عليك رب الجبروت والقهر يا بلوجر بظلمك لي وحذفك لصفحات تدويني يا طالم وغبي .

فوضت أمري الي الله الجبار فيك يا بلوجر هو وحده اللي حيهدَّك باضطهادك لي وحذفك لصفحات مدوناتي ينتقم منك ربنا بظلمك لي يا أرعن يا مُحدث يا ظالم أنصحك أن تعرض نفسك علي طبيب نفسي حاذق ليخضعك لعلاج علة النقص والتعقيد التي أصابتك لا أدري من كم سنة ؟

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 4 فبراير 2024

{كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين لمؤلفه محمد الخضري } وورد


نور اليقين للخضري وورد



 
مقدّمة الطبعة الثالثة
الحمد لله والصلاة والسلام على خير نبي أرسله، لقد بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده حتى التقى بالرفيق الأعلى، وعلى الصحابة الذين اقتفوا أثره ومن تبعهم إلى يوم الدين.
وبعد:
إنّ شخصية الرسول الكريم تعد نبراسا لكل من أحبّ أن يهتدي إلى الطريق السوي، هذا الإنسان الذي وهب حياته للخير أين ما كان وأين ما حلّ، ولما كانت الأمة الإسلامية مطالبة بتتبّع أثر الرسول لأنه ترجمان القران ولقوله تعالى:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
وكانت الصحابة تحرص حرصا شديدا على دراسة حياته لأولادها حتى قال سيدنا سعد بن أبي وقّاص: «كنا نعلّم أولادنا سيرة الرسول ومغازيه كما كنا نعلّمهم القران» لهذا تحتّم على الأمة معرفة حياته من أوّلها إلى اخرها ولا يوجد كتاب يلم بهذا الموضوع ككتاب نور اليقين للشيخ محمد الخضري. فإنه من أكثر الكتب المتداولة في السيرة النبوية في العالم الإسلامي. لقد انتهج المؤلّف منهجا جديدا في شرح سيرة الرسول الأعظم
شرحا لم تعرفه كتب السيرة من قبل.
ولكن الكتاب يحتاج إلى بعض تراجم الرجال. وضبط بعض الأسماء.
وتحقيق وتتمة بعض الروايات التاريخية. وتخريج الايات والأحاديث النبوية.
وشرح العناوين والكلمات المبهمة ولهذا قمت بهذا العمل معتمدا على الله راجيا منه التوفيق إنه على ما يشاء قدير، كل ذلك جعلته في ذيل كل صفحة ودفعا للالتباس وضعت كلمة المؤلّف في نهاية كلامه فإذا أدخلت شيئا على كلامه وضعته بين قوسين.
ولمّا وجدت اقبالا على هذا الكتاب، فقد قمت بطبعه مرّة ثالثة.
وتمتاز الطبعة الثالثة عن سابقتها بتحاشي جميع الأخطاء المطبعية السابقة، كما أنها أكثر شرحا للجوانب الهامّة، وأدقّ ضبطا للكلمات والأعلام.
والله وليّ التوفيق.
المحقّق
بسم الله الرّحمن الرّحيم
نحمدك يا من أوضحت لنا سبل الهداية، وأزحت عن بصائرنا غشاوة الغواية، ونصلّي ونسلم على من أرسلته شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. وعلى الأصحاب الذين هجروا الأوطان يبتغون من الله الفضلى والرضوان، والأنصار الذين اووا ونصروا وبذلوا لإعزاز الدين ما جمعوا وما ادخروا.
أمّا بعد: فيقول محمد الخضري بن المرحوم الشيخ عفيفي الباجوري: كنت أجد من نفسي منذ النشأة الأولى ارتياحا لقراءة تواريخ السّالفين وقصص الغابرين وأجدها لعقل الإنسان أحسن مهذّب وأنصح معلم. وكنت أرى في تاريخ نبيّنا
وما لقيه من أذى قومه حينما دعاهم إلى الحقّ وعظيم صبره حتى هجر أوطانه وبلاده أعظم مربّ لأفكار المسلمين، فإنه يدلّهم على ما يجب اتباعه وما يلزم اجتنابه ليسودوا كما ساد سابقوهم، وخصوصا ما يتعلّق بالحكّام من اجتذاب النفوس النافرة والتأليف بين القلوب المختلفة، وما يتعلّق بقواد الجيوش من تأليف الرجال وإحكام المعدّات حتى يتم لهم النصر على أعدائهم، وما يتعلّق بالعامّة من اتحاد قلوبهم وصيرورتهم يدا على من سواهم. فكنت أجد من قراءتها ارتياحا عظيما وكانت نفسي كثيرا ما تأسف على ترك المسلمين لها! فقلّما أجد من يشتغل بها ولكني كنت أقدم لهم العذر بتطويل الكتب المؤلفة في هذا الموضوع. فلمّا قدمت مدينة المنصورة جمعتني النوادي مع محمود بك سالم القاضي بمحكمة المنصورة المختلطة فوجدت منه علما بدينه تقف دونه فحول الرجال وتتأخّر عن مسابقته فيه الأبطال، فقلّما توضع مسألة دينية إلّا وجدته مبرزا فيها مفصحا عن الجواب عنها، أمّا علمه بسيرة الرسول الأكرم ﷺ فعنده منها الخبر اليقين. وكنت كثيرا ما أسمعه يتشوّف لعمل سيرة خالية من الحشو والتعقيد تنتفع بها عامّة المسلمين فقلت: يا الله! لقد وافق هذا السيد الكريم ما في نفسي
ولكني كنت أرى في عزيمتي قصورا عن تنفيذ رغبته وتتميم أمنيته فإن المقام عظيم وصعوباته أعظم، ولكن لم أر من الأمر بدا تلقاء ما كنت أسمعه من كبار رجال المنصورة، فإنهم أكثروا من الأماني لعمل هذا الكتاب العميم النفع، الجزيل الفائدة. فقمت معتمدا على الله راجيا منه أن يوفقني لما فيه رضاه، وواصلت السير بالسرى حتى بلغت المنى فجاء بحمد الله سهل المنال عذب المورد تنتفع به العامّة وترجع إليه الخاصة. وقد كان موردي في تأليفه القران الشريف وصحيح السّنة ممّا رواه الإمامان البخاري ومسلم، ولم أخرج عنهما إلّا فيما لا بدّ من تفهيم العبارات، فكان يساعدني «الشفاء» للقاضي عياض، و«السيرة الحلبية»، و«المواهب اللدنية» للقسطلاني، و«إحياء علوم الدين» للغزالي. هذا وأسأل الله من فيض فضله أن يوفق أئمتنا وأمراءنا للاقتداء بسيدنا ومولانا رسول الله ﷺ وإحياء معالم دينه حتى يؤيدوا بروح من عند الله. وقد ان أن نشرع فيما قصدناه مستعينين بحول الله فنقول:

النسب الشريف
السيد الأكرم الذي شرّف الناس بوجوده هو (محمد بن عبد الله «١») من زوجه امنة بنت وهب الزّهرية «٢» القرشية (ابن عبد المطلب «٣») من زوجه فاطمة بنت عمر المخزومية «٤» القرشية. وكان عبد المطلب شيخا معظّما في قريش يصدرون عن رأيه في مشكلاتهم ويقدمونه في مهماتهم. (ابن هاشم «٥») من زوجه سلمى بنت عمرو النجّارية»
الخزرجية (ابن عبد مناف «٧») من زوجه عاتكة بنت مرّة
(١) فهو أبو رسول الله ﷺ ويكنى أبا قثم وهو أصغر أولاد عبد المطلب.
(٢) من بني زهرة بن كلاب من قريش. المؤلف.
(٣) اسمه شيبة وإنما قصد في تسميته بهذا الاسم للتفاؤل يؤثر عنه أنه جاء بسنن قد جاءت في القران والسنة وهو أول من سن دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش، وعاش مائة وأربعين سنة.
(٤) من بني مخزوم بن يقظة بن مرّة من قريش. المؤلف.
(٥) سمي هاشما لأنه وقعت في قريش مجاعة فهشم لهم كعكا كلّه هشما ودقه دقا ثم صنع للحجاج طعاما شبه الثريد.
(٦) من بني النجار من الخزرج والخزرج إحدى القبيلتين اللتين كانتا تقيمان بالمدينة وهما الأوس والخزرج وهما أخوان وسمى رسول الله ﷺ كلاهما أنصارا. المؤلف.
(٧) مناف اسم صنم أضيف عبد إليه كما يقولون: عبد يغوث، وسمي به عبد مناة ثم نظر قصي فراه يوافق عبد مناة ابن كنانة فحوّله عبد مناف. واسم عبد مناف: المغيرة وهو منقول من الوصف، والهاء، فيه
السلمية «١») . (ابن قصيّ «٢») من زوجه حبّى بنت حليل الخزاعية. وكان إلى قصيّ في الجاهلية حجابة البيت «٣»، وسقاية الحاج، وإطعامه المسمّى بالرفادة، والندوة هي الشورى لا يتم أمر إلّا في بيته، واللواء: لا تعقد راية لحرب إلّا بيده، ولمّا أشرف على الموت جعلها في يد أحد أولاده عبد الدار، لكن بنو عبد مناف أجمعوا رأيهم على ألايتركوا بني عمهم عبد الدار يستأثرون بهذه المفاخر، وكاد يفضي الأمر إلى القتال لولا أن تدارك الأمر عقلاء الفريقين، فأعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة فدامتا فيهم إلى أن انتهتا للعباس بن عبد المطلب ثم لبنيه من بعده، أمّا الحجابة فبقيت بيد بني عبد الدار، وأقرّها لهم الشرع فهي فيهم إلى الان. (وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار)، وأمّا اللواء «٤» فدام فيهم حتى أبطله الإسلام، وجعله حقا للخليفة على المسلمين يضعه فيمن يراه صالحا له وكذلك الندوة، (وقصي بن كلاب «٥») من زوجه فاطمة بنت سعد وهي يمانية من أزد شنوءة (ابن مرّة «٦») من زوجه هند بنت سرير من بني فهر بن مالك (ابن كعب «٧») من زوجه وحشية بنت شيبان من بني فهر أيضا (ابن لؤيّ «٨») من زوجه أم كعب مارية بنت كعب من قضاعة (ابن غالب «٩») من زوجه أم لؤي سلمى بنت عمرو الخزاعي (ابن فهر «١٠») من زوجه أم غالب ليلى بنت سعد من هذيل، وفهر هو قريش- في قول الأكثرين- وكانت قريش
للمبالغة أي مغير على الأعداء.
(١) من بني سليم بن منصور إحدى قبائل قيس عيلان بن مضر. المؤلف.
(٢) قصي يقال اسمه زيد وهو تصغير قصيّ ويقال اسمه مجمّع ولقب قصيا لأنه أبعد عن أهله ووطنه مع أمه بعد وفاة أبيه.
(٣) أن تكون مفاتيح البيت عنده فلا يدخله أحد إلّا باذنه.
(٤) يعني في الحرب لأنه كان لا يحمله عندهم إلّا قوم مخصوصون.
(٥) اسمه حكيم وقيل عروة ولقب بكلاب لأنه كان يكثر الصيد بالكلاب. أو من كلاب جمع كلب لأنهم يريدون الكثرة.
(٦) منقول من وصف الحنظلة والعلقمة وكثيرا ما كانوا يسمونه بحنظلة وعلقمة.
(٧) منقول إما من الكعب وهو قطعة من السمن أو من كعب القدم وهو أقرب وهو أول من جمع يوم العروبة ولم تسم العروبة الجمعة إلا منذ جاء الإسلام فكانت تجتمع إليه في هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي ﷺ.
(٨) لؤي تصغير اللأي وهو الثور الوحشي.
(٩) لم يذكر السهيلي في نسب الرسول (غالبا) .
(١٠) الفهر: الحجر الأملس يملأ الكف أو نحوه، وكان كريما.
اثنتي عشرة قبيلة: بنو عبد مناف، وبنو عبد الدار بن قصي، وبنو أسد بن عبد العزّى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرّة، وبنو تيم بن مرّة، وبنو عدي بن كعب، وبنو سهم بن هصيص بن عمرو بن كعب، وبنو عامر بن لؤي، وبنو تيم بن غالب، وبنو الحارث بن فهر، وبنو محارب بن فهر، والمقيمون منهم بمكّة يسمون «قريش البطاح»، والذين بضواحيها «قريش الظواهر» (ابن مالك) من زوجه جندلة بنت الحرث من جرهم (ابن النضر «١») من زوجه عاتكة بنت عدوان من قيس عيلان (ابن كنانة) من زوجه برّة بنت مر بن أد (ابن خزيمة) «٢» من زوجه عوانة بنت سعد من قيس عيلان (ابن مدركة «٣») من زوجه سلمى بنت أسلم من قضاعة (ابن إلياس «٤») من زوجه خندف المضروب بها المثل في الشرف والمنعة. (ابن مضر «٥») من زوجه الرباب بنت جندة بن معد (ابن نزار «٦») من زوجه سودة بنت عك. (ابن معد «٧») من زوجه معانة بنت جوشم من جرهم. (ابن عدنان «٨») .
هذا هو النسب المتّفق على صحته من علماء التاريخ والمحدّثين، أمّا النسب فوق ذلك فلا يصحّ فيه طريق، غاية الأمر أنّهم أجمعوا على أن نسب الرسول ﷺ ينتهي إلى اسماعيل بن إبراهيم «٩» أب العرب المستعربة. نسب شريف كما ترى؛ اباء طاهرون وأمّهات طاهرات، لم يزل
ينتقل من أصلاب
(١) الذهب الأحمر ولقب به لنضارته وجماله.
(٢) تصغير خزمة وهي واحدة الخزم وقال أبو حنيفة: الخزم مثل الحبال الدّوم تتخذ من سعطه.
(٣) لقّب مدركة لأنه أدرك الإبل التي كانت قد ضلّت، والياس أبوه.
(٤) الياس مختلف فيه فمنهم من يقول الياس موافق للذي هو خلاف الرجاء وهو مصدر يئس وكان مثله كمثل لقمان الحكيم في قومه. وهو أول من أهدى البدن للبيت.
(٥) مضر: مشتق من اللبن الماضر وسمي مضر لبياضه وهو الحامض- وكان جميلا حكيما وهو أول سن للعرب حداء الابل وفي الحديث لا تسبوا مضر ولا ربيع فإنهما كانا مؤمنين. رواه الديلمي في مسند الفردوس.
(٦) نزار من النزارة وهي القلة، وهو أجمل أهل زمانه وأرجحهم عقلا. وقال صاحب الأغاني سمي بذلك لأنه كان فريد عصره.
(٧) معد: من تمعد إذا اشتد. وأصله من المعد (بسكون العين) وهو القوة ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر.
(٨) عدنان: مأخوذ من عدن في المكان إذا أقام فيه ومنه جنات عدن أي جنات إقامة وخلود.
(٩) أمه هاجر ولد اسماعيل بن ابراهيم اثني عشر رجلا فهي بني مرسل أرسله الله إلى أخواله بن جرهم وعمر مائة سنة وثلاثين سنة ثم مات
تأثر عليه ودفن في الحجر مع أمه هاجر.
أولئك إلى أرحام هؤلاء حتى اختاره الله هاديا مهديا من أوسط العرب نسبا. فهو من صميم قريش التي لها القدم الأولى في الشرف وعلو المكانة بين العرب، ولا تجد في سلسلة ابائه إلّا كراما ليس فيهم مسترذل بل كلّهم سادة قادة، وكذلك أمهات ابائه من أرفع قبائلهن شأنا، ولا شكّ أن شرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوّة، وكل اجتماع بين ابائه وأمهاته كان شرعيّا بحسب الأصول العربية، ولم ينل نسبه شيء من سفاح الجاهلية بل طهّره الله من ذلك والحمد لله.

زواج عبد الله بامنة وحملها
كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه، فزوجه امنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وسنه ثماني عشرة سنة، وهي يومئذ من أفضل نساء قريش نسبا وموضعا. ولما دخل عليها حملت بالرسول ﷺ. ولم يلبث أبوه أن توفي بعد الحمل بشهرين، ودفن بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار، فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام. فأدركته منيته بالمدينة وهو راجع «١»، ولمّا تمّت مدة حمل امنة وضعت ولدها، فاستبشر العالم بهذا المولود الكريم «٢» الذي بثّ في أرجائه روح الاداب وتمّم مكارم الأخلاق. وقد حقّق المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان صبيحة يوم الاثنين تاسع ربيع الأوّل الموافق لليوم العشرين من أبريل سنة ٥٧١ من الميلاد، وهو يوافق السنة الأولى من حادثة الفيل «٣» .
وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم «٤» . وكانت قابلته الشّفاء أم عبد
(١) دفن في دار النابغة في دار الصغرى إذا دخلت الدار على يسارك في البيت وله خمس وعشرون سنة.
(٢) روى مسلم في صحيحه أن أعرابيا سأل رسول الله ﷺ عن صيام يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه، وروى أحمد في حديث تفرد به أنه ولد يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، والجمهور على أنه كان في ربيع الأول ويقول النووي: ونقل ابراهيم بن المنذر الخزاعي شيخ البخاري وخليفة ابن خياط واخرون الإجماع عليه أي على أنه ولد عام الفيل- واتفقوا على أنه ولد يوم الاثنين من شهر ربيع الأول.
(٣) حادثة شهيرة حصلت بمكة فأرخت بها العرب كعادتهم وكل أمة في التاريخ بالأمور المهمة وقد ذكر القران هذه الحادثة في سورة الفيل وحاصلها أن ملكا من ملوك الحبشة- الذين امتلكوا اليمن بعد حمير أغار على مكة وقصد هدم كعبتها، وكان معه فيل عظيم لم يكن العرب رأوا مثله، فاكراما للنبي المنتظر وغيرة على بيته الكريم جعل الله كيد الأعداء في تضليل، وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول، وأراح قريشا من عناء مقاومتهم أهـ. المؤلف.
(٤) في المكان المعروف بسوق الليل في الدار التي صارت تدعى بدار محمد بن يوسف الثقفي أخي
الرحمن بن عوف، ولما ولد أرسلت أمه لجده تبشّره فأقبل مسرورا وسمّاه محمدا «١»، ولم يكن هذا الاسم شائعا قبل عند العرب، ولكن أراد الله أن يحقّق ما قدره وذكره في الكتب التي جاءت بها الأنبياء كالتوراة والإنجيل، فألهم جدّه أن يسميه بذلك إنفاذا لأمره، وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية أمة أبيه عبد الله، وأول من أرضعه ثويبة «٢» أمة عمه أبى لهب.

الرضاع «٣»
وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ليكون أنجب للولد «٤»، وكانوا يقولون: إن المربّى في المدن يكون كليل الذهن فاتر العزيمة، فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن أطفالا يرضعنهم، فكان الرضيع المحمود من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، واسم زوجها أبو كبشة «٥»، وهو الذي كانت قريش تنسب له الرسول ﷺ حينما يريدون الاستهزاء به فيقولون:
هذا ابن أبي كبشة يكلّم من السماء! ودرّت البركات على أهل ذاك البيت الذين أرضعوه مدة وجوده بينهم «٦» وكانت تربو عن أربع سنوات «٧» .
الحجاج بن يوسف وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيرزان أم الهادي والرشيد فجعلته مسجدا يصلى فيه.
(١) لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله ﷺ إلّا ثلاثة طمع اباؤهم حين سمعوا بذكر محمد ﷺ وبقرب زمانه، وأنه يبعث في الحجاز أن يكون ولدا لهم، وهم محمد بن سفيان بن مجاشع، والثاني محمد بن أحيحة والأخير محمد بن حمران بن ربيعة.
(٢) توفيت سنة سبع، قال ابن منده: واختلف في إسلامها وقال أبو نعيم: لا أعلم أحدا ذكره.
(٣) مرضعاته ثمان: امنة- ثويبة- خولة- أم أيمن- سعدية- وثلاث نسوة من العواتك.
(٤) لينشأ.
(٥) اسمه الحارث بن عبد العزى فأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه.
(٦) ذكر الواقدي أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء (مجدبة) فقدمت على أتان (حمار صغير) لي قمراء (القمراء التي يميل لونها إلى الخضراء) كانت قد أذمت (أبطأت عليهم) ومعي صبي لنا، وشارف لنا والله ما تبضّ (ما ترشح) بقطرة وما كنا ننام ليلتنا أجمع مع صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه ولا في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج.. فما هو إلّا أن أخذته فجئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي ثم نام، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك إنها لحافل، فحلب منها ما شرب، وشربت حتى روينا فبتنا بخير ليلة.
(٧) السيرة الحلبية. المؤلف.
حادثة شق الصدر «١»
وحصل له وهو بينهم حادثة مهمة وهي شق صدره وإخراج حظّ الشيطان منه «٢»، فأحدث ذلك عند حليمة خوفا فردّته إلى أمه وحدثتها قائلة: بينما هو وإخوته في بهم «٣» لنا خلف بيوتنا إذ أتى أخوه يعدو فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشقّا بطنه فهما يسوطانه «٤» . فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه منتقعا لونه «٥»، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بنيّ؟ فقال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟؟ قال نعم. فأقبلا يبتدراني «٦» فأضجعاني فشقا بطني، فالتمسا فيه شيئا، فأخذاه وطرحاه «٧» ولا أدري ما هو.

وفاة امنة وكفالة عبد المطلب ووفاته وكفالة أبي طالب
ثم إن أمه أخذته منها، وتوجّهت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وبينما هي عائدة أدركتها منيتها في الطريق فماتت بالأبواء «٨» فحضنته أم
(١) هي في السنة الثالثة وشق صدره أيضا ليلة الإسراء كما رواه البخاري.
(٢) يشير إلى ما رواه البخاري ومسلم والترمذي «ما من مولود يولد إلّا نخسه الشيطان، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلّا ابن مريم وأمه، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم، (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) قال عياض: يريد أن الله قبل دعاءها مع أن الأنبياء معصومون، وقال النووي: أشار عياض إلى أن جميع الأنبياء يشاركون عيسى في هذه الخصوصية.
(٣) البهم: الصغار من الغنم، واحدتها: بهمة.
(٤) يحركانه بسوط. المؤلف.
(٥) شبيها بالنقع وهو التراب. المؤلف. أي متغيرا، يقال انتقع وجهه وامتقع (بالبناء للمجهول) إذا تغيّر.
(٦) يرعاني.
(٧) تتمة: ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني أصيب فانطلقي بنا نردّه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف قالت حليمة فاحتملناه فلم ترع أمه إلّا به، فقالت: ما ردّكما به يا ظئر (المرضعة) فقد كنتما عليه حريصين؟ فقالا: لا والله إلّا أن الله قد أدّى عنا وقضينا الذي علينا وقلنا نخشى الاتلاف والأحداث نرده إلى أهله. فقالت: ما ذاك بكما، فأصدقاني شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، فقالت: أخشيتما عليه الشيطان؟! كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله انه لكائن لابني هذا شأن إلّا أخبركما خبره؟ قلنا: بلى قالت: حملت به فما حملت حملا قط أخف علي منه (يوهم ذلك أنهما حملت بغيره وهو غير ثابت) فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعا ما يقعه المولود، معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما. هذا الحديث قد روي من طرق اخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين السير والمغازي.
(٨) قرية بين مكة والمدينة وهي أقرب إلى المدينة (المؤلف) وقد حصل ذلك وهو ابن ست سنين.
أيمن، وكفله جدّه عبد المطلب، ورقّ له رقة لم تعهد له في ولده، لما كان يظهر عليه مما يدل على أن له شأنا عظيما في المستقبل، وكان يكرمه غاية الإكرام، ولكن لم يلبث عبد المطلب أن توفي بعد ثماني سنوات من عمر الرسول ﷺ «١»، فكفله شقيق أبيه أبو طالب فكان له رحيما وعليه غيورا، وكان أبو طالب مقلّا من المال فبارك الله له في قليله، وكان الرسول ﷺ في مدة كفالة عمه مثال القناعة، والبعد عن السفاسف التي يشتغل بها الأطفال عادة، كما روت ذلك أم أيمن حاضنته، فكان إذا أقبل وقت الأكل جاء الأولاد يختطفون وهو قانع بما سييسره الله له «٢» .

السفر إلى الشام
ولما بلغت سنّه
اثنتي عشرة سنة، أراد عمّه وكفيله السفر بتجارة إلى الشام، فاستعظم الرسول ﷺ فراقه، فرقّ له، وأخذه معه، وهذه هي الرحلة الأولى، ولم يمكثوا فيها إلّا قليلا، وقد أشرف على رجال القافلة وهم بقرب بصرى «٣» بحيرى الراهب «٤»، فسألهم عما راه في كتبهم المقدسة من بعثة نبي من العرب في هذا الزمن، فقالوا إنه لم يظهر للان «٥»، وهذه العبارة كثيرا ما كان يلهج بها أهل الكتاب من يهود ونصارى قبل بعثة الرسول ﷺ فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «٦» .

حرب الفجار «٧»
ولما بلغت سنّه
عشرين سنة حضر حرب الفجار، وهي
(١) دفن بالحجون (جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها عند قبر جده قصي) ولما حضرته الوفاة. أوصى به إلى عمه.
(٢) كان يقول في أول الطعام الحمد لله، ولم تر منه كذبة ولا ضحك ولا جاهلية، ولا وقف مع صبيان يلعبون، تفسير الرازي ج ٦ ص ٥٦٨.
(٣) قرية على الحدود بين بلاد الشام والأردن (وهي قرية من أعمال حوران) .
(٤) اسمه سرجس كان راهبا مسيحيّا وكان ينكر لاهوت المسيح (يقول إن تسميته باله غير جائزة) وكان قسا عالما فلكيّا منجما وقد اتّخذ صومعته بقرب الطريق الموصل إلى الشام وكان يأمر بعبادة الله وينهى عن عبادة الأصنام.
(٥) ملخّص القصّة أن بحيرى الراهب صنع طعاما ودعا له كل قريش فاجتمعوا إلّا رسول الله ﷺ ثم أحضروه بعد إلحاح من بحيرى فلما رأى من أوصافه ما يوافق ذلك ما عنده أقبل على عمه أبي طالب وأوصاه أن يعود بابن أخيه حذرا عليه من اليهود فعمل أبو طالب ما نبهه إليه بحيرى.
(٦) سورة البقرة اية ٨٩.
(٧) معنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة وذلك أن قتالا كان في الشهر الحرام ففجروا فيه وأيام الفجار أربعة
حرب كانت بين كنانة ومعها قريش، وبين قيس. وسببها أنه كان للنعمان بن المنذر ملك العرب بالحيرة «١» تجارة يرسلها كل عام إلى سوق عكاظ «٢» لتباع له، وكان يرسلها في أمان رجل ذي منعة وشرف في قومه ليجيزها «٣»، فجلس يوما وعنده البرّاض بن قيس الكناني وكان فاتكا خليعا خلعه قومه لكثرة شرّه وعروة بن عتبة الرحّال فقال: من يجيز لي تجارتي هذه حتى يبلغها عكاظ؟ فقال البراض: أنا أجيزها على بني كنانة، فقال النعمان: إنّما أريد من يجيزها على الناس كلهم؟
فقال: عروة أبيت اللعن «٤» أكلب خليع يجيزها لك؟ أنا أجيزها على أهل الشّيح والقيصوم من أهل نجد «٥» وتهامة «٦» فقال البرّاض: أو تجيزها عل كنانة يا عروة؟
قال: وعلى الناس كلّهم، فأسرّها في نفسه، وتربّص له حتى إذا خرج بالتجارة، قتله غدرا، ثم أرسلوا رسولا يخبر قومه كنانة بالخبر، ويحذرهم قيسا قوم عروة. وأما قيس فلم تلبث بعد أن بلغها الخبر أن همّت لتدرك ثأرها، حتى أدركوا قريشا وكنانة بنخلة «٧»، فاقتتلوا، ولما اشتدّ البأس، وحميت قيس، احتمت قريش بحرمها، وكان فيهم رسول الله ﷺ. ثم أن قيسا قالوا لخصومهم: إنّا لا نترك دم عروة، فموعدنا عكاظ العام المقبل، وانصرفوا إلى بلادهم يحرّض بعضهم بعضا، فلما حال الحول جمعت قيس جموعها وكانت معها ثقيف وغيرها، وجمعت قريش جموعها من كنانة والأحابيش (وهم حلفاء قريش) وكان رئيس بني هاشم الزبير بن عبد المطلب ومعه اخوته أبو طالب وحمزة والعباس وابن أخيه النبي الكريم ﷺ، وكان على بني أمية حرب بن أمية، وله القيادة العامّة لمكانه في قريش شرفا وسنّا. وهكذا كان على كل
فالفجار الأول كان بين كنانة وهوازن، والثاني بين قريش وكنانة، والثالث بين كنانة وبني نضر بن معاوية والفجار الأخير بين قريش وكنانة كلها.
(١) بلدة غرب الفرات كان يقيم بها ملك العرب من قبل ملوك فارس، فتحها خالد بن الوليد في السنة الثانية عشرة (راجع اتمام الوفاء) المؤلف.
(٢) سوق كانت تعقدها العرب كل عام لتعرض فيها تجارتها وما قاله فصحاؤها من قصائد الفخر وما أشبه ذلك من مفاخر العرب، وهي أشبه في ذلك بمعارض أوربا الان. المؤلف.
(٣) ليسوغها له (أي يسمح له بذلك) .
(٤) تحية عربية ومعناها باعدت كل ما استحق المذمة. المؤلف.
(٥) هو المرتفع من بلاد العرب وهو وسطها. المؤلف.
(٦) هو ما انخفض من سواحل البلاد العربية والشرقي منها يسمى البحرين الفاصل بين نجد وتهامة الحجاز في الغرب واليمامة في الشرق. المؤلف.
(٧) موضع بين مكة والطائف. المؤلف.
بطن من بطون قريش رئيس ثم تناجزوا «١» الحرب، فكان يوما من أشدّ أيام العرب هولا، ولمّا استحلّ فيه من حرمات مكة التي كانت مقدّسة عند العرب سمي يوم الفجار. وكادت الدائرة تدور على قيس حتى انهزم بعض قبائلها ولكن أدركهم من دعا المتحاربين للصلح «٢» على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد، فكانت لقيس زيادة أخذوا ديتها من قريش، وتعهد بها حرب بن أمية، ورهن لسدادها ولده أبا سفيان. وهكذا انتهت هذه الحرب التي كثيرا ما تشبه حروب العرب تبدؤها صغيرات الأمور حتى ألّف الله بين قلوبهم وأزاح عنهم هذه الضلالات بانتشار نور الإسلام بينهم.

حلف الفضول «٣»
وعند رجوع قريش من حرب الفجار تداعوا لحلف الفضول فتمّ في دار عبد الله بن جدعان التميمي «٤» أحد رؤساء قريش، وكان المتحالفون بني هاشم، وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسد بن عبد العزى، وبني زهرة بن كلاب، وبني تيم بن مرة تحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، حتى تردّ إليه مظلمته، وقد حضر هذا الحلف رسول الله ﷺ مع أعمامه، وقال بعد أن شرّفه الله بالرسالة: «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النّعم «٥» ولو دعيت به في الإسلام لأجبت «٦»» وذلك لأنه
مبعوث بمكارم الأخلاق وهذا منها وقد أقرّ دين الإسلام كثيرا منها، يرشدك إلى هذا قوله : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق «٧»» وقد دعا بهذا الحلف كثيرون فأنصفوا.
(١) أي حضروا الحرب.
(٢) هو عتبة بن ربيعة أحد ساداتها.
(٣) أي تحالفوا ألا يتركوا عند أحد فضلا بظلمه أحدا إلا أخذوه له منه.
(٤) يكنى أبا زهير. وهو ابن عم عائشة
، وكان بدء أمره صعلوكا. وكان مع ذلك فاتكا حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه، وحلف ألّا يؤويه أبدا لما أثقله من ديون، ثم أثرى بعد ذلك فأوسع في الكرم فصار أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية.
(٥) الشيء النفيس من الحيوانات وهي الإبل.
(٦) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩١.
(٧) أورده مالك في الموطأ بلاغا عن النبي ﷺ، وقال ابن عبد البر هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره مرفوعا.
رحلته إلى الشام المرّة الثانية
ولما بلغت سنه
خمسا وعشرين سنة سافر إلى الشام المرّة الثانية، وذلك أن خديجة بنت خويلد الأسدية كانت سيدة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم «١» إياه، فلما سمعت عن السيد من الأمانة وصدق الحديث ما لم تعرفه في غيره حتى سماه قومه الأمين، استأجرته ليخرج في مالها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، فسافر مع غلامها ميسرة فباعا وابتاعا وربحا ربحا عظيما، وظهر للسيد الكريم في هذه السفرة من البركات ما حبّبه في قلب ميسرة غلام خديجة «٢» .

زواجه خديجة
فلمّا قدما مكّة ورأت خديجة ربحها العظيم سرّت من الأمين
، وأرسلت إليه تخطبه لنفسها، وكانت سنها نحو الأربعين وهي من أوسط «٣» قريش حسبا وأوسعهم مالا. فقام الأمين مع أعمامه حتى دخل على عمّها عمرو بن أسد فخطبها منه بواسطة عمه أبي طالب فزوجها عمها. وقد خطب أبو طالب في هذا اليوم فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء «٤» معدّ وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه وجعله لنا بيتا محجوجا، وحرما امنا، وجعلنا حكّام الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل شرفا ونبلا وفضلا، وإن كان في المال قلّ، فإنّ المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مستردّة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصّداق (كذا) «٥» وعلى ذلك تمّ الأمر. وقد كانت متزوجة قبله بأبي هالة
(١) المضاربة: شركة تكون بين طرفين، من أحدهما المال، ومن الاخر العمل بالتجارة.
(٢) كانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة مع ما أراد الله بها من كرامة، فلما أخبرها به غلامها ميسرة بعثت إلى رسول الله ﷺ فقالت له: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وشرفك في قومك وأمانتك وحسن خلقك، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه.
(٣) الوسط من أوصاف المدح والتفضيل فكان الوسط من أجل هذا مدحا في النسب.
(٤) أصل. «المؤلف» .
(٥) أصدقها رسول الله ﷺ اثنتي عشرة أوقية ونصفا من الذهب والأوقية أربعون درهما شرعيّا.
توفي عنها وله منها ولد اسمه هالة وهو ربيب «١» المصطفى
.

