك ممن حضرنا ذكره حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس، قال: أول من صلى علي. حدثنا زكريا بن يحيى الضرير، قال: حدثنا عبد الحميد بن بحر، قال: أخبرنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: بعث النبي ﷺ يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم، قال: أول من أسلم مع رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب. قال: فذكرته للنخعي، فأنكره، وقال: أبو بكر أول من أسلم. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا حمزة رجلًا من الأنصار، يقول: سمعت زيد بن أرقم، يقول: أول رجل صلى مع رسول الله ﷺ علي عليه السلام. حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا العلاء، عن المنهال بن عمرو، عن عبادة بن عبد الله، قال: سمعت عليًا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفترٍ، صليت مع رسول الله ﷺ قبل الناس بسبع سنين. حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا سعيد بن خثيم، عن أسد بن عبدة البجلي، عن يحيى بن عفيف، عن عفيف، قال: جئت في الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، قال فلما طلعت الشمس وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شابٌ، فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام، فقام عن يمينه. قال: فلم يلبث حتى جاءت امرأة، فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجدًا فسجدا معه، فقلت: يا عباس، أمر عظيم! فقال: أمر عظيم! أتدري من هذا؟ فقلت: لا، قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ابن أخي. أتدري من هذا معه؟ قلت: لا، قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عبد المطلب، ابن أخي. أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟ قلت: لا، قال: خديجة بنت خويلد، زوجة ابن أخي، وهذا حدثني أن ربك رب السماء، أمرهم بهذا الذي تراهم عليه، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدًا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا محمد ابن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي، من أهل الكوفة، قال: حدثني إسماعيل بن إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده، قال: كنت امرأ تأجرًا، فقدمت أيام الحج، فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ يصلي، فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه، فقلت: يا عباس، ما هذا الدين؟ إن هذا الدين ما أدري ما هو؟ قال: هذا محمد بن عبد الله، يزعم أن الله أرسله به، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب، آمن به. قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون أربعًا! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد، قال سلمة: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى بن أبي الأشعث - قال أبو جعفر: وهو في موضع آخر من كتابي عن يحيى بن الأشعث - عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي - وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس الكندي لأمه، وكان ابن عمه - عن أبيه عن جده عفيف، قال: كان العباس ابن عبد المطلب لي صديقًا، وكان يختلف إلى اليمن، يشترى العطر فيبيعه أيام الموسم؛ فبينا أنا عند العباس بن عبد المطلب بمنى، فأتاه رجل مجتمع، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم قام يصلي، فخرجت امرأةً فتوضأت وقامت تصلي ثم خرج غلام قد راهق، فتوضأ، ثم قام إلى جنبه يصلي، فقلت: ويحك يا عباس! ما هذا؟ قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، يزعم أن الله بعثه رسولا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب قد تابعه على دينه، وهذه امرأته خديجة ابنة خويلد، قد تابعته على دينه. قال عفيف بعد ما أسلم ورسخ الإسلام في قلبه: يا ليتني كنت رابعًا! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا عيسى بن سوادة بن الجعد، قال: حدثنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو حازم المدني، والكلبي، قالوا: على أول من أسلم. قال الكلبي: أسلم وهو ابن تسع سنين. حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان أول ذكرٍ آمن برسول الله ﷺ، وصلى معه وصدقه بما جاءه من عند الله، علي بن أبي طالب؛ وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان مما أنعم الله به على علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه كان في حجر رسول الله ﷺ قبل الإسلام. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج، قال: كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، وما صنع الله له وأراده به من الخير، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيالٍ كثير؛ فقال رسول الله ﷺ للعباس عمه - وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس؛ إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله؛ آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ من بنيه رجلًا، فنكفهما عنه. قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلًا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله ﷺ عليا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرًا فضمه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب مع رسول الله ﷺ حتى بعثه الله نبيًا، فاتبعه علي فآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه. حدثنا بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ كان إذا حضرت الصلاة، خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيًا من عمه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها؛ فإذا أمسيا رجعًا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يومًا وهما يصليان، فقال لرسول الله ﷺ: يا بن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال - بعثني الله به رسولًا إلى العباد، وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه - أو كما قال. فقال أبو طالب: يا بن أخي؛ إنى لا أستطيع أن أفارق دينى ودين آبائي وما كانوا عليه؛ ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما حييت. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وزعموا أنه قال لعلي بن أبي طالب: أي بنى، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ قال: يا أبه، آمنت بالله وبرسوله وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله. فزعموا أنه قال له: أما إنه لا يدعوك إلا إلى خير، فالزمه. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أسلم عليٌ وهو ابن عشر سنين. قال الحارث: قال ابن سعد: قال الواقدي: واجتمع أصحابنا على أن عليًا أسلم بعدما تنبأ رسول الله ﷺ بسنة، فأقام بمكة اثنى عشرة سنة. وقال آخرون: أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه. ذكر من قال ذلك حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قلت لابن عباس: من أول الناس إسلامًا؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقةٍ ** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ** بعد النبي وأوفاها بما حملا الثاني التالي المحمود مشهده ** وأول الناس منهم صدق الرسلا وحدثني سعيد بن عنبسة الرازي، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس نحوه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الهيثم ابن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس نحوه. حدثنا بحر بن نصر الخولاني، قال: " حدثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، قال: حدثني أبو يحيى وضمرة بن حبيب وأبو طلحة، عن أبي أمامة الباهلي، قال: حدثني عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو نازل بعكاظ، قلت: يا رسول الله، من تبعك على هذا الأمر؟. قال: اتبعني عليه رجلان؛ حرٌ وعبد: أبو بكر وبلال، قال: فأسلمت عند ذلك، قال: فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام. حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: حدثنا صدقة، عن نصر بن علقمة، عن أخيه، عن ابن عائذ، عن جبير بن نفير، قال: كان أبو ذر وابن عبسة كلاهما يقول: لقد رأيتني ربع الإسلام، ولم يسلم قبلي إلا النبي وأبو بكر وبلال، وكلهما لا يدري متى أسلم الآخر. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: أول من أسلم أبو بكر. حدثنا أبو كريب، قال: حدنا وكيع، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: قال إبراهيم النخعي: أبو بكر أول من أسلم. وقال آخرون: أسلم قبل أبي بكر جماعة. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا كنانة بن جبلة، عن إبراهيم بن طهمان، عن الحجاج بن الحجاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد، قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلامًا؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين؛ ولكن كان أفضلنا إسلامًا. وقال آخرون: كان أول من آمن واتبع النبي ﷺ من الرجال زيد بن حارثة مولاه. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال الواقدي: حدثني ابن أبي ذئب، قال: سألت الزهري: من أول من أسلم؟ قال: من النساء خديجة، ومن الرجال زيد بن حارثة. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، عن سليمان ابن يسار، قال: أول من أسلم زيد بن حارثة. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد - يعنى ابن عمر - قال: حدثنا ربيعة بن عثمان، عن عمران بن أبي أنس مثله. وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا عبد الملك ابن مسلمة، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: أول من أسلم زيد بن حارثة. وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ فكان أول ذكرٍ أسلم، وصلى بعد علي بن أبي طالب، ثم أسلم أبي بكر بن أبي قحافة الصديق، فلما أسلم أظهر إسلامه، ودعا إلى الله عز وجل وإلى رسوله. قال: وكان أبو بكر رجلًا مألفًا لقومه، محببًا سهلًا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير أو شر، وكان رجلًا تاجرًا ذا خلق ومعروفٍ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه - فيما بلغني - عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله ﷺ حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا، فكان هؤلاء الثمانية، النفر الذين سبقوا إلى الإسلام، فصلوا وصدقوا برسول الله ﷺ وآمنوا بما جاء به من عند الله؛ ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام؛ الرجال منهم والنساء؛ حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به الناس. وقال الواقدي في ذلك ما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عنه: اجتمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله ﷺ خديجة بنت خويلد، ثم اختلف عندنا في ثلاثة نفر: في أبي بكر وعلي، وزيد بن حارثة، أيهم أسلم أول. قال: وقال الواقدي: أسلم معهم خالد بن سعيد بن العاص خامسًا، وأسلم أبو ذر، قالوا: رابعًا أو خامسًا، وأسلم عمرو بن عبسة السلمي، فيقال: رابعًا أو خامسًا. قال: فإنما اختلف عندنا في هؤلاء النفر أيهم أسلم أول، وفي ذلك روايات كثيرة. قال: فيختلف في الثلاثة المتقدمين، وفي هؤلاء الذين كتبنا بعدهم. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني مصعب بن ثابت، قال: حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن الأسود بن نوفل، قال: كان إسلام الزبير بعد أبي بكر، كان رابعًا أو خامساًا. وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن خالد بن سعيد بن العاص وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة، من خزاعة، أسلما بعد جماعة كثيرة غير الذين ذكرتهم بأسمائهم؛ أنهم كانوا من السابقين إلى الإسلام. ثم إن الله عز وجل أمر نبيه محمد ﷺ بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، ويدعوا إليه، فقال له: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " وكان قبل ذلك - في السنين الثلاث من مبعثه؛ إلى أن أمر بإظهار الدعاء إلى الله - مستسرًا مخفيًا أمره ﷺ، وأنزل عليه: " وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين، فإن عصوك فقل إني برىءٌ مما تعلمون "، قال: وكان أصحاب رسول الله ﷺ إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، فاستخفوا من قومهم؛ فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب النبي ﷺ في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون؛ حتى قاتلوهم، فاقتتلوا، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلًا من المشركين بلحى جملٍ فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام. فحدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صعد رسول الله ﷺ ذات يوم الصفا، فقال: ياصباحاه! فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال: أرأيت إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقونني! قالوا: بلى؛ قال: فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: تبًا لك! ألهذا دعوتنا - أو جمعتنا! فأنزل الله عز وجل: " تبت يدا أبي لهبٍ وتب " إلى آخر السورة. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: " وأنذر عشيرتك الأقربين "، خرج رسول الله ﷺ حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه! فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فقال: يابنى فلان، يا بنى عبد المطلب، يا بنى عبد مناف! فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: تبًا لك! ما جمعتنا إلا لهذا! ثم قام، فنزلت هذه السورة: " تبت يدا أبي لهبٍ وتب " إلى آخر السورة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ: " وأنذر عشيرتك الأقربين "، دعاني رسول الله ﷺ فقال لي: يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعًا، وعرفت أنى متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمد، إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعًا من طعام، واجعل عليه رحل شاة، واملأ لنا عسًا من لبن؛ ثم اجمع لي بنى عبد المطلب حتى أكملهم، وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به. ثد دعوتهم له؛ وهم يومئذ أربعون رجلًا، يزيدون رجلًا أو ينقصونه؛ فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب؛ فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله ﷺ حذيةً من اللحم، فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصفحة. ثم قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم، وايم الله الذي نفس علي بيده؛ وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه حتى رووا منه جميعًا، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله ﷺ أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لهدما سحركم صاحبكم! فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله ﷺ، فقال: الغد يا علي؛ إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إلي. قال: ففعلت، ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى مالهم بشيء حاجة. ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعًا، ثم تكلم رسول الله ﷺ، فقال: يا بنى عبد المطلب؛ إنى والله ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به؛ إنى قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيتي وخلفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعًا، وقلت: وإنى لأحدثهم سنًا، وأرمصهم عينًا، وأعظمهم بطنًا، وأحمشهم ساقًا؛ أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي ووصى ووخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. حدثني زكرياء بن يحيى الضرير، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، أن رجلًا قال لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، بم ورثت ابن عمك دون عمك؟ فقال علي: هاؤم! ثلاث مرات؛ حتى اشرأب الناس، ونشروا آذانهم. ثم قال: جمع رسول الله ﷺ - أو دعا رسول الله - بنى عبد المطلب منهم رهطه، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مدًا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا وبقى الطعام كما هو؛ كأنه لم يمس. قال: ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقى الشراب كأنه لم يمس ولم يشربوا. قال: ثم قال: يا بنى عبد المطلب، إنى بعثت إليكم بخاصة وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذا الأمر ما قد رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخى وصاحبي ووارثي؟ فلم يقم إليه أحدٌ، فقمت إليه - وكنت أصغر القوم - قال: فقال: اجلس، قال: ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه، فيقول لي: اجلس، حتى كان في الثالثة، فضرب بيده على يدي، قال: فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ: " وأنذر عشيرتك الأقربين "، قام رسول الله ﷺ بالأبطح، ثم قال: يا بنى عبد المطلب، يا بنى عبد مناف، يا بنى قصي - قال: ثم فخذ قريشًا قبيلة قبيلة، حتى مر على آخرهم - إنى أدعوكم إلى الله وأنذركم عذابه. حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا جارية بن أبي عمران، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال: أمر رسول الله ﷺ أن يصدع بما جاءه من عند الله، وأن يبادي الناس بأمره، وأن يدعوهم إلى الله، فكان يدعو من أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين، مستخفيًا، إلى أن أمر بالظهور للدعاء. قال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: فصدع رسول الله ﷺ بأمر الله، وبادى قومه بالإسلام، فلما فعل ذلك لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه بعض الرد - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك ناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام؛ وهم قليل مستخفون، وحدب عليه أبو طالب عمه ومنعه، وقام دونه، ومضى رسول الله ﷺ على أمر الله مظهرًا لأمره، لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش أن رسول الله ﷺ لا يعتبهم من شيء يكرهونه مما أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجالٌ من أشراف قريش إلى أبي طالب: عتبة ابن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج - أو من مشى إليه منهم - فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا؛ فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه؛ فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولًا رفيقًا، وردهم ردًا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله ﷺ على ما هو عليه؛ يظهر دين الله، ويدعو إليه. قال: ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال، وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله ﷺ بينها، وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضًا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا؛ وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو تنازله وإياك في ذلك؛ حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا. ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له؛ ولم يطب نفسًا بإسلام رسول الله ﷺ لهم ولا خذلانه. حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أن ناسًا من قريش اجتمعوا، فيهم أبو جهل ابن هشام، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث؛ في نفرٍ من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب فنكلمه فيه فلينصفنا منه، فيأمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه الذي يعبد؛ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء فتعيرنا العرب؛ يقولون: تركوه، حتى إذا مات عمه تناولوه. قال: فبعثوا رجلًا منهم يدعى المطلب، فاستأذن لهم على أبي طالب، فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، يستأذنون عليك، قال: أدخلهم؛ فلما دخلوا عليه، قالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه. قال: فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله ﷺ قال: يا بن أخي، هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، وقد سألوك النصف، أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك. قال: أي عم، أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟ قال: وإلام تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمةٍ تدين لهم العرب، ويملكون بها العرب، ويملكون بها العجم. قال: فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك؟ لنعطينكها وعشرًا أمثالها. قال: تقول: لا إله إلا الله، قال: فنفروا وتفرقوا وقالوا: سلنا غيره هذه، فقال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها! قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابى، وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا، " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيءٌ يراد "، إلى قوله: " إلا اختلاقٌ ". وأقبل على عمه فقال له عمه: يا بن أخي، ما شططت عليهم، فأٌقبل على عمه فدعاه، فقال: قل كلمة أشهد لك بها يوم القيامة، تقول: لا إله إلا الله، فقال: لو لا أن تعيبكم بها العرب، يقولون: جزع من الموت لأعطيتكها؛ ولكن على ملة الأشياخ، قال: فنزلت هذه الآية: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ". حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهطٌ من قريش، فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل؛ ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته! فبعث إليه، فجاء النبي ﷺ، فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال: فخشى أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله ﷺ مجلسًا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي! ما بال قومك يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول! قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله ﷺ، فقال: يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها عند العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله؛ فقال القوم كلمة واحدة: نعم وأبيك عشرًا. فما هي. فقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا بن أخي؟ قال: لا إله إلا الله، قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: " أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيءٌ عجابٌ ". قال: ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: " لما يذقوا عذاب ". لفظ الحديث لأبي كريب. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يعقوب ابن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدث أن قريشًا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول الله ﷺ، فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق على وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق! فظن رسول الله ﷺ أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله ﷺ: يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم استعبر رسول الله ﷺ، فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا بن أخي، فأقبل عليه رسول الله ﷺ فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا. قال: ثم إن قريشًا لما عرفت أن أبا طالب أبى خذلان رسول الله ﷺ وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك، وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له - فيما بلغني: يا أبا طالب، هذا عمارة ابن الوليد أنهد فتى في قريش وأشعره وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته، واتخذه ولدًا؛ فهو لك، وأسلم لنا ابن أخيك - هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم - فنقتله؛ فإنما رجلٌ كرجل؛ فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدًا. فقال المطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد ماف: والله يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا، فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك! أو كما قال أبو طالب. قال: فحقب الأمر عند ذلك، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضًا. قال: ثم إن قريشًا تذامروا على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله ﷺ الذين أسلموا معه. فوثبت كل قبيلةٍ على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني عبد المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله ﷺ، والقيام دونه. فاجتمعوا إليه، وقاموا معه، وأجابوا إلى ما دعاهم إليه من الدفع عن رسول الله ﷺ، إلا ما كان من أبي لهب؛ فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم معه؛ وحدبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر فضل رسول الله ﷺ فيهم؛ ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم. حدثنا علي بن نصر بن علي الجهضمي، وعبد الوارث بن عبد الصمد ابن عبد الوارث - قال علي بن نصر: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنه - يعني رسول الله ﷺ - لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له؛ حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم؛ وهم قليل؛ فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث. ثم ائتمرت رءوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله ﷺ من أهل الإسلام؛ فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله ﷺ أن يخرجوا إلى أرض الحبشة - وكان بالحبشة ملكٌ صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحدٌ بأرضه، وكان يثني عليه مع ذلك صلاح، وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغًا من الرزق، وأمنًا ومتجرًا حسنًا - فأمرهم بها رسول الله ﷺ؛ فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات؛ يشتدون على من أسلم منهم. ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم. قال: أبو جعفر: فاختلف في عدد من خرج إلى أرض الحبشة، وهاجر إليها هذه الهجرة، وهي الهجرة الأولى. فقال بعضهم: كانوا أحد عشر رجلًا وأربع نسوة. ذكر من قال ذلك حدثنا الحارث: قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، عن رجل من قومه. قال: وأخبرنا عبيد الله بن العباس الهذلي، عن الحارث بن الفضيل؛ قالا: خرج الذين هاجروا الهجرة الأولى متسللين سرًا، وكانوا أحد عشر رجلًا وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبة، منهم الراكب والماشي، ووفق الله للمسلمين ساعة جاءوا سفنتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة، من حين نبىء رسول الله ﷺ، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر؛ حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدًا. قالوا: وقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جارٍ؛ أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذي ولا نسمع شيئًا نكرهه. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني يونس بن محمد، عن أبيه، قال: وحدثني عبد الحميد، عن محمد بن يحيى بن حبان؛ قالا: تسمية القوم الرجال والنساء: عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله ﷺ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل ابن عمرو، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ابن الحارث بن زهرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم؛ معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعامر بن ربيعة العنزي، من عنز بن وائل - ليس من عنزة - حليف بنى عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى العامري، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسهيل بن بيضاء، من بنى الحارث بن فهر، وعبد الله بن مسعود حليف بنى زهرة. قال أبو جعفر: وقال آخرون: كان الذين لحقوا بأرض الحبشة، وهاجروا إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارًا وولدوا بها - اثنين وثمانين رجلا؛ إن كان عمار بن ياسر فيهم؛ وهو يشك فيه! ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رأى رسول الله ﷺ ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله وعمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة! فإن بها ملكًا لا يظلم أحدٌ عنده، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه! فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله ﷺ إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة؛ وفرارًا إلى الله عز وجل بدينهم؛ فكانت أول هجرة كانت في الإسلام؛ فكان أول من خرج من المسلمين من بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف عثمان بن عفان بن أبي العاص ابن أمية؛ ومعه امرأته رقية ابنة رسول الله ﷺ، ومن بنى عبد شمس أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو؛ أحد بنى عامر بن لؤي؛، ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصي الزبير بن العوام. فعد النفر الذين ذكرهم الواقدي؛ غير أنه قال: من بنى عامر بن لؤي ابن غالب بن فهر أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤي. قال: ويقال: هو أول من قدمها، فجعلهم ابن إسحاق عشرة؛ وقال: كان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة - فيما بلغنى. قال: ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة؛ فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل معه؛ ثم عد بعد ذلك تمام اثنين وثمانين رجلًا؛ بالعشرة الذين ذكرت بأسمائهم؛ ومن كان منهم معه أهله وولده؛ ومن ولد له بأرض الحبشة، ومن كان منهم لا أهل معه. قال أبو جعفر: ولما خرج من خرج من أصحاب رسول الله ﷺ إلى أرض الحبشة مهاجرًا إليها، ورسول الله ﷺ مقيمٌ بمكة، يدعو إلى الله سرًا وجهرًا، قد منعه الله بعمه أبي طالب وبمن استجاب لنصرته من عشيرته، ورأت قريش أنهم لا سبيل لهم إليه، رموه بالسحر والكهانة والجنون؛ وأنه شاعر، وجعلوا يصدون عنه من خافوا منه أن يسمع قوله فيتبعه؛ فكان أشد ما بلغوا منه حينئذٍ - فيما ذكر - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشًاُ أصابت من رسول الله ﷺ فيما كانت تظهر من عداوته! قال: قد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجر، فذكروا رسول الله ﷺ فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط! سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا! لقد صبرنا منه على أمر عظيم - أو كما قالوا. فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله ﷺ فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله ﷺ، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه مثلها؛ فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، ثم مر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فوقف فقال: أتسمعون يا معشر قريش! أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح! قال: فأخذت القوم كلمته؛ حتى ما منهم رجلٌ إلا كأنما على رأسه طائر واقع؛ وحتى إن أشدهم فيه وصاةً قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول؛ حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدًا، فوالله ما كنت جهولًا! قال: فانصرف رسول الله ﷺ وآله وسلم؛ حتى إذا كان الغد، اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه؛ حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه! فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله ﷺ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا! لما يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم؛ فيقول رسول الله ﷺ: نعم أنا الذي أقول ذلك؛ قال: فلقد رأيت رجلًا منهم آخذًا بجمع ردائه. قال: وقام أبو بكر الصديق دونه، يقول وهو يبكي: ويلكم! أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله! ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك أشد ما رأيت قريشًا بلغت منه قط. حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: قلت لعبد الله بن عمرو: حدثني بأشد شيء رأيت المشركين صنعوا برسول الله ﷺ. قال: أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله ﷺ عند الكعبة، فلوى ثوبه في عنقه، وخنقه خنقًا شديدًا، فقام أبو بكر من خلفه، فوضع يده على منكبه، فدفعه عن رسول الله ﷺ، ثم قال أبو بكر: يا قوم: " أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله " إلى قوله: " إن الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذابٌ " ". قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من أسلم كان واعيةً، أن أبا جهل ابن هشام مر برسول الله ﷺ، وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله ﷺ، ومولاةٌ لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك. ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادى قريش عند الكعبة، فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحًا قوسه، راجعًا من قنص له - وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة - فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله ﷺ ورجع إلى بيته، قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفًا قبل أن تأتي من أبي الحكم بن هشام! وجده هاهنا جالسًا فسبه وآذاه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج سريعًا - لا يقف على أحد كما كان يصنع - يريد الطواف بالكعبة، معدًا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبل نحوه؛ حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها ضبة فشجه بها شجةً منكرة، وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول! فرد ذلك علي إن استطعت! وقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله لقد سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا. وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله ﷺ قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن رسول الله ﷺ بعض ما كانوا ينالون منه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله ﷺ بمكة عبد الله بن مسعود، قال: اجتمع يومًا أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا: والله ما سمعت قريشٌ بهذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله ابن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك؛ إنما نريد رجلًا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، فقال: دعوني، فإن الله سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قال: " بسم الله الرحمن الرحيم " - رافعًا بها صوته - " الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان "، قال: ثم استقبلها يقرأ فيها، قال: وتأملوا وجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد! ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك! قال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن! لئن شئتم لأغادينهم غدًا بمثلها، قالوا: لا حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون. قال أبو جعفر: ولما استقر بالذين هاجروا إلى أرض الحبشة القرار بأرض النجاشي واطمأنوا، تآمرت قريشٌ فيما بينها في الكيد بمن ضوى إليها من المسلمين، فوجهوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي إلى النجاشي، مع هدايا كثيرة أهدوها إليه وإلى بطارقته، وأمروهما أن يسألا النجاشي تسليم من قبله وبأرضه من المسلمين إليهم. فشخص عمرو وعبد الله إليه في ذلك، فنفذا لما أرسلهما إليه قومهما، فلم يصلا إلى ما أمل قومهما من النجاشي، فرجعا مقبوحين، وأسلم عمر بن الخطاب رحمه الله، فلما أسلم - وكان رجلًا جلدًا جليدًا منيعًا، وكان قد أسلم قبل ذلك حمزة ابن عبد المطلب، ووجد أصحاب رسول الله ﷺ في أنفسهم قوةً، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، وحمى النجاشي من ضوى إلى بلده منهم - اجتمعت قريش، فائتمرت بينها: أن يكتبوا بينهم كتابًا يتعاقدون فيه؛ على ألا ينحكوا إلى بني هاشم وبني عبد الطلب، ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيدًا بذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلت ذلك قريش، انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش، وظاهرهم عليه، فأقاموا على ذلك من أمرهم سنتين أو ثلاثًا؛ حتى جهدوا ألا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرًا، مستخفيًا به من أراد صلتهم من قريش. وذكر أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحًا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله ﷺ ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم! والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة! فجاء أبو البختري بن هشام بن الحارث ابن أسد، فقال: مالك وله! قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعامٌ لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير، فضربه فشجه، ووطئه وطئًا شديدًا، وحمزة ابن عبد المطلب قريبٌ يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله ﷺ وأصحابه، فيشمتوا بهم، ورسول الله ﷺ في كل ذلك، يدعو قومه سرًا وجهرًا، آناء الليل وآناء النهار، والوحي عليه من الله متتابعٌ بأمره ونهيه، ووعيد من ناصبه العداوة، والحجج لرسول الله ﷺ على من خالفه. فذكر أن أشراف قومه اجتمعوا له يومًا - فيما حدثني محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن قريشًا وعدوا رسول الله ﷺ أن يعطوه مالًا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء؛ فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنةً؛ اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي! فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: " قل يأيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون " السورة وأنزل الله عز وجل: " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " إلى قوله: " بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ". حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن ميناء، مولى أبي البختري، قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله ﷺ، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرًا مما في أيدينا، كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه؛ وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما في يدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه. فأنزل الله عز وجل: " قل يأيها الكافرون "؛ حتى انقضت السورة. فكان رسول الله ﷺ حريصًا على صلاح قومه، محبًا مقاربتهم بما وجد إليه السبيل، قد ذكر أنه تمنى السبيل إلى مقارنتهم، فكان من أمره في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما رأى رسول الله ﷺ تولى قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وكان يسره مع حبه لقومه، وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم؛ حتى حدث بذلك نفسه، وتمناه وأحبه، فأنزل الله عز وجل: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى "، فلما انتهى إلى قوله: " أفرأيتم اللات والعزى، مناة الثالثة الأخرى "، ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه، ويتمنى أن يأتي به قومه: " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى "؛ فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له - والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطإ ولا وهم زلل - فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقًا لما جاء به، واتباعًا لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخًا كبيرًا، فلم يستطع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها، ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش، وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بآحسن الذكر، قد زعم فيما يتلو: " أنها الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن ترتضى " وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى اللهه عليه وسلم؛ وقيل: أسلمت قريش، فنهض منهم رجال، وتخلف آخرون، وأتى جبريل رسول الله ﷺ، فقال: يا محمد، ماذا صنعت! لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، وقلت ما لم يقل لك! فحزن رسول الله ﷺ عند ذلك حزنًا شديدًا، وخاف من الله خوفًا كثيرًا، فأنزل الله عز وجل - وكان به رحيمًا - يعزيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يك قبله نبي ولا رسول تمنى كما تمنى، ولا أحب كما أحب إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته، كما ألقى على لسانه ﷺ، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته؛ أي فإنما أنت كبعض الأنبياء والرسل، فأنزل الله عز وجل: " وما أرسلنا من قبلك رسولٍ ولا نبيٍ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليمٌ حكيمٌ "، فأذهب الله عز وجل عن نبيه الحزن، وآمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم: " أنها الغرانيق العلا وأن شفاعتهن ترتضى "، بقول الله عز وجل حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: " ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذًا قسمة ضيزى " أي عوجاء، " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " - إلى قوله - " لمن يشاء ويرضى "، أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده! فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه، قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره؛ وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عله وسلم قد وقعا في فم كل مشرك، فازداودا شرًا إلى ما كانوا عليه، وشدةً على من أسلم واتبع رسول الله ﷺ منهم، وأقبل أولئك النفر من أصحاب رسول الله ﷺ منهم الذين خرجوا من أرض الحبشة لما بلغهم من إسلام أهل مكة، حين سجدوا مع رسول الله ﷺ؛ حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلًا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار، أو مستخفيًا، فكان ممن قدم مكة منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد معه بدرًا من بني عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، عثمان بن عفان ابن أبي العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله ﷺ منهم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته سهلة بنت سهيل، وجماعة أخر معهم، عددهم ثلاثة وثلاثون رجلًا. حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول الله ﷺ في ناد من أندية قريش، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عز وجل: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى "، فقرأها رسول الله ﷺ حتى إذا بلغ: " أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة، الأخرى " ألقى الشيطان عليه كلمتين " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى " فتكلم بهما، ثم مضى فقرأ السورة كلها، فسجد في آخر السورة، وسجد القوم معه جميعًا، ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته، فسجد عليه - وكان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السجود - فرضوا بما تكلم به، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت؛ وهو الذي يخلق ويرزق؛ ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعلت لها نصيبًا فنحن معك. قالا: فلما أمسى أتاه جبرئيل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين! فقال رسول الله ﷺ: افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره " إلى قوله: " ثم لا تجد لك علينا نصيرًا "؛ فما زال مغمومًا مهمومًا، حتى نزلت: " وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍ " - إلى قوله: " والله عليمٌ حكيمٌ ". قال: فسمع من كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم، وقالوا: هم أحب إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان ثم قام - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نقضٍ الصحيفة التي كانت قريش كتبت بينها على بني هاشم وبني عبد المطلب - نفرٌ من قريش. وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن الحارث العامري، من عامر بن لؤي - وكان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه - وإنه مشى إلى زهير ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب - فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعم، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؛ لا يبايعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ور ينكح إليهم! أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم ابن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليهم منهم ما أجابك إليه أبدًا. قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع! إنما أنا رجلٌ واحد؛ والله لو كان معي رجلٌ آخر لقمت في نقضها حتى انقضها. قال: قد وجدت رجلًا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال له زهير: ابغنا ثالثًا، فذهب إلى المطعم بن عدي ابن نوفل بن عبد مناف، فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سرعًا. قال: ويحك! فماذا أصنع! إنما أنا رجلٌ واحد، قال: قد وجدت ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثًا، قال: قد فعلت، قال من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رأبعًا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحوًا مما قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك. قال: ابغنا خامسًا، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم. فاتعدوا له خطم الحجون الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم، وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أولكم يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية، عليه حلة له؛ فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة؛ أنأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبايعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، قال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق! قال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت؛ قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به! قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها؛ وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمرٌ قضى بليلٍ، وتشوور فيه بغير هذا المكان - وأبو طالب جالس في ناحية المسجد - وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها؛ فوجد الأرضة قد أكلتها؛ إلا ما كان من " باسمك اللهم "، وهي فاتحة ما كانت تكتب قريش؛ تفتتح بها كتابها إذا كتبت. قال: وكان كاتب صحيفة قريش - فيما بلغني - التي كتبوا على رسول الله ﷺ ورهطه من بني هاشم وبني المطلب، منصور بن عكرمة ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فشلت يده. وأقام بقيتهم بأرض الحبشة؛ حتى بعث فيهم رسول الله إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، فحملهم في سفينتين، فقدم بهم على رسول الله، وهو بخيبر بعد الحديبية. وكان جميع من قدم في السفينتين ستة عشر رجلًا. ولم يزل رسول الله ﷺ مقيمًا مع قريش بمكة يدعوهم إلى الله سرًا وجهرًا، صابرًا على أذاهم وتكذيبهم إياه واستهزائهم به؛ حتى إن كان بعضهم - فيما ذكر - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، ويطرحها في برمته إذا نصبت له؛ حتى اتخذ رسول الله منهم - فيما بلغني - حجرًا يستتر به منهم إذا صلى. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: كان رسول الله ﷺ يخرج بذلك إذا رمى به في داره على العود فيقف على بابه، ثم يقول: يا بنى عبد مناف، أي جوار هذا! ثم يلقيه بالطريق. ثم إن أبا طالب وخديجة هلكا في عام واحد - وذلك فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن إبن إسحاق - قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين، فعظمت المصيبة على رسول الله بهلاكهما؛ وذلك أن قريشًا وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه؛ حتى نثر بعضهم على رأسه التراب. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما نثر ذلك السفيه التراب على رأس رسول الله ﷺ، دخل رسول الله ﷺ بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب؛ وهي تبكي، ورسول الله ﷺ يقول لها: يا بنية لا تبكي؛ فإن الله مانعٌ أباك! قال: ويقول رسول اللهﷺ: ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب. ولما هلك أبو طالب خرج رسول الله ﷺ إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه؛ وذكر أنه خرج إليهم وحده؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما انتهى رسول الله ﷺ إلى الطائف عمد إلى نفرٍ من ثقيف - هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم؛ وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود ابن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير؛ وعندهم امرأة من قريش من بنى جمح، فجلس إليهم - فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاء لهم من نصرته على الإسلام. والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدًا؛ لئن كنت رسولًا من الله كما تقول؛ لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام؛ ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك! فقام رسول الله ﷺ من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف؛ وقد قال لهم - فيما ذكر لي -: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا على. وكره رسول الله ﷺ أن يبلغ قومه عنه، فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به؛ حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلةٍ من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقى من سفهاء ثقيف. وقد لقى رسول الله ﷺ - فيما ذكر لي - تلك المرأة من بنى جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك! فلما اطمأن رسول الله ﷺ قال - فيما ذكر لي: اللهم إليك أشكو صعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس؛ يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي؛ إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؛ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي! ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك. فلما رأى ابنا ربيعة: عتبة وشيبة ما لقى، تحركت له رحمهما، فدعوا له غلامًا لهما نصرانيًا؛ يقال له عدس، فقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه؛ ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله ﷺ، فلما وضع رسول الله ﷺ يده، قال: " بسم الله "، ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، قال له رسول الله ﷺ: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني، وأنا رجلٌ من أهل نينوى. فقال رسول الله ﷺ: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله ﷺ: ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله ﷺ يقبل رأسه ويديه ورجليه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه! قال: يا سيدي ما في هذه الأرض خيرٌ من هذا الرجل! لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبيٌ، فقالا: ويحك يا عداس! لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خيرٌ من دينه. ثم إن رسول الله ﷺ انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلي، فمر به نفرٌ من الجن الذين ذكر الله عز وجل. قال محمد بن إسحاق: وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين اليمن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله عز وجل خبرهم عليه: " وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن " - إلى قوله: " ويجركم من عذابٍ أليمٍ ". وقال: " قل أوحى إلي أنه استمع نفرٌ من الجن.. " إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة. قال محمد: وتسمية النفر من الجن الذين استمعوا الوحي - فيما بلغني - حسّا، ومسّا، وناصر، واينا الأرد، وأينين، والأحقم. قال: ثم قدم رسول الله ﷺ مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلًا مستضعفين ممن آمن به. وذكر بعضهم أن رسول الله ﷺ لما انصرف من الطائف مريدًا مكة مر به بعض أهل مكة، فقال له رسول الله ﷺ: هل أنت مبلغ عني رسالة أرسلك بها؟ قال: نعم، قال: ائت الأخنس ابن شريق، فقل له: يقول لك محمد: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي؟ قال: فأتاه، فقال له ذلك، فقال الأخنس: إن الحليف لا يجير على الصريح. قال: فأتى النبي ﷺ، فأخبره، قال: تعود؟ قال: نعم، قال: ائت سهيل بن عمرو، فقل له: إن محمدًا يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ فأتاه فقال له ذلك، قال: فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب. قال: فرجع إلى النبي ﷺ، فأخبره، قال: تعود؟ قال: نعم، قال: ائت المطعم بن عدي، فقل له: إن محمدًا يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ قال: نعم، فليدخل، قال: فرجع الرجل إليه، فأخبره، وأصبح المطعم ابن عدي قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه، فدخلوا المسجد، فلما رآه أبو جهل، قال: أمجيرٌ أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: فقال: قد أجرنا من أجرت، فدخل النبي ﷺ مكة؛ وأقام بها، فدخل يومًا المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة، فلما رآه أبو جهل، قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف، قال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك! فأخبر بذلك النبي ﷺ - أو سمعه - فأتاهم، فقال: أما أنت يا عتبة بن ربيعة فوالله ما حميت لله ولا لرسوله؛ ولكن حميت لأنفك، وأما أنت ياأبو جهل بن هشام؛ فوالله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلًا وتبكي كثيرًا. وأما أنتم يا معشر الملإ من قريش؛ فوالله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون، وأنتم كارهون. وكان رسول الله ﷺ يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله وإلى نصرته، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدث أبي، قال: إني لغلامٌ شابٌ مع أبي بمنىً، ورسول الله ﷺ يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به. قال: وخلفه رجلٌ أحول وضىء، له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله ﷺ من قوله، وما دعا إليه، قال الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له. قال: فقلت لأبي: يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه؛ يرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى أبو لهب بن عبد المطلب. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أن رسول الله ﷺ أتى كنده في منازلهم، وفيهم سيد لهم، يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين، أنه أتى كلبًا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه؛ حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: محمد بن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن كعب بن مالك، أن رسول الله ﷺ أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحدٌ من العرب أقبح ردًا عليه منهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم، يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك؛ أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه، فلما صدر الناس، رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم؛ قد كانت أدركته السن؛ حتى لا يقدر على أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه، حدثوه بما يكون في ذلك الموسم؛ فلما قدموا عليه ذلك العام، سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، ويدعو إلى أن نمنعه ونقوم معه؛ ونخرج به معنا إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلافٍ! هل لذناباها من مطلب! والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط! وإنها لحق، فأين كان رأيكم عنه! فكان رسول الله ﷺ على ذلك من أمره؛ كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، لا يسمع بقادم يقدم من العرب؛ له اسمٌ وشرفٌ إلا تصدى له فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده. حدثنا ابن حميد:، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الظفري، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت - أخو بني عمرو بن عوف - مكة حاجًا أو معتمرًا، قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده وشعره، ونسبه وشرفه؛ وهو الذي يقول: ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ** مقالته بالغيب ساءك ما يفرى مقالته كالشحم ما كان شاهدًا ** وبالغيب مأثور على ثغرة النحر يسرك باديه وتحت أديمه ** نميمة غشٍ تبترى عقب الظهر تبين لك العينان ما هو كاتمٌ ** ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني ** وخير الموالي من يريش ولا يبرى مع أشعار له كثيرة يقولها. قال: فتصدى له رسول الله ﷺ حين سمع به. فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، قال: فقال له سويدٌ: فلعل الذي معك مثل الذي معي! فقال له رسول الله ﷺ: وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان - فقال له رسول الله ﷺ: اعرضها علي، فعرضها عليه، فقال: إن هذا لكلام حسنٌ، معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علي، هدى ونورٌ. قال: فتلا عليه رسول الله ﷺ القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسنٌ. ثم انصرف عنه، وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج؛ فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلمٌ، وكان قتله قبل بعاث. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، أخو بني عبد الأشهل، عن محمود بن لبيد، أخي بني الأشهل، قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتيةٌ من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله ﷺ، فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم إلى خيرٍ مما جئتم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل علي الكتاب. ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ - وكان غلامًا حدثًا: أي قوم، هذا والله خيرٌ مما جئتم له. قال: فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس ابن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. قال: فصمت إياس، وقام رسول الله ﷺ عنهم وانصرفوا إلى المدينة. فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج. قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره، ويحمده ويسبحه؛ حتى مات. فما كانوا يشكون أن قد مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله ﷺ ما سمع. قال: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله ﷺ في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب؛ كما كان يصنع في كل موسم؛ فبينا هو عند العقبة إذ لقى رهطًا من الخزرج أراد الله بهم خيراٌ. قال ابن حميد، قال سلمة: قال محمد بن إسحاق فحدثني عاصم ابن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله ﷺ، قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفرٌ من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟ قالوا: بلى، قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًا الآن مبعوثٌ قد أظل زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله ﷺ أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا. ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم؛ وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه، فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله ﷺ راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا. وهم - فيما ذكر لي - ستة نفر من الخزرج: منهم من بني النجار - وهم تيم الله - ثم من بني مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخرزج ابن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد ابن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة؛ وعوف بن الحارث ابن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء. ومن بني زريق بن عامر بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم ابن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان ابن عمرو بن عامر بن زريق. ومن بني سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر؛ ثم من بني سواد، قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة. ومن بني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، عقبة ابن عامر بن نابي بن زيد بن حرام. ومن بني عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد. قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكروا لهم رسول الله ﷺ، ودعوهم إلى الإسلام؛ حتى فشا فيهم فلم تبق دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله ﷺ، حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله ﷺ على بيعه النساء؛ وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب؛ منهم من بنى النجار أسعد بن زرارة ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار؛ وهوأبو أمامة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد بنم مالك بن غنم بن مالك ابن النجار؛ وهما ابنا عفراء. ومن بني زريق بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر ابن زريق، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق. ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بنى غنم بن عوف - وهم القواقل - عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف ابن الخزرج، وأبو عبد الرحمن؛ وهو يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم ابن عمرو بن عمارة، من بنى غضينة من بلي، حليف لهم. ومن بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج عباس بن عبادة ابن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف. ومن بني سلمة، ثم من بنى حرام، عقبة بن عامر بن نابى بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة. ومن بني سواد، قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة. وشهدها من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بنى الأشهل: أبو الهيثم بن التيهان؛ اسمه مالك، حليف لهم. ومن بني عمرو بن عوف، عويم بن ساعدة بن صلعجة، حليف لهم حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، عن عبادة بن الصامت، قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى؛ وكنا اثنى عشر رجلًا، فبايعنا رسول الله ﷺ على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب؛ على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف؛ فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئًا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا؛ فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة؛ فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق؛ أن ابن شهاب ذكر عن عائذ الله بن عبد الله أبى إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت، عن النبي ﷺ مثله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فلما انصرف عنه القوم بعث معهم رسول الله ﷺ مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين؛ فكان يسمى مصعب بالمدينة: المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير؛ يريد به دار بنى عبد الأشهل، ودار بنى ظفر؛ وكان سعد بن معاذ بن النعمان ابن امرئ القيس، ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطًا من حوائط بنى ظفر، على بئر يقال لها بئر مرق؛ فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجالٌ ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل؛ وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد ابن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا، ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة منى حيث قد علمت، كفيتك ذلك؛ هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما. فأخذ أسيد بن حضير حربته. ثم أقبل إليهما؛ فلما رآه أسعد بن زارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشمتًا. فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعاءنا! اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله. ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلًا؛ إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحدٌ من قومه؛ وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته، وانصرف إلى سعد وقومه؛ وهم جلوس في ناديهم؛ فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله، لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف على النادي، قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة، قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه؛ وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، قال: فقام سعد مغضبًا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة. فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا؛ ثم خرج إليهما؛ فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني. تغشانا في دارنا بما نكره! وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب! جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت؛ ثم ركز الحربة، فجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن. قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به؛ في إشراقه وتسهله. ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين. قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدًا إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير؛ فلما رآه قومه مقبلًا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف عليهم، قال: يا بني عبد الأشهل؛ كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبةً، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة. ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف؛ وتلك أوس الله؛ وهم من أوس بن حارثة؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت؛ وهو صيفي، وكان شاعرا لهم، وقائدا يسمعون منه، ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام؛ فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة؛ ومضى بدر وأحد والخندق. قال: ثم إن مصعب بن عمير، رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك؛ حتى قدموا مكة؛ فواعدوا رسول الله ﷺ العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله من كرامته، والنصر لنبيه ﷺ وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين، أخو بنى سلمة، أن أخاه عبد الله بن كعب - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعب ابن مالك حدثه - وكان كعب ممن شهد العقبة، وبايع رسول الله ﷺ بها، قال خرجنا في حجاج قومنا، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا. فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: والله يا هؤلاء، إني قد رأيت رأيًا، والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا! قال: فقلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت ألا أدع هذه البنية منى بظهر - يعنى الكعبة - وأن أصلي إليها. قال: فقلنا: والله ما بلغنا عن نبينا أنه يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. قال: فقال: إني لمصلٍ إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل، قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام، وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة. قال: وقد عبنما عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك؛ فلما قدمنا مكة قال لي: يا بن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله ﷺ، حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنى والله لقد وقع في نفسي منه شيء؛ لما رأيت من خلافكم إياي فيه. قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله ﷺ - وكنا لا نعرفه، ولم نره قبل ذلك - فلقينا رجلًا من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله ﷺ، فقال: هل تعرفانه؟ قلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم - قال: وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرًا - قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس بن عبد المطلب، قال: فدخلنا المسجد؛ فإذا العباس جالس ورسول الله ﷺ جالس مع العباس؛ فسلمنا؛ ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله ﷺ للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه؛ وهذا كعب بن مالك - قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله ﷺ: الشاعر؟ قال: نعم - قال: فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله؛ إنى خرجت في سفري هذا؛ وقد هداني الله للإسلام، فرأيت ألا أجعل منى هذه البنية بظهر، فصليت إليها؛ وقد خالفني أصحابي في ذلك؛ حتى وقع في نفسي من ذلك شيء؛ فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: قد كنت على قبلةٍ لو صبرت عليها! فرجع البراء إلى قبلة رسول الله ﷺ، وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات؛ وليس ذلك كما قالوا:؛ نحن أعلم به منهم. قال: ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله ﷺ العقبة من أوسط أيام التشريق. قال: فلما فرغنا من الحج؛ وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله ﷺ لها؛ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام، أبو جابر، أخبرناه، وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا؛ فكلمناه؛ وقلنا له: يا أبا جابر؛ إنك سيد من سادتنا، وشريفٌ من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا. ثم دعوناه إلى الإسلام؛ وأخبرناه بميعاد رسول الله ﷺ إيانا العقبة. قال: فأسلم، وشهد معنا العقبة - وكان نقيبًا - فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ﷺ، نتسلل مستخفين تسلل القطا؛ حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة؛ ونحن سبعون رجلًا، ومعهم امرأتان من نسائهم: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي، إحدى نساء بنى سلمة؛ وهي أم منيع؛ فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله ﷺ؛ حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه؛ إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخته، ويتوثق له؛ فلما جلس كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها - إن محمدًا منا حيث علمتم؛ وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا؛ وهو في عز من قومه ومنعة في بلده؛ وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم؛ فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه؛ ومانعوه ممن خالفه؛ فأنتم وما تحملتم من ذلك؛ وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزٍ ومنعةٍ عن قومه وبلده. قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت؛ فتكلم بيا رسول الله؛ وخذ لنفسك وربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله ﷺ، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة؛ ورثناها كابرًا عن كابر. قال: فاعترض القول - والبراء يكلم رسول الله ﷺ - أبو الهيثم بن التيهان، حليف بنى عبد الأشهل، فقال: يا رسول الله؛ إن بيننا وبين الناس حبالًا وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك، وتدعنا! قال: فتبسم رسول الله ﷺ، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم! أنتم منى وأنا منكم؛ أحارب من حاربتم واسالم من سالمتم. وقد قال: رسول الله ﷺ: أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبًا؛ يكونون على قومهم بما فيهم. فأخرجوا اثنى عشر نقيبًا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن رسول الله ﷺ قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومى، قالوا: نعم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله ﷺ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، ثم أخو بنى سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس؛ فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة؛ وأشرافكم قتلا أسلمتموه؛ فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، على نهكة الأموال، وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؛ فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وأما عاصم بن عمر بن قتادة، فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليشد العقد لرسول الله ﷺ في أعناقهم. وأما عبد الله بن أبي بكر، فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي سلول، فيكون أقوى لأمر القوم. والله أعلم أي ذلك كان؛ فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يديه، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم ابن التيهان. قال ابن حميد، قال: سلمة، قال محمد: وأما معبد بن كعب بن مالك فحدثني - قال أبو جعفر: وحدثني سعيد بن يحيى بن سعيد - قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن معبد بن كعب، قال: فحدثني في حديثه عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك، قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله ﷺ البراء بن معرور؛ ثم تتابع القوم؛ فلما بايعنا رسول الله ﷺ صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم! فقال رسول الله ﷺ: ما يقول عدو الله؟ هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب؛ اسمع عدو الله؛ أما والله لأفرغن لك. ثم قال رسول الله ﷺ: ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس ابن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول الله ﷺ: لم نؤمر بذلك؛ ولكن ارجعوا إلى رحالكم، قال: فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها؛ حتى أصبحنا؛ فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج؛ إنا قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا؛ وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم؛ قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله: ما كان من هذا شيء وما علمناه. قال: وصدقوا لم يعلموا. قال: وبعضنا ينظر إلى بعض؛ وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان. قال: فقلت كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر؛ أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث، فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إلي، وقال: والله لتنتعلنهما. قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى! فاردد عليه نعليه، قال: قلت: والله لا أردهما؛ فأل والله صالح؛ والله لئن صدق الفأل لأسلبنه. فهذا حديث كعب بن مالك عن العقبة وما حضر منها. قال أبو جعفر: وقال غير ابن إسحاق: كان مقدم من قدم على النبي ﷺ للبيعة من الأنصار في ذي الحجة، وأقام رسول الله ﷺ بعدهم بمكة بقية ذي الحجة من تلك السنة، والمحرم وصفر؛ وخرج مهاجرًا إلى المدينة في شهر ربيع الأول؛ وقدمها يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت منه. وحدثني علي بن نصر بن علي، وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث - قال علي بن نصر: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة؛ أنه قال: لما رجع من أرض الحبشة من رجع منها ممن كان هاجر إليها قبل هجرة النبي ﷺ إلى المدينة، جهل أهل الإسلام يزدادون ويكثرون، وإنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناسٌ كثير، وفشا بالمدينة الإسلام؛ فطفق أهل المدينة يأتون رسول الله ﷺ بمكة، فلما رأت ذلك قريش تذامرت على أن يفتنوهم، ويشتدوا عليهم، فأخذوهم وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهد شديد، وكانت الفتنة الآخرة، وكانت فتنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم بها، وأذن لهم في الخروج إليها، وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسول الله ﷺ من المدينة سبعون نقيبًا، رءوس الذين أسلموا، فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم؛ على أنا منك وأنت منا، وعلى أنه من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك، فأمر رسول الله ﷺ أصحابه بالخروج إلى المدينة؛ وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله ﷺ أصحابه وخرج، وهي التي أنزل الله عز وجل فيها: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول - يعني قريشًا - فقالوا مثل ما ذكر كعب بن مالك من القول لهم، فقال لهم: إن هذا لأمرٌ جسيم؛ ما كان قومي ليفوتوا علي بمثل هذا وما علمته كان. فانصرفوا عنه، وتفرق الناس من منىً، فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بالحاجر، والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة ابن كعب بن الخزرج؛ وكلاهما كان نقيبًا؛ فأما المنذر فأعجز القوم، وأنا سعد فأخذوه، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة، يضربونه ويجبذونه بجمته - وكان ذا شعر كثير - فقال سعد: فوالله إني لفي أيديهم؛ إذ طلع علي نفر من قريش؛ فيهم رجلٌ أبيض وضىءٌ شعشاع حلو من الرجال. قال: قلت: إن يكن عند أحدٍ من القوم خير فعند هذا. فلما دنا ما عندهم مني رفع يديه فلطمني لطمة شديدة. قال: قلت في نفسي: والله ما عندهم بعد هذا خير. قال: فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني؛ إذ أوى إلي رجل منهم ممن معهم، فقال: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهدٌ! قال: قلت: بلى والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف تجاره، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. قال: ويحك! فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما. قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلًا من الخزج الآن يضرب بالأبطح، وإنه ليهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جوارًا، قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله إن كان ليجير تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده. قال: فجاءا فخلصا سعدًا من أيديهم وانطلق. وكان الذي لكم سعدًا سهيل ابن عمرو، أخو بني عامر بن لؤي. قال أبو جعفر: فلما قدموا المدينة، أظهروا الإسلام بها، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من أهل الشرك، منهم عمرو بن الجموح ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة، وكان ابنه معاذ بن عمرو قد شهد العقبة، وبايع رسول الله ﷺ في فتيان منهم، وبايع رسول الله ﷺ من بايع من الأوس والخزرج في العقبة الآخرة؛ وهي بيعة الحرب حين أذن الله عز وجل في القتال بشروط غير الشروط في العقبة الأولى، وأما الأولى فإنما كانت على بيعة النساء؛ على ما ذكرت الخبر به عن عبادة بن الصامت قبل؛ وكانت بيعة العقبة الثانية على حرب الأحمر والأسود على ما قد ذكرت قبل؛ عن عروة بن الزبير. وقد حدثنا ابن حميد - قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه الوليد، عن عبادة بن الصامت - وكان أحد النقباء - قال: بايعنا رسول الله ﷺ على بيعة الحرب؛ وكان عبادة من الاثنى عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى. قال أبو جعفر: فلما أذن الله عز وجل لرسوله ﷺ في القتال، ونزل قوله: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله "، وبايعه الأنصار على ما وصفت من بيعتهم، أمر رسول الله ﷺ أصحابه ممن هو معه بمكة من المسلمين بالهجرة والخروج إلى المدينة، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون فيها فخرجوا أرسالًا، وأقام رسول الله ﷺ بمكة ينتظر أن يأذن له ربه بالخروج من مكة؛ فكان أول من هاجر من المدينة والهجرة إلى المدينة من أصحاب رسول الله ﷺ من قريش، ثم من بني مخزوم، أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة رسول الله ﷺ بسنة، وكان قدم على رسول الله ﷺ بمكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجرًا. ثم كان أول من قدم المدينة من المهاجرين بعد أبي سلمة، عامر بن ربيعة، حليف بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب. ثم عبد الله ابن جحش بن رئاب، وأبو أحمد بن جحش - وكان رجلًا ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد - ثم تتابع أصحاب رسول الله ﷺ إلى المدينة أرسالا. وأقام رسول الله ﷺ بمكة بعد أصحابه من المهاجرين؛ ينتظر أن يؤذن له في الهجرة. ولم يتخلف معه بمكة أحد المهاجرين إلا أخذ فحبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة. وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسول الله ﷺ في الهجرة، فيقول له رسول اله ﷺ: لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحبًا، فطمع أبو بكر أن يكونه، فلما رأت قريش أن رسول الله ﷺ قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم، يغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارًا، وأصابوا منه منعة، فحذروا خروج رسول الله ﷺ إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع أن يلحق بهم لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة؛ وهي دار قصي بن كلاب، التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر سول الله ﷺ حين خافوه! فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج، عن ابن عباس، قال: وحدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس والحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة، ويتشاوروا فيها في أمر رسول الله ﷺ غدوا في اليوم الذي تعدوا له؛ وكان ذلك اليوم يسمى الزحمة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتٌ له، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفًا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخٌ من أهل نجد، سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى إلا يعدمكم منه رأي ونصحٌ، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم، من كل قبيلة؛ من بنى عبد شمس شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، ومن بنى نوفل ابن عبد مناف طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر ابن نوفل. ومن بنى عبد الدار بن قصي النضر بن الحارث بن كلدة. ومن بنى أسد بن عبد العزى أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام. ومن بنى مخزوم أبو جهل بن هشام، ومن بنى سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج. ومن بنى جمح أمية بن خلف؛ ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان أمره ما قد كان وما قد رأيتم؛ وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيًا؛ قال: فتشاورا. ثم قال قائلٌ منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أشابهه من الشعراء الذين قبله: زهيرًا، والنابغة ومن مضى منهم؛ من هذا الموت يصيبه منه ما أصابهم. قال: فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي؛ والله لو حبستموه - كما تقولون - لخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه؛ فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم هذا؛ ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره. ثم تشاوروا، فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا؛ فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه. فأصلحنا أمرنا، وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي؛ ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به! والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم، فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد فيه رأيًا غير هذا! قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد! قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتىً شابًا جلدًا، نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا ثم يعمدون إليه، ثم يضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها؛ فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاُ، ورضوا منتا بالعقل فعقلناه لهم. قال: فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا أرى لكم غيره. فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل رسول الله ﷺ، فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه! قال: فلما كان العتمة من الليل، اجتمعوا على بابه فترصدوه متى ينام، فيثبون عليه. فلما رأى رسول الله ﷺ مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي، واتشح ببردي الحضرمي الأخضر؛ فنم فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم. وكان رسول الله ﷺ ينام في برده ذلك إذا نام. قال أبو جعفر: زاد بعضهم في هذه القصة في هذا الموضع: وقال له: إن أتاك ابن أبي قحافة، فأخبره أنى توجهت إلى ثور، فمره فليلحق بي، وأرسل إلي بطعام، واستأجر لي دليلًا يدلني على طريق المدينة؛ واشتر لي راحلةً. ثم مضى رسول الله ﷺ، وأعمى الله أبصار الذين كانوا يرصدونه عنه، وخرج عليهم رسول الله ﷺ. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: اجتمعوا له. وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم؛ فجعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: وخرج رسول الله ﷺ، فأخذ حفنة من تراب، ثم قال: نعم، أنا أقول ذلك، أنت أحدهم. وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم؛ وهو يتلو هذه الآيات من يس: " يس، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم " إلى قوله: " وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون "، حتى فرغ رسول الله ﷺ من هؤلاء الآيات، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على راسه ترابًا؛ ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب. فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدًا، قال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلًا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون، فيرون عليًا على الفراش متسجيًا ببرد رسول الله ﷺ، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم، عليه برده؛ فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي عن الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا، فكان مما نزل من القرآن في ذلك اليوم، وما كانوا أجمعوا له: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو ليقتلوك أو ليخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "، وقول الله عز وجل: " أم يقولون شاعرٌ نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين " وقد زعم بعضهم أن أبا بكر أتى عليًا فسأله عن نبي الله ﷺ فأخبره أنه لحق بالغار من ثور، وقال: إن كان لك فيه حاجةٌ فالحقه، فخرج أبو بكر مسرعًا، فلحق نبي الله ﷺ في الطريق، فسمع رسول الله ﷺ جرس أبي بكر في ظلمة الليل، فحسبه من المشركين، فأسرع رسول الله ﷺ المشي، فانقطع قبال نعله ففلق إبهامه حجرٌ فكثر دمها، وأسرع السعي، فخاف أبو بكر أن يشق على رسول الله ﷺ، فرفع صوته، وتكلم، فعرفه رسول الله ﷺ فقام حتى أتاه، فانطلقا ورجل رسول الله ﷺ تستن دمًا؛ حتى انتهى إلى الغار مع الصبح؛ فدخلاه. وأصبح الرهط الذين كانوا يرصدون رسول الله ﷺ، فدخلوا الدار، وقام علي عليه السلام عن فراشه، فلما دنوا منه عرفوه، فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، أو رقيبًا كنت عليه! أمرتموه بالخروج فخرج؛ فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلى المسجد، فحبسوه ساعة ثم تركوه، ونجى الله رسوله من مكرهم وأنزل عليه في ذلك: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو ليقتلوك أو ليخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ". قال أبو جعفر: وأذن الله عز وجل لرسوله ﷺ عند ذلك بالهجرة، فحدثنا علي بن نصر الجهضمي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: لما خرج أصحاب رسول الله ﷺ إلى المدينة، وقبل أن يخرج - يعني رسول الله ﷺ - وقبل أن تنزل هذه الآية التي أمروا فيها بالقتال، أستأذنه أبو بكر؛ ولم يكن أمره بالخروج مع من خرج من أصحابه، حبسه رسول الله ﷺ، وقال له: أنظرني، فإنى لا أدري؛ لعلي يؤذن لي بالخروج. وكان أبو بكر قد اشترى راحلتين يعدهما للخروج مع أصحاب رسول الله ﷺ إلى المدينة؛ فلما استنظره رسول الله ﷺ، وأخبره بالذي يرجو من ربه أن يأذن له بالخروج، حبسهما وعلفهما، انتظار صحبة رسول الله ﷺ، حتى أسمنهما، فلما حبس علي خروج النبي ﷺ، قال أبو بكر: أتطمع أن يؤذن لك؟ قال: نعم؛ فانتظره فمكث بذلك. فأخبرتني عائشة، أنهم بينا هم ظهرًا في بيتهم، وليس عند أبي بكر إلا ابنتاه: عائشة وأسماء؛ إذا هم برسول الله ﷺ، حين قام قائم الظهيرة - وكان لا يخطئه يومًا أن يأتي بيت أبو بكر أول النهار وآخره - فلما رأى أبو بكر النبي ﷺ جاء ظهرًا، قال له: ما جاء بك يا نبي الله إلا أمرٌ حدث؟ فلما دخل عليهم النبي ﷺ البيت، قال لأبي بكر: أخرج من عندك، قال: ليس علينا عين إنما هما ابنتاي قال: إن الله قد أذن لي بالخروج إلى المدينة، فقال أبو بكر: يا رسول الله، الصحابة، الصحابة! قال: الصحابة. قال أبو بكر: خذ إحدى الراحلتين - وهما الراحلتان اللتان كان يعلفهما أبو بكر، ويعدهما للخروج، إذا أذن لرسوال الله ﷺ - فأعطاه إحدى الراحلتين، فقال: خذها يا رسول الله فارتحلها، فقال النبي ﷺ. قد أخذتها بالثمن، وكان عامر بن فهيرة مولدًا من مولدي الأزد، كان للطفيل ابن عبد الله بن سخبرة، وهوأبو الحارث بن الطفيل، وكان أخا عائشة بنت أبي بكر وعبد الرحمن بن أبي بكر لأمهما، فأسلم عامر بن فهيرة، وهو مملوك لهم، فاشتراه أبو بكر فأعتقه، وكان حسن الإسلام، فلما خرج النبي ﷺ وأبو بكر، كان لأبي بكر منيحةٌ من غنمٍ تروح على أهله، فأرسل أبو بكر عامرًا في الغنم إلى ثورٌ، فكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على رسول الله ﷺ بالغار في ثور، وهو الغار الذي سماه الله في القرآن، فأرسل بظهرهما رجلًا من بنى عبد بن عدي، حليفًا لقريش من بنى سهم، ثم آل العاص بن وائل؛ وذلك العدوي يومئذ مشركٌ، ولكنهما استأجراه، وهو هاد بالطريق. وفي الليالي التي مكثا بالغار كان يأتيهما عبد الله بن أبي بكر حين يمسي بكل خبر بمكة، ثم يصبح بمكة ويريح عامر الغنم كل ليلة، فيحلبان، ثم يسرح بكرة فيصبح في رعيان الناس ولا يفطن له؛ حتى إذا هدأت عنهما الأصوات، وأتاهما أن قد سكت عنهما، جاءهما صاحبهما ببعيريهما، فانطلقا وانطلق معهما بعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما، يردفه أبو بكر ويعقبه على رحله، ليس معهما أحدٌ إلا عامر بن فهيرة، وأخو بنى عدي يهديهما الطريق، فأجاز بهما في أسفل مكة، ثم مضى بهما حتى حاذى بهما الساحل، أسفل من عسفان، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد ما جاوز قديدًا، ثم سلك الخرار، ثم أجاز على ثنية المرة، ثم أخذ على طريق يقال لها المدلجة بين طريق عمق وطريق الروحاء، حتى توافوا طريق العرج، وسلك ماء يقال له الغابر عن يمين ركوبة؛ حتى يطلع على بطن رئم، ثم جاء حتى قدم المدينة على بنى عمرو بن عوف قبل القائلة. فحدثت أنه لم يبق فيهم إلا يومين - وتزعم بنو عمرو بن عوف أن قد أقام فيهم أفضل من ذلك - فاقتاد راحلته فاتبعته حتى دخل في دور بنى النجار، فأراهم رسول الله ﷺ مربدًا كان بين ظهري دورهم. وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، قال: حدثني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي ﷺ، قالت: كان رسول الله ﷺ لا يخطئه أحدٌ طرفي النهار أن يأتي بيت أبي بكر إما بكرةً، وإما عشيةً حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله بالهجرة، وبالخروج من مكة من بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله ﷺ بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله ﷺ هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل تأخر أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله ﷺ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختى أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله ﷺ: أخرج عني من عندك، قال: يا نبي الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي! قال: إن الله عز وجل قد أذن لي بالخروج والهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة. قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح؛ حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي من الفرح. ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتاي، كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أرقد - رجلًا من بني الديل بن بكر، وكانت أمه أمرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا - يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما، ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله ﷺ أحدٌ حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر؛ فأما علي بن أبي طالب فإن رسول الله ﷺ - فيما بلغني - أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله ﷺ الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله ﷺ وليس بمكة أحدٌ عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عند رسول الله ﷺ، لما يعرف من صدقه وأمانته. فلما أجمع رسول الله ﷺ للخروج أتى أبا بكر بن أبي قحافة، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور جبل في أسفل مكة، فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى بالغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما، فأقام رسول الله ﷺ في الغار ثلاثًا، ومعه أبو بكر، وجعلت قريش حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم، فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش ومعهم، ويستمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله ﷺ وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر، فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم، حتى يعفي عليه، حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ببعيريهما، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما. فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس فيها عصامٌ فحلت نطاقها، فجعلته لها عصامًا، ثم علقتها به - فكان يقال لأسماء بنت أبي بكر: ذات النطاقين؛ لذلك - فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله ﷺ، قرب له أفضلهما، ثم قال له: اركب فداك أبي وأمي! فقال رسول الله ﷺ إني لا أركب بعيرًا ليس لي، قال: فهو لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي! قال: لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا، قال: قد أخذتها بذلك، قال: هي لك يا رسول الله، فركبا فانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه يخدمهما بالطريق. حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله ﷺ وأبو بكر أتانا نفرٌ من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي! قالت: فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشًا خبيثًا - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي. قالت: ثم انصرفوا ومكثنا ثلاث ليال، لا ندري أين توجه رسول الله ﷺ؛ حتى أقبل رجل من الجن، من أسفل مكة يغني بأبيات من الشعر غناء العرب والناس يتبعونه؛ يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة، وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ** رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلاها بالهدى واغتدوا به ** فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ** ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله ﷺ، وأن وجهه إلى المدينة، وكانوا أربعه: رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أرقد دليلهما. قال أبو جعفر: حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: حدثنا هشام ابن محمد بن السائب الكلبي، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، قال: سمعت قريش قائلًا يقول في الليل على أبي قبيس: فإن يسلم السعدان يصبح محمدٌ ** بمكة لا يخشى خلاف المخالف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بكر، سعد تميم، سعد هذيم! فلما كان في الليلة الثانية سمعوه يقول: أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرًا ** ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ** على الله في الفردوس منية عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى ** جنانٌ من الفردوس ذات رفارف فلما أصبحوا، قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. قال أبو جعفر: وقدم دليلهما بهما قباء، على بني عمرو بن عوف، لثنتى عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول، يوم الاثنين حين اشتد الضحى، وكادت الشمس أن تعتدل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله ﷺ، قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله ﷺ من مكة، وتوكفنا قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا، ننتظر رسول الله ﷺ؛ فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال؛ فإذا لم نجد ظلًا دخلنا بيوتنا، وذلك في أيام حارةٍ؛ حتى إذا كان في اليوم الذي قدم فيه رسول الله ﷺ جلسنا كما كنا نجلس؛ حتى إذا لم يبق ظلٌ دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله ﷺ حين دخلنا البيوت، فكان أول من رأه رجلٌ من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع، وإن كنا ننتظر قدوم رسول الله ﷺ، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء. قال: فخرجنا إلى رسول الله ﷺ، وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر في مثل سنه وأكثرنا من لم يكن رأى رسول الله ﷺ قبل ذلك، قال: وركبه الناس، وما نعرفه من أبي بكر؛ حتى زال الظل عن رسول الله ﷺ، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك، فنزل رسول الله ﷺ - فيما يذكرون - على كلثوم بن هدم، أخي بني عمرو بن عوف، ثم أحد بني عبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة. ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن هدم: إنما كان رسول الله ﷺ إذا خرج من منزل كلثوم بن هدم، جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة؛ وذلك أنه كان عزبًا لا أهل له، وكان منازل العزاب من أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين عنده؛ فمن هنالك يقال: نزل على سعد بن خيثمة، وكان يقال لبيت سعد بن خيثمة بيت العزاب، فالله أعلم أي ذلك كان، كلا قد سمعنا. ونزل أبو بكر بن أبي قحافة على خبيب بن أساف، أخي بني الحارث ابن الخزرج بالسنح، ويقول قائل: كان منزله على خارجة بن زيد بن أبي زهير، أخي بني الحارث بن الخزرج. وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها؛ حتى أدى عن رسول الله ﷺ الودائع التي كانت عنده إلى الناس؛ حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله ﷺ، فنزل معه على كلثوم بن هدم، فكان علي يقول: وإنما كانت إقامته بقباء على امرأة لا زوج لها مسلمة، ليلةً أو ليلتين، وكان يقول: كنت نزلت بقباء على امرأة لا زوج لها مسلمة، فرأيت إنسانًا يأتيها في جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه فيعطيها شيئًا معه، قال: فاستربت لشأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئًا، ما أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك! قالت: هذا سهل بن حنيف بن واهب، قد عرف إني امرأة لا أحد لي؛ فإذا أمسى عدا علي أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، وقال: احتطبي بهذا. فكان علي بن أبي طالب يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني هذا الحديث علي بن هند بن سعد بن سهل بن حنيف، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فأقام رسول الله ﷺ بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس؛ وأسس مسجدهم، ثم أخرجه الله عز وجل من بين أظهرهم يوم الجمعة؛ وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك. والله أعلم. ويقول بعضهم: إن مقامه بقباء كان بضعة عشر يومًا. قال أبو جعفر: واختلف السلف من أهل العلم في مدة مقام رسول الله ﷺ بمكة بعد ما استنبىء، فقال بعضهم: كانت مدة مقامه بها إلى أن هاجر إلى المدينة عشر سنين. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا يحيى بن محمد بن قيس المدني - يقال له أبو زكير - قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك، أن رسول الله ﷺ بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشرًا. حدثني الحسين بن نصر الآملي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن؛ قال: أخبرتني عائشة وابن عباس، أن رسول الله ﷺ لبث بمكة عشر سنين، ينزل عليه القرآن. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا يحيى ابن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: أنزل على رسول الله ﷺ القرآن وهو ابن ثلاث وأربعين، فأقام بمكة عشرًا. حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنز ل على النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، فمكث بمكة عشرًا. حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، قال: هاجر رسول الله ﷺ على رأس عشرٍ من مخرجه. قال أبو جعفر: وقال أخرون: بل أقام بعدما استنبىء بمكة ثلاثة عشرة سنة. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد - يعني ابن سلمة -، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: أقام رسول الله ﷺ بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه. حدثني محمد بن خلف، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا أبو جمرة الضبعي، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة. حدثني محمد بن معمر، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا زكرياء ابن إسحاق، قال: حدثنا عمر بن دينار، عن ابن عباس، قال: مكث رسول الله ﷺ بمكة ثلاث عشرة سنة. حدثني عبيد بن محمد الوراق، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث النبي ﷺ لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة. قال أبو جعفر: وقد وافق قول من قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، أخي بني عدي بن النجار، في قصيدته التي يقول فيها، وهو يصف كرامة الله إياهم بما أكرمهم به من الإسلام، ونزول نبي الله ﷺ، عليهم: ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجةً ** يذكر لو يلقى صديقًا مواتيا! ويعرض في أهل المواسم نفسه ** فلم ير من يؤوى، ولم ير داعيا فلما أتانا أظهر الله دينه ** فأصبح مسرورًا بطيبة راضيا وألفى صديقًا وأطمأنت به النوى ** وكان له عونًا من الله باديا يقص لنا ما قال نوحٌ لقومه ** وما قال موسى إذ أجاب المناديا وأصبح لا يخشى من الناس واحدا ** قريبًا، ولا يخشى من الناس نائيا بذلنا له الأموال من جل مالنا ** وأنفسنا عند الوغى والتآسيا ونعلم أن الله لا شيء غيره ** ونعلم أن الله أفضل هاديا فأخبر أبو القيس في قصيدته هذه أن مقام رسول الله ﷺ في قومه قريش، كان بعدما استنبىء وصدع بالوحي من الله بضع عشرة حجة. وقال بعضهم كان مقامه بمكة خمس عشرة سنة: ذكر من قال ذلك حدثني بذلك الحارث، عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ واستشهد بهذا البيت من قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، غير أنه أنشد ذلك: ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجةً ** يذكر لو يلقى صديقًا مواتيا! قال أبو جعفر: وقد روى عن الشعبي أن إسرافيل قرن برسول الله ﷺ قبل أن يوحى إليه ثلاث سنين. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثنا الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي - قال: وحدثنا إملاءً من لفظه منصورٌ عن الأشعث، عن الشعبي - قال: قرن إسرافيل بنوة رسول الله ﷺ ثلاث سنين، يسمع حسه، ولا يرى شخصه. ثم كان بعد ذلك جبريل عليه السلام. قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار، فقال: والله يا بن أخي لقد سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة يحدثان في المسجد ورجل عراقي يقول لهما هذا، فأنكراه جميعًا، وقالا: ما سمعنا ولا علمنا إلا أن جبريل هو الذي قرن به، وكان يأتيه بالوحي من يوم نبىء إلى أن توفي ﷺ. حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عامر، قال: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشر سنين بمكة وعشر سنين بالمدينة. قال أبو جعفر: فلعل الذي قالوا: كان مقامه بمكة بعد الوحي عشرًا عدوا مقامه بها من حين أتاه جبريل بالوحي من الله عز وجل، وأظهر الدعاء إلى توحيد الله. وعد الذين قالوا: كان مقامه ثلاث عشرة سنة من أول الوقت الذي استنبىء فيه؛ وكان إسرافيل المقرون به وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة. وقد روى عن قتادة غير القولين اللذين ذكرت؛ وذلك ما حدثت عن روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: نزل القرآن على رسول الله ﷺ ثماني سنين بمكة وعشرًا بعدما هاجر، وكان الحسن يقول: عشرًا بمكة وعشرًا بالمدينة. ذكر الوقت الذي عمل فيه التأريخ قال أبو جعفر: ولما قدم رسول الله ﷺ المدينة، أمر بالتأريخ فيما قيل. حدثني زكرياء بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي سلمة، عن ابن شهاب، أن النبي ﷺ لما قدم المدينة - وقدمها في شهر ربيع الأول - أمر بالتأريخ. قال أبو جعفر: فذكر أنهم يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلى أن تمت السنة. وقد قيل أول من أمر بالتأريخ في الإسلام عمر بن الخطاب رحمه الله. ذكر الأخبار الواردة بذلك حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حبان ابن علي العنزي، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر: إنه تأتينا منك كتب ليس لها تأريخ. قال: فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله ﷺ. وقال بعضهم: لمهاجر رسول الله ﷺ، فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله ﷺ، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل. حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا خالد بن حيان أبو زيد الخراز، عن فرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، قال: رفع إلى عمر صكٌ محله في شعبان، فقال عمر: أي شعبان؟ الذي هو أت، أو الذي نحن فيه؟ قال: ثم قال لأصحاب رسول الله ﷺ: ضعوا للناس شيئًا يعرفونه، فقال: بعضهم: اكتبوا على تأريخ الروم، فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين؛ فهذا يطول. وقال بعضهم: اكتبوا على تأريخ الفرس؛ فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح من كان قبله؛ فاجتمع رأيهم على أن ينظزوا: كم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة؟ فوجدوه عشر سنين؛ فكتب التأريخ من هجرة رسول الله ﷺ. حدثت عن أمية بن خالد وأبي داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي، عن محمد بن سيرين، قال: قام رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا؟ قال: شيء تفعله الأعاجم، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر بن الخطاب: حسنٌ، فأرخوا. فقالوا: من أي السنين نبدأ؟ قالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته؛ ثم أجمعوا على الهجرة. ثم قالوا: فأي الشهور نبدأ؟ فقالوا: رمضان، ثم قالوا المحرم، فهو منصرف الناس من حجهم؛ وهو شهرٌ حرام، فأجمعوا على المحرم. حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثني سعيد بن أبي مريم. وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا أبي، قالا جميعًا: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل ابن سعد، قال: ما أصاب الناس العدد؛ ما عدوا من مبعث رسول الله ﷺ، ولا من وفاته، ولا عدوا إلا من مقدمه المدينة. حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله ﷺ المدينة، وفيها ولد عبد الله بن الزبير. حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا يعقوب ابن إسحاق بن أبي عباد؛ قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو ابن دينار، عن ابن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم رسول الله ﷺ فيها، فذكر مثله. حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا نوح بن قيس الطاحي، عن عثمان بن محصن، أن ابن عباس كان يقول في: " والفجر وليالٍ عشرٍ "، قال: الفجر هو المحرم، فجر السنة. حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق؛ عن الأسود بن يزيد، عن عبيد بن عمير، قال: إن المحرم شهر الله عز وجل، وهو رأس السنة، فيه يكسى البيت، ويؤرخ التأريخ، ويضرب فيه الورق، وفيه يوم كان تاب فيه قوم، فتاب الله عز وجل عليهم. حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، أن أول من أرخ الكتب يعلى بن أمية، وهو باليمن، وأن النبي ﷺ قدم المدينة في شهر ربيع الأول، وأن الناس أرخوا لأول السنة؛ وإنما أرخ الناس لمقدم النبي ﷺ. وقال علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري. وعن محمد ابن صالح، عن الشعبي، قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم عليه السلام إلى بنيان البيت، حين بناه إبراهيم وإسماعيل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت؛ حتى تفرقت، فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة، بني زيد، من تهامة؛ حتى مات كعب بن لؤي، فأرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل؛ فكان التأريخ من الفيل، حتى أرخ عمر ابن الخطاب من الهجرة؛ وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة. حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم، فقال: من أي يوم نكتب؟ فقال علي عليه السلام: من يوم هاجر رسول الله ﷺ، وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه. قال أبو جعفر: وهذا الذي رواه علي بن مجاهد، عمن رواه عنه في تأريخ بني إسماعيل غير بعيد من الحق؛ وذلك أنهم لم يكونوا يؤرخون على أمر معروف يعمل به عامتهم، وإنما كان المؤرخ منهم يؤرخ بزمان قحمة كانت في ناحية من نواحي بلادهم، ولزبةٍ أصابتهم؛ أو بالعامل كان يكون عليهم، أو الأمر الحادث فيهم ينتشر خبره عندهم؛ يدل على ذلك اختلاف شعرائهم في تأريخاتهم؛ ولو كان لهم تأريخ على أمرٍ معروف، وأصلٍ معمول عليه، لم يختلف ذلك منهم. ومن ذلك قول الربيع بن ضبع الفزاري: هأنذا آمل الخلود وقد ** أدرك عقلي ومولدي حجرا أبا امرئ القيس هل سمعت به ** هيهات هيهات طال ذا عمرا! فأرخ عمره بحجر بن عمرو أبي امرئ القيس. وقال نابغة بني جعدة: فمن يك سائلًا عني فإني ** من الشبان أزمان الخنان فجعل النابغة تأريخه ما أرخ بزمان علة كانت فيهم عامة. وقال آخر: وما هي إلا في إزارٍ وعلقةٍ ** مغار ابن همامٍ على حي خثعما فكل واحد من هؤلاء الذين ذكرت تأريخهم في هذه الأبيات، أرخ على قرب زمان بعضهم من بعض، وقرب وقت ما أرخ به من وقت الآخر؛ بغير المعنى الذي أرخ به الآخر؛ ولو كان لهم تأريخ معروف كما للمسلمين اليوم ولسائر الأمم غيرها، كانوا إن شاء الله لا يتعدونه؛ ولكن الأمر في ذلك كان عندهم إن شاء الله على ما ذكرت؛ فأما قريش من بين العرب؛ فإن آخر ما حصلت من تأريخها قبل هجرة النبي ﷺ من مكة إلى المدينة على التأريخ بعام الفيل؛ وذلك عام ولد رسول الله ﷺ، وكان بين عام الفيل والفجار عشرون سنة، وبين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة، وبين بناء الكعبة ومبعث النبي ﷺ خمس سنين. قال أبو جعفر: وبعث رسول اله ﷺ وهو ابن أربعين سنة، وقرن بنبوته - كما قال الشعبي - ثلاث سنين: إسرافيل؛ وذلك قبل أن يؤمر بالدعاء وإظهاره على ما قدمنا الرواية والإخبار به، ثم قرن بنبوته جبريل عليه السلام بعد السنين الثلاث، وأمره بإظهار الدعوة إلى الله، فأظهرها، ودعا إلى الله مقيمًا بمكة عشر سنين، ثم هاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول من سنة أربع عشرة من حين استنبئ، وكان خروجه من مكة إليها يوم الاثنين، وقدومه المدينة يوم الاثنين؛ لمضى اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول. حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد النبي ﷺ يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة يوم الاثنين، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول. قال أبو جعفر: فإذا كان الأمر في تأريخ المسلمين كالذي وصفت، فإنه وإن كان من الهجرة، فإن ابتداءهم إياه قبل مقدم النبي ﷺ المدينة بشهرين وأيام؛ هي اثنا عشر؛ وذلك أن أول السنة المحرم، وكان قدوم النبي ﷺ المدينة، بعد مضي ما ذكرت من السنة، ولم يؤرخ التأريخ من وقت قدومه؛ بل من أول تلك السنة. ذكر ما كان من الأمور المذكورة في أول سنة من الهجرة قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا وقت مقدم النبي ﷺ المدينة، وموضعه الذي نزل فيه حين قدمها، وعلى من كان نزوله، وقدر مكثه في الموضع الذي نزله، وخبر إرتحاله عنه. ونذكر الآن ما لم نذكر قبل مما كان من الأمور المذكورة في بقية سنة قدومه؛ وهي السنة الأولى من الهجرة. فمن ذلك تجميعه ﷺ بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء؛ وذلك أن ارتحاله عنها كان يوم الجمعة عامدًا المدينة، فأدركته الصلاة، صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، ببطن واد لهم - قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجدًا - فيما بلغني - وكانت هذه الجمعة، أول جمعة جمعها رسول الله ﷺ في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة؛ وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل. خطبة رسول الله ﷺ في أول جمعة جمعها بالمدينة حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، أنه بلغه عن خطبة رسول الله ﷺ في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف: " الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاع من الزمان ودنوٍ من الساعة، وقربٍ من الأجل؛ من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصمها فقد غوى وفرط؛ وضل ضلالًا بعيدًا. وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم؛ أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرًا؛ وإن تقوى الله لمن عمل به على وجلٍ ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرًا في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد. والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول عز وجل: " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلامٍ للعبيد ". فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجرًا، ومن يتق الله فقد فاز فوزًا عظيمًا. وإن تقوى الله يوقي مقته، ويوقي عقوبته، ويوقي سخطه، وأن تقوى الله يبيض الوجوه، ويرضي الرب، ويرفع الدرجة. خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله؛ قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه؛ الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العظيم!. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن رسول الله ﷺ ركب ناقته، وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمر بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلها إلى النزول عندهم، وقالوا له: هلم يا رسول الله! إلى العدد والعدة والمنعة؛ فيقول لهم ﷺ: خلوا زمامها فإنها مأمورة؛ حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده؛ وهو يومئذ مربدٌ لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء؛ يقال لأحدهما سهل وللآخر سهيل، ابنا عمرو بن عباد بن ابن ثعلبة ابن غنم بن مالك بن النجار. فلما بركت لم ينزل عنها رسول الله ﷺ، ثم وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله ﷺ واضعٌ لها زمامها لا يثنيها به؛ ثم التفتت خلفها، ثم رجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه ووضعت جرانها، ونزل عنها رسول الله ﷺ، فاحتمل أبو أيوب رحله، فوضعه في بيته، فدعته الأنصار إلى النزول عليهم، فقال رسول الله ﷺ: المرء مع رحله. فنزل على أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب، في بني غنم بن النجار. قال أبو جعفر: وسأل رسول الله ﷺ عن المربد لمن هو؟ فأخبره معاذ بن عفراء، وقال: هو ليتيمين لي، سأرضيهما. فأمر به رسول الله ﷺ أن يبنى مسجدًا، ونزل على أبي أيوب، حتى بنى مسجده ومساكنه. وقيل: إن رسول الله ﷺ اشترى موضع مسجده، ثم بناه. والصحيح عندنا في ذلك، ما حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك، قال: كان موضع مسجد النبي ﷺ لبني النجار، وكان فيه نخل وحرث وقبورٌ من قبور الجاهلية، فقال لهم رسول الله ﷺ: ثامنوني به، فقالوا: لا نبتغيه به ثمنًا إلا ما عند الله، فأمر رسول الله ﷺ بالنخل فقطع، وبالحرث فأفسد، وبالقبور فنبشت، وكان رسول الله ﷺ قبل ذلك يصلي في مرابض الغنم، وحيث أدركته الصلاة. قال أبو جعفر: وتولى بناء مسجده ﷺ هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار. وفي هذه السنة بني مسجد قباء. وكان أول من توفي بعد مقدمه المدينة من المسلمين - فيما ذكر - صاحب منزله كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرًا حتى مات. ثم توفي بعده أسعد بن زرارة في سنة مقدمه، أبو أمامة. وكانت وفاته قبل أن يفرغ رسول الله ﷺ من بناء مسجده، بالذبحة والشهقة. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد إبن إسحاق. حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن؛ أن رسول الله ﷺ قال: بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب! يقولون: لو كان محمد نبيًا لم يمت صاحبه؛ ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئًا. وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس، أن النبي ﷺ كوى أسعد ابن زرارة من الشوكة. قال ابن حميد، قال سلمة، عن إبن إسحاق، قال: حدثني عاصم ابن عمر بن قتادة الأنصاري أنه لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله ﷺ - وكان أبو أمامة نقيبهم - فقالوا: يا رسول الله؛ إن هذا الرجل قد كان منا حيث قد علمت؛ فاجعل منا رجلًا مكانه، يقيم من أمرنا ما كان يقيمه، فقال لهم رسول الله ﷺ: أنتم أخوالي وأنا منكم؛ وأنا نقيبكم. قال: وكره رسول الله ﷺ أن يخص بها بعضهم دون بعض؛ فكان من فضل بني النجار الذي تعد على قومهم، أن رسول الله ﷺ كان نقيبهم. وفي هذه السنة مات أبو أحيحة بماله بالطائف. ومات الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي فيها بمكة. وفيها بنى رسول الله ﷺ بعائشة بعد مقدمها المدينة بثمانية أشهر؛ في ذي القعدة في قول بعضهم، وفي قول بعضٍ: بعد مقدمه المدينة بسبعة أشهر، في شوال، وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة وهي ابنة ست سنين، وقد قيل: تزوجها وهي ابنة سبع. حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن عبد الرحمن بن أبي الضحاك، عن رجل من قريش، عن عبد الرحمن بن محمد، أن عبد الله بن صفوان وآخر معه أتيا عائشة، فقالت عائشة: يا فلان؛ أسمعت حديث حفصة؟ قال لها: نعم يا أم المؤمنين، قال لها عبد الله بن صفوان: وما ذاك؟ قالت: خلالٌ في تسع لم تكن في أحدٍ من النساء إلا ما آتى الله مريم بنت عمران؛ والله ما أقول هذا فخرًا على أحد من صواحبي، قال لها: وما هن؟ قالت: نزل الملك بصورتي، وتزوجني رسول الله ﷺ لسبع سنين، وأهديت إليه لتسع سنين، وتزوجني بكرًا لم يشركه في أحدٌ من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في لحاف واحد، وكنت من أحب الناس إليه، ونزل فيَّ آيةٌ من القرآن كادت الأمة أن تهلك، ورأيت جبريل ولم يراه أحد من نسائه غيري، وقبض في بيتي لم يله أحدٌ غير الملك وأنا. قال أبو جعفر: وتزوجها رسول الله ﷺ - في ما قيل - في شوال، وبنى بها حين بنى بها في شوال. ذكر الرواية بذلك حدثنا ابن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله ﷺ في شوال، وبنى بي في شوال. وكانت عائشة تستحب أن يبنى بالنساء في شوال. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة عن عروة، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله ﷺ في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله كانت أحظى عنده مني! وكانت عائشة تستحب أن يدخل بالنساء في شوال. قال أبو جعفر: وقيل: إن رسوال الله ﷺ بنى بها في شوال يوم الأربعاء في منزل أبي بكر بالسنح. وفي هذه السنة بعث النبي ﷺ إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة، زيد بن حارثة وأبا رافع، فحملاهن من مكة إلى المدينة. ولما رجع - فيما ذكر - عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكان أبيه أبي بكر، فخرج عبد الله بعيال أبيه إليه، وصحبهم طلحة بن عبيد الله، معهم أم رومان، وهي أم عائشة؛ وعبد الله بن أبي بكر حتى قدموا المدينة. وفي هذه السنة زيد في صلاة الحضر - فيما قيل - ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين؛ وذلك بعد مقدم رسول الله ﷺ المدينة بشهر، في ربيع الآخر، لمضي اثنتي عشرة ليلة منه، زعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه. وفيها - في قول بعضهم - ولد عبد الله بن الزبير. وفي قول الواقدي: ولد في السنة الثانية من مقدم رسول الله ﷺ المدينة في شوال. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر الواقدي: ولد ابن الزبير بعد الهجرة بعشرين شهرًا بالمدينة. قال أبو جعفر: وكان أول مولودٍ ولد من المهاجرين في دار الهجرة، فكبر - فيما ذكر - أصحاب رسول الله ﷺ حين ولد؛ وذلك أن المسلمين كانوا قد تحدثوا أن اليهود يذكرون أنهم قد سحروهم فلا يولد لهم؛ فكان تكبيرهم ذلك سرورًا منهم بتكذيب الله اليهود فيما قالوا من ذلك. وقيل: إن أسماء بنت أبي بكر، هاجرت إلى المدينة وهي حاملٌ به. وقيل أيضًا: إن النعمان بن بشير ولد في هذه السنة؛ وإنه أول مولد ولد للأنصار بعد هجرة النبي ﷺ إليهم؛ وأنكر ذلك الواقدي أيضًا. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا الواقدي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، عن جده، قال: كان أول مولود من الأنصار النعمان بن بشير؛ ولد بعد الهجرة بأربعة عشر شهرًا، فتوفي رسول الله ﷺ وهو ابن ثماني سنين، أو أكثر قليلًا. قال: وولد النعمان قبل بدر بثلاثة أشهر أو أربعة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، قال: ذكر النعمان بن بشير عند ابن الزبير، فقال: هو أسن مني بستة أشهر. قال أبو الأسود: ولد ابن الزبير على رأس عشرين شهرًا من مهاجر رسول الله ﷺ، وولد النعمان على رأس أربعة عشر شهرًا في ربيع الآخر. قال أبو جعفر: وقيل: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي وزياد ابن سمية فيها ولدا. قال: وزعم الواقدي أن رسول الله ﷺ عقد في هذه السنة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره، لحمزة بن عبد المطلب لواءً أبيض في ثلاثين رجلًا من المهاجرين ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقى أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فحجز بينهم مجدي بن عمر الجهني فافترقوا، ولم يكن بينهم قتال. وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد. وأن رسول الله ﷺ عقد أيضًا في هذه السنة، على رأس ثمانية أشهر من مهاجره في شوال، لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف لواء أبيض وأمره بالمسير إلى بطن رابغ، وأن لواءه كان مع مسطح بن أثاثة، فبلغ ثنية المرة - وهي بناحية الجحفة - في ستين من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري؛ وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له أحياء؛ فكان بينهم الرمي دون المسايفة. قال: وقد اختلفوا في أمير السرية؛ فقال بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب، وقال بعضهم: كان مكرز بن حفص. قال الواقدي: ورأيت الثبت على أبي سفيان بن حرب، وكان في مائتين من المشركين. قال: وفيها عقد رسول الله ﷺ لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار لواءً أبيض يحمله المقداد بن عمرو في ذي القعدة. وقال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: خرجت في عشرين رجلًا على أقدامنا - أو قال: واحد وعشرين رجلًا - فكنا نكمن النهار، ونسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح خامسةٍ؛ وكان رسول الله ﷺ، قد عهد إلي إلا أجاوز الخرار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم، وكانوا ستين، وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين. قال أبو جعفر: وقال ابن إسحاق في أمر كل هذه السرايا التي ذكرت عن الواقدي قوله فيها غير ما قاله الواقدي، وأن ذلك كله كان في السنة الثانية من وقت التاريخ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتى عشرة ليلة مضت منه، فأقام بها ما بقي من شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجماديين ورجب وشعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة - وولى تلك الحجة المشركون - والمحرم. وخرج في صفر غازيًا على رأس اثنى عشر شهرًا من مقدمه المدينة، لثنتى عشرة ليلةٍ مضت من شهر ربيع الأول؛ حتى بلغ ودان؛ يريد قريشًا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ ويه غزوة الأبواء، فوادعته فيها بنو ضمرة؛ وكان الذي وادعه منهم عليهم سيدهم كان في زمانه ذلك مخشى بن عمرو، رجل منهم. قال: ثم رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة، ولم يلق كيدًا، فأقام بها بقية صفر وصدرًا من شهر ربيع الأول. وبعث في مقامه ذلك عبيدة بن الحارث بن المطلب في ثمانين أو ستين راكبًا من المهاجرين؛ ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، حتى بلغ أحياء ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقى بها جمعًا عظيمًا من قريش؛ فلم يكن بينهم قتال؛ إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم؛ فكان أول سهم رمي به في الإسلام. ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حاميةٌ، وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر حليف بني نوفل بن عبد مناف - وكانا مسلمين؛ ولكنهما خرجا يتوصلان بالكفار إلى المسلمين - وكان على ذلك الجمع عكرمة بن أبي جهل. قال محمد: فكانت راية عبيدة - فيما بلغني - أول راية عقدها رسول الله ﷺ في الإسلام لأحد من المسلمين. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وبعض العلماء يزعم أن رسول الله ﷺ كان بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة. قال: وبعث حمزة بن عبد المطلب في مقامه ذلك إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبًا من المهاجرين؛ وهي من أرض جهينة ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، فلقى أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، فكان موادعًا للفريقين جميعًا، فانصرف القوم بعضهم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال. قال: وبعض القوم يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله ﷺ لأحد من الملسمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة بن الحارث كانا معًا، فشبه ذلك على الناس. قال: والذي سمعنا من أهل العلم عندنا أن راية عبيدة بن الحارث كانت أول راية عقدت في الإسلام. قال: ثم غزا رسول الله ﷺ في شهر ربيع الآخر، يريد قريشًا، حتى إذا بلغ بواط من ناحية رضوى رجع ولم يلق كيدًا، فلبث بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأول. ثم غزا يريد قريشًا، فسلك على نقب بني دينار بن النجار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها، فثم مسجده. وصنع له عندها طعامٌ فأكل منه وأكل الناس معه، فموضع أثا في البرمة معلوم هنالك. واستقى له ماء به يقال له المشيرب. ثم ارتحل فترك الخلائق بيسار، وسلك شعبة يقال لها شعبة عبد الله - وذلك اسمها اليوم - ثم صب ليسار، حتى هبط يليل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة؛ واستقى له من بئر بالضبوعة. ثم سلك الفرش؛ فرش ملل، حتى لقى الطريق بصخيرات اليمام. ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة. ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدًا. وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب ما قال. قال: فلم يقم رسول الله ﷺ حين قدم من غزوة العشيرة بالمدينة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله ﷺ في طلبه، حتى بلغ واديًا يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه؛ وهي غزو بدر الأولى؛ ثم رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجب وشعبان. وقد كان بعث فيما بين ذلك سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط. وزعم الواقدي أن في هذه السنة - أعني السنة الأولى من الهجرة - جاء أبو قيس بن الأسلت رسول الله ﷺ، فعرض عليه رسول الله ﷺ الإسلام، فقال: ما أحسن ما تدعو إليه! أنظر في أمري، ثم أعود إليك. فلقيه عبد الله بن أبي، فقال له: كرهت والله حرب الخزرج! فقال أبو قيس: لا أسلم سنة؛ فمات في ذي القعدة. ثم كانت السنة الثانية من الهجرة فغزا رسول الله ﷺ - في قول جميع أهل السير - فيها، في ربيع الأول بنفسه غزوة الأبواء - ويقال ودان - وبينهما ستة أميال هي بحذائها؛ واستخلف رسول الله ﷺ على المدينة حين خرج إليها سعد بن عبادة بن دليم. وكان صاحب لوائه في هذه الغزاة حمزة بن عبد المطلب، وكان لواؤه - فيما ذكر - أبيض. وقال الواقدي: كان مقامه بها خمسة عشرة ليلة، ثم قدم المدينة. قال الواقدي: ثم غزا رسول الله ﷺ في مائتين من أصحابه؛ حتى بلغ بواط في شهر ربيع الأول؛ يعترض لعيرات قريش، وفيها أمية بن خلف ومائة رجلٍ من قريش وألفان وخمسمائة بعير. ثم رحع ولم يلق كيدًا. وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد ابن معاذ في غزوته هذه. قال: ثم غزا في ربيع الأول في طلب كرزين بن جابر الفهري في المهاجرين، وكان قد أغار على سرح المدينة، وكان يرعى بالجماء فاستاقه، فطلبه رسول الله ﷺ حتى بلغ بدرًا فلم يلحقه؛ وكان يجمل لواءه علي بن أبي طالب عليه السلام. واستخلف على المدينة زيد بن حارثة. غزوة ذات العشيرة قال: وفيها خرج رسول الله ﷺ يعترض لعيرات قريش حتى أبدأت إلى الشام في المهاجرين - وهي غزوة ذات العشيرة - حتى بلغ ينبع؛ واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد؛ وكان يحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب. فحدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يزيد بن خثيم؛ عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: حدثنا أبوك يزيد بن خثيم، عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي رفيقي مع رسول الله ﷺ في غزوة العشيرة، فنزلنا منزلًا فرأينا رجالًا من بني مدلج يعملون في نخل لهم، فقلت: لو انطلقنا! فنظرنا إليهم كيف يعملون، فانطلقنا فنظرنا إليهم ساعةً، ثم غشينا النعاس، فعمدنا إلى صور من النخل؛ فنمنا تحته في دقعاء من التراب، فما أيقظنا رسول الله ﷺ، أتانا وقد تتربنا في ذلك التراب؛ فحرك عليًا برجله، فقال: قم يا أبا تراب؛ ألا أخبرك بأشقى الناس؟ أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا - يعني قرنه - فيخضب هذ منها؛ وأخذ بلحيته. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن محمد بن خثيم المحاربي، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خثيم - وهو أبو يزيد - عن عمار بن ياسر، قال: كنت أنا وعلي رفيقين، فذكر نحوه. وقد قيل في ذلك غير هذا القول؛ وذلك ما حدثني به محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، قال: قيل لسهل بن سعد: إن بعض أمراء المدينة يريد أن يبعث إليك أن تسب عليًا عند المنبر، قال: أقول ماذا؟ قال: تقول: أبا تراب، قال: والله ما سماه بذلك إلا رسول الله ﷺ، قال: قلت: وكيف ذلك يا أبا العباس؟ قال: دخل علي على فاطمة، ثم خرج من عندها، فاضطجع في فيء المسجد. قال: ثم دخل رسول الله ﷺ على فاطمة، فقال لها: أين ابن عمك؟ فقالت: هو ذاك مضطجع في المسجد، قال: فجاءه رسول الله ﷺ؛ فوجده قد سقط رادؤه عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره، ويقول: اجلس أبا تراب. فوالله ما سماه به إلا رسول الله ﷺ؛ ووالله ما كان اسمٌ أحب إليه منه!. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة في صفر، لليال بقين منه، تزوج علي بن أبي طالب عليه السلام فاطمة رضي الله عنها؛ حدثت بذلك، عن محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر. سرية عبد الله بن حجش قال أبو جعفر الطبري: ولما رجع رسول الله ﷺ من طلب كرز بن جابر الفهري إلى المدينة، وذلك في جمادى الآخرة، بعث في رجب عبد الله بن جحش معه ثمانية رهط من المهاجرين؛ ليس فيهم من الأنصار أحدٌ؛ فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الزهري ويزيد بن رومان؛ عن عروة بن الزبير، بذلك. وأما الواقدي فإنه زعم أن رسول الله ﷺ بعث عبد الله ابن جحش سريةً في اثني رجلًا من المهاجرين. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة، قال: وكتب رسول الله ﷺ له كتابًا - يعني لعبد الله بن جحش - وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين؛ ثم ينظر فيه فيمضي له أمره به، ولا يستكره أحدًا من أصحابه، فلما سار عبد الله ابن حجش يومين، فتح الكتاب، ونظر فيه، فإذا فيه: " وإذا نظرت في كتابي هذا؛ فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف؛ فترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم ". فلما نظر عبد الله في الكتاب، قال: سمعٌ وطاعةٌ؛ ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ﷺ أن أمضي إلى نخلة، فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم؛ فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع؛ فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله ﷺ. فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز؛ حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران، أضل سعد بن وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا عليه في طلبه. ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة من تجارة قريش فيها، منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة. فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن - وقد كان حلق رأسه - فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم؛ وذلك في آخر يوم من رجب؛ فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم؛ فليمتنعن به منكم؛ ولئن قتلتموهم في الشهر الحرام. فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم؛ ثم تشجعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين؛ حتى قدموا على رسول الله ﷺ بالمدينة. قال: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش، أن عبد الله بن جحش، قال لأصحابه: إن لرسول الله ﷺ مما غنمتم الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله من الغنائم الخمس - فعزل لرسول الله ﷺ خمس الغنيمة، قسم سائرها بين أصحابه؛ فلما قدموا على رسول الله ﷺ، قال: ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام. فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا. فلما قال ذلك رسول الله ﷺ سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم المسلمون فيما صنعوا. وقال لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به، وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش: قد استحل محمدٌ وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. فقال من يرد ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان. وقالت اليهود: تفاءل بذلك على رسول الله ﷺ: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله " عمرو " عمرت الحرب، و " الحضرمي " حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب؛ فجعل الله عز وجل ذلك عليهم لا لهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله عز وجل على رسوله ﷺ: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه.. " الآية. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله ﷺ العير والأسيرين. وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الحكم بن كيسان، فقال رسول الله ﷺ: لا نفذيكموهما؛ حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد ابن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما؛ فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، ففاداهما رسول الله ﷺ منهم؛ فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله ﷺ حتى قتل في بئر معونة شهيدًا. قال أبو جعفر: وخالف في بعض هذه القصة محمد بن إسحاق والواقدي جميعًا السدي؛ حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد؛ قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌ عن سبيل الله "؛ وذلك أن رسول الله ﷺ بعث سرية وكانوا سبعة نفر؛ عليهم عبد الله بن جحش الأسدي وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي؛ حليف لعمر بن الخطاب. وكتب مع ابن جحش كتابًا وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل؛ فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب؛ فإذا فيه: أن سر حتى تنزل بطن نخلة؛ فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص؛ فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله ﷺ. فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعبتة بن غزوان، أضلا راحلة لهما، فأتيا بحران يطلبانها، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة؛ فإذا هو بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي؛ فاقتتلوا، فأسروا الحكم بن كيسان وعبد الله بن المغيرة، وانفلت المغيرة، وقتل عمرو بن الحضرمي، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أول غنيمة غنهما أصحاب محمد ﷺ. فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا من الأموال؛ أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين، فقال النبي ﷺ: حتى ننظر ما فعل صاحبانا! فلما رجع سعد وصاحبه فادى بالأسيرين، ففجر عليه المشركون، وقالوا: محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب! فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى - وقيل في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رجب؛ فأنزل الله عز وجل يعير أهل مكة: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ.. " الآية. قال أبو جعفر: وقد قيل إن النبي ﷺ كان انتدب لهذا المسير أبا عبيدة بن الجراح، ثم بدا له فيه، فندب له عبد الله بن جحش. ذكر الخبر بذلك حدثنا محمد بن عبد الأعلى؛ حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل عن أبي السوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله ﷺ أنه بعث رهطًا، فبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح؛ فلما أخذ لينطلق بكى صبابةً إلى رسول الله ﷺ، فبعث رجلًا مكانه يقال له عبد الله جحش، وكتب له كتابًا وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا: " ولا تكرهن أحدًا من أصحابك على السير معك ". فلما قرأ الكتاب استرجع، ثم قال: سمعًا وطاهة لأمر الله ورسوله! فخبرهم بالخبر؛ وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم من رجب أو من جمادى! فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهرالحرام! فأتوا النبي ﷺ، فحدثوه الحديث، فأنزل الله عز وجل: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه " إلى قوله: " والفتنة أكبر من القتل "، الفتنة هي الشرك. وقال بعض الذين - أظنه قال -: كانوا في السرية: والله ما قتله إلا واحدٌ؛ فقال: إن خيرًا فقد وليت، وإن يكن ذنبًا فقد علمت. ذكر بقية ما كان في السنة الثانية من سني الهجرة من ذلك ما كان من صرف الله عز وجل قبلة المسلمين من الشأم إلى الكعبة، وذلك في السنة الثانية من مقدم النبي ﷺ المدينة في شعبان. واختلف السلف من العلماء في الوقت الذي صرفت فيه من هذه السنة؛ فقال بعضهم - وهم الجمهور الأعظم: صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرًا من مقدم رسول الله ﷺ المدينة. ذكر من قال ذلك حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمر بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: كان الناس يصلون قبل بيت المقدس؛ فلما قدم النبي ﷺ المدينة على رأس ثمانية عشر شهرًا من مهاجره، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر، وكان يصلي قبل بيت المقدس؛ فنسختها الكعبة، وكان النبي ﷺ يحب أن يصلي قبل الكعبة، فأنزل الله عز وجل: " قد نرى تقلب وجهك في السماء.. "، الآية. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرًا من مقدم رسول الله ﷺ المدينة. وحدثت عن ابن سعد، عن الواقدي مثل ذلك. وقال: صرفت القبلة في الظهر يوم الثلاثاء للنصف من شعبان. قال أبو جعفر: وقال آخرون: إنما صرفت القبلة إلى الكعبة لستة عشر شهرًا مضت من سني الهجرة. ذكر من قال ذلك حدثنا المثنى بن إبراهيم الآملي، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا همام بن يحيى، قال: سمعت قتادة، قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس، ورسول الله ﷺ بمكة قبل الهجرة، وبعد ما هاجر رسول الله ﷺ صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول: استقبل النبي ﷺ بيت المقدس ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي ﷺ، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله عز وجل: " قد نرى تقلب وجهك في السماء.. " الآية. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة فرض - فيما ذكر - صوم رمضان. وقيل: إنه فرض في شعبان منها. وكان النبي ﷺ حين قدم المدينة، رأى يهود تصوم يوم عاشوراء؛ فسألهم فأخبروه أنه اليوم الذي غرق الله فيه آل فرعون، ونجى موسى ومن معه منهم؛ فقال: نحن أحق بموسى منهم، فصام وأمر الناس بصومه، فلما فرض صوم شهر رمضان، لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه. وفيها أمر الناس بإخراج زكاة الفطر. وقيل إن النبي ﷺ خطب الناس قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، وأمرهم بذلك. وفيها خرج إلى المصلى فصلى بهم صلاة العيد؛ وكان ذلك أول خرجةٍ خرجها بالناس إلى المصلى لصلاة العيد. وفيها - فيما ذكر - حملت العنزة له إلى المصلى فصلى إليها، وكانت للزبير بن العوام - كان النجاشي وهبها له - فكانت تحمل بين يديه في الأعياد، وهي اليوم فيما بلغني عند المؤذنين بالمدينة. وفيها كانت وقعة بدر الكبرى بين رسول الله صلى عليه وسلم والكفار من قريش؛ وذلك في شهر رمضان منها. ثم اختلفوا في اليوم الذي فيه كانت الحرب بينه وبينهم، فقال بعضهم: كانت وقعة بدر يوم تسعة عشر من شهر رمضان. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود، قال: التمسوا ليلة القدر في تسع عشرة ليلةً من رمضان؛ فإنها ليلة بدر. حدثنا محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حجير الثعلبي، عن الأسود عن عبد الله، قال: التمسوا ليلة القدر في تسع عشرة من رمضان، فإن صبيحتها كانت صبيحة بدر. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد بن محمد المحاربي، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، عن زيد، أنه كان لا يحيي ليلةً من شهر رمضان كما يحيى ليلة تسع عشرة وثلاث وعشرين، ويصبح وجهه مصفرًا من أثر السهر، فقيل له، فقال: إن الله عز وجل فرق في صبحيتها بين الحق والباطل. وقال آخرون: كانت يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن حجير، عن الأسود وعلقمة، أن عبد الله بن مسعود، قال: التمسوها في سبع عشرة. وتلا هذه الآية: " يوم التقى الجمعان "، يوم بدر، ثم قال: أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين. حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قل: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا الثوري، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال: كانت بدر صبيحة تسع عشرة من رمضان. حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبدالله مثله. قال الحارث: قال ابن سعد، قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح، فقال: هذا أعجب الأشياء؛ ما ظننت أن أحدًا من أهل الدنيا شك في هذا؛ إنها صبيحة سبع عشرة من رمضان، يوم الجمعة. قال محمد بن صالح: وسمعت عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان؛ يقولان ذلك. قال لي محمد بن صالح: يا بن أخي، وما تحتاج إلى تسمية الرجال في هذا! هذا أبين من ذلك؛ ما يجهل هذا النساء في بيوتهن. قال الواقدي: فذكرته لعبد الرحمن بن أبي الزناد، فقال: أخبرني أبي، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، أنه كان يحيى ليلة سبع عشرة من شهر رمضان؛ وإنن كان ليصبح وعلى وجهه أثر السهر، ويقول: فرق الله في صبحيتها بين الحق والباطل، وأعز في صبحها الإسلام، وأنزل فيها القرآن، وأذل فيها أئمة الكفر. وكانت وقعة بدر يوم الجمعة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى ابن واضح، قال: حدثني يحيى بن يعقوب أبو طالب، عن أبي عون محمد ابن عبيد الله الثقفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب، قال: قال قال الحسن بن علي بن أبي طالب: كانت ليلة الفرقان يوم التقى، الجمعان، لسبع عشرة من رمضان. وكان الذي هاج وقعة بدر وسائر الحروب التي كانت بين رسول الله ﷺ وبين مشركي قريش - فيما قال عروزة بن الزبير - ما كان من قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي. ذكر وقعة بدر الكبرى حدثنا علي بن نصر بن علي، وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث - قال علي: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن وعروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك كتبت إلى في أبي سفيان ومخرجه، تسألني كيف كان شأنه؟ كان من شأنه أن أبا سفيان بن حرب أقبل من الشام في قريب من سبعين راكبًا من قبائل قريش كلها، كانوا تجارًا بالشام، فأقبلوا جميعًا معهم أموالهم وتجارتهم، فذكروا لرسول الله ﷺ وأصحابة؛ وقد كانت الحرب بينهم قبل ذلك، فقتلت قتلى، وقتل ابن الحضرمي في ناس بنخلة، وأسرت أسارى من قريش؛ فيهم بعض بني المغيرة، وفيهم ابن كيسان مولاهم، أصابهم عبد الله بن جحش وواقد حليف بني عدي بن كعب، في ناسٍ من أصحاب رسول الله ﷺ بعثهم مع عبد الله بن جحش، وكانت تلك الوقعة هاجت الحرب بين رسول الله ﷺ وبين قريش، وأول ما أصاب به بعضهم بعضًا من الحرب، وذلك قبل مخرج أبي سفيان وأصحابه إلى الشأم. ثم إن أبا سفيان أقبل بعد ذلك ومن معه من ركبان قريش مقبلين من الشأم، فسلكوا طريق الساحل، فلما سمع بهم رسول الله ﷺ ندب أصحابه وحدثهم بما معهم من الأموال، وبقلة عددهم، فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب معه؛ لا يرونها إلا غنيمة لهم؛ لا يظنون أن يكون كبير قتال إذا لقوهم، وهي التي أنزل الله عز وجل فيها: " وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ". فلما سمع أبو سفيان أن أصحاب رسول الله ﷺ معترضون له، بعث إلى قريش: إن محمدا وأصحابه معترضون لكم، فأجيروا تجارتكم. فلما أتى قريشًا الخبر - وفي عير أبي سفيان؛ من بطون كعب ابن لؤي كلها - نفر لها أهل مكة؛ وهي نفرة بني كعب بن لؤي، ليس فيها من بني عامر أحدٌ إلا من كان من بني مالك بن حسل؛ ولم يسمع بنفرة قريش رسول الله ﷺ ولا أصحابه؛ حتى قدم النبي ﷺ بدرًا - وكان طريق ركبان قريش، من أخذ منهم طريق الساحل إلى الشأم - فخفض أبو سفيان عن بدر ولزم طريق الساحل، وخاف الرصد على بدر وسار النبي ﷺ، حتى عرس قريبًا من بدر، وبعث النبي ﷺ الزبير بن العوام في عصابة من أصحابه إلى ماء بدر، وليسوا يحسبون أن قريشًا خرجت لهم، فبينا النبي ﷺ قائم يصلي؛ إذا ورد بعد روايا قريش ماء بدر وفيمن ورد من الروايا غلام لبني الحجاج أسود؛ فأخذه النفر الذي بعثهم النبي ﷺ مع الزبير إلى الماء، وأفلت بعض أصحاب العبد نحو قريش، فأقبلوا به حتى أتوا به رسول الله ﷺ وهو في معرسه، فسألوه عن أبي سفيان وأصحابه؛ لا يحسبون إلا أنه معهم، فطفق العبد يحدثهم عن قريش ومن خرج منها، وعن رءوسهم، ويصدقهم الخبر، وهو أكره شيء إليهم الخبر الذي يخبرهم؛ وإنما يطلبون حينئذ بالركب أبا سفيان وأصحابه، والنبي ﷺ يصلي؛ يركع ويسجد ويرى ويسمع ما يصنع بالعبد، فطفقوا إذا ذكر لهم أنها قريش جاءتهم ضربوه وكذبوه وقالوا: إنما تكتمنا أبا سفيان وأصحابه؛ فجعل العبد إذا أذلقوه بالضرب وسألوه عن أبي سفيان وأصحابه - وليس لهم بهم علم؛ إنما هو من روايا قريش - قال: نعم، هذا أبو سفيان والركب حينئذ أسفل منهم؛ قال الله عز وجل: " إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم " - حتى بلغ - " أمرًا كان مفعولًا "، فطفقوا إذا قال لهم العبد: هذه قريش قد أتتكم ضربوه، وإذا قال لهم: هذا أبو سفيان تركوه. فلما رأى صنيعهم النبي ﷺ انصرف من صلاته وقد سمع الذي أخبرهم فزعموا أن رسول الله ﷺ، قال: والذي نفسي بيده، إنكم لتضربونه إذا صدق وتتركونه إذا كذب! قالوا: فإنه يحدثنا أن قريشًا قد جاءت، قال: فإنه قد صدق؛ قد خرجت قريش تجير ركابها، فدعا الغلام فسأله فأخبره بقريش، وقال: لا علم لي بأبي سفيان، فسأله: كم القوم؟ فقال: لا أدري؛ والله هم كثير عددهم. فزعموا أن النبي ﷺ، قال: من أطعمهم أول من أمس؟ فسمى رجلًا أطعمهم، فقال: كم جزائر نحر لهم؟ قال: تسع جزائر، قال فمن أطعمهم أمس؟ فسمى رجلًا، فقال كم نحر لهم؟ قال: عشر جزائر؛ فزعموا أن النبي ﷺ قال: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف. فكان نفرة قريش يومئذ خمسين وتسعمائة. فانطلق النبي ﷺ فنزل الماء وملأ الحياض، وصف عليها أصحابه، حتى قدم عليه القوم، فلما ورد رسول الله ﷺ بدرًا قال: هذه مصارعهم؛ فوجدوا النبي ﷺ قد سبقهم إليه ونزل عليه. فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي ﷺ قال: هذه قريش قد جاءت بجلبتها وفخرها؛ تحادك وتكذب رسولك! اللهم إني أسألك ما وعدتني. فلما أقبلوا استقبلهم، فحثا في وجوههم التراب؛ فهزمهم الله. وكانوا قبل أن يلقاهم النبي ﷺ قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه: أن ارجعوا - والركب الذين يأمرون قريشًا بالرجعة بالجحفة - فقالوا: والله لا نرجع حتى ننزل بدرًا، فنقيم فيه ثلاث ليال، ويرانا من غشينا من أهل الحجاز؛ فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا. وهم الذين قال الله عز وجل: " الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس "؛ فالتقوا هم والنبي ﷺ، ففتح الله على رسوله، وأخزى أئمة الكفر وشفى صدور المسلمين منهم. حدثني هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقداد، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي عليه السلام، قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها، فاجتويناها، وأصابنا بها وعكٌ، وكان رسول الله ﷺ يتخبر عن بدر؛ فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله ﷺ إلى بدر - وبدر بئر - فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجلٌ من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط؛ فأما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير، شديدٌ بأسهم؛ فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى رسول الله ﷺ فقال له: كم القوم؟ فقال: هم والله كثير، شديد بأسهم، فجهد النبي أن يخبره كم هم، فأبى. ثم أن رسول الله ﷺ سأله: كم ينحرون من الجزر؟ فقال: عشرًا كل يوم، قال رسول الله ﷺ: القوم ألف. ثم إنه أصابنا من الليل طشٌ من المطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله ﷺ يدعو ربه: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله! فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله ﷺ، وحرض على القتال، ثم قال: إن جمع قريش عند هذه الضلعة من الجبل. فلما أن دنا القوم منا وصاففناهم، إذ رجلٌ من القوم على جمل أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله ﷺ: يا علي، ناد لي حمزة - وكان أقربهم إلى المشركين -: من صاحب الجمل الأحمر؟ وماذا يقول لهم؟ وقال رسول الله ﷺ: إن يكن في القوم من يأمر بالخير، فعسى ان يكون صاحب الجمل الأحمر، فجاء حمزة، فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: إني أرى قومًا مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير؛ يا قوم اعصبوها اليوم برأسي، وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، ولقد علمتم أني لست بأجبنكم. قال: فسمع أبو جهل فقال: أنت تقول هذا! والله لو غيرك يقول هذا لعضضته! لقد ملئت رئتك وجوفك رعبًا، فقال عتبة: إياي تعير يا مصفر استه! ستعلم اليوم أينا أجبن! قال: فبرز عتبة بن ربيعة وأخوه شبية بن ربيعة، وابنه الوليد، حميةً، فقالوا: من يبارز؟ فخرج فتية من الأنصار ستة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء؛ ولكن يبارزنا من بنى عمنا من بنى عبد المطلب. فقال رسول الله ﷺ: يا علي قم، يا حمزة قم، يا عبيدة بن الحارث قم، فقتل الله عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة بن الحارث؛ فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا منهم سبعين. قال: فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال: يا رسول الله؛ والله ما هذا أسرني، ولكن أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهًا، على فرس أبلق، ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته، فقال رسول الله ﷺ: لقد آزرك الله بملكٍ كريم. قال علي: فأسر من بني عبد المطلب العباس وعقيل ونوفل بن الحارث. حدثني جعفر بن محمد البزوري، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي، قال: لما أن كان يوم بدر، وحضر البأس اتقينا برسول اله، فكان من أشد الناس بأسًا وما كان منا أحدٌ أقرب إلى العدو منه. حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي، قال: سمعته يقول: ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير مقداد بن الأسود؛ ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائمٌ، إلا رسول الله ﷺ قائمًا إلى شجرة يصلي، ويدعو حتى الصبح. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: إن رسول الله ﷺ سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلًا من الشام في عيرٍ لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم؛ وفيها ثلاثون راكبًا من قريش - أو أربعون - منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام ابن سعيد بن سهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان؛ عن عروة وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث؛ فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله ﷺ بأبي سفيان مقبلًا من الشأم، ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم؛ وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حربًا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان تخوفًا على أموال الناس؛ حتى أصاب خبرًا، من بعض الركبان؛ أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك. فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس ويزيد ابن رومان، عن عروة، قال: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم علي ما أحدثك به قال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبًا أقبل على بعيرٍ له حتى وقف بالأبطح. ثم صرخ بأعلى صوته: أن انفروا با آل غدر لمصارعكم في ثلاث! فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينا هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بأعلى صوته بمثلها: أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث! ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقى بيت من بيوت مكة، ولا دارٌ من دورها إلا دخلت منها فلقة. قال العباس: والله إن هذه الرؤيا رأيت فاكتميها ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة - وكان له صديقًا - فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث؛ حتى تحدثت به قريش في أنديتها. قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعودٌ يتحدثون برؤيا عاتكة؛ فلما رآني أبو جهل، قال: يا أبا الفضل؛ إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا. قال: فلما فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية! قال: قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأت عاتكة، قال: قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم، حتى تنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث! فسنتربص بكم هذه الثلاث؛ فإن يكن ما قالت حقًا فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيتٍ في العرب. قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئًا. قال: ثم تفرقنا؛ فلما أمسيت لم تبق امرأةٌ من بني المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع؛ ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت! قال: قلت: قد والله فعلت؛ ما كان مني إليه من كبيرٍ، وايم الله لأتعرضن له؛ فإن عاد لأكفينكموه. قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمرٌ أحب أن أدركه منه. قال: فدخلت المسجد فرأيته؛ فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به - وكان رجلًا خفيفًا حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر - إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال: قلت: في نفسي: ما له لعنه الله! أكل هذا فرقًا من أن أشائمه! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع؛ صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، قد جدع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث! قال: فشغلني عنه شغله عني ما جاء من الأمر. فتجهز الناس سراعًا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي! كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلًا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أِشرافها أحدٌ؛ إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجزى عنه بعثه، فخرج عنه وتخلف أبو لهب. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود، وكان شيخًا جليلًا ثقيلًا، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهري قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به! قال: ثم تجهز مع الناس، فلما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا السير؛ ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر؛ فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعثم المدلجي - وكان من أشراف كنانة - فقال: أنا جارٌ لكم من أن يأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعًا. قال أبو جعفر: وخرج رسول الله ﷺ - فيما بلغني عن غير ابن إسحاق - لثلاث ليال خلون من شهر رمضان في ثلثمائة وبضعة عشر رجلًا من أصحابه؛ فاختلف في مبلغ الزيادة على العشرة. فقال بعضهم، كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلًا. ذكر من قال ذلك حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتحدث أن أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت، ثلثمائة رجل وثلاثة عشر رجلًا؛ الذين جاوزوا النهر؛ فسكت. حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أبو مالك الجنبي، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلًا؛ وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلًا، وكان صاحب راية رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب عليه السلام، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة. وقال آخرون: كانوا ثلثمائة رجل وأربعة عشر، من شهد منهم، ومن ضرب بسهمه وأجره؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وقال بعضهم: كانوا ثلثمائة وثمانية عشر. وقال آخرون: كانوا ثلثمائة وسبعة. وأما عامة السلف، فإنهم قالوا: كانوا ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلًا. ذكر من قال ذلك حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، وحدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قالا: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر - ولم يجز معه إلا مؤمن - ثلثمائة وبضعة عشر. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي ﷺ كانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلًا، على عدة أصحاب طالوت؛ من جاز معه النهر؛ وما جاز معه إلا مؤمنٌ. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي؛ عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء، بنحوه. حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد ابن المغيرة، عن مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: عدة أهل بدر عدة أصحاب طالوت. حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت، وكان أصحاب نبي الله ﷺ يوم بدر ثلثمائةً وبضعة عشر رجلًا. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: خلص طالوت في ثلثمائة وبضعة عشر رجلًا؛ عدة أصحاب بدر. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كان مع النبي ﷺ يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلًا. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وخرج رسول الله ﷺ في أصحابه، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار، في ليالٍ مضت من شهر رمضان؛ فسار حتى إذا كان قريبًا من الصفراء، بعث بسبس بن عمرو الجهني، حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر، يتحسسان له الأخبار عن أبي سفيان بن حرب وعيره، ثم ارتحل رسول الله ﷺ، وقد قدمهما؛ فلما استقبل الصفراء - وهي قرية بين جبلين - سأل عن جبليهما: ما أسماءهما؟ فقالوا لأحدهما: هذا مسلح؛ وقالوا للآخر: هذا مخرىء، وسأل عن أهلهما، فقالوا: بنو النار وبنو حراق بطنان من بني غفار، فكرههما رسول الله ﷺ والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهاليهما؛ فتركهما والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران؛ فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل. وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي ﷺ الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك؛ والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون "؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله ﷺ خيرًا، ودعا له بخير. حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى، قال: حدثنا المخارق، عن طارق، عن عبد الله بن مسعود، قال: لقد شهدت من المقداد مشهدًا لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما في الأرض من شيء؛ كان رجلًا فارسًا، وكان رسول الله ﷺ إذا غضب احمارت وجنتاه، فأتاه المقداد على تلك الحال، فقال، أبشر يا رسول الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أن وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون "، ولكن والذي بعثك بالحق لنكونن من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، أو يفتح الله لك. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. ثم قال رسول الله ﷺ: أشيروا علي أيها الناس - وإنما يريد الأنصار؛ وذلك أنهم كانوا عدد الناس؛ وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله؛ إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا؛ نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا؛ فكان رسول الله ﷺ يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته؛ إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم - فلما قال ذلك رسول الله ﷺ، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا؛ على السمع والطاعة، فامضي يا رسول الله لما أردت؛ فوالذي بعثك بالحق إن اسعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك؛ ما تخلف منا رجلٌ واحد؛ وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا! إن لصبرٌ عند الحرب؛ صدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك؛ فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله ﷺ بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله، وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين؛ والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. ثم ارتحل رسول الله ﷺ من ذفران، فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط منها على بلد يقال لها الدبة، وترك الحنان بيمين؛ - وهو كثيب عظيم كالجبل - ثم نزل قريبًا من بدر، فركب هو ورجلٌ من أصحابه - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان - حتى وقف على شيخ من العرب؛ فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما! فقال له رسول الله ﷺ: إذا أخبرتنا أخبرناك؛ فقال: وذاك بذاك! قال: نعم، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدقني الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به رسول الله ﷺ - وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا؛ فإن كان الذي حدثني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به قريش - فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله ﷺ: نحن من ماء، ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماءٍ، أمن ماء العراق! ثم رجع رسول الله ﷺ إلى أصحابه؛ فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، في نفرٍ من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر عليه - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال، حدثنا محمد بن إسحاق، كما حدثني يزيد بن رومان، عن عرورة بن الزبير - فأصابوا راويةً لقريش فيها أسلم؛ غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بني العاص بني سعيد؛ فأتوا بهما رسول الله ﷺ، ورسول الله ﷺ قائم يصلي؛ فسألوهما، فقالا: نحن سقاة قريش؛ بعثونا لنسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله ﷺ، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما! صدقا والله! إنهما لقريش؛ أخبراني: أين قريش؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب: العقنقل - فقال رسول الله ﷺ لهما: كم القوم؟ قالا: كثيرٌ، قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، قال رسول الله ﷺ: القوم ما بين التسعمائة والألف. ثم قال لهما رسول الله ﷺ: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قال: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث بن كلدة، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل ابن هشام، وأمية بن خلف ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله ﷺ على الناس، فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها. قالوا: وقد كان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء مضيا حتى نزلا بدرًا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنًا يستقيان فيه - ومجدى بن عمرو الجهنى على الماء - فسمع عدى وبسبس جاريتين من جواري الحاضر؛ وهما تتلازمان على الماء؛ والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدًا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك. قال: مجدى: صدقت، ثم خلص بينهما؛ وسمع ذلك عدى وبسبس، فجلسا على بعيرهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله ﷺ، فأخبراه بما سمعا. وأقبل أبو سفيان قد تقدم العير حذرًا حتى ورد الماء، فقال لمجدى بن عمرو: هل أحسست أحدًا؟ قال: ما رأيت أحدًا أنكره؛ إلا أنى رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما؛ ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته؛ فإذا فيه نوى. فقال: هذه والله علائف يثرب! فرجع إلى أصحابه سريعًا، فضربة وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدرًا يسارًا، ثم انطلق حتى أسرع. وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة ابن عبد المطلب بن عبد مناف رؤيا؛ فقال: إنى رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرسٍ حتى وقف ومعه بعيرٌ له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان؛ فعدد رجالًا ممن قتل يومئذ من أشراف قريش؛ ورأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقى خباء من أخبية العسكر. إلا أصابة نضحٌ من دمه. قال: فبلغت أبا جهل، فقال: وهذا أيضًا نبيٌ من بني المطلب؛ سيعلم غدًا من المقتول إن نحن التقينا! ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم؛ فقد نجاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل ابن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا - وكان بدرٌ موسمًا من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوقٌ كل عام - فنقيم عليه ثلاثًا، وننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب؛ فلا يزالون يهابوننا أبدًا؛ فامضوا. فقال الأخنس بن شريق ين عمرو بن وهب الثقفي - وكان حلفيًا لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة؛ قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل؛ وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جنبها وارجعوا، فإنه لا حاجة بكم في أن تخرجوا في غير ضيعةٍ؛ لا ما يقول هذا - يعني أبا جهل - فرجعوا؛ فلم يشهدها زهريٌ واحدٌ، وكان فيهم مطاعًا. ولم يكن بقي من قريش بطن إلا نفر منهم ناس، إلا بني عدي بن كعب، لم يخرج منهم رجلٌ واحدٌ، إلا فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدرًا من هاتين القبيلتين أحدٌ. ومضى القوم. قال: وقد كان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد. فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع. قال أبو جعفر: وأما ابن الكلبي؛ فإنه قال فيما حدثت عنه: شخص طالب بن أبي طالب إلى بدر مع المشركين، أخرج كرهًا. فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى، ولم يرجع إلى أهله، وكان شاعرًا؛ وهو الذي يقول: يارب إنما يغزون طالب ** في مقنبٍ من هذه المقانب فليكن المسلوب غير السالب ** وليكن المغلوب غير الغالب رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي؛ خلف العقنقل، وبطن الوادي وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلقه قريش، والقلب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة، وبعث الله السماء، وكان الوادي دهسًا، فأصاب رسول الله ﷺ وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض؛ ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشًا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه؛ فخرج رسول الله ﷺ يبادروهم إلى الماء؛ حتى إذا جاء أدنى من بدر نزل به. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثت عن رجال من بني سلمة؛ أنهم ذكروا أن الحباب ابن المنذر بن الجموح، قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلٌ أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؛ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى الماء من القوم فننزله، ثم نعور ما سواه من القلب، ثم نبني عليه حوضًا فتملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله ﷺ: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله ﷺ ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم، فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فعورت، وبني حوضًا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله نبني لك عريشًا من جريد فتكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا؛ فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك مما أحببنا، وإن كانت الأخرى حلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد خلفت عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد حبًا لك منهم؛ ولو ظنوا أنك تلقي حربًا ما تخلفوا عنك. يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى رسول الله ﷺ خيرًا. ودعا له بخير. ثم بني لرسول الله ﷺ عريشٌ، فكان فيه؛ وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها رسول الله ﷺ تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي منه جاءوا إلى الوادي - قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك؛ اللهم فنصرك الذي وعدتني؛ اللهم فأحنهم الغداة! وقد قال رسول الله ﷺ - ورأى عتبة بن ربيعة في القوم، على جمل له أحمر: إن يكن عند أحد من القوم خيرٌ؛ فعند صاحب الجمل الأحمر؛ إن يطيعوه يرشدوا. وقد كان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه إيماء بن رحضة - بعث إلى قريش حين مروا به ابنًا له بجزائر أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن أمدكم بسلاح ورجال فعلنا؛ فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك الرحم! فقد قضيت الذي عليك؛ فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس؛ ما بنا ضعفٌ عنهم؛ ولئن كنا نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة. فلما نزل الناس، أقبل نفر من قريش؛ حتى وردوا حوض رسول الله ﷺ، فيهم حكيم بن حزام، على فرس له، فقال رسول الله ﷺ: دعوهم، فما شرب منهم رجل إلا قتل يومئذ؛ إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل؛ نجا على فرس له يقال له الوجيه، وأسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه؛ فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال: محمد بن إسحاق: وحدثني إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلثمائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون؛ ولكن أمهلوني حتى أنظر؛ أللقوم كمين أم مدد؟ قال: فضرب في الوادي؛ حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت - يا معشر قريش - الولايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع؛ قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم؛ والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم؛ فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك! فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك، مشى في الناس، فأتى عتتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد؛ إنك كبير قريش الليلة وسيدها، والمطاع فيها؛ هل لك ألا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر! قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي! قال: قد فعلت، أنت علي بذلك؛ إنما هو حليفي فعلي عقله، وما أصيب من ماله؛ فأت ابن الحنظلية؛ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره - يعنى أبا جهل بن هشام. حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا عثامة بن عمرو السهمي، قال: حدثني مسور بن عبد المللك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم، إذ دخل حاجبه، فقال: هذا أبو خالد حكيم بن حزام، قال: إئذن له، فلما دخل جكيم بن حزام، قال: مرحبًا بك يا أبا خالد! ادن، فحال له مروان عن صدر المجلس؛ حتى كان بينه وبين الوسادة، ثم استقبله مروان، فقال: حدثنا حديث بدر، قال: خرجنا حتى نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها، فلم يشهد أحدٌ من مشركيهم بدلرًا. ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله عز وجل، فجئت عتبة بن ربيعة، فقلت: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل ماذا؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي؛ وهو حليفك، فتحمل ديته وترجع بالناس. فقال: أنت وذاك، وأنا أتحمل بديته، واذهب إلى ابن الحنظلية - يعنى أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه؛ وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم. فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك؟ قال: أما وجد رسولًا غيرك! قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولًا لغيره. قال حكيم: فخرجت مبادرًا إلى عتبة؛ لئلا يفوتني من الخبر شيء، وعتبة متكئ على إيماء بن رحضة الغفاري؛ وقد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر، فطلع أبو جهل والشر في وجهه، فقال لعتبة: انتفخ سحرك! فقال له عتبة: ستعلم! فسل أبو جهل سيفه، فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا! فعند ذلك قامت الحرب. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبًا، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا؛ والله لئن أصبتموه لا يزال رجلٌ ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته؛ فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب؛ فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون قال حكيم: فانطلقت أؤم أبا جهل؛ فوجدته قد نشل درعًا له من جرابها؛ فهو يهيئها. فقلت: يا أبا الحكم؛ إن عتببة قد أرسلني إليك بكذا وكذا - للذي قال - فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدًا وأصحابه؛ كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، وما بعتبة ما قال؛ ولكنه قد رأى محمدًا وأصحابه أكلة جزور؛ وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال له: هذا حليفك، يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعمراه! واعمراه! فحميت الحرب، وحقب أمر الناس، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة بن ربيعة. فلما بلغ عتبة بن ربيعة قول أبي جهل: انتفخ سحره، قال: سيعلم المصفر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو! ثم التمس بيضة يدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له. وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي - وكان رجلًا شرسًا سيء الخلق - فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج خرج له حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه؛ وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دمًا نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد - زعم - أن يبر يمينه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض. ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة؛ حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة نفر منهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر يقال له عبد الله بن رواحة، فقال: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. فقالوا: مالنا بكم حاجة! ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله ﷺ: قم يا حمزة بن عبد المطلب، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي بن أبي طالب؛ فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم! قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم أكفاءٌ كرام! فبارز عبيدة بن الحارث - وكان أسن القوم - عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة؛ فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما عليٌ فلم يمهل الوليد أن قتله؛ واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة، فذففا عليه فقتلاه، واحتملا صاحبهما عبيدة فجاءا به إلى أصحابه؛ وقد قطعت رجله، فمخها يسيل فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله ﷺ قال: ألست شهيدًا يا رسول الله! قال: بلى، فقال عبيدة لو كان أبو طالب حيًا لعلم أني أحق بما قال منه حيث يقول: ونسلمه حتى نصرع حوله ** ونذهل عن أبنائنا والحلائل حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا: أكفاءٌ كرامٌ، إنما نريد قومنا، ثم تزاحف الناس؛ ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله ﷺ أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم؛ وقال: إن أكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل؛ ورسول الله ﷺ في العريش معه أبو بكر. قال أبو جعفر: وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان، كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق؛ كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان بن واسع، عن أشياخ من قومه، أن رسول الله ﷺ عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدحٌ يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بن عدي بن النجار، وهو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله ﷺ في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد بن غزية؛ قال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق فأقدني. قال: فكشف رسول الله ﷺ عن بطنه ثم قال: استقد، قال: فاعتنقه وقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ فقال: يا رسول الله، حضر ما ترى فلم آمن القتل. فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله ﷺ بخير، وقال له خيرًا. ثم عدل رسول الله ﷺ الصفوف، ورجع إلى العريش ودخله، ومعه فيه أبو بكر ليس معه فيه غيره، ورسول الله ﷺ يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم - يعني المسلمين - لا تعبد بعد اليوم، وأبو بكر يقول: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك!، فإن الله عز وجل منجزٌ لك ما وعدك. فحدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عكرمة بن عمار، قال: حدثني سماك الحنفي، قا ل: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر، ونظر رسول الله ﷺ إلى المشركين وعدتهم، ونظر إلى أصحابه نيفًا على ثلثمائة، استقبل القبلة، فجعل يدعو، يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض؛ فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، فأخذ أبو بكر فوضع ردائه عليه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: كفاك يا نبي الله، بأبي وأنت وأمي، مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك! فأنزل الله تبارك وتعالى: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين ". حدثنا ابن وكيع: قال: حدثنا الثقفي - يعني عبد الوهاب - عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي ﷺ، قال: وهو في قبته يوم بدر: اللهم إني أسألك عهدك ووعدك؛ اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم! قال: فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا نبي الله، فقد ألححت على ربك - وهو في الدرع - فخرج وهو يقول: " سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ". رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وقد خفق رسول الله ﷺ خفقةً وهو في العريش؛ ثم انتبه، فقال: يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع. قال: وقد رمي مهجعٌ مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين ثم رمي حارثة بن سراقة، أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض فقتل. ثم خرج رسول الله ﷺ إلى الناس فحرضهم، ونفل كل امرىء منهم ما أصاب، وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام، أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء! ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل وهو يقول: ركضًا إلى الله بغير زاد ** إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ** وكل زادٍ عرضه النفاد غير التقى والبر والرشاد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسرًا. فنزع درعًا كانت عليه، فقذفها؛ ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، وحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري، حليف بني زهرة، قال: لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل: اللهم اقطعنا للرحم، وأتانا بما لا يعرف؛ فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه. ثم إن رسول الله ﷺ أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشًا، ثم قال: شاهت الوجوه! ثم نفحهم بها، وقال لأصحابه شدوا، فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر منهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله ﷺ في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله ﷺ متوشحًا السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله ﷺ، يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله ﷺ - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال رسول الله ﷺ: لكأنك يا سعد تكره ما يصنع الناس! قال: أجل والله يا رسول الله! كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين؛ فكان الإثخان في القتل أعجب إلي من استبقاء الرجال. حدثنا ابن حميد، قال: حدثني سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه يومئذ: إني قد عرفت أن رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، لا حاجة لهم لقتالنا، فمن لقى منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقى أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله؛ فإنه إنما أخرج مستكرهًا. قال: فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آبائنا وأبنائنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العباس! والله لئن لقيته لألحمنه السيف. فبلغت رسول الله ﷺ، فجعل يقول لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص، أما تسمع إلى قول أبي حذيفة، يقول: أضرب وجه عم رسول الله بالسيف! فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضربن عنقه بالسيف؛ فوالله لقد نافق. - قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله ﷺ بأبي حفص - قال: فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزل منها خائفًا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدًا. قال: وإنما نهى رسول الله ﷺ عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله ﷺ وهو بمكة، كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه؛ وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب، فلقيه المجذر بن ذياد البلوي، حليف الأنصار من بني عدي، فقال المجذر بن ذياد لأبي البختري: إن رسول الله ﷺ قد نهى عن قتلك - ومع أبي البختري زميلٌ له خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة رجل من بني ليث. واسم أبي البختري العاص بن هشام ابن الحارث بن أسد - قال: وزميلي؟ فقال: المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك؛ ما أمرنا رسول الله ﷺ إلا بك وحدك، قال: لا والله أذًا، لأموتن أنا وهو جميعًا؛ لا تحدث عني نساء قريش من أهل مكة أني تركت زميلي حرصًا على الحياة فقال أبو البختري حين نازله المجذر، وأبى إلا القتال، وهو يرتجز: لن يسلم ابن حرةٍ أكيله ** حتى يموت أو يرى سبيله فاقتتلا، فقتله المجذر بن ذياد. قال: ثم أتى المجذر بن ذياد رسول الله ﷺ، فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا القتال، فقاتلته فقتلته. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال. وحدثني أيضًا عبد الله بن أبي بكر، وغيرهما، عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة - وكان اسمي عبد عمرو، فسميت حين أسلمت: عبد الرحمن، ونحن بمكة - قال: فكان يلقاني ونحن بمكة، فيقول يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبوك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لا أعرف الرحمن؛ فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به؛ أما أنت فلا تجيبني بأسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال: فكان إذا دعاني: يا عبد عمرو لم أجبه، فقلت: اجعل بيني وبينك يا أبا علي ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، فقلت: نعم، فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله، فأجيبه، فأتحدث معه؛ حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه علي بن علبي بن أمية، آخذًا بيده، ومعي أدراعٌ قد استلبتها، فأنا أحملها. فلما رآني قال: يا عبد عمرو! فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، قلت: نعم، قال: هل لك في، فأنا خير لك من الأدراع التي معك؟ قلت: نعم، هلم إذًا. قال: فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده ويد ابنه علي، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط! أما لكم حاجة في اللبن! قال: ثم خرجت أمشي بهما. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه، آخذٌ بأيديهما: يا عبد الإله، من الرجل منكم، المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل! قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذب بلالًا بمكة على أن يترك الإسلام فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحدٌ أحدٌ - فقال بلال حين رآه: رأس الكفر أمية ابن خلف، لا نجوت إن نجوت؛ قال: قلت: أي بلال، أسيري! قال: لا نجوت إن نجوا. قال: قلت: تسمع يابن السوداء! قال: لا نجوت إن نجوا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا! قال: فأحاطوا بنا، ثم جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه؛ قال: فضرب رجلٌ ابنه فوقع. قال: وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط. قال: قلت: انج بنفسك، ولا نجاء؛ فوالله ما أغنى عنك شيئًا. قال: فبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالا! ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن ابن عباس، أن ابن عباس، قال: حدثني رجلٌ من بنى غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكو الدبرة، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينا نحن في الجبل؛ إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيال، فسمعت قائلًا: يقول: أقدم حيزوم. قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع فلبه فمات مكانه؛ وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: " وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بنى مازن بن النجار، عن أبي داود المازني - وكان شهد بدرًا - قال: إنى لأتبع رجلًا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا محمد بن يحيى الإسكندراني عن العلاء بن كثير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي أمامة ابن سهبل بن حنيف، قال: قال لي أبي: يا بني، لقد رأيتنا يوم بدر؛ وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتبية، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس، قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيضًا قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرًا، ولم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر. وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددًا ومددًا لا يضربون. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد: وحدثني ثور بن زيد مولى بنى الديل، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قالا: كان معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى سلمة يقول: لما فرغ رسول الله ﷺ من عدوه، أمر بأبي جهل أن يلتمس بالقتلى، وقال: اللهم لا يعجزنك، قال: فكان أول من لقى أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح، قال: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه. فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه؛ فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا النواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي؛ فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه؛ فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفى؛ فلما آدتني جعلت عليها رجلي، ثم تمطيت بها، حتى طرحتها. قال: ثم عاش معاذ بعد ذلك، حتى كان في زمن عثمان بن عفان. قال: ثم مر بأبي جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته؛ فتركه وبه رمق؛ وقاتل معوذ حتى قتل، فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله ﷺ أن يلتمس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله ﷺ - فيما بلغني: انظروا إن خفى عليكم في القتلى إلى أثر جرح بركبته؛ فإنى ازدحمت أنا وهو يومًا على مأدبة لعبد الله ابن جدعان؛ ونحن غلامان؛ وكنت أشف منه بيسير؛ فدفعته، فوقع على ركبتيه، فجحش في إحداهما جحشًا لم يزل أثره فيه بعد. قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه. قال: وقد كان ضبث بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني. ثم قلت: هل أخزاك الله يا عدو الله! قال: وبما ذا أخزانمي! أعمد من رجل قتلتموه! أخبرني لمن الدبرة؟ اليوم قال: قلت: لله ورسوله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق: وزعم رجال من بنى مخزوم أن ابن مسعود، كان يقول: قال لي أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبًا! ثم احتززت رأسه؛ ثم جئت به رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، قال: فقال رسول الله ﷺ: آلله الذي لا إله غيره! - وكانت يمين رسول الله ﷺ - قال: قلت: نعم؛ والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله ﷺ. قال: فحمد الله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما أمر رسول الله ﷺ بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيه؛ إلا ما كان من أمية بن خلف؛ فإنه انتفخ في درعه حتى ملأها، فذهبوا ليحركوه، فتزايل فأقروه، وألقوا عليه ما غيبة من التراب والحجارة، فلما ألقاهم في القليب، وقف رسول الله ﷺ، فقال: يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا! فإنى وجدت ما وعدني ربي حقًا. فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قومًا موتى! قال: لقد علموا أن ما وعدتهم حق، قالت عائشة: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال رسول الله ﷺ: لقد علموا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق. قال: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: سمع أصحاب رسول الله ﷺ رسول الله ﷺ وهو يقول من جوف الليل: يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام - فعدد من كان معهم في القليب: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؛ فإنى قد وجدت ماو عدني ربي حقًا! قال: المسلمون: يا رسول الله؛ أتنادي قومًا قد جيفوا! فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم؛ ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله ﷺ يوم قال هذه المقالة: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم! كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. ثم قال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ للمقالة التي قال: قال: ولما أمر بهم رسول الله ﷺ أن يلقوا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله ﷺ - فيما بلغني - في أبي حذيفة بن عتبة؛ فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: يا أبا حذيفة؛ لعلك دخلك من شأن أبيك شيء! - أو كما قال رسول الله ﷺ - فقال: لا والله يا نبي الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه؛ ولكني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلًا؛ فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام؛ فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، حزنني ذلك، قال: فدعا رسول الله ﷺ له بخير، وقال له خيرًا. ثم إن رسول الله ﷺ أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع؛ فاختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا؛ قد كان رسول الله ﷺ نفل كل امرئ ما أصاب، فقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونهم: لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا القوم عنكم حتى أصبتم ما أصبتم. فقال الذين يحرسون رسول الله ﷺ مخافة أن يخالف إليه العدو: والله ما أنتم بأحق به منا؛ لقد رأينا أن نقتل العدو إذ ولانا الله، ومنحنا أكتافهم؛ ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه؛ ولكن خفنا على رسول الله ﷺ كرة العدو، فقمنا دونه؛ فما أنتم بأحق به منا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا، عن سليمان بن موسى الأشدق، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت؛ حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول الله ﷺ بين المسلمين عن بواء - يقول على السواء - فكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله، وصلاح ذات البين. قال: ثم بعث رسول الله ﷺ عند الفتح عبد الله بن رواحة بشيرًا إلى أهل العالية بما فتح الله على رسوله ﷺ وعلى المسلمين، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة. قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله ﷺ التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسوال الله ﷺ خلفني عليها مع عثمان. قال: ثم قدم زيد بن حارثة فجئته وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام، وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج. قال: قلت: يا أبه أحقٌ هذا! قال: نعم والله يا بنى. ثم أقبل رسول الله ﷺ قافلًا إلى المدينة؛ فاحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن زيد ابن عوف بن مبذول بن عمرو بن مازن بن النجار. ثم أقبل رسول الله ﷺ حتى إذا خرج من مضيق الصفراء، نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية - يقال له سير - إلى سرحة به، فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، واستقى له من ماء به يقال له الأرواق. ثم ارتحل رسول الله ﷺ حتى إذا جاء بالروحاء، لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال سلمة بن سلامة بن وقش - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان: وما الذي تهنئون به! فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعًا كالبدن المعلقة، فنحرناها. فتبسم رسول الله ﷺ، وقال: يا بن أخي، أولئك الملأ قال: ومع رسول الله ﷺ الأسارى من المشركين وكانوا أربعة وأربعين أسيرًا، وكان من القتلى مثل ذلك - وفي الأسارى عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة - حتى إذا كان رسول الله ﷺ بالصفراء، قتل النضر بن الحارث، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. حدثنا ابن حميد، قتال: حدثنا سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: كما حدثني بعض أهل العلم من أهل مكة؛ قال: ثم خرج رسول الله ﷺ، حتى إذا كان بعرق الظبية، قتل عقبة بن أبي معيط، فقال حين أمر به رسول الله ﷺ أن يقتل: فمن للصبية يا محمد! قال: النار، قال: فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، ثم أحد بنى عمرو بن عوف. قال: كما حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: ولما انتهى رسول الله ﷺ إلى عرق ظبية حين قتل عقبة لقيه أبو هند مولى فروة بن عمرو البياضي بحميت مملوء حيسًا، وكان قد تخلف عن بدر، ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، وكان حجام رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: إنما أبو هند امرؤٌ من الأنصار، فأنكحوه وأنكحوا إليه، ففعلوا. ثم مضى رسول الله ﷺ حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال: قدم بالأسارى حين قدم بهم وسودة بنت زمعة زوج النبي ﷺ عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابنى عفراء - قال: وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب - قال: تقول سودة: والله إني لعندهم إذ أتينا، فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، قالت: فرحت إلى بيتي ورسول الله ﷺ فيه، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قالت: فوالله ما ملكت نفسي حين رأت أبا يزيد كذلك أن قلت: يا أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كرامًا! فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله ﷺ من البيت: يا سودة، أعلى الله وعلى رسوله! قالت: قلت: يار سول الله؛ والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا زيد مجموعةً يداه إلى عنقه بحبل أن قلت ما قلت. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني نبيه بن وهب، أخو بنى عبد الدار، أن رسول الله ﷺ حين أقبل بالأسارى فرقهم في أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيرًا - قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى - قال: فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير، ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع، لعلها أن تفتديه منك. قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر؛ فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله ﷺ إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها. قال: فأستحي، فأردها على أحدهم فيردها على ما يمسها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله بن إياس ابن ضبيعة بن مازن بن كعب بن عمرو الخزاعي - قال أبو جعفر: وقال الواقدي: الحيسمان بن حابس الخزاعي - قالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج. قال: فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فسلوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالسًا في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال أبو رافع مولى رسول الله ﷺ: كنت غلامًا للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكذلك صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلًا، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزًا. قال: وكنت رجلًا ضعيفًا، وكنت أعمل القداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إنى لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر، جتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري؛ فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. قال: فقال أبو لهب: هلم إلي يا ابن أخي، فعندك الخبر. قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال يا بن أخي؛ أخبرني؛ كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء؛ والله إن كان إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا ويأسرون كيف شاءوا؛ وايم الله مع ذلك ما لمت الناس؛ لقينا رجالًا بيضًا على خيل بلقٍ بين السماء والأرض؛ ما تليق شيئًا ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: فثاورته، فاحتملني، فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني - وكنت رجلًا ضعيفًا - فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فشجت في رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده! فقام موليًا ذليلًا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله عز وجل بالعدسة فقتلته، فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثًا ما يدفنانه حتى أنتن في بيته - وكانت قريش تتقي العدسة وعدوتها كما يتقى الناس الطاعون - حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما! ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه! فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، قال: فانطلقا فأنا معكما، فما غسلوه إلا قذفًا بالماء عليه من بعيد، ما يمسونه، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبد الله ابن عباس، قال: لما أمسى القوم من يوم بدر، والأسارى محبوسون في الوثاق، بات رسول الله ﷺ ساهرًا أول ليلة، فقال له أصحابه: يا رسول الله، مالك لا تنام! فقال: سمعت تضور العباس في وثاقه، قال: فقاموا إلى العباس فأطلقوه، فنام رسوال الله ﷺ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتبية بن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بنى سلمة، وكان أبو اليسر رجلًا مجموعًا، وكان العباس رجلًا جسيمًا، فقال رسول الله ﷺ لأبي اليسر: كيف أسرت العباس يا أبا اليسر؟ فقال: يا رسول الله؛ لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك ولا بعده؛ هيئته كذا وكذا، قال رسول الله ﷺ: قد أعانك عليه ملك كريم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني يحيى بن عباد، عن أبيه عباد، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ ذلك محمدًا واصحابه، فيشمت بكم، ولا تبعثوا في فداء أسراكم حتى تستأنوا بهم؛ لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء. قال: وكان الأسود بن عبد المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود؛ وعقيل بن الأسود، والحارث بن الأسود؛ وكان يجب أن يبكي على بنيه؛ فبينا هو كذلك؛ إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هلى أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلى أبكي على أبي حكيمة - يعنى زمعة - فإن جوفي قد احترق! قال: فلما رجع إليه الغلام، قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته. قال: فذلك حين يقول: أتبكي أن يضل لها بعيرٌ ** ويمنعها من النوم السهود فلا تبكي على بكرٍ ولكن ** على بدرٍ تقاصرت الجدود على بدرٍ سراة بنى هصيصٍ ** ومخزومٍ ورهط أبي الوليد وبكى إن بكيت على عقيلٍ ** وبكى حارثًا أسد الأسود وبكيهم ولا تسمى جميعًا ** فما لأبي حكيمة من نديد ألا قد ساد بعدهم رجالٌ ** ولولا يوم بدرٍ لم يسودوا قال: وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله ﷺ: إن له ابنًا تاجرًا كيسًا ذا مال؛ وكأنكم به قد جاءكم في فداء أبيه! قال: فلما قالت قريش: لا تعجلوا في فداء أسرائكم لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبي وداعة - وهو الذي كان رسول الله ﷺ عنى -: صدقتم، لا تعجلوا بفداء أسرائكم. ثم انسل من الليل، فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، ثم انطلق به، ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص ابن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، أخو بنى سالم بن عوف، وكان سهيل بن عمرو أعلم من شفته السفلى. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن عمرو بن عطاء بن عياش بن علقمة، أخو بنى عامر بن لؤي، أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله ﷺ: يا رسول الله انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو. السفليين يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبًا في موطنٍ أبدًا، فقال رسول الله ﷺ: لا أمثل به فيمثل الله بي؛ وإن كنت نبيًا. قال: وقد بلغني أن رسول الله ﷺ قال لعمر في هذا الحديث: إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه؛ فلما قاولهم فيه مكرز، وانتهى إلى رضاهم، قالوا: هات الذي لنا. قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه. قال: فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزًا مكانه عندهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ قال للعباس بن عبد المطلب حين انتهى به إلى المدينة: يا عباس، افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، أخا بنى الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال. فقال: يا رسول الله، إني كنت مسلمًا؛ ولكن القوم استكرهوني، فقال: الله أعلم بإسلامك؛ إن يكن ما تذكر حقًا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك - وكان رسول الله ﷺ قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب - فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فدائي، قال: لا؛ ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل منك، قال: فإنه ليس لي مال. قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد. ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا!. قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها؛ وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابنى أخيه وحليفه. حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: كان عمرو بن أبي سفيان بن حرب - وكان لابنه عقبة بن أبي معيط - أسيرًا في يدي رسول الله ﷺ من أسارى بدر، فقيل لأبي سفيان: افد عمرًا، قال: أيجمع على دمي ومالي! قتلوا حنظلة وأفدي عمرًا! دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم. قال: فبينا هو كذلك محبوسٌ عند رسول الله ﷺ، خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بنى عمرو بن عوف، ثم أحد بنى معاوية معتمرًا، ومعه مرية له؛ وكان شيخًا كبيرًا مسلمًا في غنم له بالنقيع؛ فخرج من هنالك معتمرًا؛ ولا يخشى الذي صنع به؛ لم يظن أنه يحبس بمكة؛ إنما جاء معتمرًا؛ وقد عهد قريشًا لا تعترض لأحد حاجًا أو معتمرًا إلا بخير؛ فعدا عليه أبو سفيان بن حرب، فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبي سفيان، ثم قال أبو سفيان: أرهط ابن أكالٍ أجيبوا دعاءه ** تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا فإن بني عمرو لئامٌ أذلةٌ ** لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا قال: فمشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله ﷺ؛ فأخبره خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا شيخهم؛ ففعل رسول الله ﷺ، فبعثوا به إلى أبي سفيان، فخلى سبيل سعد. قال: وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله ﷺ، زوج ابنته زينب، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارةً، وكان لهالة بنت خويلد وكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رسول الله ﷺ أن يزوجه؛ وكان رسول الله ﷺ لا يخالفها؛ وذلك قبل أن ينزل عليه، فزوجه؛ فكانت تعده بمنزلة ولدها؛ فلما أكرم الله عز وجل رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته، فصدقنه وشهدن أن ما جاء به هو الحق؛ ودن بدينه؛ وثبت أبو العاص على شركه. وكان رسول الله ﷺ قد زوج عتبة بن أبي لهب إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم؛ فلما بادى قريشًا بأمر الله عز وجل وباعدوه، قالوا: إنكم قد فرغتم محمدًا من همه؛ فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن، فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع، فقالوا: فارق صاحبتك؛ ونحن نزوجك أي امرأة شئت من قريش، قال: لا ها الله إذًا؛ لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش؛ وكان رسول الله ﷺ يثنى عليه في صهره خيرًا - فيما بلغني. قال: ثم مشوا إلى الفاسق ابن الفاسق، عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق ابنه محمد ونحن نزوجك أي امراة من قريش شئت؛ فقال: إن زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه ابنة سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن عدو الله دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهوانًا له؛ فخلف عليها عثمان بن عفان بعده؛ وكان رسول الله ﷺ لا يحل بمكة ولا يحرم مغلوبًا على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله ﷺ حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع؛ إلا أن رسول الله ﷺ كان لا يقدر على أن يفرق بينهما؛ فأقامت معه على إسلامهم وهو على شركه؛ حتى هاجر رسول الله ﷺ، فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص بن الربيع؛ فأصيب في الأسارى يوم بدر، وكان بالمدينة عند رسول الله ﷺ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة زوج النبي ﷺ، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم، بعث زينب بنت رسول الله ﷺ في فداء أبي العاص ابن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها. قالت: فلما رآها رسول الله ﷺ رق لها رقةً شديدةً، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا! فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها. وكان رسول الله ﷺ قد أخذ عليه - أو وعد رسول الله ﷺ - أن يخلى سبيل زينب إليه، أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه؛ ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله ﷺ، فيعلم ما هو! إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله، بعث رسول الله ﷺ زيد بن حارثه ورجلا من الأنصار مكانه، فقال: كونا ببطن يأجج؛ حتى تمر بكما زينب فتصحباها، حتى تأتياني بها، فخرجا مكانهما؛ وذلك بعد بدر بشهر أو شيعة. فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها؛ فخرجت تجهز. فحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي، لقيتني هند بنت عتبة، فقالت: أي ابنة محمد؛ ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك! قالت: فقلت: ما أردت ذلك، قالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي؛ إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك فلا تضطني منى؛ فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال. قالت: ووالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل. قالت: ولكني خفتها، فأنكرت أن اكون أريد ذلك، وتجهزت. فلما فرغت ابنة رسول الله ﷺ من جهازها قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرًا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارًا يقود بها، وهي في هودج لها. وتحدث بذلك رجال قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ونافع بن عبد القيس، والفهري. فروعها هبار بالرمح وهي في هودجها - وكانت المرأة حاملًا؛ فيما يزعمون - فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وبرك حموها، ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنوا مني رجلٌ إلا وضعت فيه سهمًا، فتكركر الناس عنه؛ وأتاه أبو سفيان في جلة قريش، فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف. فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الرجال علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرج بابنته علانيةً من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا، ونكبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعفٌ ووهنٌ؛ لعمري ما لنا حاجة في حبسها عن أبيها، وما لنا في ذلك من ثؤرة؛ ولكن أرجع المرأة، فإذا هدأ الصوت، وتحدث الناس أنا قد رددناها؛ فسلها سرًا فألحقها بأبيها. ففعل حتى إذا هدأ الصوت خرج بها ليلا؛ حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله ﷺ. قال: فأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله ﷺ بالمدينة، قد فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج تاجرًا إلى الشأم - وكان رجلا مأمونا بمال له، وأموال رجال من قريش أبضعوها معه - فلما فرغ من تجارته - وأقبل قافلًا؛ لقيته سرية لرسول الله ﷺ، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هربًا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل؛ حتى دخل على زينب بنت رسول الله ﷺ، فاستجار بها، فأجارته في طلب ماله، فلما خرج رسول الله ﷺ إلى الصبح - فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فلما سلم رسول الله ﷺ من الصلاة، أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت! قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم؛ إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله ﷺ، فدخل على ابنته، فقال: أي بنية أكرمى مثواه ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله ﷺ بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالًا، فإن تحسنوا تردوا عليه الذي له؛ فإنا نحب ذلك؛ وإن أبيتم فهو فئ الله الذي افاءه عليكم؛ فأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه! قل: فردوا عليه ماله حتى إن الرجل ليأتي بالحبل، ويأتي الرجل بالشنة والإداوة؛ حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ؛ حتى ردوا عليه ماله بأسره؛ لا يفقد منه شيئًا. ثم احتمل إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ممن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش؛ هل بقى لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا فجزاك الله خيرًا؛ فقد وجدناك وفيًا كريمًا، قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله؛ والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أكل أموالكم؛ فلما أداها الله إليكم، وفرغت منها أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله ﷺ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: رد عليه رسول الله ﷺ زينب بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئًا بعد ست سنين. حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحجر - وكان عمير بن وهب شيطانًا من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله ﷺ وأصحابه، ويلقون منه عناء وهم بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر - فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش خير بعدهم، فقال عمير: صدقت والله! أما والله لولا دين على ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علةً؛ ابنى أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان بن أمية، فقال: على دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعنى شيء ويعجز عنهم، قال عمير: فاكتم على شأني وشأنك: قال: أفعل. قال: ثم إن عميرًا أمر بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين في المسجد يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله عز وجل به، وما أراهم في عدوهم؛ إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ بعيره على باب المسجد، متوشحًا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر! وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله ﷺ، فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه، قال: فأدخله علي. قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفة في عنقه، فلببه بها، وقال لرجال ممن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله ﷺ فاجلسوا عنده، واحذروا هذا الخبيث عليه، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله ﷺ. فلما رآه رسول الله ﷺ وعمر آخذ بحمالة سيفه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال: أنعموا صباحًا - وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم - فقال رسول الله ﷺ: وقد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك بيا عمير؛ بالسلام تحية أهل الجنة، قال: أما والله يا محمد إن كنت لحديث عهد بها. قال: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه. قال: فمال بال السيف في عنقك! قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت شيئًا! قال: اصدقني بالذي جئت له، قال: ما جئت إلا لذلك، فقال: بلى، قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له. والله عز وجل حائلٌ بينى وبينك. فقال عمير: أشهد أنك رسول الله؛ قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي؛ وهذا أمرٌ لم يحضره إلا أنا وضفوان؛ فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله؛ فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق. ثم تشهد شهادة الحق؛ فقال رسول الله ﷺ؛ فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه وعلموه القرآن، وأطلقوا له أسيره. قال: ففعلوا، ثم قال: يا رسول الله: إني كنت جاهدًا في إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله؛ وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام؛ لعل الله أن يهديهم! وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم. قال: فأذن له رسول الله ﷺ، فلحق بمكة، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول لقريش: أبشروا بوقعةٍ تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان؛ حتى قدم راكبٌ فأخبره بإسلامه، فحلف ألا يكلمه أبدًا ولا ينفعه بنفع أبدًا. فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذى من خالفه أذىً شديدًا فأسلم على يديه أناس كثير. فلما انقضى أمر بدر، أنزل الله عز وجل فيه من القرآن الأنفال بأسرها. حدثنا أحمد بن منصور، قال: حدثنا عاصم بن علي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثنا أبو زميل، قال: حدثني عبد الله بن عباس؛ حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلًا، وأسر سبعون رجلًا، فلما كان يومئذ شاور رسول الله ﷺ أبا بكر وعليًا وعمر، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية؛ فيكون ما أخذنا منهم قوة، وعسى الله أن يهديهم، فيكونوا لنا عضدًا. فقال رسول الله ﷺ: ما ترى يا بن الخطاب؟ قال: قلت: لا والله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخ له فيضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار؛ هؤلاء صناديدهم وقادتهم وأئمتهم. قال: فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت أنا، فأخذ منهم الفداء، فلما كان الغد قال عمر: غدوت إلى النبي ﷺ وهو قاعدٌ وأبو بكر، وإذا هما يبكيان، قال: قلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله ﷺ: للذي عرض علي أصحابك من الفداء. لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة - وأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " إلى قوله: " فيما أخذتم عذابٌ عظيمٌ "؛ ثم أحل لهم الغنائم. فلما كان من العام القابل في أحد عوقبوا بما صنعوا، قتل من أصحاب رسول الله ﷺ سبعون، وأسر سبعون، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وفر أصحاب النبي ﷺ، وصعدوا الجبل، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: " أو لما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " إلى قوله: إن الله على كل شيء قديرٌ "، ونزلت هذه الآية الأخرى: " إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرسول يدعوكم في أخراكم " إلى قوله: " من بعد الغم أمنةً ". حدثني سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لما كان يوم بدر، وجيء بالأسرى، قال رسول الله ﷺ: ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، واستبقهم واستأنهم؛ لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك، قدمهم فضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارًا. قال: فقال له العباس: قطعتك رحمك! قال: فسكت رسول الله ﷺ فلم يجبهم، ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم رسول الله، فقال: إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن؛ وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة؛ وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: " فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيمٌ "، ومثلك يا أبا بكر، مثل عيسى، قال: " إن تعذبهم فهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا "، ومثلك كمثل موسى، قال: " ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ". ثم قال رسول الله ﷺ: أنتم اليوم عالةٌ فلا يفلتن منهم أحدٌ إ لا بفداء أو ضرب عنق؛ قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء. فإنى سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله ﷺ، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع على الحجارة من السماء منى في ذلك اليوم؛ حتى قال رسول الله ﷺ: " إلا سهيل بن بيضاء " قال: فأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض.. " إلى آخر الآيات الثلاث. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: لما نزلت - يعني هذه الآية: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى "، قال رسول الله ﷺ: لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال. قال أبو جعفر: وكان جميع من شهد بدرًا من المهاجرين، ومن ضرب له رسول الله ﷺ بسهمه وأجره ثلاثةً وثمانين رجلًا في قول ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: وجميع من شهد من الأوس معه ومن ضرب له بسهمه واحدٌ وستون رجلًا. وجميع من شهد معه من الخزرج مائة وسبعون رجلًا في قول ابن إسحاق، وجميع من استشهد من المسلمين يومئذ أربعةً عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وكان المشركون - فيما زعم الواقدي - تسعمائة وخمسين مقاتلًا؛ وكانت خيلهم مائة فرس. ورد رسول الله ﷺ يومئذ جماعة استصغرهم - فيما زعم الواقدي - فمنهم فيما زعم عبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، والبراء ابن عازب، وزيد بن ثابت، وأسيد بن ظهير، وعمير بن أبي وقاص ثم أجاز عميرًا بعد أن رده فقتل يومئذ. وكان رسول الله ﷺ قد بعث قبل أن يخرج من المدينة طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، إلى طريق الشأم يتحسسان الأخبار عن العير، ثم رجعا إلى المدينة، فقدماها يوم وقعة بدر، فاستقبلا رسول الله ﷺ بتربان؛ وهو منحدرٌ من بدر يريد المدينة. قال الواقدي: كان خروج رسول الله ﷺ من المدينة في ثلثمائة رجل وخمسة، وكان المهاجرون أربعةً وسبعين رجلًا، وسائرهم من الأنصار، وضرب لثمانية بأجورهم وسهمانهم: ثلاثة من المهاجرين؛ أحدهم عثمان بن عفان كان تخلف على ابنة رسول الله ﷺ حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، كان بعثهما يتحسسان الخبر عن العير، وخمسة من الأنصار: أبو لبابة بشير بن عبد المنذر؛ خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي بن العجلان؛ خلفه على العالية، والحارث بن حاطب؛ رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم، والحارث ابن الصمة؛ كسر بالروحاء؛ وهو من بنى مالك بن النجار، وخوات بن جبير، كسر من بني عمرو بن عوف. قال: وكانت الإبل سبعين بعيرًا، والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد. قال أبو جعفر: وروى عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن محمد بن هلال، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ورئى رسول الله ﷺ في أثر المشركين يوم بدر مصلتًا السيف، يتلو هذه الآية: " سيهزم الجمع ويولون الدبر ". قال: وفي غزوة بدر انتفل رسول الله ﷺ سيفه ذا الفقار، وكان لمنبه بن الحجاج. قال: وفيها غنم جمل أبي جهل؛ وكان مهريًا يغزو عليه ويضرب في لقاحه. قال أبو جعفر: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة، منصرفة من بدر، وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها؛ على أن لا يعينوا عليه أحدًا؛ وأنه إن دهمه بها عدوٌ نصروه. فلما قتل رسول الله ﷺ من قتل ببدر من مشركي قريش، أظهروا له الحسد والبغي، وقالوا: لم يلق محمدٌ من يحسن القتال؛ ولو لقينا لاقى عندنا قتالًا لا يشبهه قتال أحد؛ وأظهروا نقض العهد. غزوة بني قينقاع فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان من أمر بني قينقاع، أن رسول الله ﷺ جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال يا معشر اليهود، احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا؛ فإنكم قد عرفتم أني نبيٌ مرسل تجدون ذلك في كتابكم؛ وفي عهد الله إليكم. قالوا: يا محمد؛ إنك ترى أنا كقومك! لا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة؛ إنا والله حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله ﷺ، وحاربوا فيما بين بدر وأحد. فحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر: عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، أن غزوة رسول الله ﷺ بني القينقاع كانت في شوال من السنة الثانية من الهجرة. قال الزهري عن عروة: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليهما وسلم بهذه الآية: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء "، فلما فرغ جبريل عليه السلام من هذه الآية، قال رسول الله ﷺ إني أخاف من بني قينقاع، قال عروة: فسار إليهم رسول الله ﷺ بهذه الآية. قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حاصرهم رسول الله ﷺ خمس عشرة ليلة لا يطلع منهم أحد. ثم نزلوا على حكم رسول الله ﷺ، فكتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمة فيهم عبد الله بن أبي. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه النبي ﷺ فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض النبي ﷺ. قال: فأدخل يده في جيب رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: أرسلني، وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا في وجهه ظلالًا - يعني تلونًا - ثم قال: ويحك أرسلني! قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن إلى موالي. أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع قد منعوني من الأسود والأحمر؛ تحصدهم في غداة واحدة! وإني والله لا آمن وأخشى الدوائر. فقال رسول الله ﷺ: هم لك. قال أبو جعفر: وقال محمد بن عمر في حديثه عن محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، فقال النبي ﷺ: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم! فأرسلوهم. ثم أمر بإجلائهم، وغنم الله عز وجل رسوله والمسلمين ما كان لهم من مال - ولم تكن لهم أرضون؛ إنما كانوا صاغةً - فأخذ رسول الله ﷺ لهم سلاحًا كثيرًا وآلة صياغتهم؛ وكان الذي ولى إخراجهم من المدينة بذراريهم عبادة بن الصامت، فمضى بهم حتى بلغ بهم دباب؛ وهو يقول: الشرف الأبعد، الأقصى فالأقصى! وكان رسول الله ﷺ استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر. قال أبو جعفر: وفيها كان أول خمس خمسه رسول الله ﷺ في الإسلام؛ فأخذ رسول الله ﷺ صفيه والخمس وسهمه، وفض أربعة أخماس على أصحابه، فكان أول خمسٍ قبضه رسول الله ﷺ. وكان لواء رسول الله ﷺ يوم بني قنيقناع لواءً أبيض، مع حمزة بن عبد المطلب، ولم تكن يومئذ رايات. ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى المدينة، وحضرت الأضحى؛ فذكر أن رسول الله ﷺ ضحى وأهل اليسر من أصحابه، يوم العاشر من ذي الحجة، وخرج بالناس إلى المصلى فصلى بهم، فذلك أول صلاة صلى رسول الله ﷺ بالناس بالمدينة بالمصلى في عيد، وذبح فيه بالمصلى بيده شاتين - وقيل ذبح شاة. قال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل، من ولد رافع بن خديج، عن أبي مبشر، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: لما رجعنا من بني قنينقاع ضحينا في ذي الحجة صبيحة عشر، وكان أول أضحى رآه المسلمون، وذبحنا في بني سلمة فعدت في بني سلمة سبع عشرة أضحية. قال أبو جعفر، وأما ابن إسحاق فلم يوقت لغزوة رسول الله ﷺ التي غزاها بني قنينقاع وقتًا، غير أنه قال: كان ذلك بين غزوة السويق وخروج النبي ﷺ من المدينة يريد غزوة قريش؛ حتى بلغ بني سليم وبحران، معدنًا بالحجاز من ناحية الفرع. وأما بعضهم، فإنه قال: كان بين غزوة رسول الله ﷺ بدرًا الأولى وغزوة بني قنينقاع ثلاث غزوات وسرية أسراها. وزعم أن النبي ﷺ إنما غزاهم لتسع ليال خلون من صفر من سنة ثلاث من الهجرة، وأن رسول الله ﷺ غزا بعد ما انصرف من بدر، وكان رجوعه إلى المدينة يوم الأربعاء لثماني ليالٍ بقين من رمضان، وأنه أقام بها بقية رمضان. ثم غزا قرقرة الكدر حين بلغه اجتماع بني سليم وغطفان؛ فخرج من المدينة يوم الجمعة بعد ما ارتفعت الشمس، غرة شوال من السنة الثانية من الهجرة إليها. وأما ابن حميد، فحدثنا عن سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: لما قدم رسول الله ﷺ من بدر إلى المدينة، وكان فراغه من بدر في عقب شهر رمضان - أو في أول شوال - لم يقم بالمدينة إلا سبع ليال؛ حتى غزا بنفسه يريد بني سليم، حتى بلغ ماء من مياههم؛ يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش. وأما الواقدي، فزعم أن غزوة النبي ﷺ الكدر كانت في المحرم من سنة ثلاث من الهجرة، وأن لواءه كان يحمله فيها علي بن أبي طالب؛ وأنه استخلف فيها ابن أم مكتوم المعيصي على المدينة. وقال بعضهم: لما رجع النبي ﷺ من غزوة الكدر إلى المدينة، وقد ساق النعم والرعاء ولم يلق كيدًا. وكان قدومه منها - فيما زعم - لعشر خلون من شوال، بعث غالب بن عبد الله الليثي يوم الأحد لعشر ليال مضين من شوال إلى بني سليم وغطفان في سرية، فقتلوا فيهم، وأخذوا النعم، وانصرفوا إلى المدينة بالغنيمة يوم السيت، لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر، وإن رسول الله ﷺ أقام بالمدينة إلى ذي الحجة، وإن رسول الله ﷺ غزا يوم الأحد لسبع ليال بقين من ذي الحجة غزوة السويق. غزوة السويق قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله ﷺ من غزوة الكدر إلى المدينة، أقام بها بقية شوال من سنة اثنين من الهجرة، وذا القعدة. ثم غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق في ذي الحجة. قال: وولى تلك الحجة المشركون من تلك السنة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان ومن لا أتهم، عن عبيد الله ابن كعب بن مالك - وكان من أعلم الأنصار - قال: كان أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة، ورجع فل قريش إلى مكة من بدر، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا. فخرج في مائتي راكب من قريش، ليبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدور قناة إلى جبل يقال له تبت، من المدينة على بريد أو نحوه. ثم خرج من الليل حتى أتى بنى النضير تحت الليل، فأتى حيى بن أخطب، فضرب عليه، بابه فأبى أن يفتح له وخافه، فأبى فانصرف إلى سلام بن مشكم - وكان سيد النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم - فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه، وبطن له خبر الناس، ثم خرج في عقب ليلته، حتى جاء أصحابه، فبعث رجالًا من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منها يقال لها العريض، فحرقوا في أصوار، من نخل لها؛ ووجدوا رجلًا من الأنصار وحليفًا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين؛ ونذر بهم الناس، فخرج رسول الله ﷺ في طلبهم، حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعًا، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا من مزاود القوم ما قد طرحوه في الحرث؛ يتخففون منه للنجاة. فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله ﷺ: أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ قال: نعم. وقد كان أبو سفيان قال وهو يتجهز خارجًا من مكة إلى المدينة أبياتًا من شعر يحرض قريشًا: كروا على يثربٍ وجمعهم ** فإن ما جمعوا لكم نقل إن يك يوم القليب كان لهم ** فإن ما بعده لكم دول آليت لا أقرب النساء ولا ** يمس رأسي وجلدي الغسل حتى تبيروا قبائل الأوس وال ** خزرج، إن الفؤاد مشتعل فأجابه كعب بن مالك: تلهف أم المسبحين على ** جيش ابن حربٍ بالحرة الفشل إذ يطرحون الرجال من سئم الطير ** ترقى لقنة الجبل جاءوا بجمعٍ لو قيس مبركه ** كا كان إلا كمفحص الدئل عارٍ من النصر والثراء ومن ** أبطال أهل البطحاء والأسل وأما الواقدي فزعم أن غزوة السويق كانت في ذي القعدة من سنة اثنتين من الهجرة. قال: خرج رسول الله ﷺ في مائتي رجل من أصحابه من المهاجرين والأنصار. ثم ذكر من قصة أبي سفيان نحوًا مما ذكره ابن إسحاق، غير أنه قال: فمر - يعنى أبا سفيان - بالعريض، برجل معه أجير له يقال له معبد بن عمرو، فقتلهما وحرق أبياتًا هناك وتبنًا، ورأى أن يمينه قد حلت، وجاء الصريخ إلى النبي ﷺ، فاستنفر الناس، فخرجوا في أثره فأعجزهم. قال: وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب الدقيق ويتخففون، وكان ذلك عامة زادهم؛ فلذلك سميت غزوة السويق. وقال الواقدي: واستخلف رسول الله ﷺ على المدينة أبا لبابة ابن عبد المنذر. قال أبو جعفر: ومات في هذه السنة - أعني سنة اثنتين من الهجرة - في ذي الحجة عثمان بن مظعون، فدفنه رسول الله ﷺ بالبقيع وجعل عند رأسه حجرًا علامة لقبره. وقيل: إن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام ولد في هذه السنة. قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه زعم أن ابن أبي سبرة حدثه عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر، أن علي بن أبي طالب عليه السلام بنى بفاطمة عليها السلام في ذي الحجة، على رأس اثنين وعشرين شهرًا. قال أبو جعفر: فإن كانت هذه الرواية صحيحة فالقول الأول باطل. وقيل: إن هذه السنة كتب رسول الله ﷺ المعاقل فكان معلقًا بسيفه. ثم دخلت السنة الثالثة من الهجرة غزوة ذي أمر فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله ﷺ من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، أو قريبًا منه، ثم غزا نجدا يريد غطفان؛ وهي غزوة ذي أمر، فأقام بنجد صفرًا كله أو قريبًا من ذلك. ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا، فلبث بها شهر ربيع الأول كله إلا قليلًا منه. ثم غزا يريد قريشًا وبني سليم، حتى بلغ بحران معدنًا بالحجاز من ناحية الفرع فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا. خبر كعب بن الأشرف قال أبو جعفر: وفي هذه السنة سرى النبي ﷺ سرية إلى كعب بن الأشرف؛ فزعم الواقدي أن النبي وجه من وجه إليه في شهر ربيع الأول من هذه السنة. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان من حديث ابن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر؛ وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين، بعثهما رسول الله ﷺ إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل من المشركين؛ كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث ابن أبي بردة بن أسير الظفري، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، قال: كل قد حدثني بعض حديثه، قال: قال كعب بن الأشرف - وكان رجلًا من طيء، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير؛ فقال حين بلغه الخبر: ويلكم أحقٌ هذا! أترون أن محمدًا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان - يعني زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة؟ وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لنا من ظهرها. فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، فأنزلته وأكرمته؛ وجعل يحرض على رسول الله ﷺ، وينشد الأشعار، ويبكي على أصحاب القليب الذين أصيبوا ببدر من قريش. ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فشبب بأم الفضل بنت الحارث، فقال: أراحلٌ أنت لم تحلل بمنقبةٍ ** وتاركٌ أنت أم الفضل بالحرم! صفراء رداعةٌ لو تعصر انعصرت ** من ذي القوارير والحناء والكتم يرتج ما بين كعبيها ومرفقها ** إذا تأتت قيامًا ثم لم تقم أشباه أم حكيمٍ إذ تواصلنا ** والحبل منها متينٌ غير منجذم إحدى بني عامر جن الفؤاد بها ** ولو تشاء شفت كعبًا من السقم فرع النساء وفرع القوم والدها ** أهل التحلة والإيفاء بالذمم لم أر شمسًا بليلٍ قبلها طلعت ** حتى تجلت لنا في ليلة الظلم ثم شبب بنساء من نساء المسلمين حتى آذاهم؛ فقال النبي ﷺ كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث بن أبي بردة: من لى من ابن الأشرف! قال: فقال محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك، فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثًا لا يأكل ولا يشرب. إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ، فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ قال: يا رسول الله، قلت قولا لا أدري أفي به أم لا! قال: إنما عليك الجهد، قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا من أن نقول. قال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك! قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش - وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب من الرضاعة - وعباد ابن بشر بن وقش، أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ، أحد بني عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر، أخو بني حارثة. ثم قدموا إلى ابن الأشرف قبل أن يأتوه سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدا شعرًا - وكان أبو نائلة يقول الشعر - ثم قال: ويحك يا بن الأشرف! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك؛ فاكتم علي، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل بلاءً علينا عادتنا العرب ورمونا عن قوسٍ واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا! فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما كنت أقول، فقال سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعامًا ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم! فقال: لقد أردت أن تفضحنا! إن معي أصحابًا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه لك وفاء - وأراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاءوا بها - فقال: إن في الحلقة لوفاء، قال: فرجع سلكان إلى أصحابه، فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح فينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله ﷺ. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: مشى معهم رسول الله ﷺ إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ثم رجع رسول الله ﷺ إلى بيته في ليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة - وكان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته؛ فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محاربٌ؛ وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة. قال: إنه أبو نائلة؛ لو وجدني نائمًا لما أيقظني، قالت: والله إني لأعرف في صوته الشر. قال: يقول لها كعب: لو دعى الفتى لطعنة أجاب؛ فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا له: هل لك يا بن الأشرف، أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه! قال: إن شئتم! فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة. ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيب عطرٍ قط. ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، حتى اطمأن ثم مشى ساعة، فعاد لمثلها، فأخذ بفودى رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله؛ فاختلف عليه أسيافهم، فلم تغن شيئًا. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولًا في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئًا، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصنٌ إلا أوقدت عليه نار. قال: فوضعته في ثندؤته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ بجرح في رأسه أو رجله، أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا. قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله ﷺ آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه. قال: فقال رسول الله ﷺ: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله - وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من محيصة - فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله! قتلته! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله! قال محيصة: فقلت له: والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك. قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة، وقال: لو أمرك محمد بقتلى لقتلتني! قال: نعم والله، لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال: والله إن دينًا بلغ بك هذا لعجب! فأسلم حويصة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق. قال: حدثني هذا الحديث مولى لبني حارثة، عن ابنة محيصة، عن أبيها. قال أبو جعفر: وزعم الواقدي أنهم جاءوا برأس ابن الأشرف إلى رسول الله ﷺ. وزعم الواقدي أن في ربيع الأول من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة، وأن في ربيع الأول من هذه السنة غزا رسول الله ﷺ غزوة أنمار - ويقال لها: ذو أمر - وقد ذكرنا قول ابن إسحاق في ذلك قبل. قال الواقدي: وفيها ولد السائب بن يزيد ابن أخت النمر. غزوة القردة قال الواقدي: وفي جمادى الآخرة من هذه السنة، كانت غزوة القردة وكان أميرهم - فيما ذكر - زيد بن حارثة، قال: وهي أول سرية خرج فيها زيد بن حارثة أميرًا. قال أبو جعفر: وكان من أمرها ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سرية زيد بن حارثة التي بعثه رسول الله ﷺ فيها حين أصاب عير قريش، فيها أبو سفيان بن حرب، على القردة، ماء من مياه نجد. قال: وكان في حديثها أن قريشًا قد كانت خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة؛ وهي عظم تجارتهم، واستأجروا رجلًا من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيان، يدلهم على ذلك الطريق، وبعث رسول الله ﷺ زيد بن حارثة، فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله ﷺ. قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فزعم أن سبب هذه الغزوة كان أن قريشًا قالت: قد عور علينا محمد متجرنا وهو على طريقنا. وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رءوس أموالنا. قال أبو زمعة بن الأسود: فأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين لا هتدى. قال صفوان: من هو؟ فحاجتنا إلى الماء قليل؛ إنما نحن شاتون. قال: فرات بن حيان؛ فدعواه فاستأجراه؛ فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم على ذات عرق، ثم خرج بهم على غمرة، وانتهى إلى النبي ﷺ خبر العير وفيها مال كثير، وآنية من فضة حملها صفوان بن أمية؛ فخرج زيد بن حارثة، فاعترضها، فظفر بالعير، وافلت أعيان القوم؛ فكان الخمس عشرين ألفًا، فأخذه رسول الله ﷺ، وقسم الأربعة الأخماس على السرية، وأتى بفرات بن حيان العجلي أسيرًا، فقيل: إن أسلمت لم يقتلك رسول الله ﷺ، فلما دعا به رسول الله ﷺ أسلم، فأرسله. مقتل أبي رافع اليهودي قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان مقتل أبي رافع اليهودي - فيما قيل - وكان سبب قتله، أنه كان - فيما ذكر عنه - يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله ﷺ، فوجه إليه - فيما ذكر - رسول الله ﷺ في النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة عبد الله بن عتيك، فحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثني إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: بعث رسول الله ﷺ إلى أبي رافع اليهودي - وكان بأرض الحجاز - رجالًا من الأنصار، وأمر عليهم عبد الله بن عقبة - أو عبد الله بن عتيك - وكان أبو رافع يؤذي رسول الله ﷺ ويبغي عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال لهم عبد الله بن عقبة - أو عبد الله بن عتيك: اجلسوا مكانكم، فإني أنطلق وأتلطف للبواب، لعلي أدخل! قال: فأقبل حتى إذا دنا من الباب، تقنع بثوبه؛ كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب. يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب. قال: فدخلت فكمنت تحت آري حمار؛ فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأقاليد على ود. قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده في علالى؛ فلما ذهب عنه أهل سمره، فصعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابًا أغلقته علي من داخل. قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. قال: فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله؛ لا أدري أين هو من البيت! قلت: أبا رافع! قال: من هذا؟ قال: فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش فما أغنى شيئًا وصاح؛ فخرجت من البيت ومكثت غير بعيد. ثم دخلت إليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل! إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه فأثخنه ولم أقتله. قال: ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه، حتى أخرجته من ظهره، فعرفت أنى قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا فبابًا، حتى انتهيت إلى درجة؛ فوضعت رجلي، وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض؛ فوقعت في ليلة مقمرة؛ فانكسرت ساقي، قال: فعصبتها بعمامتي، ثم إني انطلقت حتى جلست عند الباب، فقلت: والله لا أبرح الليلة حتى أعلم: أقتلته أم لا؟ قال: فلما صاح الديك، قام الناعي عليه على السور، فقال: أنعي أبا رافع رباح أهل الحجاز! قال: فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء! قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي ﷺ، فحدثته فقال: ابسط رجلك، فبسطتها فمسحها فكأنما لم أشتكها قط. قال أبو جعفر: وأما الواقدي؛ فإنه زعم أن هذه السرية التي وجهها رسول الله ﷺ إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق إنما وجهها إليه في ذي الحجة من سنة أربع من الهجرة، وأن الذين توجهوا إليه فقتلوه، كانوا أبا قتادة، وعبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، والأسود بن خزاعي وعبد الله بن أنيس. وأما ابن إسحاق، فإنه قص من قصة هذه السرية ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، كان سلام بن أي الحقيق - وهو أبو رافع - ممن كان حزب الأحزاب على رسول الله ﷺ، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته رسول الله ﷺ وتحريضه عليه، فاستأذنت الخزرج رسول الله ﷺ في قتل سلام بن أبي الحقيق؛ وهو بخيبر، فأذن لهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: كان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج؛ كانا يتصاولان مع رسول الله ﷺ تصاول الفحلين؛ لاتصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله ﷺ غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عند رسول الله ﷺ في الإسلام؛ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها. قال: وإذا فعلت الخزرج شيئًا، قالت الأوس مثل ذلك. فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله ﷺ، قالت الخزرج: لا يذهبون فيها فضلًا علينا أبدًا. قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله ﷺ في العداوة كابن الأشرف! فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر؛ فاستأذنوا رسول الله ﷺ في قتله، فأذن لهم؛ فخرج إليه من الخزرج ثم من بنى سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن الأسود؛ حليف لهم من أسلم؛ فخرجوا، وأمر عليهم رسول الله ﷺ عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدًا أو امرأة. فخرجوا حتى قدموا خيبر؛ فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلًا؛ فلم يدعوا بيتًا في الدار إلا أغلقوه من خلفهم على أهله، وكان في علية له إليها عجلة رومية، فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ فقالوا: نفرٌ من العرب نلتمس الميرة، قالت: ذاك صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا عليها وعلينا وعليه باب الحجرة، وتخوفنا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه. قال: فصاحت امرأته، ونوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا؛ والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه؛ كأنه قبطية ملقاة. قال: ولما صاحت بنا امرأته، جعل الرجل منا يرفع عليها السيف ثم يذكر نهى رسول الله ﷺ؛ فيكف يده؛ ولولا ذاك فرغنا منها بليلٍ، فلما ضربناه بأسيافنا، تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني! قال: ثم خرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر؛ فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثئًا شديدًا واحتملناه حتى نأتي به منهرًا من عيونهم، فندخل فيه. قال: وأوقدوا النيران، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا؛ حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه؛ وهو يقضي بينهم. قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات! فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال فوجدته ورجال يهود عنده، وامرأته في يدها المصباح تنظر في وجهه. ثم قالت تحدثهم وتقول: أما والله لقد عرفت صوت ابن عتيك؛ ثم أكذبت، فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد! ثم أقبلت عليه لتنظر في وجهه. ثم قالت: فاظ وإله اليهود! قال: يقول صباحنا؛ فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا، فقدمنا على رسول الله ﷺ، وأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله؛ وكلنا يدعيه، فقال رسول الله ﷺ: هاتوا أسيافكم، فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. فقال حسان بن ثابت؛ وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف وسلام ابن أبي الحقيق: لله در عصابةٍ لاقيتهم ** يا بن الحقيق وأنت يابن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم ** مرحًا كأسدٍ في عرينٍ مغرف حتى أتوكم في محل بلادكم ** فسقوكم حتفًا ببيض ذفف مستبصرين لنصر دين نبيهم ** مستضعفين لكل أمرٍ مجحف حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي وعباس بن عبد العظيم العنبري، قالا: حدثنا جعفر بن عون، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن أباه حدثه عن أمه ابنة عبد الله بن أنيس، أنها حدثته عن عبد الله بن أنيس، أن الرهط الذين بعثهم رسول الله ﷺ إلى ابن أبي الحقيق ليقتلوه: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، وحليف لهم، ورجل من الأنصار؛ وأنهم قدموا خيبر ليلًا. قال: فعمدنا إلى أبوابهم نغلقها من خارج، ونأخذ المفاتيح، حتى أغلقنا عليهم أبوابهم، ثم أخذنا المفاتيح فألقيناها في فقير، ثم جئنا إلى المشربة التي فيهخ ابن أبي الحقيق، فظهرت عليها أنا وعبد الله بن عتيك وقعد أصحابنا في الحائط، فاستأذن عبد الله بن عتيك؛ فقالت امرأة ابن أبي الحقيق: إن هذا لصوت عبد الله بن عتيك. قال ابن أبي الحقيق: ثكلتك أمك! عبد الله بن عتيك بيثرب؛ أين هو عندك هذه الساعة! افتحي لي؛ إن الكريم لا يرد عن بابه هذه الساعة. فقامت ففتحت. فدخلت أنا وعبد الله على ابن أبي الحقيق، فقال عبد الله بن عتيك: دونك، قال: فشهرت عليها السيف، فأذهب لأضربها بالسيف فأذكر نهى رسول الله ﷺ عن قتل النساء والولدان، فأكف عنها، فدخل عبد الله بن عتيك على ابن أبي الحقيق. قال: فأنظر إليه في مشربة مظلمة إلى شدة بياضه، فلما رآني ورآى السيف، أخذ الوسادة فاتقاني بها، فأذهب لأضربه فلا أستطيع، فوخزته بالسيف وخزًا. ثم خرج إلى عبد الله بن أنيس، فقال: أقتله؟ قال: نعم، فدخل عبد الله بن أنيس فذفف عليه. قال: ثم خرجت إلى عبد الله بن عتيك؛ فانطلقنا، وصاحت المرأة: وابياتاه وابياتاه! قال: فسقط عبد الله بن عتيك في الدرجة، فقال: وارجلاه وارجلاه! فاحتمله عبد الله بن أنيس؛ حتى وضعه إلى الأرض. قال: قلت: انطلق ليس برجلك بأس. قال: فانطلقنا، قال عبد الله بن أنيس: جئنا أصحابنا فانطلقنا، ثم ذكرت قوسي أنى تركتها في الدرجة؛ فرجعت إلى قوسي؛ فإذا أهل خيبر يموج بعضهم في بعض؛ ليس لهم كلام إلا من قتل ابن أبي الحقيق؟ من قتل ابن أبي الحقيق؟ قال: فجعلت لا أنظر في وجهي إنسان، ولا ينظر في وجه إنسان إلا قلت: من قتل ابن أبي الحقيق؟ قال: ثم صعدت الدرجة؛ والناس يظهرون فيها؛ وينزلون؛ فأخذت قوسي من مكانها، ثم ذهبت فأدركت أصحابي، فكنا نكمن النهار ونسير الليل؛ فإذا كمنا بالنهار أقعدنا منا ناطورًا ينظر لنا؛ فإن رأى شيئًا أشار إلينا؛ فانطلقنا حتى إذا كنا بالبيضاء كنت - قال موسى: أنا ناطرهم، وقال عباس: كنت أنا ناطرهم - فأشرت إليهم فذهبوا جمزًا وخرجت في آثارهم، حتى إذا اقتربنا من المدينة أدركتهم، قالوا: ما شأنك؟ هل رأيت شيئًا؟ قلت: لا، إلا أني قد عرفت أن قد بلغكم الإعياء والوصب، فأحببت أن يحملكم الفزع. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تزوج النبي ﷺ حفصة ينت عمر في شعبان؛ وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي في الجاهلية، فتوفي عنها. وفيها كانت غزوة رسول الله ﷺ أحدًا؛ وكانت في شوال يوم السبت لسبع ليالٍ خلون منه - فيما قيل - من سنة ثلاث من الهجرة. غزوة أحد قال أبو جعفر: وكان الذي هاج غزوة أحد بين رسول الله ﷺ ومشركي قريش وقعة بدر وقتل من قتل ببدر من أشراف قريش ورءوسائهم؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين ابن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا؛ كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت من الحديث عن يوم أحد، قالوا: لما أصيبت قريش - أو من قاله منهم - يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب، فرجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه؛ لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا، ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه سلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة؛ وكل أولئك قد استعووا على حرب رسول الله ﷺ. وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد من عليه رسول الله ﷺ يوم بدر. وكان فقيرًا ذا بنات، وكان في الأسارى، فقال: يا رسول الله، إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامنن علي صلى الله عليك! فمن عليه رسول الله ﷺ، فقال صفوان ابن أمية: يا أبا عزة، إنك امرؤٌ شاعرٌ، فاعنا بلسانك، فأخرج معنا. فقال: إن محمدًا قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه، فقال: بلى فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بنى كنانة. وخرج مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح؛ إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله ﷺ، ودعا جبير بن مطعم غلامًا له يقال له وحشى، كان حبشيًا يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها. فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت عم محمد بعمى طعيمة بن عدي فأنت عتيقٌ. فخرجت قريش بحدها وجدها وأحابيشها، ومن معها من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة؛ ولئلا يفروا. فخرج أبو سفيان بن حرب - وهو قائد الناس، معه هند بنت عتبة ابن ربيعة - وخرج عكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة - قال أبو جعفر: وقيل ببرة - بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية؛ وهي أم عبد الله ابن صفوان - وخرج عمرو بن العاص بن وائل بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن شهيد - وهي أم بني طلحة مسافع والجلاس وكلاب؛ قتلوا يومئذ وأبوهم - وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك ابن حسل، مع ابنها أبي عزيز بن عمير وهي أم مصعب بن عمير، وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة؛ وكانت هند بن عتبة بن ربيعة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت: إيهٍ أبا دسمة! اشف واشتف - وكان وحشي يكنى أبا دسمة. فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة؛ من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة. فلما سمع بهم رسول الله ﷺ والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال: رسول الله ﷺ للمسلمين: إني قد رأيت بقرأ فأولتها خيرًا، ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام؛ وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. ونزلت قريش منزلها من أحد يوم الأربعاء. فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة. وراح رسول الله ﷺ حين صلى الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد. فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال؛ وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله ﷺ، يرى رأي رسول الله ﷺ في ذلك: ألا يخرج إليهم؛ وكان رسول الله ﷺ يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضوره: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم؛ فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس؛ وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا. فلم يزل الناس برسول الله ﷺ الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم؛ حتى دخل رسول الله ﷺ، فلبس لأمته؛ وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو، أحد بني النجار، فصلى عليه رسول الله ﷺ؛ ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله ﷺ ولم يكن ذلك لنا. قال أبو جعفر: وأما السدي؛ فإنه قال في ذلك غير هذا القول؛ ولكنه قال ما حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، أن رسول الله ﷺ لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحدًا، قال لأصحابه: أشيروا علي ما أصنع! فقالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب، فقالت الأنصار: يا رسول الله، ما غلبنا عدوٌ قط أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا! فدعا رسول الله ﷺ عبد الله بن أبي بن سلول - ولم يدعه قط قبلها - فاستشاره، فقال: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب؛ وكان رسول الله ﷺ يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة، فيقاتلوا في الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري، فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة؛ فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة، فقال له: بم؟ قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأني لا أفر من الزحف. قال: صدقت، فقتل يومئذ. ثم إن رسول الله ﷺ دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا! نشير على رسول الله والوحي يأتيه! فقاموا فاعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما رأيت، فقال رسول الله ﷺ: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. فخرج رسول الله ﷺ إلى أحد في ألف رجل؛ وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرج رجع عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم؛ فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا؛ قال الله عز وجل: " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا "، فهم بنو سلمة وبنو حارثة، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله عز وجل، وبقي رسول الله ﷺ في سبعمائة. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: قالوا: لما خرج عليهم رسول الله ﷺ قالوا: يا رسول الله؛ استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك! فقال رسول الله ﷺ: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل؛ فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه؛ حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة أنخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، فقال: أطاعهم فخرج وعصاني؛ والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضر من عدوهم! قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم؛ ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه، وأبو إلا الانصراف عنه، قال: أبعدكم الله أعداء الله! فسيغني الله عنكم! قال أبو جعفر: قال محمد بن عمر الواقدي: انخزل عبد الله بن أبي عن رسول الله ﷺ من الشيخين بثلثمائة، وبقي رسول الله ﷺ في سبعمائة، وكان المشركون ثلاثة آلاف، والخيل مائتي فرس، والظعن خمس عشرة امرأة. قال: وكان المشركين سبعمائة دارع؛ كان في المسلمين مائة دارع؛ ولم يكم معهم من الخيل إلا فرسان: فرسٌ لرسول الله ﷺ، وفرس لأبي بردة بن نيار الحارثي. فأدلج رسول الله ﷺ من الشيخين حين طلعت الحمراء - وهما أطمان، كان يهودي ويهودية أعميان يقومان عليهما؛ فيتحدثان فلذلك، سميا الشيخين، وهو في طرف المدينة - قال: وعرض رسول الله ﷺ المقاتلة بالشيخين بعد المغرب؛ فأجاز من أجاز، ورد من رد، قال: وكان فيمن رد زيد بن ثابت وابن عمر، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وعرابة بن أوس. قال: وهو الذي قال فيه الشماخ: رأيت عرابة الأوسي ينمي ** إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ** تلقاها عرابة باليمين قال: ورد أبا سعيد الخدري، وأجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وكان رسول الله ﷺ، قد استصغر رافعًا، فقام على خفين له فيهما رقاع، وتطاول على أطراف أصابعه؛ فلما رآه رسول الله ﷺ أجازه. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: كانت أم سمرة بن جندب تحت مرى بن سنان بن ثعلبة، عم أبي سعيد الخدري، فكان ربيبه، فلما خرج رسول الله ﷺ إلى أحد، وعرض أصحابه، فرد من استصغر رد سمرة بن جندب، وأجاز رافع بن خديج، فقال سمرة بن جندب لربيبه مرى بن سنان: يا أبت، أجاز رسول الله ﷺ رافع بن خديج، وردني وأنا أصرع رافع بن خديج، فقال: مرى بن سنان: يا رسول الله، رددت ابني، وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه! فقال النبي صلى الله ﷺ لرافع وسمرة: تصارعا، فصرع سمرة رافعًا، فأجازه رسول الله ﷺ فشهدها مع المسلمين. قال: وكان دليل النبي ﷺ أبو حثمة الحارثي. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: ومضى رسول الله ﷺ حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه، فأصاب كلاب سيف، فاستله، فقال رسول الله ﷺ - وكان يحب الفأل ولا يعتاف - لصاحب السيف: شم سيفك، فإني أرى السيوف ستسل اليوم. ثم قال رسول الله ﷺ لأصحابه: من رجلٌ يخرج بنا على القوم من كثبٍ، من طريق لا يمر بنا عليهم؟ فقال أبو حثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فقدمه فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك به في مال المربع بن قيظي - وكان رجلًا منافقًا ضرير البصر - فلما سمع حس رسول الله ﷺ ومن معه من المسلمين، قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله؛ فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي؛ قال: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله ﷺ: لا تفعلوا؛ فهذا الأعمى البصر، الأعمى القلب. وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل حين نهى رسول الله ﷺ عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى رسول الله ﷺ على وجهه، حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتلن أحدٌ حتى نأمره بالقتال؛ وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة المسلمين. فقال رجل من المسلمين حين نهى رسول الله ﷺ عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب! وتعبأ رسول الله ﷺ للقتال وهو في سبعمائة رجل، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل؛ ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وأمر رسول الله ﷺ على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف وهو يومئذ معلمٌ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلًا، وقال: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله ﷺ بين درعين. فحدثنا هارون بن إسحاق: قال حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسٍحاق، عن البراء، قال: لما كان يوم أحد، ولقي رسول الله ﷺ المشركين أجلس رسول الله ﷺ رجالًا بإزاء الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير. وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا. فلما لقي القوم هزم المشركين حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن، وبدت خلاخيلهن، فجعلوا يقولون،: الغنيمة الغنيمة! فقال عبد الله: مهلًا، أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله ﷺ! فأبوا، فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم؛ فأصيب من المسلمين سبعون. حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي: عن أبيه، عن ابن عباس، قال: أقبل أبو سفيان في ثلاث ليال خلون من شوال، حتى نزل أحدًا، وخرج النبي ﷺ، فأذن في الناس فاجتمعوا، وأمر الزبير على الخيل؛ ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي، وأعطى رسول الله ﷺ اللواء رجلًا من قريش يقال له مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسر، وبعث حمزة بين يديه، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين؛ ومعه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول الله ﷺ الزبير، وقال: استقبل خالد بن الوليد؛ فكن بإزائه حتى أؤذنك، وأمر بخيل أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال: لا تبرحن حتى أوذنكم. وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي ﷺ إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد؛ فهزمه الله ومن معه، فقال: " ولقد صدقكم الله وعده " - إلى قوله - " من بعد ما أراكم ما تحبون "؛ وإن الله عز وجل وعد المؤمنين أن ينصرهم؛ وأنه معهم. وإن رسول الله ﷺ بعث ناسًا من الناس؛ فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله ﷺ: كونوا ها هنا، فردوا وجه من فر منا، وكونوا حراسًا لنا من قبل ظهورنا، وأن رسول الله ﷺ لما هزم القوم هو وأصحابه، قال الذين كانوا جعلوا من ورائهم بعض لبعض، ورأوا النساء مصعدات في الجبل، ورأوا الغنائم: انطلقوا إلى رسول الله ﷺ، فأدركوا الغنيمة قبل أن يسبقونا إليها، وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول الله ﷺ فنثبت مكاننا، فلذلك قوله لهم: " منكم من يريد الدنيا " الذين أرادوا الغنيمة، " ومنكم من يريد الآخرة " الذين قالوا: نطيع رسول الله ونثبت مكاننا، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدًا من أصحاب النبي ﷺ كان يريد الدنيا وعرضها، حتى كان يومئذ. حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما برز رسول الله ﷺ إلى المشركين بأحد أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين؛ وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتم أننا قد هزمناهم، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم. وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير. ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام: فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة؛ فهل منكم أحدٌ يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار! فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى أعجلك بسيفي إلى النار، أو تعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم يا بن عم! فتركه، فكبر رسول الله ﷺ، وقال لعلي: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه. ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي ﷺ وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى خالد بن الوليد - وهو علي خيل المشركين - حمل فرمته الرماة فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله ﷺ. وانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة؛ وحمل على أصحاب النبي ﷺ. فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل، تنادوا فشدوا على المسلمين، فهزموهم وقتلوهم. فحدثني بشر بن آدم، قال: حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: حدثنا عبيد الله بن الوازع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال الزبير: عرض رسول الله ﷺ سيفا في يده يوم أحد؛ فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قال: فقمت فقلت: أنا يا رسول الله، قال: فأعرض عني، ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقمت فقلت: أنا يا رسول الله، فأعرض عني، ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قال: فقام أبو دجانة سماك بن خرشة، فقال: أنا آخذه بحقه، وما حقه؟ قال: حقه ألا تقتل به مسلمًا، وألا تفر به عن كافر؛ قال: فدفعه إليه. قال: وكان إذا أراد القتال أعلم بعصابة؛ قال: فقلت: لأنظرن اليوم ما يصنع، قال: فجعل لايرتفع له شيء إلا هتكه وأفراه؛ حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل، معهن دفوف لهن؛ فيهن امرأةٌ تقول: نحن بنات طارق ** إن تقبلوا نعانق ونبسط النمارق ** أو تدبروا نفارق فراق غير وامق قال: فرفع السيف ليضربها، ثم كف عنها، قال: قلت: كل عملك قد رأيت، أرأيت رفعك للسيف عن المرأة بعد ما أهويت به إليها! قال: فقال: أكرمت سيف رسول الله أن أقتل به امرأة. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. فقال رسول الله ﷺ: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم؛ حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني؛ فقال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله؛ فأعطاه إياه - وكان أبو دحانة رجلًا شجاعًا يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء يعصبها على رأسه علم الناس أنه سيقاتل - فلما أخذ السيف من يد رسول الله ﷺ أخذ عصابته تلك، فعصب بها رأسه؛ ثم جعل يتبختر بين الصفين. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، عن رجل من الأنصار من بني سلمة؛ قال: قال رسول الله ﷺ حين رأى أبا دحانة يتبختر: إنها لمشيةٌ يبغضها الله عز وجل إلا في هذا الموطن. وقد أرسل أبو سفيان رسولًا، فقال: يا معشر الأوس والخزرج، خلوا بيننا وبينم ابن عمنا ننصرف عنكم، فإنه لا حاجة لنا بقتالكم. فردوه بما يكره. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان بن أمة، أحد بني ضبيعة؛ وقد كان خرج إلى مكة مباعدًا لرسول الله ﷺ، معه خمسون غلامًا من الأوس؛ منهم عثمان ابن حنيف - وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر - فكان يعد قريشًا أن لو قد لقى محمدًا لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس، كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينًا يا فاسق - وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله ﷺ الفاسق - فلما سمع ردهم عليه، قال: لقد أصاب قومي بعدي شر. ثم قاتلهم قتالا شديدًا، ثم راضخهم بالحجارة، وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال: يا بنى عبد الدار، إنكم وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم؛ وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم؛ إذا زالت زالوا؛ فإنما أن تكفونا لواءنا؛ وإما أن تخلوا بيننا وبينه فسنكفيكموه. فهموا به وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءانا، ستعلم غدًا إذا التقينا كيف نصنع! وذلك الذي أرتاد أبو سفيان. فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بن عتبة في النسوة اللواتي معها، وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم، فقالت هند فيما تقول: إن تقبلوا نعانق ** ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق ** فراق غير وامق وتقول: ويهًا بنى عبد الدار! ** ويهًا حماة الأدبار! ضربًا بكل بتار واقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دحانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين، فأنزل الله عز وجل نصره، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمة لا شك فيها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، قال: قال الزبير: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل كثير؛ إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل؛ فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخٌ: ألا إن محمدًا قد قتل! فانكفأنا وانكفأ علينا القوم؛ بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحدٌ من القوم. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن اللواء لم يزل صريعًا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به، وكان اللواء مع صواب، غلام لبنى أبي طلحة، حبشي، وكان آخر من أخذه منهم، فقاتل حتى قطعت يداه، ثم برك عليه، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه؛ وهو يقول: اللهم هل أعذرت! فقال حسان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقاذفوا بالشعر: فخرتم باللواء وشر فخرٍ ** لواءٌ حين رد إلى صواب جعلتم فخركم فيها لعبدٍ ** من الأم من وطى عفر التراب ظنتم والسفيه له ظنونٌ ** وما إن ذاك من أمر الصواب بأن جلادنا يوم التقينا ** بمكة بيعكم حمر العياب أقر العين أن عصبت يداه ** وما إن تعصبان على خضاب حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا حبان ابن علي، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، قال: لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية، أبصر رسول الله ﷺ جماعة من مشركي قريش، فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم؛ ففرق جمعهم، وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي. قال: ثم أبصر رسول الله ﷺ جماعةً من مشركي قريش، فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرق جماعتهم؛ وقتل شيبة بن مالك أحد بنى عامر بن لؤي، فقال جبريل: يارسول الله، إن هذه للمواساة، فقال رسول الله ﷺ: إنه منى وأنا منه، فقال جبريل: وأنا منكما، قال: فسمعوا صوتا: لا سيف إلا ذو الفقا ** ر ولا فتى إلا على قال أبو جعفر: فلما أتى المسلمون من خلفهم انكشفوا وأصاب منهم المشركون، وكان المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من البلاء أثلاثًا: ثلث قتيل، وثلث جريح، وثلث منهزم؛ وقد جهدته الحرب حتى ما يدري ما يصنع، وأصيبت رباعية رسول الله ﷺ السفلى، وشقت شفته، وكلم في وجنتيه وجبهته في أصول شعره، وعلاه ابن قميئة بالسيف على شقه الأيمن؛ وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لما كان يوم أحدٍ، كسرت رباعية رسول الله ﷺ وشج، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيهم بالدم. وهو يدعوهم إلى الله عز وجل! فأنزل الله عز وجل: " ليس لك من الأمر شيءٌ " الآية. قال أبو جعفر: وقال رسول الله ﷺ حين غشيه القوم: من رجلٌ يشري لنا نفسه! فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن، قال: فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقول: إنما هو عمارة بن زياد ابن السكن، فقاتلوا دون رسول الله ﷺ رجلًا، ثم رجلًا، يقتلون دونه؛ حتى كان آخرهم زيادٌ - أو عمارة بن زياد بن السكن - فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت من المسلمين فئةٌ حتى أجهضوهم عنه، فقال رسول الله ﷺ: أدنوه منى، فأدنوه منه، فوسده قدمه؛ فمات وخده على قدم رسول الله ﷺ، وترس دون رسول الله ﷺ أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه؛ حتى كثرت فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله ﷺ، فقال سعدٌ: فلقد رأيته يناولني ويقول: ارم فداك أبي وأمي! حتى إنه ليناولني السهم ما فيه نصلٌ، فيقول: ارم به! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله ﷺ رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان؛ فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان؛ حتى وقعت على وجنته. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله ﷺ ردها بيده؛ فكانت أحسن عينيه وأحدهما. قال أبو جعفر: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله ﷺ ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قميثة الليثي. وهو يظن أنه رسول الله ﷺ؛ فرجع إلى قريش، فقال: قتلت محمدًا. فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله ﷺ اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي؛ وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني - وكان يكنى بأبي نيار - فقال له حمزة بن عبد المطلب: هلم إلي يا بن مقطعة البظور - وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكانت ختانة بمكة - فلما التقيا ضربه حمزة فقتله، فقال وحشي غلام جبير بن مطعم: والله إني لأنظر إلى حمزة يهذ الناس بسيفه، ما يليق شيئًا يمر به؛ مثل الجمل الأورق؛ إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم إلي يا بن مقطعة البظور! فضربه؛ فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في لبته حتى خرجت من بين رجليه، وأقبل نحوي، فغلب فوقع، فأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي؛ ثم تنحيت إلى العسكر؛ ولم يكن لي بشيء حاجة غيره. وقد قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف مسافع بن طلحة وأخاه كلاب بن طلحة؛ كلاهما يشعره سهمًا؛ فيأتي أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها، فتقول: يا بني، من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلًا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن الأقلح! فتقول: أقلحي! فنذرت لله إن الله أمكنها من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر. وكان عاصم قد عاهد الله ألا يمس مشركًا أبدًا ولا يمسه. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع؛ أخو بني عدي بن النجار، قال: انتهى أنس بن النضر؛ عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل محمد رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا كراما، على ما مات عليه رسول الله ﷺ. ثم استقبل القوم؛ فقاتل حتى قتل؛ وبه سمى أنس بن مالك. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة وطعنة فما عرفه إلا أخته، عرفته بحسن بنانه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان أول من عرف رسول الله ﷺ بعد الهزيمة وقول الناس: " قتل رسول الله ﷺ " - كما حدثني ابن شهاب الزهري - كعب بن مالك، أخو بني سلمة، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا! هذا رسول الله ﷺ! فأشار إلى رسول الله ﷺ: أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله ﷺ نهضوا به، ونهض نحو الشعب، معه علي بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين. فلما أسند رسول الله ﷺ في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد! لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ قال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله ﷺ الحربة من الحارث بن الصمة - قال: يقول بعض الناس فيما ذكر لي: فلما أخذها رسول الله ﷺ، انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها؛ ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارًا. وكان أبي بن خلف - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - يلقى رسول الله ﷺ بمكة، فيقول: يا محمد إن عندى العود، أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه! فيقول رسول الله ﷺ: بل أنا اقتلك إن شاء الله. فلما رجع إلى قريش، وقد خدشه في عنقه خدشًا غير كبير؛ فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد. قالوا: ذهب والله فؤادك؛ والله إن بك بأس. قال: إنه قد كان بمكة قال لي: أنا أقتلك؛ فوالله لو بصق على لقتلني. فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة. قال: فلما انتهى رسول الله ﷺ إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس. ثم جاء به إلى رسول الله ﷺ ليشرب منه؛ فوجد له ريحًا فعافه؛ ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم؛ وصب على رأسه؛ وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يقول: والله ما حرصت على قتل رجل قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص؛ وإن كان ما علمت لسيئ الخلق، مبغضًا في قومه؛ ولقد كفاني منه قول رسول الله ﷺ: " اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله ". حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: أتى ابن قميئة الحارثي أحد بني الحارث ابن عبد مناة بن كنانة، فرمى رسول الله ﷺ بحجر، فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه، فأثقله وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، وجعل رسول الله ﷺ يدعو الناس: إلى عباد الله! إلى عباد الله! فاجتمع إليه ثلاثون رجلًا، فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنبف، فحماه طلحة، فرمى بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي؛ وقد حلف ليقتلن النبي ﷺ، فقال: بل أنا أقتله، فقال: يا كذاب، أين تفر! فحمل عليه فطعنه النبي ﷺ في جيب الدرع؛ فجرح جرحًا خفيفًا، فوقع يخور خوار الثور؛ فاحتملوه، وقالوا: ليس بك جراحة، فما يجزعك؟ قال: أليس قال: " لأقتلنك "! لو كانت بجميع ربيعة ومضر لقتلتهم! فلم يلبث إلا يومًا أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح. وفشا في الناس أن رسول الله ﷺ قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي؛ فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان! يا قوم إن محمدًا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم. قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قتل؛ فإن رب محمد لم يقتل. فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد: اللهم أني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء! ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل؛ وانطلق رسول الله ﷺ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة؛ فلما رأوه وضع رجلٌ سهمًا في قوسه، فأراد أن يرميه فقال: أنا رسول الله؛ ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله حيًا، وفرح رسول الله ﷺ حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ﷺ ذهب عنهم الحزن؛ فأقبلوا يذكرون الفتح، وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فقال الله عز وجل للذين قالوا: " إن محمدًا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ": " وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين ". فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه، وأهمهم أبو سفيان، فقال رسول الله ﷺ: ليس لهم أن يعلونا؛ اللهم إن تقتل العصابة لا تعبد! ثم ندب أصحابه، فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم؛ فقال أبو سفيان يومئذ: اعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويومٌ بيوم بدر. وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب، وكان جنبًا فغسلته الملائكة؛ وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر؛ وقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم! فقال رسول الله ﷺ لعمر: قل: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: أفيكم محمدًا! أما إنها قد كانت فيكم مثلة؛ ما أمرت بها ولا نهيت عنها؛ ولا سرتني ولا ساءتني؛ فذكر الله عز وجل إشراف أبي سفيان عليهم، فقال: " فأثابكم غمًا بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم "، والغم الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والغم الثاني إشارف العدو عليهم، " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " من الغنيمة " ولا ما أصابكم " من القتل حين تذكرون. فشغلهم أبو سفيان. قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال - فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة عنه - بينا رسول الله ﷺ في الشعب؛ ومعه أولئك النفر من أصحابه إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله ﷺ: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا؛ فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل؛ ونهض رسول الله ﷺ إلى صخرة من الجبل ليعلوها. وقد كان بدن رسول الله ﷺ، وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع؛ فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض حتى استوى عليها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد: قال: قال رسول الله ﷺ، كما حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول يومئذ: أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع. قال أبو جعفر: وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله ﷺ، حتى انتهى بعضهم إلى المنقى دون الأعوص، وفر عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان " رجلان من الأنصار "؛ حتى بلغوا الجلعب " جبلًا بناحية المدينة مما يلي الأعوص "، فأقاموا به ثلاثًا ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ؛ فزعموا أن رسول الله ﷺ، قال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة. قال أبو جعفر: وقد كان حنظلة بن أبي عامر الغسيل، التقى هو وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود - وكان يقال له: ابن شعوب - قد علا أبا سفيان، فضربه شداد فقتله، فقال رسول الله ﷺ: إن صاحبكم - يعنى حنظلة - لتغسله الملائكة. فسلوا أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهائعة؛ فقال رسول الله ﷺ: لذلك غسلته الملائكة، فقال شداد ابن الأسود في قتله حنظلة: لأحمين صاحبي ونفسي ** بطعنةٍ مثل شعاع الشمس وقال أبو سفيان بن حرب، وهو يذكر صبره ذلك اليوم، ومعاونة ابن شعوب شداد بن الأسود إياه على حنظلة: ولو شئت نجتني كميتٌ طمرةٌ ** ولم أحمل النعماء لابن شعوب فما زال مهرى مزجر الكلب منهم ** لدى غدوةٍ حتى دنت لغروب أقاتلهم وأدعى يال غالبٍ ** وأدفعهم عني بركن صليب فبكى ولا ترعى مقالة عاذلٍ ** ولا تسأمى من عبرةٍ ونجيب أباك وإخوانًا له قد تتابعوا ** وحق لهم من عبرةٍ بنصيب وسلى الذي قد كان في النفس أنني ** قتلت من النجار كل نجيب ومن هاشم قرمًا نجيبًا ومصعبًا ** وكان لدى الهيجاء غير هيوب ولو أنني لم أشف منهم قرونتي ** لكانت شجي في القلب ذات ندوب فآبوا وقد أودى الحلائب منهم ** لهم خدبٌ من مغبطٍ وكئيب أصابهم من لم يكن لدمائهم ** كفيًا ولا في خطةٍ بضريب فأجابه حسان بن ثابت فقال: ذكرت القروم الصيد من آل هاشمٍ ** ولست لزورٍ قلته بمصيب أتعجب أن أقصدت حمزة منهم ** نجيبًا وقد سميته بنجيب ألم يقتلوا عمرًا وعتبة وابنه ** وشيبة والحجاج وابن حبيب! غداة دعا العاصي عليا فراعه ** بضربة عضبٍ بله بخضيب وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه: ولولا دفاعي يا بن حربٍ ومشهدي ** لألفيت يوم النعف غير مجيبٍ ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت ** ضباعٌ عليه أو ضراء كليب وقال الحارث بن هشام يجيب أبا سفيان في قوله: وما زال مهري مزجر الكلب منهم وظن أنه يعرض به إذ فر يوم بدر: وإنك لو عاينت ما كان منهم ** لأبت بقلبٍ ما بقيت نخيب لدى صحن بدرٍ أو لقامت نوائحٌ ** عليك، ولم تحفل مصاب حبيب جزيتهم يومًا ببدر كمثله ** على سابحٍ ذي ميعة وشبيب قال أبو جعفر: وقد وقفت هند بنت عتبة - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ﷺ، يجدعن الآذان وألأنوف؛ حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدمًا وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشيًا، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله ﷺ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، أنه حدث أن عمر بن الخطاب قال لحسان: يا بن الفريعة لو سمعت ما تقول هند ورأيت أشرها، قائمة على صخرة ترتجز بنا، وتذكر ما صنعت بحمزة! فقال له حسان: والله إني لأنظر إلى الحربة تهوي وأنا على رأس فارع - يعني أطمه - فقلت: والله إن هذه لسلاحٌ ما هي بسلاح العرب؛ وكأنها إنما تهوي إلى حمزة؛ ولا أدري. أسمعني بعض قولها أكفيكموها؛ قال: فأنشده عمر بعض ما قالت، فقال حسان يهجو هندًا: أشرت لكاع وكان عادتها ** لؤمًا إذا أشرت مع الكفر لعن الإله وزوجها معها ** هند الهنود عظيمة البظر أخرجت مرقصةً إلى أحدٍ ** في القوم مقتبةً على بكر بكرٍ ثفال لا حراك به ** لا عن معاتبةٍ ولا زجر وعصاك استك تتقين بها ** دقى العجاية هند بالفهر قرحت عجيزتها ومشرجها ** من دأبها نصا على القتر ظلت تداويها زميلتها ** بالماء تنضحه وبالسدر أخرجت ثائرةً مبادرةً ** بأبيك وابنك يوم ذي بدر وبعمك المستوه في ردعٍ ** وأخيك منعفرين في الجفر ونسيت فاحشةً أتيت بها ** يا هند، ويحك سبة الدهر فرجعت صاغرةً بلا ترةٍ ** منا ظفرت بها ولا نصر زعم الولائد أنها ولدت ** ولدًا صغيرًا كان من عهر قال أبو جعفر: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم - فيما حدثنا هارون بن إسحاق قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: ثم إن أبا سفيان أشرف علينا، فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله ﷺ: لا تجيبوه؛ مرتين، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثًا، فقال رسول الله ﷺ: لا تجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثًا، فقال رسول الله ﷺ: لاتجيبوه، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا، فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كذبت ياعدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك! فقال: اعل هبل! اعل هبل! فقال رسول الله ﷺ: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل! قال أبو سفيان: ألا لنا العزى ولا عزى لكم! فقال رسول الله ﷺ: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم! قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال؛ أما إنكم ستجدون في القوم مثلًا لم آمر بها ولم تسؤني. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال في حديثه: لما أجاب عمر أبا سفيان قال له أبو سفيان: هلم يا عمر، فقال رسول الله ﷺ: إيته فانظر ما شأنه؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدًا؟ فقال عمر: اللهم لا؛ وإنه ليسمع كلامك الآن، فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر؛ لقول ابن قميئة لهم: إني قتلت محمدًا. ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاهم مثلٌ والله ما رضيت ولا سخطت، ولا نهيت ولا أمرت. وقد كان الحليس بن زبان أخو بنى الحارث بن عبد مناة؛ وهو يومئذ سيد الأحابيش، قد مر بأبي سفيان بن حرب، وهو يضرب في شدق حمزة يزج الرمح؛ وهو يقول ذق عقق! فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بأبن عمه كما ترون لحمًا! فقال: اكتمها، فإنها كانت زلة؛ فلما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر للعام المقبل، فقال رسول الله ﷺ لرجل من أصحابه: قل نعم هي بيننا وبينك موعد. ثم بعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون! فإن كانوا قد اجتنبوا الخيل، وامتطوا الإبل؛ فإنهم يريدون مكة؛ وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإبل؛ فهم يريدون المدينة؛ فوالذي نفسي بيده؛ لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؛ فلما اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل توجهوا إلى مكة؛ وقد كان رسول الله ﷺ قال: أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني. قال عليٌ عليه السلام: فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح؛ ما أستطيع أن أكتم الذي أمرني به رسول الله ﷺ لما بي من الفرح؛ إذ رأيتهم انصرفوا إلى مكة عن المدينة. وفرغ الناس لقتلاهم، فقال رسول الله ﷺ - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخي بني النجار، أن رسول الله ﷺ، قال: من رجلٌ ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ - وسعد أخو بني الحارث بن الخزرج - أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل؛ فنظر فوجده جريحًا في القتلى به رمق، قال: فقلت له: إن رسول الله ﷺ أمرني أن أنظر له: أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال: فأنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله خير ما جزى نبي عن أمته؛ وأبلغ عني قومك السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ﷺ وفيكم عينٌ تطرف. ثم لم أبرح حتى مات؛ فجئت رسول الله فأخبرته خبره. وخرج رسول الله ﷺ - فيما بلغني - يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أن رسول الله ﷺ حين رأى بحمزة ما رأى، قال: لو لا أن تحزن صفية أو تكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير، ولئن أنا أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلًا منهم، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله ﷺ وغيظه على ما فعل بعمه، قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم يومًا من الدهر لنمثلن بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أخبرني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، قال ابن حميد، قال سلمة: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: إن الله عز وجل أنزل في ذلك من قول رسول الله ﷺ وقول أصحابه: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين "، إلى آخر السورة، فعفا رسول الله ﷺ وصبر ونهى عن المثلة. قال ابن إسحاق: وأقبلت - فيما بلغني - صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة - وكان أخاها لأبيها وأمها - فقال رسول الله ﷺ لابنها الزبير بن العوام: القها فارجعها، لا ترى ما بأخيها. فلقيها الزبير فقال لها: يا أمه؛ إن رسول الله ﷺ يأمرك أن ترجعي، فقالت: ولم، وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله قليل! فما أرضانا بما كان من ذلك! لاحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما جاء الزبير رسول الله ﷺ فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلت عليه؛ واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر رسول الله ﷺ به فدفن. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: فزعم بعض آل عبد الله بن جحش - وكان لأميمة بنت عبد المطلب خاله حمزة؛ وكان قد مثل به كما مثل بحمزة؛ إلا أنه لم يبقر عن كبده - أن رسول الله ﷺ دفنه مع حمزة في قبره، ولم أسمع ذلك إلا عن أهله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: لما خرج رسول الله ﷺ إلى أحد وقع حسيل بن جابر - وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان - وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه؛ وهما شيخان كبيران: لا أبا لك! ما تنتظر؟ فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار؛ إنما نحن هامة اليوم أو غد؛ أفلا نأخذ أسيافنا، ثم نلحق برسول الله ﷺ، لعل الله عز وجل يرزقنا شهادة مع رسول الله ﷺ! فأخذا أسيافهما، ثم خرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما؛ فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر، اليمان، فاختلف عليه أسياف المسليمن فقتلوه؛ ولا يعرفونه. فقال حذيفة: أبي! قالوا: والله إن عرفناه. وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين! فأراد رسول الله ﷺ أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسليمن، فزادته عند رسول الله ﷺ خيرًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رجلًا منهم كان يدعى حاطب بن أمية بن رافع، وكان له ابن يقال له يزيد بن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد، فأتى به إلى دار قومه وهو يموت؛ فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولن من الرجال والنساء: أبشر يا بن حاطب بالجنة، قال: وكان حاطب شيخًا قد عسا في الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فقال: بأي شيء، تبشرونه، أبجنة من حرمل! غررتم والله هذا الغلام من نفسه، وفجعتموني به! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجلٌ أتى لا يدرى من أين هو، يقال له قزمان، فكان رسول الله ﷺ يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار؛ فلما كان يوم أحد، قاتل قتالًا شديدًا، فقتل هو وحده ثمانيةً من المشركين أو تسعة، وكان شهمًا شجاعًا ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجالٌ من المسلمين يقولن: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر! قال: بم أبشر! والله إن قاتلت إلا على أحساب قومي؛ ولولا ذلك ما قاتلت؛ فلما اشتدت عليه جراحته، أخذ سهمًا من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات؛ فأخبر رسول الله ﷺ، فقال: أشهد أنى رسول الله حقًا! وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق اليهودي، وكان أحد بني ثعلبة ابن الفطيون، لما كان ذلك اليوم قال: يا معشر يهود؛ والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحقٌ. قالوا: إن اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت فأخذ سيفه وعدته. وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء. ثم غدا إلى رسول الله ﷺ فقاتل معه حتى قتل؛ فقال رسول الله ﷺ - فيما بلغني: مخيريق خير يهود. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وقد احتمل ناسٌ من المسلمين قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله ﷺ عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن أشياخ من بني سلمة، أن رسول الله ﷺ قال يومئذ حين أمر بدفن القتلى: انظروا عمرو بين الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام. فإنهما كانا متصافيين في الدنيا، فاجعلوهما في قبر واحد. قال: فلما احتفر معاوية القناة أخرجا وهما يثنيان كأنما دفنا بالأمس. قال: ثم انصرف رسول الله ﷺ راجعًا إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش - كما ذكر لي - فنعى لها أخوها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له؛ ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله ﷺ: إن زوج المرأة منها لبمكان؛ لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها على زوجها. قال: ومر رسول الله ﷺ بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله ﷺ فبكى ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له! فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله ﷺ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: مر رسول الله ﷺ بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله ﷺ بأحد؛ فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله ﷺ؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان؛ هو بحمد الله كما تحبين؛ قالت: أرنيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جللٌ! قال أبو جعفر: فلما انتهى رسول الله ﷺ إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية، وناولها عليٌ عليه السلام سيفه، وقال: وهذا فاغسلي عنه؛ فوالله لقد صدقني اليوم. فقال رسول الله ﷺ: لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة. وزعموا أن علي بن أبي طالب حين أعطى فاطمة عليهما السلام سيفه قال: أقاطم هاك السيف غير ذميم ** فلست برعديدٍ ولا بمليم لعمري لقد قاتلت في حب أحمدٍ ** وطاعة ربٍ بالعباد رحيم وسيفي بكفي كالشهاب أهزه ** أجذ به من عاتقٍ وصميم فما زلت حتى فض ربي جموعهم ** وحتى شفينا نفس كل حليم وقال أبو دجانة حين أخذ السيف من يد رسول الله ﷺ فقاتل به قتالًا شديدًا - وكان يقول: رأيت إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا فصمدت له، فلما حملت عليه بالسيف ولولت؛ فإذا امرأة؛ فأكرمت سيف رسول الله ﷺ أن أضرب به امرأة - وقال أبو دجانة: أن الذي عاهدني خليلي ** ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدهر في الكيول ** أضرب بسيف الله والرسول غزوة حمراء الأسد وكان رجوع رسول الله ﷺ إلى المدينة يوم السبت؛ وذلك يوم الوقعة بأحد؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، قال: كان يوم أحد يوم السبت؛ للنصف من شوال؛ فلما كان الغد من يوم أحد - وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال - أذن مؤذن رسول الله ﷺ في الناس بطلب العدو؛ وأذن مؤذنه: ألا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي: يا بني؛ إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله ﷺ على نفسي؛ فتخلف على أخواتك. فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله ﷺ، فخرج معه، وإنما خرج رسول الله ﷺ مرهبًا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم؛ ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان، أن رجلًا من أصحاب رسول الله ﷺ من بني عبد الأشهل كان شهد أحدًا، قال: شهدت رسول الله ﷺ أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين؛ فلما أذن مؤذن رسول الله ﷺ بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله ﷺ؛ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل؛ فخرجنا مع رسول الله ﷺ - وكنت أيسر جرحًا منه - فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة؛ حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله ﷺ، حتى انتهى إلى حمراء الأسد؛ وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثًا: الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. وقد مر به - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - معبدٌ الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة رسول الله ﷺ بتهامة، صفقتهم معه، لا يخفون عليه شيئًا كان بها - ومعبد يومئذ مشرك - فقال: يا محمد؛ أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك؛ ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! ثم خرج من عند رسول الله ﷺ بحمراء الأسد؛ حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم؛ لنكرن على بقيتهم؛ فلفرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدًا، قال ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمعٍ لم أر مثله قط يتحرمون عليكم تحرمًا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك ما تقول! قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتًا من شعر، قال: وماذا قلت؟ قال: قلت: كادت تهد من الأصوات راحلتي ** إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل تردى بأسدٍ كرام لا تنابلةٍ ** عند اللقاء ولا خرقٍ معازيل فظلت عدوًا أظن الأرض مائلةً ** لما سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حربٍ من لقائكم ** إذا تغطمطت البطحاء بالجيل! إني نذيرٌ لأهل البسل ضاحيةً ** لكل ذي إربةٍ منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخشٍ قنابله ** وليس يوصف ما أنذرت بالقيل قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر به ركبٌ من عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غدًا زبيبًا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه، لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله ﷺ وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله ﷺ وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل! قال أبو جعفر: ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى المدينة بعد الثالثة؛ فزعم بعض أهل الأخبار أن رسول الله ﷺ ظفر في وجهه إلى حمراء الأسد بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وأبي عزة الجمحي؛ وكان رسول الله ﷺ خلف على المدينة حين خرج إلى حمراء الأسد ابن أم مكتوم. وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاث من الهجرة - ولد الحسن بن علي بن أبي طالب في النصف من شهر رمضان. وفيها علقت فاطمة بالحسين صلوات الله عليهما. وقيل: لم يكن بين ولادتها الحسن وحملها بالحسين إلا خمسون ليلة. وفيها حملت - فيما قيل - جميلة بنت عبد الله بن أبي بعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر في شوال. ذكر الأحداث التي كانت في سنة أربع من الهجرة غزوة الرجيع ثم دخلت السنة الرابعة من الهجرة، فكان فيها غزوة الرجيع في صفر. وكان من أمرها ما حدثني به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ قال: قدم على رسول الله ﷺ بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا له: يا رسول الله؛ إن فينا إسلامًا وخيرًا؛ فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرءوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام. فبعث رسول الله ﷺ معهم نفرًا ستة من أصحابه: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البكير حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخا بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي أخا بني جحجبي بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخا بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليفًا لبنى ظفر من بلى. وأمر رسول الله ﷺ على القوم مرثد بن أبي مرثد، فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجبع ماء لهذيل بناحية من الحجاز من صدور الهدأة غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلًا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا بالرجال في أيديهم السيوف، قد غشوهم. فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم؛ ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئًا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثلبت بن أبي الأقلح، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدًا ولا عقدًا أبدًا؛ فقاتلوهم حتى قتلوهم جميعًا. وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة، فأعطوا بأيديهم، فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران، انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران. وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، فقدموا بهما مكة، فباعوهما فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل - وكان حجير أخا الحارث بن عامر لأمه - ليقتله بأبيه، وأما زيد بن الدثنة؛ فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفة الخمر، فمنعته الدبر. فلما حالت بينهم وبينه، قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه، فنأخذه، فبعث الله الوادي. فاحتمل عاصمًا فذهب به، وكان عاصم قد أعطى الله عهدًا ألا يمسه مشركٌ ولا يمس مشركًا أبدًا، تنجسًا منه. فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه، أن الدبر منعته: عجبا، لحفظ الله العبد المؤمن! كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته. قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق، فإنه قص من خبر هذه السرية غير الذي قصه، والذي قصه غيره من ذلك ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جعفر بن عون العمري، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن عمرو - أو عمر - بن أسيد، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ بعث عشرة رهط، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فخرجوا حتى إذا كانوا بالهدأة ذكروا لحي من هذيل، يقال لهم: بنو لحيان، فبعثوا إليهم مائة رجل راميًا؛ فوجدوا مأكلهم حيث أكلوا التمر، فقالوا: هذه نوى يثرب، ثم اتبعوا آثارهم؛ حتى إذا أحس بهم عاصمٌ وأصحابه التجئوا إلى جبل، فأحاط بهم ألآخرون، فاستنزلوهم، وأعطوهم العهد، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم أخبر نبيك عنا. ونزل إليهم ابن الدثنة البياضي، وخبيب، ورجل آخر، فأطلق القوم أوتار قسيهم، ثم أوثقوهم، فخرجوا رجلًا من الثلاثة، فقال: هذا والله أول الغدر؛ والله لا أتبعكم. فضربوه فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وابن الدثنة إلى مكة، فدفعوا خبيبًا إلى بني الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد؛ فبينما خبيب عند بنات الحارث؛ إذ استعار من إحدى بنات الحارث موسى يستحد بها للقتل، فما راع المرأة - ولها صبي يدرج - إلا بخبيب قد أجلس الصبي على فخذه، والموسى في يده؛ فصاحت المرأة؛ فقال خبيب: أتخشين أني أقتله! إن الغدر ليس من شأننا. قال: فقالت المرأة بعد: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب؛ لقد رأيته وما بمكة من ثمرة؛ وإن في يده لقطفًا من عنب يأكله؛ إن كان إلا رزقًا رزقه الله خبيبًا. وبعث حي من قريش إلى عاصم ليؤتوا من لحمه بشيء، وقد كان لعاصم فيهم آثار بأحد؛ فبعث الله عليه دبرًا، فحمت لحمه، فلم يستطيعوا أن يأخذوا من لحمه شيئًا، فلما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: ذروني أصل ركعتين، فتركوه فصلى سجدتين: فجرت سنة لمن قتل صبرًا أن يصلي ركعتين. ثم قال خبيب: لولا أن يقولوا جزع لزدت، وما أبالي: على أي شقٍ كان لله مصرعي ثم قال: وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع اللهم أحصهم عددًا، وخذهم بددًا. ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف؛ فضربه فقتله. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل، قال: وأخبرني جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله ﷺ بعثه وحده عينًا إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيبٍ وأنا أتخوف العيون فرقيت فيها، فحللت خبيبًا، فوقع إلى الأرض، فانتبذت غير بعيد، ثم التفت فلم أر لخبيب رمة؛ فكأنما الأرض ابتلعته؛ فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة. قال أبو جعفر: وأما زيد بن الدثنة، فإن صفوان بن أمية بعث به - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع واجتمع إليه رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدًا عندنا الآن مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك! قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي. قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت في الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا. ثم قتله نسطاس. ذكر الخبر عن عمرو بن أمية الضمري إذ وجهه رسول الله ﷺ لقتل أبي سفيان بن حرب ولما قتل من وجهه النبي ﷺ إلى عضل والقارة من أهل الرجيع، وبلغ خبرهم رسول الله ﷺ بعث عمرو بن أمية الضمري إلى مكة مع رجل من الأنصار، وأمرهما بقتل أبي سفيان بن حرب، فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه، عن جده - يعني عمرو بن أمية - قال: قال عمرو بن أمية: بعثني رسول الله ﷺ بعد قتل خبيب وأصحابه، وبعث معي رجلًا من الأنصار، فقال: ائتيا أبا سفيان بن حرب فاقتلاه، قال: فخرجت أنا وصاحبي ومعي بعير لي، وليس مع صاحبي بعير، وبرجله علة. فكنت أحمله على بعيري، حتى جئنا بطن يأجج، فعقلنا بعيرنا في فناء شعب، فأسندنا فيه، فقلت لصاحبي: انطلق بنا إلى دار أبي سفيان، فإني محاول قتله. فانظر، فإن كانت مجاولة أو خشيت شيئًا فالحق ببعيرك فاركبه، والحق بالمدينة فأت رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، وخل عني، فإني رجل عالم بالبلد جرئ عليه، نجيب الساق. فلما دخلنا مكة ومعي مثل خافية النسر - يعني خنجره - قد أعددته، إن عانقني إنسان قتلته به، فقال لي صاحبي: هل لك أن نبدأ فنطوف بالبيت أسبوعًا، ونصلي ركعتين؟ فقلت: أنا أعلم بأهل مكة منك، إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم، ثم جلسوا بها، وأنا أعرف بها من الفرس الأبلق. قال: فلم يزل بي حتى أتينا البيت، فطفنا به أسبوعًا، وصلينا ركعتين، ثم خرجنا فمررنا بمجلس من مجالسهم فعرفني رجل منهم، فصرخ بأعلى صوته. هذا عمرو بن أمية! قال: فتبادرتنا أهل مكة وقالوا: تالله ما جاء بعمرو خير! والذي يحلف به ما جاءها قط إلا لشر - وكان عمرو رجلًا فاتكًا متشيطنًا في الجاهلية - قال: فقاموا في طلبي وطلب صاحبي فقلت له: النجاء! هذا والله الذي كنت أحذر، أما الرجل فليس إليه سبيل، فانج بنفسك، فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في الجبل، فدخلنا في غار، فبتنا فيه ليلتنا، وأعجزناهم، فرجعوا وقد استترت دونهم بأحجار حين دخلت الغار، وقلت لصاحبي: أمهلني حتى يسكن الطلب عنا، فإنهم والله ليطلبنا ليلتهم هذه ويومهم هذا حتى يمسوا. قال: فوالله إني لفيه إذ أقبل عثمان بن مالك بن عبيد الله التيمي يتخيل بفرس له، فلم يزل يدنو ويتخيل بفرسه حتى قام علينا بباب الغار. قال: فقلت لصاحبي: هذا والله ابن مالك، والله لئن رآنا ليعلمن بنا أهل مكة. قال: فخرجت إليه فوجأته بالخنجر تحت الثدي، فصاح صيحة أسمع أهل مكة، فأقبلوا إليه، ورجعت إلى مكاني، فدخلت فيه، وقلت لصاحبي: مكانك! واتبع أهل مكة الصوت يشتدون، فوجدوه به رمق، فقالوا: ويلك من ضربك! قال عمرو بن أمية: ثم مات وما أدركوا ما يستطيع أن يخبرهم بمكاننا، فقالوا: والله لقد علمنا أنه لم يأت لخير، وشغلهم صاحبهم عن طلبنا فاحتملوه، ومكثنا في الغار يومين حتى سكن عنا الطلب. ثم خرجنا إلى التنعيم، فإذا خشبة خبيب، فقال لي صاحبي: هل لك في خبيب تنزله عن خشبته؟ فقلت أين هو؟ قال: هو ذاك حيث ترى. فقلت: نعم، فأمهلني وتنح عني. قال: وحوله حرس يحرسونه، قال عمرو بن أمية: فقلت للأنصاري: إن خشيت شيئًا فخذ الطريق إلى جملك فاركبه والحق برسول الله ﷺ، فأخبره الخبر، فأشتددت إلى خشبته فاحتللته واحتملته على ظهري فوالله ما مشيت إلا نحو أربعين ذراعًا حتى نذروا بي، فطرحته فما أنسى وجبته حين سقط فاشتدوا في أثري، فأخذت طريق الصفراء فأعيوا فرجعوا، وانطلق صاحبي إلى بعيره فركبه ثم أتى النبي ﷺ فأخبره أمرنا وأقبلت أمشي حتى إذا أشرفت على الغليل، غليل ضجنان، دخلت غارًا فيه، ومعي قوسي وأسهمي، فبينا أنا فيه إذ دخل علي رجل من بني الديل بن بكر، أعور طويل يسوق غنمًا له، فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من بني بكر، قال: وأنا من بني بكر، ثم أحد بني الديل. ثم اضطجع معي فيه، فرفع عقيرته يتغنى ويقول: ولست بمسلمٍ ما دمت حيًا ** ولست أدين دين المسلمينا فقلت: سوف تعلم! فلم يلبث الأعرابي أن نام وغط، فقمت إليه فقتلته أسوأ قتلة قتلها أحدٌ أحدًا؛ قمت إليه فجعلت سية قوسي في عينه الصحيحة، ثم تحاملت عليها حتى أخرجتها من قفاه. قال: ثم أخرج مثل السبع، وأخذت المحجة كأني نسر، وكان النجاء حتى أخرج على بلد قد وصفه، ثم على ركوبة، ثم على النقيع، فإذا رجلان من أهل مكة بعثتهما قريش يتحسسان من أمر رسول الله ﷺ، فعرفتهما فقلت: استأسر، فقالا: أنحن نستأسر لك! فأرمي أحدهما بسهم فأقتله، ثم قلت للآخر: استأسر، فاستأسر، فأوثقته، فقدمت به على رسول الله ﷺ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن سليمان بن وردان، عن أبيه، عن عمرو بن أمية، قال: لما قدمت المدينة، مررت بمشيخةٍ من الأنصار، فقالوا: هذا والله عمرو بن أمية، فسمع الصبيان قولهم، فاشتدوا إلى رسول الله ﷺ يخبرونه، وقد شددت إبهام أسيري بوتر قوسي، فنظر النبي ﷺ إليه فضحك حتى بدت نواجذه، ثم سألني فأخبرته الخبر، فقال لي خيرًا ودعا لي بخير. وفي هذه السنة تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت خزيمة أم المساكين من بني هلال في شهر رمضان، ودخل بها فيه، وكان أصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشًا، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث، فطلقها. ذكر خبر بئر معونة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة أربع من الهجرة - كان من أمر السرية التي وجهها رسول الله ﷺ، فقتلت ببئر معونة. وكان سبب توجيه النبي ﷺ إياهم لما وجههم له، ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: فأقام رسول الله ﷺ بالمدينة بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، وولى تلك الحجة المشركون. ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، وكان من حديثهم ما حدثني أبي: إسحاق بن يسار، عن المغيرة بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما من أهل العلم، قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة - وكان سيد بني عامر بن صعصعة - على رسول الله ﷺ المدينة؛ وأهدى إليه هدية، فأبى رسول الله ﷺ أن يقبلها، وقال: يا أبا براء، لا أقبل هدية مشرك، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك. ثم عرض عليه الإسلام، وأخبره بما له فيه، وما وعد الله المؤمنين من الثواب، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسنٌ جميل، فلو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله ﷺ: إني أخشى عليهم أهل نجد! فقال أبو براء: أنا لهم جارٌ، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله ﷺ المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلًا من أصحابه من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع ابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، في رجال مسمين من خيار المسلمين. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: بعث رسول الله ﷺ المنذر بن عمرو في سبعين راكبًا، فساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب - فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله ﷺ إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه، حتى عدا على رجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، فقالوا: لن نخفر أبا براء، قد عقد لهم عقدًا وجوارًا، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم: عصية، ورعلًا، وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا السيوف، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمقٌ، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف؛ فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنًا، فأقبلا لينظرا إليه، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله ﷺ فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال. ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرًا، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عقدٌ من رسول الله ﷺ وجوارٌ لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ فقالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، بما أصابوا من أصحاب رسول الله ﷺ. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله ﷺ أخبره الخبر، فقال رسول الله ﷺ: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله ﷺ: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا. فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب رسول الله ﷺ بسببه وجواره. وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عامر بن الطفيل، كان يقول: إن الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه. قالوا: هو عامر بن فهيرة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أحد بني جعفر، رجل من بني جبار بن سلمى بن مالك ابن جعفر، قال: كان جبار فيمن حضرها يومئذ مع عامر، ثم أسلم بعد ذلك. قال: فكان يقول: مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلًا منهم يومئذ بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول حين طعنته: فزت والله! قال: فقلت في نفسي: ما فاز! أليس قد قتلت الرجل! حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: الشهادة، قال: فقلت: فاز لعمر الله! فقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي البراء على عامر بن الطفيل: بني أم البنين ألم يرعكم ** وأنتم من ذوائب أهل نجد تهكم عامرٍ بأبي براء ** ليخفره، وما خطأ كعمد ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ** فما أحدثت في الحدثان بعدي أبوك أبو الحروب أبو براءٍ ** وخالك ماجدٌ حكم بن سعد وقال كعب بن مالك في ذلك أيضًا: لقد طارت شعاعًا كل وجهٍ ** خفارة ما أجارأبو براء فمثل مسهبٍ وبني أبيه ** بجنب الرده من كنفي سواء بني أم البنين أما سمعتم ** دعاء المستغيث مع المساء! وتنويه الصريخ بلى ولكن ** عرفتم أنه صدق اللقاء فما صفرت عياب بني كلابٍ ** ولا القرطاء من ذم الوفاء أعامر عامر السوءات قدمًا ** فلا بالعقل فزت ولا السناء أأخفرت النبي وكنت قدمًا ** إلى السوءات تجري بالعراء! فلست كجار جار أبي داودٍ ** ولا الأسدي جار أبي العلاء ولكن عاركم داءٌ قديمٌ ** وداء الغدر فأعلم شر داء فلما بلغ ربيعة بن عامر أبي البراء قول حسان وقول كعب، حمل على عامر بن الطفيل فطعنه، فشطب الرمح عن مقتله، فخر عن فرسه. فقال: هذا عمل أبي براء! إن مت فدمي لعمي ولا يتبعن به؛ وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتى إلي. حدثني محمد بن مرزوق، قال: حدثنا عمرو بن يونس، عن عكرمة، قال: حدثنا إسحاق بن أبي طلحة، قال: حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله ﷺ الذين أرسلهم رسول الله ﷺ إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري، أربعين أو سبعين! وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي ﷺ الذين بعثوا، حتى أتوا غارًا مشرفًا على الماء قعدوا فيه. ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله ﷺ أهل هذا الماء؟ فقال - أراه ابن ملحان الأنصاري -: أنا أبلغ رسالة رسول الله ﷺ، فخرج حتى أتى حواءً منهم، فاحتبى أما البيوت، ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار، فقتلهم أجميعين عامر بن الطفيل. قال إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله عز وجل أنزل فيهم قرآنًا: " بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا، فرضى عنا، ورضينا عنه "، ثم نسخت، فرفعت بعد ما قرأناه زمانًا، وأنزل الله عز وجل: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون، فرحين " حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري عن أنس بن مالك، قال: بعث رسول الله ﷺ إلى عامر بن الطفيل الكلابي سبعين رجلًا من الأنصار. قال: فقال أميرهم: مكانكم حتى آتيكم بخبر القوم! فلما جاءهم قال: أتؤمنونني حتى أخبركم برسالة رسول الله ﷺ؟ قالوا: نعم، فبينا هو عندهم؛ إذا وخزه رجلٌ منهم بالسنان. قال: فقال الرجل: فزت ورب الكعبة! فقتل، فقال: عامر: لااحسبه إلا أن له أصحابً، فاقتصوا أثره حتى أتوهم فقتلوهم، فلم يفلت منهم إلا رجلٌ واحدٌ. قال أنس: فكنا نقرأ فيما نسخ: " بلغوا عنا إخواننا أن قد لقينا ربنا، فرضى عنا ورضينا عنه ". وفي هذه السنة - أعني السنة الرابعة من الهجرة - أجلى النبي ﷺ بني النضير من ديارهم. ذكر خبر جلاء بني النضير قال أبو جعفر: وكان سبب ذلك ما قد ذكرنا قبل من قتل عمرو بن أمية الضمري الرجلين الذين قتلهما في منصرفه من الوجه الذي كان رسول الله ﷺ وجهه إليه مع أصحابه بئر معونة، وكان لهما من رسول الله ﷺ جوارٌ وعهدٌ. وقيل إن عامر بن الطفيل كتب إلى رسول الله ﷺ: إنك قتلت رجلين لهما منك جوارٌ وعهدٌ؛ فابعث بديتهما. فانطلق رسول الله ﷺ إلى قباء، ثم مال إلى بني النضير مستعينًا بهم في ديتهما، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وأسيد بن حضير. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: خرج رسول الله ﷺ إلى بني النضير، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول الله ﷺ عقده لهما؛ - كما حدثني يزيد بن رومان - وكان بين بني النضير وبين بني عامر حلف وعقد؛ فلما أتاهم رسول الله ﷺ يستعينهم في دية ذنيك القتيلين؛ قالوا: نعم أبا القاسم، نعنيك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا هذا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله ﷺ إلى جنب جدار من بيوتهم، قاعد - فقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيقتله بها فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم؛ فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه الصخرة - كما قال - ورسول الله ﷺ في نفر من أصحابه؛ فيهم أبو بكر وعمر وعلي؛ فأتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبث رسول الله ﷺ أصحابه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلًا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلًا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله ﷺ حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود قد أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله ﷺ بالتهيؤ لحربهم، والسير إليهم. ثم سار بالناس إليهم؛ حتى نزل بهم، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله ﷺ بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها! قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه ذكر ان بني النضير لما تآمروا بما تآمروا به من إدلاء الصخرة على رسول الله ﷺ، نهاهم عن ذلك سلام من مشكم وخوفهم الحرب وقال: هو يعلم ما تريدون، فعصوه، فصعد عمرو بن جحاش ليدحرج الصخرة، وجاء النبي ﷺ الخبر من السماء، فقام كأنه يريد حاجة، وانتظره أصحابه، فأبطأ عليهم، وجعلت يهود تقول: ما حبس أبا القاسم، وانصرف أصحابه؟ فقال كنانة بن صوريًا: جاءه الخبر بما هممتم به، قال: ولما رجع أصحاب رسول الله ﷺ انتهوا إليه وهو جالس في المسجد، فقالوا: يا رسول الله، انتظرناك ومضيت، فقال: همت يهود بقتلي، وأخبرنيه الله عز وجل، ادعوا لي محمد بن مسلمة، قال: فأتى محمد بن مسلمة، فقال: اذهب إلى يهود فقل لهم: اخرجوا من بلادي فلا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به من الغدر. قال: فجاءهم محمد بن مسلمة، فقال لهم: إن رسول الله ﷺ يأمركم أن تظعنوا من بلاده، فقالوا: يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس! فقال محمد: تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود؛ فقالوا: نتحمل. قال: فأرسل إليهم عبد الله بن أبي يقول: لا تخرجوا، فإن معي من العرب وممن انضوى إلى من قومي ألفين، فأقيموا فيهم يدخلون معكم، وقريظة تدخل معكم. فبلغ كعب بن أسد صاحب عهد بني قريظ فقال: لا ينقض العهد رجل من بني قريظة وأنا حيٌ، فقال سلام بن مشكم لحيي بن أخطب: يا حيي اقبل هذا الذي قال محمد، فإنما شرفنا على قومنا بأموالنا قبل أن تقبل ما هو شر منه. قال: وما هو شرٌ منه؟ قال: أخذ الأموال وسبى الذرية وقتل المقاتلة، فأبى حيي، فأرسل جدي ابن أخطب إلى رسول الله ﷺ: إنا لا نريم دارنا فاصنع ما بدا لك! قال: فكبر رسول الله ﷺ، وكبر المسلمون معه، وقال: حاربت يهود، وانطلق جدى إلى ابن أبي يستمده. قال: فوجدته جالسًا في نفر من أصحابه، ومنادى النبي ﷺ ينادي بالسلاح، فدخل ابنه عبد الله بن عبد الله ابن أبي، وأنا عنده، فأخذ السلاح، ثم خرج يعدو، قال: فأيست من معونته. قال: فأخبرت بذلك كله حييًا، فقال: هذه مكيدة من محمد، فزحف إليهم رسول الله ﷺ، فحاصرهم رسول الله ﷺ خمسة عشر يومًا؛ حتى صالحوه على أن يحقن دماءهم، وله الأموال والحلقة. فحدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثنتي أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: حاصرهم رسول الله ﷺ - يعني بني النضير - خمسة عشر يومًا حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، ويسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرًا وسقاءً. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: قاتلهم النبي ﷺ حتى صالحهم على الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، على أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة - والحلقة: السلاح. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم؛ وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا فلم يفعلوا؛ وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا: رسول الله ﷺ أن يجليهم، ويكف عن دمائهم؛ على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم؛ إلا الحلقة. ففعل. فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، فكان أشرافهم ممن سار منهم إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيى بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم، وأن فيهم يومئذ لأم عمرو، صاحبة عروة بن الورد العبسي؛ التي ابتاعوا منه، وكانت إحدى نساء بني غفار بزهاء وفخر، وما رئى مثله من حي من الناس في زمانهم؛ وخلوا الأموال لرسول الله ﷺ، فكانت لرسول الله ﷺ خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله ﷺ على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأباد جانة سماك بن خرشة، ذكرا فقرًا فأعطاهما رسول الله ﷺ. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرازها. قال أبو جعفر: واستخلف رسول الله ﷺ إذ خرج لحرب بني النضير - فيما قيل - ابن أم مكتوم، وكانت رايته يومئذ مع علي بن أبي طالب عليه السلام. وفي هذه السنة مات عبد الله بن عثمان بن عفان، في جمادى الأولى منها، وهو ابن ست سنين، وصلى عليه رسول الله ﷺ، ونزل في حفرته عثمان بن عفان. وفيها ولد الحسين بن علي عليه السلام، لليالٍ خلون من شعبان. غزوة ذات الرقاع واختلف في التي كانت بعد غزوة النبي ﷺ بني النضير من غزواته، فقال ابن إسحاق في ذلك، ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع، وبعض شهر جمادى. ثم غزا نجدًا - يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان - حتى نزل نخلًا، وهي غزوة ذات الرقاع؛ فلقى بها جمعًا من غطفان، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب؛ وقد خاف الناس بعضهم بعضًا، حتى صلى رسول الله ﷺ بالمسلمين صلاة الخوف، ثم انصرف بالمسلمين. وأما الواقدي؛ فإنه زعم أن غزوة رسول الله ﷺ ذات الرقاع، كانت في المحرم سنة خمس من الهجرة. قال: وإنما سميت ذات الرقاع؛ لأن الجبل الذي سميت به ذات الرقاع جبل به سواد وبياض وحمرة؛ فسميت الغزوة بذلك الجبل. قال: واستخلف رسول الله ﷺ في هذه الغزوة على المدينة عثمان بن عفان. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ومحمد - يعني ابن عبد الرحمن - عن عروة بن الزبير، عن أبي هريرة، قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى نجد، حتى إذا كنا بذات الرقاع من نخل، لقى جمعًا من غطفان؛ فلم يكن بيننا قتال؛ إلا أن الناس قد خاوفهم، ونزلت صلاة الخوف، فصدع أصحابه صدعين، فقامت طائفة مواجهة العدو، وقامت طائفة خلف رسول الله ﷺ، فكبر رسول الله ﷺ، فكبروا جميعًا، ثم ركع بمن خلفه، وسجد بهم، فلما قاموا مشوا القهقري إلى مصاف اصحابهم، ورجع الآخرون، فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم قاموا فصلى بهم رسول الله ﷺ ركعة وجلسوا، ورجع الذين كانوا مواجهين العدو، فصلوا الركعة الثانية، فجلسوا جميعًا، فجمعهم رسول الله ﷺ بالسلام، فسلم عليهم. قال أبو جعفر: وقد اختلفت الرواية في صفة صلاة رسول الله ﷺ هذه الصلاة ببطن نخل اختلافًا متفاوتًا، كرهت ذكره في هذا الموضع خشية إطالة الكتاب، وسأذكره إن شاء الله في كتابنا المسمى " بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام " في كتاب صلاة الخوف منه. وقد حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قنادة، عن سليمان اليشكري، أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة: أي يوم أنزل، أو في أي يوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشام؛ حتى إذا كنا بنخل جاء رجلٌ من القوم إلى رسول الله ﷺ، فقال: يا محمد، قال: نعم، قال: هل تخافني؟ قال لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك، قال: فسل السيف ثم تهدده وأوعده. ثم نادى بالرحيل وأخذ السلاح. ثم نودي بالصلاة، فصلى نبي الله ﷺ بطائفة من القوم، وطائفة أخرى تحرسهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم، فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، والآخرون يحرسونهم. ثم سلم، فكانت للنبي ﷺ أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين؛ فيومئذ أنزل الله عز وجل في إقصار الصلاة، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال حدثني محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري؛ أن رجلًا من بنى محارب يقال له فلان بن الحارث، قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدًا؟ قالوا: نعم، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. فأقبل إلى رسول الله ﷺ وهو جالسٌ، وسيف رسول الله ﷺ في حجره، فقال: يا محمد، انظر إلى سيفك هذا! قال:، فأخذه فاستله، ثم جعل يهزه ويهم به، فيكبته الله عز وجل. ثم قال: يا محمد، أما تخافني؟ قال: لا، وما أخاف منك؟ قال: أما تخافني وفي يدى السيف؟ قال: لا، يمنعني الله منك! قال: ثم غمد السيف، فرده إلى رسول الله ﷺ، فأنزل الله عز وجل: " يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر ابن عبد الله الأنصاري، قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل من المسلمين امرأة من المشركين، فلما انصرف رسول الله ﷺ قافلًا أتى زوجها وكان غائبًا، فلما أخبر الخبر، حلف ألا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد دمًا، فخرج يتبع أثر رسول الله ﷺ، فنزل رسول الله ﷺ منزلًا، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ فانتدب رجلٌ من المهاجرين ورجلٌ من الأنصار، فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب - وكان رسول الله ﷺ وأصحابه قد نزلوا الشعب، من بطن الوادي - فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري: للمهاجري؛ أي الليل تحب أن أكفيكه؟ أوله أو آخره؟ قال: بلى اكفني أوله؛ فاضجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي، وأتى زوج المرأة، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم فوضعه فيه فنزعه، فوضعه وثبت قائمًا يصلي. ثم رماه بسهم آخر، فوضعه فيه، فنزعه، فوضعه وثبت قائمًا يصلي، ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه، فنزعه فوضعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس، فقد أتيت. قال: فوثب المهاجري، فلما رآهما الرجل، عرف أنهم قد نذروا به؛ ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله! أفلا، أهببتني أول ما رماك! قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها؛ فلما تتابع على الرمي ركعت فآذنتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله ﷺ بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها. ذكر الخبر عن غزوة السويق وهي غزوة النبي ﷺ بدرًا الثانية لميعاد أبي سفيان. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان حتى نزله، فأقام عليه ثماني ليالٍ ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة، حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران - وبعض الناس يقول: قد قطع عسفان - ثم بدا له الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عامٌ خصب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن؛ وإن عامكم هذا عام جدب؛ وإني راجع فارجعوا. فرجع ورجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق. يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق. فأقام رسول الله ﷺ على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده، فأتاه مخشي بن عمرو الضمري، وهو الذي وادعه على بني ضمرة في غزوة ودان، فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: نعم يا أخا بني ضمرة؛ وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك. حتى يحكم الله بيننا وبينك. فقال: لا والله يا محمد، مالنا بذلك منك من حاجة، وأقام رسول الله ﷺ ينتظر أبا سفيان؛ فمر به معبد بن أبي معبد الخزاعي، وقد رأى مكان رسول الله ﷺ وناقته تهوى به فقال: قد نفرت من رفقتى محمد ** وعجوةٍ من يثربٍ كالعنجد تهوي على دين أبيها الأتلد ** قد جعلت ماء قديدٍ موعدي وماء ضجنان لها ضحى الغد وأما الواقدي؛ فإنه ذكر أن رسول الله ﷺ ندب أصحابه لغزوة بدر لموعد أبي سفيان الذي كان وعده الالتقاء فيه يوم أحد رأس الحول للقتال في ذي القعدة. قال: وكان نعيم بن مسعود الأشجعي قد اعتمر، فقدم على قريش، فقالوا: يا نعيم، من أين كان وجهك؟ قال: من يثرب، قال: وهل رأيت لمحمد حركة؟ قال: تركته على تعبئة لغزوكم، - وذلك قبل أن يسلم نعيم - قال: فقال أبو سفيان: يا نعيم، إن هذا عام جدبٌ، ولا يصلحنا إلا عامٌ ترعى فيه الإبل الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد جاء أوان موعد محمد، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير، ولا طاعة لهم بنا؛ فيأتي الخلف منهم أحب إلى من أن يأتي من قبلنا، ولك عشر فرائض أضعها لك في يد سهيل بن عمرو يضمنها. فجاء سهيل بن عمرو إليهم، فقال نعيم لسهيل: يا أبا يزيد، أتضمن هذه الفرائض وأنطلق إلى محمد فأثبطه؟ فقال: نعم، فخرج نعيم حتى قدم المدينة، فوجد الناس يتجهزون، فتدسس لهم، وقال: ليس هذا برأي، ألم يجرج محمد في نفسه! ألم يقتل أصحابه! قال: فثبط الناس؛ حتى بلغ رسول الله ﷺ، فتكلم، فقال: والذي نفسي بيده، لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي. ثم أنهج الله عز وجل للمسلمين بصائرهم؛ فخرجوا بتجارات، فأصابوا الدرهم درهمين؛ ولم يلقوا عدوًا؛ وهي بدر الموعد؛ وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية، يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام. قال أبو جعفر: واستخلف رسول الله ﷺ على المدينة عبد الله بن رواحة. قال الواقدي: وفي هذه السنة تزوج رسول الله ﷺ أم سلمة بنت أبي أمية في شوال؛ ودخل بها. قال: وفيها أمر رسول الله ﷺ زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود؛ وقال: إني لا آمن أن يبدلوا كتابي. وولى الحج في هذه السنة المشركون. ثم كانت السنة الخامسة من الهجرة ففي هذه السنة تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش. حدثت عن محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي عن محمد بن يحيى بن حبان، قال: جاء رسول الله ﷺ بيت زيد بن حارثة، وكان زيد إنما يقال له زيد بن محمد، ربما فقده رسول الله ﷺ الساعة، فيقول: أين زيد؟ فجاء منزله يطلبه فلم يجده، وقامت إليه زينب بنت جحش زوجته فضلًا؛ فأعرض عنها رسول الله ﷺ، فقالت: ليس هو هاهنا يا رسول الله، فادخل بأبي أنت وأمي! فأبى رسول الله ﷺ أن يدخل؛ وإنما عجلت زينب أن تلبس إذ قيل لها: رسول الله ﷺ على الباب، فوثبت عجلة، فأعجبت رسول الله ﷺ؛ فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم؛ إلا أنه أعلن: سبحان الله العظيم! سبحان الله مصرف القلوب! قال: فجاء زيدٌ إلى منزله، فأخبرته امرأته أن رسول الله ﷺ أتى منزله، فقال زيد: ألا قلت له ادخل! فقالت: قد عرضت عليه ذلك فأبى، قال: فسمعته يقول شيئًا؟ قالت: سمعته يقول حين ولى: سبحان الله العظيم، سبحان الله مصرف القلوب! فخرج زيدٌ حتى أتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله؛ بلغني أنك جئت منزلي؛ فهلا دخلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك فأفارقها! فقال رسول الله ﷺ: أمسك عليك زوجك، فما استطاع إليها زيد سبيلا بعد ذلك اليوم؛ فكان يأتي رسول الله ﷺ فيخبره، فيقول له رسول الله ﷺ: أمسك عليك زوجك؛ ففارقها زيد واعتزلها وحلت. فبينا رسول الله ﷺ يتحدث مع عائشة؛ إذ أخذت رسول الله ﷺ غشية، فسرى عنه وهو يتبسم ويقول: من يذهب إلى زينب يبشرها، يقول: إن الله زوجنيها؟ وتلا رسول الله ﷺ: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك.. " القصة كلها. قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها؛ وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها، وما صنع الله زوجها، فقلت: تفخر علينا بهذا. قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله ﷺ تخبرها بذلك، فأعتطها أوضاحًا عليها. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان النبي ﷺ قد زوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ابنة عمته، فخرج رسول الله ﷺ يومًا يريده، وعلى الباب سترٌ من شعر؛ فرفعت الريح الستر فانكشف وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبي ﷺ، فلما وقع ذلك كرهت إلى الآخر، قال: فجاء فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: مالك! أرابك منها شيء! فقال: لا والله يا رسول الله، ما رابني منها شيء، ولا رأيت إلا خيرًا. فقال رسول الله ﷺ: أمسك عليك زوجك واتق الله؛ فذلك قول الله عز وجل: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه "، تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها. غزوة دومة الجندل قال الواقدي: وفيها غزا دومة الجندل في شهر ربيع الأول، وكان سببها أن رسول الله ﷺ بلغه أن جمعًا تجمعوا بها ودنوا من أطرافه. فغزاهم رسول الله ﷺ؛ حتى بلغ دومة الجندل، ولم يلق كيدًا، وخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري. قال أبو جعفر: وفيها وادع رسول الله ﷺ عيينة ابن حصن أن يرعى بتغلمين وما والاها. قال محمد بن عمر - فيما حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه - وذلك أن بلاد عيينة أجدبت، فوداع رسول الله ﷺ أن يرعى بتغلمين إلى المراض؛ وكان ما هنالك قد أخضب بسحابة وقعت، فوادعه رسول الله ﷺ أن يرعى فيما هنالك. قال الواقدي: وفيها توفيت أم سعد بن عبادة وسعد غائبٌ مع رسول الله ﷺ إلى دومة النجندل. ذكر الخبر عن غزوة الخندق وفيها: كانت غزوة رسول الله ﷺ الخندق في شوال؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وكان الذي جر غزوة رسول الله ﷺ الخندق - فيما قيل - ما كان من إجلاء رسول الله ﷺ بني النضير عن ديارهم. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة: قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، مولى آل الزبير، عروة بن الزبير ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، وعن الزهري، وعن عاصم بن عمر بن قتادة، وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعن محمد بن كعب القرظي وعن غيرهم من علمائنا؛ كلٌ قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض؛ أنه كان من حديث الخندق أن نفرًا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحيى بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي؛ في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل؛ هم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله ﷺ، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة؛ فدعوهم إلى حرب رسول الله ﷺ، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خيرٌ من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. قال: فهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا " - إلى قوله - " وكفى بجهنم سعيرًا ". فلما قالوا ذلك لقريش، سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ﷺ، فأجمعوا لذلك واتعدوا له. ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله ﷺ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه؛ وأن قريشًا تابعوهم على ذلك وأجمعوا فيه، فأجابوهم. فخرجت قريس وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعود بن رخيلة بن نويرة ابن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان؛ فيمن تابعه من قومه من أشجع. فلما سمع بهم رسول الله ﷺ وبما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة، فحدثت عن محمد بن عمر، قال: كان الذي أشار على رسول الله ﷺ بالخندق سلمان، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله ﷺ؛ وهو يومئذ حر، وقال: يا رسول الله: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: فعمل رسول الله ﷺ ترغيبًا للمسليمن في الأجر، وعمل فيه المسلمون: فدأب فيه ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله ﷺ وعن المسلمين في عملهم رجالٌ من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف من العمل، ويتسللون إلى أهاليهم بغير علم من رسول الله ﷺ ولا إذن. وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله ﷺ ويستأذنه في اللحوق بحاجته؛ فيأذن له؛ فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبةً في الخير، واحتسابًا له، فأنزل الله عز وجل: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه " إلى قوله: " واستغفر الله إن الله غفور رحيم ". فنزلت هذه الآية في كل من كان من أهل الحسبة من المؤمنين والرغبة في الخير؛ والطاعة لله ولرسوله ﷺ. ثم قال يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، ويذهبون بغير إذن رسول الله ﷺ: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا " إلى قوله: " قد يعلم ما أنتم عليه "، أي قد علم ما أنتم عليه من صدق أو كذب، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه؛ وارتجزوا فيه برجل من المسليمن يقال له جعيل، فسماه رسول الله ﷺ " عمرًا " فقالوا: سماه من بعد جعيلٍ عمرا ** وكان للبائس يومًا ظهرا فإذ مروا بعمرو، قال رسول الله ﷺ عمرا، وإذا قالوا: ظهرًا، قال رسول الله ﷺ: ظهرا. فحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن خالد بن عثمة، قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، قال: حدثني أبي، عن أبيه، قال: خط رسول الله ﷺ الخندق عام الأحزاب من أجم الشيخين طرف بني حارثة، حتى بلغ المذاد ثم قطعه أربعين ذراعًا بين كل عشرة، فاحتق المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي - وكان رجلًا قويًا - فقالت الأنصار: سلمان منا، وقالت المهاجرون: سلمان منا. فقال رسول الله ﷺ: سلمان منا أهل البيت. قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان، وحذيفة بن اليمان، والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعًا، فحفرنا تحت ذوباب حتى بلغنا الندى، فأخرج الله عز وجل من بطن الخندق صخرة بيضاء مروةً فكسرت حديدنا، وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان، ارق إلى رسول الله ﷺ فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمره؛ فإنا لا نحب أن نجاوز خطه. فرقي سلمان حتى أتى رسول الله ﷺ وهو ضاربٌ عليه قبة تركية؛ فقال: يا رسول الله، بأبينا أنت وأمنا! خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما نحيك فيها قليلا ولا كثيرًا؛ فمرنا فيها بأمرك؛ فإنا لا نحب أن نجاوز خطك. فهبط رسول الله ﷺ مع سلمان في الخندق، ورقينا نحن التسعة على شقة الخندق، فأخذ رسول الله ﷺ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربةً صدعها، وبرقت منها برقة أضاء كما بين لابتيها - يعني لابتي المدينة - حتى لكأن مصباحًا في جوف بيت مظلم. فكبر سول الله ﷺ تكبير فتح، وكبر المسلمون. ثم ضربها رسول الله ﷺ الثانية، فصدعها وبرق منها برقة أضاء منها بين لابتيها، حتى لكأن مصباحًا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله ﷺ تكبير فتح وكبر المسلمون. ثم ضربها رسول الله ﷺ الثالثة فكسرها، وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحًا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله ﷺ تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم أخذ بيد سلمان فرقى، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد رأيت شيئًا ما رأيته قط! فالتفت رسول الله ﷺ إلى القوم، فقال: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، بأبينا أنت وأمنا قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج، فرأيناك تكبر فنكبر، ولا نرى شيئًا غير ذلك. قال: صدقتم، ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق منها الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب كلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا بلغهم النصر، وأبشروا يبلغهم النصر، وأبشروا يبلغهم النصر فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعد صادق بار، وعدنا النصر بعد الحصر، فطلعت الأحزاب، فقال المؤمنون: " هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا " وقال المنافقون: ألا تعجبون! يحدثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل! يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم؛ وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا! وأنزل القرآن: " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا ". حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق عمن لا يتهم، عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمن عمر وعثمان وما بعده: افتتحوا ما بدالكم! فوالذي نفس أبي هريرة بيده؛ ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى محمد مفاتيحها قبل ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان أهل الخندق ثلاثة آلاف. قال: ولما فرغ رسول الله ﷺ من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجدٍ؛ حختى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد. وخرج رسول الله ﷺ والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، وأمر بالذراري والنساء. فرفعوا في الآطام. وخرج عدو الله حيى بن أخطب؛ حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم؛ وكان قد وادع رسول الله ﷺ على قومه، وعاهده على ذلك وعاقده؛ فلما سمع كعب بحيى بن أخطب، أغلق دونه حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حييٌ: يا كعب، افتح لي، قال: ويحك يا حيي! أنك امرؤٌ مشئوم، إني قد عاهدت محمدًا! فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقا. قال: ويحك! افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل؛ قال: والله إن أغلقت دوني إلا على جشيشتك أن آكل معك منها؛ فأحفظ الرجل، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر وببحرٍ طامٍ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها؛ حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة؛ وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد؛ قد عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدًا ومن معه. فقال كعب بن أسد: جئتني والله بذل الدهر! بجهام قد هراق ماءه يرعد ويبرق، ليس فيه شيء! ويحك فدعني ومحمدًا وما أنا عليه؛ فلم أر من محمد إلا صدقًا ووفاءً! فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب؛ حتى سمح له، على أن أعطاه عهدًا من الله وميثاقا: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدًا أن ادخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله ﷺ. فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ الخبر وإلى المسلمين، بعث رسول الله ﷺ سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل - وهو يومئذ سيد الأوس - وسعد بن عبادة بن دليم، أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج - وهو يومئذ سيد الخزرج - ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بالحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير، أخو بني عمرو بن عوف؛ فقال: انطلقوا حتى تنظروا: أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًا فالحنوا لي لحنًا نعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس. فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول الله ﷺ، وقالوا: لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد. فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه؛ وكان رجلًا فيه حد، فقال له سعد ابن معاذ: دع عنك مشاتمتهم؛ فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله ﷺ فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله ﷺ أصحاب الرجيع؛ خبيب بن عدي وأصحابه. فقال رسول الله ﷺ: الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين، وعظم عند البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف: كان محمدٌ يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر؛ وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط! وحتى قال أوس بن قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث: يا رسول الله، إن بيوتنا لعورة من العدو - وذلك عن ملأ من رجال قومه - فأذن لنا فلنرجع إلى دارنا؛ فإنها خارجة من المدينة. فأقام رسول الله ﷺ، وأقام المشركون عليه بضعًا وعشرين ليلة، قريبًا من شهر؛ ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار. فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله ﷺ - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة. وعن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري - إلى عيينة بن حصن، وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري - وهما قائدا غطفان - فأعطاهما ثلث ثمار المدينة؛ على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله ﷺ وأصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح؛ حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا بالمراوضة في ذلك، ففعلا، فلما أراد رسول الله ﷺ أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة؛ فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه فقالا: يا رسول الله؛ أمرٌ تحبه فنصنعه، أم شيءٌ أمرك الله عز وجل به؛ لا بد لنا من عمل به، أم شيءٌ تصنعه لنا؟ قال: لا، بل لكم؛ والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم لأمرٍ ما ساعة. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله؛ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله عز وجل وعبادة اللأوثان، ولا نعبد الله ولا نعرفه؛ وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا! ما لنا بهذا من حاجة؛ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله ﷺ: فأنت وذاك! فتناول سعدٌ الصحيفة؛ فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا. فأقام رسول الله ﷺ والمسلمون وعدوهم محاصروهم؛ لم يكن بينهم قتال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبدود بن أبي قيس، أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطاب بن مرداس، أخو بني محارب بن فهر؛ قد تلبسوا للقتال، وخرجوا على خيلهم، ومروا على بني كنانة، فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب؛ فستعلمون اليوم من الفرسان! ثم اقبلوا نحو الخندق؛ حتى وقفوا عليه، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدةٌ ما كانت العرب تكيدها؛ ثم تيمموا مكانًا من الخندق ضيقًا، فضربوا خيولهم، فاقتحمت منه؛ فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين؛ حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم. وقد كان عمرو بن عبدودٌ قاتل يوم بدر؛ حتى أثبتته الجراحة، قلم يشهد أحدًا، فلما كان يوم الخندق خرج معلمًا ليرى مكانه؛ فلما وقف هو وخيله، قال له على: يا عمرو؛ إنك كنت تعاهد الله ألا يدعوك رجلٌ من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما! قال: أجل! قال له علي بن أبي طالب: فإني أدعوك إلى الله عز وجل وإلى رسوله وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك؛ قال: فإني أدعوك إلى النزال، قال: ولم يا بن أخي؛ فوالله ما أحب أن أقتلك! قال: علي: ولكني والله أحب أن أقتلك. قال: فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره - أو ضرب وجهه - ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي عليه السلام وخرجت خيله منهزمة؛ حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة؛ ومن بني مخزوم نوفل بن عبد الله بن المغيرة؛ وكان اقتحم الخندق فتورط فيه، فرموه بالحجارة، فقال: يا معشر العرب، قتلة أحسن من هذه! فنزل إليه علي فقتله، فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله ﷺ أن يبيعهم جسده، فقال رسول الله ﷺ: لا حاجة لنا بجسده ولا ثمنه؛ فشأنكم به. فخلى بينهم وبينه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن أبي ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، ثم أحد بني حارثة، أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة؛ وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن. قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب. قالت: فمر سعدٌ وعليه درعٌ مقلصة، قد خرجت منها ذراعه كلها؛ وفي يده حربته يرقد بها ويقول: لبث قليلًا يشهد الهيجا حمل ** لا بأس بالموت إذا حان الأجل قالت له أمه: الحق يا بني، فقد والله أخرت. قالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد؛ والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي! قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه. قالت: فرمى سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الأكحل، رماه - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة - حبان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي؛ فلما أصابه قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعدٌ: عرق الله وجهك في النار! اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه وأخرجوه. اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتنى حتى تقر عيني من بنى قريظة. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، عن عائشة، قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا آثار الناس فو الله إني لأمشي إذ سمعت وئيد الأرض خلفي - تعني حس الأرض - فالتفت فإذا أنا بسعد؛ فجلست إلى الأرض، ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس - شهد بدرًا مع رسول الله ﷺ، حدثنا بذلك محمد بن عمرو - يحمل مجنه، وعلى سعد درع من حديد قد خرجت أطرافه منها. قالت: وكان من أعظم الناس وأطوالهم. قالت: فأنا أتخوف على أطراف سعد، فمر بي يرتجز، ويقول: لبث قليلًا يدرك الهيجا حمل ** ما أحسن الموت إذا حان الأجل! قالت: فلما جاوزني قمت فاقتحمت حديقة فيها نفر من المسلمين، فيهم عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه تسبغة له - قال محمد: والتسبغة المغفر - لا ترى إلا عيناه، فقال عمر: إنك لجريئة؛ ما جاء بك؟ ما يدريك لعله يكون تحوز أو بلاء! فوالله مازال يلومني حتى وددت أن الأرض تنشق لي فأدخل فيها، فكشف الرجل التسبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة؛ فقال: إنك قد أكثرت، أين الفرار، وأني التحوز إلا إلى الله عز وجل! قالت: فرمى سعد يومئذ بسهم، رماه رجلٌ يقال له ابن العرقة؛ فقال: خذها وأنا ابن العرقة؛ فقال: سعد: عرف الله وجهك في النار! فأصاب الأكحل فقطعه. قال محمد بن عمرو: زعموا أنه لم ينقطع من أحد قط إلا لم يزل يبض دمًا حتى يموت. فقال سعد: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة! وكانوا حلفاءه في الجاهلية. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، أنه كان يقول: ما أصاب سعد يومئذ بالسهم إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، فالله أعلم أي ذلك كان! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع " حصن حسان بن ثابت ". قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان. قالت: صفية: فمر بنا رجلٌ من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ﷺ، ليس بيننا وبينهم أحدٌ يدفع عنا، ورسول الله ﷺ والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إن أتانا آت. قالت: فقلت: يا حسان، إن هذا اليهودي كما ترى، يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عوارتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله ﷺ وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. فقال: يغفر اله لك يا بنا عبد المطلب! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا! قالت: فلما قال لي ذلك، ولم أر عنده شيئًا احتجزت؛ ثم أخذ عمودًا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن، فقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجلٌ؛ قال: مالي من حاجة يا بنت عبد المطلب. قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله ﷺ وأصحابه؛ فيما وصف الله عز وجل من الخوف والشدة؛ لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم. ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال ابن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، إن قومي لم يعلموا بإسلامي؛ فمرني بما شئت. فقال له رسول الله ﷺ: إنما أنت فينا رجلٌ واحد؛ فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان لهم نديمًا في الجاهلية - فقال لهم: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم؛ فقال لهم: إن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد. وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشًا وغطفان ليسوا كهيئتكم، والبلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم؛ لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم وبلدهم بغيره؛ فليسوا كهيئتكم، إن رأوا نهزةً وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم؛ ولا طاقة لكم به إن خلا بكم؛ فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم يكونون بأيديكم؛ ثقة لكم على أن تقاتلوا معكم محمدًا، حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصحٍ. ثم خرج حتى أتى قريشًا، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش، قد عرفتم ودي إياكم، وفراقي محمدًا وقد بلغني أمرٌ رأيت حقًا على أن أبلغكموه نصحًا لكم، فاكتموا على. قالوا: نفعل، قال: فاعلموا أن معشر يهود قد ندموا على صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبليتين من قريش وغطفان رجالًا من أشرافهم؛ فنعطيكم، فنضرب أعناقهم؛ ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم؛ فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنًا من رجالكم؛ فلا تدافعوا إليهم منكم رجلًا واحدًا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان؛ أنتم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني! قالوا: صدقت، قال: فاكتموا علي، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم؛ فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس؛ وكان مما صنع الله عز وجل لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل، في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام؛ قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدًا ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت؛ وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا؛ وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثًا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا؛ حتى نناجز محمدًا؛ فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال، أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمدٍ. فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله أن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلًا واحدًا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق؛ ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا؛ فإن وجدوا فرصة انتهزوها؛ وإن كان غير ذلك تشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم؛ وبعث الله عز وجل عليهم الريح في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم. فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله وصحبتموه! قال: نعم يا بن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، فقال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. فقال حذيفة: يابن أخي؛ والله لقد رأيتنا مع رسول الله ﷺ بالخندق، وصلى هويًا من الليل، ثم التفت إلينا، فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله أنه يرجع - أدخله الله الجنة؟ فما قام رجل. ثم صلى رسول الله ﷺ هويًا من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله، فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله ﷺ هويًا من الليل، ثم التفت إلينا، فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجلٌ من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد. فلما لم يقم أحدٌ دعاني رسول الله ﷺ فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني. فقال: يا حذيفة؛ اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون، ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا؛ قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل؛ لا تقر لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناء. فقام أبو سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤٌ جليسه، قال: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قل: أنا فلان بن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره؛ ولقينا من هذه الريح ما ترون؛ والله ما تطمئن لنا قدرٌ، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناءٌ؛ فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث؛ فما أطلق عقاله إلا وهو قائم؛ ولولا عهد رسول الله ﷺ إلى ألا أحدث شيئًا حتى آتيه، ثم شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله ﷺ، وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحلٍ؛ فلما رآني أدخلني بين رجليه وطرح على طرف المرط ثم ركع وسجد؛ فأذلقته. فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: فلما أصبح نبي الله ﷺ انصرف عن الخندق راجعًا إلى المدينة والمسلمون ووضعوا السلاح. غزوة بني قريظة فلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله ﷺ - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري - معتجرًا بعمامة من إستبرق، على بغلةٍ عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: أقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال نعم، قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح وما رجعت الآن إلا من طلب القوم؛ إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة، وأنا عامد إلى بني قريظة. فأمر رسول الله ﷺ مناديًا، فأذن في الناس: إن من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. وقدم رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار علي بن أبي طالب عليه السلام؛ حتى إذا دنا من الحصون، سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله ﷺ منهم؛ فرجع حتى لقى رسول الله ﷺ بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث! قال: لم؟ أظنك سمعت لي منهم أذى! قال: نعم يا رسول الله. لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئًا. فلما دنا رسول الله ﷺ من حصونهم، قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته! قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولًا. ومر رسول الله ﷺ على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة، فقال: هل مر بكم أحد؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي، على بغلة بيضاء، عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله ﷺ: ذلك جبريل، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم. فلما أتى رسول الله ﷺ بني قريظة، نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم، يقال لها بئر أنا؛ فلاحق به الناس، فأتاه رجالٌ من بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله ﷺ: لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، لشيء لم يكن لهم منه بد من حربهم؛ وأبوا أن يصلوا، لقول النبي ﷺ: حتى تأتوا بني قريظة، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة. فما عابهم الله بذلك في كتابه؛ ولا عنفهم به رسول الله ﷺ. والحديث عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد ابن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، عن عائشة، قالت: ضرب رسول الله ﷺ على سعد قبة في المسجد، ووضع السلاح - يعني عند منصرف رسول الله ﷺ من الخندق - ووضع المسلمون السلاح، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال: أوضعتم السلاح! فوالله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إليهم فقاتلهم، فدعا رسول الله ﷺ بلأمته فلبسها، ثم خرج وخرج المسلمون؛ فمر ببني غنم، فقال: من مر بكم؟ قالوا: علينا دحية الكلبي - وكان يشبه سنته ولحيته ووجهه بجبريل عليه السلام - حتى نزل عليهم، وسعدٌ في قبته التي ضرب عليه رسول الله ﷺ في المسجد؛ فحاصرهم شهرًا - أو خمسًا وعشرين ليلة - فلما اشتد عليهم الحصار قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله، فأشار أبو لبابة بن عبد المنذر إنه الذبح، فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله ﷺ: انزلوا على حكمه، فنزلوا، فبعث إليه رسول الله ﷺ بحمار بإكاف من ليف، فحمل عليه. قالت عائشة: لقد كان برأ كلمه حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: وحاصرهم رسول الله ﷺ خمسًا وعشرين ليلة؛ حتى جهدهم الحصار؛ وقذف الله في قلوبهم الرعب - وقد كان حيى بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن اسد بما كان عاهده عليه - فلما ايقنوا أن رسول الله ﷺ غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم! قالوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه؛ فوالله لقد كان تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدًا، ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم هذه علي فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجلا مصلتين السيوف؛ ولم نترك وراءنا ثقلًا يهمنا؛ حتى يحكم الله بيننا وبين محمد؛ فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئًا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء ولأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين؛ فما خير العيش بعدهم! قال: فإذا أبيتم هذه على فإن الليلة ليلة السبت؛ وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها؛ فانزلوا لعلنا نصيب محمد وأصحابه غرةً. قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت. فأصابه من المسخ ما لم يخفف عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا. قال: ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله ﷺ: أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر؛ أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا حلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله ﷺ إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال، وبهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد! قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح؛ قال: قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله ﷺ حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت؛ وعاهد الله ألا يطأ بني قريظة أبدًا. وقال: لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا. فلما بلغ رسول الله ﷺ خبره، وأبطأ عليه - وكان قد استبطأه - قال: أما لو جاءني لا ستغفرت له؛ فأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن فضل، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، أن توبة أبي لبابة أنزلت على رسول الله ﷺ: وهو في بيت أم سلمة. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله ﷺ من السحر يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله، أضحك الله سنك! قال: تيب على أبي لبابة، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله! قال: بلى إن شئت؛ قال: فقامت على باب حجرتها - وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب - فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قال: فثار الناس إليه ليطلقوه؛ فقال: لا والله حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجًا إلى الصبح أطلقه. قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية، وأسد ابن عبيد - وهم نفر من بني هدل؛ ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك - هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله ﷺ - وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمر بحرس رسول الله ﷺ؛ وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة؛ فلما رآه قال: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدي - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله ﷺ، وقال: لا أغدر بمحمد أبدًا - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني عثرات الكرام. ثم خلى سبيله؛ فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة تلك الليلة. ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا! فذكر لرسول اله ﷺ شأنه، فقال: ذاك الرجل نجاه الله بوفائه. قال ابن إسحاق: وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله ﷺ، فأصبحت رمته ملقاةً لا يدري أين يذهب، فقال رسول الله ﷺ في تلك المقالة. والله أعلم. قال ابن إسحاق. فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله ﷺ، فتواثبت الأوس. فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت - وقد كان رسول الله ﷺ قبل بني قريظة حاصر بني قنينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه؛ فسأله إياهم عبد الله بن أبي سلول، فوهبهم له. فلما كلمه الأوس قال رسول الله ﷺ: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم! قالوا: بلى: قال: فذاك إلى سعد بن معاذ - وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله ﷺ في خيمة امرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين؛ وكان رسول الله ﷺ قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب - فلما حكمه رسول اله ﷺ في بني قريظة، أتاه قومه، فاحتملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدمٍ - وكان رجلًا جسيمًا - ثم أقبلوا معه إلى رسول الله ﷺ، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله ﷺ إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما أكثروا عليه قال: قد أني لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه. قال أبو جعفر: فلما انتهى سعدٌ إلى رسول الله ﷺ والمسلمين، قال رسول الله ﷺ - فيما حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، في حديث ذكره، قال: قال أبو سعيد الخدري: فلما طلع - يعني سعدًا - قال رسول الله ﷺ: قوموا إلى سيدكم - أو قال: إلي خيركم - فأنزلوه، فقال، فقال رسول الله ﷺ: احكم فيهم، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم. فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: وأما ابن إسحاق فإنه قال في حديثه: فلما انتهى سعدٌ إلى رسول الله ﷺ والمسلمون؛ قال رسول الله ﷺ: قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله ﷺ قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت! قالوا: نعم، قال: وعلى من ها هنا؟ - في الناحية التي فيها رسول الله ﷺ، وهو معرض عن رسول الله ﷺ إجلالًا له - فقال رسول الله ﷺ: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم بأن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله ﷺ لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله ﷺ في دار ابنة الحارث، امرأة من بني النجار. ثم خرج رسول الله ﷺ إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق؛ يخرج بهم إليه أرسالًا؛ وفيهم عدو الله حيى بن أخطب، وكعب بن أسد، رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة؛ المكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة. وقد قالوا لكعب بن أسد - وهم يذهب بهم إلى رسول الله ﷺ أرسالًا -: يا كعب، ما ترى ما يصنع بنا! فقال كعب: في كل موطن لا تعقلون: ألا ترون الداعى لا ينزع، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ رسول الله ﷺ، أتى بحيى بن أخطب عدو الله وعليه حلة له فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة، أنملة أنملة، لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر رسول الله ﷺ، قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك؛ ولكنه من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمةٌ قد كتبت على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ** ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ** وقلقل يبغي العز كل مقلقل حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة. قالت: والله إنها لعندي تحدث معي، وتضحك ظهرًا وبطنًا، ورسول الله ﷺ يقتل رجالهم بالسوق؛ إذ هتف هاتفٌ باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك مالك! قالت: أقتل! قلت: ولم؟ قالت: حدثٌ أحدثته. قالت: فانطلق بها فضربت عنقها. فكانت عائشة تقول: ما أنسى عجبنا منها، طيب نفس وكثرة ضحك، وقد عرفت أنها تقتل! وكان ثابت بن قيس بن شماس - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري - أتى الزبير بن باطا القرظي - وكان يكنى أبا عبد الرحمن - وكان الزبير قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية. قال محمد: مما ذكر لي بعض ولد الزبير، أنه كان من عليه يوم بعاث؛ أخذه فجز ناصيته، ثم خلى سبيله - فجاءه وهو شيخ كبير، فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني؟ قال: وهو يجهل مثلي مثلك! قال: إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم. ثم أتى ثابت رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله؛ قد كانت للزبير عندي يدٌ؛ وله علي منةٌ؛ وقد أحببت أن أجزيه بها؛ فهب لي دمه. فقال رسول الله ﷺ: هو لك، فأتاه، فقال: إن رسول الله ﷺ قد وهب لي دمك فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد؛ فما يصنع بالحياة! فأتى ثابت رسول الله ﷺ: فقال: يا رسول الله، أهله ولده، قال: هم لك، فأتاه فقال: إن رسول الله ﷺ قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك. قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاءهم! فأتى ثابتٌ رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، ماله! قال: هو لك، فأتاه فقال: إن رسول الله ﷺ قد أعطاني مالك فهو لك، قال: أي ثابت! ما فعل الذي كأنه وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذاري الحي، كعب بن أسد؟ قال: قتل، قال: فما فعل الحاضر والبادي، حيى بن أخطب؟ قال: قتل، قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا كررنا؛ عزال بن شمويل؟ قال: قتل، قال: فما فعل المجلسان - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال: ذهبوا، قتلوا. قال: فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت، إلا ألحقتني بالقوم؛ فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر الله قبلة دلو نضج حتى ألقى الأحبة! فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلما بلغ أبا بكر قوله: ألقى الأحبة قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدًا فيعا مخلدًا أبدًا. فقال ثابت بن قيس بن الشماس في ذلك، يذكر الزبير بن باطا: " وفت ذمتي أني كريمٌ وأنني ** صبورٌ إذا ما القوم حادوا عن الصبر وكان زبيرٌ أعظم الناس منةً ** على فلما شد كوعاه بالأسر أتيت رسول الله كيما أفكه ** وكان رسول الله بحرًا لنا يجري قال: وكان رسول الله ﷺ قد أمر بقتل من أنبت منهم. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أيوب بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، أخي بني عدي بن النجار؛ أن سلمى بنت قيس أم المنذر أخت سليط بن قيس - وكانت إحدى خالات رسول الله ﷺ، قد صلت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء - سألته رفاعة بن شمويل القرظي - وكان رجلًا قد بلغ ولاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك - فقالت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي! هب لي رفاعة بن شمويل؛ فإنه قد زعم أنه سيصلي، ويأكل لحم الجمل؛ فوهبه لها؛ فاستحيته. قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله ﷺ قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم؛ للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل ممن ليس له فرسٌ سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرسًا، وكان أول فىء وقع فيه السهمان وأخرج منه الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله ﷺ فيها وقعت المقاسم، ومضت السنة في المغازي؛ ولم يكن يسهم للخيل إذا كانت مع الرجل إلا لفرسين. ثم بعث رسول الله ﷺ سعد بن زيد الأنصاري، أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلًا وسلاحًا، وكان رسول الله ﷺ قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله ﷺ حتى توفي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله ﷺ عرض عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله، بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. فتركها؛ وقد كانت حين سباها رسول الله ﷺ قد تعصت بالإسلام، وأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله ﷺ ووجد في نفسه لذلك من أمرها؛ فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله، قد أسلمت ريحانة، فسره ذلك. فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ، وذلك أنه دعا - كما حدثني ابن وكيع، قال: حدثنا ابن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو؛ قال: حدثني أبي، عن علقمة، في خبر ذكره عن عائشة: ثم دعا سعد بن معاذ - بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم - فقال: اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أقاتل أو أجاهد من قوم كذبوا رسولك. اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها، وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضي إليك. فانفجر كلمه، فرجعه رسول الله ﷺ إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد. قالت عائشة: فحضره رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعمر؛ فوالذي نفس محمد بيده؛ إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وإني لفي حجرتي. قالت: وكانوا كما قال الله عز وجل: " رحماء بينهم " قال علقمة: أي أمه! كيف كان يصنع رسول الله ﷺ؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد؛ ولكنه كان إذا اشتد وجده على أحد، أو إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته. حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر، وقتل من المشركين ثلاثة نفر، وقتل يوم بني قريظة خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو ابن بلحارث بن الخزرج، طرحت عليه رحى فشدخته شدخًا شديدًا. ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان، أخو بني أسد بن خزيمة، ورسول الله ﷺ محاصر بني قريظة، فدفن في مقبرة بني قريظة. ولما انصرف رسول الله ﷺ عن الخندق، قال: الآن نغزوهم - يعني قريشًا - ولا يغزوننا، فكان كذلك حتى فتح الله تعالى على رسوله ﷺ مكة. وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة أو في صدر ذي الحجة، في قول ابن إسحاق. وأما الواقدي فإنه قال: غزاهم رسول الله ﷺ في ذي القعدة، لليال بقين منه؛ وزعم أن رسول الله ﷺ أمر أن يشق لبني قريظة في الأرض أخاديد ثم جلس؛ فجعل علي والزبير يضربان أعناقهم بين يديه، وزعم أن المرأة التي قتلها النبي ﷺ يومئذ كانت تسمى بنانة، امرأة الحكم القرظي، كانت قتلت خلاد بن سويد، رمت عليه رحى، فدعا له رسول الله ﷺ، فضرب عنقها بخلاد بن سويد. واختلف في وقت غزوة النبي ﷺ بني المصطلق؛ وهي الغزوة التي يقال لها غزوة المريسيع - والمريسيع اسم ماء من مياه خزاعة بناحية قديد إلى الساحل - فقال: ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه، أن رسول الله ﷺ غزا بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست من الهجرة. وقال الواقدي: غزا رسول الله ﷺ المريسيع في شعبان سنة خمس من الهجرة. وزعم أن غزوة الخندق وغزوة بني قريظة كانتا بعد المريسيع لحرب بني المصطلق من خزاعة. وزعم ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه - أن النبي ﷺ انصرف بعد فراغه من بني قريظة؛ وذلك في آخر ذي القعدة أو في صدر ذي الحجة - فأقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وولى الحجة في سنة خمس المشركون. ذكر الأحداث التي كانت في سنة ست من الهجرة غزوة بني لحيان قال أبو جعفر: وخرج رسول الله ﷺ في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان، يطلب بأصحاب الرجيع؛ خبيب بن عدي وأصحابه؛ وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرةً، فخرج من المدينة، فسلك على غراب جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام ثم على مخيض، ثم على البتراء؛ ثم صفق ذات اليسار، ثم على يين، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، فأغذ السير سريعًا؛ حتى نزل على غران؛ وهي منازل بني لحيان - وغران وادٍ بين أمج وعسفان - إلى بلد يقال له ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فلما نزلها رسول الله ﷺ وأخطأه من غرتهم ما أراد، قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأي أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين من أصحابه؛ حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا وراح قافلا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق. - قال: والحديث في غزوة بني لحيان - عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، عن عبيد الله بن كعب. قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله ﷺ المدينة، فلم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري في خيل لغطفان على لقاح رسول الله ﷺ بالغابة؛ وفيها رجلٌ من بني غفار وامرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح. غزوة ذي قرد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، كل قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث، أنه أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، غدا يريد الغابة متوشحًا قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبد الله. وأما الرواية عن سلمة بن الأكوع بهذه الغزوة من رسول الله ﷺ بعد مقدمة المدينة، منصرفًا من مكة عام الحديبية، فإن كان ذلك صحيحًا، فينبغي أن يكون ما روى عن سلمة بن الأكوع كان إما في ذي الحجة من سنة ست من الهجرة، وإما في أول سنة سبع، وذلك أن انصراف رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة عام الحديبية كان في ذي الحجة في سنة ست من الهجرة، وبين الوقت الذي وقته ابن إسحاق لغزوة ذي قرد والوقت الذي روى عن سلمة بن الأكوع قريب من ستة أشهر. حدثنا حديث سلمة بن الأكوع الحسن بن يحيى، قال: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ إلى المدينة - يعني بعد صلح الحديبية - فبعث رسول الله ﷺ بظهره مع رباح غلام رسول الله، وخرجت معه بفرس لطلحة بن عبيد الله. فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن بن عيينة قد أغار على ظهر رسول الله ﷺ، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه. قلت: يا رباح؛ خذ هذا الفرس وأبلغه طلحة. وأخبر رسول الله أن المشركين قد أغاروا على سرحه. ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثة أصوات: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل، وارتجز وأقول: " أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع ". قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلى فارس منهم أتيت شجرةً وقعدت في أصلها، فرميته فعقرت به؛ وإذا تضايق الجبل فدخلوا في متضايقٍ علوت الجبل، ثم أرديهم بالحجارة؛ فوالله ما زلت كذلك حتى ما خلق الله بعيرًا من ظهر رسول الله ﷺ إلا جعلته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه وحتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحًا وثلاثين بردةً، يستخفون بها لا يقلون شيئًا إلا جعلت عليه آرما حتى يعرفه رسول الله ﷺ وأصحابه، حتى إذا انتهوا إلى متضايق من ثنية وإذا هم قد أتاهم عيينة عن حصن بن بدر ممدًا، فقعدوا يتضحون، وقعدت على قرن فوقهم، فنظر عيينة، فقال: مت الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح، لا والله ما فارقنا هذا منذ غلس، يرمينا حتى استنقذ كل شيء في أيدينا. قال: فليقم إليه منكم أربعة. فعمد إلى أربعة منهم. فلما أمكنوني من الكلام، قلت: أتعرفوني؟ قالوا: من أنت؟ قلت: سلمة بن الأكوع؛ والذي كرم وجه محمد لا أطلب أحدًا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني. قال أحدهم: أنا أظن، قال: فرجعوا فما برحت مكاني ذاك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله ﷺ يتخللون الشجر؛ أولهم الأخرم الأسدي، وعلى إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي، فأخذت بعنان فرس الأخرم، فولوا مدبرين، فقلت: يا أخرم؛ إن القوم قليل، فاحذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق بنا رسول الله وأصحابه. فقال: يا سلمة، إن كنت تؤمن باللله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق وأن النار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فحليته، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة، فعقر الأخرم بعبد الرحمن فرسه، فطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول عبد الرحمن على فرسه، ولحق أبو قتادة عبد الرحمن فطعنه وقتله، وعقر عبد الرحمن بأبي قتادة فرسه، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم؛ فانطلقوا هاربين. قال سلمة: فوالذي كرم وجه محمد، لتبعتهم أعدو على رجلي؛ حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد ﷺ ولا غبارهم شيئًا. قال: ويعدلون قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد يشربون منه وهم عطاش؛ فنظروا إلى أعدو في آثارهم؛ فحليتهم فما ذاقوا منه قطرة. قال: ويسندون في ثنية ذي أثير، ويعطف علي واحدٌ فأرشقه بسهم فيقع في نغض كتفه، فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع ** واليوم يوم الرضع فقال أكوعي غدوةً! قلت: نعم يا عدو نفسه؛ وإذا فرسان على الثنية، فجئت بهما أقودهما إلى رسول الله، ولحقني عامر عمي بعدما أظلمت بسطيحة فيها مذقة من لبن، وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وصليت وشربت، ثم جئت إلى رسول الله ﷺ وهو على الماء الذي حليتهم عنه، عند ذي قرد، وإذا رسول الله قد أخذ تلك ألإبل التي استنقذت من العدو، وكل رمح، وكل بردة؛ وإذا بلال قد نحر ناقة من الإبل التي استنقذت العدو، فهو يشوى لرسول الله ﷺ من كبدها وسنامها، فقلت: يا رسول الله؛ خلني فلأنتخب مائة رجل من القوم، فأتبع القوم فلا يبقى منهم عين. فضحك رسول الله ﷺ حتى بدا - وقد بانت - نواجذه. في ضوء النار. ثم قال: أكنت فاعلًا! فقلت: إي والذي أكرمك! فلما أصبحنا قال رسول الله إنهم ليقرون بارض غطفان. قال: فجاء رجلٌ من غطفان، فقال: نحر لهم فلان جزورا، فلما كشطوا عنها جلدها رأوا غبارًا؛ فقالوا: أتيتم! فخرجوا هاربين، فلما أصبحنا قال رسول الله ﷺ: خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة بن الأكوع. ثم أعطاني رسول الله ﷺ سهمين سهم الفارس، وسهم الراجل؛ فجمعهما لي جميعًا، ثم أردفني رسول الله وراءه على العضباء؛ راجعين إلى المدينة. فبينما نحن نسير؛ وكان رجلٌ من الأنصار لا يسبق شدًا فجعل يقول: ألا من مسابق! فقال ذاك مرارًا؛ فلما سمعته قلت: أما تكرم كريمًا ولا تهاب شريفًا! فقال: لا، إلا أن يكون رسول الله، فقلت: يا رسول الله، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! ائذن لي فلأسابق الرجل! قال: إن شئت، قال: فطفرت فعدوت، فربطت شرفًا أو شرفين فألحقه وأصكه بين كتفيه، فقلت: سبقتك والله! فقال: إني أظن، فسبقته إلى المدينة، فلم نمكث بها ثلاثًا حتى خرجنا إلى خيبر. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله - يعني مع سلمة بن الأكوع - معه فرس له يقوده، حتى إذا علا على ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم، فأشرف في ناحية سلع، ثم صرخ: واصباحاه! ثم خرج يشتد في آثار القوم - وكان مثل السبع - حتى لحق بالقوم، فجعل يردهم بالنبل، ويقول إذا رمى: " خذها منى وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع ". فإذا وجهت الخيل نحوه، انطلق هاربًا، ثم عارضهم؛ فإذا أمكنه الرمي رمى، ثم قال: خذها وأنا ابن الأكوع ** واليوم يوم الرضع قال: فيقول قائلهم: أويكعنا هو أول النهار. قال: وبلغ رسول الله ﷺ صياح ابن الأكوع؛ فصرخ بالمدينة: الفزع الفزع! فتتامت الخيول إلى رسول الله ﷺ؛ فكان أول من انتهى إليه من الفرسان المقداد بن عمرو. ثم كان أول فارس وقف على رسول الله ﷺ بعد المقداد من الأنصار، عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعورا، وأخو بني عبد الأشهل، وسعد بن زيد، أحد بني كعب بن عبد الأشهل، وأسيد بن ظهير أخو بني حارثة بن الحارث - يشك فيه - وعكاشة بن محصن، أخو بني أسد بن خزيمة، ومحرز بن نضلة، أخو بني أسد بن خزيمة، وأبو قتادة الحارث ربعي، أخو بني سلمة، وأبو عياش؛ وهو عبيد بن زيد بن صامت، أخو بني زريق. فلما اجتمعوا إلى رسول الله ﷺ أمر عليهم سعد بن زيد. ثم قال: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس. وقد قال رسول الله ﷺ - فيما بلغني عن رجال من بني زريق - لأبي عياش: با أبا عياش، لو أعطيت هذا الفرس رجلًا هو أفرس منك فلحق بالقوم! قال أبو عياش: فقلت: يا رسول الله، أنا أفرسٌ الناس، ثم ضربت الفرس، فزالله ما جرى خمسين ذراعًا حتى طرحني؛ فعجبت أن رسول الله ﷺ يقول: لو أعطيه أفرس منك! وأقول: أنا أفرس الناس. فزعم رجال من بني زريق أن رسول الله ﷺ أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص - أو عائذ بن ما عص - ابن قيس بن خلدة - وكان ثامنًا - وبعض الناس يعد سلمة بن عمرو بن الأكوع أحد الثمانية، ويطرح أسيد بن ظهير أخا بني حارثة، ولم يكن سلمة يومئذ فارسًا، وكان أول من لحق بالقوم على رجليه؛ فخرج الفرسان في طلب القوم، حتى تلاحقوا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن أول فارسٍ لحق بالقوم محرز بن نضلة، أخو بني أسد بن خزيمة - ويقال لمحرز: الأخرم، ويقال له: قمير - وأن الفزع لما كان، جال فرسٌ لمحمود بن مسلمة في الحائط حين سمع صاهلة الخيل، وكان فرسًا صنيعًا جامًا، فقال نساءٌ من نساء بني عبد الأشهل حين رأى الفرس يجول في الحائط بجذع من نخل هو مربوط به: يا قمير، هل لك في أن تركب هذا الفرس - فإنه كما ترى - ثم تلحق برسول الله ﷺ وبالمسلمين! قال: نعم، فأعطينه إياه، فخرج عليه، فلم ينشب أن بذ الخيل بجمامه حتى أدرك القوم، فوقف لهم بين أيديهم، ثم قال: قفوا معشر اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار. قال: وحمل عليه رجلٌ منهم فقتله، وجال الفرس فلم يقدروا عليه؛ حتى وقف على آريه في بني عبد الأشهل، فلم يقتل من المسلمين غيره، وكان اسم فرس محمود ذا اللمة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، أن محرزًا إنما كان على فرس لعكاشة بن محصن يقال له الجناح، فقتل محرز، واستلب الجناح. ولما تلاحقت الخيول قتل أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، حبيب بن عيينة بن حصن، وغشاه ببردته، ثم لحق بالناس، وأقبل رسول الله ﷺ والمسلمون، فإذا حبيب مسجىً ببردة أبي قتادة، فاسترجع الناس، وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال رسول الله ﷺ: ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيلٌ لأبي قتادة، وضع عليه بردته، لتعرفوا أنه صاحبه. وأدرك عكاشة ابن محصن أو بارًا وابنه عمرو بن أو بار على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعًا، واستنقذوا بعض اللقاح. وسار رسول الله ﷺ حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق به الناس، فنزل رسول الله ﷺ، وأقام عليه يومًا وليلة. فقال له سلمة بن الأكوع: يا رسول الله، لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم. فقال رسول الله ﷺ - فيما بلغني: إنهم الآن ليغبقون في غطفان. وقسم رسول الله ﷺ في أصحابه في كل مائة جزورًا، فأقاموا عليها، ثم رجع رسول الله ﷺ قافلا حتى قدم المدينة. فأقام بها. بعض جمادى الآخرة ورجب. ثم غزا بلمصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست. ذكر غزوة بني المصطلق حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، وعن عبد الله بن أبي بكر. وعن محمد بن يحيى بن حبان، قال: كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا: بلغ رسول الله ﷺ أن بلمصطلق يجتمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار؛ أبو جويرية بنت الحارث، زوج النبي ﷺ، فلما سمع بهم رسول الله ﷺ خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياهم، يقال له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا قتالًا شديدًا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله ﷺ أبناءهم ونساءهم وأموالهم؛ فأفاءهم الله عليه. وقد أصيب رجلٌ من المسلمين من بنى كلب بن عوف بن عامر بن ليث ابن بكر، يقال له هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة ابن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ. فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرٌ له من بنى غفار يقال له جهجاه بن سعيد، يقود له فرسه، فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حديث السن، فقال: أقد فعلوها! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما عدونا وجلابيب قريش ما قال القائل: " سمن كلبك يأكلك "؛ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأول! ثم أقلب على من حضره من قومه، فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم! أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم. فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله ﷺ، وذلك عند فراغ رسول الله ﷺ من عدوه. فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر بن وقش فليقتله، فقال رسول الله ﷺ: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس: أن محمدًا يقتل أصحابه! لا، ولكن أذن بالرحيل - وذلك في ساعة لم يكن رسول الله ﷺ يرتحل فيها - فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله ﷺ حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه. فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به - وكان عبد الله بن أبي في قومه شريفًا عظيمًا - فقال من حضر رسول الله ﷺ من أصحابه من الأنصار يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام أو هم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل! حدبًا على عبد الله بن أبي ودفعًا عنه. فلما استقل رسول الله ﷺ وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه تحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله، لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها! فقال له رسول الله ﷺ أو ما بلغك ماقال صاحبكم! قال: وأي صاحب يا رسول الله! قال: عبد الله بن أبي، قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل، قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز! ثم قال: يا رسول الله، ارفق به فوالله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه؛ فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكًا. ثم متن رسول الله ﷺ بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس. ثم نزل بالناس؛ فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما؛ وإنما فعل ذلك رسول الله ﷺ ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي. ثم راح بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له نقعاء، فلما راح رسول الله ﷺ هبت على الناس ريح شديدة آذتهم، وتخوفوها، فقال رسول الله ﷺ: لا تخافوا، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت، أحد بني قينقاع - وكان من عظماء يهود، وكهفًا للمنافقين - قد مات في ذلك اليوم. ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أبي بن سلول ومن كان معه على مثل أمره، فقال: " إذا جاءك المنافقون "، فلما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله ﷺ بأذن زيد بن أرقم فقال: هذا الذي أوفى الله بأذنه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: خرجت مع عمي في غزاةٍ، فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه: " لا تنفقوا على من عند رسول الله " والله، " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل "؛ فذكرت ذلك لعمى، فذكره عمي لرسول الله ﷺ، فأرسل إلي فحدثته، فأرسل إلى عبد الله وأصحابه، فحلفوا ما قالوا؛ قال: فكذبني رسول الله ﷺ وصدقه، فأصابني همٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله ومقتك! قال: حتى أنزل الله عز وجل: " إذا جاءك المنافقون "، قال فبعث إلى رسول الله ﷺ فقرأها، ثم قال: إن الله صدقك يا زيد. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول أتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي - فيما بلغك عنه - فإن كنت فاعلًا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه؛ فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجلٌ أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله؛ فأقتل مؤمنًا بكافر أدخل النار، فقال رسول الله ﷺ: بل نرفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث، كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه، ويعنفونه ويتوعدونه، فقال رسول الله ﷺ لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم: كيف ترى يا عمر! أما والله لو قتلته يوم ما أمرتني بقتله، لأرعدت له آنفٌ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال: فقال عمر: قد والله علمت، لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري. قال: وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلمًا فيما ظهر، فقال: يا رسول الله، جئتك مسلمًا وجئت أطلب دية أخي قتل خطأ. فأمر له رسول الله ﷺ ديه أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًا، فقال في شعر: شفى النفس أن قد بات بالقاع مسندًا ** تضرج ثوبيه دماء الأخادع وكانت هموم النفس من قبل قتله ** تلم، فتحميني وطاء المضاجع حللت به وترى، وأدركت ثؤرتي ** وكنت إلى الأوثان أول راجع تأرت به فهرًا وحملت عقله ** سراة بني النجار أرباب فارغ وقال مقيس بن صبابة أيضًا: جللته ضربة باءت، لها وشلٌ ** من ناقع الجوف يعلوه وينصرم فقلت والموت تغشاه أسرته ** لا تأمنن بني بكرٍ إذا ظلموا وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس كثير، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين: مالكًا وابنه، وأصاب رسول الله ﷺ منهم سبيًا كثيرًا، ففشا قسمة في المسلمين؛ ومنهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار زوج النبي ﷺ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة زوج النبي ﷺ، قالت: لما قسم رسول الله ﷺ سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس ابن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسها - وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحدٌ إلا أخذت بنفسه - فأتت رسول الله ﷺ تستعينه على كتابتها، قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي كرهتها، وعرفت أنه سيرى منها مثل ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء مالم يخف عليك؛ فوقعت بالسهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ﷺ قد تزوج جورية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله ﷺ، فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. حديث الإفك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وأقبل رسول الله ﷺ من سفره ذلك - كما حدثني أبي إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - حتى إذا كان قريبًا من المدينة - وكانت معه عائشة في سفره ذلك - قال أهل الإفك فيها ما قالوا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن علقمة بن وقاص الليثي وعن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال الزهري: كل قد حدثني بعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض. قال: وقد جمعت لك كل الذي حدثني القوم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، قال: وكل قد اجتمع حديثه في خبر قصة عائشة عن نفسها حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا:، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعًا، ويحدث بعضهم ما يحدث بعضٌ، وكل كان عنها ثقة، وكل قد حدث عنها بما سمع. قالت عائشة: كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه؛ فلما كانت غزوة بني المصطلق، أقرع بين نسائه كما كان يصنع؛ فخرج سهمي عليهن، فخرج بي رسول الله ﷺ. قالت: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يبهجن اللحم فيثقلن. قالت: وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون هودجي في بعيري، ويحملوني فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به. قالت: لما فرغ رسول الله ﷺ من سفره ذلك، وجه قافلا، حتى إذا كان قريبًا من المدينة نزل منزلا، فبات فيه بعض الليل، ثم اذن في الناس بالرحيل، فلما ارتحل الناس خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقدٌ لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري؛ فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل. قالت: فرجعت عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، وجاء خلافي القوم الذين كانوا يرجلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، وهم يظنون أني فيه كما أصنع، فاحتملوه، فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه. ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، ورجعت إلى العسكر وما فيه داعٍ ولا مجيب، قد انطلق الناس. قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني الذي ذهبت إليه؛ وعرفت أن لو قد افتقدوني قد رجعوا إلي. قالت: فوالله إني لمضجعة، إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس في العسكر؛ فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني - وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب - فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أظعينة رسول الله! وأنا متلففه في ثيابي. قال: ما خلفك رحمك الله؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير فقال: اركبي رحمك الله! واستأخر عني. قالت فركبت وجاء فأخذ برأس البعير، فانطلق بي سريعًا يطلب الناس؛ فوالله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس؛ فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك في ما قالوا. فارتج العسكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك. ثم قدمنا المدينة، فلم أمكث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني شيء من ذلك؛ وقد انتهى الحديث إلى رسول الله ﷺ وإلى أبوي، ولا يذكران لي من ذلك قليلًا ولا كثيرًا، إلا أني قد أنكرت من رسول الله ﷺ بعض لطفه بي؛ كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي؛ فلم يفعل ذلك في شكواي تلك، فأنكرت منه، وكان إذا دخل علي وأمي تمرضني، قال: كيف تيكم؟ لا يزيد على ذلك. قالت: حتى وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني، فقلت له: يا رسول الله، لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني! قال: لا عليك! قالت: فانتقلت إلى أمي، ولا أعلم بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. قالت: وكنا قومًا عربًا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة؛ وإنما كان النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن؛ فخرجت ليلةً لبعض حاجتي، ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وكانت أمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، خالة أبي بكر. قالت: فوالله إنها لتمشي معي، إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح! قالت: قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرًا! قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر! قالت: قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. قالت: قلت: وقد كان هذا! قالت: نعم والله لقد كان. قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي. قالت: وقلت لأمي: يغفر الله لك! تحدث الناس بما تحدثوا به وبلغك ما بلغك؛ ولا تذكرين لي من ذلك شيئًا! قالت: أي بنية خفضي الشأن؛ فوالله قلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها. قالت: وقد قام رسول الله في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك. ثم قال: أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهن غير الحق! والله ما علمت منهن إلا خيرًا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرًا! وما دخل بيتًا من بيوتي إلا وهو معي. قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج؛ مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش - وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله ﷺ، ولم تكن من نسائه امرأة تناصبني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله، وأما حمنة بنت جحش، فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضارني لأختها زينب بنت جحش - فشقيت بذلك. فلما قال رسول الله ﷺ تلك المقالة، قال أسيد بن حضير أخو بني عبد الأشهل: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك؛ فوالله إنهم لأهلٌ أن تضرب أعناقهم. قالت: فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك يرى رجلًا صالحًا - فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم! أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا! قال أسيد: كذبت لعمر الله! ولكنك منافق تجادل عن المنافقين! قالت: وتثاوره الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله ﷺ، فدخل علي، قالت: فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد؛ فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله، ثم قال: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم عليهن إلا خيرا؛ وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله؛ إن النساء لكثيرٌ؛ وإنك لقادر على أن تستخلف؛ وسل الجارية فإنها تصدقك. فدعا رسول الله ﷺ بريرة يسألها. قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا؛ وهو يقول: اصدقي رسول الله؛ قالت: فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة؛ إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه، فيأتي الداجن فيأكله. ثم دخل علي رسول الله ﷺ وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار؛ وأنا أبكي وهي تبكي معي؛ فجلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا عائشة؛ إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقى الله؛ وان كنت قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده؛ قالت: فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، تقلص دمعي؛ حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا رسول الله ﷺ فلم يتكلما. قالت: وايم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله عز وجل في قرآنا يقرأ به في المساجد، ويصلى به، ولكني قد كنت أرجو أن يرى رسول الله في نومه شيئا يكذب الله به عني، لما يعلم من براءتي، أو يخبر خبرا؛ فأما قرآن ينزل في، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك. قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان. قالت: قلت ألا تجيبان رسول الله! قالت: فقالا لي: والله ما ندري بماذا نجيبه! قالت: وايم الله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام! قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا؛ والله لئن أقررت بما يقول الناس - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني؛ لأقولن ما لم يكن؛ ولئن أنا أنكرت ما تقولون لاتصدقونني. قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره؛ ولكني أقول كما قال أبو يوسف: " فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون ". قالت: فوالله ما برح رسول الله ﷺ مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه، ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه؛ فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت؛ فوالله ما فزعت كثيرا ولا باليت؛ قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي؛ فوالذي نفس عائشة بيده، ما سري عن رسسول الله ﷺ حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقًا أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. قالت: ثم سري عن رسول الله ﷺ، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه، ويقول: أبشري يا عائشة؛ فقد أنزل الله براءتك، قالت: فقلت: بحمد الله وذمكم. ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في. ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى؛ وذلك الكذب؛ أكنت يا أم أيوب فاعلةً ذلك! قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خيرٌ منك. قال: فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك: " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم.. ". الآية؛ وذلك حسان بن ثابت في أصحابه الذين قالوا ما قالوا. ثم قال الله عز وجل: " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا. " الآية، أي كما قال أبو أيوب وصاحبته. ثم قال: " إذ تلقونه بألسنتكم.. " الآية. فلما نزل هذا في عائشة وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وحاجته: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة، وأدخل علينا ما أدخل! قالت: فأنزل الله عز وجل في ذلك: " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى.. " الآية. قالت: فقال أبو بكر: والله لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. ثم إن صفوان بن المعطل اعترض حسان بن ثابت بالسيف حين بلغه ما يقول فيه؛ وقد كان حسان قال شعرا مع ذلك يعرض بابن المعطل فيه وبمن أسلم من العرب من مضر، فقال: أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ** وابن الفريعة أمسى بيضة البلد قد ثكلت أمه من كنت صاحبه ** أو كان منتشبًا في برثن الأسد ما لقتيلي الذي أغدو فآخذه ** من ديةٍ فيه يعطاها ولا قود ما البحر حين تهب الريح شامية ** فيغطئل ويرمي العبر بالزبد يوما بأغلب مني حين تبصرني ** ملغيظ أفري كفري العارض البرد فاعترضه صفوان بن المعطل بالسيف فضربه ثم قال - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق: تلق ذباب السيف عني فإني ** غلام إذا هو جيت لست بشاعر حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن ثابت بن قيس بن الشماس أخا بلحارث بن الخزرج، وثب على صفوان بن المعطل في ضربه حسان، فجمع يديه إلى عنقه، فانطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا؟ قال: ألا أعجبك ضرب حسان بن ثابت بالسيف! والله ما أراه إلا قد قتله. قال: فقال له عبد الله ابن رواحة: هل علم رسول الله ﷺ بشىء مما صنعت؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت! أطلق الرجل، فأطلقه. ثم أتوا رسول الله ﷺ، فذكروا له ذلك؛ فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل: يا رسول الله، آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب فضربته. فقال رسول الله ﷺ لحسان: يا حسان أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام! ثم قال: أحسن يا حسان في الذي قد أصابك، قال: هي لك يا رسول الله. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث، أن رسول الله ﷺ أعطاه عوضا منها بيرحا - وهي قصر بني حديلة اليوم بالمدينة؛ كانت مالا لأبي طلحة بن سهل، تصدق بها إلى رسول الله ﷺ، فأعطاها حسان في ضربته - وأعطاه سيرين؛ أمةً قبطيةً، فولدت له عبد الرحمن بن حسان. قال: وكانت عائشة تقول: لقد سئل عن صفوان بن المعطل فوجدوه رجلا حصورًا ما يأتي النساء. ثم قتل بعد ذلك شهيدا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الواحد ابن حمزة، أن حديث عائشة كان في عمرة القضاء. قال أبو جعفر: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة شهر رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة من سنة ست معتمرًا. ذكر الخبر عن عمرة النبي ﷺ التي صده المشركون فيها عن البيت وهي قصة الحديبية حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمر ابن ذر الهمداني، عن مجاهد، أن النبي ﷺ اعتمر ثلاث عمرٍ، كلها في ذي القعدة؛ يرجع في كلها إلى المدينة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرج النبي ﷺ معتمرا في ذي القعدة لا يريد حربًا، وقد استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب أن يخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا به أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثيرٌ من الأعراب، وخرج رسول الله ﷺ ومن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما جاء زائرا لهذا البيت، معظمًا له. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم؛ أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله ﷺ عام الحديبية، يريد زيارة البيت، لا يريد قتالًا، وساق معه سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل؛ كانت كل بدنة عن عشرة نفر. وأما حديث ابن عبد الأعلى؛ فحدثنا عن محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة. وحدثني يعقوب، قال: حدثني يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عبد الله بن مبارك، قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله ﷺ من الحديبية، في بضعة عشر ومائة من أصحابه.. ثم ذكر الحديث. حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: قدمنا مع رسول الله ﷺ الحديبية، ونحن أربعة عشر ومائة. حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك وسعيد بن شرحبيل المصري، قالا: حدثنا الليث بن سعد المصري، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى، يقول: كنا يوم الشجرة ألفا وثلثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنا أصحاب الحديبية أربعة عشر ومائة. قال الزهري: فخرج رسول الله ﷺ، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعوا بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا؛ وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم. قال أبو جعفر: وقد كان بعضهم يقول: إن خالد بن الوليد كان يومئذ مع رسول الله ﷺ مسلمًا. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن ابن أبزى، قال: لما خرج النبي ﷺ بالهدى، وانتهى إلى ذي الحليفة، قال له عمر: يا رسول الله، تدخل على قوم هم لك حربٌ بغير سلاح ولا كراع! قال: فبعث النبي ﷺ إلى المدينة، فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى، فنزل بمنى، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال رسول الله ﷺ لخالد بن الوليد: يا خالد، هذا ابن عمك، قد أتاك في الخيل، فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله - فيومئذ سمي سيف الله -: يا رسول الله ارم بي حيث شئت. فبعثه على خيل، فلقى عكرمة في الشعب، فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية، فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله تعالى فيه: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " - إلى قوله: " عذابًا أليمًا " قال: وكف الله النبي ﷺ عنهم بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية أن تطأهم الخيل بغير علم. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فقال رسول الله ﷺ: يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؛ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين؛ وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش! فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة. ثم قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن رجلًا من أسلم قال: أنا يا رسول الله، قال: فسلك بهم على طريق وعر حزن بين شعاب، فلما أن خرجوا منه - وقد شق ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي - قال رسول الله ﷺ للناس: قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه. ففعلوا. فقال رسول الله ﷺ: والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها. قال ابن شهاب: ثم أمر رسول الله ﷺ الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين، بين ظهري الحمض في طريق تخرجه على ثنية المرار؛ على مهبط الحديبية من أسفل مكة. قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش، وأن رسول الله ﷺ قد خالفهم عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله ﷺ، حتى إذا سلك في ثنية المرار، بركت ناقته، فقال الناس: خلأت! فقال: ما خلأت، وما هو لها بخلقٍ؛ ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة؛ لا تدعوني قريش اليوم إلى خطةٍ يسألوني صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس: انزلوا، فقيل: يا رسول الله ما بالوادي ما ننزل عليه! فأخرج سهمًا من كنانته فأعطاه رجلًا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالري حتى ضرب الناس عليه بعطن. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن رجلًا من أسلم حدثه، أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله ﷺ ناجية بن جندب بن عمير ابن يعمر بن دارم، وهو سائق بدن رسول الله ﷺ. قال: وقد زعم لي بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله ﷺ. قال وأنشدت أسلم أبياتًا من شعر قالها ناجية، قد ظننا أنه هو الذي نزل بسهم رسول الله ﷺ فزعمت أسلم أن جاريةً من الأنصار أقبلت بدلوها، وناجية في القليب يميح على الناس، فقالت: يأيها المائح دلوي دونكا ** إني رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيرًا ويمجدونكا وقال ناجية، وهو في القليب يميح الناس: قد علمت جاريةٌ يمانيه ** أني أنا المائح واسمى ناجيه وطعنةٍ ذات رشاش واهيه ** طعنتها تحت صدور العاديه حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: نزل رسول الله ﷺ بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء؛ إنما يتبرضه الناس تبرضًا فلم يلبثه الناس أن نزحوه، فشكي إلى رسول الله ﷺ العطش، فنزع سهمًا من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه؛ فبيناهم كذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله ﷺ من أهل تهامة - فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية؛ معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك لؤي وصادوك عن البيت. فقال النبي ﷺ: إنا لم نأت لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا؛ وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره. فقال بديل: سنبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشًا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولًا؛ فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذو الراي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي ﷺ. فقام عروة بن مسعود الثقفي: فقال: أي قوم؛ ألستم بالوالد! قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد! قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ؛ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني! قالوا: بلى. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، في حديثه، قال: كان عروة بن مسعود لسبيعة بنت عبد شمس. رجع الحديث إلى حديث ابن عبد الأعلى ويعقوب. قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشدٍ فاقبلوها، ودعوني آته. فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل النبي ﷺ، فقال النبي نحوًا من مقالته لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك! وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوهًا وأوشابًا من الناس خلقًا أن يفروا ويدعوك. فقال أبو بكر: امصص بظر اللات - واللات طاغية ثقيف التي كانوا يعبدون - أنحن نفر وندعه! فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها لأجبتك؛ وجعل يكلم النبي ﷺ، فلكا كلمه أخذ بلحيته - والمغيرة بن شعبة قائمٌ على رأس النبي ﷺ، ومعه السيف وعليه المغفر؛ فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ﷺ ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحيته، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة ابن شعبة، قال: أي غدر؛ ألست أسعى في غدرتك! وكان المغيرة بن شعبة صحب قومًا في الجاهلية، فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي ﷺ: أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدر، لا حاجة لنا فيه. وإن عروة جعل يرمق أصحاب النبي ﷺ بعينه. قال: فوالله إن يتنخم النبي نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده؛ وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه؛ وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم وما يحدون النظر إليه تعظيمًا له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي؛ والله إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على مضوئه، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم؛ وما يحدون النظر إليه تعظيمًا له؛ وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته؛ فلما أشرف النبي ﷺ وأصحابه، قال النبي ﷺ: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله قومٌ يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري؛ قال في حديثه: ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة - أو ابن زبان - وكان يومئذ سيد الأحابيش؛ وهو أحد بلحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله ﷺ قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض، الوادي في قلائده، قد أكل أو باره من طول الحبس، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله ﷺ إعظامًا لما رأى، فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت مالا يحل صده: الهدى في قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله؛ قالوا له: اجلس، فإنما أنت رجل أعرابيٌ لا علم لك. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم؛ أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظمًا له؛ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ماجاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! قال: فقالوا له: مه! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. رجع الحديث إلى حديث ابن عبد الأعلى ويعقوب. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال لهم: دعوني آته، قالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي ﷺ: هذا مكرز بن حفص؛ وهو رجل فاجر؛ فجاء فجعل يكلم النبي ﷺ؛ فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو. وقال أيوب عن عكرمة: إنه لما جاء سهيل قال النبي ﷺ: قد سهل لكم من أمركم. فحدثني محمد بن عمارة الأسدي ومحمد بن منصور - واللفظ لابن عمارة - قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة عن إياس ابم سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحفص بن فلان، إلى النبي ﷺ ليصالحوه، فلما رآهم رسول الله فيهم سهيل بن عمرو، قال: سهل الله لكم من أمركم؛ القوم ماتون إليكم بأرحامكم، وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدى، وأظهروا التلبية؛ لعل ذلك يلين قلوبهم. فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية. قال: فجاءوا فسألوه الصلح، قال: فبينما الناس قد توادعوا، وفي المسلمين ناس من المشركين، وفي المشركين ناس من المسلمين، قال: ففتك به أبو سفيان، قال: فإذا الوادي يسيل بالرجال والسلاح. قال إياس: قال سلمة: فجئت بستة من المشركين متسلحين أسوقهم، ما يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا؛ فأتيت بهم النبي ﷺ، فلم يسلب ولم يقتل، وعفا. وأما الحسن بن يحيى فإنه حدثنا قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، أنه قال: لما اصطلحنا نحن وأهل مكة، أتيت الشجرة فكسحت شوكها؛ ثم اضطجعت في ظلها، فأتاني أربعة نفر من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله ﷺ، فأبغضتهم. قال: فتحولت إلى شجرة أخرى، فعلقوا سلاحهم، ثم اضطجعوا؛ فبيناهم كذلك؛ إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين! قتل ابن زنيم! فاخترطت سيفي، فشددت على أولئك الأربعة وهم رقود؛ فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثًا في يدي، ثم قلت: والذي كرم وجه محمد ﷺ؛ لا يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. قال: فجئت بهم أقودهم إلى رسول الله ﷺ، وجاء عمي عامر برجل من العبلات، يقال له مكرز؛ يقوده مجففًا، حتى وقفنا بهم على رسول الله ﷺ في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله ﷺ، فقال: دعوهم يكن لهم بدء الفجور، فعفا عنهم. قال: فأنزل الله عز وجل: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ". رجع الحديث إلى حديث محمد بن عمارة ومحمد بن منصور، عن عبيد الله. قال سلمة: فشددنا على من في أيدي المشركين منا، فما تركنا في أيديهم منا رجلًا إلا استنقذناه. قال: وغلبنا على من في أيدينا منهم. ثم إن قريشًا بعثوا سهيل بن عمرو وحويطبًا فولوهم صلحهم، وبعث النبي ﷺ عليًا عليه السلام في صلحه. حدثنا بشر بن معاذ؛ قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رجلًا من أصحاب النبي ﷺ يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية، فرماه المشركون فقتلوه، فبعث رسول الله ﷺ خيلًا، فأتوه باثنى عشر رجلًا فارسًا من الكفار، فقال لهم نبي الله ﷺ: هل لكم علي عهد؟ هل لكم علي ذمة؟ قالوا: لا، قال: فأرسلهم رسول الله ﷺ؛ فأنزل الله في ذلك القرآن: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " - إلى قوله: " بما تعملون بصيرًا ". وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن قريشًا إنما بعثت سهيل بن عمرو بعد رسالة كان رسول الله ﷺ أرسلها إليهم مع عثمان بن عفان. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على جمل له يقال له الثعلب؛ ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله؛ حتى أتى رسول الله ﷺ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال حدثني من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس، أن قريشًا بعثوا أربعين رجلًا منهم - أو خمسين رجلًا - وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ﷺ ليصيبوا لهم من أصحابه، فأخذوا أخذًا، فأتى بهم رسول الله ﷺ، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم - وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله ﷺ بالحجارة والنبل - ثم دعا النبي ﷺ عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريشٍ ما جاء له؛ فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشًا على نفسي؛ وليس بمكة من بنى عدي بن كعب أحد يمنعني؛ وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني، عثمان بن عفان! فدعا رسول الله ﷺ عثمان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب؛ وإنما جاء زائرًا لهذا البيت، معظمًا لحرمته. فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة - أو قبل أن يدخلها - فنزل عن دابته، فحمله بين يديه، ثم ردفه وأجاره؛ حتى بلغ رسالة رسول الله ﷺ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله ﷺ ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله ﷺ إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به؛ قال: ماكنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ؛ فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله ﷺ والمسلمين أن عثمان قد قتل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله ﷺ حين بلغه أن عثمان قد قتل، قال: لا نبرح حتى نناجز القوم؛ ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. حدثني ابن عمارة الأسدي، قال: حدثني عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، قال: قال سلمة بن الأكوع: بينما نحن قافلون من الحديبية، نادى منادي النبي ﷺ: أيها الناس؛ البيعة البيعة! نزل روح القدس. قال: فسرنا إلى رسول الله وهو تحت الشجرة سمرة، قال: فبايعناه، قال: وذلك قول الله تعالى: " لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ". حدثنا ابن حميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن عامر، قال: كان أول من بايع بيعة الرضوان رجلًا من بني أسد، يقال له: أبو سنان بن وهب. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله؛ أنهم كانوا يوم الحديبية أربعة عشر ومائة. قال: فبايعنا رسول الله ﷺ، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير الجد بن قيس الأنصاري، اختبأ تحت بطن بعيره. قال جابر: بايعنا رسول الله على ألا نفر؛ ولم نبايعه على الموت. وقد قيل في ذلك ما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرأبو عامر، قال: أخبرنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، أن النبي ﷺ دعا الناس للبيعة في أصل الشجرة، فبايعته في أول الناس، ثم بايع وبايع؛ حتى إذا كان في وسطٍ من الناس، قال: بايع يا سلمة، قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس! قال: وأيضًا؛ ورآني النبي ﷺ أعزل، فأعطاني جحفة أو درقةً. قال: ثم إن رسول الله بايع الناس؛ حتى إذا كان في آخرهم، قال: ألا تبايع يا سلمة! قلت: يا رسول الله؛ قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم! قال: وأيضًا. قال: فبايعته الثالثة، فقال رسول الله ﷺ: فأين الدرقة، والجحفة التي أعطيتك؟ قلت: لقيني عمي عامر أعزل فأعطيته إياها، فضحك رسول الله ﷺ وقال: إنك كالذي قال الأول: اللهم ابغني حبيبًا هو أحب إلي من نفسي. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فبايع رسول الله ﷺ الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد ابن قيس، أخو بني سلمة، قال: كان جابر بن عبد الله يقول: لكأني أنظر إليه لاصقًا بإبط ناقته، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله ﷺ أن الذي كان من أمر عثمان باطل. قال إبن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله ﷺ؛ وقالوا: له: ائت محمدًا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامة هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخل علينا عنوة أبدًا. قال: فأقبل سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله ﷺ مقبلًا، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل إلى رسول الله ﷺ تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر، ولم يبقى إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، اليس برسول الله! قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين! قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين! قال: بلى، قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا! قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه؛ فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا اشهد أنه رسول الله. قال: ثم أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله! قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين! قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين! قال: بلى قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا! فقال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني. قال: فكان عمر يقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به؛ حتى رجوت أن يكون خيرًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن علقمة ابن قيس النخعي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: ثم دعاني رسول الله ﷺ، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: " باسمك اللهم "، فقال رسول الله: اكتب " باسمك اللهم "، فكتبتها. ثم قال: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل بن عمرو: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال: فقال رسول الله ﷺ: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل ابن عمرو؛ اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع رسول الله لم ترده عليه. وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال؛ وأنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم، دخل فيه " - فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد رسول الله وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدها - " وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك؛ فأقمت بها ثلاثًا، وأن معك سلاح الراكب، السيوف في القرب لا تدخلها بغير هذا ". فبينا رسول الله ﷺ يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله ﷺ - قال: وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ - قال: وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رآها رسول الله ﷺ؛ فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول الله ﷺ في نفسه، دخل الناس من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا أن يهلكوا - فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بلببه، فقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا! قال: صدقت، قال: فجعل ينتره بلببه، ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني! فزاد الناس ذلك شرًا إلى ما بهم فقال رسول الله ﷺ: يا أبا جندل، احتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا؛ إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدًا وصلحًا، وأعطيناهم على ذلك عهدًا، وأعطونا عهدًا، وإنا لا نغدر بهم. قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل؛ فإنما هم المشركون؛ وإنما دم أحدهم دم كلب! قال: ويدنى قائم السيف منه، قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، قال: فضن الرجل بأبيه. فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجالًا من المسلمين، ورجالًا من المشركين: أبا بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة أخا بنى عبد الأشهل، ومكرز بن حفص بن الأخيف - وهو مشرك - أخا بني عامر بن لؤي، وعلي بن أبي طالب، وكتب وكان هو كاتب الصحيفة. حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، وحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، قالا جميعًا: حدثنا إسرائيل، قال: حدثناأبو إسحاق، عن البراء، قال: اعتمر رسول الله ﷺ في ذي القعدة. فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى يقاضيهم على أن يقيم بها ثلاثة ايام. فلما كتب الكتاب كتب: " هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله "، فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك؛ ولكن أنت محمد بن عبد الله، قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، قال لعلي عليه السلام: امح " رسول الله "، قال: لا والله لا أمحاك أبدًا، فأخذه رسول الله ﷺ - وليس يحسن يكتب - فكتب مكان رسول الله محمد فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد، ولا يدخل مكة بالسلاح إلا السيوف في القراب، ولا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، ولا يمنع أحدًا من أصحابه أراد أن يقيم بها ". فلما دخلها ومضى الأجل، أتوا عليًا عليه السلام، فقالوا: له: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج رسول الله ﷺ. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في قصة الحديبية: فلما فرغ رسول الله ﷺ من قضيته قال لأصحابه: قوموا فانحروا، ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجلٌ حتى قال ذلك ثلاث مرات؛ فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك! اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنتك؛ وتدعو حالقك فيحلقك؛ فقام فخرج فلم يكلم أحدًا منهم كلمة حتى فعل ذلك؛ نحر بدنته ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا؛ وجعل بعضهم يلحق بعضًا؛ حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا. قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: وكان الذي حلقه - فيما بلغني ذلك اليوم - خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: حلق رجالٌ يوم الحديبية، وقصر آخرون؛ فقال رسول الله ﷺ: يرحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: يرحم الله المحلقين؛ قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال يرحم الله المحلقين، قالوا: يا رسول الله: والمقصرين؟ قال: والمقصرين؛ قالوا: يا رسول الله؛ فلم ظاهرت الترحم لمحلقين دون المقصرين؟ قال: لأنهم لم يشكوا. حدثنا ابن حميد: قال حدثنا سلمة، عن أبان بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: أهدى رسول الله ﷺ عام الحديبية في هداياه جملًا لأبي جهل؛ في رأسه برة من فضة، ليغيظ المشركين بذلك. رجع الحديث إلى حديث الزهري الذي ذكرنا قبل، ثم رجع النبي ﷺ إلى المدينة - زاد ابن حميد عن سلمة في حديثه، عن ابن إسحاق عن الزهري؛ قال: يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه؛ إنما كان القتال حيث التقى الناس - فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضًا فالتقوا، وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. وقالوا: جميعًا في حديثهم عن الزهري، عن عروة، عن المسور ومروان: فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة، جاءه أبو بصير؛ - رجل من قريش - قال ابن إسحاق في حديثه: أبو بصير عتبة بن أسيد ابن جارية - وهو مسلمٌ، وكان ممن حبس بمكة، فلما قدم على رسول الله كتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله ﷺ، وبعث رجلًا من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم. فقدما على رسول الله ﷺ بكتاب الأزهر والأخنس، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت؛ ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. قال: فانطلق معهما حتى إذا كان بذي الحليفة، جلس إلى جدار وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير: أصارمٌ سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم، قال: انظر إليه؟ قال: إن شئت، فاستله أبو بصير، ثم علاه به حتى قتله، وخرج المولى سريعًا حتى أتى رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله طالعًا، قال: إن هذا رجل قد رأى فزعًا؛ فلما انتهى إلى رسول الله قال: ويلك! أما لك! قال: قتل صاحبكم صاحبي؛ فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحًا السيف، حتى وقف على رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، وفت ذمتك، وأدي عنك، أسلمتني ورددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. فقال النبي ﷺ: ويل امه مسعر حرب! - وقال ابن إسحاق في حديثه: محش حرب - لو كان معه رجالٌ! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم. قال: فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش الذي كانوا يأخذون إلى الشام. وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله ﷺ لأبي بصير: " ويل امه محش حرب لو كان معه رجال "، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص؛ وينفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فلحق بأبي بصير؛ فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلًا منهم؛ فكانوا قد ضيقوا على قريش؛ فوالله ما يسمعون بعيرٍ خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي ﷺ يناشدونه بالله وبالرحم لما أرسل إليهم! فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله ﷺ، فقدموا عليه المدينة: زاد ابن إسحاق في حديثه: فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري أسند ظهره إلى الكعبة، وقال: لا أؤخر ظهري عن الكعبة؛ حتى يودوا هذا الرجل؛ فقال أبو سفيان بن حرب: والله إن هذا لهو السفه! والله لا يودى! ثلاثًا. وقال ابن عبد الأعلى ويعقوب في حديثهما: ثم جاءه - يعني رسول الله - نسوةٌ مؤمناتٌ، فأنزل الله عز وجل عليه: " يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ " - حتى بلغ: " بعصم الكوافر ". قال: فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. قال: فنهاهم أن يردوهن، وأمرهم أن يردوا الصداق حينئذ. قال رجل للزهري: أمن أجل الفروج؟ قال: نعم، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية. زاد ابن إسحاق في حديثه: وهاجرت إلى رسول الله ﷺ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدة؛ فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة؛ حتى قدما على رسول الله ﷺ يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي كان بينه وبين قريش في الحديبية؛ فلم يفعل، أبى الله عز وجل ذلك. وقال أيضًا في حديثه: كان ممن طلق عمر بن الخطاب، طلق امرأتيه قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان؛ وهما على شركهما بمكة، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم عبيد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم، رجلٌ من قومها؛ وهما على شركهما بمكة. وقال الواقدي: في هذه السنة - في شهر ربيع الآخر منها - بعث رسول الله ﷺ عكاشة بن محصن في أربعين رجلًا إلى الغمر؛ فيهم ثابت بن أقرم وشجاع بن وهب؛ فأغذ السير، ونذر القوم به فهربوا، فنزل على مياههم وبعث الطلائع؛ فأصابوا عينًا فدلهم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير، فحدروها إلى المدينة. قال: وفيها بعث رسول الله ﷺ محمد بن مسلمة في عشرة نفر في ربيع الأول منها، فكمن القوم لهم حتى نام هو وأصحابه؛ فما شعروا إلا بالقوم؛ فقتل أصحاب محمد بن مسلمة وأفلت محمد جريحًا. قال الواقدي: وفيها أسرى رسول الله ﷺ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في شهر ربيع الآخر في أربعين رجلًا، فساروا ليلتهم مشاةً، ووافوا ذا القصة مع عماية الصبح، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربًا في الجبال، وأصابوا نعمًا ورثة ورجلًا واحدًا، فأسلم، فتركه رسول الله ﷺ. قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة بالجموم، فأصاب امرأة من مزينة، يقال لها حليمة؛ فدلتهم على محلة من محال بني سليم، فأصابوا بها نعمًا وشاء وأسراء، وكان في أولئك الأسراء زوج حليمة، فلما قفل بما أصاب وهب رسول الله ﷺ للمزنية زوجها ونفسها. قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص في جمادى الأولى منها. وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع؛ فاستجار بزينب بنت النبي ﷺ فأجارته. قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى الطرف، في جمادى الآخرة إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلًا، فهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول الله سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرًا. قال: وغاب أربع ليال. قال: وفيها سرية زيد بن حارثة إلى حسمي في جمادى الآخرة. قال: وكان أول ذلك - فيما حدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: أقبل دحية الكلبي من عند قيصر؛ وقد أجاز دحية بمال، وكساه كسى؛ فأقبل حتى كان بحسمي، فلقيه ناسٌ من جذام، فقطعوا عليه الطريق، فلم يترك معه شيء، فجاء إلى رسول الله قبل أن يدخل بيته فأخبره، فبعث رسول الله ﷺ زيد بن حارثة إلى حسمي. قال: وفيها تزوج عمر بن الخطاب جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح؛ أخت عاصم بن ثابت، فولدت له عاصم بن عمر؛ فطلقها عمر فتزوجها بعده يزيد بن جارية، فولدت له عبد الرحمن بن يزيد؛ فهو أخو عاصم لأمه. قال: وفيها سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب. قال: وفيها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان؛ وقال له رسول الله ﷺ: إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم؛ فأسلم القوم، فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ؛ وهي أم أبي سلمة؛ وكان أبوها رأسهم وملكهم. قال: وفيها أجدب الناس جدبًا شديدًا، فاستسقى رسول الله ﷺ في شهر رمضان بالناس. قال: وفيها سرية علي بن أبي طالب عليه السلام إلى فدك في شعبان. قال: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عقبة، قال: خرج علي بن أبي طالب في مائة رجل إلى فدك، إلى حي من بني سعد بن بكر؛ وذلك أنه بلغ رسول الله أن لهم جمعًا يريدون أن يمدوا يهود خيبر؛ فسار إليهم الليل وكمن النهار؛ وأصاب عينًا، فأقر لهم أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم نصرهم على أن يجعلوا لهم ثمر خيبر. قال: وفيها سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة في شهر رمضان. وفيها قتلت أم قرفة، وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، قتلها قتلًا عنيفًا؛ ربط برجليها حبلًا ثم ربطها بين بعيرين حتى شقاها شقًا، وكانت عجوزًا كبيرةً. وكان من قصتها ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله ﷺ زيد بن حارثة إلى وادي القرى؛ فلقى به بني فزارة؛ فأصيب به أناسٌ من أصحابه؛ وارتث زيد من بين القتلى، وأصيب فيها ورد ابن عمرو أحد بني سعد بن هذيم، أصابه أحد بني بدر؛ فلما قدم زيد نذر ألا يمس رأسه غسلٌ من جنابة حتى يغزو فزارة؛ فلما استبل من جراحه، بعثه رسول الله ﷺ في جيش إلى بني فزارة، فلقيهم بوادي القرى، فأصاب فيهم؛ وقتل قيس بن المسحر اليعمري مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر، وأسر أم قرفة - وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وكانت عند مالك بن حذيفة بن بدر، عجوزًا كبيرة - وبنتًا لها، وعبد الله بن مسعدة. فأمر زيد بن حارثة أن يقتل أم قرفة؛ فقتلها قتلًا عنيفًا، ربط برجليها حبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقاها. ثم قدموا على رسول الله ﷺ بابنة أم قرفة وبعبد الله بن مسعدة؛ وكانت ابنة أم قرفة لسلمة بن عمرو بن الأكوع؛ كان هو الذي أصابها، وكانت في بيت شرف من قومها، كانت العرب تقول: لو كنت أعز من أم قرفة ما زدت. فسألها رسول الله ﷺ سلمة، فوهبها له، فأهداها لخاله حزن بن أبي وهب، فولدت عبد الرحمن بن حزن. وأما الرواية الأخرى عن سلمة بن الأكوع في هذه السرية، أن أميرها كان أبا بكر بن أبي قحافة؛ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا أبو عامر، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: أمر رسول الله ﷺ علينا أبا بكر؛ فغزونا ناسًا من بني فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا، فلما صلينا الصبح، أمرنا أبو بكر فشننا الغارة عليهم. قال: فوردنا الماء فقتلنا به من قتلنا. قال: فأبصرت عنقًا من الناس؛ وفيهم النساء والذراري قد كادوا يسبقون إلى الجبل، فطرحت سهمًا بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر؛ وفيهم امرأة من فزارة عليها قشع أدم، معها ابنة لها من أحسن العرب. قال: فنفلني أبو بكر ابنتها، قال: فقدمت المدينة، فلقيني رسول الله ﷺ بالسوق، فقال: يا سلمة، لله أبوك! هب لي المرأة! فقلت: يا رسول الله، والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبًا. قال: فسكت عني حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق، فقال: يا سلمة، لله أبوك! هب لي المرأة، فقلت: يا رسول الله، والله ما كشفت لها ثوبًا، وهي لك يا رسول الله. قال: فبعث بها رسول الله إلى مكة؛ ففادى بها أسارى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين. فهذه رواية عن سلمة. قال محمد بن عمر: وفيها سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله ﷺ، واستاقوا الإبل في شوال من سنة ست؛ وبعثه رسول الله في عشرين فارسًا. ذكر خروج رسل رسول الله إلى الملوك قال: وفيها بعث رسول الله ﷺ الرسل؛ فبعث ذي الحجة ستة نفر: ثلاثة مصطحبين، حاطب بن أبي بلتعة من لخم حليف بني أسد بن عبد العزى إلى المقوقس، وشجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة - حليفًا لحرب بن أمية شهد بدرًا - إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، ودحية ابن خليفة الكلبي إلى قيصر. وبعث سليط بن عمرو العامري عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي الحنفي. وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى. وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي. وأما ابن أسحاق، فإنه - فيما زعم، وحدثنا به ابن حميد - قال: حدثنا سلمة، عنه قال: كان رسول الله ﷺ قد فرق رجالًا من أصحابه إلى ملوك العرب والعجم، دعاةً إلى الله عز وجل فيما بين الحديبية ووفاته. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب المصري، أنه وجد كتابًا فيه تسمية من بعث رسول الله ﷺ إلى ملوك الخائبين، وما قال لأصحابه حين بعثهم، فبعث به إلى ابن شهاب الزهري، مع ثقة من أهل بلدة فعرفه. وفي الكتاب أن رسول الله ﷺ خرج على أصحابه ذات غداة، فقال لهم: إني بعثت رحمةً وكافة؛ فأدوا عني يرحمكم الله، ولا تختلفوا علي كاختلاف الحواريين على عيسى بن مريم، قالوا: يا رسول الله، وكيف كان اختلافهم؟ قال: دعا إلى مثل ما دعوتكم إليه، فأما من قرب به فأحب وسلم، وأما من بعد به فكره وأبى؛ فشكا ذلك منهم عيسى إلى الله عز وجل، فأصبحوا من ليلتهم تلك؛ وكل رجل منهم يتلكم بلغة القوم الذين بعث إليهم. فقال عيسى: هذا أمرٌ قد عزم الله لكم عليه؛ فامضوا. قال ابن إسحاق: ثم فرق رسول الله ﷺ بين أصحابه؛ فبعث سليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود أخا بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي، صاحب اليمامة. وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى أخي بني عبد القيس صاحب البحرين، وعمرو بن العاص إلى جيفر بن جلندي وعباد بن جلندي الأزديين صاحبي عمان. وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية؛ فأدى إليه كتاب رسول الله ﷺ، وأهدى المقوقس إلى رسول الله ﷺ أربع جوار، منهن مارية أم إبراهيم بن رسول الله ﷺ. وبعث رسول الله دحية بن خليفة الكلبي ثم الخزجي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم؛ فلما أتاه بكتاب رسول الله ﷺ نظر فيه ثم جعله بين فخذيه وخاصرته. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله ابن عباس، قال: حدثني أبو سفيان بن حرب، قال: كنا قومًا تجارًا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا؛ فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله، لم نأمن ألا نجد أمنًا؛ فخرجت في نفر من قريش تجار إلى الشأم؛ وكان وجه متجرنا منها غزة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من فارس، وأخرجهم منها، وانتزع له منهم صليبه الأعظم؛ وكانوا قد استلبوه إياه، فلما بلغ ذلك منهم، وبلغه أن صليبه قد استنقذ له - وكانت حمص منزله - خرج منها يمشي على قدميه متشكرًا لله حين رد عليه مارد، ليصلي في بيت المقدس، تبسط له البسط، وتلقى عليها الرياحين، فلما انتهى إلى إبلياء وقضى فيها صلاته، ومعه بطارقته وأشراف الروم، أصبح ذات غداة مهمومًا يقلب طرفه إلى السماء، فقال له بطارقته: والله لقد أصبحت أيها الملك الغداة مهمومًا. قال: أجل، أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهرٌ! قالوا له: أيها الملك، ما نعلم أمةً تختتن إلا يهود، وهم في سلطانك وتحت يدك؛ فابعث إلى كل من لك عليه سلطان في بلادك، فمره فليضرب أعناق كل من تحت يديه من يهود، واسترح من هذا الهم، فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يديرونه؛ إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب، يقوده - وكانت الملوك تهادى الأخبار بينها - فقال: أيها الملك، إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل، يحدث عن أمر حدث ببلاده عجب، فسله عنه. فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى، قال هرقل لترجمانه: سله، ما كان هذا الحدث الذي ببلاده؟ فسأله فقال: خرج بين أظهرنا رجلٌ يزعم أنه نبي، قد اتبعه ناسٌ وصدقوه، وخالفه ناس؛ وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة، فتركتهم على ذلك. قال: فلما أخبره الخبر قال: جردوه، فجردوه، فإذا هو مختون، فقال هرقل: هذا والله الذي رأيت؛ لا ما تقولون، أعطوه ثوبه، انطلق عنا. ثم دعا صاحب شرطته، فقال له: قلب لي الشأم ظهرًا وبطنًا؛ حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل - يعني النبي ﷺ. قال أبو سفيان: فوالله إنا لبغزة. إذ هجم علينا صاحب شرطته؛ فقال: أنتم من قوم هذا الرجل الذي بالحجاز؟ قلنا: نعم، قال: انطلقوا بنا إلى الملك؛ فانطلقنا؛ فلما انتهينا إليه قال: أنتم من رهط هذا الرجل؟ قلنا: نعم، قال: فأيكم أمس به رحمًا؟ قلت: أنا. قال أبو سفيان: وايم الله ما رأيت من رجل أرى أنه كان أنكر من ذلك الأغلف - يعني هرقل - فقال: ادنه فأقعدني بين يديه، وأقعد أصحابي خلفي، ثم قال: إني سأسأله؛ فإن كذب فردوا عليه؛ فوالله لو كذبت ما رودوا علي، ولكني كنت أمرًا سيدًا أتكرم عن الكذب؛ وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك علي؛ ثم يحدثوا به عني؛ فلم أكذبه، فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدعي ما يدعي! فقال: فجعلت أزهد له شأنه، وأصغر له أمره؛ وأقول له: أيها الملك، ما يهمك من أمره! إن شأنه دون ما يبلغك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عما أسألك عنه من شأنه. قلت: سل عما بدا لك؛ قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: محضٌ؛ أوسطنا نسبًا. قال: فأخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول، فهو يتشبه به؟ قلت: لا، قال: فهل كان له فيكم ملكٌ فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ قلت: لا، قال: فأخبرني عن أتباعه منكم، من هم؟ قال: قلت: الضعفاء والمساكين والأحداث من العلمان والنساء، وأما ذوو الأسنان والشرف من قومه، فلم يتبعه منهم أحدٌ. قال: فأخبرني عمن تبعه، أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قال: قلت: ما تبعه رجل ففارقه. قال: فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: قلت: سجالٌ يدال علينا وندال عليه؛ قال: فأخبرني هل يغدر؟ فلم أجد شيئًا مما سألني عنه أغمزه فيه غيرها: قلت: لا، ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره. قال: فوالله ما التفت إليها مني، ثم كر على الحديث. قال: سألتك كيف نسبه فيكم فزعمت أنه محضٌ، من أوسطكم نسبًا؛ وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه؛ لا يأخذ إلا من أوسط قومه نسبًا. وسألتك: هل كان أحدٌ من أهل بيته يقول بقوله؛ فهو يتشبه به؛ فزعمت أن لا؛ وسألتك: هل كان له فيكم ملكٌ فاستلبتموه إياه؛ فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه؟ فزعمت أن لا. وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء؛ وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان، وسألتك عمن يتبعه، أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أنه لا يتبعه أحدٌ فيفارقه؛ وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبًا فتخرج منه. وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا؛ فلئن كنت صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين؛ ولوددت أني عنده فأغسل قدميه. انطلق لشأنك. قال: فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى؛ وأقول: أي عباد الله؛ لقد أمر أمر ابن أبي كبشة! أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام! قال: وقدم عليه كتاب رسول الله ﷺ مع دحية بن خليفة الكلبي: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى. أما بعد: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ وإن تتول فإن إثم الأكارين عليك - يعني تحماله. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: أخبرني أبو سفيان ابن حرب، قال: لما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله ﷺ عام الحديبية، خرجت تاجرًا إلى الشام. ثم ذكر نحو حديث ابن حميد، عن سلمة، إلا أنه زاد في آخره: قال: فأخذ الكتاب فجعله بين فخذيه وخاصرته. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: قال ابن شهاب الزهري: حدثني أسقفٌ للنصارى أدركته في زمان عبد الملك بن مروان، أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله ﷺ وأمر هرقل وعقله، قال: فلما قدم عليه كتاب رسول الله ﷺ مع دحية بن خليفة، أخذه هرقل، فجعله بين فخذيه وخاصرته. ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرءونه؛ يذكر له أمره، ويصف له شأنه، ويخبره بما جاء منه؛ فكتب إليه صاحب رومية: إنه للنبي الذي كنا ننتظره؛ لا شك فيه؛ فاتبعه وصدقه. فأمر هرقل ببطارقة الروم؛ فجمعوا له في دسكرة، وأمر بها فأشرجت أبوابها عليهم؛ ثم اطلع عليهم من علية له؛ وخافهم على نفسه، وقال: يا معشر الروم؛ إنني قد جمعتكم لخير؛ إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا؛ فهلموا فلنتبعه ونصدقه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا. قال: فنخروا نخرة رجل واحد؛ ثم ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها فوجدوها قد أغلقت، فقال: كروهم علي - وخافهم على نفسه - فقال: يا معشر الروم؛ إني قد قلت لكم المقالة التي قلت لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي قد حدث؛ وقد رأيت منكم الذي أسر به؛ فوقعوا له سجدًا؛ وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم؛ فانطلقوا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن هرقل قال لدحية بن خليفة حين قدم عليه بكتاب رسول الله ﷺ: ويحك! والله إني لأعلم أن صاحبك نبيٌ مرسل؛ وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا؛ ولكني أخاف الروم على نفسي؛ ولولا ذلك لأتبعته؛ فاذهب إلى صغاطر الأسقف فاذكر لهم أمر صاحبكم؛ فهو والله أعظم في الروم منى، وأجوز قولا عندهم منى؛ فانظر ما يقول لك. قال: فجاءه دحية؛ فأخبره بما جاء به من رسول الله ﷺ إلى هرقل، وبما يدعوه إليه، فقال صغاطر: صاحبك والله نبي مرسل؛ نعرفه بصفته، ونجده في كتبنا باسمه. ثم دخل فألقى ثيابًا كانت عليه سودًا، ولبس ثيابا بيضا، ثم أخذ عصاه؛ فخرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال: يا معشر الروم؛ إنه قد جاءنا كتابٌ من أحمد؛ يدعونا فيه إلى الله عز وجل؛ وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله. قال: فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، فضربوه حتى قتلوه. فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال: قد قلت لك: إنا نخافهم على أنفسنا؛ فصغاطر - والله - كان أعظم عندهم وأجوز قولًا مني. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام، قال: لما أراد هرقل الخروج من أرض الشأم إلى القسطنطينة، لما بلغه من أمر رسول الله ﷺ، جمع الروم، فقال: يا معشر الروم؛ إني عارضٌ عليكم أمورًا، فانظروا فيهم قد أردتها! قالوا: ما هي؟ قال: تعلمون والله أن هذا الرجل لنبي مرسلٌ؛ إنا نجده في كتابنا نعرفه بصفته التي وصف لنا، فهلم فلنتبعه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا، فقالوا: نحن نكون تحت يدي العرب، ونحن أعظم الناس ملكًا، وأكثرهم رجالًا، وأفضلهم بلدًا! قال: فهلم فأعطيه الجزية في كل سنة، اكسروا عني شوكته وأستريح من حربه بمال أعطيه إياه، قالوا: نحن نعطي العرب الذل والصغار، بخرجٍ يأخذونه منا؛ ونحن أكثر الناس عددًا، وأعظمهم ملكًا، وأمنعهم بلدًا؛ لا والله لا نفعل هذا أبدًا. قال: فهلم فلأصالحه على أن أعطيه أرض سورية، ويدعني وأرض الشام - قال: وكانت أرض سورية أرض فلسطين والأردن ودمشق وحمص ومادون الدرب من أرض سورية؛ وكان ما وراء الدرب عندهم الشام - فقالو له: نحن نعطيه أرض سورية؛ وقد عرفت أنها سرة الشام؛ والله لا نفعل هذا أبدًا. فلما أبوا عليه، قال: أما والله لترون أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم. ثم جلس على بغل له؛ فأنطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام، ثم قال: السلام عليكم أرض سورية تسليم الوداع، ثم ركض حتى دخل القسطنطينية. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ﷺ شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني؛ صاحب دمشق. وقال محمد بن عمر الواقدي: وكتب إليه معه: سلام على من اتبع الهدى وآمن به. إني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك. فقدم به شجاع بن وهب، فقرأه عليهم، فقال: من ينزع منى ملكي! أنا سائر إليه، قال النبي ﷺ: باد ملكه! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: بعث رسول الله ﷺ عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شان جعفر بن أبي طالب وأصحابه؛ وكتب معه كتابًا. بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلمٌ أنت؛ فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن؛ وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى؛ فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له؛ والموالاة على طاعته؛ وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني؛ فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرًا ونفرًا معه من المسلمين؛ فإذا جاءك فأقرهم، ودع التجبر؛ فإني أدعوك وجنودك إلى الله؛ فقد بلغت ونصحت؛ فاقبلوا نصحي، والسلام على من اتبع الهدى. فكتب النجاشي إلى رسول الله ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من النجاشي الأصحم بن أبجر. سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو، الذي هداني إلى الإسلام. أما بعد؛ فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقًا؛ إنه كما قلت؛ وقد عرفت ما بعثت به إلينا؛ وقد قرينا ابن عمك وأصحابه؛ فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقا؛ وقد بايعتك وبايعت ابن عمك؛ وأسلمت على يديه لله رب العالمين؛ وقد بعثت إليك با بني أرها بن الأصحم ابن أبجر؛ فإني لا أملك إلا نفسي؛ وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله؛ فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله. قال ابن إسحاق: وذكر لي أن النجاشي بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة؛ فإذ كانوا في وسط من البحر غرقت بهم سفينتهم، فهلكوا. وحدثت عن محمد بن عمر، قال: أرسل رسول الله ﷺ إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ ويبعث بها إليه مع من عنده من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة ليخبرها بخطبة رسول الله ﷺ إياها جارية له يقال لها أبرهة؛ فأعطتها أوضاحًا لها وفتخًا؛ سرورا بذلك، وأمرها أن توكل من يزوجها، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص، فزوجها، فخطب النجاشي على رسول الله ﷺ، وخطب خالد فأنكح أم حبيبة، ثم دعا النجاشي بأربعمائة دينار صداقها؛ فدفعها إلى خالد بن سعيد؛ فلما جاءت أم حبيبة تلك الدنانير، قال: جاءت بها أبرهة فأعطتها خمسين مثقالا، وقالت: كنت أعطيتك ذلك؛ وليس بيدي شىء، وقد جاء الله عز وجل بهذا. فقالت أبرهة: قد أمرني الملك ألا آخذ منك شيئا؛ وأن أرد إليك الذي أخذت منك، فرددته وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدقت محمدًا رسول الله وآمنت به؛ وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام. قالت: نعم؛ وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر؛ فكان رسول الله ﷺ يراه عليها وعندها فلا ينكره. قالت أم حبيبة: فخرجنا في سفينتين؛ وبعث معنا النواتي حتى قدمنا الجار، ثم ركبنا الظهر إلى المدينة؛ فوجدنا رسول الله ﷺ بخيبر، فخرج من خرج إليه، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله؛ فدخلت إليه، فكان يسائلني عن النجاشي؛ وقرأت عليه من أبرهة السلام، فرد رسول الله ﷺ عليها؛ ولما جاء أبا سفيان تزويج النبي ﷺ أم حبيبة قال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه. وفيها كتب رسول الله ﷺ إلى كسرى، وبعث الكتاب مع عبد الله بن حذافة السهمي؛ فيه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلامٌ على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله؛ وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا؛ أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس. فمزق كتاب رسول الله ﷺ، فقال رسول الله: مزق ملكه! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن حبيب، قال: وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب معه: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس؛ سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأن محمدا عبده ورسوله؛ وأدعوك بدعاء الله؛ فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت؛ فإن إثم المجوس عليك. فلما قرأه مزقه، وقال: يكتب إلى هذا وهو عبدي! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف؛ أن عبد الله بن حذافة قدم بكتاب رسول الله ﷺ على كسرى، فلما قرأه شقه، فقال رسول الله: مزق ملكه! حين بلغه أنه شق كتابه. ثم رجع إلى حديث يزيد بن أبي حبيب. قال: ثم كتب كسرى إلى باذان؛ وهو على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين، فليأتياني به؛ فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه - وكان كاتبًا حاسبًا بكتاب فارس - وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خر خسره، وكتب معهما إلى رسول الله ﷺ يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ائت بلد هذا الرجل، وكلمه وأتني بخبره، فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجالا من قريش بنخب من أرض الطائف فسألاهم عنه، فقالوا: هو بالمدينة، واستبشروا بهما وفرحوا؛ وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل! فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى اللعه عليه وسلم، فكلمه بابويه، فقال: إن شاهانشاه ملك الملوك كسرى؛ قد كتب إلى الملك باذان، يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك؛ وقد بعثني إليك لتنطلق معي؛ فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ينفعك ويكفه عنك؛ وإن أبيت فهو من قد علمت! فهو مهلكك ومهلك قومك، ومخرب بلادك؛ ودخلا على رسول الله ﷺ وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما؛ فكره النظر إليهما، ثم أقبل عليهما فقال: ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله: لكن ربي قد أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي. ثم قال لهما: ارجعا حتى تأتياني غدًا، وأتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه؛ فقتله في شهر كذا وكذا ليلة كذا وكذا من الليل؛ بعد ما مضى من الليل؛ سلط عليه ابنه شيرويه فقتله. قال الواقدي: قتل شيرويه أباه كسرى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى من سنة سبع لست ساعات مضت منها - رجع الحديث إلى حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب. فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول! إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا؛ أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك! قال: نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر؛ وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك؛ وملكتك على قومك من الأبناء؛ ثم أعطى خرخسره منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك. فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيًا كما يقول؛ ولننظرن ما قد قال؛ فلئن كان هذا حقا ما فيه كلامٌ؛ إنه لنبي مرسلٌ؛ وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا. فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه؛ أما بعد فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبًا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم وتجميرهم في ثغورهم؛ فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك؛ وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه. فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسولٌ. فأسلم وأسلمت الأبناء معه من فارس من كان منهم باليمن؛ فكانت حمير تقول لخرخسره: ذو المعجزة، للمنطقة التي أعطاها إياها رسول الله ﷺ - والمنطقة بلسان حمير المعجزة - فبنوه اليوم ينسبون إليها خرخسره ذو المعجزة. وقد قال بابويه لباذان: ما كلمت رجلًا قط أهيب عندي منه، فقال له باذان: هل معه شرطٌ؟ قال: لا. قال الواقدي: وفيها كتب إلى المقوقس عظيم القبط، يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم. قال أبو جعفر: ولما رجع رسول الله ﷺ من غزوة الحديبية إلى المدينة أقام بها ذا الحجة وبعض المحرم - فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. قال: وولي الحج في تلك السنة المشركون. المقدمة ذكر الخبر عن أصحاب الكهف يونس بن متى إرسال الله رسله الثلاثة شمسون ذكر خبر جرجيس ذكر الخبر عن ملوك الفرس وسني ملكهم ذكر ملك أردشير بن بابك ذكر الخبر عن القائم كان بملك فارس بعد أردشير بن بابك ذكر ملك هرمز بن سابور ذكر ملك بهرام بن هرمز ذكر ملك بهرام بن بهرام بن هرمز ذكر ملك شاهنشاه بن بهرام ذكر ملك نرسي بن بهرام ذكر ملك هرمز بن نرسي ذكر ملك سابور ذي الأكتاف ذكر ملك أردشير بن هرمز ذكر ملك سابور بن سابور ذكر ملك بهرام بن سابور ذكر ملك يزدجرد الأثيم ذكر ملك بهرام جور ذكر ملك يزدجرد بن بهرام جور ذكر ملك فيروز بن يزدجرد ذكر ما كان من الأحداث في أيام يزدجرد بن بهرام وفيروز بين عمالهما على العرب وأهل اليمن ذكر ملك بلاش بن فيروز ذكر ملك قباذ بن فيروز ذكر ما كان من الحوادث التي كانت بين العرب في أيام قباذ في مملكته وبين عماله ذكر ملك كسرى أنوشروان ذكر بقية خبر تبع أيام قباذ وزمن أنوشروان وتوجيه الفرس الجيش إلى اليمن لقتال الحبشة وسبب توجيهه إياهم إليها ذكر مولد رسول الله ﷺ تمام أمر كسرى بن قباذ أنوشروان ذكر ملك هرمز بن كسرى أنوشروان ذكر ملك كسرى أبرويز بن هرمز ذكر الخبر عن الأسباب التي حدثت عند إرادة الله إزالة ملك فارس عن أهل فارس ووطأتها العرب بما أكرمهم به بنبيه محمد ﷺ من النبوة والخلافة والملك والسلطان في أيام كسرى أبرويز ذكر خبر يوم ذي قار ذكر من كان على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند ذكر ملك شيرويه بن أبرويز ذكر ملك أردشير بن شيرويه ذكر ملك شهر براز ذكر ملك بوران بنت كسرى أبرويز ذكر ملك جشنسده ذكر ملك آزرميدخت بنت كسرى أبرويز كسرى بن مهراجشنس ذكر ملك خرزا خسروا ذكر ملك فيروز بن مهراجشنس ذكر ملك فرخزاذ خسروا ذكر ملك يزدجرد بن شهريار ذكر أقوال علماء المسلمين وغيرهم فيما كان بين هبوط آدم إلى الهجرة من السنين ذكر نسب رسول الله ﷺ وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده ابن عبد المطلب ابن هاشم ابن عبد مناف ابن قصي ابن كلاب ابن مرة ابن كعب ابن لؤي ابن غالب ابن فهر ابن مالك ابن النضر ابن كنانة ابن خزيمة ابن مدركة ابن إلياس ابن مضر ابن نزار ابن معد ابن عدنان ذكر رسول الله ﷺ وأسبابه ذكر تزويج النبي ﷺ خديجة رضي الله عنها ذكر باقي الأخبار عن الكائن من أمر رسول الله ﷺ قبل أن ينبأ وما كان بين مولده ووقت نبوته من الأحداث في بلده ذكر اليوم الذي نبئ فيه رسول الله ﷺ من الشهر الذي نبئ فيه وما جاء في ذلك ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله ﷺ عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال جبريل عليه السلام إليه بوحيه وما تلا ذلك من الأحداث إلى وقت الهجرة ذكر الوقت الذي عمل فيه التأريخ ذكر ما كان من الأمور المذكورة في أول سنة من الهجرة ثم كانت السنة الثانية من الهجر ة ثم دخلت السنة الثالثة من الهجرة ذكر الأحداث التي كانت في سنة أربع من الهجرة ثم كانت السنة الخامسة من الهجرة ذكر الأحداث التي كانت في سنة ست من الهجرة

 يتبع ان شاء الله بالجزء الثالث والرابع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج11. فهرست تاريخ الطبري

  فهرست تاريخ الطبري    فهرست تاريخ الطبري فهرس رئيسي الزمان | بدء الخلق | خلق آدم | آدم في الأرض | نوح | قصة عيسى ومريم | ملوك الفرس |...