بناء البيت «٢»
ولما بلغت سنه
خمسا وثلاثين سنة. جاء سيل جارف فصدّع جدران الكعبة بعد توهينها من حريق كان أصابها قبل، فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها. فإنها كانت رضيمة «٣» فوق القامة، فاجتمعت قبائلهم لذلك. ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم. فقال لهم الوليد بن المغيرة:
أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، قال: إن الله لا يهلك المصلحين. وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل «٤» .
وهناك وجدوا صحافا نقش فيها كثير من الحكم «٥» على عادة من يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدّمين. ثم ابتدؤوا في البناء وأعدّوا لذلك نفقة ليس فيها مهر بغيّ ولا بيع ربا «٦»، وجعل الأشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم، وكان العباس ورسول الله ﷺ فيمن يحمل، وكان الذي يلي البناء نجار رومي اسمه باقوم «٧»، وقد خصّص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة، وقد ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد اسماعيل، فأخرجوا منها الحجر «٨»، وبنوا عليه جدارا قصيرا علامة على أنه من
(١) ابن امرأة الرجل من غيره.
(٢) كان بناؤها في الدهر خمس مرّات الأولى: حين بناها شيث بن ادم والثانية: حين بناها ابراهيم على القواعد الأولى. والثالثة: حين بنتها قريش قبل الاسلام. والرابعة: حين احترقت في عهد ابن الزبير. والخامسة: في عهد أبي جعفر المنصور.
(٣) الرضم: أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير طين.
(٤) في ابن هشام أساس ابراهيم.
(٥) مما وجدوا حجرا مكتوبا فيه «من يزرع خيرا، يحصد غبطة ومن يزرع شرّا يحصد ندامة. تعملون السيئات وتجزون الحسنات. أجل كما لا يجتنى من الشّوك العنب.
(٦) كان محرما عليهم في الجاهلية يعلمون ذلك ببقية من بقايا شرع ابراهيم
كما بقي عليهم وشيء من أحكام الطلاق والعتق وغير ذلك وفي قوله سبحانه (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) دليل على تقدم التحريم.
(٧) يا قوم وقيل يا قوم أو يا قول.
(٨) قال
لعائشة لولا حدثان عهد قومك بالجاهلية لهدمتها، وجعلت لها خلفا وألصقت بابها بالأرض، وأدخلت فيها الحجر أو كما قال وردت في معناه أحاديث رواها الشيخان وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي.
الكعبة. ولمّا تمّ البناء ثماني عشرة ذراعا بحيث زيد فيه عن أصله تسعة أذرع ورفع الباب عن الأرض بحيث لا يصعد إليها إلّا بدرج أرادوا وضع الحجر الأسود موضعه، فاختلف أشرافهم فيمن يضعه، وتنافسوا في ذلك حتى كادت تشبّ بينهم نار الحرب، ودام بينهم هذا الخصام أربع ليال، وكان أسنّ رجل في قريش إذ ذاك أبو أمية بن المغيرة المخزومي عم خالد بن الوليد فقال لهم: يا قوم لا تختلفوا وحكّموا بينكم من ترضون بحكمه. فقالوا: نكل الأمر لأوّل داخل، فكان هذا الداخل هو الأمين المأمون
، فاطمأن الجميع له لما يعهدونه فيه من الأمانة وصدق الحديث وقالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد لأنهم كانوا يتحاكمون إليه إذ كان لا يداري ولا يماري. فلما أخبروه الخبر بسط رداءه، وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم وضع فيه الحجر «١» وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه. وهكذا انتهت هذه المشكلة التي كثيرا ما يكون أمثالها سببا في انتشار حروب هائلة بين العرب لولا أن يمنّ الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير، وحكيم مثل الرسول ﷺ يقضي بينهم بما يرضي جميعهم، ولا يستغرب من قريش تنافسهم هذا لأن البيت قبلة العرب وكعبتهم التي يحجون إليها فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة وهو أول بيت وضع للعبادة بشهادة القران الكريم قال تعالى في سورة ال عمران: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا «٢» وكان يلي أمره بعد ولد اسماعيل قبيلة جرهم فلما بغوا وظلموا من دخل مكة اجتمعت عليهم خزاعة وأجلوهم عن البيت، ووليته خزاعة حينا من الدهر.
ثم أخذته منهم قريش في عهد قصي بن كلاب وبسببه أمنوا في بلادهم فكانت قبائل العرب تهابهم. وإذا احتموا به كان حصنا أمينا من اعتداء العادين، وامتنّ الله عليهم بذلك في تنزيله فقال في سورة العنكبوت: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «٣» .
(١) عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ قال: «أنزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من اللبن فسوّدته خطايا بني ادم. رواه الترمذيّ.
(٢) اية ٩٦- ٩٧.
(٣) اية ٦٧.
معيشته
قبل البعثة
لم يرث
من والده شيئا. بل ولد يتيما عائلا «١» فاسترضع في بني سعد. ولما بلغ مبلغا يمكّنه أن يعمل عملا كان يرعى الغنم مع إخوته من الرضاع في البادية، وكذلك لما رجع إلى مكة كان يرعاها لأهلها على قراريط كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه «٢» . ووجود الأنبياء في حال التجرّد عن الدنيا ومشاغلها أمر لا بد منه، لأنهم لو وجدوا أغنياء لألهتهم الدنيا وشغلوا بها عن السعادة الأبدية. ولذلك ترى جميع الشرائع الإلهية متفقة على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها، وحال الأنبياء السالفين أعظم شاهد على ذلك، فكان عيسى أزهد الناس في الدنيا، وكذلك كان موسى وابراهيم. وكانت حالتهم في صغرهم ليست سعة بل كلهم سواء، تلك حكمة بالغة أظهرها الله على أنبيائه ليكونوا نموذجا لمتّبعيهم في الامتناع عن التكالب على الدنيا والتهافت عليها، وذلك سبب البلايا والمحن. وكذلك رعاية الغنم، فما من نبي إلا رعاها كما أخبر عن ذلك الصادق المصدوق في حديث للبخاري، وهذه أيضا من بالغ الحكم، فإن الإنسان إذا استرعى الغنم وهي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان لما هذّب أولا من الحدّة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. ولما شبّ كان يتجر، وكان شريكه السائب بن أبي السائب. وذهب بالتجارة لخديجة ، إلى الشام على جعل «٣» يأخذه، ولما شرّفت خديجة بزواجه، وكانت ذات يسار عمل في مالها وكان يأكل من نتيجة عمله. وحقّق الله ما امتنّ عليه به في سورة الضحى بقوله جل ذكره: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى «٤» بالإيواء والإغناء قبل النبوة والهداية بالنبوة، هداه للكتاب والإيمان ودين إبراهيم ولم يكن يدري ذلك قبل. قال تعالى في سورة الشورى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
(١) فقيرا لا مال له.
(٢) قال رسول الله ﷺ: ما بعث الله نبيا إلّا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة وقراريط جمع قيراط وهو أحد أجزاء الدينار.
(٣) ما جعل للانسان من شيء على فعل يقوم به.
(٤) اية ٦- ٨.
الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «١» .

سيرته في قومه قبل البعثة
كان
أحسن قومه خلقا، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، فسمّوه الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة من الحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والتواضع، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء. حتى شهد له بذلك ألد أعدائه النضر بن الحارث «٢» من بني عبد الدار حيث يقول: قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم:
ساحر! لا والله ما هو بساحر، قال ذلك في معرض الاتفاق على ما يقولونه للعرب الذين يحضرون الموسم حتى يكونوا متفقين على قول مقبول يقولونه. ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان قائلا: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله.
ورد ذلك في أول صحيح البخاري. وقد حفظه الله في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف بضدها «٣» وبغّضت إليه الأوثان بغضا شديدا حتى ما كان يحضر لها احتفالا أو عيدا ممّا يقوم به عبّادها. وقال
: «لما نشأت بغّضت إليّ الأوثان، وبغّض إليّ الشعر، ولم أهمّ بشيء ممّا كانت الجاهلية تفعله إلّا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك.
ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفا بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذنيّ فنمت فما أيقظني إلّا مسّ الشمس ولم أقض شيئا، ثم عراني مرّة أخرى مثل ذلك» . وكان
لا يأكل ما ذبح
(١) اية ٥٢.
(٢) قتل يوم بدر كافرا قتله علي بن أبي طالب.
(٣) الشفاء للقاضي عياض. المؤلف.
على النصب «١» وحرّم شرب الخمر على نفسه مع شيوعه في قومه شيوعا عظيما.
وذلك كلّه من الصفات التي يحلّي الله بها أنبياءه ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقّي وحيه، فهم معصومون من الأدناس قبل النبوة وبعدها: أمّا قبل النبوة فليتأهّلوا للأمر العظيم الذي سيسند إليهم. وأمّا بعدها فليكونوا قدوة لأممهم.
عليهم من الله أفضل الصلوات وأتم التسليمات.

ما أكرمه الله به قبل النبوّة
أوّل منحة من الله ما حصل من البركات على ال حليمة الذين كان مسترضعا فيهم. فقد كانوا قبل حلوله بناديهم مجدبين «٢» فلمّا صار بينهم صارت غنيماتهم تؤوب من مرعاها وإن أضراعها لتسيل لبنا ويرحم الله البوصيري حيث يقول في همزيته:
وإذا سخّر الإله أناسا ... لسعيد فإنّهم سعداء
ثمّ أعقب ذلك ما حصل من شق صدره وإخراج حظّ الشيطان منه «٣»، وليس هذا بالعجيب على قدرة الله تعالى، فمن استبعد ذلك كان قليل النظر. لا يعرف من قوّة الله شيئا، لأن خرق العادات للأنبياء ليس بالأمر المستحدث ولا المستغرب.
ومن المكرمات الإلهية تسخير الغمامة له في سفره إلى الشام حتى كانت تظله في اليوم الصائف لا يشترك معه أحد في القافلة، كما روى ذلك ميسرة غلام خديجة الذي كان مشاركا له في سفره وهذا ما حبّبه إلى خديجة حتى خطبته لنفسها، وتيقّنت أن له في المستقبل شأنا. ولذلك لما جاءته النبوّة كانت أسرع الناس إيمانا به، ولم تنتظر اية أخرى زيادة على ما علمته من مكارم الأخلاق، وما سمعته من خوارق العادت.
ومن منن الله عليه ما كان يسمعه من السلام عليه من الأحجار والأشجار «٤»،
(١) هي حجارة تنصب وتصب عليها دماء الذبائح وتعبد. المؤلف.
(٢) الجدب ضد الخصب، وهي الأرض لا تكاد تخصب لاحتباس الماء عنها.
(٣) أي من قلبه.
(٤) السيرة الحلبية. المؤلف.
فكان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى ببناء ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا سمع: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله «١»، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا وقد حدث بذلك عن نفسه. وليس في ذلك كبير اشكال فقد سخر الله الجمادات للأنبياء قبله، فعصا موسى التقمت ما صنع سحرة فرعون بعد أن تحوّلت حية تسعى ثم رجعت كما كانت، ولما ضرب بها الحجر نبع منه الماء اثنتي عشرة عينا، لكل سبط «٢» من أسباط بني اسرائيل عين. وكذلك غيره من الأنبياء سخر الله لهم ما شاء من أنواع الجمادات لتدل العقلاء على عظيم قدرهم وخطارة شأنهم.

تبشير التوراة به
أنزل الله التوراة على موسى محتوية على الشرائع التي تناسب أهل ذاك الزمن، ونوّه فيها بذكر كثير من الأنبياء الذين علم الله أنّه سيرسلهم، فممّا جاء فيها تبشيرا برسولنا الكريم ﷺ خطابا لسيّدنا موسى
«٣» (وسوف أقيم لهم نبيّا مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ويكلّمهم بكل شيء امره به، ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا الذي أنتقم منه، فأما النبي الذي يجترئ عليّ بالكبرياء ويتكلّم باسمي بما لم امره به أو باسم الهة أخرى فليقتل، وإذا أحببت أن تميز بين النبي الصادق والكاذب فهذه علامتك أن ما قاله ذلك النبي باسم الربّ ولم يحدث فهو كاذب يريد تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه) .
ويقول اليهود: أن هذه البشارة ليوشع بن نون خليفة موسى
، مع أنّهم كانوا ينتظرون في مدّة المسيح نبيّا اخر غير المسيح، فإنهم «٤» أرسلوا ليوحنا المعمدان (يحيى) يسألونه عن نفسه فقالوا له: أنت إيليا؟ «٥» فقال: لا فقالوا أنت المسيح؟ فقال: لا فقالوا: أنت النبي؟ فقال: لا فقالوا: ما بالك إذا تعمّد إذا
(١) الأحاديث التي وردت في تكلم الأحجار مع الرسول الكريم كثيرة منها ما رواه مسلم أن رسول ﷺ قال: اني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الان.
(٢) القبيلة من اليهود.
(٣) الاصحاح الثامن: سفر التثنية. «المؤلف» .
(٤) الاصحاح الأول من انجيل يوحنا، اية ٤٦. المؤلف.
(٥) قال ابن كثير في البداية والنهاية ذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب ابن منبه أن اسم الخضر بليا. ويقال ايليا بن بلكان ج ١ ص ٣٢٦.
كنت لست إيليا ولا المسيح ولا النّبي فهذه تدل على أن التوراة تبشر بإيليا والمسيح ونبي لم يأت حتى زمن المسيح، ثم إن التوراة تقول في صفة النبي: أنه مثل موسى، وقد نصّت في اخر سفر التثنية على أنه لم يقم في بني اسرائيل نبي مثل موسى «١»، وورد في هذه البشارة أن النبي الذي يفتري على الله يقتل ويشبه ذلك في القران قوله تعالى في سورة الحاقة وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «٢» . ونبينا ﷺ مكث بين أعدائه الألداء من مشركين ويهود ثلاثا وعشرين سنة يدعوهم فيها إلى الله، ومع ذلك عصمه الله منهم وأنزل عليه تطمينا لخاطره في سورة المائدة وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «٣» أكان يعجز الله، وهو القادر على كل شيء، أن يعاقب من ينسب إليه ما لم يقله وهو الذي قال في سورة الشورى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «٤» وقد أخبرتنا هذه البشارة عن العلامة التي تعرف بها صدق النبي من كذبه وهي الأخبار بما سيأتي. وقد أخبر النبي
عن أشياء كثيرة فحدثت كما أخبر عنها. ومنها ما لا ينفع معه الحدس والتخمين كالإخبار بأن الروم سيغلبون بعد أن قهرهم الفرس قهرا شديدا حتى كادوا يحتلّون القسطنطينية عاصمة ملكهم، فالإخبار إذا بأن الروم سيردّون ما فقد منهم بعد بضع سنين لا يكون إلّا من عند الله، ولذلك استغربه جدا بعض المشركين من قريش وراهن على ذلك أبا بكر الصديق . وقد حقّق الله الخبر فاستحق الصديق الرهن. وهذا قليل من كثير سيأتيك تفصيله إن شاء الله تعالى.
وروى القاضي عياض في الشفاء أن عطاء بن يسار سأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن صفة رسول الله
فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القران: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا «٥»: «وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكّل ليس بفظ ولا
(١) هذه النصوص المذكورة في التوراة والإنجيل ناطقة برسالة سيدنا محمد
وقد أخبر برسالته ورقة بن نوفل ابن عم خديجة.
(٢) عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. المؤلف. الاية من ٤٤- ٤٦.
(٣) اية ٦٧.
(٤) اية ٢٤.
(٥) سورة الأحزاب اية ٤٥.
غليظ ولا صخاب «١» في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلّا الله ويفتح به أعينا عميا واذانا صمّا وقلوبا غلفا» «٢» .
وروي مثله عن عبد الله بن سلام «٣»
وهو الذي كان رئيس اليهود فلم تعمه الرياسة حتى يترك الدين القويم، وكذلك كعب الأحبار «٤» وفي بعض طرق الحديث: ولا صخّاب في الأسواق ولا قوّال للخنا، أسدّده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة مقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى أمامه، والإسلام ملّته، أحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة. وأسمّي به بعد النكرة، وأكثّر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتّتة، وأمم متفرّقة، وأجعل أمّته خير أمّة أخرجت للناس. وقد أخبر عن صفته في التوراة فقال وهو الصادق الأمين: عبدي أحمد المختار مولده مكّة ومهاجره بالمدينة- أو قال طيبة- وأمته الحمّادون الله على كل حال.

تبشير الإنجيل
بشر عيسى
قومه في الإنجيل بالفارقليط «٥» ومعناه قريب من
(١) شديد الصوت. المؤلف.
(٢) رواه البخاري.
(٣) هو ولد يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل وكان من يهود المدينة واسمه الحصين وسماه النبي ﷺ عبد الله لما أسلم وكنيته أبو يوسف كني بابنه وهو من بني قينقاع. ونزل في فضله (وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله فامن واستكبرتم) روي له عن رسول الله ﷺ خمسة وعشرون حديثا، وقد بشره الرسول ﷺ بالجنة وتوفي سنة ٤٣ هـ بالمدينة.
(٤) هو التابعي المشهور وهو ابن مانع بن هينوع أدرك زمن النبي ﷺ ولم يره وأسلم في خلافة أبي بكر وصحب عمر وأكثر الرواية عنه، وكان يسكن حمص، واتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه، وكان قبل إسلامه على دين اليهود، وكان يسكن اليمن، توفي سنة ٣٢ هـ ودفن في حمص.
(٥) جاء في قول يوحنا حكاية عن المسيح
(ص ١٤ ف ٢٥) ما يأتي: (إن كنتم تحبوني فاحافظوا وصاياي، فأنا أطلب من الاب فيعطيكم فارقليطا ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ومنكم.
محمد أو أحمد ويصدّقه في القران قول الله تعالى في سورة الصف: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «١» وقد وصف المسيح هذا الفارقليط بأوصاف لا تنطبق إلّا على نبيّنا فقال: إنه يوبخ العالم على خطيئته وإنه يعلمهم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع، وهذا ما ورد في القران الكريم في سورة النجم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «٢» وقد ورد في إنجيل برنابا الذي ظهر منذ زمن قريب وأخفته حجب «٣» الجهالة ذكر اسم الرسول
صراحة.

حركة الأفكار قبل البعثة
وهذا يسهّل لك فهم الحركة العظيمة من الأحبار والرهبان قبيل البعثة فكان اليهود يستفتحون على عرب المدينة برسول منتظر. فقد حدّث عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا للإسلام مع رحمة الله تعالى لنا ما كنا نسمع من أحبار يهود، كنا أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الان نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكثيرا ما نسمع ذلك منهم. فلمّا بعث الله رسوله محمدا ﷺ أجبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فامنا وكفروا، وإنما قال لهم اليهود: نقتلكم معه قتل عاد وإرم لأن من صفته
في كتبهم أن هذا النبي يستأصل المشركين بالقوة، ولم يكونوا يظنون أن الحسد والبغي سيتمكنان من أفئدتهم فينبذون الدين القيم فيحقّ عليهم العذاب في الدنيا والاخرة. وكان أمية بن أبي الصلت «٤» المتنصر العربي كثيرا ما يقول: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا. وحدّث سلمان الفارسي عن نفسه أنه صحب قسيسا «٥»
(١) اية ٦.
(٢) اية ٣- ٤.
(٣) ترجم إلى العربية وهو الان مطبوع بمصر، المؤلف.
(٤) قاله ابن اسحاق.
(٥) صاحب عمورية، والذين صحبوا سلمان من النصارى كانوا على الحق على دين عيسى بن مريم وكانوا بضعة عشر. وفي البخاري تداول سلمان بضعة عشر من رب إلى رب.
فكان يقول له: يا سلمان إن الله يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من جبال تهامة، علامته أن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وهذا الحديث كان من أسباب إسلام سلمان. ولما راسل
ملوك الأرض لم يهن كتابه إلّا كسرى الذي ليس عنده علم من الكتاب، وأما جميع ملوك النصارى كالنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وقيصر ملك الروم، فأكرموا وفادة رسله. ومنهم من امن كالنجاشي، ومنهم من ردّ ردّا لطيفا وكاد يسلم لولا غلبة الملك كقيصر، ومنهم من هادى كالمقوقس ولم يكن في قوّة يرهب بها هؤلاء الملوك اللهم ما ذاك إلّا لأنهم يعلمون أن المسيح بشّر برسول يأتي من بعده. ووافقت صفات رسولنا ما عندهم فأجابوا بالتي هي أحسن، وأما ما سمع من الهواتف والكهان قبيل زمنه فهو ما لا يدخل تحت حصر.. وليس بعد ما ذكرته لك زيادة لمستكثر. ومع ذلك كله فالأعمال التي جاد الله بها على يديه والأقوال التي أتانا بها أعظم مقوّ لحجته ومؤيد لدعوته. وسيأتي عليك بيان ذلك كله بأجلى بيان فتأمله ترشد هداك الله إلى الصراط السويّ.

بدء الوحي
لما بلغ
سن الكمال وهي أربعون سنة «١» أرسله الله للعالمين بشيرا ونذيرا ليخرجهم من ظلمات الجهالة إلى نور العلم وكان ذلك في أول فبراير سنة ٦١٠ من الميلاد كما أوضحه المرحوم محمود باشا الفلكي تبيّن بعد دقّة البحث أن ذلك كان في ١٧ رمضان سنة ١٣ قبل الهجرة وذلك يوافق يوليو سنة ٦١٠ وأول ما بدىء به الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح «٢» وذلك لما جرت به عادة الله في خلقه من التدريج في
(١) وفي الفتح: فعلى الصحيح المشهور أنه مولود في ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وفي حديث رواه الشيخان والترمذي أنه بعث لأربعين سنة، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.
(٢) الرؤيا كانت قبل نزول جبريل على النبي ﷺ بالقران وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي ﷺ جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به لأن أمر النبوّة عظيم، وعبؤها ثقيل والبشر ضعيف وكان نزول الوحي عليه ﷺ في أحوال مختلفة فمنها النوم ومنها أن ينفث في روعه الكلام ومنها في مثل صلصلة الجرس ومنها أن يمثل له الملك رجلا ومنها أن يتراءى له جبريل في صورته ومنها أن يكلمه الله من وراء حجاب إما في اليقظة كما كان في ليلة الإسراء وإما في النوم فهي ستة أحوال. وفلق الصبح: أي كضبائه وإنارته.
الأمور كلها حتى تصل إلى درجة الكمال. ومن الصعب جدا على البشر تلقّى الوحي من الملك لأول مرة، ثم حبّب إليه
الخلاء «١» ليبتعد عن ظلمات هذا العالم وينقطع عن الخلق إلى الله فإن في العزلة صفاء السريرة.
وكان يخلو بغار حراء «٢» فيتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرا. وتارة أكثر إلى شهر. وكانت عبادته على دين أبيه إبراهيم
ويأخذ لذلك زاده، فإذا فرغ رجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء: فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، فإنه أمي لم يتعلم القراءة قبلا. فأخذه فغطه «٣» بالنمط الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ «٤» قال: ما أنا بقارىء، فأخذه فغطّه ثانية ثم أرسله، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء، فأخذه فغطه الثالثة، ثم أرسله فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «٥» فرجع بها يرجف فؤاده ممّا ألمّ به من الرّوع «٦» الذي استلزمته مقابلة الملك لأول مرة فدخل على خديجة زوجه، فقال: زمّلوني «٧» زمّلوني، لتزول عنه هذه القشعريرة «٨» فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي «٩» لأن الملك غطّه حتى كاد يموت، ولم يكن له علم قبل ذلك
(١) الانفراد.
(٢) جبل على مقربة من مكة. المؤلف. والغار ثقب فيه، وهو أول موضع نزل فيه القران.
(٣) ذكر السهيلي أن الغط ثلاث إشارة إلى أن النبي ﷺ يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له التدرج بعد ذلك، فكانت الأولى ادخال قريش له ﷺ في الشعب والتضييق عليه، والثانية، اتفاقهم على الاجتماع على قتله، والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه. فغطه ضمه وعصره.
(٤) (اقرأ) هو أول ما نزل عليه من القران وهو الصواب الذي عليه جمهور السلف والخلف.
(٥) سورة الفلق اية ٦.
(٦) الفزع.
(٧) لفوني في ثوبي (المؤلف) (من شدة ما حصل له، وعادة ما تخف الرعدة بالتلفف) .
(٨) أي رعدة.
(٩) تكلم العلم في هذه الخشية منها أي خشيتها ألا أنهض بأعباء النبوة وأن أضعف عنها فذهب أبو بكر الاسماعيلي إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم بأن الذي جاءه ملك من عند الله، وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه: مجنون.
بجبريل ولا بشكله فقالت: كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم «١» وتقري الضيف «٢» وتعين على نوائب الحق «٣»، فلا يسلط الله عليك الشياطين والأوهام ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك، ولتتأكّد خديجة مما ظنته أرادت أن تتثبت ممّن لهم علم بحال الرّسل ممن اطّلعوا على كتب الأقدمين، فانطلقت به حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، وكان أمرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي «٤»، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك «٥»، فقال يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره
خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس «٦» الذي نزّل الله على موسى، لأنه يعرف أن رسول الله إلى أنبيائه هو جبريل، ثم قال: يا ليتني فيها جذعا (شابا جلدا) إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها لمعاداتهم إيّاك وكراهيتهم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقادات وجدوا عليها اباءهم، فاستغرب ما نسب مع ما يعلمه من حبّهم له لاتّصافه بمكارم الأخلاق وصدق القول حتى سمّوه الأمين، وقال: أو مخرجيّ هم «٧»؟ قال: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي. وقد نطق بذلك القران الكريم. قال تعالى في سورة إبراهيم
(١) الذي لا مال له.
(٢) أي تهيء له الضيافة.
(٣) شدائد الأمور.
(٤) وهم أربعة تفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين ابراهيم ورقه بن نوفل وعبيد الله بن جحش أسلم ثم هاجر إلى الحبشة مع امرأته حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فتنصر وعثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر زيد بن عمر وبن نفيل وكان على ملة ابراهيم وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق
قالت رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيى المؤودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أكفيك مؤنتها، فيأخذها رواه البخاري وقد ثبت إيمان ورقة بمحمد ﷺ وقد ورد في حديث الترمذي أن رسول الله ﷺ أوتي المنام وعليه ثياب بيض إلى اخر الحديث.
(٥) قالت ذلك على سبيل الاحترام.
(٦) صاحب الوحي أي هو جبريل
وهو صاحب سر الملك.
(٧) لا بد من تشديد الياء في مخرجي لأنه جمع الأصل مخرجوي فأدغمت الواو في الياء قال في المواهب واصله مخرجون حذفت اللام تخفيفا ونون الجمع للاضافة إلى ياء المتكلم، فصار: أو مخرجوي اجتمعت الواو والياء وسبقت الواو السكون فكانت ياء ثم أدغمت في ياء المتكلم وقلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا «١» ولتمام تصديق ورقة برسالة الرسول الأكرم
قال: وأن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا «٢» (معضدا) ثم لم يلبث ورقة أن توفي.

فترة الوحي «٣»
وفتر الوحي مدّة لم يتّفق عليها المؤرخون، وأرجح أقوالهم فيها أربعون يوما، ليشتدّ شوق الرسول ﷺ للوحي، وقد كان، فإن الحال اشتدّ به
حتى صار كلّما أتى ذروة جبل بدا له أن يرمي نفسه منها حذرا من قطيعة الله له بعد أن أراه نعمته الكبرى، وهي اختياره لأن يكون واسطة بينه وبين خلقه، فيتبدّى له الملك قائلا: أنت رسول الله حقا، فيطمئن خاطره ويرجع عما عزم عليه، حتى أراد الله أن يظهر للوجود نور الدين فعاد إليه الوحي.

عود الوحي
فبينما هو يمشي إذ سمع صوتا من السماء فرفع إليه بصره، فإذا الملك الذي جاءه بحراء جالس بين السماء والأرض، فرعب منه لتذكر ما فعله في المرة الأولى فرجع وقال: دثروني دثروني، فأنزل الله تعالى عليه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عن غيّهم وما كان يعبد اباؤهم وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ خصه بالتعظيم ولا تشرك معه في ذلك غيره وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ لتكون مستعدا للوقوف بين يدي الله إذ لا يليق بالمؤمن أن يكون مستقذرا نجسا وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اهجر أسباب الرّجز وهو العذاب بأن تطيع الله وتنفذ أمره وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ولا تهب أحدا هبة وأنت تطمع أن تستعيض من الموهوب أكثر مما وهبت، فهذا ليس من شأن الكرام وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ «٤» على ما سيلحقك من أذى قومك حينما
(١) اية (١٣) .
(٢) شديدا.
(٣) أي عدم نزوله على الرسول
. وكانت مدة الفترة هذه سنتين، أو سنتين ونصفا. فمن هنا يتفق ما قاله أنس بن مالك أن مكثه بمكة كان عشر سنين، وقول ابن عباس ثلاث عشرة سنة، وكان قد ابتدئ بالرؤيا الصادقة ستة أشهر فمن عد مدة الفترة، وأضاف إليه الأشهر التي كانت كما قال ابن عباس، ومن عدها من حين حمي الوحي وتتابع كما في حديث جابر كانت عشر سنين.
(٤) سورة المدثر لايات ١- ٧.
تدعوهم إلى الله..

الدعوة سرا
فقام
بالأمر ودعا لعبادة الله أقواما جفاة لا دين لهم، إلّا أن يسجدوا لأصنام لا تنفع ولا تضرّ، ولا حجة لهم إلّا أنهم متّبعون لما كان يعبد اباؤهم، وليس عندهم من مكارم الأخلاق إلّا ما كان مرتبطا بالعزّة والأنفة وهو الذي كان كثيرا ما كان سببا في الغارات والحروب وإهراق الدماء فجاءهم رسول الله بما لا يعرفونه. فذوو العقول السليمة بادروا إلى التصديق وخلع الأوثان، ومن أعمته الرياسة أدبر واستكبر كيلا تسلب منه عظمته.
وكان أول من سطع عليه نور الإسلام خديجة بنت خويلد زوجه «١» وعلي ابن أبي طالب ابن عمه «٢» وكان مقيما عنده يطعمه ويسقيه ويقوم بأمره، لأن قريشا كانوا قد أصابوا مجاعة وكان أبو طالب مقلا كثير الأولاد، فقال
لعمه العباس بن عبد المطلب: إن أخاك أبا طالب كثير العيال، والناس فيما ترى من الشدّة، فانطلق بنا لنخفّف من عياله تأخذ واحدا وأنا واحدا، فانطلقا وعرضا عليه الأمر، فأخذ العباس جعفر بن أبي طالب، وأخذ عليّا، فكان في كفالته كأحد أولاده إلى أن جاءت النبوّة وقد ناهز الاحتلام، فكان تابعا للنبي في كل أعماله، ولم يتدنس بدنس الجاهلية من عبادة الأوثان واتباع الهوى، وأجاب أيضا زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي مولاه ، وكان يقال له زيد بن محمّد، لأنه لما اشتراه أعتقه وتبنّاه، وكان المتبنى معتبرا كابن حقيقي يرث ويورث، وأجابت أيضا أم أيمن حاضنته التي زوجها لمولاه زيد. وأول من أجابه من غير أهل بيته أبو بكر بن أبي قحافة بن
(١) فهي أول الناس إيمانا على الاطلاق.
(٢) أسلم علي
وهو ابن عشر سنين ويقص ابن اسحق كيفية اسلامه فيقول: كان علي عند النبي، فجاء بعد ذلك بيوم والنبي يصلي مع خديجة، فقال علي: يا محمد ما هذا؟ قال رسول الله ﷺ: دين الله الذي اصطفاه لنفسه، وبعث به رسله فأدعوك إلى الله واحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى. فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب. فكره رسول الله ﷺ أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره. فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم. فمكث علي تلك الليلة ثم أن الله أوقع في قلبه الاسلام.
عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة التيمي القرشي «١» كان صديقا لرسول الله ﷺ قبل النبوّة يعلم ما اتّصف به من مكارم الأخلاق ولم يعهد عليه كذبا منذ اصطحبا، فأوّل ما أخبره برسالة الله أسرع بالتصديق «٢» وقال: بأبي أنت وأمي، أهل الصدق أنت، أشهد ألاإله إلّا الله وأنك رسول الله، كان
صدرا معظّما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق، وكان من أعفّ الناس، سخيا، يبذل المال، محبّبا في قومه حسن المجالسة، ولذلك كله كان من رسول الله ﷺ بمنزلة الوزير، فكان يستشيره في أموره كلها، وقال في حقه: (ما دعوت أحد إلى الإسلام إلّا كانت له كبوة غير أبي بكر) «٣» . وكانت الدعوة إلى الإسلام سرّا حذرا من مفاجأة العرب بأمر شديد كهذا، فيصعب استسلامهم فكان لا يدعو إلّا من يثق به. ودعا أبو بكر إلى الإسلام من يثق به من رجال قريش، فأجابه جمع منهم:
عثمان بن عفّان «٤» بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، ولمّا علم عمه الحكم بإسلامه، أوثقه كتافا وقال: ترغب عن دين ابائك إلى دين مستحدث!!! والله لا أحلّك حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه ولا أفارقه. فلمّا رأى الحكم صلابته في الحقّ تركه، وكان كهلا يناهز الثلاثين من عمره.
(ومنهم): الزبير بن العوام «٥» بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشي، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وكان عم الزبير يرسل الدخان عليه وهو
(١) ولد أبو بكر سنة ٥٧٣ م، وهو أوّل الخلفاء الراشدين وصاحب رسول الله ﷺ في الغار والهجرة، كني بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة وكانت له في الإسلام مواقف رفيعة منها قصته ليلة الاسراء وهجرته مع رسول الله ﷺ ثم كلامه يوم الحديبة ثم ثباته في وفاة رسول الله ﷺ ثم اهتمامه وثباته في بعث جيش أسامة، ثم قيامه في قتال أهل الردة ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام وأجل فضائله وهو استخلافه على المسلمين عمر بن الخطاب وكم للصديق مواقف عظيمة لا يحصيها إلا الله.
(٢) كان من أسباب توفيق الله إياه- فيما ذكر رؤيا راها قبل ذلك، وذلك أنه رأى القمر ينزل إلى مكة، ثم راه قد تفرق على جميع منازل مكة وبيوتها، فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كأنه جمع في حجره، فنصها على بعض الكتابيين، فعبرها له بأن النبي المنتظر الذي قد أظل زمانه تتبعه.
(٣) أخرجه ابن الأثير الجزري في جامع الأصول من زيادات رزين بن معاوية في فضائل أبي بكر.
(٤) ولد في السنة السادسة بعد الفيل، هاجر إلى الحبشة مع زوجته رقية، ولم يشهد بدرا لتخلّفه على تمريض زوجته رقية بأمر الرسول
. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.
(٥) ولد هو وعلي وطلحة وسعد في عام واحد. وقتل
في موقعة الجمل وكان عمره سبعا وستين سنة.
مقيد ليرجع إلى دين ابائه فقواه الله بالثبات وكان شابا لا يتجاوز سن الاحتلام.
(ومنهم): عبد الرحمن بن عوف «١» بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الهاشمي، وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسمّاه
عبد الرحمن.
(ومنهم): سعد بن أبي وقاص «٢» مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي. ولما علمت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بإسلامه قالت له:
يا سعد بلغني أنك قد صبأت «٣» فو الله لا يظلّني سقف من الحر والبرد وإنّ الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمّد، وبقيت كذلك ثلاثة أيام فجاء سعد إلى رسول الله ﷺ وشكا إليه أمر أمّه فنزل في ذلك تعليما، قول الله تعالى في سورة العنكبوت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «٤» وصاه جلّ ذكره بوالديه وأمره بالإحسان إليهما مؤمنين كانا أو كافرين، أما إذا دعواه للإشراك فالمعصية متحتمة.
لأن كل حق، وإن عظم، ساقط هنا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق «٥»: ثم قال: إليّ مرجعكم من امن منكم ومن أشرك فأجازيكم حق جزائكم. وفي ختام هذه الاية فائدتان: التنبيه على أن الجزاء إلى الله فلا تحدّث نفسك بجفوتهما لإشراكهما، والحضّ على الثبات في الدين لئلا ينال شرّ جزاء في الاخرى.
(ومنهم): طلحة بن عبيد الله «٦» بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم
(١) ولد بعد عام الفيل بعشر سنين وكان من السابقين الأولين وقد جمع الهجرتين جميعا، شهد بدرا والمشاهد كلها ومن مناقبه أن الرسول ﷺ صلى وراءه في غزوة تبوك حين أدركه وجرح يوم أحد إحدى وعشرين جراحة، وقد تصدق على عهد الرسول بشطر ماله، وتوفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين ودفن بالبقيع. وهو ابن اثنين وسبعين.
(٢) يكنى بأبي اسحق وهو أحد العشرة، دعا له النبي ﷺ أن يسدد سهمه وأن تجاب دعوته. وفي الحديث أن رسول الله ﷺ قال: احذروا دعوة سعد، مات في خلافة معاوية.
(٣) خرج من دين إلى دين اخر.
(٤) اية (٨) .
(٥) من حديث رواه أحمد والحاكم عن عمران بن حصين.
(٦) يكنى أبا محمد الفياض، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وهو من المهاجرين الأولين ولم يشهد بدرا ولكن ضرب له رسول الله بسهم وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد وكان أبو بكر
إذا ذكر أحدا قال: ذلك يوم كان كله لطلحة، قتل يوم الجمل، وكان عمره أربعا وستين سنة، ودفن بالبصرة.
بن مرة التيمي القرشي وقد كان عرف من الرهبان ذكر الرسول ﷺ وصفته، فلما دعاه أبو بكر وسمع من رسول الله ما نفعه الله به، ورأى الدين متينا بعيدا عمّا عليه العرب من المثالب «١» بادر إلى الإسلام.
(وممن) سبقوا إلى الإسلام: صهيب الرومي «٢» وكان من الموالي وعمّار بن ياسر العنسي «٣» وقد قال
: رأيت رسول الله ﷺ وما معه إلّا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر، وكذلك أسلم أبوه ياسر وأمه سمية.
ومن السابقين الأولين: عبد الله بن مسعود «٤» كان يرعى الغنم لبعض مشركي قريش، فلمّا رأى الايات الباهرة وما يدعو إليه الإسلام من مكارم الأخلاق، ترك عبادة الأوثان ولزم رسول الله، وكان
كثير الدخول على الرسول لا يحجب، ويمشي أمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلبسه نعليه إذا قام، فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه.
ومن السابقين الأولين: أبو ذر الغفاري «٥» وكان من أعراب البادية فصيحا حلو الحديث، ولما بلغه مبعث رسول الله قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم مكة وسمع من قول الرسول ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاما ما هو بالشعر، فقال: ما
(١) العيوب.
(٢) كناه الرسول أبا يحيى وكان ممن لاقوا العذاب بعد إسلامهم، وقد افتدى نفسه بماله أجمع حين منعته قريش من الهجرة.
(٣) كنيته أبو اليقطان، وكان هو وأبوه وأمه سمية ممن أسلم أولا وأسلم بعد بضعة وثلاثين رجلا. وهاجر مع رسول الله إلى المدينة وشهد بدرا وأحدا والخندق وجميع المشاهد وكان أول من بنى مسجدا، وشهد قتال اليمامة واستعمله عمر على الكوفة، قتل بصفين مع علي وأوصى أن يدفن بثيابه فدفن وهو ابن ثلاث وتسعين سنة.
(٤) كان قصيرا جدا، خفيف اللحم، دقيق الرجلين، وقد هاجر وشهد سائر المشاهد مع رسول الله وشهد اليرموك، وشهد له رسول الله ﷺ بالجنة، وهو صاحب نعل رسول الله ﷺ كان يلبسه إياها، وكان كثير الولوج على رسول الله ﷺ، وكان يعرف بصاحب السواد والسواك والنعل توفي بالمدينة ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وستين سنة.
(٥) اسمه جندب وثبت في مسلم أنه قدم إلى رسول الله ﷺ في أوّل الإسلام، وأنه أقام بمكّة ثلاثين وأسلم ثم رجع إلى قومه ثم هاجر إلى المدينة وصحبه حتى توفي بالربذة سنة ٣٢ هجرية وصلى عليه ابنه مسعود.
شفيتني مما أردت. فتزوّد وحمل قربة له فيها ماء، حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبي ﷺ ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه لما يعرفه من كراهة قريش لكل من يخاطب رسول الله؛ حتى إذا أدركه الليل راه عليّ فعرف أنه غريب فأضافه عنده، ولم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء (على قاعدة الضيافة عند العرب لا يسأل الضيف عن سبب قدومه إلّا بعد ثلاث) فلمّا أصبح احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظلّ ذلك اليوم ولا يراه الرسول حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليّ فقال: أما ان للرجل أن يعرف منزله الذي أضيف به بالأمس؟ فأقامه، فذهب معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث عاد عليّ مثل ذلك، ثم قال له علي ألا تحدّثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حق وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء «١»، فإن مضيت فاتّبعني حتى تدخل مدخلي ففعل. فانطلق يتبع أثره حتى دخل على النبي، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي ﷺ: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، قال: والذي نفسي بيده لأصرخنّ بها بين ظهرانيهم «٢» . فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته أشهد ألاإله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، فقام القوم فضربوه حتى أضجعوه «٣»، وأتى العباس فأكبّ عليه وقال: ويلكم أولستم تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليه! فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكبّ العباس عليه (رواه البخاري) «٤» . كان
من أصدق الناس قولا وأزهداهم في الدنيا.
ومن السابقين: سعيد بن زيد العدوي القرشي «٥» وزوجه فاطمة بنت الخطاب
(١) أي وقفت بجوار الحائط كأني أبول.
(٢) أي لأجهرنّ بكلمة التوحيد في مجمعهم.
(٣) أي ألقوه في الأرض.
(٤) رواه أيضا مسلم.
(٥) هو من المهاجرين الأولين، وإسلامه قبل عمر بن الخطاب، وكان إسلام عمر عنده في بيته، ولم يشهد بدرا لأنه كان غائبا بالشام، قدم منها عقب غزوة بدر، فضرب له رسول الله ﷺ بسهمه وأجرّه، وشهد اليرموك وحصار دمشق، وكان مجاب الدعوة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، توفي بأرضه بالعقيق، ودفن بالمدينة في أيام معاوية سنة خمس وخمسين وهو ابن بضع وسبعين سنة.
أخت عمر، وأم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف بن عم رسول الله ﷺ «١» وأبو سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي القرشي «٢» ابن عمة رسول الله ﷺ، وزوجة أم سلمة، وعثمان بن مظعون الجمحي القرشي «٣» وأخواه قدامة، وعبد الله، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي القرشي «٤»
ومن السابقين الأولين: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي «٥» كان أبوه سيد قريش إذا اعتمّ لم يعتمّ قرشي إجلالا له، وكان خالد بن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية، فأدركه رسول الله وخلّصه منها فجاء إليه وقال: إلام تدعو يا محمّد؟ قال: أدعوك إلى عبادة الله واحده لا شريك له، وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع، والإحسان إلى والديك، وألاتقتل ولدك خشية الفقر، وألاتقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن، وألاتقتل نفسا حرّم الله إلا بالحق. وأن لا تقرب مال اليتيم إلّا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه. وأن توفي الكيل والميزان بالقسط، وأن تعدل في قولك ولو حكمت على ذوي قرباك. وأن توفي لمن عاهدت، فأسلم
، وحينئذ غضب عليه أبوه واذاه حتى منعه القوت، فانصرف إلى رسول الله ﷺ فكان يلزمه ويعيش معه، ويغيب عن أبيه في ضواحي مكة. وأسلم بعده أخوه عمرو بن سعيد. وهكذا دخل هؤلاء الأشراف في دين الإسلام، ولم يكن مع رسول الله ﷺ سيف يضرب به أعناقهم حتى يطيعوه
(١) يكنى أبا الحرث وكان إسلامه قبل دخول رسول الله ﷺ دار الأرقم بن أبي الأرقم وكانت هجرته مع أخويه الطفيل والحصين وكان له قدر ومنزلة عند رسول الله ﷺ وشهد بدرا وأبلى بلاء حسنا وكان أسن المسلمين يومئذ وقطع عتبة بن ربيعة رجله فمات بالصفراء على أثرها وكان عمره ثلاثا وستين سنة.
(٢) أحد السابقين فكان الحادي عشر من المسلمين هاجر مع زوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة شهد بدرا وكان أخا رسول الله ﷺ من الرضاعة، واستخلفه رسول الله ﷺ على المدينة حين خرج إلى غزوة العشيرة، وتوفي أبو سلمة سنة ثلاث من الهجرة.
(٣) من السابقين والمهاجرين الأولين في الإسلام توفي بعد شهوده بدرا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأوّل من دفن بالبقيع منهم.
(٤) أسلم بعد عشرة، وكانت داره بمكة على الصفا، وكان النبي ﷺ في داره حتى بلغوا الأربعين توفي سنة خمس وخمسين هـ.
(٥) ممن هاجر إلى أرض الحبشة، وشهد عمرة القضية وما بعدها، واستعمله النبي ﷺ على صدقات مذحج، واستشهد يوم مرج الصفر والله أعلم.
صاغرين، وليس معه ما يرغب فيه حتى يترك هؤلاء العظماء اباءهم وذوي الثروة منهم ويتبعوا الرسول ليأكلوا من فضل ماله، بل كان الكثير منهم واسع الثروة أكثر منه
كأبي بكر وعثمان وخالد بن سعيد وغيرهم. والذين اتّبعوه من الموالي اختاروا الأذى والجوع والمشقّات مع اتّباع الرسول، بحيث لو اتّبعوا سادتهم لكانوا في هذه الدنيا أهدأ بالا وأنعم عيشة، اللهمّ ليس ذلك إلّا من هداية الله وسطوع أنوار الدين عليهم، حتى أدركوا ما هم عليه من الضلالة وما عليه رسول الله من الهدى

الجهر بالتبليغ
مضت كل هذه المدة والنبي
لا يظهر الدعوة في مجامع قريش العمومية، ولم يكن المسلمون يتمكّنون من إظهار عبادتهم حذرا من تعصب قريش. فكان كلّما أراد العبادة ذهب إلى شعاب مكة يصلي مستخفيّا. ولمّا دخل في الدين ما يربو على الثلاثين، وكان من اللازم اجتماع الرسول بهم ليرشدهم ويعلمهم، اختار لذلك دار الأرقم بن أبي الارقم وهو ممن ذكرنا اسلامهم- ومكث يدعو سرّا حتى نزل قوله تعالى في سورة الحجر فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «١» فبدّل الدعوة سرا بالدعوة جهرا ممتثلا أمر ربه واثقا بوعده ونصره، فصعد على الصفا «٢» فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر الخبر، فجاء أبو لهب بن عبد المطلب قريشا، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله في شأنه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «٣» والقصد من حمل الحطب المشي بالنميمة لأنها كانت تقول على رسول
(١) اية ٩٤.
(٢) مكان مرتفع من جبل أبي قبيس بمكة.
(٣) رواه الإمام أحمد عن ابن عباس وهي سورة المسد.
الله الأكاذيب في نوادي النساء. ثم نزل عليه في سورة الشعراء وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «١» وهم بنو هاشم وبنو المطلب وبنو نوفل وبنو عبد شمس أولاد عبد مناف وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ أي العشيرة والأقربون فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ فجمعهم
وقال لهم: إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلّا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان احسانا وبالسوء سوا، وأنها لجنة أبدا أو لنار أبدا «٢» . فتكلّم القوم كلاما ليّنا غير عمه أبي لهب الذي كان خصما لدودا فإنه قال: خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب، فإن سلمتوه إذا اذللتم، وأن منعتموه قتلتم، فقال أبو طالب: والله لنمنعنّه ما بقينا، ثم انصرف الجمع.
ولمّا جهر رسول الله
بالدعوة سخرت منه قريش واستهزؤوا به في مجالسهم، فكان إذا مرّ عليهم يقولون: هذا ابن أبي كبشة يكلّم من السماء! وهذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء لا يزيدون على ذلك، فلمّا عاب الهتهم وسفّه عقولهم وقال لهم: والله يا قوم لقد خالفتم دين أبيكم إبراهيم، ثارت في رؤوسهم حمية الجاهلية غيرة على تلك الالهة التي كان يعبدها اباؤهم فذهبوا «٣» إلى عمه أبي طالب سيد بني هاشم الذي أخذ على نفسه حمايته من أيدي أعدائه فطلبوا منه أن يخلي بينهم وبينه أو يكفّه عما يقول، فردّهم ردّا جميلا فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله لما يريده لا يصدّه عن مراده شيء، فتزايد الأمر، وأضمرت قريش الحقد والعداوة لرسول الله ﷺ، وحثّ بعضهم بعضا على ذلك.
ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وقالوا له: إن لك سنّا وشرفا ومنزلة منّا، وإنا قد طلبنا منك أن تنهي ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنّا والله لا نصبر على هذا
(١) اية ٢١٤- ٢١٥- ٢١٦.
(٢) رواه الشيخان.
(٣) وهم عتبة وشيبة وأبو سفيان والعاص بن هشام والأسود بن عبد المطلب وأبو جهل والوليد بن المغيرة ونبيه ومنبّه والعاص بن وائل السهمي.
من شتم ابائنا، وتسفيه عقولنا، وعيب الهتنا فإنهم كانوا إذا احتجوا بالتقليد في استمرارهم على عدم اتّباع الحقّ ذمّهم لعدم استعمال عقولهم فيما خلقت له قال الله تعالى في سورة البقرة وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ «١» وقال في سورة المائدة وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ «٢» وقال في سورة لقمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ «٣» وقال في سورة الزخرف في بيان حجتهم الداحضة قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «٤» ولما شبههم بمن قبلهم من الأمم في هذه المقالة الدالة على التعصب والعناد قال: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «٥» فلمّا تمسكوا بحجة التقليد لابائهم جرّ ذلك إلى وصف ابائهم بعدم العقل وعدم الهداية، فهاج ذلك أضغانهم «٦»، وقالوا لأبي طالب: إما أن تكفّه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا فعظم على أبي طالب فراق قومه ولم يطب نفسا بخذلان ابن أخيه، فقال له: يا ابن أخي إن القوم جاؤوني فقالوا لي كذا، فأبق على نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظنّ الرسول أن عمّه خاذله فقال: والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلت حتى يظهره الله أو أهلك دونه، ثم بكى وولى. فقال أبو طالب: أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال: اذهب فقل ما أحببت والله لا أسلمك «٧» .
(١) اية ١٧٠.
(٢) اية ١٠٤.
(٣) اية ٢١.
(٤) اية ٢٣.
(٥) سورة الزخرف الاية ٢٤.
(٦) أحقادهم.
(٧) رواه البيهقي في دلائل النبوة.
الإيذاء
ورأى رسول الله من المشركين كثير الأذى وعظيم الشدّة، خصوصا إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت، وكان من أعظمهم أذى لرسول الله جماعة سمّوا لكثرة أذاهم بالمستهزئين.
فأولهم وأشدهم: أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي قال يوما: يا معشر قريش إن محمّدا قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم الهتكم، وتسفيه أحلامكم، وسبّ ابائكم، إني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلمّا أصبح أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا
كما كان يغدو إلى صلاته، وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلمّا سجد احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا «١» لونه من الفزع، ورمى حجره من يده، فقام إليه رجال من قريش فقالوا:
ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلمّا دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، والله ما رأيت مثله قطّ همّ بي أن يأكلني! فلمّا ذكر ذلك لرسول الله قال: ذاك جبريل ولو دنا لأخذه «٢» . وكان أبو جهل كثيرا ما ينهى الرسول عن صلاته في البيت فقال له مرّة بعد أن راه يصلي: ألم أنهك عن هذا، فأغلظ له رسول الله القول وهدّده، فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا «٣»، فأنزل الله تهديدا له في اخر سورة اقرأ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ «٤» ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد الله بن مسعود من رواية البخاري قال: كنا مع رسول الله في المسجد وهو يصلي، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى فرث «٥» جزور بني فلان فيلقيه على محمّد وهو
(١) متغيرا.
(٢) رواه مسلم.
(٣) رواه أحمد والترمذي. والنسائي وابن جرير، وهذا لفظه من طريق داود ابن أبي هند وقال الترمذي: حسن صحيح.
(٤) اية ١٩.
(٥) الكرش.
ساجد؟ فقام عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي ﷺ وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على القائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل
ساجدا حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته. فلمّا قام دعا على من صنع هذا الصنع القبيح فقال: اللهمّ عليك الملأ من قريش وسمّى أقواما «١»، قال ابن مسعود: فرأيتهم قتلوا يوم بدر «٢» . ومما حصل لرسول الله مع أبي جهل أنّ هذا ابتاع «٣» أجمالا من رجل يقال له: الإراشي فمطله بأثمانها فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على أخذ ماله فدلوه على رسول الله لينصفه من أبي جهل استهزاء لما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول، فتوجّه الرجل إليه وطلب منه المساعدة على أبي جهل فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال محمّد: فخرج منتقعا لونه فقال له الرسول: أعط هذا حقه، فقال أبو جهل: لا تبرح حتى تأخذه، فلم يبرح الرجل حتى أخذ دينه، فقالت قريش:
ويلك يا أبا الحكم ما رأينا مثل ما صنعت! قال: ويحكم والله ما هو إلّا ضرب على بابي حتى سمعت صوتا فملئت منه رعبا، وأن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله «٤» .
ومن جماعة المستهزئين: أبو لهب بن عبد المطلب عم رسول الله كان أشدّ عليه من الأباعد، فكان يرمي القذر على بابه لأنه كان جارا له، فكان الرسول يطرحه ويقول: يا بني عبد مناف أيّ جوار هذا، وكانت تشاركه في قبيح عمله زوجه أمّ جميل بنت حرب بن أمية، فكانت كثيرا ما تسبّ رسول الله، وتتكلّم فيه بالنمائم، وخصوصا بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب.
ومن المستهزئين: عقبة بن أبي معيط كان الجار الثاني لرسول الله وكان يعمل معه كأبي لهب، صنع مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول الله فقال عليه
(١) وعين في دعائه سبعة وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم: وهم عتبة وأخوه شيبة والوليد بن عتبة وأبو جهل، وعقبة بن أبي معيط، وأمية ابن خلف. قال ابن اسحاق: ونسيت السابع قلت: وهو عمارة ابن الوليد وقع تسميته في صحيح البخاري.
(٢) وقد رواه البخاري في مواضع متعدّدة من صحيحه.
(٣) أي اشترى.
(٤) رويت هذه القصة عن يونس بكير عن محمد بن اسحق عن عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي.
الصلاة والسلام: والله لا اكل طعامك حتى تؤمن بالله، فتشهّد، فبلغ ذلك أبي بن خلف الجمحي القرشي، وكان صديقا له فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال لا شيء، دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له. قال أبيّ: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمّدا فلم تطأ عنقه، وتبزق في وجهه، وتلطم عينه، فلمّا رأى عقبة رسول الله فعل به ذلك فأنزل الله فيه سورة الفرقان وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا «١» ومن أشد ما صنعه ذلك الشقي برسول الله ما رواه البخاري في صحيحه قال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي ﷺ وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ «٢» .
ومن جماعة المستهزئين العاص بن وائل السهمي القرشي والد عمرو بن العاص، كان شديد العداوة لرسول الله، وكان يقول: غرّ محمّد أصحابه أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلّا الدهر، فقال الله ردا عليه في دعواه في سورة الجاثية: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «٣» . وكان عليه دين لخبّاب بن الأرتّ أحد رجال المسلمين «٤»
فتقاضاه إياه فقال العاص: أليس يزعم محمّد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما يبتغي أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب: بلى، قال:
فأنظرني إلى هذا اليوم فسأوتى مالا وولدا وأقضيك دينك، فأنزل الله فيه في سورة مريم: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ
(١) اية ٢٧- ٢٩.
(٢) رواه البخاري عن عروة بن الزبير سألت ابن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ﷺ الرواية.. قال البيهقي: وكذلك رواه سليمان عن بلال بن هشام عن عروة كما رواه عبدة، وهذه الاية من سورة المؤمن اية ٢٨.
(٣) اية ٢٤.
(٤) سبي في الجاهلية فبيع بمكة، وكان من السابقين الأولين وممن تعذّب في الله، وكان سادس ستة في الإسلام، ثم شهد المشاهد كلّها، نزل الكوفة، ومرض مرضا شديدا طويلا، ومات بها سنة سبع وثلاثين، وعاش ثلاثا وسبعين سنة.
الرَّحْمنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْدًا «١» .
ومن جماعة المستهزئين: الأسود بن عبد يغوث الزهري القرشي من بني زهرة أخوال رسول الله كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول قد جاءكم ملوك الأرض استهزاء بهم لأنهم متقشفين: ثيابهم رثة، وعيشهم خشن، وكان يقول لرسول الله سخرية: أما كلمات اليوم من السماء؟
ومنهم: الأسود بن عبد المطلب الأسدي ابن عم خديجة كان هو وشيعته إذا مرّ عليهم المسلمون يتغامزون وفيهم نزل في سورة التطفيف إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ «٢» .
ومنهم: الوليد بن المغيرة عم أبي جهل، كان من عظماء قريش وفي سعة من العيش سمع القران مرة من رسول الله ﷺ، فقال لقومه بني مخزوم: والله لقد سمعت من محمّد انفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإنّ له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وأن أسفله لمغدق، وأنه يعلو وما يعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتصبأنّ قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فتوجه وقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمّدا مجنون فهل رأيتموه يهوّس؟ وتقولون أنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟
وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قطّ؟ وتزعمون أنه كذّاب فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك اللهمّ لا، ثم قالوا فما هو؟ ففكر قليلا ثم قال: ما هو إلّا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فارتج النادي فرحا «٣» فأنزل الله في شأن الوليد في سورة المدثر مخاطبا لرسوله
(١) اية ٧٧- ٨٠ والحديث أخرجه الشيخان.
(٢) اية ٢٩- ٣٢.
(٣) وفي رواية عن البيهقي أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفرا من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قول بعضكم بعضا. فقيل: يا أبا عبد شمس (الوليد بن المغيرة) فقل وأقم لنا رأيا نقول به. فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. فقالوا: نقول كاهن. فقال: ما هو بكاهن، رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكهان. فقالوا: نقول مجنون. فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. فقالوا نقول شاعر. فقال: ما هو
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ «١» وأنزل فيه أيضا في سورة ن وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف وكفى بهذا زاجرا لمن اعتاد الحلف مَهِينٍ حقير، وأراد به الكذاب لأنه حقير في نفسه هَمَّازٍ عيّاب طعان مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ينقل الأحاديث للإفساد بين الناس مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ غليظ جاف (بعد ذلك زنيم) دخيل أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ «٢» كناية عن الإذلال والتحقير لأن الوجه أكرم عضو والأنف أشرف ما فيه ولذلك اشتقّوا منه كل ما يدلّ على العظمة كالأنفة وهي الحمية فالوسم على أشرف عضو دليل الإذلال والإهانة.
ومن المستهزئين: النضر بن الحارث العبدري من بني عبد الدار بن قصي كان إذا جلس رسول الله مجلسا يحدّثهم ويذكّرهم ما أصاب من قبلهم، قال النضر: هلمّوا يا معشر قريش فإني أحسن منه حديثا ثم يحدّث عن ملوك فارس، كان يعلم أحاديثهم، ويقول ما أحاديث محمّد إلّا أساطير الأولين وفيه نزل في سورة لقمان وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُوًا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٣» وكل هؤلاء انتقم الله منهم كما قال الله تعالى في سورة الحجر إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «٤» وقد وضع الله جلّ ذكره الوعد في صورة الماضي للتحقّق من وقوعه، لأن الاية مكية وهلاك هذه الفئة كان بعد الهجرة، فمنهم من قتل كأبي جهل
بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول هو ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس. قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق (النخلة) وإن فرعه لجني (ما يجنى من الثمر) فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلّا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: هذا ساحر، فتقولوا: هو ساحر يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته.
(١) اية ١٠- ٢٦.
(٢) اية ١٠- ١٦.
(٣) اية ٦- ٧.
(٤) اية ٩٥- ٩٦.
والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، ومنهم من ابتلاه الله بأمراض شديدة فهلك منها كأبي لهب والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة.

إسلام حمزة
وكان بعض إيذائهم هذا سببا لإسلام عمّه حمزة بن عبد المطلب، فقد أدركته الحميّة عندما عيّرته بعض الجواري بايذاء أبي جهل لابن أخيه، فتوجه إلى ذلك الشقي وغاضبه وسبّه، وقال: كيف تسبّ محمدّا وأنا على دينه، ثم أنار الله بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسلاما، وأشدّهم غيرة على المسلمين، وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي أسد الله «٢» .
وكما أوذي الرسول
أوذي أصحابه لاتباعهم له، خصوصا من ليس له عشيرة تحميه وتردّ كيد عدوه عنه، وكل هذا الأذى كان حلوا في أعينهم ما دام فيه رضاء الله، فلم يفتنوا عن دينهم بل ثبّتهم الله حتى أتم أمره على أيديهم، وصاروا ملوك الأرض بعد أن كانوا مستضعفين فيها، كما قال جلّ ذكره في سورة القصص وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «٣» وقد حقق ما أراد.
ومن الذين أوذوا في الله: بلال بن رباح «٤» كان مملوكا لأمية بن خلف الجمحي القرشي، فكان يجعل في عنقه حبلا ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به وهو
(١) أمه هالة بنت وهب. وهو أخو رسول الله من الرضاعة، وكان
أسن من رسول الله ﷺ بسنتين، وهو سيد الشهداء، واخى رسول الله ﷺ بينه وبين زيد بن حارثة. أسلم سنة ست من النبوة وكنيته أبو عمارة وكان شجاعا، قوي الجسم، هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا وأبلى فيها بلاء عظيما، وشهد أحدا فقتل في السنة الثالثة من الهجرة رماه وحشي بحربة فقتله، ومثل به المشركون، ودفن عند أحد في موضعه، وكان عمره تسعا وخمسين سنة.
(٢) وزاد غير ابن اسحق في إسلام حمزة أنه قال: لما احتملني الغضب وقلت: أنا على قوله، أدركني الندم على فراق دين ابائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة وتضرّعت إلى الله
أن يشرح صدري للحقّ، ويذهب عني الريب، فما استتممت دعائي حتى زاح عني الباطل، وامتلأ قلبي يقينا، فغدوت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بما كان من أمري. فدعا بأن يثبتني الله.
(٣) اية ٥.
(٤) مؤذن الرسول، قديم الإسلام والهجرة شهد المشاهد كلها مع الرسول ﷺ، وهو أول من أذن في الإسلام، وفضائله مشهورة، توفي بدمشق سنة عشرين وهو ابن أربع وستين سنة.
يقول: أحد أحد، لم يشغله ما هو فيه عن توحيد الله. وكان أمية يخرج به في وقت الظهيرة في الرمضاء- وهي الرمل الشديد الحرارة لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت- ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره. ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد وتعبد اللات والعزى، فيقول: أحد أحد.
مرّ به أبو بكر يوما فقال: يا أمية أما تتقي الله في هذا المسكين حتى متى تعذبه؟
قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى. فاشتراه منه وأعتقه فأنزل الله فيه وفي أمية في سورة الليل. فَأَنْذَرْتُكُمْ نارًا تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أمية بن خلف الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الصدّيق الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى «١» بما يعطيه الله في الاخرى جزاء أعماله. وقد نبه الله جلّ ذكره على أن بذل الصديق ماله في شراء بلال وعتقه لم يكن الا ابتغاء وجه ربه، وكفى بهذا شرفا وفضلا للصديق
وأرضاه «٢»، وقد أعتق غير بلال جماعة من الأرقاء أسلموا فعابهم مواليهم.
ومنهم حمامة أم بلال وعامر بن فهيرة «٣» كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، وأبو فكيهة «٤» كان عبدا لصفوان بن أمية بن خلف.
ومنهم امرأة تسمى زنيّرة «٥» عذبت في الله حتى عميت فلم يزدها ذلك إلّا إيمانا، وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون لهؤلاء وأتباعهم لو كان ما أتى به محمّد خيرا ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد فأنزل الله في سورة الأحقاف
(١) من ١٤ إلى ٢١.
(٢) أجمع المفسّرون على أن هذه الاية نزلت في أبي بكر الصديق
لا علي بن أبي طالب لأمرين الأول (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) هذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي ﷺ. وكان يطعمه ويسقيه ويربيه، وكان الرسول منعما عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه نعمة دنيوية بل كان أبو بكر ينفق على الرسول ، والثاني المراد بالأتقى هو أفضل الخلق وأفضلهم بعد رسول الله ﷺ هو أبو بكر لا على.
(٣) مولى الطفيل بن عبد الله، وكان من المستضعفين يعذب في الله فلم يرجع عن دينه وهاجر مع الرسول وأبي بكر إلى المدينة يخدمهما. وشهد عامر بدرا وأحدا وقتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة وهو ابن أربعين سنة.
(٤) مولى صفوان بن أمية أسلم قديما فربط أمية بن خلف في رجله حبلا فجرّه حتى ألقاه في الرمضاء وجعل يخنقه، فجاء أخوه أبي بن خلف فقال اده فلم يزل على ذلك حتى ظن أنه مات، فمر أبو بكر الصديق فاشتراه وأعتقه واسمه يسار.
(٥) كانت من السابقات إلى الإسلام وممن يعذّب في الله، وكان أبو جهل يعذّبها، وهي مذكورة في السبعة الذين اشتراهم أبو بكر الصديق وأنقذهم من التعذيب.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «١» . وممن أعتق أبو بكر بعد شرائه: أم عنيس «٢» كانت أمة لبني زهرة وكان يعذبها الأسود بن عبد يغوث.
وممن عذب في الله: عمار بن ياسر وأخوه وأبوه وأمه كانوا يعذبون بالنار فمرّ بهم رسول الله ﷺ فقال: صبرا ال ياسر فموعدكم الجنة اللهم اغفر لال ياسر وقد فعلت. أما أبو عمار وأمه فماتا تحت العذاب رحمهما الله، وأما هو فثقل عليه العذاب فقال بلسانه كلمة الكفر، فإن أبا جهل كان يجعل له دروعا من الحديد في اليوم الصائف ويلبسه إيّاها، فقال المسلمون: كفر عمار، فقال
: عمار مليء إيمانا من فرقه «٣» إلى قدمه، وأنزل الله في شأنه استثناء في حكم المرتد، فقال جل ذكره في سورة النحل مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «٤» .
وممن أوذي في الله خبّاب بن الأرت سبي في الجاهلية فاشترته أم أنمار، وكان حدادا وكان النبي يألفه قبل النبوة، فلما شرّفه الله بها أسلم خباب، فكانت مولاته تعذبه بالنار فتأتي بالحديدة المحمّاة فتجعلها على ظهره ليكفر، فلا يزيده إلا إيمانا. وجاء خباب مرّة إلى رسول الله وهو متوسد بردة «٥» في ظل الكعبة فقال: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد
محمّرا وجهه فقال: إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرنّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت «٦» لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه «٧» . قال ذلك وهو في هذه
(١) اية ١١.
(٢) وقد وردت في ابن هشام أم عبيس.
(٣) هو وسط الرأس وهو الموضع الذي يفرق فيه الشعر.
(٤) اية ١٠٦.
(٥) كساء أسود مربع فيه صغر تلبسه الأعراب جعلها وسادة له.
(٦) موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل موضع في أقصى أراضي هجر اه من ياقوت (المؤلف) .
(٧) رواه البخاري.
الحال الشديدة التي لا يتصوّر فيها أعقل العقلاء وأنبل النبلاء قوة منتظرة أو سعادة مستقبلة اللهم الا أن ذلك وحي يوحى إليه. ثم أنزل الله تعالى تثبيتا للمؤمنين أول سورة العنكبوت الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.
وممن أوذي في الله: أبو بكر الصديق، ولما اشتدّ عليه الأذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى جهة الحبشة، فخرج حتى أتى برك الغماد «١» فلقيه ابن الدّغنّة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القارة) فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال:
أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، فأنا لك جار، فارجع وأعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل ابن الدغنة معه، وطاف في أشراف قريش، فقال لهم: أبو بكر لا يخرج مثله. أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق! فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلّ فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لابي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القران فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا قد أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وأنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل، وأن أبى ألا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك «٢» ولسنا مقرين لابي بكر الإستعلان. فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فأما أن تقصر على ذلك، وأما أن ترجع إليّ
(١) منطقة باليمن.
(٢) أن ننقض العهد.
ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفزت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله (رواه البخاري) وكان ذلك سببا لإيصال أذى عظيم إلى أبي بكر
.
وبالجملة فلم يخل أحد من المسلمين من أذيّة لحقته ولكن كل ذلك ضاع سدى تلقاء ثباتهم وعظيم إيمانهم، فإنهم لم يسلموا لغرض دنيوي يرجون حصوله فيسهل ارجاعهم، ولكن وفّقهم الله لإدراك حقيقة الإيمان فرأوا كل شيء دونه سهلا.
ولما رأى كفار قريش أن ذلك الأذى لم يجدهم نفعا، بل كلّما زادوا المسلمين أذى أزداد يقينهم، اجتمعوا للشورى فيما بينهم فقال لهم عتبة بن ربيعة العبشمي من بني عبد شمس بن عبد مناف وكان سيّدا مطاعا في قومه: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد فأكلّمه وأعرض عليه أمورا عله يقبل بعضها فنعطيه إياها، ويكف عنا، فقالوا يا أبا الوليد: فقم إليه فكلّمه. فذهب إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد، وقال: يا ابن أخي إنك منّا حيث قد علمت من خيارنا حسبا ونسبا وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت أحلامهم. وعبت الهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من ابائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها: فقال
: قل يا أبا الوليد أسمع، فقال يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا من الجن «١» لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، وإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى، فقال :
لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال: فاسمع مني فقرأ رسول الله ﷺ أول سورة فصلت: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
(١) ما يتراءى للإنسان من الجن.
يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «١» .
فأمسك عتبة بفيه، وناشده الرحم أن يكفّ عن ذلك، فلمّا رجع عتبة سألوه فقال: والله لقد سمعت قولا ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها بي، خلّوا بين الرجل، وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لكلامه الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزّه عزّكم، فقالوا: لقد سحرك محمّد، فقال: هذه رأيي «٢» .
ثم عرضوا عليه بعد ذلك أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته فأنزل الله في ذلك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «٣» فلا تتوهموا أني أجيبكم لطلبكم من الإشراك بالله، فأيسوا منه، وطلبوا بعد ذلك أن ينزع من القران ما يغيظهم من ذم الأوثان والوعيد الشديد، فيأتي بقران غيره أو يبدّله الله جوابا لهم في سورة يونس قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ «٤» وقد حصل له مع كفار قريش نادرة تكون لمن استهان بالضعيف كمصباح يستضيء به، وهو أنه بينما الرسول
مع كبراء قريش وأشرافهم يتألفهم ويعرض عليهم القران وما جاء به من الدين إذ أقبل عليه عبد الله
(١) اية ١- ١٤.
(٢) قال ابن اسحق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي.
(٣) سورة الكافرون.
(٤) اية ١٥.
بن أم مكتوم الأعمى «١» - وهو ممن أسلموا قديما- والنبي مشتغل بالقوم، وقد لقي منهم مؤانسة حتى طمع في إسلامهم، فقال له عبد الله: يا رسول الله علّمني مما علّمك الله وأكثر عليه القول، فشق ذلك على الرسول، وكره قطعه لكلامه، وخاف
أن يكون التفاته لذلك المسكين ينفر عنه قلب أولئك الأشراف فأعرض عنه فعاتبه الله على ذلك بقوله أول سورة عبس عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى «٢» فما عبس رسول الله ﷺ بعدها في وجه فقير، وكان إذا أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم يقول له: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي.
ولمّا رأى المشركون أن هذه المطالب التي يعرضونها لا تقبل منهم أرادوا أن يدخلوا في باب اخر، وهو تعجيز الرسول بطلب الايات، فاجتمعوا وقالوا: يا محمد إن كنت صادقا فأرنا اية نطلبها منك وهي أن تشق لنا القمر فرقتين، فأعطاه الله هذه المعجزة، وانشقّ القمر فرقتين، فقال رسول الله: اشهدوا، وهذه القصة رواها عبد الله بن مسعود وهو من السابقين الأولين رويت عنه من طرق كثيرة، ورواها عبد الله بن عباس وغيره، ورواها عنهم جمع غزير حتى صار الحديث كالمتواتر «٣» وقد ذكرها القران الكريم في قوله تعالى أول سورة القمر اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ فحينما رأى المعاندون هذه الاية الكبرى قال بعضهم: لقد سحركم ابن أبي كبشة فأنزل الله فيهم وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «٤»
(١) مؤذن رسول الله ﷺ، هاجر إلى المدينة واستخلفه رسول الله ﷺ على المدينة ثلاث عشر مرّة في غزواته على الصلاة فقط. وشهد فتح القادسية ومعه اللواء. قيل: إنه قتل بالقادسية شهيدا.
(٢) اية ١- ١٠.
(٣) وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم. وعن أنس بن مالك
أن الكفار سألوا رسول الله ﷺ اية فانشقّ القمر مرتين، قال ابن عباس: انفلق القمر فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت، وقال ابن مسعود رأيت حراء بين فلقتي القمر. قال القسطلاني شارح البخاري: وهذه المعجزة من أمهات المعجزات الفائقة على سائر معجزات الأنبياء لأن معجزاتهم لم تتجاوز الأرضيات. وقد ذكرت الجرائد الأجنبية مقالة عربتها جريدة الإنسان العربية التي كانت تطبع بالأستانة العلية حاصلها: أنه عثر في ممالك الصين على بناء قديم مكتوب عليه أنه بني عام كذا الذي وقع فيه حادث سماوي عظيم وهو انشقاق القمر نصفين فحرّر الحساب فوافق سنة انشقاقه لسيدنا ومولانا رسول الله ﷺ.
(٤) سورة القمر الاية ١- ٢.
ثم سألوا الرسول بعد ذلك ايات لا يقصدون بذلك إلّا التعنّت والعناد، فمنها أن قالوا كما في سورة الاسراء لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ ولم يجبهم الله إلّا بقوله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا «١» لأن الله علم ما تكنّه جوانحهم من التعصب والعناد، فلا يؤمنون مهما جاءهم من البينات كما قال جل ذكره في سورة الأنعام وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «٢» وكيف يرجى الخير ممّن قالوا كما في سورة الانفال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٣» ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا إليه، وهذه سنة من سنن الأنبياء إذا رأوا من طلاب الايات عنادا، وإنهم يطلبونها تعجيزا لا يسألون الله إنفاذ هذه الايات كيلا يحلّ بقومهم الهلاك كما حصل لعاد وثمود وغيرهم، وهذا هو المراد من قوله تعالى في سورة الإسراء وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «٤» وقد حصل للمسيح
أنه لما وقف أمام هيردوس طلب منه اية فلم يجبه إلى طلبه، فلما رأى ذلك سخر منه وردّه بيلاطس بعد أن كان يأسف عليه ويتمنى لقاءه، وذلك مذكور في الإصحاح الثالث والعشرون من إنجيل لوقا.
(هذا) ولمّا رأى المشركون ضعفهم عن مقاومة المسلمين بالبرهان تحوّلوا إلى سياسة القوة التي اختارها قوم إبراهيم عندما عجزوا عنه حيث قالوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ كما في سورة الأنبياء «٥» أما هؤلاء فازدادوا بالأذى على كل من أسلم رجاء صدّهم عن اتباع الرسول
، ولم يتركوا بابا إلّا ولجوه، فقال عليه الصلاة السلام لأصحابه: تفرّقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم، فسألوه عن الوجه فأشار إلى الحبشة.
(١) اية ٩٠- ٩٣.
(٢) اية ١٠٩.
(٣) اية ٣٢.
(٤) اية ٥٩.
(٥) اية ٦٨.
هجرة الحبشة الأولى
فعند ذلك تجهز ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم كما أشار
، وهذه هي أول- هجرة من مكة، وعدة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة وهم»
: عثمان بن عفّان، وزوجه رقيّة بنت رسول الله. وأبو سلمة وزوجه أم سلمة، وأخوه لأمه أبو سبرة ابن أبي رهم. وزوجه أم كلثوم، وعامر بن ربيعة وزوجه ليلى، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وزوجه سهلة بنت سهيل. وعبد الرحمن بن عوف. وعثمان بن مظعون. ومصعب بن عمير، وسهيل ابن البيضاء، والزّبير بن العوام. وجلّهم من قريش «٢»، وكان عليهم فيما روى ابن هشام عثمان بن مظعون. فساروا على بركة الله، ولمّا انتهوا إلى البحر، استأجروا سفينة أوصلتهم إلى مقصدهم، فأقاموا امنين من أذى يلحق بهم من المشركين، ولم يبق مع النبي
إلا القليل.

إسلام عمر «٣»
وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمر بن الخطاب العدوي القرشي «٤» بعد ما كان عليه من كراهية المسلمين وشدّة أذاهم، قالت ليلى «٥»: - إحدى المهاجرات لأرض الحبشة مع زوجها- كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلمّا ركبت بعيري أريد أن أتوجّه إلى أرض الحبشة إذا أنابه، فقال لي: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقلت قد اذيتمونا في ديننا، نذهب في أرض الله
(١) في فتح الباري أن الهجرة وقعت مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، فان أول من هاجر أحد عشر رجلا وأربع نسوة.
(٢) وممن خرج من بني هاشم جعفر بن أبي طالب معه امرأته أسماء بنت عميش ولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر.
(٣) عن ابن عباس أنه قال: «أسلم مع رسول الله ﷺ تسعة وثلاثون رجلا وامرأة. ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين» .
(٤) ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة وكان تاجرا مشهورا من أشراف قريش، وكانت إليه السفارة في الجاهلية. وكان إسلامه في السنة السادسة من النبوّة، وسمّاه الرسول ﷺ الفاروق، وهو ثاني الخلفاء الراشدين، وطعن عمر يوم الأربعاء سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور.
(٥) أسلمت قديما وبايعت، كانت من المهاجرات الأول، هاجرت الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة، يقال إنها أول ظعينة دخلت المدينة في الهجرة.
حيث لا نؤذى، فقال: صحبكم الله، فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال ترجين أن يسلم والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب! وذلك لما كان يراه من قسوته وشدّته على المسلمين، ولكن حصلت له بركة دعوة المصطفى ﷺ فإنه قال قبيل إسلامه: «اللهم أعز الإسلام بعمر «١» وكان إسلامه في دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان المسلمون يجتمعون فيها وقد حقّق الله بإسلامه ما رجاه
، فقد قال عبد الله بن مسعود من رواية البخاري (ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر) فإنه طلب من رسول الله أن يعلن صلاته في المسجد ففعل، وقد أدرك الكفار كابة شديدة حينما رأوا عمر أسلم، وكانوا قد أرادوا قتله حتى اجتمع جمع حول داره ينتظرونه، فجاء العاص بن وائل السّهمي (وهو من بني سهم حلفاء بني عدي قوم عمر) وعليه حلّة حبرة «٢» وقميص مكفوف بحرير، فقال لعمر: ما بالك؟ فقال: زعم قومك أنهم سيقتلونني ان أسلمت. قال: لا سبيل إليك فأنا لك جار، فأمن عمر. وخرج العاص فوجد الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ. قال: لا سبيل إليه. فرجع الناس من حيث أتوا «٣» .

رجوع مهاجري الحبشة
وبعد ثلاثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث لا تتيسر لهم الإقامة فيها لأنهم قليلوا العدد- وفي الكثرة بعض الأنس- وأضف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم، وهؤلاء لا يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.
(١) ولفظه (اللهم أعز الإسلام) بأحب الرجلين، بأبي جهل أو بعمر، فكان أحبهما إليه عمرا رواه الترمذي وقال حسن صحيح وصححه ابن حبان وفي اسناده خارجة بن عبد الله صدوق فيه مقال، وكان له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الترمذي أيضا، ومن حديث أنس وروى أحمد نحوه، ورواه الحاكم بلفظ، أيد بدل: أعز، فأخرجه الحاكم، وصححه من نافع عن ابن عمر عن ابن عباس رفعه (اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة)، وأخرجه ابن ماجة وابن حبان وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وأقرّه الذهبي من حديث عائشة والرواية الجارية على الألسنة، بأحب العمرين لا أصل لها في شيء من طرق الحديث.
(٢) أي بردة مخططه بالوشي، وهو النقش.
(٣) رواه البخاري.
وقد أولع بعض المؤرّخين بحكاية يجعلونها سببا في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم، وتكلّم فيها كلاما حسنا عن الهتهم حيث قال بعد أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «١» تلك الغرانيق «جمع غرنوق وهي الطيور ويراد بها الملائكة» «٢» العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى، فسجدوا إعظاما لذلك وفرحا. وهذا ممّا لا تجوز روايته إلّا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته. وها نحن أولاء نسوق لك أدلّة النقل والعقل على بطلان ما ذكر. أما الحديث فسنده ومتنه قلقان، فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفاء: لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسند سليم «٣»، وأمّا المتن فليس أصحاب رسول الله ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحا أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فالكلام غير منتظم. ولو كان ذلك قد حصل لاتّخذه الكفار عليه حجّة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمّاهم الله سفهاء وأنزل فيهم
(١) اية ١٩- ٢٠.
(٢) المراد بالغرانيق: الأصنام وهي في الأصل: الذكور من طير الماء وقد شبهوا أصنامهم بالغرانيق وهي الطيور التي تعلو في السماء وترتفع. وكيف يسجد محمد لصنم، ويثني على صنم، ويفتري على الله الكذب؟ أيخفى على محمد- وقد هداه القران- حقيقة الكفر وألفاظ الكفر ويعبث الشيطان به؟ .. وقد عصمه الله عن كل هذه الترهات.
(٣) سئل محمد بن اسحق بن خزيمة عن هذه القصة فقال هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتابا. وقال الإمام البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلّم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. قال القاضي أبو بكر بن العلاء المالكي: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب روآياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته بعد ما أتى باختلاف الروايات ثم قال ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين ولم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيها حديث شعبة عن أبي بشر من سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فيما أحسب أن النبي ﷺ كان بمكة وذكر القصة. قال أبو بكر البزار هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي ﷺ بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبه إلا أمين بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فقد بين لك أبو بكر أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما فيه عليه مع وقوع الشك فيه- كما ذكرنا- الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه- وأما حديث الكلبي فمما لا يجوز الرواية عنه، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار. ويقول الرازي في تفسيره: هذه القصة باطلة وموضوعة ولا يجوز القول بهما. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.
في سورة البقرة سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها «١»:
ولكن لم يسمع عن أي واحد من رجالاتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال:
مالك ذممت الهتنا بعد أن مدحتها. وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل مهج الرجال.
على أن المؤرّخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سببا لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء كلامهم إن الهجرة كانت في رجب، والرجوع كان في شوال.
ونزول سورة النجم كان في رمضان، فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد، والمتأمّل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان لا يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة والإياب منها، لأنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية تسهّل السير في البحر، ولا تلغراف يوصل خبر إسلام قريش لمن بالحبشة، فلا غرابة بعد ذلك إن قلنا: أن هذه الخرافة من موضوعات أهل الأهواء الذين ابتلى الله بهم هذا الدين، ولكن الحمد لله فقد منّ علينا بحفظ كتابنا المجيد، الذي يحكم بيننا وبين كل مفتر كذّاب ففي السورة نفسها وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «٢» والذي يلقيه الشيطان من أقبح ما يروى، فكيف يقوله
أو يجري على لسانه مما يثبت الشكوك في الوحي؟ الأمر الذي يريده السفهاء ردّ الله كيدهم في نحرهم. والذي ورد في الصحيح في موضوع هذا السجود ما رواه عبد الله بن مسعود «أن النبي قرأ والنجم، فسجد، وسجد من كان معه إلّا رجلا «٣» أخذ كفا من حصى وضعه على جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته قتل بعد كافرا» «٤»، وليس في هذا الحديث أدنى دلالة على أن الذين سجدوا معه هم مشركون، بل الذي يفيده قوله: «فرأيته قتل بعد كافرا» أنه كان مسلما ثم رأيته ارتدّ، وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحمّلوا الأذى، فكفروا منهم: علي بن أمية بن خلف. هذا ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن
(١) اية ١٤٢.
(٢) سورة النجم اية ٣.
(٣) فبعض الناس يقول إنما الذي رفع التراب وسجد عليه الوليد، وبعضهم يقول: أبو أحيحة سعيد بن العاص، وبعضهم يقول كلاهما فعل ذلك. والظاهر حسب قول المؤلف أبو أحيحة لأن الوليد لم يسلم بل عاش طول حياته كافرا ومات كافرا.
(٤) رواه البخاري.
من الدخول إليها إلّا من وجد له مجيرا، فدخل أبو سلمة في جوار خاله أبي طالب، ودخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وقد ردّ عليه جواره حينما رأى ما صنعه بالمسلمين، فلم ير أن يكون مرتاحا وإخوانه يعذبون «١» .

كتابة الصحيفة
ولمّا ضاقت الحيل بكفار قريش عرضوا على بني عبد مناف الذين منهم الرسول
دية مضاعفة ويسلمونه فأبوا عليهم ذلك، ثم عرضوا على أبي طالب أن يعطوه سيدا «٢» من شبابهم يتبناه، ويسلّم إليهم ابن أخيه، فقال: عجبا لكم تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ فلما رأوا ذلك أجمعوا أمرهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب ولدي عبد مناف وإخراجهم من مكة، والتضييق عليهم، فلا يبيعونهم شيئا، ولا يبتاعون منهم حتى يسلّموا محمدا للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في جوف الكعبة «٣»، فانحاز بنو هاشم- بسبب ذلك في شعب أبي طالب، ودخل معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبا لهب، فإنه كان مع قريش، وانخزل عنهم بنو عمّيهم عبد شمس ونوفل ابني عبد مناف، فجهد القوم حتى كانوا يأكلون ورق الشجر «٤»، وكان أعداؤهم يمنعون التجار من مبايعتهم وفي مقدّمة المانعين أبو لهب.

هجرة الحبشة الثانية
وبعد دخول الرسول وقومه الشّعب أمر جميع المسلمين أن يهاجروا للحبشة حتى يساعد بعضهم بعضا على الاغتراب، فهاجر معظمهم وكانوا نحو ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشر امرأة، وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب وزوجه
(١) جميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا.
(٢) ذكر ابن اسحاق أنه عمارة بن الوليد.
(٣) قال السهيلي وللنسابة من قريش في كاتب الصحيفة قولان، أحدهما أن كاتب هذه الصحيفة هو بغيض ابن عامر والقول الثاني أنه منصور بن عبد شرحبيل وهو خلاف قول ابن اسحاق.
(٤) وفي رواية يونس أن سعدا قال: خرجت ذات ليلة لأبول، فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء، فقويت بها ثلاثا.
أسماء بنت عميس، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود، وعبيد الله بن جحش، وامرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وتوجّه لهم الذين أسلموا من جهة اليمن وهم الأشعريون: أبو موسى وبنو عمه «١» . ولما رأت قريش ذلك أرسلت في أثرهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدايا إلى النجاشي ليسلّم المسلمين، فرجعا شرّ رجعة، ولم ينالا من النجاشي إلّا إهانة لما خاطبوه به من اخفار ذمته في قوم لاذوا به، أما بنو هاشم فمكثوا في الشعب قريبا من ثلاث سنوات في شدّة الجهد والبلاء لا يصلهم شيء من الطعام إلّا خفية.

نقض الصحيفة
وقد قام خمسة من أشراف قريش يطالبون بنقض هذه الصحيفة الظالمة، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وهو أعظمهم في ذلك بلاء، وزهير ابن أبي أميّة المخزومي ابن عمة الرسول عاتكة، والمطعم بن عديّ النوفلي، وأبو البختريّ ابن هشام الأسدي، وزمعة بن الأسود الأسدي، واتفقوا على ذلك ليلا، فلمّا أصبحوا غدا زهير وعليه حلّة، فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم والمطلب هلكى لا يبيعون ولا يبتاعون! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة. فقال أبو جهل:
كذبت، فقال زمعة لأبي جهل: أنت والله أكذب! ما رضينا كتابتها حين كتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة، وقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، وصدّق على ما قيل هشام بن عمرو، فقام إليها المطعم بن عدي فشقها، وكانت الأرضة قد أكلتها فلم يبق فيها إلّا ما فيه اسم الله «٢»، وقد أخبر النبي
عمه أبا طالب بذلك قبل أن يفعل ما ذكر، فخرج القوم إلى مساكنهم بعد هذه الشدة «٣» .
(١) رواه البخاري.
(٢) يقول الحافظ في نفس المكان أيضا عما أكلته الأرضة من الصحيفة: أيضا أما ابن اسحاق وموسى بن عقية وعروة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسما لله إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعه قال البرهان ما حاصله: وهذا أثبت من الأول راجع شرح المواهب اللدنية ج ١ ص ٢٩٠.
(٣) قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله ﷺ قال لأبي طالب: يا عم، إن ربي الله قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو لله إلّا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان، فقال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فو الله ما يدخل عليك أحد ثم خرج إلى قريش، فقال يا
وفود نجران
وقد وفد على الرسول بعد الخروج من الشّعب وفد من نصارى نجران «١» بلغهم خبره من مهاجري الحبشة، فسارعوا بالقدوم عليه حتى يروا صفاته مع ما ذكر منها في كتبهم، وكانوا عشرين رجلا أو قريبا من ذلك، فقرأ عليهم القران فامنوا كلّهم، فقال لهم أبو جهل «٢»: ما رأينا ركبا أحمق منكم أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل فصبأتم! فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لكم ما أنتم عليه ولنا ما أخترناه، فأنزل الله في ذلك في سورة القصص «٣» الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «٤» . وقد كان أهل مكة حينما عجزوا عن أمر رسول الله ولم يتمكّنوا من مقارعة الحجة بالحجة رموه بالسحر مرّة وبالكذب أخرى، وبالجنون طورا وبالكهانة تارة، كل ذلك شأن العاجز المعاند الذي لا يستحي لمزيد عناده أن يقول: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٥» .
معشر قريش، ان ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم فإن كان كما قال ابن أخي، فانتهوا عن قطيعتنا وأنزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم: رضينا فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله ﷺ، فزادهم ذلك شرا، فعند ذلك صنع الرّهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
(١) بلدة بين مكة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة.
(٢) ورد في سيرة ابن هشام فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله في ركب: بعثكم من ورائكم من أهل دنيكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم، وصدّقتموه بما قال: ما نعلم ركبا أحمق منكم.
(٣) الاية ٥٢- ٥٥.
(٤) قال ابن اسحق: وقد سألت ابن شهاب الزهري عن هؤلاء الايات فيمن أنزلن فقال لي: ما أسمع من علمائنا أنهنّ أنزلن في النجاشي وأصحابه. والاية من سورة المائدة من قوله (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) إلى قوله: (فاكتبنا مع الشاهدين) .
(٥) سورة الانفال الاية ٣٢.
وفاة خديجة
«١»
وبعد خروجه
من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت خديجة بنت خويلد زوجه ، كان كثيرا ما يذكرها ويترحّم عليها، ولا غرابة فهي أوّل نفس زكية صدّقت رسول الله فيما جاء به عن ربّه، وقد جاء منها بأولاده كلّهم ما عدا إبراهيم «٢»، فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوّجها في الجاهلية أبو العاص بن الربيع «٣»، وأعقب منها أمامة التي تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة «٤»، ومنها رقية «٥» وأم كلثوم تزوجهما عثمان، الأولى بمكة قبل الهجرة، وهاجر بها إلى الحبشة، والثانية بالمدينة بعد أن ماتت أختها، ومنها فاطمة وهي أصغر بناته تزوجها علي بن أبي طالب، وقد جاءت خديجة بأولاد توفّوا صغارا، ولم يعش بعد رسول الله من أولاده إلّا فاطمة عاشت بعده قليلا. ولما توفيت خديجة حزن عليها رسول الله حزنا شديدا لما كانت عليه من الرّقة لرسول الله ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد، ومنها القاسم وكان به يكنى رسول الله ﷺ، وعبد الله الملقب بالطّيب والطّاهر.

زواج سودة
وعقد
في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على سودة بنت
(١) توفيت بعد أبي طالب بثلاثة أيام في شهر رمضان ولها خمس وستون سنة وكان مقامها مع رسول الله ﷺ بعد ما تزوّجها أربعا وعشرين سنة وستة أشهر ودفنها بالحجون وحزن عليها النبي ﷺ ونزل في حفرتها.
(٢) هو من زوجته مارية وتوفي وعمره سبعة عشر شهرا فلما مات دمعت عينا رسول الله ﷺ وأمر النبي بدفن إبراهيم في البقيع وصلى عليه وكبر عليه أربع تكبيرات ولما دفن أمر برش قربة ماء على قبره.
(٣) هو ابن خالة خديجة ثم لم يتفق أنه أسلم إلّا بعد الهجرة، وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، ولما هاجرت زينب كانت تحت أبي العاص على دينه. قدم المدينة مهاجرا ومات في خلافة أبي بكر.
(٤) تلقب بالزهراء وكانت أصغر بنات النبي ﷺ وأحبهن إليه، وتزوجها علي بعد عائشة بأربعة أشهر وانقطع نسل رسول الله ﷺ إلّا من فاطمة، وهي أول أهل بيت رسول الله لحوقا به، وقد عاشت بعد النبي ﷺ ستة أشهر، وقد أوصت عليا أن يغسلها هو وأسماء بنت عميس وقد صلّى علي عليها، ودفنها بليل بالبقيع.
(٥) تزوّجها عثمان وهاجر بها إلى الحبشة، فولدت له عبد الله، فكان يكنى به، ومرضت بالمدينة لما خرج النبي ﷺ إلى بدر فتخلف عليها عثمان، ولما ماتت رقية قال النبي ﷺ: «إلحقي بسلفنا عثمان بن مظعون»، وهي أكبر بناته ﷺ بعد زينب.
زمعة العامرية القرشية «١» بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمّها السكران بن عمرو، وقد كانت امنت بالله وبرسوله وخالفت أقاربها وبني عمها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة في المرّة الثانية خوف الفتنة، وعقب رجوعه من هجرته توفي عنها، فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول ﷺ بزوج رجل امن به، ولو تركت لقومها مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة الإسلام لفتنوها، وكرم نسبها في قومها يمنعها من التزوّج برجل أقلّ منها نسبا وشرفا.

زواج عائشة

وبعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي لا تتجاوز السابعة من عمرها، ولم يتزوج
بكرا غيرها، ودخل عليها بالمدينة أما سودة فدخل عليها بمكة.
وبعد وفاة خديجة بنحو شهر توفي عمه أبو طالب الذي كان يمنعه من أذى أعدائه، ومع أنه كان لا يكذّب رسول الله ﷺ فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم ينطق بالشهادتين حتى اخر لحظة من حياته، وفيه نزل في سورة القصص إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «٢» . ولكن لأعماله العظيمة التي عملها مع رسول الله نرجو أن يخفف عنه «٣» . وعدم إسلامه هو وغالب أقارب الرسول ﷺ فيه من الحكمة ما لا يخفى. فإنهم لو بادروا باتّباعه لقيل: قوم يطلبون سيادة وفخرا ليسا لهم فجاؤوا بهذا الأمر المفترى، ولكن لما رأى المعاندون أن متّبعيه هم الغرباء عنه الذين ليسوا من عشيرته بل من أعدائها أحيانا كعثمان بن عفان من بني أمية، لم يكن عندهم أدنى حجة يقيمونها، اللهم إلّا
(١) كانت أول امرأة تزوجها بعد خديجة، فبنى بها بمكة، وكان بها حدة وكانت تضحكه بالشيء أحيانا، وكانت زاهدة في الدنيا، وتوفيت في اخر زمان عمر بن الخطاب.
(٢) اية ٥٦. قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله ﷺ أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها خشية أن تعيره قريش عليها. وقد ربى الرسول صغيرا. فالمشهور أنه مات كافرا. وكان له من الولد جعفر وعلي وعقيل وطالب وأم هانئ واسمها فاختة وجمانة، وكلهم أعقب إلّا طالبا، وكان أبو طالب أعرجا، وتوفي بعد النبوة بعشر سنين، وقبل الهجرة بثلاث سنين بالغا من العمر نحو ثمانين سنة.
(٣) رواه البخاري باب قصة أبي طالب قال العباس للنبي ﷺ: ما أغنيت عن عمك، فإن كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار «والضحضاح، ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين، واستعير للنار هنا.
دعاويهم الكاذبة التي كانوا يتمسّكون بها حينما تصدعهم الحجة من قولهم: ساحر يفرّق بين المرء وزوجه وكاهن يتكهن بالغيب.
وقد سمى رسول الله هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه. «عام الحزن» .
ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله ﷺ ما لم يمكنها نيله في حياة أبي طالب. واشتد الأمر عليه حتى كانوا ينثرون التّراب على رأسه وهو سائر، ويضعون أوساخ الشاة عليه في صلاته، وتعلّقت به كفار قريش مرّة يتجاذبونه ويقولون له: أنت الذي تريد أن تجعل الالهة إلها واحدا؟ فما تقدم أحد من المسلمين حتى يخلّصه منهم لما هم عليه من الضعف إلّا أبو بكر فإنه تقدم وقال:
أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟!.

هجرة الطائف
فلمّا رأى
استهانة قريش به أراد أن يتوجّه إلى ثقيف بالطائف «١» يرجو منهم نصرته على قومه ومساعدته حتى يتمّم أمر ربه لأنهم أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤوله «٢» فإنّ أم هاشم بن عبد مناف عاتكة السلمية من بني سليم بن منصور وهم حلفاء ثقيف. فلما توجّه إليهم ومعه مولاه زيد بن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثلاثة: عبد يا ليل ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير الثقفي. فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوته فردّوا عليه ردا قبيحا ولم ير منهم خيرا. وحينذاك طلب منهم ألايشيعوا ذلك عنه كيلا تعلم قريش فيشتد أذاهم لأنه استعان عليهم بأعدائهم، فلم تفعل ثقيف ما رجاه منهم بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم يقفون في وجهه في الطريق ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه. وكان زيد بن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة كرم واستظل بها، وكانت بجوار بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان، فكره رسول الله مكانهما فدعا الله قائلا (اللهم اني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، إلى من تكلني؟ إلى
(١) بلدة في الحجاز على مسافة ٦٥ ميلا جنوب شرقي مكة وهي مشهورة بجودة مناخها وفواكهها ومياهها الجارية ويطل عليها جبل غزوان وهي مصيف مكة وهي أبرد مكان في الحجاز.
(٢) لأنهم كانوا أخواله، ولم يكن بينه وبينهم عداوة.

 
================================


مقدّمة الطبعة الثالثة{نسخة للمحمول}{}
الحمد لله والصلاة والسلام على خير نبي أرسله، لقد بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده حتى التقى بالرفيق الأعلى، وعلى الصحابة الذين اقتفوا أثره ومن تبعهم إلى يوم الدين.
وبعد:
إنّ شخصية الرسول الكريم تعد نبراسا لكل من أحبّ أن يهتدي إلى الطريق السوي، هذا الإنسان الذي وهب حياته للخير أين ما كان وأين ما حلّ، ولما كانت الأمة الإسلامية مطالبة بتتبّع أثر الرسول لأنه ترجمان القران ولقوله تعالى:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
وكانت الصحابة تحرص حرصا شديدا على دراسة حياته لأولادها حتى قال سيدنا سعد بن أبي وقّاص: «كنا نعلّم أولادنا سيرة الرسول ومغازيه كما كنا نعلّمهم القران» لهذا تحتّم على الأمة معرفة حياته من أوّلها إلى اخرها ولا يوجد كتاب يلم بهذا الموضوع ككتاب نور اليقين للشيخ محمد الخضري. فإنه من أكثر الكتب المتداولة في السيرة النبوية في العالم الإسلامي. لقد انتهج المؤلّف منهجا جديدا في شرح سيرة الرسول الأعظم ﵊ شرحا لم تعرفه كتب السيرة من قبل.
ولكن الكتاب يحتاج إلى بعض تراجم الرجال. وضبط بعض الأسماء.
وتحقيق وتتمة بعض الروايات التاريخية. وتخريج الايات والأحاديث النبوية.
وشرح العناوين والكلمات المبهمة ولهذا قمت بهذا العمل معتمدا على الله راجيا منه التوفيق إنه على ما يشاء قدير، كل ذلك جعلته في ذيل كل صفحة ودفعا للالتباس وضعت كلمة المؤلّف في نهاية كلامه فإذا أدخلت شيئا على كلامه وضعته بين قوسين.
ولمّا وجدت اقبالا على هذا الكتاب، فقد قمت بطبعه مرّة ثالثة.
وتمتاز الطبعة الثالثة عن سابقتها بتحاشي جميع الأخطاء المطبعية السابقة، كما أنها أكثر شرحا للجوانب الهامّة، وأدقّ ضبطا للكلمات والأعلام.
والله وليّ التوفيق.
المحقّق
بسم الله الرّحمن الرّحيم
نحمدك يا من أوضحت لنا سبل الهداية، وأزحت عن بصائرنا غشاوة الغواية، ونصلّي ونسلم على من أرسلته شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. وعلى الأصحاب الذين هجروا الأوطان يبتغون من الله الفضلى والرضوان، والأنصار الذين اووا ونصروا وبذلوا لإعزاز الدين ما جمعوا وما ادخروا.
أمّا بعد: فيقول محمد الخضري بن المرحوم الشيخ عفيفي الباجوري: كنت أجد من نفسي منذ النشأة الأولى ارتياحا لقراءة تواريخ السّالفين وقصص الغابرين وأجدها لعقل الإنسان أحسن مهذّب وأنصح معلم. وكنت أرى في تاريخ نبيّنا ﵊ وما لقيه من أذى قومه حينما دعاهم إلى الحقّ وعظيم صبره حتى هجر أوطانه وبلاده أعظم مربّ لأفكار المسلمين، فإنه يدلّهم على ما يجب اتباعه وما يلزم اجتنابه ليسودوا كما ساد سابقوهم، وخصوصا ما يتعلّق بالحكّام من اجتذاب النفوس النافرة والتأليف بين القلوب المختلفة، وما يتعلّق بقواد الجيوش من تأليف الرجال وإحكام المعدّات حتى يتم لهم النصر على أعدائهم، وما يتعلّق بالعامّة من اتحاد قلوبهم وصيرورتهم يدا على من سواهم. فكنت أجد من قراءتها ارتياحا عظيما وكانت نفسي كثيرا ما تأسف على ترك المسلمين لها! فقلّما أجد من يشتغل بها ولكني كنت أقدم لهم العذر بتطويل الكتب المؤلفة في هذا الموضوع. فلمّا قدمت مدينة المنصورة جمعتني النوادي مع محمود بك سالم القاضي بمحكمة المنصورة المختلطة فوجدت منه علما بدينه تقف دونه فحول الرجال وتتأخّر عن مسابقته فيه الأبطال، فقلّما توضع مسألة دينية إلّا وجدته مبرزا فيها مفصحا عن الجواب عنها، أمّا علمه بسيرة الرسول الأكرم ﷺ فعنده منها الخبر اليقين. وكنت كثيرا ما أسمعه يتشوّف لعمل سيرة خالية من الحشو والتعقيد تنتفع بها عامّة المسلمين فقلت: يا الله! لقد وافق هذا السيد الكريم ما في نفسي
ولكني كنت أرى في عزيمتي قصورا عن تنفيذ رغبته وتتميم أمنيته فإن المقام عظيم وصعوباته أعظم، ولكن لم أر من الأمر بدا تلقاء ما كنت أسمعه من كبار رجال المنصورة، فإنهم أكثروا من الأماني لعمل هذا الكتاب العميم النفع، الجزيل الفائدة. فقمت معتمدا على الله راجيا منه أن يوفقني لما فيه رضاه، وواصلت السير بالسرى حتى بلغت المنى فجاء بحمد الله سهل المنال عذب المورد تنتفع به العامّة وترجع إليه الخاصة. وقد كان موردي في تأليفه القران الشريف وصحيح السّنة ممّا رواه الإمامان البخاري ومسلم، ولم أخرج عنهما إلّا فيما لا بدّ من تفهيم العبارات، فكان يساعدني «الشفاء» للقاضي عياض، و«السيرة الحلبية»، و«المواهب اللدنية» للقسطلاني، و«إحياء علوم الدين» للغزالي. هذا وأسأل الله من فيض فضله أن يوفق أئمتنا وأمراءنا للاقتداء بسيدنا ومولانا رسول الله ﷺ وإحياء معالم دينه حتى يؤيدوا بروح من عند الله. وقد ان أن نشرع فيما قصدناه مستعينين بحول الله فنقول:

النسب الشريف
السيد الأكرم الذي شرّف الناس بوجوده هو (محمد بن عبد الله «١») من زوجه امنة بنت وهب الزّهرية «٢» القرشية (ابن عبد المطلب «٣») من زوجه فاطمة بنت عمر المخزومية «٤» القرشية. وكان عبد المطلب شيخا معظّما في قريش يصدرون عن رأيه في مشكلاتهم ويقدمونه في مهماتهم. (ابن هاشم «٥») من زوجه سلمى بنت عمرو النجّارية»
الخزرجية (ابن عبد مناف «٧») من زوجه عاتكة بنت مرّة
(١) فهو أبو رسول الله ﷺ ويكنى أبا قثم وهو أصغر أولاد عبد المطلب.
(٢) من بني زهرة بن كلاب من قريش. المؤلف.
(٣) اسمه شيبة وإنما قصد في تسميته بهذا الاسم للتفاؤل يؤثر عنه أنه جاء بسنن قد جاءت في القران والسنة وهو أول من سن دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش، وعاش مائة وأربعين سنة.
(٤) من بني مخزوم بن يقظة بن مرّة من قريش. المؤلف.
(٥) سمي هاشما لأنه وقعت في قريش مجاعة فهشم لهم كعكا كلّه هشما ودقه دقا ثم صنع للحجاج طعاما شبه الثريد.
(٦) من بني النجار من الخزرج والخزرج إحدى القبيلتين اللتين كانتا تقيمان بالمدينة وهما الأوس والخزرج وهما أخوان وسمى رسول الله ﷺ كلاهما أنصارا. المؤلف.
(٧) مناف اسم صنم أضيف عبد إليه كما يقولون: عبد يغوث، وسمي به عبد مناة ثم نظر قصي فراه يوافق عبد مناة ابن كنانة فحوّله عبد مناف. واسم عبد مناف: المغيرة وهو منقول من الوصف، والهاء، فيه
السلمية «١») . (ابن قصيّ «٢») من زوجه حبّى بنت حليل الخزاعية. وكان إلى قصيّ في الجاهلية حجابة البيت «٣»، وسقاية الحاج، وإطعامه المسمّى بالرفادة، والندوة هي الشورى لا يتم أمر إلّا في بيته، واللواء: لا تعقد راية لحرب إلّا بيده، ولمّا أشرف على الموت جعلها في يد أحد أولاده عبد الدار، لكن بنو عبد مناف أجمعوا رأيهم على ألايتركوا بني عمهم عبد الدار يستأثرون بهذه المفاخر، وكاد يفضي الأمر إلى القتال لولا أن تدارك الأمر عقلاء الفريقين، فأعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة فدامتا فيهم إلى أن انتهتا للعباس بن عبد المطلب ثم لبنيه من بعده، أمّا الحجابة فبقيت بيد بني عبد الدار، وأقرّها لهم الشرع فهي فيهم إلى الان. (وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار)، وأمّا اللواء «٤» فدام فيهم حتى أبطله الإسلام، وجعله حقا للخليفة على المسلمين يضعه فيمن يراه صالحا له وكذلك الندوة، (وقصي بن كلاب «٥») من زوجه فاطمة بنت سعد وهي يمانية من أزد شنوءة (ابن مرّة «٦») من زوجه هند بنت سرير من بني فهر بن مالك (ابن كعب «٧») من زوجه وحشية بنت شيبان من بني فهر أيضا (ابن لؤيّ «٨») من زوجه أم كعب مارية بنت كعب من قضاعة (ابن غالب «٩») من زوجه أم لؤي سلمى بنت عمرو الخزاعي (ابن فهر «١٠») من زوجه أم غالب ليلى بنت سعد من هذيل، وفهر هو قريش- في قول الأكثرين- وكانت قريش
للمبالغة أي مغير على الأعداء.
(١) من بني سليم بن منصور إحدى قبائل قيس عيلان بن مضر. المؤلف.
(٢) قصي يقال اسمه زيد وهو تصغير قصيّ ويقال اسمه مجمّع ولقب قصيا لأنه أبعد عن أهله ووطنه مع أمه بعد وفاة أبيه.
(٣) أن تكون مفاتيح البيت عنده فلا يدخله أحد إلّا باذنه.
(٤) يعني في الحرب لأنه كان لا يحمله عندهم إلّا قوم مخصوصون.
(٥) اسمه حكيم وقيل عروة ولقب بكلاب لأنه كان يكثر الصيد بالكلاب. أو من كلاب جمع كلب لأنهم يريدون الكثرة.
(٦) منقول من وصف الحنظلة والعلقمة وكثيرا ما كانوا يسمونه بحنظلة وعلقمة.
(٧) منقول إما من الكعب وهو قطعة من السمن أو من كعب القدم وهو أقرب وهو أول من جمع يوم العروبة ولم تسم العروبة الجمعة إلا منذ جاء الإسلام فكانت تجتمع إليه في هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي ﷺ.
(٨) لؤي تصغير اللأي وهو الثور الوحشي.
(٩) لم يذكر السهيلي في نسب الرسول (غالبا) .
(١٠) الفهر: الحجر الأملس يملأ الكف أو نحوه، وكان كريما.
اثنتي عشرة قبيلة: بنو عبد مناف، وبنو عبد الدار بن قصي، وبنو أسد بن عبد العزّى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرّة، وبنو تيم بن مرّة، وبنو عدي بن كعب، وبنو سهم بن هصيص بن عمرو بن كعب، وبنو عامر بن لؤي، وبنو تيم بن غالب، وبنو الحارث بن فهر، وبنو محارب بن فهر، والمقيمون منهم بمكّة يسمون «قريش البطاح»، والذين بضواحيها «قريش الظواهر» (ابن مالك) من زوجه جندلة بنت الحرث من جرهم (ابن النضر «١») من زوجه عاتكة بنت عدوان من قيس عيلان (ابن كنانة) من زوجه برّة بنت مر بن أد (ابن خزيمة) «٢» من زوجه عوانة بنت سعد من قيس عيلان (ابن مدركة «٣») من زوجه سلمى بنت أسلم من قضاعة (ابن إلياس «٤») من زوجه خندف المضروب بها المثل في الشرف والمنعة. (ابن مضر «٥») من زوجه الرباب بنت جندة بن معد (ابن نزار «٦») من زوجه سودة بنت عك. (ابن معد «٧») من زوجه معانة بنت جوشم من جرهم. (ابن عدنان «٨») .
هذا هو النسب المتّفق على صحته من علماء التاريخ والمحدّثين، أمّا النسب فوق ذلك فلا يصحّ فيه طريق، غاية الأمر أنّهم أجمعوا على أن نسب الرسول ﷺ ينتهي إلى اسماعيل بن إبراهيم «٩» أب العرب المستعربة. نسب شريف كما ترى؛ اباء طاهرون وأمّهات طاهرات، لم يزل ﵊ ينتقل من أصلاب
(١) الذهب الأحمر ولقب به لنضارته وجماله.
(٢) تصغير خزمة وهي واحدة الخزم وقال أبو حنيفة: الخزم مثل الحبال الدّوم تتخذ من سعطه.
(٣) لقّب مدركة لأنه أدرك الإبل التي كانت قد ضلّت، والياس أبوه.
(٤) الياس مختلف فيه فمنهم من يقول الياس موافق للذي هو خلاف الرجاء وهو مصدر يئس وكان مثله كمثل لقمان الحكيم في قومه. وهو أول من أهدى البدن للبيت.
(٥) مضر: مشتق من اللبن الماضر وسمي مضر لبياضه وهو الحامض- وكان جميلا حكيما وهو أول سن للعرب حداء الابل وفي الحديث لا تسبوا مضر ولا ربيع فإنهما كانا مؤمنين. رواه الديلمي في مسند الفردوس.
(٦) نزار من النزارة وهي القلة، وهو أجمل أهل زمانه وأرجحهم عقلا. وقال صاحب الأغاني سمي بذلك لأنه كان فريد عصره.
(٧) معد: من تمعد إذا اشتد. وأصله من المعد (بسكون العين) وهو القوة ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر.
(٨) عدنان: مأخوذ من عدن في المكان إذا أقام فيه ومنه جنات عدن أي جنات إقامة وخلود.
(٩) أمه هاجر ولد اسماعيل بن ابراهيم اثني عشر رجلا فهي بني مرسل أرسله الله إلى أخواله بن جرهم وعمر مائة سنة وثلاثين سنة ثم مات ﵀ تأثر عليه ودفن في الحجر مع أمه هاجر.
أولئك إلى أرحام هؤلاء حتى اختاره الله هاديا مهديا من أوسط العرب نسبا. فهو من صميم قريش التي لها القدم الأولى في الشرف وعلو المكانة بين العرب، ولا تجد في سلسلة ابائه إلّا كراما ليس فيهم مسترذل بل كلّهم سادة قادة، وكذلك أمهات ابائه من أرفع قبائلهن شأنا، ولا شكّ أن شرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوّة، وكل اجتماع بين ابائه وأمهاته كان شرعيّا بحسب الأصول العربية، ولم ينل نسبه شيء من سفاح الجاهلية بل طهّره الله من ذلك والحمد لله.

زواج عبد الله بامنة وحملها
كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه، فزوجه امنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وسنه ثماني عشرة سنة، وهي يومئذ من أفضل نساء قريش نسبا وموضعا. ولما دخل عليها حملت بالرسول ﷺ. ولم يلبث أبوه أن توفي بعد الحمل بشهرين، ودفن بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار، فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام. فأدركته منيته بالمدينة وهو راجع «١»، ولمّا تمّت مدة حمل امنة وضعت ولدها، فاستبشر العالم بهذا المولود الكريم «٢» الذي بثّ في أرجائه روح الاداب وتمّم مكارم الأخلاق. وقد حقّق المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان صبيحة يوم الاثنين تاسع ربيع الأوّل الموافق لليوم العشرين من أبريل سنة ٥٧١ من الميلاد، وهو يوافق السنة الأولى من حادثة الفيل «٣» .
وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم «٤» . وكانت قابلته الشّفاء أم عبد
(١) دفن في دار النابغة في دار الصغرى إذا دخلت الدار على يسارك في البيت وله خمس وعشرون سنة.
(٢) روى مسلم في صحيحه أن أعرابيا سأل رسول الله ﷺ عن صيام يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه، وروى أحمد في حديث تفرد به أنه ولد يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، والجمهور على أنه كان في ربيع الأول ويقول النووي: ونقل ابراهيم بن المنذر الخزاعي شيخ البخاري وخليفة ابن خياط واخرون الإجماع عليه أي على أنه ولد عام الفيل- واتفقوا على أنه ولد يوم الاثنين من شهر ربيع الأول.
(٣) حادثة شهيرة حصلت بمكة فأرخت بها العرب كعادتهم وكل أمة في التاريخ بالأمور المهمة وقد ذكر القران هذه الحادثة في سورة الفيل وحاصلها أن ملكا من ملوك الحبشة- الذين امتلكوا اليمن بعد حمير أغار على مكة وقصد هدم كعبتها، وكان معه فيل عظيم لم يكن العرب رأوا مثله، فاكراما للنبي المنتظر وغيرة على بيته الكريم جعل الله كيد الأعداء في تضليل، وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول، وأراح قريشا من عناء مقاومتهم أهـ. المؤلف.
(٤) في المكان المعروف بسوق الليل في الدار التي صارت تدعى بدار محمد بن يوسف الثقفي أخي
الرحمن بن عوف، ولما ولد أرسلت أمه لجده تبشّره فأقبل مسرورا وسمّاه محمدا «١»، ولم يكن هذا الاسم شائعا قبل عند العرب، ولكن أراد الله أن يحقّق ما قدره وذكره في الكتب التي جاءت بها الأنبياء كالتوراة والإنجيل، فألهم جدّه أن يسميه بذلك إنفاذا لأمره، وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية أمة أبيه عبد الله، وأول من أرضعه ثويبة «٢» أمة عمه أبى لهب.

الرضاع «٣»
وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ليكون أنجب للولد «٤»، وكانوا يقولون: إن المربّى في المدن يكون كليل الذهن فاتر العزيمة، فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن أطفالا يرضعنهم، فكان الرضيع المحمود من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، واسم زوجها أبو كبشة «٥»، وهو الذي كانت قريش تنسب له الرسول ﷺ حينما يريدون الاستهزاء به فيقولون:
هذا ابن أبي كبشة يكلّم من السماء! ودرّت البركات على أهل ذاك البيت الذين أرضعوه مدة وجوده بينهم «٦» وكانت تربو عن أربع سنوات «٧» .
الحجاج بن يوسف وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيرزان أم الهادي والرشيد فجعلته مسجدا يصلى فيه.
(١) لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله ﷺ إلّا ثلاثة طمع اباؤهم حين سمعوا بذكر محمد ﷺ وبقرب زمانه، وأنه يبعث في الحجاز أن يكون ولدا لهم، وهم محمد بن سفيان بن مجاشع، والثاني محمد بن أحيحة والأخير محمد بن حمران بن ربيعة.
(٢) توفيت سنة سبع، قال ابن منده: واختلف في إسلامها وقال أبو نعيم: لا أعلم أحدا ذكره.
(٣) مرضعاته ثمان: امنة- ثويبة- خولة- أم أيمن- سعدية- وثلاث نسوة من العواتك.
(٤) لينشأ.
(٥) اسمه الحارث بن عبد العزى فأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه.
(٦) ذكر الواقدي أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء (مجدبة) فقدمت على أتان (حمار صغير) لي قمراء (القمراء التي يميل لونها إلى الخضراء) كانت قد أذمت (أبطأت عليهم) ومعي صبي لنا، وشارف لنا والله ما تبضّ (ما ترشح) بقطرة وما كنا ننام ليلتنا أجمع مع صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه ولا في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج.. فما هو إلّا أن أخذته فجئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي ثم نام، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك إنها لحافل، فحلب منها ما شرب، وشربت حتى روينا فبتنا بخير ليلة.
(٧) السيرة الحلبية. المؤلف.
حادثة شق الصدر «١»
وحصل له وهو بينهم حادثة مهمة وهي شق صدره وإخراج حظّ الشيطان منه «٢»، فأحدث ذلك عند حليمة خوفا فردّته إلى أمه وحدثتها قائلة: بينما هو وإخوته في بهم «٣» لنا خلف بيوتنا إذ أتى أخوه يعدو فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشقّا بطنه فهما يسوطانه «٤» . فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه منتقعا لونه «٥»، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بنيّ؟ فقال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟؟ قال نعم. فأقبلا يبتدراني «٦» فأضجعاني فشقا بطني، فالتمسا فيه شيئا، فأخذاه وطرحاه «٧» ولا أدري ما هو.

وفاة امنة وكفالة عبد المطلب ووفاته وكفالة أبي طالب
ثم إن أمه أخذته منها، وتوجّهت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وبينما هي عائدة أدركتها منيتها في الطريق فماتت بالأبواء «٨» فحضنته أم
(١) هي في السنة الثالثة وشق صدره أيضا ليلة الإسراء كما رواه البخاري.
(٢) يشير إلى ما رواه البخاري ومسلم والترمذي «ما من مولود يولد إلّا نخسه الشيطان، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلّا ابن مريم وأمه، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم، (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) قال عياض: يريد أن الله قبل دعاءها مع أن الأنبياء معصومون، وقال النووي: أشار عياض إلى أن جميع الأنبياء يشاركون عيسى في هذه الخصوصية.
(٣) البهم: الصغار من الغنم، واحدتها: بهمة.
(٤) يحركانه بسوط. المؤلف.
(٥) شبيها بالنقع وهو التراب. المؤلف. أي متغيرا، يقال انتقع وجهه وامتقع (بالبناء للمجهول) إذا تغيّر.
(٦) يرعاني.
(٧) تتمة: ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني أصيب فانطلقي بنا نردّه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف قالت حليمة فاحتملناه فلم ترع أمه إلّا به، فقالت: ما ردّكما به يا ظئر (المرضعة) فقد كنتما عليه حريصين؟ فقالا: لا والله إلّا أن الله قد أدّى عنا وقضينا الذي علينا وقلنا نخشى الاتلاف والأحداث نرده إلى أهله. فقالت: ما ذاك بكما، فأصدقاني شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، فقالت: أخشيتما عليه الشيطان؟! كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله انه لكائن لابني هذا شأن إلّا أخبركما خبره؟ قلنا: بلى قالت: حملت به فما حملت حملا قط أخف علي منه (يوهم ذلك أنهما حملت بغيره وهو غير ثابت) فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعا ما يقعه المولود، معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما. هذا الحديث قد روي من طرق اخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين السير والمغازي.
(٨) قرية بين مكة والمدينة وهي أقرب إلى المدينة (المؤلف) وقد حصل ذلك وهو ابن ست سنين.
أيمن، وكفله جدّه عبد المطلب، ورقّ له رقة لم تعهد له في ولده، لما كان يظهر عليه مما يدل على أن له شأنا عظيما في المستقبل، وكان يكرمه غاية الإكرام، ولكن لم يلبث عبد المطلب أن توفي بعد ثماني سنوات من عمر الرسول ﷺ «١»، فكفله شقيق أبيه أبو طالب فكان له رحيما وعليه غيورا، وكان أبو طالب مقلّا من المال فبارك الله له في قليله، وكان الرسول ﷺ في مدة كفالة عمه مثال القناعة، والبعد عن السفاسف التي يشتغل بها الأطفال عادة، كما روت ذلك أم أيمن حاضنته، فكان إذا أقبل وقت الأكل جاء الأولاد يختطفون وهو قانع بما سييسره الله له «٢» .

السفر إلى الشام
ولما بلغت سنّه ﵊ اثنتي عشرة سنة، أراد عمّه وكفيله السفر بتجارة إلى الشام، فاستعظم الرسول ﷺ فراقه، فرقّ له، وأخذه معه، وهذه هي الرحلة الأولى، ولم يمكثوا فيها إلّا قليلا، وقد أشرف على رجال القافلة وهم بقرب بصرى «٣» بحيرى الراهب «٤»، فسألهم عما راه في كتبهم المقدسة من بعثة نبي من العرب في هذا الزمن، فقالوا إنه لم يظهر للان «٥»، وهذه العبارة كثيرا ما كان يلهج بها أهل الكتاب من يهود ونصارى قبل بعثة الرسول ﷺ فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «٦» .

حرب الفجار «٧»
ولما بلغت سنّه ﵊ عشرين سنة حضر حرب الفجار، وهي
(١) دفن بالحجون (جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها عند قبر جده قصي) ولما حضرته الوفاة. أوصى به إلى عمه.
(٢) كان يقول في أول الطعام الحمد لله، ولم تر منه كذبة ولا ضحك ولا جاهلية، ولا وقف مع صبيان يلعبون، تفسير الرازي ج ٦ ص ٥٦٨.
(٣) قرية على الحدود بين بلاد الشام والأردن (وهي قرية من أعمال حوران) .
(٤) اسمه سرجس كان راهبا مسيحيّا وكان ينكر لاهوت المسيح (يقول إن تسميته باله غير جائزة) وكان قسا عالما فلكيّا منجما وقد اتّخذ صومعته بقرب الطريق الموصل إلى الشام وكان يأمر بعبادة الله وينهى عن عبادة الأصنام.
(٥) ملخّص القصّة أن بحيرى الراهب صنع طعاما ودعا له كل قريش فاجتمعوا إلّا رسول الله ﷺ ثم أحضروه بعد إلحاح من بحيرى فلما رأى من أوصافه ما يوافق ذلك ما عنده أقبل على عمه أبي طالب وأوصاه أن يعود بابن أخيه حذرا عليه من اليهود فعمل أبو طالب ما نبهه إليه بحيرى.
(٦) سورة البقرة اية ٨٩.
(٧) معنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة وذلك أن قتالا كان في الشهر الحرام ففجروا فيه وأيام الفجار أربعة
حرب كانت بين كنانة ومعها قريش، وبين قيس. وسببها أنه كان للنعمان بن المنذر ملك العرب بالحيرة «١» تجارة يرسلها كل عام إلى سوق عكاظ «٢» لتباع له، وكان يرسلها في أمان رجل ذي منعة وشرف في قومه ليجيزها «٣»، فجلس يوما وعنده البرّاض بن قيس الكناني وكان فاتكا خليعا خلعه قومه لكثرة شرّه وعروة بن عتبة الرحّال فقال: من يجيز لي تجارتي هذه حتى يبلغها عكاظ؟ فقال البراض: أنا أجيزها على بني كنانة، فقال النعمان: إنّما أريد من يجيزها على الناس كلهم؟
فقال: عروة أبيت اللعن «٤» أكلب خليع يجيزها لك؟ أنا أجيزها على أهل الشّيح والقيصوم من أهل نجد «٥» وتهامة «٦» فقال البرّاض: أو تجيزها عل كنانة يا عروة؟
قال: وعلى الناس كلّهم، فأسرّها في نفسه، وتربّص له حتى إذا خرج بالتجارة، قتله غدرا، ثم أرسلوا رسولا يخبر قومه كنانة بالخبر، ويحذرهم قيسا قوم عروة. وأما قيس فلم تلبث بعد أن بلغها الخبر أن همّت لتدرك ثأرها، حتى أدركوا قريشا وكنانة بنخلة «٧»، فاقتتلوا، ولما اشتدّ البأس، وحميت قيس، احتمت قريش بحرمها، وكان فيهم رسول الله ﷺ. ثم أن قيسا قالوا لخصومهم: إنّا لا نترك دم عروة، فموعدنا عكاظ العام المقبل، وانصرفوا إلى بلادهم يحرّض بعضهم بعضا، فلما حال الحول جمعت قيس جموعها وكانت معها ثقيف وغيرها، وجمعت قريش جموعها من كنانة والأحابيش (وهم حلفاء قريش) وكان رئيس بني هاشم الزبير بن عبد المطلب ومعه اخوته أبو طالب وحمزة والعباس وابن أخيه النبي الكريم ﷺ، وكان على بني أمية حرب بن أمية، وله القيادة العامّة لمكانه في قريش شرفا وسنّا. وهكذا كان على كل
فالفجار الأول كان بين كنانة وهوازن، والثاني بين قريش وكنانة، والثالث بين كنانة وبني نضر بن معاوية والفجار الأخير بين قريش وكنانة كلها.
(١) بلدة غرب الفرات كان يقيم بها ملك العرب من قبل ملوك فارس، فتحها خالد بن الوليد في السنة الثانية عشرة (راجع اتمام الوفاء) المؤلف.
(٢) سوق كانت تعقدها العرب كل عام لتعرض فيها تجارتها وما قاله فصحاؤها من قصائد الفخر وما أشبه ذلك من مفاخر العرب، وهي أشبه في ذلك بمعارض أوربا الان. المؤلف.
(٣) ليسوغها له (أي يسمح له بذلك) .
(٤) تحية عربية ومعناها باعدت كل ما استحق المذمة. المؤلف.
(٥) هو المرتفع من بلاد العرب وهو وسطها. المؤلف.
(٦) هو ما انخفض من سواحل البلاد العربية والشرقي منها يسمى البحرين الفاصل بين نجد وتهامة الحجاز في الغرب واليمامة في الشرق. المؤلف.
(٧) موضع بين مكة والطائف. المؤلف.
بطن من بطون قريش رئيس ثم تناجزوا «١» الحرب، فكان يوما من أشدّ أيام العرب هولا، ولمّا استحلّ فيه من حرمات مكة التي كانت مقدّسة عند العرب سمي يوم الفجار. وكادت الدائرة تدور على قيس حتى انهزم بعض قبائلها ولكن أدركهم من دعا المتحاربين للصلح «٢» على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد، فكانت لقيس زيادة أخذوا ديتها من قريش، وتعهد بها حرب بن أمية، ورهن لسدادها ولده أبا سفيان. وهكذا انتهت هذه الحرب التي كثيرا ما تشبه حروب العرب تبدؤها صغيرات الأمور حتى ألّف الله بين قلوبهم وأزاح عنهم هذه الضلالات بانتشار نور الإسلام بينهم.

حلف الفضول «٣»
وعند رجوع قريش من حرب الفجار تداعوا لحلف الفضول فتمّ في دار عبد الله بن جدعان التميمي «٤» أحد رؤساء قريش، وكان المتحالفون بني هاشم، وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسد بن عبد العزى، وبني زهرة بن كلاب، وبني تيم بن مرة تحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، حتى تردّ إليه مظلمته، وقد حضر هذا الحلف رسول الله ﷺ مع أعمامه، وقال بعد أن شرّفه الله بالرسالة: «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النّعم «٥» ولو دعيت به في الإسلام لأجبت «٦»» وذلك لأنه ﵊ مبعوث بمكارم الأخلاق وهذا منها وقد أقرّ دين الإسلام كثيرا منها، يرشدك إلى هذا قوله ﵊: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق «٧»» وقد دعا بهذا الحلف كثيرون فأنصفوا.
(١) أي حضروا الحرب.
(٢) هو عتبة بن ربيعة أحد ساداتها.
(٣) أي تحالفوا ألا يتركوا عند أحد فضلا بظلمه أحدا إلا أخذوه له منه.
(٤) يكنى أبا زهير. وهو ابن عم عائشة ﵂، وكان بدء أمره صعلوكا. وكان مع ذلك فاتكا حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه، وحلف ألّا يؤويه أبدا لما أثقله من ديون، ثم أثرى بعد ذلك فأوسع في الكرم فصار أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية.
(٥) الشيء النفيس من الحيوانات وهي الإبل.
(٦) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩١.
(٧) أورده مالك في الموطأ بلاغا عن النبي ﷺ، وقال ابن عبد البر هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره مرفوعا.
رحلته إلى الشام المرّة الثانية
ولما بلغت سنه ﵊ خمسا وعشرين سنة سافر إلى الشام المرّة الثانية، وذلك أن خديجة بنت خويلد الأسدية كانت سيدة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم «١» إياه، فلما سمعت عن السيد من الأمانة وصدق الحديث ما لم تعرفه في غيره حتى سماه قومه الأمين، استأجرته ليخرج في مالها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، فسافر مع غلامها ميسرة فباعا وابتاعا وربحا ربحا عظيما، وظهر للسيد الكريم في هذه السفرة من البركات ما حبّبه في قلب ميسرة غلام خديجة «٢» .

زواجه خديجة
فلمّا قدما مكّة ورأت خديجة ربحها العظيم سرّت من الأمين ﵊، وأرسلت إليه تخطبه لنفسها، وكانت سنها نحو الأربعين وهي من أوسط «٣» قريش حسبا وأوسعهم مالا. فقام الأمين ﵊ مع أعمامه حتى دخل على عمّها عمرو بن أسد فخطبها منه بواسطة عمه أبي طالب فزوجها عمها. وقد خطب أبو طالب في هذا اليوم فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء «٤» معدّ وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه وجعله لنا بيتا محجوجا، وحرما امنا، وجعلنا حكّام الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل شرفا ونبلا وفضلا، وإن كان في المال قلّ، فإنّ المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مستردّة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصّداق (كذا) «٥» وعلى ذلك تمّ الأمر. وقد كانت متزوجة قبله بأبي هالة
(١) المضاربة: شركة تكون بين طرفين، من أحدهما المال، ومن الاخر العمل بالتجارة.
(٢) كانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة مع ما أراد الله بها من كرامة، فلما أخبرها به غلامها ميسرة بعثت إلى رسول الله ﷺ فقالت له: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وشرفك في قومك وأمانتك وحسن خلقك، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه.
(٣) الوسط من أوصاف المدح والتفضيل فكان الوسط من أجل هذا مدحا في النسب.
(٤) أصل. «المؤلف» .
(٥) أصدقها رسول الله ﷺ اثنتي عشرة أوقية ونصفا من الذهب والأوقية أربعون درهما شرعيّا.
توفي عنها وله منها ولد اسمه هالة وهو ربيب «١» المصطفى ﵊.

بناء البيت «٢»
ولما بلغت سنه ﵊ خمسا وثلاثين سنة. جاء سيل جارف فصدّع جدران الكعبة بعد توهينها من حريق كان أصابها قبل، فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها. فإنها كانت رضيمة «٣» فوق القامة، فاجتمعت قبائلهم لذلك. ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم. فقال لهم الوليد بن المغيرة:
أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، قال: إن الله لا يهلك المصلحين. وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل «٤» .
وهناك وجدوا صحافا نقش فيها كثير من الحكم «٥» على عادة من يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدّمين. ثم ابتدؤوا في البناء وأعدّوا لذلك نفقة ليس فيها مهر بغيّ ولا بيع ربا «٦»، وجعل الأشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم، وكان العباس ورسول الله ﷺ فيمن يحمل، وكان الذي يلي البناء نجار رومي اسمه باقوم «٧»، وقد خصّص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة، وقد ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد اسماعيل، فأخرجوا منها الحجر «٨»، وبنوا عليه جدارا قصيرا علامة على أنه من
(١) ابن امرأة الرجل من غيره.
(٢) كان بناؤها في الدهر خمس مرّات الأولى: حين بناها شيث بن ادم والثانية: حين بناها ابراهيم على القواعد الأولى. والثالثة: حين بنتها قريش قبل الاسلام. والرابعة: حين احترقت في عهد ابن الزبير. والخامسة: في عهد أبي جعفر المنصور.
(٣) الرضم: أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير طين.
(٤) في ابن هشام أساس ابراهيم.
(٥) مما وجدوا حجرا مكتوبا فيه «من يزرع خيرا، يحصد غبطة ومن يزرع شرّا يحصد ندامة. تعملون السيئات وتجزون الحسنات. أجل كما لا يجتنى من الشّوك العنب.
(٦) كان محرما عليهم في الجاهلية يعلمون ذلك ببقية من بقايا شرع ابراهيم ﵇ كما بقي عليهم وشيء من أحكام الطلاق والعتق وغير ذلك وفي قوله سبحانه (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) دليل على تقدم التحريم.
(٧) يا قوم وقيل يا قوم أو يا قول.
(٨) قال ﵇ لعائشة لولا حدثان عهد قومك بالجاهلية لهدمتها، وجعلت لها خلفا وألصقت بابها بالأرض، وأدخلت فيها الحجر أو كما قال وردت في معناه أحاديث رواها الشيخان وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي.
الكعبة. ولمّا تمّ البناء ثماني عشرة ذراعا بحيث زيد فيه عن أصله تسعة أذرع ورفع الباب عن الأرض بحيث لا يصعد إليها إلّا بدرج أرادوا وضع الحجر الأسود موضعه، فاختلف أشرافهم فيمن يضعه، وتنافسوا في ذلك حتى كادت تشبّ بينهم نار الحرب، ودام بينهم هذا الخصام أربع ليال، وكان أسنّ رجل في قريش إذ ذاك أبو أمية بن المغيرة المخزومي عم خالد بن الوليد فقال لهم: يا قوم لا تختلفوا وحكّموا بينكم من ترضون بحكمه. فقالوا: نكل الأمر لأوّل داخل، فكان هذا الداخل هو الأمين المأمون ﵊، فاطمأن الجميع له لما يعهدونه فيه من الأمانة وصدق الحديث وقالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد لأنهم كانوا يتحاكمون إليه إذ كان لا يداري ولا يماري. فلما أخبروه الخبر بسط رداءه، وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم وضع فيه الحجر «١» وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه. وهكذا انتهت هذه المشكلة التي كثيرا ما يكون أمثالها سببا في انتشار حروب هائلة بين العرب لولا أن يمنّ الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير، وحكيم مثل الرسول ﷺ يقضي بينهم بما يرضي جميعهم، ولا يستغرب من قريش تنافسهم هذا لأن البيت قبلة العرب وكعبتهم التي يحجون إليها فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة وهو أول بيت وضع للعبادة بشهادة القران الكريم قال تعالى في سورة ال عمران: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا «٢» وكان يلي أمره بعد ولد اسماعيل قبيلة جرهم فلما بغوا وظلموا من دخل مكة اجتمعت عليهم خزاعة وأجلوهم عن البيت، ووليته خزاعة حينا من الدهر.
ثم أخذته منهم قريش في عهد قصي بن كلاب وبسببه أمنوا في بلادهم فكانت قبائل العرب تهابهم. وإذا احتموا به كان حصنا أمينا من اعتداء العادين، وامتنّ الله عليهم بذلك في تنزيله فقال في سورة العنكبوت: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «٣» .
(١) عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ قال: «أنزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من اللبن فسوّدته خطايا بني ادم. رواه الترمذيّ.
(٢) اية ٩٦- ٩٧.
(٣) اية ٦٧.
معيشته ﵊ قبل البعثة
لم يرث ﵊ من والده شيئا. بل ولد يتيما عائلا «١» فاسترضع في بني سعد. ولما بلغ مبلغا يمكّنه أن يعمل عملا كان يرعى الغنم مع إخوته من الرضاع في البادية، وكذلك لما رجع إلى مكة كان يرعاها لأهلها على قراريط كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه «٢» . ووجود الأنبياء في حال التجرّد عن الدنيا ومشاغلها أمر لا بد منه، لأنهم لو وجدوا أغنياء لألهتهم الدنيا وشغلوا بها عن السعادة الأبدية. ولذلك ترى جميع الشرائع الإلهية متفقة على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها، وحال الأنبياء السالفين أعظم شاهد على ذلك، فكان عيسى ﵊ أزهد الناس في الدنيا، وكذلك كان موسى وابراهيم. وكانت حالتهم في صغرهم ليست سعة بل كلهم سواء، تلك حكمة بالغة أظهرها الله على أنبيائه ليكونوا نموذجا لمتّبعيهم في الامتناع عن التكالب على الدنيا والتهافت عليها، وذلك سبب البلايا والمحن. وكذلك رعاية الغنم، فما من نبي إلا رعاها كما أخبر عن ذلك الصادق المصدوق في حديث للبخاري، وهذه أيضا من بالغ الحكم، فإن الإنسان إذا استرعى الغنم وهي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان لما هذّب أولا من الحدّة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. ولما شبّ ﵊ كان يتجر، وكان شريكه السائب بن أبي السائب. وذهب بالتجارة لخديجة ﵂، إلى الشام على جعل «٣» يأخذه، ولما شرّفت خديجة بزواجه، وكانت ذات يسار عمل في مالها وكان يأكل من نتيجة عمله. وحقّق الله ما امتنّ عليه به في سورة الضحى بقوله جل ذكره: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى «٤» بالإيواء والإغناء قبل النبوة والهداية بالنبوة، هداه للكتاب والإيمان ودين إبراهيم ﵇ ولم يكن يدري ذلك قبل. قال تعالى في سورة الشورى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
(١) فقيرا لا مال له.
(٢) قال رسول الله ﷺ: ما بعث الله نبيا إلّا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة وقراريط جمع قيراط وهو أحد أجزاء الدينار.
(٣) ما جعل للانسان من شيء على فعل يقوم به.
(٤) اية ٦- ٨.
الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «١» .

سيرته في قومه قبل البعثة
كان ﵊ أحسن قومه خلقا، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، فسمّوه الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة من الحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والتواضع، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء. حتى شهد له بذلك ألد أعدائه النضر بن الحارث «٢» من بني عبد الدار حيث يقول: قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم:
ساحر! لا والله ما هو بساحر، قال ذلك في معرض الاتفاق على ما يقولونه للعرب الذين يحضرون الموسم حتى يكونوا متفقين على قول مقبول يقولونه. ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان قائلا: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله.
ورد ذلك في أول صحيح البخاري. وقد حفظه الله في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف بضدها «٣» وبغّضت إليه الأوثان بغضا شديدا حتى ما كان يحضر لها احتفالا أو عيدا ممّا يقوم به عبّادها. وقال ﵊: «لما نشأت بغّضت إليّ الأوثان، وبغّض إليّ الشعر، ولم أهمّ بشيء ممّا كانت الجاهلية تفعله إلّا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك.
ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفا بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذنيّ فنمت فما أيقظني إلّا مسّ الشمس ولم أقض شيئا، ثم عراني مرّة أخرى مثل ذلك» . وكان ﵊ لا يأكل ما ذبح
(١) اية ٥٢.
(٢) قتل يوم بدر كافرا قتله علي بن أبي طالب.
(٣) الشفاء للقاضي عياض. المؤلف.
على النصب «١» وحرّم شرب الخمر على نفسه مع شيوعه في قومه شيوعا عظيما.
وذلك كلّه من الصفات التي يحلّي الله بها أنبياءه ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقّي وحيه، فهم معصومون من الأدناس قبل النبوة وبعدها: أمّا قبل النبوة فليتأهّلوا للأمر العظيم الذي سيسند إليهم. وأمّا بعدها فليكونوا قدوة لأممهم.
عليهم من الله أفضل الصلوات وأتم التسليمات.

ما أكرمه الله به قبل النبوّة
أوّل منحة من الله ما حصل من البركات على ال حليمة الذين كان مسترضعا فيهم. فقد كانوا قبل حلوله بناديهم مجدبين «٢» فلمّا صار بينهم صارت غنيماتهم تؤوب من مرعاها وإن أضراعها لتسيل لبنا ويرحم الله البوصيري حيث يقول في همزيته:
وإذا سخّر الإله أناسا ... لسعيد فإنّهم سعداء
ثمّ أعقب ذلك ما حصل من شق صدره وإخراج حظّ الشيطان منه «٣»، وليس هذا بالعجيب على قدرة الله تعالى، فمن استبعد ذلك كان قليل النظر. لا يعرف من قوّة الله شيئا، لأن خرق العادات للأنبياء ليس بالأمر المستحدث ولا المستغرب.
ومن المكرمات الإلهية تسخير الغمامة له في سفره إلى الشام حتى كانت تظله في اليوم الصائف لا يشترك معه أحد في القافلة، كما روى ذلك ميسرة غلام خديجة الذي كان مشاركا له في سفره وهذا ما حبّبه إلى خديجة حتى خطبته لنفسها، وتيقّنت أن له في المستقبل شأنا. ولذلك لما جاءته النبوّة كانت أسرع الناس إيمانا به، ولم تنتظر اية أخرى زيادة على ما علمته من مكارم الأخلاق، وما سمعته من خوارق العادت.
ومن منن الله عليه ما كان يسمعه من السلام عليه من الأحجار والأشجار «٤»،
(١) هي حجارة تنصب وتصب عليها دماء الذبائح وتعبد. المؤلف.
(٢) الجدب ضد الخصب، وهي الأرض لا تكاد تخصب لاحتباس الماء عنها.
(٣) أي من قلبه.
(٤) السيرة الحلبية. المؤلف.
فكان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى ببناء ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا سمع: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله «١»، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا وقد حدث بذلك عن نفسه. وليس في ذلك كبير اشكال فقد سخر الله الجمادات للأنبياء قبله، فعصا موسى التقمت ما صنع سحرة فرعون بعد أن تحوّلت حية تسعى ثم رجعت كما كانت، ولما ضرب بها الحجر نبع منه الماء اثنتي عشرة عينا، لكل سبط «٢» من أسباط بني اسرائيل عين. وكذلك غيره من الأنبياء سخر الله لهم ما شاء من أنواع الجمادات لتدل العقلاء على عظيم قدرهم وخطارة شأنهم.

تبشير التوراة به
أنزل الله التوراة على موسى محتوية على الشرائع التي تناسب أهل ذاك الزمن، ونوّه فيها بذكر كثير من الأنبياء الذين علم الله أنّه سيرسلهم، فممّا جاء فيها تبشيرا برسولنا الكريم ﷺ خطابا لسيّدنا موسى ﵇ «٣» (وسوف أقيم لهم نبيّا مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ويكلّمهم بكل شيء امره به، ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا الذي أنتقم منه، فأما النبي الذي يجترئ عليّ بالكبرياء ويتكلّم باسمي بما لم امره به أو باسم الهة أخرى فليقتل، وإذا أحببت أن تميز بين النبي الصادق والكاذب فهذه علامتك أن ما قاله ذلك النبي باسم الربّ ولم يحدث فهو كاذب يريد تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه) .
ويقول اليهود: أن هذه البشارة ليوشع بن نون خليفة موسى ﵇، مع أنّهم كانوا ينتظرون في مدّة المسيح نبيّا اخر غير المسيح، فإنهم «٤» أرسلوا ليوحنا المعمدان (يحيى) يسألونه عن نفسه فقالوا له: أنت إيليا؟ «٥» فقال: لا فقالوا أنت المسيح؟ فقال: لا فقالوا: أنت النبي؟ فقال: لا فقالوا: ما بالك إذا تعمّد إذا
(١) الأحاديث التي وردت في تكلم الأحجار مع الرسول الكريم كثيرة منها ما رواه مسلم أن رسول ﷺ قال: اني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الان.
(٢) القبيلة من اليهود.
(٣) الاصحاح الثامن: سفر التثنية. «المؤلف» .
(٤) الاصحاح الأول من انجيل يوحنا، اية ٤٦. المؤلف.
(٥) قال ابن كثير في البداية والنهاية ذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب ابن منبه أن اسم الخضر بليا. ويقال ايليا بن بلكان ج ١ ص ٣٢٦.
كنت لست إيليا ولا المسيح ولا النّبي فهذه تدل على أن التوراة تبشر بإيليا والمسيح ونبي لم يأت حتى زمن المسيح، ثم إن التوراة تقول في صفة النبي: أنه مثل موسى، وقد نصّت في اخر سفر التثنية على أنه لم يقم في بني اسرائيل نبي مثل موسى «١»، وورد في هذه البشارة أن النبي الذي يفتري على الله يقتل ويشبه ذلك في القران قوله تعالى في سورة الحاقة وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «٢» . ونبينا ﷺ مكث بين أعدائه الألداء من مشركين ويهود ثلاثا وعشرين سنة يدعوهم فيها إلى الله، ومع ذلك عصمه الله منهم وأنزل عليه تطمينا لخاطره في سورة المائدة وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «٣» أكان يعجز الله، وهو القادر على كل شيء، أن يعاقب من ينسب إليه ما لم يقله وهو الذي قال في سورة الشورى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «٤» وقد أخبرتنا هذه البشارة عن العلامة التي تعرف بها صدق النبي من كذبه وهي الأخبار بما سيأتي. وقد أخبر النبي ﵊ عن أشياء كثيرة فحدثت كما أخبر عنها. ومنها ما لا ينفع معه الحدس والتخمين كالإخبار بأن الروم سيغلبون بعد أن قهرهم الفرس قهرا شديدا حتى كادوا يحتلّون القسطنطينية عاصمة ملكهم، فالإخبار إذا بأن الروم سيردّون ما فقد منهم بعد بضع سنين لا يكون إلّا من عند الله، ولذلك استغربه جدا بعض المشركين من قريش وراهن على ذلك أبا بكر الصديق ﵁. وقد حقّق الله الخبر فاستحق الصديق الرهن. وهذا قليل من كثير سيأتيك تفصيله إن شاء الله تعالى.
وروى القاضي عياض في الشفاء أن عطاء بن يسار سأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن صفة رسول الله ﵊ فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القران: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا «٥»: «وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكّل ليس بفظ ولا
(١) هذه النصوص المذكورة في التوراة والإنجيل ناطقة برسالة سيدنا محمد ﵊ وقد أخبر برسالته ﵊ ورقة بن نوفل ابن عم خديجة.
(٢) عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. المؤلف. الاية من ٤٤- ٤٦.
(٣) اية ٦٧.
(٤) اية ٢٤.
(٥) سورة الأحزاب اية ٤٥.
غليظ ولا صخاب «١» في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلّا الله ويفتح به أعينا عميا واذانا صمّا وقلوبا غلفا» «٢» .
وروي مثله عن عبد الله بن سلام «٣» ﵁ وهو الذي كان رئيس اليهود فلم تعمه الرياسة حتى يترك الدين القويم، وكذلك كعب الأحبار «٤» وفي بعض طرق الحديث: ولا صخّاب في الأسواق ولا قوّال للخنا، أسدّده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة مقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى أمامه، والإسلام ملّته، أحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة. وأسمّي به بعد النكرة، وأكثّر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتّتة، وأمم متفرّقة، وأجعل أمّته خير أمّة أخرجت للناس. وقد أخبر ﵊ عن صفته في التوراة فقال وهو الصادق الأمين: عبدي أحمد المختار مولده مكّة ومهاجره بالمدينة- أو قال طيبة- وأمته الحمّادون الله على كل حال.

تبشير الإنجيل
بشر عيسى ﵇ قومه في الإنجيل بالفارقليط «٥» ومعناه قريب من
(١) شديد الصوت. المؤلف.
(٢) رواه البخاري.
(٣) هو ولد يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل وكان من يهود المدينة واسمه الحصين وسماه النبي ﷺ عبد الله لما أسلم وكنيته أبو يوسف كني بابنه وهو من بني قينقاع. ونزل في فضله (وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله فامن واستكبرتم) روي له عن رسول الله ﷺ خمسة وعشرون حديثا، وقد بشره الرسول ﷺ بالجنة وتوفي سنة ٤٣ هـ بالمدينة.
(٤) هو التابعي المشهور وهو ابن مانع بن هينوع أدرك زمن النبي ﷺ ولم يره وأسلم في خلافة أبي بكر وصحب عمر وأكثر الرواية عنه، وكان يسكن حمص، واتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه، وكان قبل إسلامه على دين اليهود، وكان يسكن اليمن، توفي سنة ٣٢ هـ ودفن في حمص.
(٥) جاء في قول يوحنا حكاية عن المسيح ﵇ (ص ١٤ ف ٢٥) ما يأتي: (إن كنتم تحبوني فاحافظوا وصاياي، فأنا أطلب من الاب فيعطيكم فارقليطا ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ومنكم.
محمد أو أحمد ويصدّقه في القران قول الله تعالى في سورة الصف: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «١» وقد وصف المسيح هذا الفارقليط بأوصاف لا تنطبق إلّا على نبيّنا فقال: إنه يوبخ العالم على خطيئته وإنه يعلمهم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع، وهذا ما ورد في القران الكريم في سورة النجم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «٢» وقد ورد في إنجيل برنابا الذي ظهر منذ زمن قريب وأخفته حجب «٣» الجهالة ذكر اسم الرسول ﵊ صراحة.

حركة الأفكار قبل البعثة
وهذا يسهّل لك فهم الحركة العظيمة من الأحبار والرهبان قبيل البعثة فكان اليهود يستفتحون على عرب المدينة برسول منتظر. فقد حدّث عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا للإسلام مع رحمة الله تعالى لنا ما كنا نسمع من أحبار يهود، كنا أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الان نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكثيرا ما نسمع ذلك منهم. فلمّا بعث الله رسوله محمدا ﷺ أجبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فامنا وكفروا، وإنما قال لهم اليهود: نقتلكم معه قتل عاد وإرم لأن من صفته ﵊ في كتبهم أن هذا النبي يستأصل المشركين بالقوة، ولم يكونوا يظنون أن الحسد والبغي سيتمكنان من أفئدتهم فينبذون الدين القيم فيحقّ عليهم العذاب في الدنيا والاخرة. وكان أمية بن أبي الصلت «٤» المتنصر العربي كثيرا ما يقول: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا. وحدّث سلمان الفارسي ﵁ عن نفسه أنه صحب قسيسا «٥»
(١) اية ٦.
(٢) اية ٣- ٤.
(٣) ترجم إلى العربية وهو الان مطبوع بمصر، المؤلف.
(٤) قاله ابن اسحاق.
(٥) صاحب عمورية، والذين صحبوا سلمان من النصارى كانوا على الحق على دين عيسى بن مريم وكانوا بضعة عشر. وفي البخاري تداول سلمان بضعة عشر من رب إلى رب.
فكان يقول له: يا سلمان إن الله يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من جبال تهامة، علامته أن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وهذا الحديث كان من أسباب إسلام سلمان. ولما راسل ﵊ ملوك الأرض لم يهن كتابه إلّا كسرى الذي ليس عنده علم من الكتاب، وأما جميع ملوك النصارى كالنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وقيصر ملك الروم، فأكرموا وفادة رسله. ومنهم من امن كالنجاشي، ومنهم من ردّ ردّا لطيفا وكاد يسلم لولا غلبة الملك كقيصر، ومنهم من هادى كالمقوقس ولم يكن ﵇ في قوّة يرهب بها هؤلاء الملوك اللهم ما ذاك إلّا لأنهم يعلمون أن المسيح ﵊ بشّر برسول يأتي من بعده. ووافقت صفات رسولنا ما عندهم فأجابوا بالتي هي أحسن، وأما ما سمع من الهواتف والكهان قبيل زمنه فهو ما لا يدخل تحت حصر.. وليس بعد ما ذكرته لك زيادة لمستكثر. ومع ذلك كله فالأعمال التي جاد الله بها على يديه والأقوال التي أتانا بها أعظم مقوّ لحجته ومؤيد لدعوته. وسيأتي عليك بيان ذلك كله بأجلى بيان فتأمله ترشد هداك الله إلى الصراط السويّ.

بدء الوحي
لما بلغ ﵊ سن الكمال وهي أربعون سنة «١» أرسله الله للعالمين بشيرا ونذيرا ليخرجهم من ظلمات الجهالة إلى نور العلم وكان ذلك في أول فبراير سنة ٦١٠ من الميلاد كما أوضحه المرحوم محمود باشا الفلكي تبيّن بعد دقّة البحث أن ذلك كان في ١٧ رمضان سنة ١٣ قبل الهجرة وذلك يوافق يوليو سنة ٦١٠ وأول ما بدىء به الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح «٢» وذلك لما جرت به عادة الله في خلقه من التدريج في
(١) وفي الفتح: فعلى الصحيح المشهور أنه مولود في ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وفي حديث رواه الشيخان والترمذي أنه بعث لأربعين سنة، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.
(٢) الرؤيا كانت قبل نزول جبريل على النبي ﷺ بالقران وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي ﷺ جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به لأن أمر النبوّة عظيم، وعبؤها ثقيل والبشر ضعيف وكان نزول الوحي عليه ﷺ في أحوال مختلفة فمنها النوم ومنها أن ينفث في روعه الكلام ومنها في مثل صلصلة الجرس ومنها أن يمثل له الملك رجلا ومنها أن يتراءى له جبريل في صورته ومنها أن يكلمه الله من وراء حجاب إما في اليقظة كما كان في ليلة الإسراء وإما في النوم فهي ستة أحوال. وفلق الصبح: أي كضبائه وإنارته.
الأمور كلها حتى تصل إلى درجة الكمال. ومن الصعب جدا على البشر تلقّى الوحي من الملك لأول مرة، ثم حبّب إليه ﵊ الخلاء «١» ليبتعد عن ظلمات هذا العالم وينقطع عن الخلق إلى الله فإن في العزلة صفاء السريرة.
وكان يخلو بغار حراء «٢» فيتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرا. وتارة أكثر إلى شهر. وكانت عبادته على دين أبيه إبراهيم ﵊ ويأخذ لذلك زاده، فإذا فرغ رجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء: فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، فإنه ﵊ أمي لم يتعلم القراءة قبلا. فأخذه فغطه «٣» بالنمط الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ «٤» قال: ما أنا بقارىء، فأخذه فغطّه ثانية ثم أرسله، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء، فأخذه فغطه الثالثة، ثم أرسله فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «٥» فرجع بها ﵊ يرجف فؤاده ممّا ألمّ به من الرّوع «٦» الذي استلزمته مقابلة الملك لأول مرة فدخل على خديجة زوجه، فقال: زمّلوني «٧» زمّلوني، لتزول عنه هذه القشعريرة «٨» فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي «٩» لأن الملك غطّه حتى كاد يموت، ولم يكن له ﵊ علم قبل ذلك
(١) الانفراد.
(٢) جبل على مقربة من مكة. المؤلف. والغار ثقب فيه، وهو أول موضع نزل فيه القران.
(٣) ذكر السهيلي أن الغط ثلاث إشارة إلى أن النبي ﷺ يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له التدرج بعد ذلك، فكانت الأولى ادخال قريش له ﷺ في الشعب والتضييق عليه، والثانية، اتفاقهم على الاجتماع على قتله، والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه. فغطه ضمه وعصره.
(٤) (اقرأ) هو أول ما نزل عليه من القران وهو الصواب الذي عليه جمهور السلف والخلف.
(٥) سورة الفلق اية ٦.
(٦) الفزع.
(٧) لفوني في ثوبي (المؤلف) (من شدة ما حصل له، وعادة ما تخف الرعدة بالتلفف) .
(٨) أي رعدة.
(٩) تكلم العلم في هذه الخشية منها أي خشيتها ألا أنهض بأعباء النبوة وأن أضعف عنها فذهب أبو بكر الاسماعيلي إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم بأن الذي جاءه ملك من عند الله، وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه: مجنون.
بجبريل ولا بشكله فقالت: كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم «١» وتقري الضيف «٢» وتعين على نوائب الحق «٣»، فلا يسلط الله عليك الشياطين والأوهام ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك، ولتتأكّد خديجة مما ظنته أرادت أن تتثبت ممّن لهم علم بحال الرّسل ممن اطّلعوا على كتب الأقدمين، فانطلقت به حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، وكان أمرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي «٤»، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك «٥»، فقال يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره ﵊ خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس «٦» الذي نزّل الله على موسى، لأنه يعرف أن رسول الله إلى أنبيائه هو جبريل، ثم قال: يا ليتني فيها جذعا (شابا جلدا) إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها لمعاداتهم إيّاك وكراهيتهم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقادات وجدوا عليها اباءهم، فاستغرب ﵊ ما نسب مع ما يعلمه من حبّهم له لاتّصافه بمكارم الأخلاق وصدق القول حتى سمّوه الأمين، وقال: أو مخرجيّ هم «٧»؟ قال: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي. وقد نطق بذلك القران الكريم. قال تعالى في سورة إبراهيم
(١) الذي لا مال له.
(٢) أي تهيء له الضيافة.
(٣) شدائد الأمور.
(٤) وهم أربعة تفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين ابراهيم ورقه بن نوفل وعبيد الله بن جحش أسلم ثم هاجر إلى الحبشة مع امرأته حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فتنصر وعثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر زيد بن عمر وبن نفيل وكان على ملة ابراهيم وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق ﵁ قالت رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيى المؤودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أكفيك مؤنتها، فيأخذها رواه البخاري وقد ثبت إيمان ورقة بمحمد ﷺ وقد ورد في حديث الترمذي أن رسول الله ﷺ أوتي المنام وعليه ثياب بيض إلى اخر الحديث.
(٥) قالت ذلك على سبيل الاحترام.
(٦) صاحب الوحي أي هو جبريل ﵇ وهو صاحب سر الملك.
(٧) لا بد من تشديد الياء في مخرجي لأنه جمع الأصل مخرجوي فأدغمت الواو في الياء قال في المواهب واصله مخرجون حذفت اللام تخفيفا ونون الجمع للاضافة إلى ياء المتكلم، فصار: أو مخرجوي اجتمعت الواو والياء وسبقت الواو السكون فكانت ياء ثم أدغمت في ياء المتكلم وقلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا «١» ولتمام تصديق ورقة برسالة الرسول الأكرم ﵊ قال: وأن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا «٢» (معضدا) ثم لم يلبث ورقة أن توفي.

فترة الوحي «٣»
وفتر الوحي مدّة لم يتّفق عليها المؤرخون، وأرجح أقوالهم فيها أربعون يوما، ليشتدّ شوق الرسول ﷺ للوحي، وقد كان، فإن الحال اشتدّ به ﵊ حتى صار كلّما أتى ذروة جبل بدا له أن يرمي نفسه منها حذرا من قطيعة الله له بعد أن أراه نعمته الكبرى، وهي اختياره لأن يكون واسطة بينه وبين خلقه، فيتبدّى له الملك قائلا: أنت رسول الله حقا، فيطمئن خاطره ويرجع عما عزم عليه، حتى أراد الله أن يظهر للوجود نور الدين فعاد إليه الوحي.

عود الوحي
فبينما هو يمشي إذ سمع صوتا من السماء فرفع إليه بصره، فإذا الملك الذي جاءه بحراء جالس بين السماء والأرض، فرعب منه لتذكر ما فعله في المرة الأولى فرجع وقال: دثروني دثروني، فأنزل الله تعالى عليه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عن غيّهم وما كان يعبد اباؤهم وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ خصه بالتعظيم ولا تشرك معه في ذلك غيره وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ لتكون مستعدا للوقوف بين يدي الله إذ لا يليق بالمؤمن أن يكون مستقذرا نجسا وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اهجر أسباب الرّجز وهو العذاب بأن تطيع الله وتنفذ أمره وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ولا تهب أحدا هبة وأنت تطمع أن تستعيض من الموهوب أكثر مما وهبت، فهذا ليس من شأن الكرام وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ «٤» على ما سيلحقك من أذى قومك حينما
(١) اية (١٣) .
(٢) شديدا.
(٣) أي عدم نزوله على الرسول ﵊. وكانت مدة الفترة هذه سنتين، أو سنتين ونصفا. فمن هنا يتفق ما قاله أنس بن مالك أن مكثه بمكة كان عشر سنين، وقول ابن عباس ثلاث عشرة سنة، وكان قد ابتدئ بالرؤيا الصادقة ستة أشهر فمن عد مدة الفترة، وأضاف إليه الأشهر التي كانت كما قال ابن عباس، ومن عدها من حين حمي الوحي وتتابع كما في حديث جابر كانت عشر سنين.
(٤) سورة المدثر لايات ١- ٧.
تدعوهم إلى الله..

الدعوة سرا
فقام ﵊ بالأمر ودعا لعبادة الله أقواما جفاة لا دين لهم، إلّا أن يسجدوا لأصنام لا تنفع ولا تضرّ، ولا حجة لهم إلّا أنهم متّبعون لما كان يعبد اباؤهم، وليس عندهم من مكارم الأخلاق إلّا ما كان مرتبطا بالعزّة والأنفة وهو الذي كان كثيرا ما كان سببا في الغارات والحروب وإهراق الدماء فجاءهم رسول الله بما لا يعرفونه. فذوو العقول السليمة بادروا إلى التصديق وخلع الأوثان، ومن أعمته الرياسة أدبر واستكبر كيلا تسلب منه عظمته.
وكان أول من سطع عليه نور الإسلام خديجة بنت خويلد زوجه «١» وعلي ابن أبي طالب ابن عمه «٢» وكان مقيما عنده يطعمه ويسقيه ويقوم بأمره، لأن قريشا كانوا قد أصابوا مجاعة وكان أبو طالب مقلا كثير الأولاد، فقال ﵊ لعمه العباس بن عبد المطلب: إن أخاك أبا طالب كثير العيال، والناس فيما ترى من الشدّة، فانطلق بنا لنخفّف من عياله تأخذ واحدا وأنا واحدا، فانطلقا وعرضا عليه الأمر، فأخذ العباس جعفر بن أبي طالب، وأخذ ﵊ عليّا، فكان في كفالته كأحد أولاده إلى أن جاءت النبوّة وقد ناهز الاحتلام، فكان تابعا للنبي في كل أعماله، ولم يتدنس بدنس الجاهلية من عبادة الأوثان واتباع الهوى، وأجاب أيضا زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي مولاه ﵊، وكان يقال له زيد بن محمّد، لأنه لما اشتراه أعتقه وتبنّاه، وكان المتبنى معتبرا كابن حقيقي يرث ويورث، وأجابت أيضا أم أيمن حاضنته التي زوجها لمولاه زيد. وأول من أجابه من غير أهل بيته أبو بكر بن أبي قحافة بن
(١) فهي أول الناس إيمانا على الاطلاق.
(٢) أسلم علي ﵁ وهو ابن عشر سنين ويقص ابن اسحق كيفية اسلامه فيقول: كان علي عند النبي، فجاء بعد ذلك بيوم والنبي يصلي مع خديجة، فقال علي: يا محمد ما هذا؟ قال رسول الله ﷺ: دين الله الذي اصطفاه لنفسه، وبعث به رسله فأدعوك إلى الله واحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى. فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب. فكره رسول الله ﷺ أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره. فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم. فمكث علي تلك الليلة ثم أن الله أوقع في قلبه الاسلام.
عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة التيمي القرشي «١» كان صديقا لرسول الله ﷺ قبل النبوّة يعلم ما اتّصف به من مكارم الأخلاق ولم يعهد عليه كذبا منذ اصطحبا، فأوّل ما أخبره برسالة الله أسرع بالتصديق «٢» وقال: بأبي أنت وأمي، أهل الصدق أنت، أشهد ألاإله إلّا الله وأنك رسول الله، كان ﵁ صدرا معظّما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق، وكان من أعفّ الناس، سخيا، يبذل المال، محبّبا في قومه حسن المجالسة، ولذلك كله كان من رسول الله ﷺ بمنزلة الوزير، فكان يستشيره في أموره كلها، وقال في حقه: (ما دعوت أحد إلى الإسلام إلّا كانت له كبوة غير أبي بكر) «٣» . وكانت الدعوة إلى الإسلام سرّا حذرا من مفاجأة العرب بأمر شديد كهذا، فيصعب استسلامهم فكان ﵊ لا يدعو إلّا من يثق به. ودعا أبو بكر إلى الإسلام من يثق به من رجال قريش، فأجابه جمع منهم:
عثمان بن عفّان «٤» بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، ولمّا علم عمه الحكم بإسلامه، أوثقه كتافا وقال: ترغب عن دين ابائك إلى دين مستحدث!!! والله لا أحلّك حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه ولا أفارقه. فلمّا رأى الحكم صلابته في الحقّ تركه، وكان كهلا يناهز الثلاثين من عمره.
(ومنهم): الزبير بن العوام «٥» بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشي، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وكان عم الزبير يرسل الدخان عليه وهو
(١) ولد أبو بكر سنة ٥٧٣ م، وهو أوّل الخلفاء الراشدين وصاحب رسول الله ﷺ في الغار والهجرة، كني بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة وكانت له في الإسلام مواقف رفيعة منها قصته ليلة الاسراء وهجرته مع رسول الله ﷺ ثم كلامه يوم الحديبة ثم ثباته في وفاة رسول الله ﷺ ثم اهتمامه وثباته في بعث جيش أسامة، ثم قيامه في قتال أهل الردة ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام وأجل فضائله وهو استخلافه على المسلمين عمر بن الخطاب وكم للصديق مواقف عظيمة لا يحصيها إلا الله.
(٢) كان من أسباب توفيق الله إياه- فيما ذكر رؤيا راها قبل ذلك، وذلك أنه رأى القمر ينزل إلى مكة، ثم راه قد تفرق على جميع منازل مكة وبيوتها، فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كأنه جمع في حجره، فنصها على بعض الكتابيين، فعبرها له بأن النبي المنتظر الذي قد أظل زمانه تتبعه.
(٣) أخرجه ابن الأثير الجزري في جامع الأصول من زيادات رزين بن معاوية في فضائل أبي بكر.
(٤) ولد في السنة السادسة بعد الفيل، هاجر إلى الحبشة مع زوجته رقية، ولم يشهد بدرا لتخلّفه على تمريض زوجته رقية بأمر الرسول ﵊. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.
(٥) ولد هو وعلي وطلحة وسعد في عام واحد. وقتل ﵀ في موقعة الجمل وكان عمره سبعا وستين سنة.
مقيد ليرجع إلى دين ابائه فقواه الله بالثبات وكان شابا لا يتجاوز سن الاحتلام.
(ومنهم): عبد الرحمن بن عوف «١» بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الهاشمي، وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسمّاه ﵊ عبد الرحمن.
(ومنهم): سعد بن أبي وقاص «٢» مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي. ولما علمت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بإسلامه قالت له:
يا سعد بلغني أنك قد صبأت «٣» فو الله لا يظلّني سقف من الحر والبرد وإنّ الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمّد، وبقيت كذلك ثلاثة أيام فجاء سعد إلى رسول الله ﷺ وشكا إليه أمر أمّه فنزل في ذلك تعليما، قول الله تعالى في سورة العنكبوت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «٤» وصاه جلّ ذكره بوالديه وأمره بالإحسان إليهما مؤمنين كانا أو كافرين، أما إذا دعواه للإشراك فالمعصية متحتمة.
لأن كل حق، وإن عظم، ساقط هنا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق «٥»: ثم قال: إليّ مرجعكم من امن منكم ومن أشرك فأجازيكم حق جزائكم. وفي ختام هذه الاية فائدتان: التنبيه على أن الجزاء إلى الله فلا تحدّث نفسك بجفوتهما لإشراكهما، والحضّ على الثبات في الدين لئلا ينال شرّ جزاء في الاخرى.
(ومنهم): طلحة بن عبيد الله «٦» بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم
(١) ولد بعد عام الفيل بعشر سنين وكان من السابقين الأولين وقد جمع الهجرتين جميعا، شهد بدرا والمشاهد كلها ومن مناقبه أن الرسول ﷺ صلى وراءه في غزوة تبوك حين أدركه وجرح يوم أحد إحدى وعشرين جراحة، وقد تصدق على عهد الرسول بشطر ماله، وتوفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين ودفن بالبقيع. وهو ابن اثنين وسبعين.
(٢) يكنى بأبي اسحق وهو أحد العشرة، دعا له النبي ﷺ أن يسدد سهمه وأن تجاب دعوته. وفي الحديث أن رسول الله ﷺ قال: احذروا دعوة سعد، مات في خلافة معاوية.
(٣) خرج من دين إلى دين اخر.
(٤) اية (٨) .
(٥) من حديث رواه أحمد والحاكم عن عمران بن حصين.
(٦) يكنى أبا محمد الفياض، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وهو من المهاجرين الأولين ولم يشهد بدرا ولكن ضرب له رسول الله بسهم وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد وكان أبو بكر ﵁ إذا ذكر أحدا قال: ذلك يوم كان كله لطلحة، قتل يوم الجمل، وكان عمره أربعا وستين سنة، ودفن بالبصرة.
بن مرة التيمي القرشي وقد كان عرف من الرهبان ذكر الرسول ﷺ وصفته، فلما دعاه أبو بكر وسمع من رسول الله ما نفعه الله به، ورأى الدين متينا بعيدا عمّا عليه العرب من المثالب «١» بادر إلى الإسلام.
(وممن) سبقوا إلى الإسلام: صهيب الرومي «٢» وكان من الموالي وعمّار بن ياسر العنسي «٣» وقد قال ﵁: رأيت رسول الله ﷺ وما معه إلّا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر، وكذلك أسلم أبوه ياسر وأمه سمية.
ومن السابقين الأولين: عبد الله بن مسعود «٤» كان يرعى الغنم لبعض مشركي قريش، فلمّا رأى الايات الباهرة وما يدعو إليه الإسلام من مكارم الأخلاق، ترك عبادة الأوثان ولزم رسول الله، وكان ﵁ كثير الدخول على الرسول لا يحجب، ويمشي أمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلبسه نعليه إذا قام، فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه.
ومن السابقين الأولين: أبو ذر الغفاري «٥» وكان من أعراب البادية فصيحا حلو الحديث، ولما بلغه مبعث رسول الله قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم مكة وسمع من قول الرسول ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاما ما هو بالشعر، فقال: ما
(١) العيوب.
(٢) كناه الرسول أبا يحيى وكان ممن لاقوا العذاب بعد إسلامهم، وقد افتدى نفسه بماله أجمع حين منعته قريش من الهجرة.
(٣) كنيته أبو اليقطان، وكان هو وأبوه وأمه سمية ممن أسلم أولا وأسلم بعد بضعة وثلاثين رجلا. وهاجر مع رسول الله إلى المدينة وشهد بدرا وأحدا والخندق وجميع المشاهد وكان أول من بنى مسجدا، وشهد قتال اليمامة واستعمله عمر على الكوفة، قتل بصفين مع علي وأوصى أن يدفن بثيابه فدفن وهو ابن ثلاث وتسعين سنة.
(٤) كان قصيرا جدا، خفيف اللحم، دقيق الرجلين، وقد هاجر وشهد سائر المشاهد مع رسول الله وشهد اليرموك، وشهد له رسول الله ﷺ بالجنة، وهو صاحب نعل رسول الله ﷺ كان يلبسه إياها، وكان كثير الولوج على رسول الله ﷺ، وكان يعرف بصاحب السواد والسواك والنعل توفي بالمدينة ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وستين سنة.
(٥) اسمه جندب وثبت في مسلم أنه قدم إلى رسول الله ﷺ في أوّل الإسلام، وأنه أقام بمكّة ثلاثين وأسلم ثم رجع إلى قومه ثم هاجر إلى المدينة وصحبه حتى توفي بالربذة سنة ٣٢ هجرية وصلى عليه ابنه مسعود.
شفيتني مما أردت. فتزوّد وحمل قربة له فيها ماء، حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبي ﷺ ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه لما يعرفه من كراهة قريش لكل من يخاطب رسول الله؛ حتى إذا أدركه الليل راه عليّ فعرف أنه غريب فأضافه عنده، ولم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء (على قاعدة الضيافة عند العرب لا يسأل الضيف عن سبب قدومه إلّا بعد ثلاث) فلمّا أصبح احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظلّ ذلك اليوم ولا يراه الرسول حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليّ فقال: أما ان للرجل أن يعرف منزله الذي أضيف به بالأمس؟ فأقامه، فذهب معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث عاد عليّ مثل ذلك، ثم قال له علي ألا تحدّثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حق وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء «١»، فإن مضيت فاتّبعني حتى تدخل مدخلي ففعل. فانطلق يتبع أثره حتى دخل على النبي، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي ﷺ: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، قال: والذي نفسي بيده لأصرخنّ بها بين ظهرانيهم «٢» . فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته أشهد ألاإله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، فقام القوم فضربوه حتى أضجعوه «٣»، وأتى العباس فأكبّ عليه وقال: ويلكم أولستم تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليه! فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكبّ العباس عليه (رواه البخاري) «٤» . كان ﵁ من أصدق الناس قولا وأزهداهم في الدنيا.
ومن السابقين: سعيد بن زيد العدوي القرشي «٥» وزوجه فاطمة بنت الخطاب
(١) أي وقفت بجوار الحائط كأني أبول.
(٢) أي لأجهرنّ بكلمة التوحيد في مجمعهم.
(٣) أي ألقوه في الأرض.
(٤) رواه أيضا مسلم.
(٥) هو من المهاجرين الأولين، وإسلامه قبل عمر بن الخطاب، وكان إسلام عمر عنده في بيته، ولم يشهد بدرا لأنه كان غائبا بالشام، قدم منها عقب غزوة بدر، فضرب له رسول الله ﷺ بسهمه وأجرّه، وشهد اليرموك وحصار دمشق، وكان مجاب الدعوة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، توفي بأرضه بالعقيق، ودفن بالمدينة في أيام معاوية سنة خمس وخمسين وهو ابن بضع وسبعين سنة.
أخت عمر، وأم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف بن عم رسول الله ﷺ «١» وأبو سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي القرشي «٢» ابن عمة رسول الله ﷺ، وزوجة أم سلمة، وعثمان بن مظعون الجمحي القرشي «٣» وأخواه قدامة، وعبد الله، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي القرشي «٤»
ومن السابقين الأولين: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي «٥» كان أبوه سيد قريش إذا اعتمّ لم يعتمّ قرشي إجلالا له، وكان خالد بن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية، فأدركه رسول الله وخلّصه منها فجاء إليه وقال: إلام تدعو يا محمّد؟ قال: أدعوك إلى عبادة الله واحده لا شريك له، وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع، والإحسان إلى والديك، وألاتقتل ولدك خشية الفقر، وألاتقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن، وألاتقتل نفسا حرّم الله إلا بالحق. وأن لا تقرب مال اليتيم إلّا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه. وأن توفي الكيل والميزان بالقسط، وأن تعدل في قولك ولو حكمت على ذوي قرباك. وأن توفي لمن عاهدت، فأسلم ﵁، وحينئذ غضب عليه أبوه واذاه حتى منعه القوت، فانصرف إلى رسول الله ﷺ فكان يلزمه ويعيش معه، ويغيب عن أبيه في ضواحي مكة. وأسلم بعده أخوه عمرو بن سعيد. وهكذا دخل هؤلاء الأشراف في دين الإسلام، ولم يكن مع رسول الله ﷺ سيف يضرب به أعناقهم حتى يطيعوه
(١) يكنى أبا الحرث وكان إسلامه قبل دخول رسول الله ﷺ دار الأرقم بن أبي الأرقم وكانت هجرته مع أخويه الطفيل والحصين وكان له قدر ومنزلة عند رسول الله ﷺ وشهد بدرا وأبلى بلاء حسنا وكان أسن المسلمين يومئذ وقطع عتبة بن ربيعة رجله فمات بالصفراء على أثرها وكان عمره ثلاثا وستين سنة.
(٢) أحد السابقين فكان الحادي عشر من المسلمين هاجر مع زوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة شهد بدرا وكان أخا رسول الله ﷺ من الرضاعة، واستخلفه رسول الله ﷺ على المدينة حين خرج إلى غزوة العشيرة، وتوفي أبو سلمة سنة ثلاث من الهجرة.
(٣) من السابقين والمهاجرين الأولين في الإسلام توفي بعد شهوده بدرا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأوّل من دفن بالبقيع منهم.
(٤) أسلم بعد عشرة، وكانت داره بمكة على الصفا، وكان النبي ﷺ في داره حتى بلغوا الأربعين توفي سنة خمس وخمسين هـ.
(٥) ممن هاجر إلى أرض الحبشة، وشهد عمرة القضية وما بعدها، واستعمله النبي ﷺ على صدقات مذحج، واستشهد يوم مرج الصفر والله أعلم.
صاغرين، وليس معه ما يرغب فيه حتى يترك هؤلاء العظماء اباءهم وذوي الثروة منهم ويتبعوا الرسول ليأكلوا من فضل ماله، بل كان الكثير منهم واسع الثروة أكثر منه ﵊ كأبي بكر وعثمان وخالد بن سعيد وغيرهم. والذين اتّبعوه من الموالي اختاروا الأذى والجوع والمشقّات مع اتّباع الرسول، بحيث لو اتّبعوا سادتهم لكانوا في هذه الدنيا أهدأ بالا وأنعم عيشة، اللهمّ ليس ذلك إلّا من هداية الله وسطوع أنوار الدين عليهم، حتى أدركوا ما هم عليه من الضلالة وما عليه رسول الله من الهدى

الجهر بالتبليغ
مضت كل هذه المدة والنبي ﵊ لا يظهر الدعوة في مجامع قريش العمومية، ولم يكن المسلمون يتمكّنون من إظهار عبادتهم حذرا من تعصب قريش. فكان كلّما أراد العبادة ذهب إلى شعاب مكة يصلي مستخفيّا. ولمّا دخل في الدين ما يربو على الثلاثين، وكان من اللازم اجتماع الرسول بهم ليرشدهم ويعلمهم، اختار لذلك دار الأرقم بن أبي الارقم وهو ممن ذكرنا اسلامهم- ومكث ﵊ يدعو سرّا حتى نزل قوله تعالى في سورة الحجر فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «١» فبدّل الدعوة سرا بالدعوة جهرا ممتثلا أمر ربه واثقا بوعده ونصره، فصعد على الصفا «٢» فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر الخبر، فجاء أبو لهب بن عبد المطلب قريشا، فقال ﵊: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله في شأنه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «٣» والقصد من حمل الحطب المشي بالنميمة لأنها كانت تقول على رسول
(١) اية ٩٤.
(٢) مكان مرتفع من جبل أبي قبيس بمكة.
(٣) رواه الإمام أحمد عن ابن عباس وهي سورة المسد.
الله الأكاذيب في نوادي النساء. ثم نزل عليه في سورة الشعراء وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «١» وهم بنو هاشم وبنو المطلب وبنو نوفل وبنو عبد شمس أولاد عبد مناف وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ أي العشيرة والأقربون فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ فجمعهم ﵊ وقال لهم: إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلّا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان احسانا وبالسوء سوا، وأنها لجنة أبدا أو لنار أبدا «٢» . فتكلّم القوم كلاما ليّنا غير عمه أبي لهب الذي كان خصما لدودا فإنه قال: خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب، فإن سلمتوه إذا اذللتم، وأن منعتموه قتلتم، فقال أبو طالب: والله لنمنعنّه ما بقينا، ثم انصرف الجمع.
ولمّا جهر رسول الله ﵊ بالدعوة سخرت منه قريش واستهزؤوا به في مجالسهم، فكان إذا مرّ عليهم يقولون: هذا ابن أبي كبشة يكلّم من السماء! وهذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء لا يزيدون على ذلك، فلمّا عاب الهتهم وسفّه عقولهم وقال لهم: والله يا قوم لقد خالفتم دين أبيكم إبراهيم، ثارت في رؤوسهم حمية الجاهلية غيرة على تلك الالهة التي كان يعبدها اباؤهم فذهبوا «٣» إلى عمه أبي طالب سيد بني هاشم الذي أخذ على نفسه حمايته من أيدي أعدائه فطلبوا منه أن يخلي بينهم وبينه أو يكفّه عما يقول، فردّهم ردّا جميلا فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله لما يريده لا يصدّه عن مراده شيء، فتزايد الأمر، وأضمرت قريش الحقد والعداوة لرسول الله ﷺ، وحثّ بعضهم بعضا على ذلك.
ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وقالوا له: إن لك سنّا وشرفا ومنزلة منّا، وإنا قد طلبنا منك أن تنهي ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنّا والله لا نصبر على هذا
(١) اية ٢١٤- ٢١٥- ٢١٦.
(٢) رواه الشيخان.
(٣) وهم عتبة وشيبة وأبو سفيان والعاص بن هشام والأسود بن عبد المطلب وأبو جهل والوليد بن المغيرة ونبيه ومنبّه والعاص بن وائل السهمي.
من شتم ابائنا، وتسفيه عقولنا، وعيب الهتنا فإنهم كانوا إذا احتجوا بالتقليد في استمرارهم على عدم اتّباع الحقّ ذمّهم لعدم استعمال عقولهم فيما خلقت له قال الله تعالى في سورة البقرة وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ «١» وقال في سورة المائدة وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ «٢» وقال في سورة لقمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ «٣» وقال في سورة الزخرف في بيان حجتهم الداحضة قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «٤» ولما شبههم بمن قبلهم من الأمم في هذه المقالة الدالة على التعصب والعناد قال: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «٥» فلمّا تمسكوا بحجة التقليد لابائهم جرّ ذلك إلى وصف ابائهم بعدم العقل وعدم الهداية، فهاج ذلك أضغانهم «٦»، وقالوا لأبي طالب: إما أن تكفّه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا فعظم على أبي طالب فراق قومه ولم يطب نفسا بخذلان ابن أخيه، فقال له: يا ابن أخي إن القوم جاؤوني فقالوا لي كذا، فأبق على نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظنّ الرسول أن عمّه خاذله فقال: والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلت حتى يظهره الله أو أهلك دونه، ثم بكى وولى. فقال أبو طالب: أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال: اذهب فقل ما أحببت والله لا أسلمك «٧» .
(١) اية ١٧٠.
(٢) اية ١٠٤.
(٣) اية ٢١.
(٤) اية ٢٣.
(٥) سورة الزخرف الاية ٢٤.
(٦) أحقادهم.
(٧) رواه البيهقي في دلائل النبوة.
الإيذاء
ورأى رسول الله من المشركين كثير الأذى وعظيم الشدّة، خصوصا إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت، وكان من أعظمهم أذى لرسول الله جماعة سمّوا لكثرة أذاهم بالمستهزئين.
فأولهم وأشدهم: أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي قال يوما: يا معشر قريش إن محمّدا قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم الهتكم، وتسفيه أحلامكم، وسبّ ابائكم، إني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلمّا أصبح أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا ﵊ كما كان يغدو إلى صلاته، وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلمّا سجد ﵊ احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا «١» لونه من الفزع، ورمى حجره من يده، فقام إليه رجال من قريش فقالوا:
ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلمّا دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، والله ما رأيت مثله قطّ همّ بي أن يأكلني! فلمّا ذكر ذلك لرسول الله قال: ذاك جبريل ولو دنا لأخذه «٢» . وكان أبو جهل كثيرا ما ينهى الرسول عن صلاته في البيت فقال له مرّة بعد أن راه يصلي: ألم أنهك عن هذا، فأغلظ له رسول الله القول وهدّده، فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا «٣»، فأنزل الله تهديدا له في اخر سورة اقرأ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ «٤» ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد الله بن مسعود من رواية البخاري قال: كنا مع رسول الله في المسجد وهو يصلي، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى فرث «٥» جزور بني فلان فيلقيه على محمّد وهو
(١) متغيرا.
(٢) رواه مسلم.
(٣) رواه أحمد والترمذي. والنسائي وابن جرير، وهذا لفظه من طريق داود ابن أبي هند وقال الترمذي: حسن صحيح.
(٤) اية ١٩.
(٥) الكرش.
ساجد؟ فقام عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي ﷺ وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على القائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل ﵊ ساجدا حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته. فلمّا قام دعا على من صنع هذا الصنع القبيح فقال: اللهمّ عليك الملأ من قريش وسمّى أقواما «١»، قال ابن مسعود: فرأيتهم قتلوا يوم بدر «٢» . ومما حصل لرسول الله مع أبي جهل أنّ هذا ابتاع «٣» أجمالا من رجل يقال له: الإراشي فمطله بأثمانها فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على أخذ ماله فدلوه على رسول الله لينصفه من أبي جهل استهزاء لما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول، فتوجّه الرجل إليه وطلب منه المساعدة على أبي جهل فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال محمّد: فخرج منتقعا لونه فقال له الرسول: أعط هذا حقه، فقال أبو جهل: لا تبرح حتى تأخذه، فلم يبرح الرجل حتى أخذ دينه، فقالت قريش:
ويلك يا أبا الحكم ما رأينا مثل ما صنعت! قال: ويحكم والله ما هو إلّا ضرب على بابي حتى سمعت صوتا فملئت منه رعبا، وأن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله «٤» .
ومن جماعة المستهزئين: أبو لهب بن عبد المطلب عم رسول الله كان أشدّ عليه من الأباعد، فكان يرمي القذر على بابه لأنه كان جارا له، فكان الرسول يطرحه ويقول: يا بني عبد مناف أيّ جوار هذا، وكانت تشاركه في قبيح عمله زوجه أمّ جميل بنت حرب بن أمية، فكانت كثيرا ما تسبّ رسول الله، وتتكلّم فيه بالنمائم، وخصوصا بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب.
ومن المستهزئين: عقبة بن أبي معيط كان الجار الثاني لرسول الله وكان يعمل معه كأبي لهب، صنع مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول الله فقال عليه
(١) وعين في دعائه سبعة وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم: وهم عتبة وأخوه شيبة والوليد بن عتبة وأبو جهل، وعقبة بن أبي معيط، وأمية ابن خلف. قال ابن اسحاق: ونسيت السابع قلت: وهو عمارة ابن الوليد وقع تسميته في صحيح البخاري.
(٢) وقد رواه البخاري في مواضع متعدّدة من صحيحه.
(٣) أي اشترى.
(٤) رويت هذه القصة عن يونس بكير عن محمد بن اسحق عن عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي.
الصلاة والسلام: والله لا اكل طعامك حتى تؤمن بالله، فتشهّد، فبلغ ذلك أبي بن خلف الجمحي القرشي، وكان صديقا له فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال لا شيء، دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له. قال أبيّ: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمّدا فلم تطأ عنقه، وتبزق في وجهه، وتلطم عينه، فلمّا رأى عقبة رسول الله فعل به ذلك فأنزل الله فيه سورة الفرقان وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا «١» ومن أشد ما صنعه ذلك الشقي برسول الله ما رواه البخاري في صحيحه قال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي ﷺ وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ «٢» .
ومن جماعة المستهزئين العاص بن وائل السهمي القرشي والد عمرو بن العاص، كان شديد العداوة لرسول الله، وكان يقول: غرّ محمّد أصحابه أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلّا الدهر، فقال الله ردا عليه في دعواه في سورة الجاثية: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «٣» . وكان عليه دين لخبّاب بن الأرتّ أحد رجال المسلمين «٤»
فتقاضاه إياه فقال العاص: أليس يزعم محمّد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما يبتغي أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب: بلى، قال:
فأنظرني إلى هذا اليوم فسأوتى مالا وولدا وأقضيك دينك، فأنزل الله فيه في سورة مريم: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ
(١) اية ٢٧- ٢٩.
(٢) رواه البخاري عن عروة بن الزبير سألت ابن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ﷺ الرواية.. قال البيهقي: وكذلك رواه سليمان عن بلال بن هشام عن عروة كما رواه عبدة، وهذه الاية من سورة المؤمن اية ٢٨.
(٣) اية ٢٤.
(٤) سبي في الجاهلية فبيع بمكة، وكان من السابقين الأولين وممن تعذّب في الله، وكان سادس ستة في الإسلام، ثم شهد المشاهد كلّها، نزل الكوفة، ومرض مرضا شديدا طويلا، ومات بها سنة سبع وثلاثين، وعاش ثلاثا وسبعين سنة.
الرَّحْمنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْدًا «١» .
ومن جماعة المستهزئين: الأسود بن عبد يغوث الزهري القرشي من بني زهرة أخوال رسول الله كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول قد جاءكم ملوك الأرض استهزاء بهم لأنهم متقشفين: ثيابهم رثة، وعيشهم خشن، وكان يقول لرسول الله سخرية: أما كلمات اليوم من السماء؟
ومنهم: الأسود بن عبد المطلب الأسدي ابن عم خديجة كان هو وشيعته إذا مرّ عليهم المسلمون يتغامزون وفيهم نزل في سورة التطفيف إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ «٢» .
ومنهم: الوليد بن المغيرة عم أبي جهل، كان من عظماء قريش وفي سعة من العيش سمع القران مرة من رسول الله ﷺ، فقال لقومه بني مخزوم: والله لقد سمعت من محمّد انفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإنّ له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وأن أسفله لمغدق، وأنه يعلو وما يعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتصبأنّ قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فتوجه وقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمّدا مجنون فهل رأيتموه يهوّس؟ وتقولون أنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟
وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قطّ؟ وتزعمون أنه كذّاب فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك اللهمّ لا، ثم قالوا فما هو؟ ففكر قليلا ثم قال: ما هو إلّا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فارتج النادي فرحا «٣» فأنزل الله في شأن الوليد في سورة المدثر مخاطبا لرسوله
(١) اية ٧٧- ٨٠ والحديث أخرجه الشيخان.
(٢) اية ٢٩- ٣٢.
(٣) وفي رواية عن البيهقي أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفرا من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قول بعضكم بعضا. فقيل: يا أبا عبد شمس (الوليد بن المغيرة) فقل وأقم لنا رأيا نقول به. فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. فقالوا: نقول كاهن. فقال: ما هو بكاهن، رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكهان. فقالوا: نقول مجنون. فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. فقالوا نقول شاعر. فقال: ما هو
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ «١» وأنزل فيه أيضا في سورة ن وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف وكفى بهذا زاجرا لمن اعتاد الحلف مَهِينٍ حقير، وأراد به الكذاب لأنه حقير في نفسه هَمَّازٍ عيّاب طعان مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ينقل الأحاديث للإفساد بين الناس مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ غليظ جاف (بعد ذلك زنيم) دخيل أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ «٢» كناية عن الإذلال والتحقير لأن الوجه أكرم عضو والأنف أشرف ما فيه ولذلك اشتقّوا منه كل ما يدلّ على العظمة كالأنفة وهي الحمية فالوسم على أشرف عضو دليل الإذلال والإهانة.
ومن المستهزئين: النضر بن الحارث العبدري من بني عبد الدار بن قصي كان إذا جلس رسول الله مجلسا يحدّثهم ويذكّرهم ما أصاب من قبلهم، قال النضر: هلمّوا يا معشر قريش فإني أحسن منه حديثا ثم يحدّث عن ملوك فارس، كان يعلم أحاديثهم، ويقول ما أحاديث محمّد إلّا أساطير الأولين وفيه نزل في سورة لقمان وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُوًا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٣» وكل هؤلاء انتقم الله منهم كما قال الله تعالى في سورة الحجر إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «٤» وقد وضع الله جلّ ذكره الوعد في صورة الماضي للتحقّق من وقوعه، لأن الاية مكية وهلاك هذه الفئة كان بعد الهجرة، فمنهم من قتل كأبي جهل
بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول هو ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس. قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق (النخلة) وإن فرعه لجني (ما يجنى من الثمر) فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلّا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: هذا ساحر، فتقولوا: هو ساحر يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته.
(١) اية ١٠- ٢٦.
(٢) اية ١٠- ١٦.
(٣) اية ٦- ٧.
(٤) اية ٩٥- ٩٦.
والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، ومنهم من ابتلاه الله بأمراض شديدة فهلك منها كأبي لهب والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة.

إسلام حمزة
وكان بعض إيذائهم هذا سببا لإسلام عمّه حمزة بن عبد المطلب، فقد أدركته الحميّة عندما عيّرته بعض الجواري بايذاء أبي جهل لابن أخيه، فتوجه إلى ذلك الشقي وغاضبه وسبّه، وقال: كيف تسبّ محمدّا وأنا على دينه، ثم أنار الله بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسلاما، وأشدّهم غيرة على المسلمين، وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي أسد الله «٢» .
وكما أوذي الرسول ﵊ أوذي أصحابه لاتباعهم له، خصوصا من ليس له عشيرة تحميه وتردّ كيد عدوه عنه، وكل هذا الأذى كان حلوا في أعينهم ما دام فيه رضاء الله، فلم يفتنوا عن دينهم بل ثبّتهم الله حتى أتم أمره على أيديهم، وصاروا ملوك الأرض بعد أن كانوا مستضعفين فيها، كما قال جلّ ذكره في سورة القصص وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «٣» وقد حقق ما أراد.
ومن الذين أوذوا في الله: بلال بن رباح «٤» كان مملوكا لأمية بن خلف الجمحي القرشي، فكان يجعل في عنقه حبلا ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به وهو
(١) أمه هالة بنت وهب. وهو أخو رسول الله من الرضاعة، وكان ﵁ أسن من رسول الله ﷺ بسنتين، وهو سيد الشهداء، واخى رسول الله ﷺ بينه وبين زيد بن حارثة. أسلم سنة ست من النبوة وكنيته أبو عمارة وكان شجاعا، قوي الجسم، هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا وأبلى فيها بلاء عظيما، وشهد أحدا فقتل في السنة الثالثة من الهجرة رماه وحشي بحربة فقتله، ومثل به المشركون، ودفن عند أحد في موضعه، وكان عمره تسعا وخمسين سنة.
(٢) وزاد غير ابن اسحق في إسلام حمزة أنه قال: لما احتملني الغضب وقلت: أنا على قوله، أدركني الندم على فراق دين ابائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة وتضرّعت إلى الله ﷾ أن يشرح صدري للحقّ، ويذهب عني الريب، فما استتممت دعائي حتى زاح عني الباطل، وامتلأ قلبي يقينا، فغدوت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بما كان من أمري. فدعا بأن يثبتني الله.
(٣) اية ٥.
(٤) مؤذن الرسول، قديم الإسلام والهجرة شهد المشاهد كلها مع الرسول ﷺ، وهو أول من أذن في الإسلام، وفضائله مشهورة، توفي بدمشق سنة عشرين وهو ابن أربع وستين سنة.
يقول: أحد أحد، لم يشغله ما هو فيه عن توحيد الله. وكان أمية يخرج به في وقت الظهيرة في الرمضاء- وهي الرمل الشديد الحرارة لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت- ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره. ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد وتعبد اللات والعزى، فيقول: أحد أحد.
مرّ به أبو بكر يوما فقال: يا أمية أما تتقي الله في هذا المسكين حتى متى تعذبه؟
قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى. فاشتراه منه وأعتقه فأنزل الله فيه وفي أمية في سورة الليل. فَأَنْذَرْتُكُمْ نارًا تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أمية بن خلف الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الصدّيق الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى «١» بما يعطيه الله في الاخرى جزاء أعماله. وقد نبه الله جلّ ذكره على أن بذل الصديق ماله في شراء بلال وعتقه لم يكن الا ابتغاء وجه ربه، وكفى بهذا شرفا وفضلا للصديق ﵁ وأرضاه «٢»، وقد أعتق غير بلال جماعة من الأرقاء أسلموا فعابهم مواليهم.
ومنهم حمامة أم بلال وعامر بن فهيرة «٣» كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، وأبو فكيهة «٤» كان عبدا لصفوان بن أمية بن خلف.
ومنهم امرأة تسمى زنيّرة «٥» عذبت في الله حتى عميت فلم يزدها ذلك إلّا إيمانا، وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون لهؤلاء وأتباعهم لو كان ما أتى به محمّد خيرا ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد فأنزل الله في سورة الأحقاف
(١) من ١٤ إلى ٢١.
(٢) أجمع المفسّرون على أن هذه الاية نزلت في أبي بكر الصديق ﵁ لا علي بن أبي طالب لأمرين الأول (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) هذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي ﷺ. وكان يطعمه ويسقيه ويربيه، وكان الرسول منعما عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي ﵊ عليه نعمة دنيوية بل كان أبو بكر ينفق على الرسول ﵊، والثاني المراد بالأتقى هو أفضل الخلق وأفضلهم بعد رسول الله ﷺ هو أبو بكر لا على.
(٣) مولى الطفيل بن عبد الله، وكان من المستضعفين يعذب في الله فلم يرجع عن دينه وهاجر مع الرسول وأبي بكر إلى المدينة يخدمهما. وشهد عامر بدرا وأحدا وقتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة وهو ابن أربعين سنة.
(٤) مولى صفوان بن أمية أسلم قديما فربط أمية بن خلف في رجله حبلا فجرّه حتى ألقاه في الرمضاء وجعل يخنقه، فجاء أخوه أبي بن خلف فقال اده فلم يزل على ذلك حتى ظن أنه مات، فمر أبو بكر الصديق فاشتراه وأعتقه واسمه يسار.
(٥) كانت من السابقات إلى الإسلام وممن يعذّب في الله، وكان أبو جهل يعذّبها، وهي مذكورة في السبعة الذين اشتراهم أبو بكر الصديق وأنقذهم من التعذيب.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «١» . وممن أعتق أبو بكر بعد شرائه: أم عنيس «٢» كانت أمة لبني زهرة وكان يعذبها الأسود بن عبد يغوث.
وممن عذب في الله: عمار بن ياسر وأخوه وأبوه وأمه كانوا يعذبون بالنار فمرّ بهم رسول الله ﷺ فقال: صبرا ال ياسر فموعدكم الجنة اللهم اغفر لال ياسر وقد فعلت. أما أبو عمار وأمه فماتا تحت العذاب رحمهما الله، وأما هو فثقل عليه العذاب فقال بلسانه كلمة الكفر، فإن أبا جهل كان يجعل له دروعا من الحديد في اليوم الصائف ويلبسه إيّاها، فقال المسلمون: كفر عمار، فقال ﵊: عمار مليء إيمانا من فرقه «٣» إلى قدمه، وأنزل الله في شأنه استثناء في حكم المرتد، فقال جل ذكره في سورة النحل مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «٤» .
وممن أوذي في الله خبّاب بن الأرت سبي في الجاهلية فاشترته أم أنمار، وكان حدادا وكان النبي يألفه قبل النبوة، فلما شرّفه الله بها أسلم خباب، فكانت مولاته تعذبه بالنار فتأتي بالحديدة المحمّاة فتجعلها على ظهره ليكفر، فلا يزيده إلا إيمانا. وجاء خباب مرّة إلى رسول الله وهو متوسد بردة «٥» في ظل الكعبة فقال: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد ﵊ محمّرا وجهه فقال: إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرنّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت «٦» لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه «٧» . قال ذلك ﵊ وهو في هذه
(١) اية ١١.
(٢) وقد وردت في ابن هشام أم عبيس.
(٣) هو وسط الرأس وهو الموضع الذي يفرق فيه الشعر.
(٤) اية ١٠٦.
(٥) كساء أسود مربع فيه صغر تلبسه الأعراب جعلها وسادة له.
(٦) موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل موضع في أقصى أراضي هجر اه من ياقوت (المؤلف) .
(٧) رواه البخاري.
الحال الشديدة التي لا يتصوّر فيها أعقل العقلاء وأنبل النبلاء قوة منتظرة أو سعادة مستقبلة اللهم الا أن ذلك وحي يوحى إليه. ثم أنزل الله تعالى تثبيتا للمؤمنين أول سورة العنكبوت الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.
وممن أوذي في الله: أبو بكر الصديق، ولما اشتدّ عليه الأذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى جهة الحبشة، فخرج حتى أتى برك الغماد «١» فلقيه ابن الدّغنّة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القارة) فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال:
أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، فأنا لك جار، فارجع وأعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل ابن الدغنة معه، وطاف في أشراف قريش، فقال لهم: أبو بكر لا يخرج مثله. أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق! فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلّ فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لابي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القران فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا قد أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وأنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل، وأن أبى ألا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك «٢» ولسنا مقرين لابي بكر الإستعلان. فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فأما أن تقصر على ذلك، وأما أن ترجع إليّ
(١) منطقة باليمن.
(٢) أن ننقض العهد.
ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفزت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله (رواه البخاري) وكان ذلك سببا لإيصال أذى عظيم إلى أبي بكر ﵁.
وبالجملة فلم يخل أحد من المسلمين من أذيّة لحقته ولكن كل ذلك ضاع سدى تلقاء ثباتهم وعظيم إيمانهم، فإنهم لم يسلموا لغرض دنيوي يرجون حصوله فيسهل ارجاعهم، ولكن وفّقهم الله لإدراك حقيقة الإيمان فرأوا كل شيء دونه سهلا.
ولما رأى كفار قريش أن ذلك الأذى لم يجدهم نفعا، بل كلّما زادوا المسلمين أذى أزداد يقينهم، اجتمعوا للشورى فيما بينهم فقال لهم عتبة بن ربيعة العبشمي من بني عبد شمس بن عبد مناف وكان سيّدا مطاعا في قومه: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد فأكلّمه وأعرض عليه أمورا عله يقبل بعضها فنعطيه إياها، ويكف عنا، فقالوا يا أبا الوليد: فقم إليه فكلّمه. فذهب إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد، وقال: يا ابن أخي إنك منّا حيث قد علمت من خيارنا حسبا ونسبا وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت أحلامهم. وعبت الهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من ابائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها: فقال ﵊: قل يا أبا الوليد أسمع، فقال يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا من الجن «١» لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، وإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى، فقال ﵊:
لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال: فاسمع مني فقرأ رسول الله ﷺ أول سورة فصلت: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
(١) ما يتراءى للإنسان من الجن.
يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «١» .
فأمسك عتبة بفيه، وناشده الرحم أن يكفّ عن ذلك، فلمّا رجع عتبة سألوه فقال: والله لقد سمعت قولا ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها بي، خلّوا بين الرجل، وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لكلامه الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزّه عزّكم، فقالوا: لقد سحرك محمّد، فقال: هذه رأيي «٢» .
ثم عرضوا عليه بعد ذلك أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته فأنزل الله في ذلك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «٣» فلا تتوهموا أني أجيبكم لطلبكم من الإشراك بالله، فأيسوا منه، وطلبوا بعد ذلك أن ينزع من القران ما يغيظهم من ذم الأوثان والوعيد الشديد، فيأتي بقران غيره أو يبدّله الله جوابا لهم في سورة يونس قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ «٤» وقد حصل له مع كفار قريش نادرة تكون لمن استهان بالضعيف كمصباح يستضيء به، وهو أنه بينما الرسول ﵊ مع كبراء قريش وأشرافهم يتألفهم ويعرض عليهم القران وما جاء به من الدين إذ أقبل عليه عبد الله
(١) اية ١- ١٤.
(٢) قال ابن اسحق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي.
(٣) سورة الكافرون.
(٤) اية ١٥.
بن أم مكتوم الأعمى «١» - وهو ممن أسلموا قديما- والنبي مشتغل بالقوم، وقد لقي منهم مؤانسة حتى طمع في إسلامهم، فقال له عبد الله: يا رسول الله علّمني مما علّمك الله وأكثر عليه القول، فشق ذلك على الرسول، وكره قطعه لكلامه، وخاف ﵊ أن يكون التفاته لذلك المسكين ينفر عنه قلب أولئك الأشراف فأعرض عنه فعاتبه الله على ذلك بقوله أول سورة عبس عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى «٢» فما عبس رسول الله ﷺ بعدها في وجه فقير، وكان إذا أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم يقول له: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي.
ولمّا رأى المشركون أن هذه المطالب التي يعرضونها لا تقبل منهم أرادوا أن يدخلوا في باب اخر، وهو تعجيز الرسول بطلب الايات، فاجتمعوا وقالوا: يا محمد إن كنت صادقا فأرنا اية نطلبها منك وهي أن تشق لنا القمر فرقتين، فأعطاه الله هذه المعجزة، وانشقّ القمر فرقتين، فقال رسول الله: اشهدوا، وهذه القصة رواها عبد الله بن مسعود وهو من السابقين الأولين رويت عنه من طرق كثيرة، ورواها عبد الله بن عباس وغيره، ورواها عنهم جمع غزير حتى صار الحديث كالمتواتر «٣» وقد ذكرها القران الكريم في قوله تعالى أول سورة القمر اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ فحينما رأى المعاندون هذه الاية الكبرى قال بعضهم: لقد سحركم ابن أبي كبشة فأنزل الله فيهم وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «٤»
(١) مؤذن رسول الله ﷺ، هاجر إلى المدينة واستخلفه رسول الله ﷺ على المدينة ثلاث عشر مرّة في غزواته على الصلاة فقط. وشهد فتح القادسية ومعه اللواء. قيل: إنه قتل بالقادسية شهيدا.
(٢) اية ١- ١٠.
(٣) وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم. وعن أنس بن مالك ﵁ أن الكفار سألوا رسول الله ﷺ اية فانشقّ القمر مرتين، قال ابن عباس: انفلق القمر فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت، وقال ابن مسعود رأيت حراء بين فلقتي القمر. قال القسطلاني شارح البخاري: وهذه المعجزة من أمهات المعجزات الفائقة على سائر معجزات الأنبياء لأن معجزاتهم ﵈ لم تتجاوز الأرضيات. وقد ذكرت الجرائد الأجنبية مقالة عربتها جريدة الإنسان العربية التي كانت تطبع بالأستانة العلية حاصلها: أنه عثر في ممالك الصين على بناء قديم مكتوب عليه أنه بني عام كذا الذي وقع فيه حادث سماوي عظيم وهو انشقاق القمر نصفين فحرّر الحساب فوافق سنة انشقاقه لسيدنا ومولانا رسول الله ﷺ.
(٤) سورة القمر الاية ١- ٢.
ثم سألوا الرسول بعد ذلك ايات لا يقصدون بذلك إلّا التعنّت والعناد، فمنها أن قالوا كما في سورة الاسراء لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ ولم يجبهم الله إلّا بقوله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا «١» لأن الله علم ما تكنّه جوانحهم من التعصب والعناد، فلا يؤمنون مهما جاءهم من البينات كما قال جل ذكره في سورة الأنعام وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «٢» وكيف يرجى الخير ممّن قالوا كما في سورة الانفال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٣» ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا إليه، وهذه سنة من سنن الأنبياء إذا رأوا من طلاب الايات عنادا، وإنهم يطلبونها تعجيزا لا يسألون الله إنفاذ هذه الايات كيلا يحلّ بقومهم الهلاك كما حصل لعاد وثمود وغيرهم، وهذا هو المراد من قوله تعالى في سورة الإسراء وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «٤» وقد حصل للمسيح ﵇ أنه لما وقف أمام هيردوس طلب منه اية فلم يجبه إلى طلبه، فلما رأى ذلك سخر منه وردّه بيلاطس بعد أن كان يأسف عليه ويتمنى لقاءه، وذلك مذكور في الإصحاح الثالث والعشرون من إنجيل لوقا.
(هذا) ولمّا رأى المشركون ضعفهم عن مقاومة المسلمين بالبرهان تحوّلوا إلى سياسة القوة التي اختارها قوم إبراهيم عندما عجزوا عنه حيث قالوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ كما في سورة الأنبياء «٥» أما هؤلاء فازدادوا بالأذى على كل من أسلم رجاء صدّهم عن اتباع الرسول ﵇، ولم يتركوا بابا إلّا ولجوه، فقال عليه الصلاة السلام لأصحابه: تفرّقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم، فسألوه عن الوجه فأشار إلى الحبشة.
(١) اية ٩٠- ٩٣.
(٢) اية ١٠٩.
(٣) اية ٣٢.
(٤) اية ٥٩.
(٥) اية ٦٨.
هجرة الحبشة الأولى
فعند ذلك تجهز ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم كما أشار ﵊، وهذه هي أول- هجرة من مكة، وعدة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة وهم»
: عثمان بن عفّان، وزوجه رقيّة بنت رسول الله. وأبو سلمة وزوجه أم سلمة، وأخوه لأمه أبو سبرة ابن أبي رهم. وزوجه أم كلثوم، وعامر بن ربيعة وزوجه ليلى، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وزوجه سهلة بنت سهيل. وعبد الرحمن بن عوف. وعثمان بن مظعون. ومصعب بن عمير، وسهيل ابن البيضاء، والزّبير بن العوام. وجلّهم من قريش «٢»، وكان عليهم فيما روى ابن هشام عثمان بن مظعون. فساروا على بركة الله، ولمّا انتهوا إلى البحر، استأجروا سفينة أوصلتهم إلى مقصدهم، فأقاموا امنين من أذى يلحق بهم من المشركين، ولم يبق مع النبي ﵇ إلا القليل.

إسلام عمر «٣»
وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمر بن الخطاب العدوي القرشي «٤» بعد ما كان عليه من كراهية المسلمين وشدّة أذاهم، قالت ليلى «٥»: - إحدى المهاجرات لأرض الحبشة مع زوجها- كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلمّا ركبت بعيري أريد أن أتوجّه إلى أرض الحبشة إذا أنابه، فقال لي: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقلت قد اذيتمونا في ديننا، نذهب في أرض الله
(١) في فتح الباري أن الهجرة وقعت مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، فان أول من هاجر أحد عشر رجلا وأربع نسوة.
(٢) وممن خرج من بني هاشم جعفر بن أبي طالب معه امرأته أسماء بنت عميش ولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر.
(٣) عن ابن عباس أنه قال: «أسلم مع رسول الله ﷺ تسعة وثلاثون رجلا وامرأة. ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين» .
(٤) ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة وكان تاجرا مشهورا من أشراف قريش، وكانت إليه السفارة في الجاهلية. وكان إسلامه في السنة السادسة من النبوّة، وسمّاه الرسول ﷺ الفاروق، وهو ثاني الخلفاء الراشدين، وطعن عمر يوم الأربعاء سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور.
(٥) أسلمت قديما وبايعت، كانت من المهاجرات الأول، هاجرت الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة، يقال إنها أول ظعينة دخلت المدينة في الهجرة.
حيث لا نؤذى، فقال: صحبكم الله، فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال ترجين أن يسلم والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب! وذلك لما كان يراه من قسوته وشدّته على المسلمين، ولكن حصلت له بركة دعوة المصطفى ﷺ فإنه قال قبيل إسلامه: «اللهم أعز الإسلام بعمر «١» وكان إسلامه في دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان المسلمون يجتمعون فيها وقد حقّق الله بإسلامه ما رجاه ﵊، فقد قال عبد الله بن مسعود من رواية البخاري (ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر) فإنه طلب من رسول الله أن يعلن صلاته في المسجد ففعل، وقد أدرك الكفار كابة شديدة حينما رأوا عمر أسلم، وكانوا قد أرادوا قتله حتى اجتمع جمع حول داره ينتظرونه، فجاء العاص بن وائل السّهمي (وهو من بني سهم حلفاء بني عدي قوم عمر) وعليه حلّة حبرة «٢» وقميص مكفوف بحرير، فقال لعمر: ما بالك؟ فقال: زعم قومك أنهم سيقتلونني ان أسلمت. قال: لا سبيل إليك فأنا لك جار، فأمن عمر. وخرج العاص فوجد الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ. قال: لا سبيل إليه. فرجع الناس من حيث أتوا «٣» .

رجوع مهاجري الحبشة
وبعد ثلاثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث لا تتيسر لهم الإقامة فيها لأنهم قليلوا العدد- وفي الكثرة بعض الأنس- وأضف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم، وهؤلاء لا يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.
(١) ولفظه (اللهم أعز الإسلام) بأحب الرجلين، بأبي جهل أو بعمر، فكان أحبهما إليه عمرا رواه الترمذي وقال حسن صحيح وصححه ابن حبان وفي اسناده خارجة بن عبد الله صدوق فيه مقال، وكان له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الترمذي أيضا، ومن حديث أنس وروى أحمد نحوه، ورواه الحاكم بلفظ، أيد بدل: أعز، فأخرجه الحاكم، وصححه من نافع عن ابن عمر عن ابن عباس رفعه (اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة)، وأخرجه ابن ماجة وابن حبان وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وأقرّه الذهبي من حديث عائشة والرواية الجارية على الألسنة، بأحب العمرين لا أصل لها في شيء من طرق الحديث.
(٢) أي بردة مخططه بالوشي، وهو النقش.
(٣) رواه البخاري.
وقد أولع بعض المؤرّخين بحكاية يجعلونها سببا في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم، وتكلّم فيها كلاما حسنا عن الهتهم حيث قال بعد أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «١» تلك الغرانيق «جمع غرنوق وهي الطيور ويراد بها الملائكة» «٢» العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى، فسجدوا إعظاما لذلك وفرحا. وهذا ممّا لا تجوز روايته إلّا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته. وها نحن أولاء نسوق لك أدلّة النقل والعقل على بطلان ما ذكر. أما الحديث فسنده ومتنه قلقان، فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفاء: لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسند سليم «٣»، وأمّا المتن فليس أصحاب رسول الله ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحا أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فالكلام غير منتظم. ولو كان ذلك قد حصل لاتّخذه الكفار عليه حجّة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمّاهم الله سفهاء وأنزل فيهم
(١) اية ١٩- ٢٠.
(٢) المراد بالغرانيق: الأصنام وهي في الأصل: الذكور من طير الماء وقد شبهوا أصنامهم بالغرانيق وهي الطيور التي تعلو في السماء وترتفع. وكيف يسجد محمد لصنم، ويثني على صنم، ويفتري على الله الكذب؟ أيخفى على محمد- وقد هداه القران- حقيقة الكفر وألفاظ الكفر ويعبث الشيطان به؟ .. وقد عصمه الله عن كل هذه الترهات.
(٣) سئل محمد بن اسحق بن خزيمة عن هذه القصة فقال هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتابا. وقال الإمام البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلّم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. قال القاضي أبو بكر بن العلاء المالكي: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب روآياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته بعد ما أتى باختلاف الروايات ثم قال ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين ولم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيها حديث شعبة عن أبي بشر من سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فيما أحسب أن النبي ﷺ كان بمكة وذكر القصة. قال أبو بكر البزار هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي ﷺ بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبه إلا أمين بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فقد بين لك أبو بكر أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما فيه عليه مع وقوع الشك فيه- كما ذكرنا- الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه- وأما حديث الكلبي فمما لا يجوز الرواية عنه، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار. ويقول الرازي في تفسيره: هذه القصة باطلة وموضوعة ولا يجوز القول بهما. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.
في سورة البقرة سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها «١»:
ولكن لم يسمع عن أي واحد من رجالاتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال:
مالك ذممت الهتنا بعد أن مدحتها. وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل مهج الرجال.
على أن المؤرّخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سببا لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء كلامهم إن الهجرة كانت في رجب، والرجوع كان في شوال.
ونزول سورة النجم كان في رمضان، فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد، والمتأمّل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان لا يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة والإياب منها، لأنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية تسهّل السير في البحر، ولا تلغراف يوصل خبر إسلام قريش لمن بالحبشة، فلا غرابة بعد ذلك إن قلنا: أن هذه الخرافة من موضوعات أهل الأهواء الذين ابتلى الله بهم هذا الدين، ولكن الحمد لله فقد منّ علينا بحفظ كتابنا المجيد، الذي يحكم بيننا وبين كل مفتر كذّاب ففي السورة نفسها وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «٢» والذي يلقيه الشيطان من أقبح ما يروى، فكيف يقوله ﵊ أو يجري على لسانه مما يثبت الشكوك في الوحي؟ الأمر الذي يريده السفهاء ردّ الله كيدهم في نحرهم. والذي ورد في الصحيح في موضوع هذا السجود ما رواه عبد الله بن مسعود «أن النبي ﵊ قرأ والنجم، فسجد، وسجد من كان معه إلّا رجلا «٣» أخذ كفا من حصى وضعه على جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته قتل بعد كافرا» «٤»، وليس في هذا الحديث أدنى دلالة على أن الذين سجدوا معه هم مشركون، بل الذي يفيده قوله: «فرأيته قتل بعد كافرا» أنه كان مسلما ثم رأيته ارتدّ، وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحمّلوا الأذى، فكفروا منهم: علي بن أمية بن خلف. هذا ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن
(١) اية ١٤٢.
(٢) سورة النجم اية ٣.
(٣) فبعض الناس يقول إنما الذي رفع التراب وسجد عليه الوليد، وبعضهم يقول: أبو أحيحة سعيد بن العاص، وبعضهم يقول كلاهما فعل ذلك. والظاهر حسب قول المؤلف أبو أحيحة لأن الوليد لم يسلم بل عاش طول حياته كافرا ومات كافرا.
(٤) رواه البخاري.
من الدخول إليها إلّا من وجد له مجيرا، فدخل أبو سلمة في جوار خاله أبي طالب، ودخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وقد ردّ عليه جواره حينما رأى ما صنعه بالمسلمين، فلم ير أن يكون مرتاحا وإخوانه يعذبون «١» .

كتابة الصحيفة
ولمّا ضاقت الحيل بكفار قريش عرضوا على بني عبد مناف الذين منهم الرسول ﵊ دية مضاعفة ويسلمونه فأبوا عليهم ذلك، ثم عرضوا على أبي طالب أن يعطوه سيدا «٢» من شبابهم يتبناه، ويسلّم إليهم ابن أخيه، فقال: عجبا لكم تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ فلما رأوا ذلك أجمعوا أمرهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب ولدي عبد مناف وإخراجهم من مكة، والتضييق عليهم، فلا يبيعونهم شيئا، ولا يبتاعون منهم حتى يسلّموا محمدا للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في جوف الكعبة «٣»، فانحاز بنو هاشم- بسبب ذلك في شعب أبي طالب، ودخل معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبا لهب، فإنه كان مع قريش، وانخزل عنهم بنو عمّيهم عبد شمس ونوفل ابني عبد مناف، فجهد القوم حتى كانوا يأكلون ورق الشجر «٤»، وكان أعداؤهم يمنعون التجار من مبايعتهم وفي مقدّمة المانعين أبو لهب.

هجرة الحبشة الثانية
وبعد دخول الرسول وقومه الشّعب أمر جميع المسلمين أن يهاجروا للحبشة حتى يساعد بعضهم بعضا على الاغتراب، فهاجر معظمهم وكانوا نحو ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشر امرأة، وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب وزوجه
(١) جميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا.
(٢) ذكر ابن اسحاق أنه عمارة بن الوليد.
(٣) قال السهيلي وللنسابة من قريش في كاتب الصحيفة قولان، أحدهما أن كاتب هذه الصحيفة هو بغيض ابن عامر والقول الثاني أنه منصور بن عبد شرحبيل وهو خلاف قول ابن اسحاق.
(٤) وفي رواية يونس أن سعدا قال: خرجت ذات ليلة لأبول، فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء، فقويت بها ثلاثا.
أسماء بنت عميس، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود، وعبيد الله بن جحش، وامرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وتوجّه لهم الذين أسلموا من جهة اليمن وهم الأشعريون: أبو موسى وبنو عمه «١» . ولما رأت قريش ذلك أرسلت في أثرهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدايا إلى النجاشي ليسلّم المسلمين، فرجعا شرّ رجعة، ولم ينالا من النجاشي إلّا إهانة لما خاطبوه به من اخفار ذمته في قوم لاذوا به، أما بنو هاشم فمكثوا في الشعب قريبا من ثلاث سنوات في شدّة الجهد والبلاء لا يصلهم شيء من الطعام إلّا خفية.

نقض الصحيفة
وقد قام خمسة من أشراف قريش يطالبون بنقض هذه الصحيفة الظالمة، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وهو أعظمهم في ذلك بلاء، وزهير ابن أبي أميّة المخزومي ابن عمة الرسول عاتكة، والمطعم بن عديّ النوفلي، وأبو البختريّ ابن هشام الأسدي، وزمعة بن الأسود الأسدي، واتفقوا على ذلك ليلا، فلمّا أصبحوا غدا زهير وعليه حلّة، فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم والمطلب هلكى لا يبيعون ولا يبتاعون! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة. فقال أبو جهل:
كذبت، فقال زمعة لأبي جهل: أنت والله أكذب! ما رضينا كتابتها حين كتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة، وقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، وصدّق على ما قيل هشام بن عمرو، فقام إليها المطعم بن عدي فشقها، وكانت الأرضة قد أكلتها فلم يبق فيها إلّا ما فيه اسم الله «٢»، وقد أخبر النبي ﵊ عمه أبا طالب بذلك قبل أن يفعل ما ذكر، فخرج القوم إلى مساكنهم بعد هذه الشدة «٣» .
(١) رواه البخاري.
(٢) يقول الحافظ في نفس المكان أيضا عما أكلته الأرضة من الصحيفة: أيضا أما ابن اسحاق وموسى بن عقية وعروة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسما لله إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعه قال البرهان ما حاصله: وهذا أثبت من الأول راجع شرح المواهب اللدنية ج ١ ص ٢٩٠.
(٣) قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله ﷺ قال لأبي طالب: يا عم، إن ربي الله قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو لله إلّا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان، فقال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فو الله ما يدخل عليك أحد ثم خرج إلى قريش، فقال يا
وفود نجران
وقد وفد على الرسول بعد الخروج من الشّعب وفد من نصارى نجران «١» بلغهم خبره من مهاجري الحبشة، فسارعوا بالقدوم عليه حتى يروا صفاته مع ما ذكر منها في كتبهم، وكانوا عشرين رجلا أو قريبا من ذلك، فقرأ عليهم القران فامنوا كلّهم، فقال لهم أبو جهل «٢»: ما رأينا ركبا أحمق منكم أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل فصبأتم! فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لكم ما أنتم عليه ولنا ما أخترناه، فأنزل الله في ذلك في سورة القصص «٣» الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «٤» . وقد كان أهل مكة حينما عجزوا عن أمر رسول الله ولم يتمكّنوا من مقارعة الحجة بالحجة رموه بالسحر مرّة وبالكذب أخرى، وبالجنون طورا وبالكهانة تارة، كل ذلك شأن العاجز المعاند الذي لا يستحي لمزيد عناده أن يقول: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٥» .
معشر قريش، ان ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم فإن كان كما قال ابن أخي، فانتهوا عن قطيعتنا وأنزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم: رضينا فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله ﷺ، فزادهم ذلك شرا، فعند ذلك صنع الرّهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
(١) بلدة بين مكة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة.
(٢) ورد في سيرة ابن هشام فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله في ركب: بعثكم من ورائكم من أهل دنيكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم، وصدّقتموه بما قال: ما نعلم ركبا أحمق منكم.
(٣) الاية ٥٢- ٥٥.
(٤) قال ابن اسحق: وقد سألت ابن شهاب الزهري عن هؤلاء الايات فيمن أنزلن فقال لي: ما أسمع من علمائنا أنهنّ أنزلن في النجاشي وأصحابه. والاية من سورة المائدة من قوله (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) إلى قوله: (فاكتبنا مع الشاهدين) .
(٥) سورة الانفال الاية ٣٢.
وفاة خديجة ﵂ «١»
وبعد خروجه ﵇ من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت خديجة بنت خويلد زوجه ﵂، كان ﵊ كثيرا ما يذكرها ويترحّم عليها، ولا غرابة فهي أوّل نفس زكية صدّقت رسول الله فيما جاء به عن ربّه، وقد جاء منها بأولاده كلّهم ما عدا إبراهيم «٢»، فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوّجها في الجاهلية أبو العاص بن الربيع «٣»، وأعقب منها أمامة التي تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة «٤»، ومنها رقية «٥» وأم كلثوم تزوجهما عثمان، الأولى بمكة قبل الهجرة، وهاجر بها إلى الحبشة، والثانية بالمدينة بعد أن ماتت أختها، ومنها فاطمة وهي أصغر بناته تزوجها علي بن أبي طالب، وقد جاءت خديجة بأولاد توفّوا صغارا، ولم يعش بعد رسول الله من أولاده إلّا فاطمة عاشت بعده قليلا. ولما توفيت خديجة حزن عليها رسول الله حزنا شديدا لما كانت عليه من الرّقة لرسول الله ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد، ومنها القاسم وكان به يكنى رسول الله ﷺ، وعبد الله الملقب بالطّيب والطّاهر.

زواج سودة
وعقد ﵊ في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على سودة بنت
(١) توفيت بعد أبي طالب بثلاثة أيام في شهر رمضان ولها خمس وستون سنة وكان مقامها مع رسول الله ﷺ بعد ما تزوّجها أربعا وعشرين سنة وستة أشهر ودفنها بالحجون وحزن عليها النبي ﷺ ونزل في حفرتها.
(٢) هو من زوجته مارية وتوفي وعمره سبعة عشر شهرا فلما مات دمعت عينا رسول الله ﷺ وأمر النبي بدفن إبراهيم في البقيع وصلى عليه وكبر عليه أربع تكبيرات ولما دفن أمر برش قربة ماء على قبره.
(٣) هو ابن خالة خديجة ثم لم يتفق أنه أسلم إلّا بعد الهجرة، وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، ولما هاجرت زينب كانت تحت أبي العاص على دينه. قدم المدينة مهاجرا ومات في خلافة أبي بكر.
(٤) تلقب بالزهراء وكانت أصغر بنات النبي ﷺ وأحبهن إليه، وتزوجها علي بعد عائشة بأربعة أشهر وانقطع نسل رسول الله ﷺ إلّا من فاطمة، وهي أول أهل بيت رسول الله لحوقا به، وقد عاشت بعد النبي ﷺ ستة أشهر، وقد أوصت عليا أن يغسلها هو وأسماء بنت عميس وقد صلّى علي عليها، ودفنها بليل بالبقيع.
(٥) تزوّجها عثمان وهاجر بها إلى الحبشة، فولدت له عبد الله، فكان يكنى به، ومرضت بالمدينة لما خرج النبي ﷺ إلى بدر فتخلف عليها عثمان، ولما ماتت رقية قال النبي ﷺ: «إلحقي بسلفنا عثمان بن مظعون»، وهي أكبر بناته ﷺ بعد زينب.
زمعة العامرية القرشية «١» بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمّها السكران بن عمرو، وقد كانت امنت بالله وبرسوله وخالفت أقاربها وبني عمها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة في المرّة الثانية خوف الفتنة، وعقب رجوعه من هجرته توفي عنها، فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول ﷺ بزوج رجل امن به، ولو تركت لقومها مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة الإسلام لفتنوها، وكرم نسبها في قومها يمنعها من التزوّج برجل أقلّ منها نسبا وشرفا.

زواج عائشة ﵂
وبعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي لا تتجاوز السابعة من عمرها، ولم يتزوج ﵇ بكرا غيرها، ودخل عليها بالمدينة أما سودة فدخل عليها بمكة.
وبعد وفاة خديجة بنحو شهر توفي عمه أبو طالب الذي كان يمنعه من أذى أعدائه، ومع أنه كان لا يكذّب رسول الله ﷺ فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم ينطق بالشهادتين حتى اخر لحظة من حياته، وفيه نزل في سورة القصص إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «٢» . ولكن لأعماله العظيمة التي عملها مع رسول الله نرجو أن يخفف عنه «٣» . وعدم إسلامه هو وغالب أقارب الرسول ﷺ فيه من الحكمة ما لا يخفى. فإنهم لو بادروا باتّباعه لقيل: قوم يطلبون سيادة وفخرا ليسا لهم فجاؤوا بهذا الأمر المفترى، ولكن لما رأى المعاندون أن متّبعيه هم الغرباء عنه الذين ليسوا من عشيرته بل من أعدائها أحيانا كعثمان بن عفان من بني أمية، لم يكن عندهم أدنى حجة يقيمونها، اللهم إلّا
(١) كانت أول امرأة تزوجها بعد خديجة، فبنى بها بمكة، وكان بها حدة وكانت تضحكه بالشيء أحيانا، وكانت زاهدة في الدنيا، وتوفيت في اخر زمان عمر بن الخطاب.
(٢) اية ٥٦. قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله ﷺ أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها خشية أن تعيره قريش عليها. وقد ربى الرسول صغيرا. فالمشهور أنه مات كافرا. وكان له من الولد جعفر وعلي وعقيل وطالب وأم هانئ واسمها فاختة وجمانة، وكلهم أعقب إلّا طالبا، وكان أبو طالب أعرجا، وتوفي بعد النبوة بعشر سنين، وقبل الهجرة بثلاث سنين بالغا من العمر نحو ثمانين سنة.
(٣) رواه البخاري باب قصة أبي طالب قال العباس للنبي ﷺ: ما أغنيت عن عمك، فإن كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار «والضحضاح، ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين، واستعير للنار هنا.
دعاويهم الكاذبة التي كانوا يتمسّكون بها حينما تصدعهم الحجة من قولهم: ساحر يفرّق بين المرء وزوجه وكاهن يتكهن بالغيب.
وقد سمى رسول الله هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه. «عام الحزن» .
ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله ﷺ ما لم يمكنها نيله في حياة أبي طالب. واشتد الأمر عليه حتى كانوا ينثرون التّراب على رأسه وهو سائر، ويضعون أوساخ الشاة عليه في صلاته، وتعلّقت به كفار قريش مرّة يتجاذبونه ويقولون له: أنت الذي تريد أن تجعل الالهة إلها واحدا؟ فما تقدم أحد من المسلمين حتى يخلّصه منهم لما هم عليه من الضعف إلّا أبو بكر فإنه تقدم وقال:
أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟!.

هجرة الطائف
فلمّا رأى ﵊ استهانة قريش به أراد أن يتوجّه إلى ثقيف بالطائف «١» يرجو منهم نصرته على قومه ومساعدته حتى يتمّم أمر ربه لأنهم أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤوله «٢» فإنّ أم هاشم بن عبد مناف عاتكة السلمية من بني سليم بن منصور وهم حلفاء ثقيف. فلما توجّه إليهم ومعه مولاه زيد بن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثلاثة: عبد يا ليل ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير الثقفي. فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوته فردّوا عليه ردا قبيحا ولم ير منهم خيرا. وحينذاك طلب منهم ألايشيعوا ذلك عنه كيلا تعلم قريش فيشتد أذاهم لأنه استعان عليهم بأعدائهم، فلم تفعل ثقيف ما رجاه منهم ﵊ بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم يقفون في وجهه في الطريق ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه. وكان زيد بن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة كرم واستظل بها، وكانت بجوار بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان، فكره رسول الله مكانهما فدعا الله قائلا (اللهم اني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، إلى من تكلني؟ إلى
(١) بلدة في الحجاز على مسافة ٦٥ ميلا جنوب شرقي مكة وهي مشهورة بجودة مناخها وفواكهها ومياهها الجارية ويطل عليها جبل غزوان وهي مصيف مكة وهي أبرد مكان في الحجاز.
(٢) لأنهم كانوا أخواله، ولم يكن بينه وبينهم عداوة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج11. فهرست تاريخ الطبري

  فهرست تاريخ الطبري    فهرست تاريخ الطبري فهرس رئيسي الزمان | بدء الخلق | خلق آدم | آدم في الأرض | نوح | قصة عيسى ومريم | ملوك الفرس |...